الميزان في تفسير القرآن الجزء ٥

الميزان في تفسير القرآن13%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 444

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 444 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 91173 / تحميل: 10838
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ٥

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

وهذه الآيات ـ التي نبحثها ـ في الحقيقة تقف على نماذج للأمم السابقة ممّن شاهدوا أنواع المعاجز والأعمال غير العادية ، إلّا أنّهم استمروا في الإنكار وعدم الإيمان.

في البدء يقول تعالى :( وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ ) . سنشير في نهاية هذا البحث إلى هذه الآيات التسع وماهيتها.

ولأجل التأكيد على الموضوع اسأل ـ والخطاب موّجه إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ بني إسرائيل (اليهود) أمام قومك المعارضين والمنكرين :( فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ إِذْ جاءَهُمْ ) .

إلّا أنّ الطاغية الجبار فرعون ـ برغم الآيات ـ لم يستسلم للحق ، بل أكثر من ذلك اتّهم موسى( فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً ) .

وفي بيان معنى «مسحور» ذكر المفسّرون تفسيرين ، فالبعض قالوا : إنّها تعني الساحر بشهادة آيات قرآنية أخرى ، تقول بأنّ فرعون وقومه اتّهموا موسى بالساحر ، ومثل هذا الاستخدام وارد وله نظائر في اللغة العربية ، حيث يكون اسم المفعول بمعنى الفاعل ، كما في (مشؤوم) التي يمكن أن تأتي بمعنى «شائم» و (ميمون) بمعنى «يامن».

ولكن قسم آخر من المفسّرين أبقى كلمة «مسحور» بمعناها المفعولي والتي تعني الشخص الذي أثّر فيه الساحر ، كما يستفاد من الآية (39) من سورة الذاريات التي نسبت السحر إليه ، والجنون أيضا ،( فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقالَ ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ ) .

على أي حال ، فإنّ التعبير القرآني يكشف عن الأسلوب الدعائي التحريضي الذي يستخدمه المستكبرون ويتهمون فيه الرجال الإلهيين بسبب حركتهم الإصلاحية الربانية ضدّ الفساد والظلم ، إذ يصف الظالمون والطغاة معجزاتهم بالسحر أو ينعتونهم بالجنون كي يؤثروا من هذا الطريق في قلوب الناس

١٦١

ويفرّقوهم عن الأنبياء.

ولكن موسىعليه‌السلام لم يسكت أمام اتّهام فرعون له ، بل أجابه بلغة قاطعة يعرف فرعون مغزاها الدقيق ، إذ قال له :( قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ ) .

لذا فإنّك ـ يا فرعون ـ تعلم بوضوح أنّك تتنكر للحقائق ، برغم علمك بأنّها من الله! فهذه «بصائر» أي أدلة واضحة للناس كي يتعرفوا بواسطتها على طريق الحق. وعند ما سيسلكون طريق السعادة. وبما أنّك ـ يا فرعون ـ تعرف الحق وتنكره ، لذا :( وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً ) .

(مثبور) من (ثبور) وتعني الهلاك.

ولأنّ فرعون لم يستطع أن يقف بوجه استدلالات موسى القوية ، فإنّه سلك طريقا يسلكه جميع الطواغيت عديمي المنطق في جميع القرون وكافة الأعصار ، وذاك قوله تعالى:( فَأَرادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْناهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعاً ) .

«يستفز» من «استفزاز» وتعني الإخراج بقوة وعنف.

ومن بعد هذا النصر العظيم :( وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً ) . فتأتون مجموعات يوم القيامة للحساب.

«لفيف» من مادة «لفّ» وهنا تعني المجموعة المتداخلة المعقّدة بحيث لا يعرف الأشخاص ، ولا من أي قبيلة هم!

* * *

بحوث

1 ـ المقصود من الآيات التسع

لقد ذكر القرآن الكريم آيات ومعجزات كثيرة لموسىعليه‌السلام منها ما يلي :

1 ـ تحوّل العصا إلى ثعبان عظيم يلقف أدوات الساحرين ، كما في الآية

١٦٢

(20) من سورة طه :( فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى ) .

2 ـ اليد البيضاء لموسىعليه‌السلام والتي تشع نورا :( وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرى ) (1) .

3 ـ الطوفان :( فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ ) (2) .

4 ـ الجراد الذي أباد زراعتهم وأشجارهم( وَالْجَرادَ ) (3) .

5 ـ والقمل الذي هو نوع من الأمراض والآفات التي تصيب النبات : و( الْقُمَّلَ ) (4) .

6 ـ (الضفادع) التي جاءت من النيل وتكاثرت وأصبحت وبالا على حياتهم:( وَالضَّفادِعَ ) (5) .

7 ـ الدم ، أو الابتلاء العام بالرعاف ، أو تبدّل نهر النيل إلى لون الدم ، بحيث أصبح ماؤه غير صالح لا للشرب ولا للزراعة :( وَالدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ ) (6) .

8 ـ فتح طريق في البحر بحيث استطاع بنو إسرائيل العبور منه :( وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ ) (7) .

9 ـ نزول ال (منّ) و (السلوى) من السماء ، وقد شرحنا ذلك في نهاية الآية (57) من سورة البقرة( وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى ) (8) .

10 ـ انفجار العيون من الأحجار :( فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً ) (9) .

11 ـ انفصال جزء من الجبل ليظلّلهم :( وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ

__________________

(1) طه ، 22.

(2) و (3) و (4) و (5) و (6) ـ الأعراف ، 133.

(7) البقرة ، 50.

(8) البقرة ، 57.

(9) البقرة ، 60.

١٦٣

ظُلَّةٌ ) (1) .

12 ـ الجفاف ونقص الثمرات :( وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ ) (2) .

13 ـ عودة الحياة إلى المقتول والذي أصبح قتله سببا للاختلاف بين بني إسرائيل:( فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللهُ الْمَوْتى ) (3) .

14 ـ الاستفادة من ظل الغمام في الاحتماء من حرارة الصحراء بشكل إعجازي :( وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ ) (4) .

ولكن الكلام هنا هو : ما هو المقصود من (الآيات التسع) المذكورة في الآيات التي نبحثها؟

يظهر من خلال التعابير المستخدمة في هذه الآيات أنّ المقصود هو المعاجز المرتبطة بفرعون وأصحابه ، وليست تلك المتعلقة ببني إسرائيل من قبيل نزول المنّ والسلوى وتفجّر العيون من الصخور وأمثال ذلك.

لذا يمكن القول أنّ الآية (133) من سورة الأعراف تتعرض إلى خمسة مواضيع من الآيات التسع وهي : (الطوفان ، القمّل ، الجراد ، الضفادع ، والدم).

كذلك اليد البيضاء والعصا تدخل في الآيات التسع ، يؤيد ذلك ورود تعبير (الآيات التسع) في الآيات (10 ـ 12) من سورة النمل بعد ذكر هاتين المعجزتين الكبيرتين.

وبذلك يصبح مجموع هذه المعاجز ـ الآيات ـ سبعا ، فما هي الآيتان الأخيرتان؟

بلا شك إنّنا لا نستطيع اعتبار غرق فرعون وقومه في عداد الآيات التسع ،

__________________

(1) الأعراف ، 171.

(2) الأعراف ، 130.

(3) البقرة ، 73.

(4) البقرة ، 57.

١٦٤

لأنّ الهدف من الآيات أن تكون دافعا لهدايتهم وسببا لقبولهم بنبوة موسىعليه‌السلام ، لا أن تقوم بهلاك فرعون وقومه.

عند التدقيق في آيات سورة الأعراف التي جاء فيها ذكر العديد من هذه الآيات يظهر أنّ الآيتين الأخريتين هما : (الجفاف) و (نقص الثمرات) حيث أننا نقرأ بعد معجزة العصا واليد البيضاء وقبل تبيان الآيات الخمس (الجراد ، والقمل ...) قوله تعالى :( وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ) .

وبالرغم من أنّ البعض يتصوّر أنّ الجفاف لا يمكن فصله عن نقص الثمرات وبذا تعتبر الآيتان آية واحدة ، إلّا أنّ الجفاف المؤقت والمحدود ـ كما قلنا في تفسير الآية (130) من سورة الأعراف ـ لا يؤثّر تأثيرا كبيرا في الأشجار ، أمّا عند ما يكون جفافا طويلا فإنّه سيؤدي إلى إبادة الأشجار ، لذا فإنّ الجفاف لوحده لا يؤدي دائما إلى نقص الثمرات.

إضافة إلى ما سبق يمكن أن يكون السبب في نقص الثمرات هو الأمراض والآفات وليس الجفاف.

والنتيجة أنّ الآيات التسع التي وردت الإشارة إليها في الآيات التي نبحثها هي:العصا، اليد البيضاء ، الطوفان ، الجراد ، القمل ، الضفادع ، الدم ، الجفاف ، ونقص الثمرات.

ومن نفس سورة الأعراف نعرف أنّ هؤلاء ـ برغم الآيات التسع هذه ـ لم يؤمنوا ، لذلك انتقمنا منهم وأغرقناهم في اليم بسبب تكذيبهم(1) .

هناك روايات عديدة وردت في مصادرنا حول تفسير هذه الآية ، ولاختلافها فيما بينها لا يمكن الاعتماد عليها في إصدار الحكم.

__________________

(1) الأعراف ، 136.

١٦٥

2 ـ هل أنّ السائل هو الرّسول نفسه؟

ظاهر الآيات أعلاه يدل على أنّ الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان قد أمر بسؤال بني إسرائيل حول الآيات التسع التي نزلت على موسى ، وكيف أنّ فرعون وقومه صدّوا عن حقانية موسىعليه‌السلام بمختلف الذرائع رغم الآيات.

ولكن بما أنّ لدى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من العلم والعقل بحيث أنّه لا يحتاج إلى السؤال ، لذا فإنّ بعض المفسّرين ذهب الى أن المأمور بالسؤال هم المخاطبون الآخرون.

ولكن يمكن أن يقال : إنّ سؤال الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يكن لنفسه ، بل للمشركين ، لذلك فما المانع من أن يكون شخص الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو الذي يسأل حتى يعلم المشركون أنّه عند ما لم يوافق على اقتراحاتهم ، فذلك لأنّها اقتراحات باطلة قائمة على التعصّب والعناد ، كما قرأنا في قصّة موسى وفرعون ونظير ذلك.

3 ـ ما المراد ب (الأرض) المذكورة في الآيات؟

قرأنا في الآيات أعلاه أنّ الله أمر بني إسرائيل بعد أن انتصروا على فرعون وجنوده أن يسكنوا الأرض ، فهل الغرض من الأرض هي مصر (نفس الكلمة وردت في الآية السابقة والتي بيّنت أنّ فرعون أراد أن يخرجهم من تلك الأرض.

وبنفس المعنى أشارت آيات أخرى إلى أنّ بني إسرائيل ورثوا فرعون وقومه) أو أنّها إشارة إلى الأرض المقدّسة فلسطين ، لأنّ بني إسرائيل بعد هذه الحادثة اتجهوا نحو أرض فلسطين وأمروا أن يدخلوها.

بالنسبة لنا فإنّنا لا نستبعد أيّا من الاحتمالين ، لأنّ بني إسرائيل ـ بشهادة الآيات القرآنية ـ ورثوا أراضي فرعون وقومه ، وامتلكوا أرض فلسطين أيضا.

١٦٦

4 ـ هل تعني كلمة (وعد الآخرة) يوم البعث والآخرة؟

ظاهرا إنّ الإجابة بالإيجاب ، حيث أنّ جملة( جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً ) قرينة على هذا الموضوع ، ومؤيّدة لهذا الرأي. إلّا أنّ بعض المفسّرين احتملوا أنّ (وعد الآخرة) إشارة إلى ما أشرنا إليه في بداية هذه السورة ، من أنّ الله تبارك وتعالى قد توعّد بني إسرائيل بالنصر والهزيمة مرّتين ، وقد سمى الأولى بـ «وعد الأولى» والثّانية بـ «وعد الآخرة» ، إلّا أنّ هذا الاحتمال ضعيف مع وجود قوله تعالى :( جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً ) (فدقق في ذلك).

* * *

١٦٧

الآيات

( وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً (105) وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً (106) قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً (107) وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولاً (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً (109) )

التّفسير

عشاق الحق

مرّة أخرى يشير القرآن العظيم إلى أهمية وعظمة هذا الكتاب السماوي ويجيب على بعض ذرائع المعارضين.

في البداية تقول الآيات :( وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ ) ، ثمّ تضيف بلا أدنى فاصلة( وَبِالْحَقِّ نَزَلَ ) .

ثمّ تقول :( وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَنَذِيراً ) إذ ليس لك الحق في تغيير محتوى القرآن.

١٦٨

لقد ذكر المفسّرون آراء مختلفة في الفرق بين الجملة الأولى :( وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ ) والجملة الثّانية :( وَبِالْحَقِّ نَزَلَ ) منها :

1 ـ المراد من الجملة الأولى : إنّنا قدّرنا أن ينزل القرآن بالحق. بينما تضيف الجملة الثّانية أنّ هذا الأمر أو التقدير قد تحقق ، لذا فإنّ التعبير الأوّل يشير إلى التقدير ، بينما يشير الثّاني إلى مرحلة الفعل والتحقق(1) .

2 ـ الجملة الأولى تشير إلى أنّ مادة القرآن ومحتواه هو الحق ، أمّا التعبير الثّاني فانّه يبيّن أن نتيجته وثمرته هي الحق أيضا(2) .

3 ـ الرأي الثّالث يرى أنّ الجملة الأولى تقول : إنّنا نزّلنا هذا القرآن بالحق بينما الثّانية تقول : إنّ الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يتدخل في الحق ولم يتصرف به ، لذا فقد نزل الحقّ.

وثمّة احتمال آخر قد يكون أوضح من هذه التّفاسير ، وهو أنّ الإنسان قد يبدأ في بعض الأحيان بعمل ما ، ولكنّه لا يستطيع إتمامه بشكل صحيح وذلك بسبب من ضعفه ، أمّا بالنسبة للشخص الذي يعلم بكل شيء ويقدر على كل شيء ، فإنّه يبدأ بداية صحيحة ، وينهي العمل نهاية صحيحة. وكمثال على ذلك الشخص الذي يخرج ماء صافيا من أحد العيون ، ولكن خلال مسير هذا الماء لا يستطيع ذلك الشخص أن يحافظ على صفاء هذا الماء ونظافته أو يمنعه من التلوث ، فيصل الماء في هذه الحالة إلى الآخرين وهو ملوّث. إلّا أنّ الشخص القادر والمحيط بالأمور ، يحافظ على بقاء الماء صافيا وبعيدا عن عوامل التلوث حتى يصل إلى العطاشى والمحتاجين له.

القرآن كتاب نزل بالحق من قبل الخالق ، وهو محفوظ في جميع مراحله سواء في المرحلة التي كان الوسيط فيها جبرائيل الأمين ، أو المرحلة التي كان

__________________

(1) يراجع تفسير القرطبي ، ج 6 ، ص 3955.

(2) في ظلال القرآن ، أننا تفسير الآية.

١٦٩

الرّسول فيها هو المتلقي ، وبمرور الزمن له تستطيع يد التحريف والتزوير أن تمتد إليه بمقتضى قوله تعالى :( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ ) فالله هو الذي يتكفل حمايته وحراسته.

لذا فإنّ هذا الماء النقي الصافي الوحي الإلهي القويم لم تناله يد التحريف والتبديل منذ عصر الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحتى نهاية العالم.

الآية التي تليها ترد على واحدة من ذرائع المعارضين وحججهم ، إذ كانوا يقولون: لماذا لم ينزل القرآن دفعة واحدة على الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولماذا كان نزوله تدريجيا؟ كما تشير إلى ذلك الآية (32) من سورة الفرقان التي تقول :( وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً ، كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً ) فيقول الله في جواب هؤلاء:( وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ ) (1) حتى يدخل القلوب والأفكار ويترجم عمليا بشكل كامل.

ومن أجل التأكيد أكثر تبيّن الآية ـ بشكل قاطع ـ أنّ جميع هذا القرآن أنزلناه نحن:( وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً ) .

إنّ القرآن كتاب السماء إلى الأرض ، وهو أساس الإسلام ودليل لجميع البشر ، والقاعدة المتينة لجميع الشرائع القانونية والاجتماعية والسياسية والعبادية لدنيا المسلمين ، لذلك فإنّ شبهة هؤلاء في عدم نزوله دفعة واحدة على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يجاب عليها من خلال النقاط الآتية :

أوّلا : بالرغم من أنّ القرآن هو كتاب ، إلّا أنّه ليس ككتب الإنسان المؤلّفة حيث يجلس المؤلّف ويفكّر ويكتب موضوعا ، ثمّ ينظّم فصول الكتاب وأبوابه لينتهي من تحرير الكتاب ، بل القرآن له ارتباط دقيق بعصره ، أي ارتباط ب (23) سنة ، هي عصر نبوة نبي الإسلام بكل ما كانت تتمخض به من حوادث وقضايا.

__________________

(1) مجيء كلمة (قرآن) منصوبة في الآية أعلاه يفسّره المفسّرين بأنّه مفعول لفعل مقدّر تقديره (فرقناه) ، وبذلك تصبح الجملة هكذا : (وفرقناه قرآنا).

١٧٠

لذا كيف يمكن لكتاب يتحدث عن حوادث (23) سنة متزامنا لها أن ينزل في يوم واحد؟

هل يمكن جمع حوادث (23) سنة نفسها في يوم واحد ، حتى ينزل القرآن في يوم واحد؟

إنّ في القرآن آيات تتعلق بالغزوات الإسلامية ، وآيات تختص بالمنافقين ، وأخرى ترتبط بالوفود التي كانت تفد على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . فهل يمكن أن يكتب مجموع كل ذلك منذ اليوم الأوّل؟

ثانيا : ليس القرآن كتابا ذا طابع تعليمي وحسب ، بل ينبغي لكل آية فيه أن تنفّذ بعد نزولها ، فإذا كان القرآن قد نزل مرّة واحدة ، فينبغي أن يتمّ العمل به مرّة واحدة أيضا ، ونعلم بأنّ هذا محال ، لأنّ إصلاح مجتمع مليء بالفساد لا يتمّ في يوم واحد ، إذ لا يمكن إرسال الطفل الأمي دفعة واحدة من الصف الأوّل إلى الصفوف المتقدمة في الجامعة في يوم واحد. لهذا السبب نزل القرآن نجوما ـ أي بشكل تدريجي ـ كي ينفذ بشكل جيّد ويستوعبه الجميع وكي يكون للمجتمع قابلية قبوله واستيعابه وتمثله عمليا.

ثالثا : بدون شك ، إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كقائد هذه النهضة العظيمة سيكون ذا قدرات وإمكانيات أكبر عند ما يقوم بتطبيق القرآن جزءا جزءا ، بدلا من تنفيذه دفعة واحدة. صحيح أنّه مرسل من الخالق وذو عقل واستعداد كبيرين ليس لهما مثيل ، إلّا أنّه برغم ذلك فإنّ تقبّل الناس للقرآن وتنفيذ تعاليمه بصورة تدريجية سيكون أكمل وأفضل ممّا لو نزل دفعة واحدة.

رابعا : النّزول التدريجي يعني الارتباط الدائمي للرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع مصدر الوحي ، إلّا أنّ النّزول الدفعي يتمّ بمرحلة واحدة لا يتسنى للرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الارتباط بمصدر الوحي لأكثر من مرّة واحدة.

آخر الآية (32) من سورة الفرقان تقول :( كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ

١٧١

تَرْتِيلاً ) وهي إشارة إلى السبب الثّالث ، بينما الآية التي نبحثها تشير إلى السبب الثّاني من مجموع الأسباب الأربعة التي أوردناها. ولكن الحصيلة أنّ مجموع هذه العوامل تكشف بشكل حي وواضح أسباب وثمار النّزول التدريجي للقرآن.

الآية التي تليها استهدفت غرور المعارضين الجهلة حيث تقول :( قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً ) .

* * *

ملاحظات

في هذه الآية ينبغي الالتفات إلى الملاحظات الآتية :

أوّلا : يعتقد المفسّرون أنّ جملة( آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا ) يتبعها جملة محذوفة قدّروها بأوجه متعدّدة ، إذ قال بعضهم : إن المعنى هو : سواء آمنتم أم لم تؤمنوا فلا يضر ذلك بإعجاز القرآن ونسبته إلى الخالق.

بينما قال البعض : إنّ التقدير يكون : سواء آمنتم به أو لم تؤمنوا فإنّ نفع ذلك وضرره سيقع عليكم.

لكن يحتمل أن تكون الجملة التي بعدها مكمّلة لها ، وهي كناية عن أنّ عدم الإيمان هو سبب عدم العلم والمعرفة ، فلو كنتم تعلمون لآمنتم به. وبعبارة أخرى : يكون المعنى : إذا لم تؤمنوا به فإنّ الأفراد الواعين وذوي العلم يؤمنون به.

ثانيا : إنّ المقصود من( الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ ) هم مجموعة من علماء اليهود والنصارى من الذين آمنوا بعد أن سمعوا آيات القرآن ، وشاهدوا العلائم التي قرءوها في التوراة والإنجيل ، والتحقوا بصف المؤمنين الحقيقيين ، وأصبحوا من علماء الإسلام.

وفي آيات أخرى من القرآن تمت الإشارة إلى هذا الموضوع ، كما في قوله

١٧٢

تعالى في الآية (113) من سورة آل عمران :( لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ ) .

ثالثا : «يخرّون» بمعنى يسقطون على الأرض بدون إرادتهم ، واستخدام هذه الكلمة بدلا من السجود ينطوي على إشارة لطيفة ، هي أنّ الواعين وذوي القلوب اليقظة عند ما يسمعون آيات القرآن وكلام الخالقعزوجل ينجذبون إليه ويولهون به الى درجة أنّهم يسقطون على الأرض ويسجدون خشية بدون وعي واختيار(1) .

رابعا : (أذقان) جمع (ذقن) ومن المعلوم أن ذقن الإنسان عند السجود لا يلمس الأرض ، إلّا أن تعبير الآية إشارة إلى أنّ هؤلاء يضعون كامل وجههم على الأرض قبال خالقهم حتى أنّ ذقنهم قد يلمس الأرض عند السجود.

بعض المفسّرين احتمل أنّ الإنسان عند سجوده يضع أوّلا جبهته على الأرض ، ولكن الشخص المدهوش عند ما يسقط على الأرض يضع ذقنه أولا ، فيكون استخدام هذا التعبير في الآية تأكيدا لمعنى (يخرون)(2) .

الاية التي بعدها توضح قولهم عند ما يسجدون :( وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولاً ) (3) . هؤلاء يعبرون بهذا الكلام عن عمق إيمانهم واعتقادهم بالله وبصفاته وبوعده. فهذا الكلام يشمل الإيمان بالتوحيد والصفات الحقة والإيمان بنبوة الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبالمعاد. والكلام على هذا الأساس يجمع أصول الدين في جملة واحدة.

وللتأكيد ـ أكثر ـ على تأثّر هؤلاء بآيات ربّهم ، وعلى سجدة الحب التي

__________________

(1) يقول الراغب في (المفردات) : «يخرون» من مادة «خرير» ويقال لصوت الماء والريح وغير ذلك ممّا يسقط من علّو. وقوله تعالى :( خَرُّوا لَهُ سُجَّداً ) تنبيه على اجتماع أمرين : السقوط وحصول الصوت منهم بالتسبيح ، والتنبيه أنّ ذلك الخرير كان صوت تسبيحهم بحمد الله لا بشيء آخر. ودليله قوله تعالى فيما بعد:( وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ ) .

(2) تفسير المعاني ، ج 15 ، ص 175.

(3) (إنّ) في قوله :( إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا ) غير شرطية ، بل هي تأكيدية ، وهي مخففة من الثقيلة.

١٧٣

يسجدونها تقول الآية التي بعدها :( وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً ) .

إنّ تكرار جملة( يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ ) دليل على التأكيد ، وعلى الاستمرار أيضا.

الفعل المضارع (يبكون) دليل على استمرار البكاء بسبب حبّهم وعشقهم لخالقهم.

واستخدام الفعل المضارع في جملة( يَزِيدُهُمْ خُشُوعاً ) دليل على أنّهم لا يتوقفون أبدا على حالة واحدة ، بل يتوجهون باستمرار نحو ذروة التكامل ، وخشوعهم دائما في زيادة (الخشوع هو حالة من التواضع والأدب الجسدي والروحي للإنسان في مقابل شخصية معينة أو حقيقة معينة).

* * *

بحثان :

1 ـ التخطيط للتربية والتعلم

من الدروس المهمّة التي نستفيدها من الآيات أعلاه ، هو ضرورة التخطيط لأي ثورة أو نهضة ثقافية أو فكرية أو اجتماعية أو تربوية ، فإذا لم يتمّ تنظيم مثل هذا البرنامج فالفشل سيكون النتيجة الحتمية لمثل هذه الجهود. إنّ القرآن الكريم لم ينزل على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مرّة واحدة بالرغم من أنّه كان موجودا في مخزون علم الله كاملا ، وقد تمّ عرضه في ليلة القدر على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دفعة واحدة ، إلّا أنّ النّزول التدريجي استمرّ طوال (23) سنة ، وضمن مراحل زمنية مختلفة وفي إطار برنامج عملي دقيق.

وعند ما يقوم الخالق جلّ وعلا بهذا العمل بالرغم من عمله وقدرته المطلقة وغير المتناهية عند ذلك سيتّضح دورنا وتكليفنا نحن إزاء هذا المبدأ. وعادة ما يكون هذا قانونا وتكليفا إلهيا ، حيث أنّ وجوده العيني لا يختص بعالم التشريع

١٧٤

وحسب ، بل في عالم التكوين أيضا. إنّه من غير المتوقع أن تنصلح أمور مجتمع في مرحلة البناء خلال ليلة واحدة لأنّ البناء الحضاري الفكري والثقافي والاقتصادي والسياسي يحتاج إلى المزيد من الوقت.

وهذا الكلام يعني أنّنا إذا لم نصل إلى النتيجة المطلوبة في وقت قصير فعلينا أن لا نيأس ونترك بذل الجهد أو المثابرة. وينبغي أن نلتفت إلى أنّ الانتصارات النهائية والكاملة تكون عادة لأصحاب النفس الطويل.

2 ـ علاقة العلم بالإيمان

الموضوع الآخر الذي يمكن أن نستفيده من الآيات أعلاه هو علاقة العلم بالإيمان، إذ تقول الآيات : إنّكم سواء آمنتم بالله أو لم تؤمنوا فإنّ العلماء سيؤمنون بالله إلى درجة أنّهم يعشقون الخالق ويسقطون أرضا ساجدين من شدّة الوله والحبّ ، وتجري الدّموع من أعينهم، وإنّ هذا الخشوع والتأدّب يتصف بالاستمرار في كل عصر وزمان.

إنّ الجهلة ـ فقط ـ هم الذين لا يعيرون أهمية للحقائق ويواجهونها بالاستهزاء والسخرية ، وإذا أثّر فيهم الإيمان في بعض الأحيان فإنّه سيكون تأثيرا ضعيفا خاليا من الحبّ والحرارة.

إضافة إلى ذلك ، فإنّ في الآية ما يؤكّد خطأ وخطل النظرية التي تربط بين الدين والجهل أو الخوف من المجهول. أمّا القرآن فإنّه يؤكّد على عكس ذلك تماما ، إذ يقول في مواقع متعدّدة : إنّ العلم والإيمان توأمان ، إذ لا يمكن أن يكون هناك إيمان عميق ثابت من دون علم ، والعلم في مراحلة المتقدمة يحتاج إلى الإيمان. (فدقق في ذلك).

* * *

١٧٥

الآيتان

( قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (110) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً (111) )

سبب النّزول

وردت آراء متعدّدة في سبب نزول هاتين الآيتين منها ما نقله صاحب مجمع البيان عن ابن عباس الذي قال : كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ساجدا ذات ليلة بمكّة يدعو : يا رحمن يا رحيم ، فقال المشركون متهمين رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّه يدعونا إلى إله واحد ، بينما يدعو هو مثنى مثنى. يقصدون بذلك قول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا رحمن يا رحيم. فنزلت الآية الكريمة أعلاه(1) .

__________________

(1) يراجع مجمع البيان أثناء تفسير الآية.

١٧٦

التّفسير

آخر الذرائع والأغذار

بعد سلسلة من الذرائع التي تشبث بها المشركون امام دعوة الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، نصل مع الآيات التي بين أيدينا إلى آخر ذريعة لهم ، وهي قولهم : لماذا يذكر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الخالق بأسماء متعدّدة بالرغم من أنّه يدّعي التوحيد. القرآن ردّ على هؤلاء بقوله :( قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى ) . إنّ هؤلاء عميان البصيرة والقلب ، غافلون عن أحداث ووقائع حياتهم اليومية حيث كانوا يذكرون أسماء مختلفة لشخص واحد أو لمكان واحد ، وكل اسم من هذه الأسماء كان يعرّف بشطر أو بصفة من صفات ذلك الشخص أو المكان.

بعد ذلك ، هل من العجيب أن تكون للخالق أسماء متعدّدة تتناسب مع أفعاله وكمالاته وهو المطلق في وجوده وفي صفاته والمنبع لكل صفات الكمال وجميع النعم ، وهو وحدهعزوجل الذي يدير دفة هذا العالم والوجود؟

أساسا ، فانّ الله تعالى لا يمكن معرفته ومناجاته باسم واحد إذ ينبغي أن تكون أسماؤه مثل صفاته غير محدودة حتى تعبّر عن ذاته ، ولكن لمحدودية ألفاظنا ـ كما هي أشياؤنا الأخرى أيضا ـ لا نستطيع سوى ذكر أسماء محدودة له ، وإنّ معرفتنا مهما بلغت فهي محدودة أيضا ، حتى أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو من هو في منزلته وروحه وعلو شأنه ، نراه يقول : «ما عرفناك حق معرفتك».

إنّ الله تعالى في قضية معرفتنا إيّاه لم يتركنا في أفق عقولنا ودرايتنا الخاصّة ، بل ساعدنا كثيرا في معرفة ذاته ، وذكر نفسه بأسماء متعدّدة في كتابه العظيم ، ومن خلال كلمات أوليائه تصل أسماؤه ـ تقدس وتعالى ـ إلى ألف اسم.

وطبيعي أنّ كل هذه أسماء الله ، وأحد معاني الأسماء العلّامة ، لذا فإنّ هذه علامات على ذاته الطاهرة ، وجميع هذه الخطوط والعلامات تنتهي إلى نقطة

١٧٧

واحدة ، وهي لا تقلّل من شأن توحيد الذات والصفات.

وهناك قسم من هذه الأسماء ذو أهمية وعظمة أكثر ، حيث تعطينا معرفة ووعيا أعظم، تسمى في القرآن الكريم وفي الرّوايات الإسلامية ، بالأسماء الحسنى ، وهناك رواية معروفة عن رسول الهدىصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما مضمونها : «إن الله تسعا وتسعين اسما ، من أحصاها دخل الجنّة».

وهناك شرح مفصل للأسماء الحسنى ، والأسماء التسعة والتسعين بالذات ، أوردناه في نهاية الحديث عن الآية (180) من سورة الأعراف ، في قوله تعالى :( وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها ) .

لكن علينا أن نفهم أنّ الغرض من عد الأسماء الحسنى ليس ذكرها على اللسان وحسب ، حتى يصبح الإنسان من أهل الجنّة ومستجاب الدعوة ، بل إنّ الهدف هو التخلّق بهذه الأسماء وتطبيق شذرات من هذه الأسماء ، مثل (العالم ، والرحمن ، والرحيم ، والجواد،والكريم) في وجودنا حتى نصبح من أهل الجنّة ومستجابي الدعوة.

وهناك كلام ينقله الشيخ الصدوقرحمه‌الله في كتاب التوحيد عن هشام بن الحكم جاء فيه :

يقول هشام بن الحكم : سألت أبا عبد الله الصادقعليه‌السلام عن أسماء الله عزّ ذكره واشتقاقها فقلت : الله ممّا هو مشتق؟

قالعليه‌السلام : «يا هشام ، الله مشتق من إله ، وإله يقتضي مألوها ، والاسم غير المسمّى ، فمن عبد الاسم دون المعنى فقد كفر ولم يعبد شيئا ، ومن عبد الاسم والمعنى فقد أشرك وعبد الاثنين ، ومن عبد المعنى دون الاسم فذاك التوحيد.

أفهمت يا هشام؟».

قال هشام : قلت : زدني.

قالعليه‌السلام : «للهعزوجل تسعة وتسعون اسما ، فلو كان الاسم هو المسمى لكان

١٧٨

كلّ اسم منها هو إلها ، ولكن اللهعزوجل معنى يدلّ عليه بهذه الأسماء وكلّها غيره.

يا هشام ، الخبز اسم للمأكول ، والماء اسم للمشروب ، والثوب اسم للملبوس ، والنار اسم للمحرق»(1) .

والآن لنعد إلى الآيات. ففي نهاية الآية التي نبحثها نرى المشركين يتحدّثون عن صلاة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويقولون : إنّه يؤذينا بصوته المرتفع في صلاته وعبادته ، فما هذه العبادة؟ فجاءت التعليمات لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عبر قوله تعالى :( وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً ) .

لذلك فإنّ الآية أعلاه لا علاقة لها بالصلوات الجهرية والإخفاتية في اصطلاح الفقهاء، بل إنّ المقصود منها يتعلق بالإفراط والتفريط في الجهر والإخفات ، فهي تقول : لا تقرأ بصوت مرتفع بحيث يشبه الصراخ ، ولا أقل من الحد الطبيعي بحيث تكون حركة شفاه وحسب ولا صوت فيها.

أسباب النّزول الواردة ـ حول الآية ـ التي يرويها الكثير من المفسّرين نقلا عن ابن عباس تؤيّد هذا المعنى.(2)

وهناك آيات عديدة من طرق أهل البيت نقلا عن الإمام الباقر والصادقعليهما‌السلام وتؤيد هذا المعنى وتشير إليه(3) .

لذا فإنا نستبعد التفاسير الأخرى الواردة حول الآية.

أمّا ما هو حد الاعتدال ، وما هو الجهر والإخفات المنهي عنهما؟ الظاهر أنّ الجهر هو بمعنى (الصراخ) ، و (الإخفات) هو من السكون بحيث لا يسمعه حتى فاعله.

وفي تفسير علي بن إبراهيم عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال في تفسير الآية :

__________________

(1) توحيد الصدوق نقلا عن تفسير الميزان أثناء تفسير الآية.

(2) ـ يمكن مراجعة نور الثقلين ، ج 3 ، ص 233 فما بعد.

١٧٩

«الجهر بها رفع الصوت ، والتخافت بها ما لم تسع نفسك ، واقرأ بين ذلك»(1) .

أمّا الإخفات والجهر في الصلوات اليومية ، فهو ـ كما أشرنا لذلك ـ له حكم آخر، أو مفهوم آخر ، أي له أدلة منفصلة ، حيث ذكرها فقهاؤنا رضوان الله عليهم في (كتاب الصلاة) وبحثوا عنها.

* * *

ملاحظة

هذا الحكم الإسلامي في الدعوة إلى الاعتدال بين الجهر والإخفات يعطينا فهما وإدراكا من جهتين :

الأولى : لا تؤدوا العبادات بشكل تكون فيه ذريعة بيد الأعداء ، فيقومون بالاستهزاء والتحجج ضدكم ، إذ الأفضل أن تكون مقرونة بالوقار والهدوء والأدب ، كي تعكس بذلك نموذجا لعظمة الأدب الإسلامي ومنهج العبادة في الإسلام.

فالذين يقومون في أوقات استراحة الناس بإلقاء المحاضرات الدينية بواسطة مكبرات الصوت ، ويعتقدون أنّهم بذلك يوصلون صوتهم إلى الآخرين ، هم على خطأ ، وعملهم هذا لا يعكس أدب الإسلام في العبادات ، وستكون النتيجة عكسية على قضية التبليغ الديني.

الثّانية : يجب أن يكون هذ التوجيه مبدأ لنا في جميع أعمالنا وبرامجنا الاجتماعية والسياسية والاقتصادية ، وتكون جميع هذه الأمور بعيدة عن الإفراط والتفريط ، إذ الأساس هو :( وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً ) .

أخيرا نصل إلى الآية الأخيرة من سورة الإسراء ، هذه الآية تنهي السورة المباركة بحمد الله ، كما افتتحت بتسبيحه وتنزيه ذاتهعزوجل . إنّ هذه الآية ـ في

__________________

(1) نور الثقلين ، ج 3 ، ص 234.

١٨٠

المائدة في أواخر عهد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و ذلك لمكان قوله تعالى:( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ ) .

فهل المراد باليوم يوم فتح مكّة بعينه؟ أو يوم نزول البراءة بعينه؟ يكفي في فساده ما تقدّم من الإشكالات الواردة على الاحتمال الثاني و الثالث المتقدّمين.

أو أنّ المراد باليوم هو يوم عرفة من حجّة الوداع كما ذكره كثير من المفسّرين و به ورد بعض الروايات؟ فما المراد من يأس الّذين كفروا يومئذ من دين المسلمين؟ فإن كان المراد باليأس من الدين يأس مشركي قريش من الظهور على دين المسلمين فقد كان ذلك يوم الفتح عامّ ثمانية لا يوم عرفة من السنة العاشرة، و إن كان المراد يأس مشركي العرب من ذلك فقد كان ذلك عند نزول البراءة و هو في السنة التاسعة من الهجرة، و إن كان المراد به يأس جميع الكفّار الشامل لليهود و النصارى و المجوس و غيرهم - و ذلك الّذي يقتضيه إطلاق قوله:( الَّذِينَ كَفَرُوا ) - فهؤلاء لم يكونوا آئسين من الظهور على المسلمين بعد، و لمّا يظهر للإسلام قوّة و شوكة و غلبة في خارج جزيرة العرب اليوم.

و من جهة اُخرى يجب أن نتأمّل فيما لهذا اليوم - و هو يوم عرفة تاسع ذي الحجّة سنة عشر من الهجرة - من الشأن الّذي يناسب قوله:( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي ) في الآية.

فربّما أمكن أن يقال: إنّ المراد به إكمال أمر الحجّ بحضور النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بنفسه فيه، و تعليمه الناس تعليماً عمليّاً مشفوعاً بالقول.

لكن فيه أنّ مجرّد تعليمه الناس مناسك حجّهم - و قد أمرهم بحجّ التمتّع و لم يلبث دون أن صار مهجوراً، و قد تقدّمه تشريع أركان الدين من صلاة و صوم و حجّ و زكاة و جهاد و غير ذلك - لا يصحّ أن يسمّى إكمالاً للدين، و كيف يصحّ أن يسمّى تعليم شي‏ء من واجبات الدين إكمالاً لذلك الواجب فضلاً عن أن يسمّى تعليم واجب من واجبات الدين إكمالاً لمجموع الدين؟.

على أنّ هذا الاحتمال يوجب انقطاع رابطة الفقرة الاُولى أعني قوله:( الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ ) بهذه الفقرة أعني قوله:( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ )

١٨١

و أيّ ربط ليأس الكفّار عن الدين بتعليم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حجّ التمتّع للناس.

و ربّما أمكن أن يقال: إنّ المراد به إكمال الدين بنزول بقايا الحلال و الحرام في هذا اليوم في سورة المائدة، فلا حلال بعده و لا حرام، و بإكمال الدين استولى اليأس على قلوب الكفّار، و لاحت آثاره على وجوههم.

لكن يجب أن نتبصّر في تمييز هؤلاء الكفّار الّذين عبّر عنهم في الآية بقوله:( الَّذِينَ كَفَرُوا ) على هذا التقدير و أنّهم من هم؟ فإن اُريد بهم كفّار العرب فقد كان الإسلام عمّهم يومئذ و لم يكن فيهم من يتظاهر بغير الإسلام و هو الإسلام حقيقة، فمن هم الكفّار الآئسون؟.

و إن اُريد بهم الكفّار من غيرهم كسائر العرب من الاُمم و الأجيال فقد عرفت آنفاً أنّهم لم يكونوا آيسين يومئذ من الظهور على المسلمين.

ثمّ نتبصّر في أمر انسداد باب التشريع بنزول سورة المائدة و انقضاء يوم عرفة فقد وردت روايات كثيرة لا يستهان بها عدداً بنزول أحكام و فرائض بعد اليوم كما في آية الصيف(١) و آيات الربا، حتّى أنّه روي عن عمر أنّه قال في خطبة خطبها: من آخر القرآن نزولاً آية الربا، و إنّه مات رسول الله و لم يبيّنه لنا، فدعوا ما يريبكم إلى ما لا يريبكم، الحديث‏ و روى البخاريّ في الصحيح، عن ابن عبّاس قال: آخر آية نزلت على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم آية الربا، إلى غير ذلك من الروايات.

و ليس للباحث أن يضعّف الروايات فيقدّم الآية عليها، لأنّ الآية ليست بصريحة و لا ظاهرة في كون المراد باليوم فيها هذا اليوم بعينه و إنّما هو وجه محتمل يتوقّف في تعيّنه على انتفاء كلّ احتمال ينافيه، و هذه الأخبار لا تقصر عن الاحتمال المجرّد عن السند.

أو يقال: إنّ المراد بإكمال الدين خلوص البيت الحرام لهم، و إجلاء المشركين عنه حتّى حجّه المسلمون و هم لا يخالطهم المشركون.

و فيه: أنّه قد كان صفا الأمر للمسلمين فيما ذكر قبل ذلك بسنة، فما معنى تقييده باليوم في قوله:( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ) ؟ على أنّه لو سلّم كون هذا الخلوص

____________________

(١) و هي آية الكلالة المذكورة في آخر سورة النساء.

١٨٢

إتماماً للنعمة لم يسلّم كونه إكمالاً للدين، و أيّ معنى لتسمية خلوص البيت إكمالاً للدين، و ليس الدين إلّا مجموعة من عقائد و أحكام، و ليس إكماله إلّا أن يضاف إلى عدد أجزائها و أبعاضها عدد؟ و أمّا صفاء الجوّ لإجرائها، و ارتفاع الموانع و المزاحمات عن العمل بها فليس يسمّى إكمالاً للدين البتّة. على أنّ إشكال يأس الكفّار عن الدين على حاله.

و يمكن أن يقال: إنّ المراد من إكمال الدين بيان هذه المحرّمات بياناً تفصيليّاً ليأخذ به المسلمون، و يجتنبوها و لا يخشوا الكفّار في ذلك لأنّهم قد يئسوا من دينهم بإعزاز الله المسلمين، و إظهار دينهم و تغليبهم على الكفّار.

توضيح ذلك أنّ حكمة الاكتفاء في صدر الإسلام بذكر المحرّمات الأربعة أعني الميتة و الدم و لحم الخنزير و ما اُهلّ لغير الله به الواقعة في بعض السور المكّيّة و ترك تفصيل ما يندرج فيها ممّا كرهه الإسلام للمسلمين من سائر ما ذكر في هذه الآية إلى ما بعد فتح مكّة إنّما هي التدرّج في تحريم هذه الخبائث و التشديد فيها كما كان التدريج في تحريم الخمر لئلّا ينفر العرب من الإسلام، و لا يروا فيه حرجاً يرجون به رجوع من آمن من فقرائهم و هم أكثر السابقين الأوّلين.

جاء هذا التفصيل للمحرّمات بعد قوّة الإسلام، و توسعة الله على أهله و إعزازهم و بعد أن يئس المشركون بذلك من نفور أهله منه، و زال طمعهم في الظهور عليهم، و إزالة دينهم بالقوّة القاهرة، فكان المؤمنون أجدر بهم أن لا يبالوهم بالمداراة، و لا يخافوهم على دينهم و على أنفسهم.

فالمراد باليوم يوم عرفة من عامّ حجّة الوداع، و هو اليوم الّذي نزلت فيه هذه الآية المبيّنة لما بقي من الأحكام الّتي أبطل بها الإسلام بقايا مهانة الجاهليّة و خبائثها و أوهامها، و المبشّرة بظهور المسلمين على المشركين ظهوراً تامّاً لا مطمع لهم في زواله، و لا حاجة معه إلى شي‏ء من مداراتهم أو الخوف من عاقبة أمرهم.

فالله سبحانه يخبرهم في الآية أنّ الكفّار أنفسهم قد يئسوا من زوال دينهم

١٨٣

و أنّه ينبغي لهم - و قد بدّلهم بضعفهم قوّة، و بخوفهم أمناً، و بفقرهم غنى - أن لا يخشوا غيره تعالى، و ينتهوا عن تفاصيل ما نهى الله عنه في الآية ففيها كمال دينهم. كذا ذكره بعضهم بتلخيص مّا في النقل.

و فيه: أنّ هذا القائل أراد الجمع بين عدّة من الاحتمالات المذكورة ليدفع بكلّ احتمال ما يتوجّه إلى الاحتمال الآخر من الإشكال فتورّط بين المحاذير برمّتها و أفسد لفظ الآية و معناها جميعاً.

فذهل عن أنّ المراد باليأس إن كان هو اليأس المستند إلى ظهور الإسلام و قوّته و هو ما كان بفتح مكّة أو بنزول آيات البراءة لم يصحّ أن يقال يوم عرفة من السنة العاشرة:( الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ ) و قد كانوا يئسوا قبل ذلك بسنة أو سنتين، و إنّما اللفظ الوافي له أن يقال: قد يئسوا كما عبّر به القائل نفسه في كلامه في توضيح المعنى أو يقال: إنّهم آيسون.

و ذهل عن أنّ هذا التدرّج الّذي ذكره في محرّمات الطعام، و قاس تحريمها بتحريم الخمر إن اُريد به التدرّج من حيث تحريم بعض الأفراد بعد بعض فقد عرفت أنّ الآية لا تشتمل على أزيد ممّا تشتمل عليه آيات التحريم السابقة نزولاً على هذه الآية أعني آيات البقرة و الأنعام و النحل، و أنّ المنخنقة و الموقوذة إلخ من أفراد ما ذكر فيها.

و إن اُريد به التدرّج من حيث البيان الإجماليّ و التفصيليّ خوفاً من امتناع الناس من القبول ففي غير محلّه، فإنّ ما ذكر بالتصريح في السور السابقة على المائدة أعني الميتة و الدم و لحم الخنزير و ما اُهلّ لغير الله به أغلب مصداقاً، و أكثر ابتلاءً، و أوقع في قلوب الناس من أمثال المنخنقة و الموقوذة و غيرها، و هي اُمور نادرة التحقّق و شاذّة الوجود، فما بال تلك الأربعة و هي أهمّ و أوقع و أكثر يصرّح بتحريمها من غير خوف من ذلك ثمّ يتّقي من ذكرها ما لا يعبأ بأمره بالإضافة إليها فيتدرّج في بيان حرمتها، و يخاف من التصريح بها؟.

على أنّ ذلك لو سلّم لم يكن إكمالاً للدين، و هل يصحّ أن يسمّى تشريع الأحكام ديناً؟ و إبلاغها و بيانها إكمالاً للدين؟ و لو سلّم فإنّما ذلك إكمال لبعض الدين

١٨٤

و إتمام لبعض النعمة لا للكلّ و الجميع، و قد قال تعالى:( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي ) فأطلق القول من غير تقييد.

على أنّه تعالى قد بيّن أحكاماً كثيرة في أيّام كثيرة، فما بال هذا الحكم في هذا اليوم خصّ بالمزيّة فسمّاه الله أو سمّى بيانه تفصيلاً بإشمال الدين و إتمام النعمة؟.

أو أنّ المراد بإكمال الدين إكماله بسدّ باب التشريع بعد هذه الآية المبيّنة لتفصيل محرّمات الطعام، فما شأن الأحكام النازلة ما بين نزول المائدة و رحلة النبيّ ص؟ بل ما شأن سائر الأحكام النازلة بعد هذه الآية في سورة المائدة؟ تأمّل فيه.

و بعد ذلك كلّه ما معنى قوله تعالى:( وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً ) - و تقديره: اليوم رضيت إلخ - لو كان المراد بالكلام الامتنان بما ذكر في الآية من المحرّمات يوم عرفة من السنة العاشرة؟ و ما وجه اختصاص هذا اليوم بأنّ الله سبحانه رضي فيه الإسلام ديناً، و لا أمر يختصّ به اليوم ممّا يناسب هذا الرضي؟.

و بعد ذلك كلّه يرد على هذا الوجه أكثر الإشكالات الواردة على الوجوه السابقة أو ما يقرب منها ممّا تقدّم بيانه و لا نطيل بالإعادة.

أو أنّ المراد باليوم واحد من الأيّام الّتي بين عرفة و بين ورود النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المدينة على بعض الوجوه المذكورة في معنى يأس الكفّار و معنى إكمال الدين.

و فيه من الإشكال ما يرد على غيره على التفصيل المتقدّم.

فهذا شطر من البحث عن الآية بحسب السير فيما قيل أو يمكن أن يقال في توجيه معناها، و لنبحث عنها من طريق آخر يناسب طريق البحث الخاصّ بهذا الكتاب.

قوله:( الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ ) - و اليأس يقابل الرجاء، و الدين إنّما نزل من عندالله تدريجاً - يدلّ على أنّ الكفّار قد كان لهم مطمع في دين المسلمين و هو الإسلام، و كانوا يرجون زواله بنحو منذ عهد و زمان، و أنّ أمرهم ذلك كان يهدّد الإسلام حيناً بعد حين، و كان الدين منهم على خطر يوماً بعد يوم، و أنّ ذلك كان من حقّه أن يحذر منه و يخشاه المؤمنون.

فقوله:( فَلا تَخْشَوْهُمْ ) ، تأمين منه سبحانه للمؤمنين ممّا كانوا منه على خطر،

١٨٥

و من تسرّ به على خشية، قال تعالى:( وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ ) (آل عمران: ٦٩)، و قال تعالى:( وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَ اصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ الله بِأَمْرِهِ إِنَّ الله عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ ) (البقرة: ١٠٩).

و الكفّار لم يكونوا يتربّصون الدوائر بالمسلمين إلّا لدينهم، و لم يكن يضيق صدورهم و ينصدع قلوبهم إلّا من جهة أنّ الدين كان يذهب بسؤددهم و شرفهم و استرسالهم في اقتراف كلّ ما تهواه طباعهم، و تألفه و تعتاد به نفوسهم، و يختم على تمتّعهم بكلّ ما يشتهون بلا قيد و شرط.

فقد كان الدين هو المبغوض عندهم دون أهل الدين إلّا من جهة دينهم الحقّ فلم يكن في قصدهم إبادة المسلمين و إفناء جمعهم بل إطفاء نور الله و تحكيم أركان الشرك المتزلزلة المضطربة به، و ردّ المؤمنين كفّاراً كما مرّ في قوله:( لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً ) (الآية) قال تعالى:( يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ الله بِأَفْواهِهِمْ وَ الله مُتِمُّ نُورِهِ وَ لَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى‏ وَ دِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَ لَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ) (الصفّ: ٩).

و قال تعالى:( فَادْعُوا الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَ لَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ ) (المؤمن: ١٤).

و لذلك لم يكن لهم همّ إلّا أن يقطعوا هذه الشجرة الطيبة من أصلها، و يهدموا هذا البنيان الرفيع من أسّه بتفتين المؤمنين و تسرية النفاق في جماعتهم و بثّ الشبه و الخرافات بينهم لإفساد دينهم.

و قد كانوا يأخذون بادئ الأمر يفتّرون عزيمة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و يستمحقون همّته في الدعوة الدينيّة بالمال و الجاه، كما يشير إليه قوله تعالى:( وَ انْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَ اصْبِرُوا عَلى‏ آلِهَتِكُمْ إِنَّ هذا لَشَيْ‏ءٌ يُرادُ ) ( ص: ٦) أو بمخالطة أو مداهنة، كما يشير إليه قوله:( وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ ) (القلم: ٩)، و قوله:( وَ لَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا ) (إسراء: ٧٤)، و قوله:( قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ وَ لا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ ) (الكافرون: ٣) على ما ورد في أسباب النزول.

١٨٦

و كان آخر ما يرجونه في زوال الدين، و موت الدعوة المحقّة، أنّه سيموت بموت هذا القائم بأمره و لا عقب له، فإنّهم كانوا يرون أنّه ملك في صورة النبوّة، و سلطنة في لباس الدعوة و الرسالة، فلو مات أو قتل لانقطع أثره و مات ذكره و ذكر دينه على ما هو المشهود عادة من حال السلاطين و الجبابرة أنّهم مهما بلغ أمرهم من التعالي و التجبّر و ركوب رقاب الناس فإنّ ذكرهم يموت بموتهم، و سننهم و قوانينهم الحاكمة بين الناس و عليهم تدفن معهم في قبورهم، يشير إلى رجائهم هذا قوله تعالى:( إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ: ) (الكوثر: ٣) على ما ورد في أسباب النزول.

فقد كان هذه و أمثالها أمانيّ تمكّن الرجاء من نفوسهم، و تطمعهم في إطفاء نور الدين، و تزيّن لأوهامهم أنّ هذه الدعوة الطاهرة ليست إلّا اُحدوثة ستكذبه المقادير و يقضي عليها و يعفو أثرها مرور الأيّام و اللّيالي، لكنّ ظهور الإسلام تدريجاً على كلّ ما نازله من دين و أهله، و انتشار صيته، و اعتلاء كلمته بالشوكة و القوّة قضى على هذه الأمانيّ فيئسوا من إفساد عزيمة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و إيقاف همّته عند بعض ما كان يريده، و تطميعه بمال أو جاه.

قوّة الإسلام و شوكته أيأستهم من جميع تلك الأسباب: - أسباب الرجاء - إلّا واحداً، و هو أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مقطوع العقب لا ولد له يخلفه في أمره، و يقوم على ما قام عليه من الدعوة الدينيّة فسيموت دينه بموته، و ذلك أنّ من البديهيّ أنّ كمال الدين من جهة أحكامه و معارفه - و إن بلغ ما بلغ - لا يقوى بنفسه على حفظ نفسه، و أنّ سنّة من السنن المحدثة و الأديان المتّبعة لا تبقى على نضارتها و صفائها لا بنفسها و لا بانتشار صيتها و لا بكثرة المنتحلين بها، كما أنّها لا تنمحي و لا تنطمس بقهر أو جبر أو تهديد أو فتنة أو عذاب أو غير ذلك إلّا بموت حملتها و حفظتها و القائمين بتدبير أمرها.

و من جميع ما تقدّم يظهر أنّ تمام يأس الكفّار إنّما كان يتحقّق عند الاعتبار الصحيح بأن ينصب الله لهذا الدين من يقوم مقام النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حفظه و تدبير أمره، و إرشاد الاُمّة القائمة به فيتعقّب ذلك يأس الّذين كفروا من دين المسلمين لمّا شاهدوا خروج الدين عن مرحلة القيام بالحامل الشخصيّ إلى مرحلة القيام بالحامل

١٨٧

النوعيّ، و يكون ذلك إكمالاً للدين بتحويله من صفة الحدوث إلى صفة البقاء، و إتماماً لهذه النعمة، و ليس يبعد أن يكون قوله تعالى:( وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَ اصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ الله بِأَمْرِهِ إِنَّ الله عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ ) (البقرة: ١٠٩) باشتماله على قوله:( حَتَّى يَأْتِيَ ) ، إشارة إلى هذا المعنى.

و هذا يؤيّد ما ورد من الروايات أنّ الآية نزلت يوم غدير خمّ، و هو اليوم الثامن عشر من ذي الحجّة سنة عشر من الهجرة في أمر ولاية عليّعليه‌السلام ، و على هذا فيرتبط الفقرتان أوضح الارتباط، و لا يرد عليه شي‏ء من الإشكالات المتقدّمة.

ثمّ إنّك بعد ما عرفت معنى اليأس في الآية تعرف أنّ اليوم: في قوله:( الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ ) ظرف متعلّق بقوله:( يَئِسَ ) و أنّ التقديم للدلالة على تفخيم أمر اليوم، و تعظيم شأنه، لما فيه من خروج الدين من مرحلة القيام بالقيّم الشخصيّ إلى مرحلة القيام بالقيّم النوعيّ، و من صفة الظهور و الحدوث إلى صفة البقاء و الدوام.

و لا يقاس الآية بما سيأتي من قوله:( الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ ) (الآية) فإنّ سياق الآيتين مختلف فقوله:( الْيَوْمَ يَئِسَ ) ، في سياق الاعتراض، و قوله:( الْيَوْمَ أُحِلَّ ) ، في سياق الاستيناف، و الحكمان مختلفان: فحكم الآية الاُولى تكوينيّ مشتمل على البشرى من وجه و التحذير من وجه آخر، و حكم الثانية تشريعيّ منبئ عن الامتنان. فقوله:( الْيَوْمَ يَئِسَ ) ، يدلّ على تعظيم أمر اليوم لاشتماله على خير عظيم الجدوى و هو يأس الّذين كفروا من دين المؤمنين، و المراد بالّذين كفروا - كما تقدّمت الإشارة إليه - مطلق الكفّار من الوثنيّين و اليهود و النصارى و غيرهم لمكان الإطلاق.

و أمّا قوله:( فَلا تَخْشَوْهُمْ وَ اخْشَوْنِ ) فالنهي إرشاديّ لا مولويّ، معناه أن لا موجب للخشية بعد يأس الّذين كنتم في معرض الخطر من قبلهم - و من المعلوم أنّ الإنسان لا يهمّ بأمر بعد تمام اليأس من الحصول عليه و لا يسعى إلى ما يعلم ضلال سعيه فيه - فأنتم في أمن من ناحية الكفّار، و لا ينبغي لكم مع ذلك الخشية منهم على دينكم فلا تخشوهم و اخشوني.

١٨٨

و من هنا يظهر أنّ المراد بقوله:( وَ اخْشَوْنِ ) بمقتضى السياق أن اخشوني فيما كان عليكم أن تخشوهم فيه لو لا يأسهم و هو الدين و نزعه من أيديكم، و هذا نوع تهديد للمسلمين كما هو ظاهر، و لهذا لم نحمل الآية على الامتنان.

و يؤيّد ما ذكرنا أنّ الخشية من الله سبحانه واجب على أيّ تقدير من غير أن يتعلّق بوضع دون وضع، و شرط دون شرط، فلا وجه للإضراب من قوله:( فَلا تَخْشَوْهُمْ ) إلى قوله:( وَ اخْشَوْنِ ) لو لا أنّها خشية خاصّة في مورد خاصّ.

و لا تقاس الآية بقوله تعالى:( فَلا تَخافُوهُمْ وَ خافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) (آل عمران: ١٧٥) لأنّ الأمر بالخوف من الله في تلك الآية مشروط بالإيمان، و الخطاب مولويّ، و مفاده أنّه لا يجوز للمؤمنين أن يخافوا الكفّار على أنفسهم بل يجب أن يخافوا الله سبحانه وحده.

فالآية تنهاهم عمّا ليس لهم بحقّ و هو الخوف منهم على أنفسهم سواء اُمروا بالخوف من الله أم لا، و لذلك يعلّل ثانياً الأمر بالخوف من الله بقيد مشعر بالتعليل، و هو قوله:( إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) و هذا بخلاف قوله:( فَلا تَخْشَوْهُمْ وَ اخْشَوْنِ ) فإنّ خشيتهم هذه خشية منهم على دينهم، و ليست بمبغوضة لله سبحانه لرجوعها إلى ابتغاء مرضاته بالحقيقة، بل إنّما النهي عنها لكون السبب الداعي إليها - و هو عدم يأس الكفّار منه - قد ارتفع و سقط أثره فالنهي عنه إرشاديّ، فكذا الأمر بخشية الله نفسه، و مفاد الكلام أنّ من الواجب أن تخشوا في أمر الدين، لكن سبب الخشية كان إلى اليوم مع الكفّار فكنتم تخشونهم لرجائهم في دينكم و قد يئسوا اليوم و انتقل السبب إلى ما عندالله فاخشوه وحده فافهم ذلك.

فالآية لمكان قوله:( فَلا تَخْشَوْهُمْ وَ اخْشَوْنِ ) لا تخلو عن تهديد و تحذير، لأنّ فيه أمراً بخشية خاصّة دون الخشية العامّة الّتي تجب على المؤمن على كلّ تقدير و في جميع الأحوال فلننظر في خصوصيّة هذه الخشية، و أنّه ما هو السبب الموجب لوجوبها و الأمر بها.؟

لا إشكال في أنّ الفقرتين أعني قوله:( الْيَوْمَ يَئِسَ ) ، و قوله:( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ

١٨٩

دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي ) ، في الآية مرتبطان مسوقتان لغرض واحد، و قد تقدّم بيانه فالدين الّذي أكمله الله اليوم، و النعمة الّتي أتمّها اليوم - و هما أمر واحد بحسب الحقيقة - هو الّذي كان يطمع فيه الكفّار و يخشاهم فيه المؤمنون فأيأسهم الله منه و أكمله و أتمّه و نهاهم عن أن يخشوهم فيه، فالّذي أمرهم بالخشية من نفسه فيه هو ذاك بعينه و هو أن ينزع الله الدين من أيديهم، و يسلبهم هذه النعمة الموهوبة.

و قد بيّن الله سبحانه أن لا سبب لسلب النعمة إلّا الكفر بها، و هدّد الكفور أشدّ التهديد، قال تعالى:( ذلِكَ بِأَنَّ الله لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى‏ قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَ أَنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) (الأنفال: ٥٣) و قال تعالى:( وَ مَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ الله مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ فَإِنَّ الله شَدِيدُ الْعِقابِ ) (البقرة: ٢١١) و ضرب مثلاً كلّيّاً لنعمه و ما يؤول إليه أمر الكفر بها فقال:( وَ ضَرَبَ الله مَثَلًا قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ الله فَأَذاقَهَا الله لِباسَ الْجُوعِ وَ الْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ ) (النحل: ١١٢).

فالآية أعني قوله:( الْيَوْمَ يَئِسَ - إلى قوله -دِيناً ) تؤذن بأنّ دين المسلمين في أمن من جهة الكفّار، مصون من الخطر المتوجّه من قبلهم، و أنّه لا يتسرّب إليه شي‏ء من طوارق الفساد و الهلاك إلّا من قبل المسلمين أنفسهم، و أنّ ذلك إنّما يكون بكفرهم بهذه النعمة التامّة، و رفضهم هذا الدين الكامل المرضيّ، و يومئذ يسلبهم الله نعمته و يغيّرها إلى النقمة، و يذيقهم لباس الجوع و الخوف، و قد فعلوا و فعل.

و من أراد الوقوف على مبلغ صدق هذه الآية في ملحمتها المستفادة من قوله:( فَلا تَخْشَوْهُمْ وَ اخْشَوْنِ ) فعليه أن يتأمّل فيما استقرّ عليه حال العالم الإسلاميّ اليوم ثمّ يرجع القهقرى بتحليل الحوادث التاريخيّة حتّى يحصل على اُصول القضايا و أعراقها.

و لآيات الولاية في القرآن ارتباط تامّ بما في هذه الآية من التحذير و الإيعاد و لم يحذّر الله العباد عن نفسه في كتابه إلّا في باب الولاية، فقال فيها مرّة بعد مرّة:

١٩٠

( وَ يُحَذِّرُكُمُ الله نَفْسَهُ ) (آل عمران: ٢٨ - ٣٠) و تعقيب هذا البحث أزيد من هذا خروج عن طور الكتاب.

قوله تعالى: ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً ) الإكمال و الإتمام متقارباً المعنى، قال الراغب: كمال الشي‏ء حصول ما هو الغرض منه. و قال: تمام الشي‏ء انتهاؤه إلى حدّ لا يحتاج إلى شي‏ء خارج عنه. و الناقص ما يحتاج إلى شي‏ء خارج عنه. انتهي.

و لك أن تحصل على تشخيص معنى اللّفظين من طريق آخر، و هو أنّ آثار الأشياء الّتي لها آثار على ضربين. فضرب منها ما يترتّب على الشي‏ء عند وجود جميع أجزائه - إن كان له أجزاء - بحيث لو فقد شيئاً من أجزائه أو شرائطه لم يترتّب عليه ذلك الأمر كالصوم فإنّه يفسد إذا اُخلّ بالإمساك في بعض النهار، و يسمّى كون الشي‏ء على هذا الوصف بالتمام، قال تعالى:( ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ ) (البقرة: ١٨٧) و قال:( وَ تَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَ عَدْلًا ) (الأنعام: ١١٥).

و ضرب آخر: الأثر الّذي يترتّب على الشي‏ء من غير توقّف على حصول جميع أجزائه، بل أثر المجموع كمجموع آثار الأجزاء، فكلّما وجد جزء ترتّب عليه من الأثر ما هو بحسبه، و لو وجد الجميع ترتّب عليه كلّ الأثر المطلوب منه، قال تعالى:( فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَ سَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ ) (البقرة: ١٩٦) و قال:( وَ لِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ ) (البقرة: ١٨٥) فإنّ هذا العدد يترتّب الأثر على بعضه كما يترتّب على كلّه، و يقال: تمّ لفلان أمره و كمل عقله: و لا يقال تمّ عقله و كمل أمره.

و أمّا الفرق بين الإكمال و التكميل، و كذا بين الإتمام و التتميم فإنّما هو الفرق بين بابي الإفعال و التفعيل، و هو أنّ الإفعال بحسب الأصل يدلّ على الدفعة و التفعيل على التدريج، و إن كان التوسّع الكلاميّ أو التطوّر اللّغويّ ربّما يتصرّف في البابين بتحويلهما إلى ما يبعد من مجرى المجرّد أو من أصلهما كالإحسان و التحسين، و الإصداق و التصديق، و الإمداد و التمديد و الإفراط و التفريط، و غير ذلك، فإنّما هي

١٩١

معان طرأت بحسب خصوصيّات الموارد ثمّ تمكّنت في اللّفظ بالاستعمال.

و ينتج ما تقدّم أن قوله:( أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي ) يفيد أنّ المراد بالدين هو مجموع المعارف و الأحكام المشرّعة و قد اُضيف إلى عددها اليوم شي‏ء و أنّ النعمة أيّاً مّا كانت أمر معنويّ واحد كأنّه كان ناقصاً غير ذي أثر فتمّم و ترتّب عليه الأثر المتوقّع منه.

و النعمة بناء نوع و هي ما يلائم طبع الشي‏ء من غير امتناعه منه، و الأشياء و إن كانت بحسب وقوعها في نظام التدبير متّصلة مرتبطة متلائماً بعضها مع بعض، و أكثرها أو جميعها نعمٌ إذا اُضيفت إلى بعض آخر مفروض كما قال تعالى:( وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ الله لا تُحْصُوها ) (إبراهيم: ٣٤) و قال:( وَ أَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَ باطِنَةً ) (لقمان: ٢٠).

إلا أنّه تعالى وصف بعضها بالشرّ و الخسّة و اللعب و اللهو و أوصاف اُخر غير ممدوحة كما قال:( وَ لا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ ) (آل عمران: ١٧٨)، و قال:( وَ ما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ وَ لَعِبٌ وَ إِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ ) (العنكبوت: ٦٤)، و قال:( لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ الْمِهادُ ) (آل عمران: ١٩٧) إلى غير ذلك.

و الآيات تدلّ على أنّ هذه الأشياء المعدودة نعماً إنّما تكون نعمة إذا وافقت الغرض الإلهيّ من خلقتها لأجل الإنسان فإنّها إنّما خلقت لتكون إمداداً إلهيّاً للإنسان يتصرّف فيها في سبيل سعادته الحقيقيّة، و هي القرب منه سبحانه بالعبوديّة و الخضوع للربوبيّة، قال تعالى:( وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ) (الذاريات: ٥٦).

فكلّ ما تصرّف فيه الإنسان للسلوك به إلى حضرة القرب من الله و ابتغاء مرضاته فهو نعمة، و إن انعكس الأمر عاد نقمة في حقّه، فالأشياء في نفسها عزل، و إنّما هي نعمة لاشتمالها على روح العبوديّة، و دخولها من حيث التصرّف المذكور تحت ولاية الله الّتي هي تدبير الربوبيّة لشؤون العبد، و لازمه أنّ النعمة بالحقيقة هي الولاية

١٩٢

الإلهيّة، و أنّ الشي‏ء إنّما يصير نعمة إذا كان مشتملاً على شي‏ء منها، قال تعالى:( الله وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ ) (البقرة: ٢٥٧)، و قال تعالى:( ذلِكَ بِأَنَّ الله مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَ أَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى‏ لَهُمْ ) (محمّد: ١١) و قال في حقّ رسوله:( فَلا وَ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَ يُسَلِّمُوا تَسْلِيماً ) (النساء: ٦٥) إلى غير ذلك.

فالإسلام و هو مجموع ما نزل من عندالله سبحانه ليعبده به عباده دين، و هو من جهة اشتماله - من حيث العمل به - على ولاية الله و ولاية رسوله و أولياء الأمر بعده نعمة.

و لا يتمّ ولاية الله سبحانه أي تدبيره بالدين لاُمور عباده إلّا بولاية رسوله، و لا ولاية رسوله إلّا بولاية اُولي الأمر من بعده، و هي تدبيرهم لاُمور الاُمّة الدينيّة بإذن من الله قال تعالى:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا الله وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ) (النساء: ٥٩) و قد مرّ الكلام في معنى الآية، و قال:( إِنَّما وَلِيُّكُمُ الله وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ راكِعُونَ ) (المائدة: ٥٥) و سيجي‏ء الكلام في معنى الآية إن شاء الله تعالى.

فمحصّل معنى الآية: اليوم - و هو اليوم الّذي يئس فيه الّذين كفروا من دينكم - أكملت لكم مجموع المعارف الدينيّة الّتي أنزلتها إليكم بفرض الولاية، و أتممت عليكم نعمتي و هي الولاية الّتي هي إدارة اُمور الدين و تدبيرها تدبيراً إلهيّاً، فإنّها كانت إلى اليوم ولاية الله و رسوله، و هي إنّما تكفي ما دام الوحي ينزل، و لا تكفي لما بعد ذلك من زمان انقطاع الوحي، و لا رسول بين الناس يحمي دين الله و يذبّ عنه بل من الواجب أن ينصب من يقوم بذلك، و هو وليّ الأمر بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم القيم على اُمور الدين و الاُمّة.

فالولاية مشروعة واحدة، كانت ناقصّة غير تامّة حتّى إذا تمّت بنصب وليّ الأمر بعد النبيّ.

و إذا كمل الدين في تشريعه، و تمّت نعمة الولاية فقد رضيت لكم من حيث الدين

١٩٣

الإسلام الّذي هو دين التوحيد الّذي لا يعبد فيه إلّا الله و لا يطاع فيه - و الطاعة عبادة - إلّا الله و من أمر بطاعته من رسول أو وليّ.

فالآية تنبئ عن أنّ المؤمنين اليوم في أمن بعد خوفهم، و أنّ الله رضي لهم أن يتديّنوا بالإسلام الّذي هو دين التوحيد فعليهم أن يعبدوه و لا يشركوا به شيئاً بطاعة غير الله أو من أمر بطاعته. و إذا تدبّرت قوله تعالى:( وَعَدَ الله الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَ لَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى‏ لَهُمْ وَ لَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَ مَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ ) (النور: ٥٥) ثمّ طبّقت فقرات الآية على فقرات قوله تعالى:( الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ ) إلخ وجدت آية سورة المائدة من مصاديق إنجاز الوعد الّذي يشتمل عليه آية سورة النور على أن يكون قوله:( يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً ) مسوقاً سوق الغاية كما ربّما يشعر به قوله:( وَ مَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ ) .

و سورة النور قبل المائدة نزولاً كما يدلّ عليه اشتمالها على قصّة الإفك و آية الجد و آية الحجاب و غير ذلك.

قوله تعالى: ( فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَحِيمٌ ) المخمصة هي المجاعة، و التجانف هو التمايل من الجنف بالجيم و هو ميل القدمين إلى الخارج مقابل الحنف بالحاء الّذي هو ميلهما إلى الداخل.

و في سياق الآية دلالةأوّلاً على أنّ الحكم حكم ثانويّ اضطراريّ،و ثانياً على أنّ التجويز و الإباحة مقدّر بمقدار يرتفع به الاضطرار و يسكن به ألم الجوع،و ثالثاً على أنّ صفة المغفرة و مثلها الرحمة كما تتعلّق بالمعاصي المستوجبة للعقاب كذلك يصحّ أن تتعلّق بمنشأها، و هو الحكم الّذي يستتبع مخالفته تحقّق عنوان المعصية الّذي يستتبع العقاب.

١٩٤

( بحث علمي في فصول ثلاثة)

١- العقائد في أكل اللحم: لا ريب أنّ الإنسان كسائر الحيوان و النبات مجهّز بجهاز التغذّي يجذب به إلى نفسه من الأجزاء المادّيّة ما يمكنه أن يعمل فيه ما ينضّم بذلك إلى بدنه و ينحفظ به بقاؤه، فلا مانع له بحسب الطبع من أكل ما يقبل الازدراد و البلع إلّا أن يمتنع منه لتضرّر أو تنفّر.

أمّا التضرّر فهو كأن يجد المأكول يضرّ ببدنه ضرّاً جسمانيّاً لمسموميّة و نحوها فيمتنع عندئذ عن الأكل، أو يجد الأكل يضرّ ضرّاً معنويّاً كالمحرّمات الّتي في الأديان و الشرائع المختلفة، و هذا القسم امتناع عن الأكل فكريّ.

و أمّا التنفّر فهو الاستقذار الّذي يمتنع معه الطبع عن القرب منه كما أنّ الإنسان لا يأكل مدفوع نفسه لاستقذاره إيّاه، و قد شوهد ذلك في بعض الأطفال و المجانين، و يلحق بذلك ما يستند إلى عوامل اعتقاديّة كالمذهب أو السنن المختلفة الرائجة في المجتمعات المتنوّعة مثل أنّ المسلمين يستقذرون لحم الخنزير، و النصارى يستطيبونه، و يتغذّى الغربيّون من أنواع الحيوانات أجناساً كثيرة يستقذرها الشرقيّون كالسرطان و الضفدع و الفأر و غيرها، و هذا النوع من الامتناع امتناع بالطبع الثاني و القريحة المكتسبة.

فتبيّن أنّ الإنسان في التغذّي باللّحوم على طرائق مختلفة ذات عرض عريض من الاسترسال المطلق إلى الامتناع، و أنّ استباحته ما استباح منها اتّباع للطبع كما أنّ امتناعه عمّا يمتنع عنه إنّما هو عن فكر أو طبع ثانويّ.

و قد حرّمت سنّة بوذا أكل لحوم الحيوانات عامّة، و هذا تفريط يقابله في جانب الإفراط ما كان دائراً بين أقوام متوحّشين من إفريقيّة و غيرها أنّهم كانوا يأكلون أنواع اللّحوم حتّى لحم الإنسان.

و قد كانت العرب تأكل لحوم الأنعامّ و غيرها من الحيوان حتّى أمثال الفأر و

١٩٥

الوزغ، و تأكل من الأنعام ما قتلته بذبح و نحوه، و تأكل غير ذلك كالميتة بجميع أقسامها كالمنخنقة و الموقوذة و المتردّية و النطيحة و ما أكل السبع، و كان القائل منهم يقول: ما لكم تأكلون ممّا قتلتموه و لا تأكلون ممّا قتله الله؟! كما ربّما يتفوّه بمثله اليوم كثيرون؟ يقول قائلهم: ما الفارق بين اللّحم و اللّحم إذا لم يتضرّر به بدن الإنسان و لو بعلاج طبّيّ فنّىّ فجهاز التغذّي لا يفرق بين هذا و ذاك؟.

و كانت العرب أيضاً تأكل الدم، كانوا يملؤون المعى من الدم و يشوونه و يطعمونه الضيف، و كانوا إذا أجدبوا جرحوا إبلهم بالنصال و شربوا ما ينزل من الدم، و أكل الدم رائج اليوم بين كثير من الاُمم غير المسلمة.

و أهل الصين من الوثنيّة أوسع منهم سنّة، فهم - على ما ينقل - يأكلون أصناف الحيوان حتّى الكلب و الهرّ و حتّى الديدان و الأصداف و سائر الحشرات.

و قد أخذ الإسلام في ذلك طريقاً وسطاً فأباح من اللّحوم ما تستطيعه الطباع المعتدلة من الإنسان، ثمّ فسّره في ذوات الأربع بالبهائم كالضأن و المعز و البقر و الإبل على كراهية في بعضها كالفرس و الحمار، و في الطير - بغير الجوارح - ممّا له حوصلة و دفيف و لا مخلب له، و في حيوان البحر ببعض أنواع السمك على التفصيل المذكور في كتب الفقه.

ثمّ حرّم دماءها و كلّ ميتة منها و ما لم يذكّ بالإهلال به لله عزّ اسمه، و الغرض في ذلك أن تحيا سنّة الفطرة، و هي إقبال الإنسان على أصل أكل اللّحم، و يحترم الفكر الصحيح و الطبع المستقيم اللّذين يمتنعان من تجويز ما فيه الضرر نوعاً، و تجويز ما يستقذر و يتنفّر منه.

٢- كيف أمر بقتل الحيوان و الرحمة تأباه؟ ربّما يسأل السائل فيقول: إنّ الحيوان ذو روح شاعرة بما يشعر به الإنسان من ألم العذاب و مرارة الفناء و الموت و غريزة حبّ الذات الّتي تبعثنا إلى الحذر من كلّ مكروه و الفرار من ألم العذاب و الموت تستدعي الرحمة لغيرنا من أفراد النوع لأنّه يؤلمهم ما يؤلمنا، و يشقّ عليهم ما يشقّ علينا، و النفوس سواء.

١٩٦

و هذا القياس جار بعينه في سائر أنواع الحيوان، فكيف يسوغ لنا أن نعذّبهم بما نتعذّب به، و نبدّل لهم حلاوة الحياة من مرارة الموت، و نحرمهم نعمة البقاء الّتي هي أشرف نعمة؟ و الله سبحانه أرحم الراحمين فكيف يسع رحمته أن يأمر بقتل حيوان ليلتذّ به إنسان و هما جميعاً في أنّهما خلقه سواء؟.

و الجواب عنه أنّه من تحكيم العواطف على الحقائق و التشريع إنّما يتبع المصالح الحقيقيّة دون العواطف الوهميّة.

توضيح ذلك أنّك إذا تتبّعت الموجودات الّتي تحت مشاهدتك بالميسور ممّا عندك وجدتها في تكوّنها و بقائها تابعة لناموس التحوّل، فما من شي‏ء إلّا و في إمكانه أن يتحوّل إلى آخر، و أن يتحوّل الآخر إليه بغير واسطة أو بواسطة، لا يوجد واحد إلّا و يعدم آخر، و لا يبقى هذا إلّا و يفني ذاك، فعالم المادّة عالم التبديل، و التبدّل و إن شئت فقل: عالم الآكل و المأكول.

فالمركّبات الأرضيّة تأكل الأرض بضمّها إلى أنفسها و تصويرها بصورة تناسبها أو تختصّ بها ثمّ الأرض تأكلها و تفنيها.

ثمّ النبات يتغذّى بالأرض و يستنشق الهواء ثمّ الأرض تأكله و تجزّئه إلى أجزائه الأصليّة و عناصره الأوّليّة، و لا يزال أحدهما يراجع الآخر.

ثمّ الحيوان يتغذّى بالنبات و الماء و يستنشق الهواء، و بعض أنواعه يتغذّى ببعض كالسباع تأكل لحوم غيرها بالاصطياد، و جوارح الطير تأكل أمثال الحمام و العصافير لا يسعها بحسب جهاز التغذّي الّذي يخصّها إلّا ذلك، و هي تتغذّى بالحبوب و أمثال الذباب و البقّ و البعوض و هي تتغذّى بدم الإنسان و سائر الحيوان و نحوه، ثمّ الأرض تأكل الجميع.

فنظام التكوين و ناموس الخلقة الّذي له الحكومة المطلقة المتّبعة على الموجودات هو الّذي وضع حكم التغذّي باللّحوم و نحوها، ثمّ هدى أجزاء الوجود إلى ذلك، و هو الّذي سوى الإنسان تسوية صالحة للتغذّي بالحيوان و النبات جميعاً. و في مقدّم جهازه الغذائيّ أسنانه المنضودة نضداً صالحاً للقطع و الكسر و النهش و الطحن من ثنايا

١٩٧

و رباعيّات و أنياب و طواحن، فلا هو مثل الغنم و البقر من الأنعام لا تستطيع قطعاً و نهشاً، و لا هو كالسباع لا تستطيع طحناً و مضغاً.

ثمّ القوّة الذائقة المعدّة في فمه الّتي تستلذّ طعم اللّحوم ثمّ الشهوة المودعة في سائر أعضاء هضمه جميع هذه تستطيب اللّحوم و تشتهيها. كلّ ذلك هداية تكوينيّة و إباحة من مؤتمن الخلقة، و هل يمكن الفرق بين الهداية التكوينيّة، و إباحة العمل المهديّ إليه بتسليم أحدهما و إنكار الآخر؟.

و الإسلام دين فطريّ لا همّ له إلّا إحياء آثار الفطرة الّتي أعفتها الجهالة الإنسانيّة، فلا مناص من أن يستباح به ما تهدي إليه الخلقة و تقضي به الفطرة.

و هو كما يحيي بالتشريع هذا الحكم الفطريّ يحيي أحكاماً اُخرى وضعها واضع التكوين، و هو ما تقدّم ذكره من الموانع من الاسترسال في حكم التغذّي أعني حكم العقل بوجوب اجتناب ما فيه ضرر جسمانيّ أو معنويّ من اللّحوم، و حكم الإحساسات و العواطف الباطنيّة بالتحذّر و الامتناع عمّا يستقذره و يتنفّر منه الطباع المستقيمة، و هذان الحكمان أيضاً ينتهي اُصولهما إلى تصرّف من التكوين، و قد اعتبرهما الإسلام فحرّم ما يضرّ نماء الجسم، و حرّم ما يضرّ بمصالح المجتمع الإنسانيّ، مثل ما اُهلّ به لغير الله، و ما اكتسب من طريق الميسر و الاستقسام بالأزلام و نحو ذلك، و حرّم الخبائث الّتي تستقذرها الطباع.

و أمّا حديث الرحمة المانعة من التعذيب و القتل فلا شكّ أنّ الرحمة موهبة لطيفة تكوينيّة اُودعت في فطرة الإنسان و كثير ممّا اعتبرنا حاله من الحيوان، إلّا أنّ التكوين لم يوجدها لتحكم في الاُمور حكومة مطلقة و تطاع طاعة مطلقة، فالتكوين نفسه لا يستعمل الرحمة استعمالاً مطلقاً، و لو كان ذلك لم يوجد في دار الوجود أثر من الآلام و الأسقام و المصائب و أنواع العذاب.

ثمّ الرحمة الإنسانيّة في نفسها ليست خلقاً فاضلاً على الإطلاق كالعدل، و لو كان كذلك لم يحسن أن نؤاخذ ظالماً على ظلمه أو نجازي مجرماً على جرمه و لا أن نقابل عدواناً بعدوان و فيه هلاك الأرض و من عليها.

١٩٨

و مع ذلك لم يهمل الإسلام أمر الرحمة بما أنّها من مواهب التكوين، فأمر بنشر الرحمة عموماً، و نهى عن زجر الحيوان في القتل، و نهى عن قطع أعضاء الحيوان المذبوح و سلخه قبل زهاق روحه - و من هذا الباب تحريم المنخنقة و الموقوذة - و نهى عن قتل الحيوان و آخر ينظر إليه، و وضع للتذكية أرفق الأحكام بالحيوان المذبوح و أمر بعرض الماء عليه و نحو ذلك ممّا يوجد تفصيله في كتب الفقه.

و مع ذلك كلّه الإسلام دين التعقّل لا دين العاطفة فلا يقدّم حكم العاطفة على الأحكام المصلحة لنظام المجتمع الإنسانيّ و لا يعتبر منه إلّا ما اعتبره العقل، و مرجع ذلك إلى اتّباع حكم العقل.

و أمّا حديث الرحمة الإلهيّة و أنّه تعالى أرحم الراحمين، فهو تعالى غير متّصف بالرحمة بمعنى رقّة القلب أو التأثّر الشعوريّ الخاصّ الباعث للراحم على التلطّف بالمرحوم، فإنّ ذلك صفة جسمانيّة مادّيّة تعالى عن ذلك علوّاً كبيراً، بل معناها إفاضته تعالى الخير على مستحقّه بمقدار ما يستحقّه، و لذلك ربّما كان ما نعدّه عذاباً رحمة منه تعالى و بالعكس، فليس من الجائز في الحكمة أن يبطل مصلحة من مصالح التدبير في التشريع اتّباعاً لما تقترحه عاطفة الرحمة الكاذبة الّتي فينا، أو يساهل في جعل الشرائع محاذية للواقعيّات.

فتبيّن من جميع ما مرّ أن الإسلام يحاكي في تجويز أكل اللّحوم و في القيود الّتي قيّد بها الإباحة و الشرائط الّتي اشترطها جميعاً أمر الفطرة: فطرة الله الّتي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيّم!.

٣- لما ذا بني الإسلام على التذكية؟ و هذا سؤال آخر يتفرّع على السؤال المتقدّم، و هو أنّا سلّمنا أنّ أكل اللّحوم ممّا تبيحه الفطرة و الخلقة فهلّا اقتصر في ذلك بما يحصل على الصدفة و نحوها بأن يقتصر في اللّحوم بما يهيّؤه الموت العارض حتف الأنف، فيجمع في ذلك بين حكم التكوين بالجواز، و حكم الرحمة بالإمساك عن تعذيب الحيوان و زجره بالقتل أو الذبح من غير أن يعدل عن ذلك إلى التذكية و الذبح؟.

و قد تبيّن الجواب عنه ممّا تقدّم في الفصل الثاني، فإنّ الرحمة بهذا المعنى غير

١٩٩

واجب الاتّباع بل اتّباعه يفضي إلى إبطال أحكام الحقائق. و قد عرفت أنّ الإسلام مع ذلك لم يأل جهداً في الأمر بإعمال الرحمة قدر ما يمكن في هذا الباب حفظاً لهذه الملكة اللّطيفة بين النوع.

على أنّ الاقتصار على إباحة الميتة و أمثالها ممّا لا ينتج التغذّي به إلّا فساد المزاج و مضارّ الأبدان هو بنفسه خلاف الرحمة، و بعد ذلك كلّه لا يخلو عن الحرج العامّ الواجب نفيه.

( بحث روائي)

في تفسير العيّاشيّ، عن عكرمة عن ابن عبّاس قال: ما نزلت آية:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ) إلّا و عليّ شريفها و أميرها، و لقد عاتب الله أصحاب محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في غير مكان و ما ذكر عليّاً إلّا بخير.

أقول: و روي في تفسير البرهان، عن موفّق بن أحمد، عن عكرمة، عن ابن عبّاس: مثله إلى قوله: و أميرها. و رواه أيضاً العيّاشيّ عن عكرمة. و قد نقلنا الحديث سابقا عن الدرّ المنثور. و في بعض الروايات عن الرضاعليه‌السلام قال: ليس في القرآن( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ) إلّا في حقّنا. و هو من الجري أو من باطن التنزيل.

و فيه: عن عبدالله بن سنان قال: سألت أباعبداللهعليه‌السلام عن قول الله:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) قال: العهود.

أقول: و رواه القمّيّ، أيضاً في تفسيره عنه.

و في التهذيب، مسنداً عن محمّد بن مسلم قال: سألت أحدهماعليهما‌السلام عن قول الله عزّوجلّ:( أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ ) فقال: الجنين في بطن اُمّه إذا أشعر و أوبر فذكاته ذكاة اُمّه الّذي عنى الله تعالى.

أقول: و الحديث مرويّ في الكافي، و الفقيه، عنه عن أحدهما، و روى هذا المعنى

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444