الميزان في تفسير القرآن الجزء ٥

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 444

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 444
المشاهدات: 86802
تحميل: 10312


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 444 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 86802 / تحميل: 10312
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 5

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

المائدة في أواخر عهد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و ذلك لمكان قوله تعالى:( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ ) .

فهل المراد باليوم يوم فتح مكّة بعينه؟ أو يوم نزول البراءة بعينه؟ يكفي في فساده ما تقدّم من الإشكالات الواردة على الاحتمال الثاني و الثالث المتقدّمين.

أو أنّ المراد باليوم هو يوم عرفة من حجّة الوداع كما ذكره كثير من المفسّرين و به ورد بعض الروايات؟ فما المراد من يأس الّذين كفروا يومئذ من دين المسلمين؟ فإن كان المراد باليأس من الدين يأس مشركي قريش من الظهور على دين المسلمين فقد كان ذلك يوم الفتح عامّ ثمانية لا يوم عرفة من السنة العاشرة، و إن كان المراد يأس مشركي العرب من ذلك فقد كان ذلك عند نزول البراءة و هو في السنة التاسعة من الهجرة، و إن كان المراد به يأس جميع الكفّار الشامل لليهود و النصارى و المجوس و غيرهم - و ذلك الّذي يقتضيه إطلاق قوله:( الَّذِينَ كَفَرُوا ) - فهؤلاء لم يكونوا آئسين من الظهور على المسلمين بعد، و لمّا يظهر للإسلام قوّة و شوكة و غلبة في خارج جزيرة العرب اليوم.

و من جهة اُخرى يجب أن نتأمّل فيما لهذا اليوم - و هو يوم عرفة تاسع ذي الحجّة سنة عشر من الهجرة - من الشأن الّذي يناسب قوله:( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي ) في الآية.

فربّما أمكن أن يقال: إنّ المراد به إكمال أمر الحجّ بحضور النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بنفسه فيه، و تعليمه الناس تعليماً عمليّاً مشفوعاً بالقول.

لكن فيه أنّ مجرّد تعليمه الناس مناسك حجّهم - و قد أمرهم بحجّ التمتّع و لم يلبث دون أن صار مهجوراً، و قد تقدّمه تشريع أركان الدين من صلاة و صوم و حجّ و زكاة و جهاد و غير ذلك - لا يصحّ أن يسمّى إكمالاً للدين، و كيف يصحّ أن يسمّى تعليم شي‏ء من واجبات الدين إكمالاً لذلك الواجب فضلاً عن أن يسمّى تعليم واجب من واجبات الدين إكمالاً لمجموع الدين؟.

على أنّ هذا الاحتمال يوجب انقطاع رابطة الفقرة الاُولى أعني قوله:( الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ ) بهذه الفقرة أعني قوله:( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ )

١٨١

و أيّ ربط ليأس الكفّار عن الدين بتعليم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حجّ التمتّع للناس.

و ربّما أمكن أن يقال: إنّ المراد به إكمال الدين بنزول بقايا الحلال و الحرام في هذا اليوم في سورة المائدة، فلا حلال بعده و لا حرام، و بإكمال الدين استولى اليأس على قلوب الكفّار، و لاحت آثاره على وجوههم.

لكن يجب أن نتبصّر في تمييز هؤلاء الكفّار الّذين عبّر عنهم في الآية بقوله:( الَّذِينَ كَفَرُوا ) على هذا التقدير و أنّهم من هم؟ فإن اُريد بهم كفّار العرب فقد كان الإسلام عمّهم يومئذ و لم يكن فيهم من يتظاهر بغير الإسلام و هو الإسلام حقيقة، فمن هم الكفّار الآئسون؟.

و إن اُريد بهم الكفّار من غيرهم كسائر العرب من الاُمم و الأجيال فقد عرفت آنفاً أنّهم لم يكونوا آيسين يومئذ من الظهور على المسلمين.

ثمّ نتبصّر في أمر انسداد باب التشريع بنزول سورة المائدة و انقضاء يوم عرفة فقد وردت روايات كثيرة لا يستهان بها عدداً بنزول أحكام و فرائض بعد اليوم كما في آية الصيف(١) و آيات الربا، حتّى أنّه روي عن عمر أنّه قال في خطبة خطبها: من آخر القرآن نزولاً آية الربا، و إنّه مات رسول الله و لم يبيّنه لنا، فدعوا ما يريبكم إلى ما لا يريبكم، الحديث‏ و روى البخاريّ في الصحيح، عن ابن عبّاس قال: آخر آية نزلت على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم آية الربا، إلى غير ذلك من الروايات.

و ليس للباحث أن يضعّف الروايات فيقدّم الآية عليها، لأنّ الآية ليست بصريحة و لا ظاهرة في كون المراد باليوم فيها هذا اليوم بعينه و إنّما هو وجه محتمل يتوقّف في تعيّنه على انتفاء كلّ احتمال ينافيه، و هذه الأخبار لا تقصر عن الاحتمال المجرّد عن السند.

أو يقال: إنّ المراد بإكمال الدين خلوص البيت الحرام لهم، و إجلاء المشركين عنه حتّى حجّه المسلمون و هم لا يخالطهم المشركون.

و فيه: أنّه قد كان صفا الأمر للمسلمين فيما ذكر قبل ذلك بسنة، فما معنى تقييده باليوم في قوله:( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ) ؟ على أنّه لو سلّم كون هذا الخلوص

____________________

(١) و هي آية الكلالة المذكورة في آخر سورة النساء.

١٨٢

إتماماً للنعمة لم يسلّم كونه إكمالاً للدين، و أيّ معنى لتسمية خلوص البيت إكمالاً للدين، و ليس الدين إلّا مجموعة من عقائد و أحكام، و ليس إكماله إلّا أن يضاف إلى عدد أجزائها و أبعاضها عدد؟ و أمّا صفاء الجوّ لإجرائها، و ارتفاع الموانع و المزاحمات عن العمل بها فليس يسمّى إكمالاً للدين البتّة. على أنّ إشكال يأس الكفّار عن الدين على حاله.

و يمكن أن يقال: إنّ المراد من إكمال الدين بيان هذه المحرّمات بياناً تفصيليّاً ليأخذ به المسلمون، و يجتنبوها و لا يخشوا الكفّار في ذلك لأنّهم قد يئسوا من دينهم بإعزاز الله المسلمين، و إظهار دينهم و تغليبهم على الكفّار.

توضيح ذلك أنّ حكمة الاكتفاء في صدر الإسلام بذكر المحرّمات الأربعة أعني الميتة و الدم و لحم الخنزير و ما اُهلّ لغير الله به الواقعة في بعض السور المكّيّة و ترك تفصيل ما يندرج فيها ممّا كرهه الإسلام للمسلمين من سائر ما ذكر في هذه الآية إلى ما بعد فتح مكّة إنّما هي التدرّج في تحريم هذه الخبائث و التشديد فيها كما كان التدريج في تحريم الخمر لئلّا ينفر العرب من الإسلام، و لا يروا فيه حرجاً يرجون به رجوع من آمن من فقرائهم و هم أكثر السابقين الأوّلين.

جاء هذا التفصيل للمحرّمات بعد قوّة الإسلام، و توسعة الله على أهله و إعزازهم و بعد أن يئس المشركون بذلك من نفور أهله منه، و زال طمعهم في الظهور عليهم، و إزالة دينهم بالقوّة القاهرة، فكان المؤمنون أجدر بهم أن لا يبالوهم بالمداراة، و لا يخافوهم على دينهم و على أنفسهم.

فالمراد باليوم يوم عرفة من عامّ حجّة الوداع، و هو اليوم الّذي نزلت فيه هذه الآية المبيّنة لما بقي من الأحكام الّتي أبطل بها الإسلام بقايا مهانة الجاهليّة و خبائثها و أوهامها، و المبشّرة بظهور المسلمين على المشركين ظهوراً تامّاً لا مطمع لهم في زواله، و لا حاجة معه إلى شي‏ء من مداراتهم أو الخوف من عاقبة أمرهم.

فالله سبحانه يخبرهم في الآية أنّ الكفّار أنفسهم قد يئسوا من زوال دينهم

١٨٣

و أنّه ينبغي لهم - و قد بدّلهم بضعفهم قوّة، و بخوفهم أمناً، و بفقرهم غنى - أن لا يخشوا غيره تعالى، و ينتهوا عن تفاصيل ما نهى الله عنه في الآية ففيها كمال دينهم. كذا ذكره بعضهم بتلخيص مّا في النقل.

و فيه: أنّ هذا القائل أراد الجمع بين عدّة من الاحتمالات المذكورة ليدفع بكلّ احتمال ما يتوجّه إلى الاحتمال الآخر من الإشكال فتورّط بين المحاذير برمّتها و أفسد لفظ الآية و معناها جميعاً.

فذهل عن أنّ المراد باليأس إن كان هو اليأس المستند إلى ظهور الإسلام و قوّته و هو ما كان بفتح مكّة أو بنزول آيات البراءة لم يصحّ أن يقال يوم عرفة من السنة العاشرة:( الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ ) و قد كانوا يئسوا قبل ذلك بسنة أو سنتين، و إنّما اللفظ الوافي له أن يقال: قد يئسوا كما عبّر به القائل نفسه في كلامه في توضيح المعنى أو يقال: إنّهم آيسون.

و ذهل عن أنّ هذا التدرّج الّذي ذكره في محرّمات الطعام، و قاس تحريمها بتحريم الخمر إن اُريد به التدرّج من حيث تحريم بعض الأفراد بعد بعض فقد عرفت أنّ الآية لا تشتمل على أزيد ممّا تشتمل عليه آيات التحريم السابقة نزولاً على هذه الآية أعني آيات البقرة و الأنعام و النحل، و أنّ المنخنقة و الموقوذة إلخ من أفراد ما ذكر فيها.

و إن اُريد به التدرّج من حيث البيان الإجماليّ و التفصيليّ خوفاً من امتناع الناس من القبول ففي غير محلّه، فإنّ ما ذكر بالتصريح في السور السابقة على المائدة أعني الميتة و الدم و لحم الخنزير و ما اُهلّ لغير الله به أغلب مصداقاً، و أكثر ابتلاءً، و أوقع في قلوب الناس من أمثال المنخنقة و الموقوذة و غيرها، و هي اُمور نادرة التحقّق و شاذّة الوجود، فما بال تلك الأربعة و هي أهمّ و أوقع و أكثر يصرّح بتحريمها من غير خوف من ذلك ثمّ يتّقي من ذكرها ما لا يعبأ بأمره بالإضافة إليها فيتدرّج في بيان حرمتها، و يخاف من التصريح بها؟.

على أنّ ذلك لو سلّم لم يكن إكمالاً للدين، و هل يصحّ أن يسمّى تشريع الأحكام ديناً؟ و إبلاغها و بيانها إكمالاً للدين؟ و لو سلّم فإنّما ذلك إكمال لبعض الدين

١٨٤

و إتمام لبعض النعمة لا للكلّ و الجميع، و قد قال تعالى:( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي ) فأطلق القول من غير تقييد.

على أنّه تعالى قد بيّن أحكاماً كثيرة في أيّام كثيرة، فما بال هذا الحكم في هذا اليوم خصّ بالمزيّة فسمّاه الله أو سمّى بيانه تفصيلاً بإشمال الدين و إتمام النعمة؟.

أو أنّ المراد بإكمال الدين إكماله بسدّ باب التشريع بعد هذه الآية المبيّنة لتفصيل محرّمات الطعام، فما شأن الأحكام النازلة ما بين نزول المائدة و رحلة النبيّ ص؟ بل ما شأن سائر الأحكام النازلة بعد هذه الآية في سورة المائدة؟ تأمّل فيه.

و بعد ذلك كلّه ما معنى قوله تعالى:( وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً ) - و تقديره: اليوم رضيت إلخ - لو كان المراد بالكلام الامتنان بما ذكر في الآية من المحرّمات يوم عرفة من السنة العاشرة؟ و ما وجه اختصاص هذا اليوم بأنّ الله سبحانه رضي فيه الإسلام ديناً، و لا أمر يختصّ به اليوم ممّا يناسب هذا الرضي؟.

و بعد ذلك كلّه يرد على هذا الوجه أكثر الإشكالات الواردة على الوجوه السابقة أو ما يقرب منها ممّا تقدّم بيانه و لا نطيل بالإعادة.

أو أنّ المراد باليوم واحد من الأيّام الّتي بين عرفة و بين ورود النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المدينة على بعض الوجوه المذكورة في معنى يأس الكفّار و معنى إكمال الدين.

و فيه من الإشكال ما يرد على غيره على التفصيل المتقدّم.

فهذا شطر من البحث عن الآية بحسب السير فيما قيل أو يمكن أن يقال في توجيه معناها، و لنبحث عنها من طريق آخر يناسب طريق البحث الخاصّ بهذا الكتاب.

قوله:( الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ ) - و اليأس يقابل الرجاء، و الدين إنّما نزل من عندالله تدريجاً - يدلّ على أنّ الكفّار قد كان لهم مطمع في دين المسلمين و هو الإسلام، و كانوا يرجون زواله بنحو منذ عهد و زمان، و أنّ أمرهم ذلك كان يهدّد الإسلام حيناً بعد حين، و كان الدين منهم على خطر يوماً بعد يوم، و أنّ ذلك كان من حقّه أن يحذر منه و يخشاه المؤمنون.

فقوله:( فَلا تَخْشَوْهُمْ ) ، تأمين منه سبحانه للمؤمنين ممّا كانوا منه على خطر،

١٨٥

و من تسرّ به على خشية، قال تعالى:( وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ ) (آل عمران: ٦٩)، و قال تعالى:( وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَ اصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ الله بِأَمْرِهِ إِنَّ الله عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ ) (البقرة: ١٠٩).

و الكفّار لم يكونوا يتربّصون الدوائر بالمسلمين إلّا لدينهم، و لم يكن يضيق صدورهم و ينصدع قلوبهم إلّا من جهة أنّ الدين كان يذهب بسؤددهم و شرفهم و استرسالهم في اقتراف كلّ ما تهواه طباعهم، و تألفه و تعتاد به نفوسهم، و يختم على تمتّعهم بكلّ ما يشتهون بلا قيد و شرط.

فقد كان الدين هو المبغوض عندهم دون أهل الدين إلّا من جهة دينهم الحقّ فلم يكن في قصدهم إبادة المسلمين و إفناء جمعهم بل إطفاء نور الله و تحكيم أركان الشرك المتزلزلة المضطربة به، و ردّ المؤمنين كفّاراً كما مرّ في قوله:( لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً ) (الآية) قال تعالى:( يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ الله بِأَفْواهِهِمْ وَ الله مُتِمُّ نُورِهِ وَ لَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى‏ وَ دِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَ لَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ) (الصفّ: ٩).

و قال تعالى:( فَادْعُوا الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَ لَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ ) (المؤمن: ١٤).

و لذلك لم يكن لهم همّ إلّا أن يقطعوا هذه الشجرة الطيبة من أصلها، و يهدموا هذا البنيان الرفيع من أسّه بتفتين المؤمنين و تسرية النفاق في جماعتهم و بثّ الشبه و الخرافات بينهم لإفساد دينهم.

و قد كانوا يأخذون بادئ الأمر يفتّرون عزيمة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و يستمحقون همّته في الدعوة الدينيّة بالمال و الجاه، كما يشير إليه قوله تعالى:( وَ انْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَ اصْبِرُوا عَلى‏ آلِهَتِكُمْ إِنَّ هذا لَشَيْ‏ءٌ يُرادُ ) ( ص: ٦) أو بمخالطة أو مداهنة، كما يشير إليه قوله:( وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ ) (القلم: ٩)، و قوله:( وَ لَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا ) (إسراء: ٧٤)، و قوله:( قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ وَ لا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ ) (الكافرون: ٣) على ما ورد في أسباب النزول.

١٨٦

و كان آخر ما يرجونه في زوال الدين، و موت الدعوة المحقّة، أنّه سيموت بموت هذا القائم بأمره و لا عقب له، فإنّهم كانوا يرون أنّه ملك في صورة النبوّة، و سلطنة في لباس الدعوة و الرسالة، فلو مات أو قتل لانقطع أثره و مات ذكره و ذكر دينه على ما هو المشهود عادة من حال السلاطين و الجبابرة أنّهم مهما بلغ أمرهم من التعالي و التجبّر و ركوب رقاب الناس فإنّ ذكرهم يموت بموتهم، و سننهم و قوانينهم الحاكمة بين الناس و عليهم تدفن معهم في قبورهم، يشير إلى رجائهم هذا قوله تعالى:( إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ: ) (الكوثر: ٣) على ما ورد في أسباب النزول.

فقد كان هذه و أمثالها أمانيّ تمكّن الرجاء من نفوسهم، و تطمعهم في إطفاء نور الدين، و تزيّن لأوهامهم أنّ هذه الدعوة الطاهرة ليست إلّا اُحدوثة ستكذبه المقادير و يقضي عليها و يعفو أثرها مرور الأيّام و اللّيالي، لكنّ ظهور الإسلام تدريجاً على كلّ ما نازله من دين و أهله، و انتشار صيته، و اعتلاء كلمته بالشوكة و القوّة قضى على هذه الأمانيّ فيئسوا من إفساد عزيمة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و إيقاف همّته عند بعض ما كان يريده، و تطميعه بمال أو جاه.

قوّة الإسلام و شوكته أيأستهم من جميع تلك الأسباب: - أسباب الرجاء - إلّا واحداً، و هو أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مقطوع العقب لا ولد له يخلفه في أمره، و يقوم على ما قام عليه من الدعوة الدينيّة فسيموت دينه بموته، و ذلك أنّ من البديهيّ أنّ كمال الدين من جهة أحكامه و معارفه - و إن بلغ ما بلغ - لا يقوى بنفسه على حفظ نفسه، و أنّ سنّة من السنن المحدثة و الأديان المتّبعة لا تبقى على نضارتها و صفائها لا بنفسها و لا بانتشار صيتها و لا بكثرة المنتحلين بها، كما أنّها لا تنمحي و لا تنطمس بقهر أو جبر أو تهديد أو فتنة أو عذاب أو غير ذلك إلّا بموت حملتها و حفظتها و القائمين بتدبير أمرها.

و من جميع ما تقدّم يظهر أنّ تمام يأس الكفّار إنّما كان يتحقّق عند الاعتبار الصحيح بأن ينصب الله لهذا الدين من يقوم مقام النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حفظه و تدبير أمره، و إرشاد الاُمّة القائمة به فيتعقّب ذلك يأس الّذين كفروا من دين المسلمين لمّا شاهدوا خروج الدين عن مرحلة القيام بالحامل الشخصيّ إلى مرحلة القيام بالحامل

١٨٧

النوعيّ، و يكون ذلك إكمالاً للدين بتحويله من صفة الحدوث إلى صفة البقاء، و إتماماً لهذه النعمة، و ليس يبعد أن يكون قوله تعالى:( وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَ اصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ الله بِأَمْرِهِ إِنَّ الله عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ ) (البقرة: ١٠٩) باشتماله على قوله:( حَتَّى يَأْتِيَ ) ، إشارة إلى هذا المعنى.

و هذا يؤيّد ما ورد من الروايات أنّ الآية نزلت يوم غدير خمّ، و هو اليوم الثامن عشر من ذي الحجّة سنة عشر من الهجرة في أمر ولاية عليّعليه‌السلام ، و على هذا فيرتبط الفقرتان أوضح الارتباط، و لا يرد عليه شي‏ء من الإشكالات المتقدّمة.

ثمّ إنّك بعد ما عرفت معنى اليأس في الآية تعرف أنّ اليوم: في قوله:( الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ ) ظرف متعلّق بقوله:( يَئِسَ ) و أنّ التقديم للدلالة على تفخيم أمر اليوم، و تعظيم شأنه، لما فيه من خروج الدين من مرحلة القيام بالقيّم الشخصيّ إلى مرحلة القيام بالقيّم النوعيّ، و من صفة الظهور و الحدوث إلى صفة البقاء و الدوام.

و لا يقاس الآية بما سيأتي من قوله:( الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ ) (الآية) فإنّ سياق الآيتين مختلف فقوله:( الْيَوْمَ يَئِسَ ) ، في سياق الاعتراض، و قوله:( الْيَوْمَ أُحِلَّ ) ، في سياق الاستيناف، و الحكمان مختلفان: فحكم الآية الاُولى تكوينيّ مشتمل على البشرى من وجه و التحذير من وجه آخر، و حكم الثانية تشريعيّ منبئ عن الامتنان. فقوله:( الْيَوْمَ يَئِسَ ) ، يدلّ على تعظيم أمر اليوم لاشتماله على خير عظيم الجدوى و هو يأس الّذين كفروا من دين المؤمنين، و المراد بالّذين كفروا - كما تقدّمت الإشارة إليه - مطلق الكفّار من الوثنيّين و اليهود و النصارى و غيرهم لمكان الإطلاق.

و أمّا قوله:( فَلا تَخْشَوْهُمْ وَ اخْشَوْنِ ) فالنهي إرشاديّ لا مولويّ، معناه أن لا موجب للخشية بعد يأس الّذين كنتم في معرض الخطر من قبلهم - و من المعلوم أنّ الإنسان لا يهمّ بأمر بعد تمام اليأس من الحصول عليه و لا يسعى إلى ما يعلم ضلال سعيه فيه - فأنتم في أمن من ناحية الكفّار، و لا ينبغي لكم مع ذلك الخشية منهم على دينكم فلا تخشوهم و اخشوني.

١٨٨

و من هنا يظهر أنّ المراد بقوله:( وَ اخْشَوْنِ ) بمقتضى السياق أن اخشوني فيما كان عليكم أن تخشوهم فيه لو لا يأسهم و هو الدين و نزعه من أيديكم، و هذا نوع تهديد للمسلمين كما هو ظاهر، و لهذا لم نحمل الآية على الامتنان.

و يؤيّد ما ذكرنا أنّ الخشية من الله سبحانه واجب على أيّ تقدير من غير أن يتعلّق بوضع دون وضع، و شرط دون شرط، فلا وجه للإضراب من قوله:( فَلا تَخْشَوْهُمْ ) إلى قوله:( وَ اخْشَوْنِ ) لو لا أنّها خشية خاصّة في مورد خاصّ.

و لا تقاس الآية بقوله تعالى:( فَلا تَخافُوهُمْ وَ خافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) (آل عمران: ١٧٥) لأنّ الأمر بالخوف من الله في تلك الآية مشروط بالإيمان، و الخطاب مولويّ، و مفاده أنّه لا يجوز للمؤمنين أن يخافوا الكفّار على أنفسهم بل يجب أن يخافوا الله سبحانه وحده.

فالآية تنهاهم عمّا ليس لهم بحقّ و هو الخوف منهم على أنفسهم سواء اُمروا بالخوف من الله أم لا، و لذلك يعلّل ثانياً الأمر بالخوف من الله بقيد مشعر بالتعليل، و هو قوله:( إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) و هذا بخلاف قوله:( فَلا تَخْشَوْهُمْ وَ اخْشَوْنِ ) فإنّ خشيتهم هذه خشية منهم على دينهم، و ليست بمبغوضة لله سبحانه لرجوعها إلى ابتغاء مرضاته بالحقيقة، بل إنّما النهي عنها لكون السبب الداعي إليها - و هو عدم يأس الكفّار منه - قد ارتفع و سقط أثره فالنهي عنه إرشاديّ، فكذا الأمر بخشية الله نفسه، و مفاد الكلام أنّ من الواجب أن تخشوا في أمر الدين، لكن سبب الخشية كان إلى اليوم مع الكفّار فكنتم تخشونهم لرجائهم في دينكم و قد يئسوا اليوم و انتقل السبب إلى ما عندالله فاخشوه وحده فافهم ذلك.

فالآية لمكان قوله:( فَلا تَخْشَوْهُمْ وَ اخْشَوْنِ ) لا تخلو عن تهديد و تحذير، لأنّ فيه أمراً بخشية خاصّة دون الخشية العامّة الّتي تجب على المؤمن على كلّ تقدير و في جميع الأحوال فلننظر في خصوصيّة هذه الخشية، و أنّه ما هو السبب الموجب لوجوبها و الأمر بها.؟

لا إشكال في أنّ الفقرتين أعني قوله:( الْيَوْمَ يَئِسَ ) ، و قوله:( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ

١٨٩

دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي ) ، في الآية مرتبطان مسوقتان لغرض واحد، و قد تقدّم بيانه فالدين الّذي أكمله الله اليوم، و النعمة الّتي أتمّها اليوم - و هما أمر واحد بحسب الحقيقة - هو الّذي كان يطمع فيه الكفّار و يخشاهم فيه المؤمنون فأيأسهم الله منه و أكمله و أتمّه و نهاهم عن أن يخشوهم فيه، فالّذي أمرهم بالخشية من نفسه فيه هو ذاك بعينه و هو أن ينزع الله الدين من أيديهم، و يسلبهم هذه النعمة الموهوبة.

و قد بيّن الله سبحانه أن لا سبب لسلب النعمة إلّا الكفر بها، و هدّد الكفور أشدّ التهديد، قال تعالى:( ذلِكَ بِأَنَّ الله لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى‏ قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَ أَنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) (الأنفال: ٥٣) و قال تعالى:( وَ مَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ الله مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ فَإِنَّ الله شَدِيدُ الْعِقابِ ) (البقرة: ٢١١) و ضرب مثلاً كلّيّاً لنعمه و ما يؤول إليه أمر الكفر بها فقال:( وَ ضَرَبَ الله مَثَلًا قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ الله فَأَذاقَهَا الله لِباسَ الْجُوعِ وَ الْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ ) (النحل: ١١٢).

فالآية أعني قوله:( الْيَوْمَ يَئِسَ - إلى قوله -دِيناً ) تؤذن بأنّ دين المسلمين في أمن من جهة الكفّار، مصون من الخطر المتوجّه من قبلهم، و أنّه لا يتسرّب إليه شي‏ء من طوارق الفساد و الهلاك إلّا من قبل المسلمين أنفسهم، و أنّ ذلك إنّما يكون بكفرهم بهذه النعمة التامّة، و رفضهم هذا الدين الكامل المرضيّ، و يومئذ يسلبهم الله نعمته و يغيّرها إلى النقمة، و يذيقهم لباس الجوع و الخوف، و قد فعلوا و فعل.

و من أراد الوقوف على مبلغ صدق هذه الآية في ملحمتها المستفادة من قوله:( فَلا تَخْشَوْهُمْ وَ اخْشَوْنِ ) فعليه أن يتأمّل فيما استقرّ عليه حال العالم الإسلاميّ اليوم ثمّ يرجع القهقرى بتحليل الحوادث التاريخيّة حتّى يحصل على اُصول القضايا و أعراقها.

و لآيات الولاية في القرآن ارتباط تامّ بما في هذه الآية من التحذير و الإيعاد و لم يحذّر الله العباد عن نفسه في كتابه إلّا في باب الولاية، فقال فيها مرّة بعد مرّة:

١٩٠

( وَ يُحَذِّرُكُمُ الله نَفْسَهُ ) (آل عمران: ٢٨ - ٣٠) و تعقيب هذا البحث أزيد من هذا خروج عن طور الكتاب.

قوله تعالى: ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً ) الإكمال و الإتمام متقارباً المعنى، قال الراغب: كمال الشي‏ء حصول ما هو الغرض منه. و قال: تمام الشي‏ء انتهاؤه إلى حدّ لا يحتاج إلى شي‏ء خارج عنه. و الناقص ما يحتاج إلى شي‏ء خارج عنه. انتهي.

و لك أن تحصل على تشخيص معنى اللّفظين من طريق آخر، و هو أنّ آثار الأشياء الّتي لها آثار على ضربين. فضرب منها ما يترتّب على الشي‏ء عند وجود جميع أجزائه - إن كان له أجزاء - بحيث لو فقد شيئاً من أجزائه أو شرائطه لم يترتّب عليه ذلك الأمر كالصوم فإنّه يفسد إذا اُخلّ بالإمساك في بعض النهار، و يسمّى كون الشي‏ء على هذا الوصف بالتمام، قال تعالى:( ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ ) (البقرة: ١٨٧) و قال:( وَ تَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَ عَدْلًا ) (الأنعام: ١١٥).

و ضرب آخر: الأثر الّذي يترتّب على الشي‏ء من غير توقّف على حصول جميع أجزائه، بل أثر المجموع كمجموع آثار الأجزاء، فكلّما وجد جزء ترتّب عليه من الأثر ما هو بحسبه، و لو وجد الجميع ترتّب عليه كلّ الأثر المطلوب منه، قال تعالى:( فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَ سَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ ) (البقرة: ١٩٦) و قال:( وَ لِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ ) (البقرة: ١٨٥) فإنّ هذا العدد يترتّب الأثر على بعضه كما يترتّب على كلّه، و يقال: تمّ لفلان أمره و كمل عقله: و لا يقال تمّ عقله و كمل أمره.

و أمّا الفرق بين الإكمال و التكميل، و كذا بين الإتمام و التتميم فإنّما هو الفرق بين بابي الإفعال و التفعيل، و هو أنّ الإفعال بحسب الأصل يدلّ على الدفعة و التفعيل على التدريج، و إن كان التوسّع الكلاميّ أو التطوّر اللّغويّ ربّما يتصرّف في البابين بتحويلهما إلى ما يبعد من مجرى المجرّد أو من أصلهما كالإحسان و التحسين، و الإصداق و التصديق، و الإمداد و التمديد و الإفراط و التفريط، و غير ذلك، فإنّما هي

١٩١

معان طرأت بحسب خصوصيّات الموارد ثمّ تمكّنت في اللّفظ بالاستعمال.

و ينتج ما تقدّم أن قوله:( أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي ) يفيد أنّ المراد بالدين هو مجموع المعارف و الأحكام المشرّعة و قد اُضيف إلى عددها اليوم شي‏ء و أنّ النعمة أيّاً مّا كانت أمر معنويّ واحد كأنّه كان ناقصاً غير ذي أثر فتمّم و ترتّب عليه الأثر المتوقّع منه.

و النعمة بناء نوع و هي ما يلائم طبع الشي‏ء من غير امتناعه منه، و الأشياء و إن كانت بحسب وقوعها في نظام التدبير متّصلة مرتبطة متلائماً بعضها مع بعض، و أكثرها أو جميعها نعمٌ إذا اُضيفت إلى بعض آخر مفروض كما قال تعالى:( وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ الله لا تُحْصُوها ) (إبراهيم: ٣٤) و قال:( وَ أَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَ باطِنَةً ) (لقمان: ٢٠).

إلا أنّه تعالى وصف بعضها بالشرّ و الخسّة و اللعب و اللهو و أوصاف اُخر غير ممدوحة كما قال:( وَ لا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ ) (آل عمران: ١٧٨)، و قال:( وَ ما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ وَ لَعِبٌ وَ إِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ ) (العنكبوت: ٦٤)، و قال:( لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ الْمِهادُ ) (آل عمران: ١٩٧) إلى غير ذلك.

و الآيات تدلّ على أنّ هذه الأشياء المعدودة نعماً إنّما تكون نعمة إذا وافقت الغرض الإلهيّ من خلقتها لأجل الإنسان فإنّها إنّما خلقت لتكون إمداداً إلهيّاً للإنسان يتصرّف فيها في سبيل سعادته الحقيقيّة، و هي القرب منه سبحانه بالعبوديّة و الخضوع للربوبيّة، قال تعالى:( وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ) (الذاريات: ٥٦).

فكلّ ما تصرّف فيه الإنسان للسلوك به إلى حضرة القرب من الله و ابتغاء مرضاته فهو نعمة، و إن انعكس الأمر عاد نقمة في حقّه، فالأشياء في نفسها عزل، و إنّما هي نعمة لاشتمالها على روح العبوديّة، و دخولها من حيث التصرّف المذكور تحت ولاية الله الّتي هي تدبير الربوبيّة لشؤون العبد، و لازمه أنّ النعمة بالحقيقة هي الولاية

١٩٢

الإلهيّة، و أنّ الشي‏ء إنّما يصير نعمة إذا كان مشتملاً على شي‏ء منها، قال تعالى:( الله وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ ) (البقرة: ٢٥٧)، و قال تعالى:( ذلِكَ بِأَنَّ الله مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَ أَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى‏ لَهُمْ ) (محمّد: ١١) و قال في حقّ رسوله:( فَلا وَ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَ يُسَلِّمُوا تَسْلِيماً ) (النساء: ٦٥) إلى غير ذلك.

فالإسلام و هو مجموع ما نزل من عندالله سبحانه ليعبده به عباده دين، و هو من جهة اشتماله - من حيث العمل به - على ولاية الله و ولاية رسوله و أولياء الأمر بعده نعمة.

و لا يتمّ ولاية الله سبحانه أي تدبيره بالدين لاُمور عباده إلّا بولاية رسوله، و لا ولاية رسوله إلّا بولاية اُولي الأمر من بعده، و هي تدبيرهم لاُمور الاُمّة الدينيّة بإذن من الله قال تعالى:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا الله وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ) (النساء: ٥٩) و قد مرّ الكلام في معنى الآية، و قال:( إِنَّما وَلِيُّكُمُ الله وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ راكِعُونَ ) (المائدة: ٥٥) و سيجي‏ء الكلام في معنى الآية إن شاء الله تعالى.

فمحصّل معنى الآية: اليوم - و هو اليوم الّذي يئس فيه الّذين كفروا من دينكم - أكملت لكم مجموع المعارف الدينيّة الّتي أنزلتها إليكم بفرض الولاية، و أتممت عليكم نعمتي و هي الولاية الّتي هي إدارة اُمور الدين و تدبيرها تدبيراً إلهيّاً، فإنّها كانت إلى اليوم ولاية الله و رسوله، و هي إنّما تكفي ما دام الوحي ينزل، و لا تكفي لما بعد ذلك من زمان انقطاع الوحي، و لا رسول بين الناس يحمي دين الله و يذبّ عنه بل من الواجب أن ينصب من يقوم بذلك، و هو وليّ الأمر بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم القيم على اُمور الدين و الاُمّة.

فالولاية مشروعة واحدة، كانت ناقصّة غير تامّة حتّى إذا تمّت بنصب وليّ الأمر بعد النبيّ.

و إذا كمل الدين في تشريعه، و تمّت نعمة الولاية فقد رضيت لكم من حيث الدين

١٩٣

الإسلام الّذي هو دين التوحيد الّذي لا يعبد فيه إلّا الله و لا يطاع فيه - و الطاعة عبادة - إلّا الله و من أمر بطاعته من رسول أو وليّ.

فالآية تنبئ عن أنّ المؤمنين اليوم في أمن بعد خوفهم، و أنّ الله رضي لهم أن يتديّنوا بالإسلام الّذي هو دين التوحيد فعليهم أن يعبدوه و لا يشركوا به شيئاً بطاعة غير الله أو من أمر بطاعته. و إذا تدبّرت قوله تعالى:( وَعَدَ الله الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَ لَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى‏ لَهُمْ وَ لَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَ مَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ ) (النور: ٥٥) ثمّ طبّقت فقرات الآية على فقرات قوله تعالى:( الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ ) إلخ وجدت آية سورة المائدة من مصاديق إنجاز الوعد الّذي يشتمل عليه آية سورة النور على أن يكون قوله:( يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً ) مسوقاً سوق الغاية كما ربّما يشعر به قوله:( وَ مَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ ) .

و سورة النور قبل المائدة نزولاً كما يدلّ عليه اشتمالها على قصّة الإفك و آية الجد و آية الحجاب و غير ذلك.

قوله تعالى: ( فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَحِيمٌ ) المخمصة هي المجاعة، و التجانف هو التمايل من الجنف بالجيم و هو ميل القدمين إلى الخارج مقابل الحنف بالحاء الّذي هو ميلهما إلى الداخل.

و في سياق الآية دلالةأوّلاً على أنّ الحكم حكم ثانويّ اضطراريّ،و ثانياً على أنّ التجويز و الإباحة مقدّر بمقدار يرتفع به الاضطرار و يسكن به ألم الجوع،و ثالثاً على أنّ صفة المغفرة و مثلها الرحمة كما تتعلّق بالمعاصي المستوجبة للعقاب كذلك يصحّ أن تتعلّق بمنشأها، و هو الحكم الّذي يستتبع مخالفته تحقّق عنوان المعصية الّذي يستتبع العقاب.

١٩٤

( بحث علمي في فصول ثلاثة)

١- العقائد في أكل اللحم: لا ريب أنّ الإنسان كسائر الحيوان و النبات مجهّز بجهاز التغذّي يجذب به إلى نفسه من الأجزاء المادّيّة ما يمكنه أن يعمل فيه ما ينضّم بذلك إلى بدنه و ينحفظ به بقاؤه، فلا مانع له بحسب الطبع من أكل ما يقبل الازدراد و البلع إلّا أن يمتنع منه لتضرّر أو تنفّر.

أمّا التضرّر فهو كأن يجد المأكول يضرّ ببدنه ضرّاً جسمانيّاً لمسموميّة و نحوها فيمتنع عندئذ عن الأكل، أو يجد الأكل يضرّ ضرّاً معنويّاً كالمحرّمات الّتي في الأديان و الشرائع المختلفة، و هذا القسم امتناع عن الأكل فكريّ.

و أمّا التنفّر فهو الاستقذار الّذي يمتنع معه الطبع عن القرب منه كما أنّ الإنسان لا يأكل مدفوع نفسه لاستقذاره إيّاه، و قد شوهد ذلك في بعض الأطفال و المجانين، و يلحق بذلك ما يستند إلى عوامل اعتقاديّة كالمذهب أو السنن المختلفة الرائجة في المجتمعات المتنوّعة مثل أنّ المسلمين يستقذرون لحم الخنزير، و النصارى يستطيبونه، و يتغذّى الغربيّون من أنواع الحيوانات أجناساً كثيرة يستقذرها الشرقيّون كالسرطان و الضفدع و الفأر و غيرها، و هذا النوع من الامتناع امتناع بالطبع الثاني و القريحة المكتسبة.

فتبيّن أنّ الإنسان في التغذّي باللّحوم على طرائق مختلفة ذات عرض عريض من الاسترسال المطلق إلى الامتناع، و أنّ استباحته ما استباح منها اتّباع للطبع كما أنّ امتناعه عمّا يمتنع عنه إنّما هو عن فكر أو طبع ثانويّ.

و قد حرّمت سنّة بوذا أكل لحوم الحيوانات عامّة، و هذا تفريط يقابله في جانب الإفراط ما كان دائراً بين أقوام متوحّشين من إفريقيّة و غيرها أنّهم كانوا يأكلون أنواع اللّحوم حتّى لحم الإنسان.

و قد كانت العرب تأكل لحوم الأنعامّ و غيرها من الحيوان حتّى أمثال الفأر و

١٩٥

الوزغ، و تأكل من الأنعام ما قتلته بذبح و نحوه، و تأكل غير ذلك كالميتة بجميع أقسامها كالمنخنقة و الموقوذة و المتردّية و النطيحة و ما أكل السبع، و كان القائل منهم يقول: ما لكم تأكلون ممّا قتلتموه و لا تأكلون ممّا قتله الله؟! كما ربّما يتفوّه بمثله اليوم كثيرون؟ يقول قائلهم: ما الفارق بين اللّحم و اللّحم إذا لم يتضرّر به بدن الإنسان و لو بعلاج طبّيّ فنّىّ فجهاز التغذّي لا يفرق بين هذا و ذاك؟.

و كانت العرب أيضاً تأكل الدم، كانوا يملؤون المعى من الدم و يشوونه و يطعمونه الضيف، و كانوا إذا أجدبوا جرحوا إبلهم بالنصال و شربوا ما ينزل من الدم، و أكل الدم رائج اليوم بين كثير من الاُمم غير المسلمة.

و أهل الصين من الوثنيّة أوسع منهم سنّة، فهم - على ما ينقل - يأكلون أصناف الحيوان حتّى الكلب و الهرّ و حتّى الديدان و الأصداف و سائر الحشرات.

و قد أخذ الإسلام في ذلك طريقاً وسطاً فأباح من اللّحوم ما تستطيعه الطباع المعتدلة من الإنسان، ثمّ فسّره في ذوات الأربع بالبهائم كالضأن و المعز و البقر و الإبل على كراهية في بعضها كالفرس و الحمار، و في الطير - بغير الجوارح - ممّا له حوصلة و دفيف و لا مخلب له، و في حيوان البحر ببعض أنواع السمك على التفصيل المذكور في كتب الفقه.

ثمّ حرّم دماءها و كلّ ميتة منها و ما لم يذكّ بالإهلال به لله عزّ اسمه، و الغرض في ذلك أن تحيا سنّة الفطرة، و هي إقبال الإنسان على أصل أكل اللّحم، و يحترم الفكر الصحيح و الطبع المستقيم اللّذين يمتنعان من تجويز ما فيه الضرر نوعاً، و تجويز ما يستقذر و يتنفّر منه.

٢- كيف أمر بقتل الحيوان و الرحمة تأباه؟ ربّما يسأل السائل فيقول: إنّ الحيوان ذو روح شاعرة بما يشعر به الإنسان من ألم العذاب و مرارة الفناء و الموت و غريزة حبّ الذات الّتي تبعثنا إلى الحذر من كلّ مكروه و الفرار من ألم العذاب و الموت تستدعي الرحمة لغيرنا من أفراد النوع لأنّه يؤلمهم ما يؤلمنا، و يشقّ عليهم ما يشقّ علينا، و النفوس سواء.

١٩٦

و هذا القياس جار بعينه في سائر أنواع الحيوان، فكيف يسوغ لنا أن نعذّبهم بما نتعذّب به، و نبدّل لهم حلاوة الحياة من مرارة الموت، و نحرمهم نعمة البقاء الّتي هي أشرف نعمة؟ و الله سبحانه أرحم الراحمين فكيف يسع رحمته أن يأمر بقتل حيوان ليلتذّ به إنسان و هما جميعاً في أنّهما خلقه سواء؟.

و الجواب عنه أنّه من تحكيم العواطف على الحقائق و التشريع إنّما يتبع المصالح الحقيقيّة دون العواطف الوهميّة.

توضيح ذلك أنّك إذا تتبّعت الموجودات الّتي تحت مشاهدتك بالميسور ممّا عندك وجدتها في تكوّنها و بقائها تابعة لناموس التحوّل، فما من شي‏ء إلّا و في إمكانه أن يتحوّل إلى آخر، و أن يتحوّل الآخر إليه بغير واسطة أو بواسطة، لا يوجد واحد إلّا و يعدم آخر، و لا يبقى هذا إلّا و يفني ذاك، فعالم المادّة عالم التبديل، و التبدّل و إن شئت فقل: عالم الآكل و المأكول.

فالمركّبات الأرضيّة تأكل الأرض بضمّها إلى أنفسها و تصويرها بصورة تناسبها أو تختصّ بها ثمّ الأرض تأكلها و تفنيها.

ثمّ النبات يتغذّى بالأرض و يستنشق الهواء ثمّ الأرض تأكله و تجزّئه إلى أجزائه الأصليّة و عناصره الأوّليّة، و لا يزال أحدهما يراجع الآخر.

ثمّ الحيوان يتغذّى بالنبات و الماء و يستنشق الهواء، و بعض أنواعه يتغذّى ببعض كالسباع تأكل لحوم غيرها بالاصطياد، و جوارح الطير تأكل أمثال الحمام و العصافير لا يسعها بحسب جهاز التغذّي الّذي يخصّها إلّا ذلك، و هي تتغذّى بالحبوب و أمثال الذباب و البقّ و البعوض و هي تتغذّى بدم الإنسان و سائر الحيوان و نحوه، ثمّ الأرض تأكل الجميع.

فنظام التكوين و ناموس الخلقة الّذي له الحكومة المطلقة المتّبعة على الموجودات هو الّذي وضع حكم التغذّي باللّحوم و نحوها، ثمّ هدى أجزاء الوجود إلى ذلك، و هو الّذي سوى الإنسان تسوية صالحة للتغذّي بالحيوان و النبات جميعاً. و في مقدّم جهازه الغذائيّ أسنانه المنضودة نضداً صالحاً للقطع و الكسر و النهش و الطحن من ثنايا

١٩٧

و رباعيّات و أنياب و طواحن، فلا هو مثل الغنم و البقر من الأنعام لا تستطيع قطعاً و نهشاً، و لا هو كالسباع لا تستطيع طحناً و مضغاً.

ثمّ القوّة الذائقة المعدّة في فمه الّتي تستلذّ طعم اللّحوم ثمّ الشهوة المودعة في سائر أعضاء هضمه جميع هذه تستطيب اللّحوم و تشتهيها. كلّ ذلك هداية تكوينيّة و إباحة من مؤتمن الخلقة، و هل يمكن الفرق بين الهداية التكوينيّة، و إباحة العمل المهديّ إليه بتسليم أحدهما و إنكار الآخر؟.

و الإسلام دين فطريّ لا همّ له إلّا إحياء آثار الفطرة الّتي أعفتها الجهالة الإنسانيّة، فلا مناص من أن يستباح به ما تهدي إليه الخلقة و تقضي به الفطرة.

و هو كما يحيي بالتشريع هذا الحكم الفطريّ يحيي أحكاماً اُخرى وضعها واضع التكوين، و هو ما تقدّم ذكره من الموانع من الاسترسال في حكم التغذّي أعني حكم العقل بوجوب اجتناب ما فيه ضرر جسمانيّ أو معنويّ من اللّحوم، و حكم الإحساسات و العواطف الباطنيّة بالتحذّر و الامتناع عمّا يستقذره و يتنفّر منه الطباع المستقيمة، و هذان الحكمان أيضاً ينتهي اُصولهما إلى تصرّف من التكوين، و قد اعتبرهما الإسلام فحرّم ما يضرّ نماء الجسم، و حرّم ما يضرّ بمصالح المجتمع الإنسانيّ، مثل ما اُهلّ به لغير الله، و ما اكتسب من طريق الميسر و الاستقسام بالأزلام و نحو ذلك، و حرّم الخبائث الّتي تستقذرها الطباع.

و أمّا حديث الرحمة المانعة من التعذيب و القتل فلا شكّ أنّ الرحمة موهبة لطيفة تكوينيّة اُودعت في فطرة الإنسان و كثير ممّا اعتبرنا حاله من الحيوان، إلّا أنّ التكوين لم يوجدها لتحكم في الاُمور حكومة مطلقة و تطاع طاعة مطلقة، فالتكوين نفسه لا يستعمل الرحمة استعمالاً مطلقاً، و لو كان ذلك لم يوجد في دار الوجود أثر من الآلام و الأسقام و المصائب و أنواع العذاب.

ثمّ الرحمة الإنسانيّة في نفسها ليست خلقاً فاضلاً على الإطلاق كالعدل، و لو كان كذلك لم يحسن أن نؤاخذ ظالماً على ظلمه أو نجازي مجرماً على جرمه و لا أن نقابل عدواناً بعدوان و فيه هلاك الأرض و من عليها.

١٩٨

و مع ذلك لم يهمل الإسلام أمر الرحمة بما أنّها من مواهب التكوين، فأمر بنشر الرحمة عموماً، و نهى عن زجر الحيوان في القتل، و نهى عن قطع أعضاء الحيوان المذبوح و سلخه قبل زهاق روحه - و من هذا الباب تحريم المنخنقة و الموقوذة - و نهى عن قتل الحيوان و آخر ينظر إليه، و وضع للتذكية أرفق الأحكام بالحيوان المذبوح و أمر بعرض الماء عليه و نحو ذلك ممّا يوجد تفصيله في كتب الفقه.

و مع ذلك كلّه الإسلام دين التعقّل لا دين العاطفة فلا يقدّم حكم العاطفة على الأحكام المصلحة لنظام المجتمع الإنسانيّ و لا يعتبر منه إلّا ما اعتبره العقل، و مرجع ذلك إلى اتّباع حكم العقل.

و أمّا حديث الرحمة الإلهيّة و أنّه تعالى أرحم الراحمين، فهو تعالى غير متّصف بالرحمة بمعنى رقّة القلب أو التأثّر الشعوريّ الخاصّ الباعث للراحم على التلطّف بالمرحوم، فإنّ ذلك صفة جسمانيّة مادّيّة تعالى عن ذلك علوّاً كبيراً، بل معناها إفاضته تعالى الخير على مستحقّه بمقدار ما يستحقّه، و لذلك ربّما كان ما نعدّه عذاباً رحمة منه تعالى و بالعكس، فليس من الجائز في الحكمة أن يبطل مصلحة من مصالح التدبير في التشريع اتّباعاً لما تقترحه عاطفة الرحمة الكاذبة الّتي فينا، أو يساهل في جعل الشرائع محاذية للواقعيّات.

فتبيّن من جميع ما مرّ أن الإسلام يحاكي في تجويز أكل اللّحوم و في القيود الّتي قيّد بها الإباحة و الشرائط الّتي اشترطها جميعاً أمر الفطرة: فطرة الله الّتي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيّم!.

٣- لما ذا بني الإسلام على التذكية؟ و هذا سؤال آخر يتفرّع على السؤال المتقدّم، و هو أنّا سلّمنا أنّ أكل اللّحوم ممّا تبيحه الفطرة و الخلقة فهلّا اقتصر في ذلك بما يحصل على الصدفة و نحوها بأن يقتصر في اللّحوم بما يهيّؤه الموت العارض حتف الأنف، فيجمع في ذلك بين حكم التكوين بالجواز، و حكم الرحمة بالإمساك عن تعذيب الحيوان و زجره بالقتل أو الذبح من غير أن يعدل عن ذلك إلى التذكية و الذبح؟.

و قد تبيّن الجواب عنه ممّا تقدّم في الفصل الثاني، فإنّ الرحمة بهذا المعنى غير

١٩٩

واجب الاتّباع بل اتّباعه يفضي إلى إبطال أحكام الحقائق. و قد عرفت أنّ الإسلام مع ذلك لم يأل جهداً في الأمر بإعمال الرحمة قدر ما يمكن في هذا الباب حفظاً لهذه الملكة اللّطيفة بين النوع.

على أنّ الاقتصار على إباحة الميتة و أمثالها ممّا لا ينتج التغذّي به إلّا فساد المزاج و مضارّ الأبدان هو بنفسه خلاف الرحمة، و بعد ذلك كلّه لا يخلو عن الحرج العامّ الواجب نفيه.

( بحث روائي)

في تفسير العيّاشيّ، عن عكرمة عن ابن عبّاس قال: ما نزلت آية:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ) إلّا و عليّ شريفها و أميرها، و لقد عاتب الله أصحاب محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في غير مكان و ما ذكر عليّاً إلّا بخير.

أقول: و روي في تفسير البرهان، عن موفّق بن أحمد، عن عكرمة، عن ابن عبّاس: مثله إلى قوله: و أميرها. و رواه أيضاً العيّاشيّ عن عكرمة. و قد نقلنا الحديث سابقا عن الدرّ المنثور. و في بعض الروايات عن الرضاعليه‌السلام قال: ليس في القرآن( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ) إلّا في حقّنا. و هو من الجري أو من باطن التنزيل.

و فيه: عن عبدالله بن سنان قال: سألت أباعبداللهعليه‌السلام عن قول الله:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) قال: العهود.

أقول: و رواه القمّيّ، أيضاً في تفسيره عنه.

و في التهذيب، مسنداً عن محمّد بن مسلم قال: سألت أحدهماعليهما‌السلام عن قول الله عزّوجلّ:( أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ ) فقال: الجنين في بطن اُمّه إذا أشعر و أوبر فذكاته ذكاة اُمّه الّذي عنى الله تعالى.

أقول: و الحديث مرويّ في الكافي، و الفقيه، عنه عن أحدهما، و روى هذا المعنى

٢٠٠