الميزان في تفسير القرآن الجزء ٥

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 444

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 444
المشاهدات: 86811
تحميل: 10312


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 444 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 86811 / تحميل: 10312
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 5

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

العيّاشيّ في تفسيره عن محمّد بن مسلم عن أحدهما، و عن زرارة عن الصادقعليه‌السلام ، و رواه القمّيّ في تفسيره، و رواه في المجمع، عن أبي جعفر و أبي عبداللهعليهما‌السلام .

و في تفسير القمّيّ، في قوله تعالى:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ الله ) (الآية) الشعائر: الإحرام و الطواف و الصلاة في مقام إبراهيم و السعي بين الصفا و المروة، و المناسك كلّها من شعائر الله، و من الشعائر إذا ساق الرجل بدنة في حجّ ثمّ أشعرها أي قطع سنامها أو جلدها أو قلّدها ليعلم الناس أنّها هدي فلا يتعرّض لها أحد. و إنّما سمّيت الشعائر ليشعر الناس بها فيعرفوها، و قوله:( وَ لَا الشَّهْرَ الْحَرامَ ) و هو ذو الحجّة و هو من الأشهر الحرم، و قوله:( وَ لَا الْهَدْيَ ) و هو الّذي يسوقه إذا أحرم المحرم، و قوله:( وَ لَا الْقَلائِدَ ) قال: يقلّدها النعل الّتي قد صلّى فيها. قوله:( وَ لَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ ) قال: الّذين يحجّون البيت‏.

و في المجمع، قال أبوجعفر الباقرعليه‌السلام : نزلت هذه الآية في رجل من بني ربيعة يقال له: الحُطَم.

قال: و قال السدّيّ: أقبل الحطم بن هند البكريّ حتّى أتى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحده و خلّف خيله خارج المدينة فقال: إلى ما تدعو -؟ و قد كان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لأصحابه: يدخل عليكم اليوم رجل من بني ربيعة يتكلّم بلسان شيطان - فلمّا أجابه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال؟ أنظرني لعلّي أسلم و لي من اُشاوره، فخرج من عنده فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لقد دخل بوجه كافر، و خرج بعقب غادر، فمرّ بسرح من سروح المدينة فساقه و انطلق به و هو يرتجز و يقول:

قد لفّـها اللّيل بسـوّاق حطم

ليـس براعي إبل و لا غنم

و لا بجزّار على ظهر وضم

باتوا نياماً و ابن هند لم ينم

بات يقاسيـها غلام كـالزلم

خدلج الساقين ممسوح القدم

ثمّ أقبل من عامّ قابل حاجّاً قد قلّد هدياً فأراد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يبعث إليه فنزلت هذه الآية:( وَ لَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ ) .

قال: و قال ابن زيد: نزلت يوم الفتح في ناس يؤمّون البيت من المشركين يهلّون

٢٠١

بعمرة، فقال المسلمون: يا رسول الله إنّ هؤلاء مشركون مثل هؤلاء دعنا نغير عليهم فأنّزل الله تعالى الآية.

أقول: روى الطبريّ القصّة عن السدّيّ و عكرمة، و القصّة الثانية عن ابن زيد و روي في الدرّ المنثور، القصّة الثانية عن ابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم و فيه: أنّه كان يوم الحديبية. و القصّتان جميعاً لا توافقان ما هو كالمتسلّم عليه عند المفسّرين و أهل النقل أنّ سورة المائدة نزلت في حجّة الوداع، إذ لو كان كذلك كان قوله:( إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا ) (البراءة: ٢٨)، و قوله:( فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ) (البراءة: ٥) الآيتان جميعاً نازلتين قبل قوله:( وَ لَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ ) و لا محلّ حينئذ للنهي عن التعرّض للمشركين إذا قصدوا البيت الحرام.

و لعلّ شيئاً من هاتين القصّتين أو ما يشابههما هو السبب لما نقل عن ابن عبّاس و مجاهد و قتادة و الضحّاك: أنّ قوله:( وَ لَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ ) منسوخ بقوله:( فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ) (الآية) و قوله:( إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ ) (الآية)، و قد وقع حديث النسخ في تفسير القمّيّ، و ظاهره أنّه رواية.

و مع ذلك كلّه تأخّر سورة المائدة نزولاً يدفع ذلك كلّه، و قد ورد من طرق أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام أنّها ناسخة غير منسوخة على أنّ قوله تعالى فيها:( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ) (الآية) يأبى أن يطرء على بعض آيها نسخ و على هذا يكون مفاد قوله:( وَ لَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ ) كالمفسّر بقوله بعد:( وَ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا ) ، أي لا تذهبوا بحرمة البيت بالتعرّض لقاصديه لتعرّض منهم لكم قبل هذا، و لا غير هؤلاء ممّن صدّوكم قبلاً عن المسجد الحرام أن تعتدوا عليهم بإثم كالقتل أو عدوان كالّذي دون القتل من الظلم بل تعاونوا على البرّ و التقوى.

و في الدرّ المنثور، أخرج أحمد و عبد بن حميد: في هذه الآية يعني قوله:( وَ تَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ ) (الآية): و البخاريّ في تاريخه، عن وابصة قال: أتيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و أنا لا اُريد أن أدع شيئاً من البرّ و الإثم إلّا سألته عنه فقال لي: يا وابصة اُخبرك عمّا جئت تسأل عنه أم تسأل؟ قلت: يا رسول الله أخبرني قال: جئت لتسأل عن البرّ و الإثم، ثمّ جمع

٢٠٢

أصابعه الثلاث فجعل ينكت بها في صدري و يقول: يا وابصة استفت قبلك استفت نفسك البرّ ما اطمأنّ إليه القلب و اطمأنّت إليه النفس، و الإثم ما حاك في القلب، و تردّد في الصدر و إن أفتاك الناس و أفتوك.

و فيه: أخرج أحمد و عبد بن حميد و ابن حبّان و الطبرانيّ و الحاكم و صحّحه و البيهقيّ عن أبي أمامة: أنّ رجلاً سأل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن الإثم فقال: ما حاك في نفسك فدعه.

قال: فما الإيمان؟ قال: من ساءته سيّئته و سرّته حسنته فهو مؤمن.

و فيه: أخرج ابن أبي شيبة و أحمد و البخاريّ في الأدب و مسلم و الترمذيّ و الحاكم و البيهقيّ في الشعب عن النواس بن سمعان قال: سئل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن البرّ و الإثم فقال: البرّ حسن الخلق و الإثم ما حاك في نفسك و كرهت أن يطّلع عليه الناس.

أقول: الروايات - كما ترى - تبتني على قوله تعالى:( وَ نَفْسٍ وَ ما سَوَّاها فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَ تَقْواها ) (الشمس: ٨) و تؤيّد ما تقدّم من معنى الإثم.

و في المجمع: و اختلف في هذا يعني قوله:( وَ لَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ ) فقيل: منسوخ بقوله:( فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ) عن أكثر المفسّرين، و قيل: ما نسخ من هذه السورة شي‏ء، و لا من هذه الآية، لأنّه لا يجوز أن يبتدء المشركون في الأشهر الحرم بالقتال إلّا إذا قاتلوا: ثمّ قال: و هو المرويّ عن أبي جعفرعليه‌السلام .‏

و في الفقيه، بإسناده عن أبان بن تغلب عن أبي جعفر محمّد بن عليّ الباقر (صلوات الله عليهما أنّه قال: الميتة و الدم و لحم الخنزير معروف، و ما اُهلّ لغير الله به يعني ما ذبح على الأصنام، و أمّا المنخنقة فإنّ المجوس كانوا لا يأكلون الذبائح و يأكلون الميتة، و كانوا يخنقون البقر و الغنم فإذا خنقت و ماتت أكلوها، و الموقوذة كانوا يشدّون أرجلها و يضربونها حتّى تموت فإذا ماتت أكلوها، و المتردّية كانوا يشدّون عينها و يلقونها عن السطح فإذا ماتت أكلوها، و النطيحة كانوا يتناطحون بالكباش فإذا مات أحدهما أكلوه، و ما أكل السبع إلّا ما ذكّيتم فكانوا يأكلون ما يقتله الذئب و الأسد و الدبّ فحرّم الله عزّوجلّ ذلك، و ما ذبح على النصب كانوا يذبحون لبيوت النيران، و قريش كانوا يعبدون الشجر و الصخر فيذبحون لهما، و أن تستقسموا بالأزلام

٢٠٣

ذلكم فسق قال: كانوا يعمدون إلى جزور فيجتزّون عشرة أجزاء ثمّ يجتمعون عليه فيخرجون السهام فيدفعونها إلى رجل و السهام عشرة، و هي: سبعة لها أنصباء، و ثلاثة لا أنصباء لها.

فالّتي لها أنصباء: الفذّ و التوأم و المسبل و النافس و الحلس و الرقيب و المعلّى، فالفذّ له سهم، و التوأم له سهمان، و المسبل له ثلاثة أسهم، و النافس له أربعة أسهم، و الحلس له خمسة أسهم، و الرقيب له ستّة أسهم، و المعلّى له سبعة أسهم.

و الّتي لا أنصباء لها: السفيح، و المنيح، و الوغد و ثمن الجزور على من لم يخرج له من الأنصباء شي‏ء و هو القمار فحرّمه الله.

أقول: و ما ذكر في الرواية في تفسير المنخنقة و الموقوذة و المتردّية من قبيل البيان بالمثال كما يظهر من الرواية التالية، و كذا ذكر قوله:( إلّا ما ذَكَّيْتُمْ ) مع قوله:( وَ ما أَكَلَ السَّبُعُ ) و قوله:( ذلِكُمْ فِسْقٌ مع قوله وَ أَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ) لا دلالة فيه على التقييد.

و في تفسير العيّاشيّ، عن عيّوق بن قسوط: عن أبي عبداللهعليه‌السلام في قول الله:( الْمُنْخَنِقَةُ ) قال: الّتي تنخنق في رباطها( وَ الْمَوْقُوذَةُ ) المريضة الّتي لا تجد ألم الذبح و لا تضطرب و لا تخرج لها دم وَ( الْمُتَرَدِّيَةُ ) الّتي تردّى من فوق بيت أو نحوه( وَ النَّطِيحَةُ ) الّتي تنطح صاحبها.

و فيه، عن الحسن بن عليّ الوشّاء عن أبي الحسن الرضاعليه‌السلام قال: سمعته يقول: المتردّية و النطيحة و ما أكل السبع أن أدركت ذكاته فكله.

و فيه، عن محمّد بن عبدالله عن بعض أصحابه قال: قلت لأبي عبداللهعليه‌السلام : جعلت فداك لم حرّم الله الميتة و الدم و لحم الخنزير؟ فقال: إنّ الله تبارك و تعالى لم يحرّم ذلك على عباده و أحلّ لهم ما سواه من رغبة منه - تبارك و تعالى - فيما حرّم عليهم، و لا زهد فيما أحلّ لهم، و لكنّه خلق الخلق، و علم ما يقوم به أبدانهم و ما يصلحهم فأحلّه و أباحه تفضّلاً منه عليهم لمصلحتهم، و علم ما يضرّهم فنهاهم عنه و حرّمه عليهم ثمّ أباحه

٢٠٤

للمضطرّ و أحلّه لهم في الوقت الّذي لا يقوم بدنه إلّا به فأمره أن ينال منه بقدر البلغة لا غير ذلك.

ثمّ قال: أمّا الميتة فإنّه لا يدنو منها أحد و لا يأكلها إلّا ضعف بدنه، و نحل جسمه، و وهنت قوّته، و انقطع نسله، و لا يموت آكل الميتة إلّا فجأة.

و أمّا الدم فإنّه يورث الكلب، و قسوة القلب، و قلّة الرأفة و الرحمة، لا يؤمن أن يقتل ولده و والديه، و لا يؤمن على حميمه، و لا يؤمن على من صحبه.

و أمّا لحم الخنزير فإنّ الله مسخ قوماً في صور شتّى شبه الخنزير و القرد و الدبّ و ما كان من الأمساخ ثمّ نهى عن أكل مثله لكي لا ينقع بها و لا يستخفّ بعقوبته.

و أمّا الخمر فإنّه حرّمها لفعلها و فسادها، و قال. إنّ مدمن الخمر كعابد وثن و يورثه ارتعاشاً و يذهب بنوره، و ينهدم مروّته، و يحمله على أن يكسب على المحارم من سفك الدماء و ركوب الزنا، و لا يؤمن إذا سكر أن يثبت على حرمة و هو لا يعقل ذلك، و الخمر لم يؤدّ شاربها إلّا إلى كلّ شرّ.

( بحث روائي آخر)

في غاية المرام: عن أبي المؤيّد موفّق بن أحمد في كتاب فضائل عليّ، قال: أخبرني سيّد الحفّاظ شهردار بن شيرويه بن شهردار الديلميّ فيما كتب إليّ من همدان، أخبرنا أبو الفتح عبدوس بن عبدالله بن عبدوس الهمدانيّ كتابة، حدّثنا عبدالله بن إسحاق البغويّ، حدّثنا الحسين بن عليل الغنويّ، حدّثنا محمّد بن عبدالرحمن الزرّاع، حدّثنا قيس بن حفص، حدّثنا عليّ بن الحسين، حدّثنا أبوهريرة عن أبي سعيد الخدريّ: إنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم دعا الناس إلى غدير خمّ أمر بما تحت الشجرة من شوك فقم، و ذلك يوم الخميس يوم دعا الناس إلى عليّ و أخذ بضبعه ثمّ رفعها حتّى نظر الناس إلى بياض إبطيه ثمّ لم يفترقا حتّى نزلت هذه الآية:( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ

٢٠٥

نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً ) فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : الله أكبر على إكمال الدين و إتمام النعمة و رضا الربّ برسالتي و الولاية لعليّ، ثمّ قال: اللّهمّ وال من والاه، و عاد من عاداه، و انصر من نصره، و اخذل من خذله.

و قال حسان بن ثابت: أ تأذن لي يا رسول الله أن أقول أبياتاً؟ قال: قل ينزله الله تعالى، فقال حسّان بن ثابت:

يناديهم يوم الغدير نبيّهم

بخـم و أسـمع بالنبـيّ مناديـاً

بأنّي مولاكم نعم و وليّكم

فقالوا و لـم يبدو هنـاك التعاميا

إلهك مولانا و أنت وليّنا

و لا تجدن في الخلق للأمر عاصياً

فقال له قم يا عليّ فإنّني

رضيـتك من بعدي إماماً و هادياً

و عن كتاب نزول القرآن، في أميرالمؤمنين عليّ بن أبي طالب للحافظ أبي نعيم رفعه إلى قيس بن الربيع، عن أبي هارون العبديّ، عن أبي سعيد الخدريّ: مثله، و قال في آخر الأبيات:

فمن كنت مولاه فهذا وليّه

فكونوا لـه أنصار صدق مواليـاً

هناك دعا اللّهمّ وال وليّه

و كن للّذي عادى عليـّاً معاديـاً

و عن نزول القرآن، أيضاً يرفعه إلى عليّ بن عامر عن أبي الحجّاف عن الأعمش عن عضّة قال: نزلت هذه الآية على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في عليّ بن أبي طالب:( يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ ) و قد قال الله تعالى:( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً ) .

و عن إبراهيم بن محمّد الحموينيّ قال: أنبأني الشيخ تاج الدين أبو طالب عليّ بن الحسين بن عثمان بن عبدالله الخازن، قال: أنبأنا الإمام برهان الدين ناصر بن أبي المكارم المطرّزيّ إجازة، قال: أنبأنا الإمام أخطب خوارزم أبو المؤيّد موفّق بن أحمد المكّيّ الخوارزميّ، قال: أنبأني سيّد الحفّاظ في ما كتب إليّ من همدان، أنبأنا الرئيس أبو الفتح كتابة، حدّثنا عبدالله بن إسحاق البغويّ، نبّأنا الحسن بن عقيل الغنويّ، نبّأنا محمّد بن عبدالله الزرّاع، نبّأنا قيس بن حفص قال: حدّثني عليّ بن الحسين العبديّ

٢٠٦

عن أبي هارون العبديّ عن أبي سعيد الخدريّ، و ذكر مثل الحديث الأوّل.

و عن الحموينيّ أيضاً عن سيّد الحفّاظ و أبومنصور شهردار بن شيرويه بن شهردار الديلميّ، قال: أخبرنا الحسن بن أحمد بن الحسن الحدّاد المقرئ الحافظ عن أحمد بن عبدالله بن أحمد، قال: نبّأنا محمّد بن أحمد بن عليّ، قال: نبّأنا محمّد بن عثمان بن أبي شيبة، قال: نبّأنا يحيى الحمانيّ، قال: حدّثنا قيس بن الربيع عن أبي هارون العبديّ عن أبي سعيد الخدريّ، و ذكر مثل الحديث الأوّل.

قال: قال الحموينيّ عقيب هذا الحديث: هذا حديث له طرق كثيرة إلى أبي سعيد سعد بن مالك الخدريّ الأنصاريّ.

و عن المناقب الفاخرة، للسيّد الرضيّ - رحمه الله - عن محمّد بن إسحاق، عن أبي جعفر، عن أبيه عن جدّه قال: لمّا انصرف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من حجّة الوداع نزل أرضاً يقال له: ضوجان، فنزلت هذه الآية:( يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَ الله يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ) فلمّا نزلت عصمته من الناس نادى: الصلاة جامعة فاجتمع الناس إليه، و قال: من اُولى منكم بأنفسكم: فضجّوا بأجمعهم فقالوا: الله و رسوله فأخذ بيد عليّ بن أبي طالب، و قال: من كنت مولاه فعليّ مولاه، اللّهمّ وال من والاه، و عاد من عاداه، و انصر من نصره، و اخذل من خذله لأنّه منّي و أنا منه، و هو منّي بمنزلة هارون من موسى إلّا أنّه لا نبيّ بعدي. و كانت آخر فريضة فرضها الله تعالى على اُمّة محمّد ثمّ أنزل الله تعالى على نبيّه:( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً ) .

قال أبوجعفر: فقبلوا من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كلّ ما أمرهم الله من الفرائض في الصلاة و الصوم و الزكاة و الحجّ، و صدّقوه على ذلك.

قال ابن إسحاق: قلت لأبي جعفر: ما كان ذلك؟ قال لتسع(١) عشرة ليلة خلت من ذي الحجّة سنة عشرة عند منصرفه من حجّة الوداع، و كان بين ذلك و بين

____________________

(١) سبع في نسخة البرهان.

٢٠٧

النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مائة يوم و كان سمع(١) رسول الله بغدير خمّ اثنا عشر.

و عن المناقب، لابن المغازليّ يرفعه إلى أبي هريرة قال: من صام يوم ثمانية عشر من ذي الحجّة كتب الله له صيامه ستّين شهراً، و هو يوم غدير خمّ، بها أخذ النبيّ بيعة عليّ بن أبي طالب، و قال: من كنت مولاه فعليّ مولاه اللّهمّ وال من والاه و عاد من عاداه، و انصر من نصره، فقال له عمر بن الخطّاب: بخ بخ لك يا ابن أبي طالب أصبحت مولاي و مولى كلّ مؤمن و مؤمنة، فأنزل الله تعالى:( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ ) .

و عن المناقب، لابن مردويه و كتاب سرقات الشعر، للمرزبانيّ عن أبي سعيد الخدريّ مثل ما تقدّم عن الخطيب.

أقول: و روى الحديثين في الدرّ المنثور، عن أبي سعيد و أبي هريرة و وصف سنديهما بالضعف. و قد روي بطرق كثيرة تنتهي من الصحابة (لو دقّق فيها) إلى عمر بن الخطّاب و عليّ بن أبي طالب و معاوية و سمرة: أنّ الآية نزلت يوم عرفة من حجّة الوداع و كان يوم الجمعة، و المعتمد منها ما روي عن عمر فقد رواه عن الحميديّ و عبد بن حميد و أحمد البخاريّ و مسلم و الترمذيّ و النسائيّ و ابن جرير و ابن المنذر و ابن حبّان و البيهقيّ في سننه عن طارق بن شهاب عن عمر، و عن ابن راهويه في مسنده و عبد بن حميد عن أبي العالية عن عمر، و عن ابن جرير عن قبيصة بن أبي ذؤيب عن عمر، و عن البزّاز عن ابن عبّاس، و الظاهر أنّه يروي عن عمر.

ثمّ أقول: أمّا ما ذكره من ضعف سندي الحديثين فلا يجديه في ضعف المتن شيئاً فقد أوضحنا في البيان المتقدّم أنّ مفاد الآية الكريمة لا يلائم غير ذلك من جميع الاحتمالات‏ و المعاني المذكورة فيها، فهاتان الروايتان و ما في معناهما هي الموافقة للكتاب من بين جميع الروايات فهي المتعيّنة للأخذ.

على أنّ هذه الأحاديث الدالّة على نزول الآية في مسألة الولاية - و هي تزيد على عشرين حديثاً من طرق أهل السنّة و الشيعة - مرتبطة بما ورد في سبب نزول قوله تعالى:( يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ) الآية (المائدة: ٦٧) و هي تربو

____________________

(١) سمّى رسول الله بغدير خمّ اثنا عشر رجلاً. نسخة البرهان‏

٢٠٨

على خمسة عشر حديثاً رواها الفريقان، و الجميع مرتبط بحديث الغدير:( من كنت مولاه فعلي مولاه) و هو حديث متواتر مرويّ عن جمّ غفير من الصحابة، اعترف بتواتره جمع كثير من علماء الفريقين.

و من المتّفق عليه أنّ ذلك كان في منصرف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من مكّة إلى المدينة. و هذه الولاية (لو لم تحمل على الهزل و التهكّم) فريضة من الفرائض كالتولّي و التبرّي اللّذين نصّ عليهما القرآن في آيات كثيرة، و إذا كان كذلك لم يجز أن يتأخّر جعلها نزول الآية أعني قوله:( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ ) ، فالآية إنّما نزلت بعد فرضها من الله سبحانه، و لا اعتماد على ما ينافي ذلك من الروايات لو كانت منافية.

و أمّا ما رواه من الرواية فقد عرفت ما ينبغي أن يقال فيها غير أنّ ههنا أمراً يجب التنبّه له، و هو أنّ التدبّر في الآيتين الكريمتين:( يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ ) (الآية) على ما سيجي‏ء من بيان معناه، و قوله:( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ) (الآية) و الأحاديث الواردة من طرق الفريقين فيهما و روايات الغدير المتواترة، و كذا دراسة أوضاع المجتمع الإسلاميّ الداخليّة في أواخر عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و البحث العميق فيها يفيد القطع بأنّ أمر الولاية كان نازلاً قبل يوم الغدير بأيّام، و كان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يتّقي الناس في إظهاره، و يخاف أن لا يتلقّوه بالقبول أو يسيؤوا القصد إليه فيختلّ أمر الدعوة، فكان لا يزال يؤخّر تبليغه الناس من يوم إلى غد حتّى نزل قوله:( يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ) (الآية) فلم يمهل في ذلك.

و على هذا فمن الجائز أن ينزل الله سبحانه معظم السورة و فيه قوله:( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ) (الآية) و ينزل معه أمر الولاية كلّ ذلك يوم عرفة فأخّر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بيان الولاية إلى غدير خمّ، و قد كان تلا آيتها يوم عرفة و أمّا اشتمال بعض الروايات على نزولها يوم الغدير فليس من المستبعد أن يكون ذلك لتلاوتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الآية مقارنة لتبليغ أمر الولاية لكونها في شأنها.

و على هذا فلا تنافي بين الروايات أعني ما دلّ على نزول الآية في أمر الولاية، و ما دلّ على نزولها يوم عرفة كما روي عن عمر و عليّ و معاوية و سمرة، فإنّ التنافي إنّما

٢٠٩

كان يتحقّق لو دلّ أحد القبيلين على النزول يوم غدير خمّ، و الآخر على النزول على يوم عرفة.

و أمّا ما في القبيل الثاني من الروايات أنّ الآية تدلّ على كمال الدين بالحجّ و ما أشبهه فهو من فهم الراوي لا ينطبق به الكتاب و لا بيان من النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعتمد عليه.

و ربّما استفيد هذا الّذي ذكرناه‏ مما رواه العيّاشيّ في تفسيره، عن جعفر بن محمّد بن محمّد الخزاعيّ عن أبيه قال: سمعت أباعبداللهعليه‌السلام يقول: لمّا نزل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عرفات يوم الجمعة أتاه جبرئيل فقال له: إنّ الله يقرئك السلام، و يقول لك: قل لاُمّتك: اليوم أكملت دينكم بولاية عليّ بن أبي طالب و أتممت عليكم نعمتي و رضيت لكم الإسلام ديناً و لست اُنزل عليكم بعد هذا، قد أنزلت عليكم الصلاة و الزكاة و الصوم و الحجّ، و هي الخامسة، و لست أقبل عليكم بعد هذه الأربعة إلّا بها.

على أنّ فيما نقل عن عمر من نزول الآية يوم عرفة إشكالاً آخر، و هو أنّها جميعاً تذكر أنّ بعض أهل الكتاب‏ - و في بعضها: أنّه كعب - قال لعمر: إنّ في القرآن آية لو نزلت مثلها علينا معشر اليهود لاتّخذنا اليوم الّذي نزلت فيه عيداً، و هي قوله:( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ) (الآية) فقال له عمر: و الله إنّي لأعلم اليوم و هو يوم عرفة من حجّة الوداع.

و لفظ ما رواه ابن راهويه و عبد بن حميد عن أبي العالية هكذا: قال كانوا عند عمر فذكروا هذه الآية، فقال رجل من أهل الكتاب: لو علمنا أيّ يوم نزلت هذه الآية لاتّخذناه عيداً، فقال عمر: الحمد لله الّذي جعله لنا عيداً و اليوم الثاني، نزلت يوم عرفة و اليوم الثاني يوم النحر فأكمل لنا الأمر فعلمنا أنّ الأمر بعد ذلك في انتقاص.

و ما يتضمّنه آخر الرواية مرويّ بشكل آخر ففي الدرّ المنثور: عن ابن أبي شيبة و ابن جرير عن عنترة قال: لمّا نزلت( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ) و ذلك يوم الحجّ الأكبر بكى عمر فقال له النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما يبكيك؟ قال: أبكاني أنّا كنّا في زيادة من ديننا فأمّا إذ كمل فإنّه لم يكمل شي‏ء قطّ إلّا نقص، فقال: صدقت.

و نظيره الرواية بوجه رواية اُخرى رواها أيضاً في الدرّ المنثور، عن أحمد عن

٢١٠

علقمة بن عبدالله المزنيّ قال: حدّثني رجل قال: كنت في مجلس عمر بن الخطّاب فقال عمر لرجل من القوم: كيف سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ينعت الإسلام؟ قال: سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول: إنّ الإسلام بدئ جذعاً ثمّ ثنيّاً ثمّ رباعيّاً ثمّ سدسيّاً ثمّ بازلاً. قال عمر: فما بعد البزول إلّا النقصان.

فهذه الروايات - كما ترى - تروم بيان أنّ معنى نزول الآية يوم عرفة إلفات نظر الناس إلى ما كانوا يشاهدونه من ظهور أمر الدين و استقلاله بمكّة في الموسم، و تفسير إكمال الدين و إتمام النعمة بصفاء جوّ مكّة و محوضة الأمر للمسلمين يومئذ فلا دين يعبد به يومئذ هناك إلّا دينهم من غير أن يخشوا أعداءهم و يتحذّروا منهم.

و بعبارة اُخرى المراد بكمال الدين و تمام النعمة كمال ما بأيديهم يعملون به من غير أن يختلط بهم أعداؤهم أو يكلّفوا بالتحذّر منهم دون الدين بمعنى الشريعة المجعولة عندالله من المعارف و الأحكام، و كذا المراد بالإسلام ظاهر الإسلام الموجود بأيديهم في مقام العمل. و إن شئت فقل: المراد بالدين صورة الدين المشهودة من أعمالهم، و كذا في الإسلام، فإنّ هذا المعنى هو الّذي يقبل الانتقاص بعد الإزدياد.

و أمّا كلّيّات المعارف و الأحكام المشرّعة من الله فلا يقبل الانتقاص بعد الإزدياد الّذي يشير إليه قوله في الرواية:( إنّه لم يكمل شي‏ء قطّ إلّا نقص) فإنّ ذلك سنّة كونيّة تجري أيضاً في التاريخ و الاجتماع بتبع الكون، و أمّا الدين فإنّه غير محكوم بأمثال هذه السنن و النواميس إلّا عند من قال: إنّ الدين سنّة اجتماعيّة متطوّرة متغيّرة كسائر السنن الاجتماعيّة.

إذا عرفت ذلك علمت أنّه يرد عليه أوّلاً: أنّ ما ذكر من معنى كمال الدين لا يصدق عليه قوله تعالى:( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ) و قد مرّ بيانه.

و ثانياً: أنّه كيف يمكن أن يعدّ الله سبحانه الدين بصورته الّتي كان يترائى عليها كاملاً و ينسبه إلى نفسه امتناناً بمجرّد خلوّ الأرض من ظاهر المشركين، و كون المجتمع على ظاهر الإسلام فارغاً من أعدائهم المشركين، و فيهم من هو أشدّ من المشركين إضراراً و إفساداً، و هم المنافقون على ما كانوا عليه من المجتمعات السرّيّة

٢١١

و التسرّب في داخل المسلمين، و إفساد الحال، و تقليب الاُمور، و الدسّ في الدين، و إلقاء الشبه، فقد كان لهم نبأ عظيم تعرّض لذلك آيات جمّة من القرآن كسورة المنافقين و ما في سور البقرة و النساء و المائدة و الأنفال و البراءة و الأحزاب و غيرها.

فليت شعري أين صار جمعهم؟ و كيف خمدت أنفاسهم؟ و على أيّ طريق بطل كيدهم و زهق باطلهم؟ و كيف يصحّ مع وجودهم أن يمتنّ الله يومئذ على المسلمين بإكمال ظاهر دينهم، و إتمام ظاهر النعمة عليهم، و الرضا بظاهر الإسلام بمجرّد أن دفع من مكّة أعداءهم من المسلمين، و المنافقون أعدى منهم و أعظم خطراً و أمرّ أثراً! و تصديق ذلك قوله تعالى يخاطب نبيّه فيهم:( هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ ) (المنافقون: ٤).

و كيف يمتنّ الله سبحانه و يصف بالكمال ظاهر دين هذا باطنه، أو يذكر نعمه بالتمام و هي مشوبة بالنقمة، أو يخبر برضاه صورة إسلام هذا معناه! و قد قال تعالى:( وَ ما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً ) (الكهف: ٥١) و قال في المنافقين: و لم يرد إلّا دينهم( فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ الله لا يَرْضى‏ عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ ) (البراءة: ٩٦) و الآية بعد هذا كلّه مطلقة لم تقيّد شيئاً من الإكمال و الإتمام و الرضا و لا الدين و الإسلام و النعمة بجهة دون جهة.

فإن قلت: الآية - كما تقدّمت الإشارة إليه - إنجاز للوعد الّذي يشتمل عليه قوله تعالى:( وَعَدَ الله الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَ لَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى‏ لَهُمْ وَ لَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً ) الآية (النور: ٥٥).

فالآية - كما ترى - تعدهم بتمكين دينهم المرضيّ لهم، و يحاذي ذلك من هذه الآية قوله:( أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ) و قوله:( وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً ) فالمراد بإكمال دينهم المرضيّ تمكينه لهم أي تخليصه من مزاحمة المشركين، و أمّا المنافقون فشأنهم شأن آخر غير المزاحمة، و هذا هو المعنى الّذي تشير إليه روايات نزولها يوم عرفة، و يذكر القوم أنّ المراد به تخليص الأعمال الدينيّة و العاملين بها من المسلمين من مزاحمة المشركين.

٢١٢

قلت: كون آية:( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ ) ، من مصاديق إنجاز ما وعد في قوله:( وَعَدَ الله الَّذِينَ آمَنُوا ) (الآية) و كذا كون قوله في هذه الآية:( أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ) ، محاذياً لقوله:( وَ لَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى‏ لَهُمْ ) ، في تلك الآية و مفيداً معناه كلّ ذلك لا ريب فيه.

إلّا أنّ آية سورة النور تبدء بقوله:( وَعَدَ الله الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ ) و هم طائفة خاصّة من المسلمين ظاهر أعمالهم يوافق باطنها، و ما في مرتبة أعمالهم من الدين يحاذي و ينطبق على ما عندالله سبحانه من الدين المشرّع، فتمكين دينهم المرضيّ لله سبحانه لهم إكمال ما في علم الله و إرادته من الدين المرضيّ بإفراغه في قالب التشريع، و جمع أجزائه عندهم بالإنزال ليعبدوه بذلك بعد إياس الّذين كفروا من دينهم.

و هذا ما ذكرناه: أنّ معنى إكماله الدين إكماله من حيث تشريع الفرائض فلا فريضة مشرّعة بعد نزول الآية لا تخليص أعمالهم و خاصّة حجّهم من أعمال المشركين و حجّهم، بحيث لا تختلط أعمالهم بأعمالهم. و بعبارة اُخرى يكون معنى إكمال الدين رفعه إلى أعلى مدارج الترقّي حتّى لا يقبل الانتقاص بعد الإزدياد.

و في تفسير القمّيّ، قال: حدّثني أبي، عن صفوان بن يحيى، عن العلاء، عن محمّد بن مسلم عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: آخر فريضة أنزلها الولاية ثمّ لم ينزل بعدها فريضة ثمّ أنزل:( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ) بكراع الغميم، فأقامها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالجحفة فلم ينزل بعدها فريضة.

أقول: و روى هذا المعنى الطبرسيّ في المجمع، عن الإمامين: الباقر و الصادقعليهما‌السلام و رواه العيّاشيّ في تفسيره عن زرارة عن الباقرعليه‌السلام .

و في أمالي الشيخ، بإسناده، عن محمّد بن جعفر بن محمّد، عن أبيه أبي عبداللهعليه‌السلام ، عن عليّ أميرالمؤمنينعليه‌السلام قال: سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول: بناء الإسلام على خمس خصال: على الشهادتين، و القرينتين. قيل له: أمّا الشهادتان فقد عرفنا فما القرينتان؟ قال: الصلاة و الزكاة فإنّه لا تقبل إحداهما إلّا بالاُخرى، و الصيام و حجّ بيت الله من

٢١٣

استطاع إليه سبيلاً، و ختم ذلك بالولاية فأنّزل الله عزّوجلّ:( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً ) .

و في روضة الواعظين، للفتّال، ابن الفارسيّ عن أبي جعفرعليه‌السلام و ذكر قصّة خروج النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للحجّ ثمّ نصبه عليّاً للولاية عند منصرفه إلى المدينة و نزول الآية، و فيه خطبة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم الغدير و هي خطبة طويلة جدّاً.

أقول: روى مثله الطبرسيّ في الإحتجاج، بإسناد متّصل عن الحضرميّ عن أبي جعفر الباقرعليه‌السلام ، و روى نزول الآية في الولاية أيضاً الكلينيّ في الكافي، و الصدوق في العيون، جميعاً مسنداً عن عبد العزيز بن مسلم عن الرضاعليه‌السلام ، و روى نزولها فيها أيضاً الشيخ في أماليه بإسناده عن ابن أبي عمير عن المفضّل بن عمر عن الصادق عن جدّه أميرالمؤمنينعليه‌السلام ، و روى ذلك أيضاً الطبرسيّ في المجمع، بإسناده عن أبي هارون العبديّ عن أبي سعيد الخدريّ، و روى ذلك الشيخ في أماليه، بإسناده عن إسحاق بن إسماعيل النيسابوريّ عن الصادق عن آبائه عن الحسن بن عليّعليه‌السلام و قد تركنا إيراد الروايات على طولها إيثاراً للاختصار فمن أرادها فليراجع محالّها و الله الهادي.

٢١٤

( سورة المائدة الآيات ٤ - ٥)

يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلّ لَهُمْ قُلْ أُحِلّ لَكُمُ الطّيّبَاتُ وَمَا عَلّمْتُم مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلّبِينَ تُعَلّمُونَهُنّ مِمّا عَلّمَكُمُ اللّهُ فَكُلُوا مِمّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللّهِ عَلَيْهِ وَاتّقُوا اللّهَ إِنّ اللّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ( ٤) الْيَوْمَ أُحِلّ لَكُمُ الطّيّبَاتُ وَطَعَامُ الّذِينَ أُوْتُوا الْكِتَابَ حِلّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الّذِينَ أُوْتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنّ أُجُورَهُنّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ مُتّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَن يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ( ٥)

( بيان)

قوله تعالى: ( يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ ) سؤال مطلق اُوجيب عنه بجواب عامّ مطلق فيه إعطاء الضابط الكلّيّ الّذي يميّز الحلال من الحرام، و هو أن يكون ما يقصد التصرّف فيه بما يعهد في مثله من التصرّفات أمراً طيّباً، و إطلاق الطيّب أيضاً من غير تقييده بشي‏ء يوجب أن يكون المعتبر في تشخيص طيبه استطابة الأفهام المتعارفة ذلك فما يستطاب عند الأفهام العاديّة فهو طيّب، و جميع ما هو طيّب حلال.

و إنّما نزّلنا الحلّيّة و الطيب على المتعارف المعهود لمكان أنّ الإطلاق لا يشمل غيره على ما بيّن في فنّ الاُصول.

قوله تعالى: ( وَ ما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ الله فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَ اذْكُرُوا اسْمَ الله عَلَيْهِ ) قيل: إنّ الكلام معطوف على موضع الطيّبات أي و اُحلّ لكم ما علّمتم من الجوارح أي صيد ما علّمتم من الجوارح، فالكلام بتقدير مضاف محذوف اختصاراً لدلالة السياق عليه.

٢١٥

و الظاهر أنّ الجملة معطوفة على موضع الجملة الاُولى. و( ما ) في قوله:( وَ ما عَلَّمْتُمْ ) شرطيّة و جزاؤها قوله:( فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ ) من غير حاجة إلى تكلّف التقدير.

و الجوارح جمع جارحة و هي الّتي تكسب الصيد من الطير و السباع كالصقر و البازي و الكلاب و الفهود، و قوله:( مُكَلِّبِينَ ) حال، و أصل التكليب تعليم الكلاب و تربيتها للصيد أو اتّخاذ كلاب الصيد و إرسالها لذلك، و تقييد الجملة بالتكليب لا يخلو من دلالة على كون الحكم مختصّاً بكلب الصيد لا يعدوه إلى غيره من الجوارح.

و قوله:( مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ ) التقييد بالظرف للدلالة على أنّ الحلّ محدود بصورة صيدها لصاحبها لا لنفسها.

و قوله:( وَ اذْكُرُوا اسْمَ الله عَلَيْهِ ) تتميم لشرائط الحلّ و أن يكون الصيد مع كونه مصطاداً بالجوارح و من طريق التكليب و الإمساك على الصائد مذكوراً عليه اسم الله تعالى.

و محصّل المعنى أنّ الجوارح المعلّمة بالتكليب - أي كلاب الصيد - إذا كانت معلّمة و اصطادت لكم شيئاً من الوحش الّذي يحلّ أكله بالتذكية و قد سمّيتم عليه فكلوا منه إذا قتلته دون أن تصلوا إليه فذلك تذكية له، و أمّا دون القتل فالتذكية بالذبح و الإهلال به لله يغني عن هذا الحكم.

ثمّ ذيل الكلام بقوله:( وَ اتَّقُوا الله إِنَّ الله سَرِيعُ الْحِسابِ ) إشعاراً بلزوم اتّقاء الله فيه حتّى لا يكون الاصطياد إسرافاً في القتل، و لا عن تله و تجبّر كما في صيد اللّهو و نحوه فإنّ الله سريع الحساب يجازي سيّئة الظلم و العدوان في الدنيا قبل الآخرة، و لا يسلك أمثال هذه المظالم و العدوانات بالاغتيال و الفك بالحيوان العجم إلّا إلى عاقبة سوآى على ما شاهدنا كثيراً.

قوله تعالى: ( الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَ طَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَ طَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ ) إعادة ذكر حلّ الطيّبات مع ذكره في الآية السابقة، و تصديره

٢١٦

بقوله:( الْيَوْمَ ) للدلالة على الامتنان منه تعالى على المؤمنين بإحلال طعام أهل الكتاب و المحصنات من نسائهم للمؤمنين.

و كأنّ ضمّ قوله:( أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ ) إلى قوله:( وَ طَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ ) إلخ من قبيل ضمّ المقطوع به إلى المشكوك فيه لإيجاد الطمأنينة في نفس المخاطب و إزالة ما فيه من القلق و الاضطراب كقول السيّد لخادمه: لك جميع ما ملّكتكه و زيادة هي كذا و كذا فإنّه إذا ارتاب في تحقّق ما يعده سيّده من الإعطاء شفع ما يشكّ فيه بما يقطع به ليزول عن نفسه أذى الريب إلى راحة العلم، و من هذا الباب يوجه قوله تعالى:( لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى‏ وَ زِيادَةٌ ) (يونس: ٢٦) و قوله تعالى:( لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها وَ لَدَيْنا مَزِيدٌ ) (ق: ٣٥).

فكأنّ نفوس المؤمنين لا تسكن عن اضطراب الريب في أمر حلّ طعام أهل الكتاب لهم بعد ما كانوا يشاهدون التشديد التامّ في معاشرتهم و مخالطتهم و مساسهم و ولايتهم حتّى ضمّ إلى حديث حلّ طعامهم أمر حلّ الطيّبات بقول مطلق ففهموا منه أنّ طعامهم من سنخ سائر الطيّبات المحلّلة فسكن بذلك طيش نفوسهم، و اطمأنّت قلوبهم و كذلك القول في قوله:( وَ الْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَ الْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ ) .

و أمّا قوله:( وَ طَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَ طَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ ) فالظاهر أنّه كلام واحد ذو مفاد واحد، إذ من المعلوم أنّ قوله:( وَ طَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ ) ليس في مقام تشريع حكم الحلّ لأهل الكتاب، و توجيه التكليف إليهم و إن قلنا بكون الكفّار مكلّفين بالفروع الدينيّة كالاُصول، فإنّهم غير مؤمنين بالله و رسوله و بما جاء به رسوله و لا هم يسمعون و لا هم يقبلون، و ليس من دأب القرآن أن يوجّه خطاباً أو يذكر حكماً إذا استظهر من المقام أنّ الخطاب معه يكون لغواً و التكليم معه يذهب سدى. اللّهمّ إلّا إذا أصلح ذلك بشي‏ء من فنون التكليم كالالتفات من خطاب الناس إلى خطاب النبيّ و نحو ذلك كقوله:( قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى‏ كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَ بَيْنَكُمْ )

٢١٧

(آل عمران: ٦٤) و قوله:( قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا ) (إسراء: ٩٣) إلى غير ذلك من الآيات.

و بالجملة ليس المراد بقوله:( وَ طَعامُ الَّذِينَ ) ، بيان حل طعام أهل الكتاب للمسلمين حكماً مستقلّاً و حلّ طعام المسلمين لأهل الكتاب حكماً مستقلّاً آخر، بل بيان حكم واحد و هو ثبوت الحلّ و ارتفاع الحرمة عن الطعام، فلا منع في البين حتّى يتعلّق بأحد الطرفين نظير قوله تعالى:( فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَ لا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ ) (الممتحنة: ١٠) أي لا حلّ في البين حتّى يتعلّق بأحد الطرفين.

ثمّ إنّ الطعام بحسب أصل اللّغة كلّ ما يقتات به و يطعم لكن قيل: إنّ المراد به البرّ و سائر الحبوب ففي لسان العرب: و أهل الحجاز إذا أطلقوا اللّفظ بالطعام عنوا به البرّ خاصّة. قال: و قال الخليل: العالي في كلام العرب أنّ الطعام هو البرّ خاصّة، انتهى. و هو الّذي يظهر من كلام ابن الأثير في النهاية، و لهذا ورد في أكثر الروايات المرويّة عن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام : أنّ المراد بالطعام في الآية هو البرّ و سائر الحبوب إلّا ما في بعض الروايات ممّا يظهر به معنى آخر و سيجي‏ء الكلام فيه في البحث الروائيّ الآتي.

و على أيّ حال لا يشمل هذا الحلّ ما لا يقبل التذكية من طعامهم كلحم الخنزير، أو يقبلها من ذبائحهم لكنّهم لم يذكّوها كالّذي لم يهلّ به لله، و لم يذكّ تذكية إسلاميّة فإنّ الله سبحانه عدّ هذه المحرّمات المذكورة في آيات التحريم - و هي الآي الأربع الّتي في سور البقرة و المائدة و الأنعام و النحل - رجساً و فسقاً و إثماً كما بيّناه فيما مرّ، و حاشاه سبحانه أن يحلّ ما سمّاه رجساً أو فسقاً أو إثماً امتناناً بمثل قوله:( الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ ) .

على أنّ هذه المحرّمات بعينها واقعة قبيل هذه الآية في نفس السورة، و ليس لأحد أن يقول في مثل المورد بالنسخ و هو ظاهر، و خاصّة في مثل سورة المائدة الّتي ورد فيها أنّها ناسخة غير منسوخة.

٢١٨

قوله تعالى: ( وَ الْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَ الْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ ) ، الإتيان في متعلّق الحكم بالوصف أعني ما في قوله:( الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ ) من غير أن يقال: من اليهود و النصارى مثلاً أو يقال: من أهل الكتاب، لا يخلو من إشعار بالعلّيّة و اللّسان لسان الامتنان، و المقام مقام التخفيف و التسهيل، فالمعنى: إنّا نمتنّ عليكم بالتخفيف و التسهيل في رفع حرمة الازدواج بين رجالكم و المحصنات من نساء أهل الكتاب لكونهم أقرب إليكم من سائر الطوائف غير المسلمة، و هم اُوتوا الكتاب و أذعنوا بالتوحيد و الرسالة بخلاف المشركين و الوثنيّين المنكرين للنبوّة، و يشعر بما ذكرنا أيضاً تقييد قوله:( أُوتُوا الْكِتابَ ) بقوله:( مِنْ قَبْلِكُمْ ) فإنّ فيه إشعاراً واضحاً بالخطط و المزج و التشريك.

و كيف كان لمّا كانت الآية واقعة موقع الامتنان و التخفيف لم تقبل النسخ بمثل قوله تعالى:( وَ لا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ ) (البقرة: ٢٢١) و قوله تعالى:( وَ لا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ ) (الممتحنة: ١٠) و هو ظاهر.

على أنّ الآية الاُولى واقعة في سورة البقرة، و هي أوّل سورة مفصّلة نزلت بالمدينة قبل المائدة: و كذا الآية الثانية واقعة في سورة الممتحنة، و قد نزلت بالمدينة قبل الفتح، فهي أيضاً قبل المائدة نزولاً، و لا وجه لنسخ السابق للّاحق مضافاً إلى ما ورد: أنّ المائدة آخر ما نزلت على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فنسخت ما قبلها، و لم ينسخها شي‏ء.

على أنّك قد عرفت في الكلام على قوله تعالى:( وَ لا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ ) الآية (البقرة: ٢٢١) في الجزء الثاني من الكتاب أنّ الآيتين أعني آية البقرة و آية الممتحنة أجنبيّتان من الدلالة على حرمة نكاح الكتابيّة.

و لو قيل بدلالة آية الممتحنة بوجه على التحريم كما يدلّ على سبق المنع الشرعيّ ورود آية المائدة في مقام الامتنان و التخفيف - و لا امتنان و لا تخفيف لو لم يسبق منع - كانت آية المائدة هي الناسخة لآية الممتحنة لا بالعكس لأنّ النسخ شأن المتأخّر، و سيأتي في البحث الروائيّ كلام في الآية الثانية.

ثمّ المراد بالمحصنات في الآية: العفائف و هو أحد معان الإحصان، و ذلك أنّ

٢١٩

قوله:( وَ الْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَ الْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ ) ، يدلّ على أنّ المراد بالمحصنات غير ذوات الأزواج و هو ظاهر، ثمّ الجمع بين المحصنات من أهل الكتاب و المؤمنات على ما مرّ من توضيح معناها يقضي بأنّ المراد بالمحصنات في الموضعين معنى واحد، و ليس هو الإحصان بمعنى الإسلام لمكان قوله:( وَ الْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ ) ، و ليس المراد بالمحصنات الحرائر فإنّ الامتنان المفهوم من الآية لا يلائم تخصيص الحلّ بالحرائر دون الإماء، فلم يبق من معاني الإحصان إلّا العفّة فتعيّن أنّ المراد بالمحصنات العفائف.

و بعد ذلك كلّه إنّما تصرح الآية بتشريع حلّ المحصنات من أهل الكتاب للمؤمنين من غير تقييد بدوام أو انقطاع إلّا ما ذكره من اشتراط الأجر و كون التمتّع بنحو الإحصان لا بنحو المسافحة و اتّخاذ الأخدان، فينتج أنّ الّذي اُحلّ للمؤمنين منهنّ أن يكون على طريق النكاح عن مهر و أجر دون السفاح، من غير شرط آخر من نكاح دوام أو انقطاع، و قد تقدّم في قوله تعالى:( فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ ) الآية (النساء: ٢٤) في الجزء الرابع من الكتاب أنّ المتعة نكاح كالنكاح الدائم، و للبحث بقايا تطلب من علم الفقه.

قوله تعالى: ( إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وَ لا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ ) الآية في مساق قوله تعالى في آيات محرّمات النكاح:( وَ أُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ ) (النساء: ٢٤) و الجملة قرينة على كون المراد بالآية بيان حلّيّة التزوّج بالمحصنات من أهل الكتاب من غير شمول منها لملك اليمين.

قوله تعالى: ( وَ مَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَ هُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ ) الكفر في الأصل هو الستر فتحقّق مفهومه يتوقّف على أمر ثابت يقع عليه الستر كما أنّ الحجاب لا يكون حجاباً إلّا إذا كان هناك محجوب فالكفر يستدعي مكفوراً به ثابتاً كالكفر بنعمة الله و الكفر بآيات الله و الكفر بالله و رسوله و اليوم الآخر.

فالكفر بالإيمان يقتضي وجود إيمان ثابت، و ليس المراد به المعنى المصدريّ من الإيمان بل معنى اسم المصدر و هو الأثر الحاصل و الصفة الثابتة في قلب المؤمن

٢٢٠