الميزان في تفسير القرآن الجزء ٥

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 444

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 444
المشاهدات: 86819
تحميل: 10312


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 444 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 86819 / تحميل: 10312
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 5

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

أعني الاعتقادات الحقّة الّتي هي منشأ الأعمال الصالحة، فيؤل معنى الكفر بالإيمان إلى ترك العمل بما يعلم أنّه حقّ كتولّي المشركين، و الاختلاط بهم، و الشركة في أعمالهم مع العلم بحقّيّة الإسلام، و ترك الأركان الدينيّة من الصلاة و الزكاة و الصوم و الحجّ مع العلم بثبوتها أركاناً للدين.

فهذا هو المراد من الكفر بالإيمان لكنّ ههنا نكتة و هي أنّ الكفر لمّا كان ستراً و ستر الاُمور الثابتة لا يصدق بحسب ما يسبق إلى الذهن إلّا مع المداومة و المزاولة فالكفر بالإيمان إنّما يصدق إذا ترك الإنسان العمل بما يقتضيه إيمانه، و يتعلّق به علمه، و دام عليه، و أمّا إذا ستر مرّة أو مرّتين من غير أن يدوم عليه فلا يصدق عليه الكفر و إنّما هو فسق أتى به.

و من هنا يظهر أنّ المراد بقوله:( وَ مَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ ) هو المداومة و الاستمرار عليه و إن كان عبّر بالفعل دون الوصف. فتارك الاتّباع لما حقّ عنده من الحقّ، و ثبت عنده من أركان الدين كافر بالإيمان، حابط العمل كما قال تعالى:( فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ ) .

فالآية تنطبق على قوله تعالى:( وَ إِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَ إِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَ كانُوا عَنْها غافِلِينَ وَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَ لِقاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ ) (الأعراف: ١٤٧) فوصفهم باتّخاذ سبيل الغيّ و ترك سبيل الرشد بعد رؤيتهما و هي العلم بهما ثمّ بدّل ذلك بتوصيفهم بتكذيب الآيات، و الآية إنّما تكون آية بعد العلم بدلالتها، ثمّ فسّره بتكذيب الآخرة لما أنّ الآخرة لو لم تكذّب منع العلم بها عن ترك الحقّ، ثمّ أخبر بحبط أعمالهم.

و نظير ذلك قوله تعالى:( قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ هُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَ لِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً ) (الكهف: ١٠٥) و انطباق الآيات على مورد الكفر بالإيمان بالمعنى الّذي تقدّم بيانه ظاهر.

٢٢١

و بالتأمّل فيما ذكرنا يظهر وجه اتّصال الجملة أعني قوله:( وَ مَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ ) ، بما قبله فالجملة متمّمة للبيان السابق، و هي في مقام التحذير عن الخطر الّذي يمكن أن يتوجّه إلى المؤمنين بالتساهل في أمر الله، و الاسترسال مع الكفّار فإنّ الله سبحانه إنّما أحلّ طعام أهل الكتاب و المحصنات من نسائهم للمؤمنين ليكون ذلك تسهيلاً و تخفيفاً منه لهم، و ذريعة إلى انتشار كلمة التقوى، و سراية الأخلاق الطاهرة الإسلاميّة من المسلمين المتخلّقين بها إلى غيرهم، فيكون داعية إلى العلم النافع، و باعثة نحو العمل الصالح.

فهذا هو الغرض من التشريع لا لأن يتّخذ ذلك وسيلة إلى السقوط في مهابط الهوى، و الإصعاد في أودية الهوسات، و الاسترسال في حبّهنّ و الغرام بهنّ، و التولّه في جمالهنّ، فيكنّ قدوة تتسلّط بذلك أخلاقهنّ و أخلاق قومهنّ على أخلاق المسلمين، و يغلب فسادهنّ على صلاحهم، ثمّ يكون البلوى و يرجع المؤمنون إلى أعقابهم القهقرى، و مآل ذلك عود هذه المنّة الإلهيّة فتنة و محنة مهلكة، و صيرورة هذا التخفيف الّذي هو نعمة نقمة.

فحذّر الله المؤمنين بعد بيان حلّيّة طعامهم و المحصنات من نسائهم أن لا يسترسلوا في التنعّم بهذه النعمة استرسالاً يؤدّي إلى الكفر بالإيمان، و ترك أركان الدين، و الإعراض عن الحقّ فإنّ ذلك يوجب حبط العمل، و ينجرّ إلى خسران السعي في الآخرة.

و اعلم أنّ للمفسّرين في هذه الآية أعني قوله:( الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ ) إلى آخر الآية خوضاً عظيماً ردّهم إلى تفاسير عجيبة لا يحتملها ظاهر اللّفظ، و ينافيها سياق الآية كقول بعضهم: إنّ قوله:( أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ ) يعني من الطعام كالبحيرة و السائبة و الوصيلة و الحامي، و قول بعضهم: إنّ قوله:( وَ طَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ ) أي بمقتضى الأصل الأوّليّ لم يحرّمه الله عليكم قطّ، و إنّ اللّحوم من الحلّ و إن لم يذكّوها إلّا بما عندهم من التذكية، و قول بعضهم: إنّ المراد بقوله:( وَ طَعامُ الَّذِينَ ) هو مؤاكلتهم، و قول بعضهم: إنّ المراد بقوله:( وَ الْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَ

٢٢٢

الْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ ) بيان الحلّيّة بحسب الأصل من غير أن يكون محرّماً قبل ذلك بل قوله تعالى:( وَ أُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ ) (النساء: ٢٤) كاف في إحلالهنّ، و قول بعضهم: إنّ المراد بقوله:( وَ مَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ ) التحذير عن ردّ ما في صدر الآية من قضيّة حل طعام أهل الكتاب و المحصنات من نسائهم.

فهذه و أمثالها معان احتملوها، و هي بين ما لا يخلو من مجازفة و تحكّم كتقييد قوله:( الْيَوْمَ أُحِلَّ ) ، بما تقدّم من غير دليل عليه و بين ما يدفعه ظاهر السياق من التقييد باليوم و الامتنان و التخفيف و غير ذلك ممّا تقدّم بيانه و البيان السابق الّذي استظهرنا فيه باعتبار ظواهر الآيات الكريمة كاف في إبطالها و إبانة وجه الفساد فيها.

و أمّا كون آية:( وَ أُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ ) دالّة على حلّ نكاح الكتابيّة فظاهر البطلان لظهور كون الآية في مقام بيان محرّمات النساء و محلّلاتهنّ بحسب طبقات النسب و السبب لا بحسب طبقات الأديان و المذاهب.

( بحث روائي)

في الدرّ المنثور، في قوله تعالى:( يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ ) (الآية): أخرج ابن جرير عن عكرمة: إنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعث أبا رافع في قتل الكلاب فقتل حتّى بلغ العوالي، فدخل عاصم بن عديّ و سعد بن خيثمة و عويم بن ساعدة فقالوا: ما ذا اُحلّ لنا يا رسول الله؟ فنزلت:( يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ ) الآية.

و فيه، أخرج ابن جرير عن محمّد بن كعب القرظيّ قال: لمّا أمر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقتل الكلاب قالوا: يا رسول الله ما ذا اُحلّ لنا من هذه الاُمّة؟ فنزلت:( يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ ) الآية.

أقول: الروايتان يشرح بعضهما بعضاً فالمراد السؤال عمّا يحلّ لهم من الكلاب من حيث اتّخاذها و استعمالها في مآرب مختلفة كالصيد و نحوه، و قوله تعالى:( يَسْئَلُونَكَ

٢٢٣

ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ ) لا يلائم هذا المعنى لتقيّدها و إطلاق الآية.

على أنّ ظاهر الروايتين و الرواية الآتية أنّ قوله:( وَ ما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ ) معطوف على موضع الطيّبات، و المعنى: و اُحلّ لكم ما علّمتم، و لذلك التزم جمع من المفسّرين على تقدير مّا فيه كما تقدّم، و قد تقدّم أنّ الظاهر كون قوله:( وَ ما عَلَّمْتُمْ ) شرطاً جزاؤه قوله:( فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ ) .

و المراد بالاُمّة المسؤول عنها في الرواية نوع الكلاب على ما تفسّره الرواية الآتية.

و فيه، أخرج الفاريابيّ و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و الطبرانيّ و الحاكم - و صحّحه - و البيهقيّ في سننه عن أبي رافع قال: جاء جبرئيل إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فاستأذن عليه فأذن له فأبطأ فأخذ رداءه فخرج فقال: قد أذنّا لك قال: أجل و لكنّا لا ندخل بيتاً فيه كلب و لا صورة فنظروا فإذا في بعض بيوتهم جرو.

قال أبورافع: فأمرني أن أقتل كلّ كلب بالمدينة ففعلت، و جاء الناس فقالوا: يا رسول الله ما ذا يحلّ لنا من هذه الاُمّة الّتي أمرت بقتلها؟ فسكت النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأنزل الله:( يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَ ما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ ) فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إذا أرسل الرجل كلبه و ذكر اسم الله فأمسك عليه فليأكل ما لم يأكل.

أقول: ما ذكر في الرواية من كيفيّة نزول جبرئيل غريب في بابه على أنّ الرواية لا تخلو عن اضطراب حيث تدلّ على إمساك جبرائيل عن الدخول على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لوجود جرو في بعض بيوتهم على أنّها لا تنطبق على ظاهر الآية من إطلاق السؤال و الجواب و العطف الّذي في قوله:( وَ ما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ ) فالرواية أشبه بالموضوعة.

و فيه، أخرج عبد بن حميد و ابن جرير عن عامر: إنّ عديّ بن حاتم الطائيّ أتى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فسأله عن صيد الكلاب فلم يدر ما يقول له حتّى أنزل

٢٢٤

الله عليه هذه الآية في المائدة:( تُعَلِّمُونَهُنَّ ممّا عَلَّمَكُمُ اللهُ ) .

أقول: و في معناه غيره من الأخبار و الإشكال المتقدّم آت فيه و الظاهر أنّ هذه الروايات و ما في معناها من تطبيق الحوادث على الآية غير أنّه تطبيق غير تامّ و الظاهر أنّهم ذكروا لهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صيد الكلاب ثمّ سألوه عن ضابط كلّيّ في تمييز الحلال من الحرام فذكر في الآية سؤالهم ثمّ اُجيب بإعطاء الضابط الكلّيّ بقوله:( يَسْئَلُونَكَ ما ذا أحلّ لَهُمْ قُلْ أحلّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ ) ثمّ اُجيبوا في خصوص ما تذاكروا فيه فهذا هو الّذي يفيده لحن القول في الآية.

و في الكافي، بإسناده عن حمّاد عن الحلبيّ عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: في كتاب عليّعليه‌السلام في قوله عزّوجلّ:( وَ ما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ ) قال هي الكلاب.

أقول: و رواه العيّاشيّ في تفسيره، عن سماعة بن مهران عنهعليه‌السلام .

و فيه: بإسناده عن ابن مسكان عن الحلبيّ قال: قال أبوعبداللهعليه‌السلام : كان أبي يفتي و كان يتّقي و نحن نخاف في صيد البزاة و الصقور، فأمّا الآن فإنّا لا نخاف و لا يحلّ صيدها إلّا أن تدرك ذكاته، فإنّه في كتاب عليّعليه‌السلام : أنّ الله عزّوجلّ قال:( وَ ما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ ) في الكلاب.

و فيه: بإسناده عن أبي بكر الحضرميّ عن أبي عبداللهعليه‌السلام ، قال: سألته عن صيد البزاة و الصقور و الفهود و الكلاب قال لا تأكلوا إلّا ما ذكيتم إلّا الكلاب، قلت: فإن قتله؟ قال: كلّ فإنّ الله يقول:( وَ ما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ الله فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ ) ، ثمّ قال: كلّ شي‏ء من السباع يمسك الصيد على نفسها إلّا الكلاب معلّمة؟ فإنّها تمسك على صاحبها قال: و إذا أرسلت الكلب فاذكر اسم الله عليه فهو ذكاته.

و في تفسير العيّاشيّ، عن أبي عبيدة عن أبي عبداللهعليه‌السلام : عن الرجل سرّح الكلب المعلّم، و يسمّي إذا سرّحه، قال: يأكل ممّا أمسكن عليه و إن أدركه و قتله. و إن وجد معه كلب غير معلّم فلا تأكل منه. قلت: فالصقور و العقاب و البازيّ؟ قال: إن

٢٢٥

أدركت ذكاته فكل منه، و إن لم تدرك ذكاته فلا تأكل منه. قلت: فالفهد ليس بمنزلة الكلب؟ قال: فقال: لا، ليس شي‏ء مكلّب إلّا الكلب.

و فيه: عن أبي بصير عن أبي عبداللهعليه‌السلام : في قول الله:( ما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ الله فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَ اذْكُرُوا اسْمَ الله عَلَيْهِ ) قال: لا بأس بأكل ما أمسك الكلب ممّا لم يأكل الكلب منه فإذا أكل الكلب منه قبل أن تدركه فلا تأكله.

أقول: و الخصوصيّات المأخوذة في الروايات كاختصاص الحلّ عند القتل بصيد الكلب لقوله تعالى:( مُكَلِّبِينَ ) و قوله:( مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ ) و اشتراط أن لا يشاركه كلب غير معلّم كلّ ذلك مستفاد من الآية. و قد تقدّم بعض الكلام في ذلك.

و فيه: عن حريز عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: سئل عن كلب المجوس يكلّبه المسلم و يسمّي و يرسله قال: نعم إنّه مكلّب إذا ذكر اسم الله عليه فلا بأس.

أقول: و فيه الأخذ بإطلاق قوله:( مُكَلِّبِينَ ) . و قد روي في الدرّ المنثور، عن ابن أبي حاتم عن ابن عبّاس: في المسلم يأخذ كلب المجوسيّ المعلّم أو بازه أو صقره ممّا علمه المجوسيّ فيرسله فيأخذه قال: لا تأكله و إن سمّيت لأنّه من تعليم المجوسيّ و إنّما قال:( تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ الله ) و ضعفه ظاهر، فإنّ الخطاب في قوله:( مِمَّا عَلَّمَكُمُ الله ) و إن كان متوجّهاً إلى المؤمنين ظاهراً إلّا أنّ الّذي علّمهم الله ممّا يعلّمونه الكلاب ليس غير ما علّمه الله المجوس و غيرهم. و هذا المعنى يساعد فهم السامع أن يفهم أن لا خصوصيّة لتعليم المؤمن من حيث إنّه تعليم المؤمن، فلا فرق في الكلب المعلّم بين أن يكون معلّمه مسلماً أو غير مسلم كما لا فرق من جهة الملك بين كونه مملوكاً للمسلم و مملوكاً لغيره.

و في تفسير العيّاشيّ، عن هشام بن سالم عن أبي عبداللهعليه‌السلام : في قول الله تبارك و تعالى:( و طعامهم حل لكم) قال: العدس و الحبوب و أشباه ذلك يعني أهل الكتاب.

٢٢٦

أقول: و رواه في التهذيب، عنه، و لفظه: قال: العدس و الحمّص و غير ذلك‏

و في الكافي، و التهذيب، في روايات عن عمّار بن مروان و سماعة عن أبي عبداللهعليه‌السلام : في طعام أهل الكتاب و ما يحلّ منه، قال: الحبوب‏.

و في الكافي، بإسناده عن ابن مسكان، عن قتيبة الأعشى قال: سأل رجل أباعبدالله و أنا عنده فقال له: الغنم يرسل فيها اليهوديّ و النصرانيّ فتعرض فيها العارضة فتذبح أ يؤكل ذبيحته؟ فقال أبوعبداللهعليه‌السلام : لا تدخل ثمنها في مالك و لا تأكلها فإنّما هي الاسم و لا يؤمن عليها إلّا مسلم، فقال له الرجل: قال الله تعالى:( الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَ طَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ ) فقال أبوعبداللهعليه‌السلام : كان أبي يقول: إنّما هي الحبوب و أشباهها.

أقول: و رواه الشيخ في التهذيب، و العيّاشيّ في تفسيره عن قتيبة الأعشى عنهعليه‌السلام .

و الأحاديث - كما ترى - تفسّر طعام أهل الكتاب المحلّل في الآية بالحبوب و أشباهها، و هو الّذي يدلّ عليه لفظ الطعام عند الإطلاق كما هو ظاهر من الروايات و القصص المنقولة عن الصدر الأوّل، و لذلك ذهب المعظم من علمائنا إلى حصر الحلّ في الحبوبات و أشباهها و ما يتّخذ منها ممّا يتغذّى به.

و قد شدّد النكير عليهم بعضهم(١) بأنّ ذلك ممّا يخالف عرف القرآن في استعمال الطعام.

قال: ليس هذا هو الغالب في لغة القرآن، فقد قال الله تعالى في هذه السورة - أي المائدة -:( أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَ طَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَ لِلسَّيَّارَةِ ) و لا يقول أحد: إنّ الطعام من صيد البحر هو البرّ أو الحبوب. و قال:( كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى‏ نَفْسِهِ ) و لم يقل أحد: إنّ الطعام هنا البرّ أو الحبّ مطلقاً، إذ لم يحرم شي‏ء منه على بني إسرائيل لا قبل التوراة و لا بعدها، فالطعام في الأصل كلّ ما يطعم أي يذاق أو يؤكل، قال تعالى في ماء النهر حكاية عن طالوت:( فَمَنْ شَرِبَ

____________________

(١) صاحب المنار في تفسيره.

٢٢٧

مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَ مَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي ) ، و قال:( فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا ) أي أكلتم. انتهي.

و ليت شعري ما ذا فهم من قولهم:( الطعام إذا اُطلق كان المراد به الحبوب و أشباهها) فلم يلبث حتّى اُورد عليهم بمثل قوله:( يَطْعَمُهُ ) و قوله:( طَعِمْتُمْ ) من مشتقّات الفعل؟ و إنّما قالوا ما قالوا في لفظ الطعام، لا في الأفعال المصوغة منه. و أورد بمثل:( و طعام البحر) و الإضافة أجلى قرينة، فليس ينبت في البحر برّ و لا شعير. و أورد بمثل:( كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ ) ثمّ ذكر هو نفسه أنّ من المعلوم من دينهم أنّهم لم يحرّم عليهم البرّ أو الحبّ. و كان ينبغي عليه أن يراجع من القرآن موارد اُطلق اللّفظ فيها إطلاقاً ثمّ يقول ما هو قائله كقوله:( فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ ) (البقرة: ١٨٤) و قوله:( أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ ) (المائدة: ٩٥) و قوله:( وَ يُطْعِمُونَ الطَّعامَ ) (الإنسان: ٨) و قوله:( فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى‏ طَعامِهِ) (عبس: ٢٤) و نحو ذلك.

ثمّ قال: و ليس الحبّ مظنّة للتحليل و التحريم، و إنّما اللّحم هو الّذي يعرض له ذلك لوصف حسّيّ كموت الحيوان حتف أنفه، أو معنويّ كالتقرّب به إلى غير الله و لذلك قال تعالى:( قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى‏ طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً ) الآية (الأنعام: ١٤٥) و كلّه يتعلّق بالحيوان و هو نصّ في حصر التحريم فيما ذكر، فتحريم ما عداه يحتاج إلى نصّ. انتهي.

و كلامه هذا أعجب من سابقه: أمّا قوله: ليس الحبّ مظنّة للتحليل و التحريم و إنّما اللّحم هو الّذي يعرض له ذلك، فيقال له: في أيّ زمان يعني ذلك؟ أ في مثل هذه الأزمنة و قد استأنس الأذهان بالإسلام و عامّة أحكامه منذ عدّة قرون، أم في زمان النزول و لم يمض من عمر الدين إلّا عدّة سنين؟ و قد سألوا النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن أشياء هي أوضح من حكم الحبوب و أشباهها و أجلى، و قد حكى الله تعالى بعض ذلك كما في قوله:( يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ ) (البقرة: ٢١٥) و قد روى عبد بن حميد عن قتادة قال: ذكر لنا أنّ رجالاً قالوا: كيف نتزوّج نساءهم و هم على دين و نحن على دين

٢٢٨

فأنزل الله:( وَ مَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ ) الحديث. و قد مرّ و سيجي‏ء لهذا القول نظائر في تضاعيف الروايات كما نقلناه في حجّ التمتّع و غير ذلك.

و إذا كانوا يقولون مثل هذا القول بعد نزول الآية بحلّيّة المحصنات من نساء أهل الكتاب فما الّذي يمنعهم أن يسألوا قبل نزول الآية عن مؤاكلة أهل الكتاب، و الأكل ممّا يؤخذ منهم من الحبوب، و الأغذية المتّخذة من ذلك كالخبز و الهريسة و سائر الأغذية الّتي تتّخذ من الحبوب و أمثالها إذا عملها أهل الكتاب، و هم على دين، و نحن على دين و قد حذّر الله المؤمنين عن موادّتهم و موالاتهم و الاقتراب منهم، و الركون إليهم في آيات كثيرة؟.

بل هذا الكلام مقلوب عليه في قوله: إنّ اللّحم هو المظنّة للتحريم و التحليل فكيف يسعهم أن يسألوا عنه و قد بيّن الله عامّة محرّمات اللّحوم في آية الأنعام:( قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى‏ طاعِمٍ يَطْعَمُهُ ) (الأنعام: ١٤٥) ثمّ في آية النحل و هما مكّيّتان، ثمّ في آية البقرة و هي قبل المائدة نزولاً، ثمّ في قوله:( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ ) و هي قبل هذه الآية؟. و الآية على قول هذا القائل نصّ أو كالنصّ في عدم تحريم ذبائحهم، فكيف صحّ لهؤلاء أن يسألوا عن حلّيّة ذبائح أهل الكتاب و قد نزلت الآيات مكّيّتها و مدنيّتها مرّة بعد اُخرى في أمرها و دلّت على حلّيّتها، و استقرّ العمل على حفظها و تلاوتها و تعلمها و العمل بها؟.

و أمّا قوله: إنّ آية الأنعامّ نصّ في حصر المحرّمات فيما ذكر فيها فحرمه غيرها كذبيحة أهل الكتاب يحتاج إلى دليل، فلا شكّ في احتياج كلّ حكم إلى دليل يقوم عليه، و هذا الكلام صريح منه في أنّ هذا الحصر إنّما ينفع إذا لم يكن هناك دليل يقوم على تحريم أمر آخر وراء ما ذكر في الآية.

و على هذا فإن كان مراده بالدليل ما يشمل السنّة فالقائل بتحريم ذبائح أهل الكتاب يستند في ذلك إلى ما ورد من الروايات في الآية و قد نقلنا بعضاً منها فيما تقدّم.

و إن أراد الدليل من الكتاب فمع أنّه تحكّم لا دليل عليه إذ السنّة قرينة الكتاب

٢٢٩

لا يفترقان في الحجّيّة يسأل عنه ما ذا يقول في ذبيحة الكفّار غير أهل الكتاب كالوثنيّين و المادّيّين؟ أ فيحرّمها لكونها ميتة فاقدة للتذكية الشرعيّة؟ فما الفرق بين عدم التذكية بعدم الاستقبال و عدم ذكر الله عليه أصلاً و بين التذكية الّتي هي غير التذكية الإسلاميّة و ليس يرتضيها الله سبحانه و قد نسخها؟ فالجميع خبائث في نظر الدين، و قد حرّم الله الخبائث، قال تعالى:( وَ يُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَ يُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ ) (الأعراف: ١٥٧) و قد قال تعالى في الآية السابقة على هذه الآية:( يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ ) و لحن السؤال و الجواب فيها أوضح دليل على حصر الحلّ في الطيّبات، و كذا ما في أوّل هذه الآية من قوله:( الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ ) و المقام مقام الامتنان يدلّ على الحصر المذكور.

و إن كان تحريم ذبائح الكفّار لكونها بالإهلال به لغير الله كالذبح باسم الأوثان عاد الكلام بعدم الفرق بين الإهلال به لغير الله، و الإهلال به لله على طريقة منسوخة لا يرتضيها الله سبحانه.

ثمّ قال: و قد شدّد الله فيما كان عليه مشركو العرب من أكل الميتة بأنواعها المتقدّمة و الذبح للأصنام لئلّا يتساهل به المسلمون الأوّلون تبعاً للعادة، و كان أهل الكتاب أبعد منهم عن أكل الميتة و الذبح للأصنام. انتهي.

و قد نسي أنّ النصارى من أهل الكتاب يأكلون لحم الخنزير، و قد ذكره الله تعالى و شدّد عليه، و أنّهم يأكلون جميع ما تستبيحه المشركون لارتفاع التحريم عنهم بالتفدية. على أنّ هذا استحسان سخيف لا يجدي نفعاً و لا يعوّل على مثله في تفسير كلام الله و فهم معاني آياته، و لا في فقه أحكام دينه.

ثمّ قال: و لأنّه كان من سياسة الدين التشديد في معاملة مشركي العرب حتّى لا يبقى في الجزيرة أحد إلّا و يدخل في الإسلام و خفّف في معاملة أهل الكتاب، ثمّ ذكر موارد من فتيا بعض الصحابة بحلّيّة ما ذبحوه للكنائس و غير ذلك. انتهي.

و هذا الكلام منه مبنيّ على ما يظهر من بعض الروايات أنّ الله اختار العرب

٢٣٠

على غيرهم من الاُمم، و أنّ لهم كرامة على غيرهم. و لذلك كانوا يسمّون غيرهم بالموالي، و لا يلائمه ظاهر الآيات القرآنيّة، و قد قال الله تعالى:( يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَ أُنْثى‏ وَ جَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَ قَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ الله أَتْقاكُمْ ) (الحجرات: ١٣) و من طرق أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام أحاديث كثيرة في هذا المعنى.

و لم يجعل الإسلام في دعوته العرب في جانب و غيرهم في جانب، بل إنّما جعل غير أهل الكتاب من المشركين سواء كانوا عرباً أو غيرهم في جانب، فلم يقبل منهم إلّا أن يسلموا و يؤمنوا، و أهل الكتاب سواء كانوا عرباً أو غيرهم في جانب، فقبل منهم الدخول في الذمّة و إعطاء الجزية إلّا أن يسلموا.

و هذا الوجه بعد تمامه لا يدلّ على أزيد من التساهل في حقّهم في الجملة لإبهامه، و أمّا أنّه يجب أن يكون بإباحة ذبائحهم إذا ذبحوها على طريقتهم و سنّتهم فمن أين له الدلالة على ذلك؟ و هو ظاهر.

و أمّا ما ذكره من عمل بعض الصحابة و قولهم إلى غير ذلك فلا حجّيّة فيه.

فقد تبيّن من جميع ما تقدّم عدم دلالة الآية و لا أيّ دليل آخر على حلّيّة ذبائح أهل الكتاب إذا ذبحت بغير التذكية الإسلاميّة. فإن قلنا بحلّيّة ذبائحهم للآية كما نقل عن بعض أصحابنا فلنقيّدها بما إذا علم وقوع الذبح عن تذكية شرعيّة كما يظهر من قول الصادقعليه‌السلام في خبر الكافي، و التهذيب، المتقدّم:( فإنّما هي الاسم و لا يؤمن عليها إلّا مسلم) الحديث. و للكلام تتمّة تطلب من الفقه.

و في تفسير العيّاشيّ، عن الصادقعليه‌السلام : في قوله تعالى:( وَ الْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ ) (الآية) قال: هنّ العفائف‏.

و فيه، عنهعليه‌السلام : في قوله:( وَ الْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ ) (الآية) قال: هنّ المسلمات.

و في تفسير القمّيّ، عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: و إنّما يحلّ نكاح أهل الكتاب الّذين يؤدّون الجزية، و غيرهم لم تحلّ مناكحتهم.

٢٣١

أقول: و ذلك لكونهم محاربين حينئذ.

و في الكافي، و التهذيب، عن الباقرعليه‌السلام : إنّما يحلّ منهنّ نكاح البله.

و في الفقيه، عن الصادقعليه‌السلام : في الرجل المؤمن يتزوّج النصرانيّة و اليهوديّة قال: إذا أصاب المسلمة فما يصنع باليهوديّة و النصرانيّة؟ فقيل: يكون له فيها الهوى فقال: إن فعل فليمنعها من شرب الخمر و أكل لحم الخنزير و اعلم أنّ عليه في دينه غضاضة

و في التهذيب، عن الصادقعليه‌السلام قال: لا بأس أن يتمتّع الرجل باليهوديّة و النصرانيّة و عنده حرّة.

و في الفقيه، عن الباقرعليه‌السلام : أنّه سئل عن الرجل المسلم أ يتزوّج المجوسيّة؟ قال: لا، و لكن إن كانت له اُمّة مجوسيّة فلا بأس أن يطأها، و يعزل عنها، و لا يطلب ولدها.

و في الكافي، بإسناده عن عبدالله بن سنان عن أبي عبداللهعليه‌السلام في حديث: قال: و ما اُحبّ للرجل المسلم أن يتزوّج اليهوديّة و النصرانيّة مخافة أن يتهوّد ولده أو يتنصّر.

و في الكافي، بإسناده عن زرارة، و في تفسير العيّاشيّ، عن مسعدة بن صدقة قال: سألت أباجعفرعليه‌السلام عن قول الله تعالى:( وَ الْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ ) فقال: منسوخة بقوله:( وَ لا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ ) .

أقول: و يشكل بتقدّم قوله:( وَ لا تُمْسِكُوا ) (الآية) على قوله:( وَ الْمُحْصَناتُ ) (الآية) نزولاً و لا يجوز تقدّم الناسخ على المنسوخ. مضافاً إلى ما ورد أنّ سورة المائدة ناسخة غير منسوخة، و قد تقدّم الكلام فيه. و من الدليل على أنّ الآية غير منسوخة ما تقدّم من الرواية الدالّة على جواز التمتّع بالكتابيّة و قد عمل بها الأصحاب و قد تقدّم في آية المتعة أنّ التمتّع نكاح و تزويج.

نعم لو قيل بكون قوله:( وَ لا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ ) (الآية) مخصّصاً متقدّماً خرج به النكاح الدائم من إطلاق قوله:( وَ الْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ )

٢٣٢

لدلالته على النهي عن الإمساك بالعصمة، و هو ينطبق على النكاح الدائم كما ينطبق على إبقاء عصمة الزوجيّة بعد إسلام الزوج و هو مورد نزول الآية.

و لا يصغي إلى قول من يعترض عليه بكون الآية نازلة في إسلام الزوج مع بقاء الزوجة على الكفر، فإنّ سبب النزول لا يقيّد اللّفظ في ظهوره، و قد تقدّم في تفسير آية النسخ من سورة البقرة في الجزء الأوّل من الكتاب أنّ النسخ في عرف القرآن و بحسب الأصل يعمّ غير النسخ المصطلح كالتخصيص.

و في بعض الروايات أيضاً أنّ الآية منسوخة بقوله:( وَ لا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ ) (الآية) و قد تقدّم الإشكال فيه، و للكلام تتمّة تطلب من الفقه.

و في تفسير العيّاشيّ، في قوله تعالى:( وَ مَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ ) (الآية): عن أبان بن عبدالرحمن قال: سمعت أباعبداللهعليه‌السلام يقول: أدنى ما يخرج به الرجل من الإسلام أن يرى الرأي بخلاف الحقّ فيقيم عليه قال:( وَ مَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ ) ، و قالعليه‌السلام : الّذي يكفر بالإيمان الّذي لا يعمل بما أمر الله به و لا يرضى به.

و فيه، عن محمّد بن مسلم عن أحدهماعليهما‌السلام قال: هو ترك العمل حتّى يدعه أجمع.

أقول: و قد تقدّم ما يتّضح به ما في هذه الأخبار من خصوصيّات التفسير.

و فيه، عن عبيد بن زرارة قال: سألت أباعبداللهعليه‌السلام عن قول الله عزّوجلّ:( وَ مَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ ) قال: ترك العمل الّذي أقرّبه، من ذلك أن يترك الصلاة من غير سقم و لا شغل.

أقول: و قد سمّى الله تعالى الصلاة إيماناً في قوله:( وَ ما كانَ الله لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ ) (البقرة: ١٤٣) و لعلّهعليه‌السلام خصّها بالذكر لذلك.

و في تفسير القمّيّ، قالعليه‌السلام : من آمن ثمّ أطاع أهل الشرك‏.

و في البصائر، عن أبي حمزة قال: سألت أباجعفرعليه‌السلام عن قول الله تبارك و تعالى:( وَ مَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَ هُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ ) قال: تفسيرها في بطن القرآن: و من يكفر بولاية عليّ. و عليّ هو الإيمان.

٢٣٣

أقول: هو من البطن المقابل للظهر بالمعنى الّذي بيّناه في الكلام على المحكم و المتشابه في الجزء الثالث من الكتاب و يمكن أن يكون من الجري و التطبيق على المصداق، و قد سمّى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليّاًعليه‌السلام إيماناً حينما برز إلى عمرو بن عبدودّ يوم الخندق‏ حيث قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( برز الإيمان كلّه إلى الكفر كلّه) .

و في هذا المعنى بعض روايات اُخر.

٢٣٤

( سورة المائدة الآيات ٦ - ٧)

يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فَاطّهّرُوا وَإِن كُنتُم مَرْضَى‏ أَوْ عَلَى‏ سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنكُم مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمّمُوا صَعِيداً طَيّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِنْ حَرَجٍ وَلكِن يُرِيدُ لِيُطَهّرَكُمْ وَلِيُتِمّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلّكُمْ تَشْكُرُونَ( ٦) وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الّذِي وَاثَقَكُم بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتّقُوا اللّهَ إِنّ اللّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصّدُورِ( ٧)

( بيان)

تتضمّن الآية الاُولى حكم الطهارات الثلاث: الوضوء و غسل الجنابة و التيمّم. و الآية التالية كالمتمّمة أو المؤكّدة لحكم الآية الاُولى، و في بيان حكم الطهارات الثلاث آية اُخرى تقدّمت في سورة النساء، و هي قوله تعالى:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَ أَنْتُمْ سُكارى‏ حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ وَ لا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى‏ تَغْتَسِلُوا وَ إِنْ كُنْتُمْ مَرْضى‏ أَوْ عَلى‏ سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَ أَيْدِيكُمْ إِنَّ الله كانَ عَفُوًّا غَفُوراً ) (النساء: ٤٣).

و هذه الآية أعني آية المائدة أوضح و أبين من آية النساء، و أشمل لجهات الحكم و لذلك أخّرنا بيان آية النساء إلى ههنا لسهولة التفهّم عند المقايسة.

قوله تعالى: ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ ) القيام إذا عدّي

٢٣٥

بإلى ربّما كنّي به عن إرادة الشي‏ء المذكور للملازمة و القران بينهما، فإنّ إرادة الشي‏ء لا تنفكّ عن الحركة إليه، و إذا فرض الإنسان مثلاً قاعداً لأنّه حال سكونه و لازم سباته عادة، و فرض الشي‏ء المراد فعلاً متعارفاً يتحرّك إليه عادة كان ممّا يحتاج في إتيانه إلى القيام غالباً، فأخذ الإنسان في ترك السكون و الانتصاب لإدراك العمل هو القيام إلى الفعل، و هو يلازم الإرادة. و نظيره قوله تعالى:( وَ إِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ ) (النساء: ١٠٢) أي أردت أن تقيم لهم الصلاة. و عكسه من وجه قوله تعالى:( وَ إِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَ آتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً ) (النساء: ٢٠) أي إذا طلّقتم زوجاً و تزوّجتم باُخرى، فوضعت إرادة الفعل و طلبه مقام القيام به.

و بالجملة الآية تدلّ على اشتراط الصلاة بما تذكره من الغسل و المسح أعني الوضوء و لو تمّ لها إطلاق لدلّ على اشتراط كلّ صلاة بوضوء مع الغض عن قوله:( وَ إِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا ) لكنّ الآيات المشرّعة قلّما يتمّ لها الإطلاق من جميع الجهات. على أنّه يمكن أن يكون قوله الآتي:( وَ لكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ ) مفسّراً لهذا الاشتراط على ما سيجي‏ء من الكلام. هذا هو المقدار الّذي يمكن أن يبحث عنه في تفسير الآية، و الزائد عليه ممّا أطنب فيه المفسّرون بحث فقهيّ خارج عن صناعة التفسير.

قوله تعالى: ( فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ ) الغسل بفتح الغين إمرار الماء على الشي‏ء، و يكون غالباً لغرض التنظيف و إزالة الوسخ و الدرن و الوجه ما يستقبلك من الشي‏ء، و غلب في الجانب المقبل من رأس الإنسان مثلاً، و هو الجانب الّذي فيه العين و الأنف و الفم، و يعيّن بالظهور عند المشافهة، و قد فسّر في الروايات المنقولة عن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام بما بين قصاص الشعر من الناصية و آخر الذقن طولاً، و ما دارت عليه الإبهام و الوسطى و السبّابة، و هناك تحديدات اُخر ذكرها المفسّرون و الفقهاء.

و الأيدي جمع يد و هي العضو الخاصّ الّذي به القبض و البسط و البطش و غير ذلك، و هو ما بين المنكب و أطراف الأصابع، و إذ كانت العناية في الأعضاء بالمقاصد

٢٣٦

الّتي يقصدها الإنسان منها كالقبض و البسط في اليد مثلاً، و كان المعظم من مقاصد اليد تحصل بما دون المرفق إلى أطراف الأصابع سمّي أيضاً باليد، و لذلك بعينه ما سمّي ما دون الزند إلى أطراف الأصابع فصار اللّفظ بذلك مشتركاً أو كالمشترك بين الكلّ و الأبعاض.

و هذا الاشتراك هو الموجب لذكر القرينة المعيّنة إذا اُريد به أحد المعاني، و لذلك قيّد تعالى قوله:( وَ أَيْدِيَكُمْ ) بقوله:( إِلَى الْمَرافِقِ ) ليتعيّن أنّ المراد غسل اليد الّتي تنتهي إلى المرافق، ثمّ القرينة أفادت أنّ المراد به القطعة من العضو الّتي فيها الكفّ، و كذا فسّرتها السنّة. و الّذي يفيده الاستعمال في لفظة( إِلَى ) أنّها لانتهاء الفعل الّذي لا يخلو من امتداد الحركة، و أمّا دخول مدخول( إِلَى ) في حكم ما قبله أو عدم دخوله فأمر خارج عن معنى الحرف، فشمول حكم الغسل للمرافق لا يستند إلى لفظة( إِلَى ) بل إلى ما بيّنه السنّة من الحكم.

و ربّما ذكر بعضهم أنّ( إِلَى ) في الآية بمعنى مع كقوله تعالى:( وَ لا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى‏ أَمْوالِكُمْ ) (النساء: ٢) و قد استند في ذلك إلى ما ورد في الروايات أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يغسلهما إذا توضّأ، و هو من عجيب الجرأة في تفسير كلام الله، فإنّ ما ورد من السنّة في ذلك إمّا فعل و الفعل مبهم ذو وجوه فكيف يسوغ أن يحصّل بها معنى لفظ من الألفاظ حتّى يعدّ ذلك أحد معاني اللّفظ؟ و إمّا قول وارد في بيان الحكم دون تفسير الآية، و من الممكن أن يكون وجوب الغسل للمقدّمة العلميّة أو ممّا زاده النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و كان له ذلك كما فعلهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الصلوات الخمس على ما وردت به الروايات الصحيحة.

و أمّا قوله تعالى:( وَ لا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى‏ أَمْوالِكُمْ ) فهو من قبيل تضمين الأكل معنى الضمّ و نحوه ممّا يتعدّى بإلى لا أنّ لفظة( إِلَى ) هنالك بمعنى مع.

و قد تبيّن بما مرّ أنّ قوله:( إِلَى الْمَرافِقِ ) قيد لقوله:( أَيْدِيَكُمْ ) فيكون الغسل المتعلّق بها مطلقاً غير مقيّد بالغاية يمكن أن يبدأ فيه من المرفق إلى أطراف الأصابع و هو الّذي يأتي به الإنسان طبعاً إذا غسل يده في غير حال الوضوء من سائر الأحوال

٢٣٧

أو يبدء من أطراف الأصابع و يختم بالمرفق، لكنّ الأخبار الواردة من طرق أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام تفتي بالنحو الأوّل دون الثاني.

و بذلك يندفع ما ربّما يقال: إنّ تقييد الجملة بقوله:( إِلَى الْمَرافِقِ ) يدلّ على وجوب الشروع في الغسل من أطراف الأصابع و الانتهاء إلى المرافق. وجه الاندفاع أنّ الإشكال مبنيّ على كون قوله:( إِلَى الْمَرافِقِ ) قيداً لقوله:( فَاغْسِلُوا ) و قد تقدّم أنّه قيد للأيدي، و لا مناص منه لكونه مشتركاً محتاجاً إلى القرينة المعيّنة، و لا معنى لكونه قيداً لهما جميعاً.

على أنّ الاُمّة أجمعت على صحّة وضوء من بدأ في الغسل بالمرافق و انتهى إلى أطراف الأصابع كما في المجمع، و ليس إلّا لأنّ الآية تحتمله: و ليس إلّا لأنّ قوله:( إِلَى الْمَرافِقِ ) قيد للأيدي دون الغسل.

قوله تعالى: ( وَ امْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ) المسح: إمرار اليد أو كلّ عضو لامس على الشي‏ء بالمباشرة، يقال. مسحت الشي‏ء و مسحت بالشي‏ء، فإذا عدّي بنفسه أفاد الاستيعاب، و إذا عدّي بالباء دلّ على المسح ببعضه من غير استيعاب و إحاطة.

فقوله:( وَ امْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ ) يدلّ على مسح بعض الرأس في الجملة، و أمّا أنّه أيّ بعض من الرأس فممّا هو خارج من مدلول الآية، و المتكفّل لبيانه السنّة، و قد صحّ أنّه جانب الناصية من الرأس.

و أمّا قوله:( وَ أَرْجُلَكُمْ ) فقد قرئ بالجرّ، و هو لا محالة بالعطف على رؤسكم. و ربّما قال القائل: إنّ الجرّ للإتباع، كقوله:( وَ جَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْ‏ءٍ حَيٍّ ) (الأنبياء: ٣٠) و هو خطأ فإنّ الإتباع على ما ذكروه لغة رديئة لا يحمل عليها كلام الله تعالى. و أمّا قوله:( كُلَّ شَيْ‏ءٍ حَيٍّ ) فإنّما الجعل هناك بمعنى الخلق، و ليس من الإتباع في شي‏ء.

على أنّ الإتباع - كما قيل - إنّما ثبت في صورة اتّصال التابع و المتبوع كما قيل في قولهم: جحر ضبّ خرب بجرّ الخرب، اتباعاً لا في مثل المورد ممّا يفضل العاطف بين الكلمتين.

و قرأ:( وَ أَرْجُلَكُمْ ) - بالنصب - و أنت إذا تلقّيت الكلام مخلّي الذهن غير مشوب

٢٣٨

الفهم لم يلبث دون أن تقضي أنّ( أَرْجُلَكُمْ ) معطوف على موضع( بِرُؤُسِكُمْ ) و هو النصب، و فهمت من الكلام وجوب غسل الوجه و اليدين، و مسح الرأس و الرجلين، و لم يخطر ببالك أن تردّ( أَرْجُلَكُمْ ) إلى( وُجُوهَكُمْ ) في أوّل الآية مع انقطاع الحكم في قوله:( فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ ) بحكم آخر و هو قوله:( فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ ) ، فإنّ الطبع السليم يأبى عن حمل الكلام البليغ على ذلك، و كيف يرضى طبع متكلّم بليغ أن يقول مثلاً: قبّلت وجه زيد و رأسه و مسحت بكتفه و يده بنصب يد عطفاً على( وجه زيد) مع انقطاع الكلام الأوّل، و صلاحيّة قوله:( يده) لأن يعطف على محلّ المجرور المتّصل به، و هو أمر جائز دائر كثير الورود في كلامهم.

و على ذلك وردت الروايات عن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام و أمّا الروايات من طرق أهل السنّة فإنّها و إن كانت غير ناظرة إلى تفسير لفظ الآية، و إنّما تحكي عمل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و فتوى بعض الصحابة، لكنّها مختلفة: منها ما يوجب مسح الرجلين، و منها ما يوجب غسلهما.

و قد رجّح الجمهور منهم أخبار الغسل على أخبار المسح، و لا كلام لنا معهم في هذا المقام لأنّه بحث فقهيّ راجع إلى علم الفقه، خارج عن صناعة التفسير.

لكنّهم مع ذلك حاولوا تطبيق الآية على ما ذهبوا إليه من الحكم الفقهيّ بتوجيهات مختلفة ذكروها في المقام، و الآية لا تحتمل شيئاً منها إلّا مع ردّها من أوج بلاغتها إلى مهبط الرداءة.

فربّما قيل: إنّ( أَرْجُلَكُمْ ) عطف على( وُجُوهَكُمْ ) كما تقدّم هذا على قراءة النصب، و أمّا على قراءة الجرّ فتحمل على الإتباع، و قد عرفت أنّ شيئاً منهما لا يحتمله الكلام البليغ الّذي يطابق فيه الوضع الطبع.

و ربّما قيل في توجيه قراءة الجرّ: إنّه من قبيل العطف في اللّفظ دون المعنى كقوله: علّفتها تبناً و ماءً بارداً.

و فيه أنّ مرجعه إلى تقدير فعل يعمل عملاً يوافق إعراب حال العطف كما يدلّ عليه ما استشهد به من الشعر. و هذا المقدّر في الآية إمّا( فَاغْسِلُوا ) و هو يتعدّى بنفسه

٢٣٩

لا بحرف الجرّ، و إمّا غيره و هو خلاف ظاهر الكلام لا دليل عليه من جهة اللّفظ البتّة و أيضاً ما استشهد به من الشعر إمّا من قبيل المجاز العقليّ، و إمّا بتضمين علّفت معنى أعطيت و أشبعت و نحوهما. و أيضاً الشعر المستشهد به يفسد معناه لو لم يعالج بتقدير و نحوه، فهناك حاجة إلى العلاج قطعيّة، و أمّا الآية فلا حاجة فيها إلى ذلك من جهة اللّفظ يقطع بها.

و ربّما قيل في توجيه الجرّ بناءً على وجوب غسل الأرجل: إنّ العطف في محلّه غير أنّ المسح خفيف الغسل فهو غسل بوجه فلا مانع من أن يراد بمسح الأرجل غسلها، و يقوّي ذلك أنّ التحديد و التوقيت إنّما جاء في المغسول و هو الوجه، و لم يجي‏ء في الممسوح فلمّا رفع التحديد في المسح و هو قوله:( وَ أَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ) علم أنّه في حكم الغسل لموافقته الغسل في التحديد.

و هذا من أردء الوجوه، فإنّ المسح غير الغسل و لا ملازمة بينهما أصلاً. على أنّ حمل مسح الأرجل على الغسل دون مسح الرؤوس ترجيح بلا مرجّح. و ليت شعري ما ذا يمنعه أن يحمل كلّ ما ورد فيه المسح مطلقاً في كتاب أو سنّة على الغسل و بالعكس و ما المانع حينئذ أن يحمل روايات الغسل على المسح، و روايات المسح على الغسل فتعود الأدلّة عن آخرها مجملات لا مبيّن لها؟.

و أمّا ما قوّاه به فهو من تحميل الدلالة على اللّفظ بالقياس، و هو من أفسد القياسات.

و ربّما قيل: إنّ الله أمر بعموم مسح الرجلين بالماء في الوضوء كما أمر بعموم مسح الوجه بالتراب في التيمّم فإذا فعل ذلك بهما المتوضّئ كان مستحقّاً اسم ماسح غاسل، لأنّ غسلهما إمرار الماء عليهما أو إصابتهما بالماء، و مسحهما إمرار اليد أو ما قام مقام اليد عليهما، فإذا فعل ذلك بهما فاعل فهو غاسل ماسح، فالنصب في قوله:( أَرْجُلَكُمْ ) بعناية أنّ الواجب هو غسلهما، و الجرّ بعناية أنّه ماسح بالماء غسلاً، انتهى ملخّصاً.

و ما أدري كيف يثبت بهذا الوجه أنّ المراد بمسح الرأس في الآية هو المسح

٢٤٠