الميزان في تفسير القرآن الجزء ٥

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 444

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 444
المشاهدات: 86789
تحميل: 10312


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 444 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 86789 / تحميل: 10312
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 5

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

من غير غسل، و بمسح الرجلين هو المسح بالغسل؟ و هذا الوجه هو الوجه السابق بعينه و يزيد عليه فساداً، و لذلك يرد على هذا ما يرد على ذاك.

و يزيد عليه إشكالاً أنّ قوله: إنّ الله أمر بعموم مسح الرجلين في الوضوء إلخ الّذي قاس فيه الوضوء على التيمّم إن أراد به قياس الحكم على الحكم أعني ما ثبت عنده بالروايات فأيّ دلالة له على دلالة الآية على ذلك؟ و ليست الروايات - كما عرفت - بصدد تفسير لفظ الكتاب، و إن أراد به قياس قوله:( وَ امْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ) في الوضوء على قوله:( فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَ أَيْدِيكُمْ مِنْهُ ) في التيمّم فهو ممنوع في المقيس و المقيس عليه جميعاً فإنّ الله تعالى عبّر في كليهما بالمسح المتعدّي بالباء، و قد تقدّم أنّ المسح المتعدّي بالباء لا يدلّ في اللّغة على استيعاب المسح الممسوح، و أنّ الّذي يدلّ على ذلك هو المسح المتعدّي بنفسه.

و هذه الوجوه و أمثالها ممّا وجّهت بها الآية بحملها على خلاف ظاهرها حفظاً للروايات فراراً من لزوم مخالفة الكتاب فيها، و لو جاز لنا تحميل معنى الرواية على الآية بتأويل الآية بحملها على خلاف ظاهرها لم يتحقّق لمخالفة الكتاب مصداق.

فالأحرى للقائل بوجوب غسل الرجلين في الوضوء أن يقول كما قال بعض السلف كأنس و الشعبيّ و غيرهما على ما نقل عنهم: أنّه نزل جبرئيل بالمسح و السنّة الغسل، و معناه نسخ الكتاب بالسنّة. و ينتقل البحث بذلك عن المسألة التفسيريّة إلى المسألة الاُصوليّة: (هل يجوز نسخ الكتاب بالسنّة أو لا يجوز)، و البحث فيه من شأن الاُصوليّ دون المفسّر، و ليس قول المفسّر بما هو مفسّر: إنّ الخبر الكذائيّ مخالف للكتاب إلّا للدلالة على أنّه غير ما يدلّ عليه ظاهر الكتاب دلالة معوّلاً عليها في الكشف عن المراد دون الفتيا بالحكم الشرعيّ الّذي هو شأن الفقيه.

و أمّا قوله تعالى:( إِلَى الْكَعْبَيْنِ ) فالكعب هو العظم الناتئ في ظهر القدم. و ربّما قيل: إنّ الكعب هو العظم الناتئ في مفصل الساق و القدم، و هما كعبان في كلّ قدم في المفصل.

قوله تعالى: ( وَ إِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا ) الجنب في الأصل مصدر غلب عليه

٢٤١

الاستعمال بمعنى اسم الفاعل، و لذلك يستوي فيه المذكّر و المؤنّث و المفرد و غيره، يقال: رجل جنب و امرأة جنب و رجلان أو امرأتان جنب، و رجال أو نساء جنب، و اختصّ الاستعمال بمعنى المصدر للجنابة.

و الجملة أعني قوله:( وَ إِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا ) معطوفة على قوله:( فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ ) لأنّ الآية مسوقة لبيان اشتراط الصلاة بالطهارة فالتقدير: و تطهّروا إن كنتم جنباً، فيؤول إلى تقدير شرط الخلاف في جانب الوضوء و تقدير الكلام: فاغسلوا وجوهكم و أيديكم و امسحوا برؤوسكم و أرجلكم إن لم تكونوا جنباً و إن كنتم جنباً فاطّهّروا و يستفاد من ذلك أنّ تشريع الوضوء إنّما هو في حال عدم الجنابة، و أمّا عند الجنابة فالغسل فحسب كما دلّت عليه الأخبار.

و قد بيّن الحكم بعينه في آية النساء بقوله:( وَ لا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى‏ تَغْتَسِلُوا ) فهذه الآية تزيد على تلك الآية بياناً بتسمية الاغتسال تطهّراً، و هذا غير الطهارة الحاصلة بالغسل، فإنّها أثر مترتّب، و هذا نفس الفعل الّذي هو الاغتسال و قد سمّي تطهّراً كما يسمّى غسل أوساخ البدن بالماء تنظّفاً.

و يستفاد من ذلك ما ورد في بعض الأخبار من قولهعليه‌السلام :( ما جرى عليه الماء فقد طهر) .

قوله تعالى: ( وَ إِنْ كُنْتُمْ مَرْضى‏ أَوْ عَلى‏ سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا ) شروع في بيان حكم من لا يقدر على الماء حتّى يغسل أو يغتسل.

و الّذي ذكر من الموارد و عدّ بالترديد ليس بعضها يقابل بعضاً مقابلة حقيقيّة، فإنّ المرض و السفر ليسا بنفسهما يوجبان حدثاً مستدعياً للطهارة بالوضوء أو الغسل بل إنّما يوجبانه إذا أحدث المكلّف معهما حدثاً صغيراً أو كبيراً، فالشقّان الأخيران لا يقابلان الأوّلين بل كلّ من الأوّلين كالمنقسم إلى الأخيرين، و لذلك احتمل بعضهم أن يكون( أَوْ ) في قوله:( أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ ) ، بمعنى الواو كما سيجي‏ء، على أنّ العذر لا ينحصر في المرض و السفر بل له مصاديق اُخر.

٢٤٢

لكنّ الله سبحانه ذكر المرض و السفر و هما مظنّة عدم التمكّن من الماء غالباً، و ذكر المجي‏ء من الغائط و ملامسة النساء و فقدان الماء معهما اتّفاقيّ، و من جهة اُخرى - و هي عكس الجهة الاُولى - عروض المرض و السفر للإنسان بالنظر إلى بنيته الطبيعيّة أمر اتّفاقيّ بخلاف التردّد إلى الغائط و ملامسة النساء فإنّهما من حاجة الطبيعة: أحدهما يوجب الحدث الأصغر الّذي يرتفع بالوضوء، و الآخر الحدث الأكبر الّذي يرتفع بالغسل.

فهذه الموارد الأربع موارد يبتلى الإنسان ببعضها اتّفاقاً و ببعضها طبعاً. و هي تصاحب فقدان الماء غالباً كالمرض و السفر أو اتّفاقاً كالتخلّي و المباشرة إذا انضمّ إليها عدم وجدان الماء فالحكم هو التيمّم.

و على هذا يكون عدم وجدان الماء كناية عن عدم القدرة على الاستعمال. كنّى به عنه لأنّ الغالب هو استناد عدم القدرة إلى عدم الوجدان، و لازم ذلك أن يكون عدم الوجدان قيداً لجميع الاُمور الأربعة المذكورة حتّى المرض.

و قد تبيّن بما قدّمناهأوّلاً : أنّ المراد بالمرض في قوله:( كُنْتُمْ مَرْضى) هو المرض الّذي يتحرّج معه الإنسان من استعمال الماء و يتضرّر به على ما يعطيه التقييد بقوله:( فَلَمْ تَجِدُوا ماءً ) و يفيده أيضاً سياق الكلام في الآية.

و ثانياً : أنّ قوله:( أَوْ عَلى‏ سَفَرٍ ) شقّ برأسه يبتلى به الإنسان اتّفاقاً و يغلب عليه فيه فقدان الماء، فليس بمقيّد بقوله:( أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ ) إلخ بل هو معطوف على قوله:( فَاغْسِلُوا ) و التقدير: إذا قمتم إلى الصلاة و كنتم على سفر و لم تجدوا ماءً فتيمّموا، فحال هذا الفرض في إطلاقه و عدم تقيّده بوقوع أحد الحدثين حال المعطوف عليه أعني قوله:( إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا ) إلخ فكما لم يحتج إلى التقييد ابتداءً لم يحتج إليه ثانياً عند العطف.

و ثالثاً : أنّ قوله:( أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ ) شقّ آخر مستقلّاً و ليس كما قيل: إنّ( أَوْ ) فيه بمعنى الواو كقوله تعالى:( وَ أَرْسَلْناهُ إِلى‏ مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ ) (الصافّات: ١٤٧) لما عرفت من عدم الحاجة إلى ذلك. على أنّ( أَوْ ) في الآية

٢٤٣

المستشهد بها ليس إلّا بمعناها الحقيقيّ، و إنّما الترديد راجع إلى كون المقام مقاماً يتردّد فيه بالطبع لا لجهل في المتكلّم كما يقال بمثله في الترجّي و التمنّي الواقعين في القرآن كقوله:( لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) (البقرة: ٢١)، و قوله:( لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ ) (البقرة: ١٠٢).

و حكم هذه الجملة في العطف حكم سابقتها، و التقدير: إذا قمتم إلى الصلاة و كان جاء أحد منكم من الغائط و لم تجدوا ماءً فتيمّموا.

و ليس من البعيد أن يستفاد من ذلك عدم وجوب إعادة التيمّم أو الوضوء لمن لم تنتقض طهارته بالحدث الأصغر إن كان على طهارة بناءً على مفهوم الشرط فيتأيّد به من الروايات ما يدلّ على عدم وجوب التطهّر لمن كان على طهارة.

و في قوله تعالى:( أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ ) من الأدب البارع ما لا يخفى للمتدبّر حيث كنّى عن المراد بالمجي‏ء من الغائط، و الغائط هو المكان المنخفض من الأرض و كانوا يقصدونه لقضاء الحاجة ليتستّروا به من الناس تأدّباً، و استعمال الغائط في معناه المعروف اليوم استعمال مستحدث من قبيل الكنايات المبتذلة كما أنّ لفظ العذرة كذلك، و الأصل في معناها عتبة الباب سمّيت بها لأنّهم كانوا يخلّون ما اجتمع في كنيف البيت فيها على ما ذكره الجوهريّ في الصحاح.

و لم يقل: أو جئتم من الغائط لما فيه من تعيين المنسوب إليه، و كذا لم يقل: أو جاء أحدكم من الغائط لما فيه من الإضافة الّتي فيها شوب التعيين بل بالغ في الإبهام فقال:( أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ ) رعاية لجانب الأدب.

و رابعاً : أنّ قوله:( أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ ) كسابقه شقّ من الشقوق المفروضة مستقلّ و حكمه في العطف و المعنى حكم سابقه، و هو كناية عن الجماع أدباً صوناً للّسان من التصريح بما تأبى الطباع عن التصريح به.

فإن قلت: لو كان كذلك كان التعبير بمثل ما عبّر به عنه سابقاً بقوله:( وَ إِنْ كُنْتُمْ جُنُباً ) اُولى لكونه أبلغ في رعاية الأدب.

قلت: نعم لكنّه كان يفوّت نكتة مرعيّة في الكلام، و هي الدلالة على كون الأمر ممّا يقتضيه الطبيعة كما تقدّم بيانه، و التعبير بالجنابة فاقد للإشعار بهذه النكتة.

٢٤٤

و ظهر أيضاً فساد ما نسب إلى بعضهم: أنّ المراد بملامسة النساء هو الملامسة حقيقة بنحو التصريح من غير أن تكون كناية عن الجماع. وجه فساده أنّ سياق الآية لا يلائمه، و إنّما يلائم الكناية فإنّ الله سبحانه ابتدأ في كلامه ببيان حكم الحدث الأصغر بالوضوء و حكم الجنابة بالغسل في الحال العاديّ، و هو حال وجدان الماء، ثمّ انتقل الكلام إلى بيان الحكم في الحال غير العاديّ، و هو حال فقدان الماء فبيّن فيه حال بدل الوضوء و هو التيمّم فكان الأحرى و الأنسب بالطبع أن يذكر حال بدل الغسل أيضاً، و هو قرين الوضوء، و قد ذكر ما يمكن أن ينطبق عليه، و هو قوله:( أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ ) على سبيل الكناية، فالمراد به ذلك لا محالة، و لا وجه لتخصيص الكلام ببيان حكم بدل الوضوء و هو أحد القرينين، و إهمال حكم بدل القرين الآخر و هو الغسل رأساً.

و خامساً : يظهر بما تقدّم فساد ما اُورد على الآية من الإشكالات: فمنها أنّ ذكر المرض و السفر مستدرك، فإنّهما إنّما يوجبان التيمّم بانضمام أحد الشقّين الأخيرين و هو الحدث و الملامسة، مع أنّهما يوجبانه و لو لم يكن معهما مرض أو سفر فذكر الأخيرين يغني عن ذكر الأوّلين. و الجواب أنّ ذكر الشقّين الأخيرين ليس لغرض انضمامهما إلى أحد الأوّلين بل كلّ من الأربعة شقّ مستقلّ مذكور لغرض خاصّ به يفوت بحذفه من الكلام على ما تقدّم بيانه.

و منها: أنّ الشقّ الثاني و هو قوله:( أَوْ عَلى‏ سَفَرٍ ) مستدرك و ذلك بمثل ما وجّه به الإشكال السابق غير أنّ المرض لمّا كان عذره الموجب للانتقال إلى البدل هو عدم التمكّن من استعمال الماء الموجود لا عدم وجدان الماء كان من اللّازم أن يقدّر له ذلك في الكلام، و لا يغني عن ذكره ذكر الشقّين الأخيرين مع عدم وجدان الماء، و نتيجة هذا الوجه كون السفر مستدركاً فقط. و الجواب أنّ عدم الوجدان في الآية كناية عن عدم التمكّن من استعمال الماء أعمّ من صورة وجدانه أو فقدانه كما تقدّم.

و منها: أنّ قوله:( فَلَمْ تَجِدُوا ماءً ) يغني عن ذكر جميع الشقوق، و لو قيل مكان قوله:( وَ إِنْ كُنْتُمْ مَرْضى) إلخ:( و إن لم تجدوا ماء) لكان أوجز و أبين، و الجواب: أنّ فيه إضاعة لما تقدّم من النكات.

٢٤٥

و منها: أن لو قيل: و إن لم تقدروا على الماء أو ما يفيد معناه كان أولى، لشموله عذر المرض مضافاً إلى عذر غيره. و الجواب: أنّه اُفيد بالكناية، و هي أبلغ.

قوله تعالى: ( فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَ أَيْدِيكُمْ مِنْهُ ) التيمّم هو القصد، و الصعيد هو وجه الأرض، و توصيفه بالطيب - و الطيب في الشي‏ء كونه على حال يقتضيه طبعه - للإشارة إلى اشتراط كونه على حاله الأصليّ كالتراب و الأحجار العاديّة دون ما خرج من الأرضيّة بطبخ أو نضج أو غير ذلك من عوامل التغيير كالجصّ و النورة و الخزف و الموادّ المعدنيّة، قال تعالى:( وَ الْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَ الَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً ) (الأعراف: ٥٨) و من ذلك يستفاد الشروط الّتي أخذت السنّة في الصعيد الّذي يتيمّم به.

و ربّما يقال: إنّ المراد بالطيب الطهارة، فيدلّ على اشتراط الطهارة في الصعيد.

و قوله:( فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَ أَيْدِيكُمْ مِنْهُ ) ينطبق ما ذكره في التيمّم للمسح على ما ذكره في الوضوء للغسل، فالتيمّم في الحقيقة وضوء اُسقطت فيه المسحتان: مسح الرأس و مسح الرجلين، و اُبدلت فيه الغسلتان: غسلة الوجه و اليدين إلى المرفقين بالمسحتين، و اُبدل الماء بالتراب تخفيفاً.

و هذا يشعر بأنّ العضوين في التيمّم هما العضوان في الوضوء، و لمّا عبّر تعالى بالمسح المتعدّي بالباء دلّ ذلك على أنّ المعتبر في التيمّم هو مسح بعض عضوي الغسل في الوضوء أعني بعض الوجه، و بعض اليد إلى المرفق، و ينطبق على ما ورد من طرق أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام من تحديد الممسوح من الوجه بما بين الجبينين و الممسوح من اليد بما دون الزند منها.

و بذلك يظهر فساد ما ذكره بعضهم من تحديد اليد بما دون الإبطين. و ما ذكره آخرون أنّ المعتبر من اليد في التيمّم عين ما اعتبر في الوضوء و هو ما دون المرفق، و ذلك أنّه لا يلائم المسح المتعدّي بالباء الدالّ على مرور الماسح ببعض الممسوح.

و( من ) في قوله:( مِنْهُ ) كأنّها ابتدائيّة و المراد أن يكون المسح بالوجه و اليدين مبتدءاً من الصعيد، و قد بيّنته السنّة بأنّه بضرب اليدين على الصعيد و مسحهما بالوجه و اليدين.

٢٤٦

و يظهر من بعضهم: أنّ( من ) ههنا تبعيضيّة فتفيد أن يكون في اليدين بعد الضرب بقيّة من الصعيد كغبار و نحوه بمسح الوجه و اليدين و استنتج منه وجوب كون الصعيد المضروب عليه مشتملاً على شي‏ء من الغبار يمسح منه بالوجه و اليدين فلا يصحّ التيمّم على حجر أملس لم يتعلّق به غبار، و الظاهر ما قدّمناه - و الله أعلم - و ما استنتجه من الحكم لا يختصّ بما احتمله.

قوله تعالى: ( ما يُرِيدُ الله لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَ لكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ ) دخول( مِنَ ) على مفعول( ما يُرِيدُ ) لتأكيد النفي، فلا حكم يراد به الحرج بين الأحكام الدينيّة أصلاً، و لذلك علّق النفي على إرادة الجعل دون نفس الحرج.

و الحرج حرجان: حرج يعرض ملاك الحكم و مصلحته المطلوبة، و يصدر الحكم حينئذ حرجيّاً بذاته لتبعيّة ملاكه كما لو حرّم الالتذاذ من الغذاء لغرض حصول ملكة الزهد، فالحكم حرجيّ من رأس، و حرج بعرض الحكم من خارج عن أسباب اتّفاقيّة فيكون بعض أفراده حرجيّاً و يسقط الحكم حينئذ في تلك الأفراد الحرجيّة لا في غيرها ممّا لا حرج فيه، كمن يتحرّج عن القيام في الصلاة لمرض يضرّه معه ذلك، و يسقط حينئذ وجوب القيام عنه لا عن غيره ممّن يستطيعه.

و إضرابه تعالى بقوله:( وَ لكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ ) ، عن قوله:( ما يُرِيدُ الله لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ ) يدلّ على أنّ المراد بالآية نفي الحرج الّذي في الملاك أي إنّ الأحكام الّتي يجعلها عليكم ليست بحرجيّة شرّعت لغرض الحرج، و ذلك لأنّ معنى الكلام أنّ مرادنا بهذه الأحكام المجعولة تطهيركم و إتمام النعمة و هو الملاك، لا أن نشقّ عليكم و نحرّجكم، و لذلك لمّا وجدنا الوضوء و الغسل حرجيّين عليكم عند فقدان الماء انتقلنا من إيجاب الوضوء و الغسل إلى إيجاب التيمّم الّذي هو في وسعكم، و لم يبطل حكم الطهارة من رأس لإرادة تطهيركم و إتمام النعمة عليكم لعلكم تشكرون.

قوله تعالى: ( وَ لكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَ لِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) لازم ما تقدّم من معنى نفي إرادة الحرج أن يكون المراد بقوله:( يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ ) أنّ

٢٤٧

تشريع الوضوء و الغسل و التيمّم إنّما هو حصول الطهارة فيكم لكونها أسباباً لذلك، و هذه الطهارة أيّاً مّا كانت ليست بطهارة عن الخبث بل هي طهارة معنويّة حاصلة بأحد هذه الأعمال الثلاثة، و هي الّتي تشترط بها الصلاة في الحقيقة.

و من الممكن أن يستفاد من ذلك عدم وجوب الإتيان بعمل الطهارة عند القيام إلى كلّ صلاة إذا كان المصلّي على طهارة غير منقوضة، و لا ينافي ذلك ظهور صدر الآية في الإطلاق لأنّ التشريع أعمّ ممّا يكون على سبيل الوجوب.

و أمّا قوله:( وَ لِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ ) ، فقد مرّ معنى النعمة و إتمامها في الكلام على قوله تعالى:( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي ) (المائدة: ٣) و معنى الشكر في الكلام على قوله تعالى:( وَ سَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ ) (آل عمران: ١٤٤) في الجزء الرابع من الكتاب.

فالمراد بالنعمة في الآية هو الدين لا من حيث أجزائه من المعارف و الأحكام، بل من حيث كونه إسلام الوجه لله في جميع الشؤون، و هو ولاية الله على العباد بما يحكم فيهم، و إنّما يتمّ ذلك باستيفاء التشريع جميع الأحكام الدينيّة الّتي منها حكم الطهارات الثلاث.

و من هنا يظهر أنّ بين الغايتين أعني قوله:( لِيُطَهِّرَكُمْ ) و قوله:( لِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ ) فرقاً، و هو أنّ الطهارة غاية لتشريع الطهارات الثلاث بخلاف إتمام النعمة، فإنّه غاية لتشريع جميع الأحكام، و ليس للطهارات الثلاث منها إلّا سهمها، فالغايتان خاصّة و عامّة.

و على هذا فالمعنى: و لكن نريد بجعل الطهارات الثلاث حصول الطهارة بها خاصّة لكم، و لأنّها بعض الدين الّذي يتمّ بتشريع جميعها نعمة الله عليكم لعلّكم تشكرون الله على نعمته فيخلصكم لنفسه، فافهم ذلك.

قوله تعالى: ( وَ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَ مِيثاقَهُ الّذي واثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَ أَطَعْنا ) ، هذا هو الميثاق الّذي كان مأخوذاً منهم على الإسلام كما تشهد به تذكرته

٢٤٨

لهم بقوله:( إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَ أَطَعْنا ) فإنّه السمع المطلق، و الطاعة المطلقة، و هو الإسلام لله فالمعنيّ بالنعمة في قوله:( وَ اذْكُرُوا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ ) هو المواهب الجميلة الّتي وهبهم الله سبحانه إيّاها في شعاع الإسلام، و هو التفاضل الّذي بين حالهم في جاهليّتهم و حالهم في إسلامهم من الأمن و العافية و الثروة و صفاء القلوب و طهارة الأعمال كما قال تعالى:( وَ اذْكُرُوا نِعْمَتَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَ كُنْتُمْ عَلى‏ شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها ) (آل عمران: ١٠٣).

أو أنّ الإسلام بحقيقته هو المراد بالنعمة، فإنّه اُمّ النعم ترتضع منها كلّ نعمة كما تقدّم بيانه، و غير مخفيّ عليك أنّ المراد بكون النعمة هي الإسلام بحقيقته أو الولاية إنّما هو تعيين المصداق دون تشخيص مفهوم اللّفظ، فإنّ المفهوم هو الّذي يشخّصه اللّغة، و لا كلام لنا فيه.

ثمّ ذكّرهم نفسه و أنّه عالم بخفايا زوايا القلوب، فأمرهم بالتقوى بقوله:( وَ اتَّقُوا الله إِنَّ الله عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ ) .

( بحث روائي)

في التهذيب، مسنداً عن الصادقعليه‌السلام : في قوله تعالى:( إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ ) قال: إذا قمتم من النوم قال الراوي: - و هو ابن بكير - قلت: ينقض النوم الوضوء؟ فقال: نعم إذا كان يغلب على السمع و لا يسمع الصوت.

أقول: و هذا المعنى مرويّ في غيره من الروايات، و رواه السيوطيّ في الدرّ المنثور، عن زيد بن أسلم و النحّاس: و هذا لا ينافي ما قدّمنا أنّ المراد بالقيام إلى الصلاة إرادتها، لأنّ ما ذكرناه هو معنى القيام من حيث تعدّيه بإلى، و ما في الرواية معناه من حيث تعدّيه بمن.

و في الكافي، بإسناده عن زرارة قال: قلت لأبي جعفرعليه‌السلام : من أين علمت و

٢٤٩

قلت: إنّ المسح ببعض الرأس و بعض الرجلين؟ فضحك ثمّ قال: يا زرارة قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و نزل به الكتاب من الله، لأنّ الله عزّوجلّ يقول:( فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) فعرفنا أنّ الوجه كلّه ينبغي أن يغسل ثمّ قال:( وَ أَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ ) فوصل اليدين إلى المرفقين بالوجه فعرفنا أنّه ينبغي لهما أن تغسلا إلى المرفقين، ثمّ فصل بين الكلام فقال:( وَ امْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ ) فعرفنا حين قال:( بِرُؤُسِكُمْ ) أنّ المسح ببعض الرأس لمكان الباء، ثمّ وصل الرجلين بالرأس كما وصل اليدين بالوجه فقال:( وَ أَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ) فعرفنا حين وصلهما بالرأس أنّ المسح على بعضهما، ثمّ فسّر ذلك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للناس فضيّعوه ثمّ قال:( فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَ أَيْدِيكُمْ مِنْهُ ) فلمّا وضع الوضوء إن لم يجدوا ماءً أثبت بعض الغسل مسحاً لأنّه قال:( بِوُجُوهِكُمْ ) ثمّ وصل بها( وَ أَيْدِيَكُمْ ) ثمّ قال:( مِنْهُ ) أي من ذلك التيمّم، لأنّه علم أنّ ذلك أجمع لم يجر على الوجه لأنّه يعلق من ذلك الصعيد ببعض الكفّ و لا يعلق ببعضها، ثمّ قال الله:( ما يُرِيدُ الله لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ ) و الحرج الضيق.

أقول: قوله:( ثم قال: فإن لم تجدوا ماء) ، نقل الآية بالمعنى.

و فيه، بإسناده عن زرارة و بكير: أنّهما سألا أباجعفرعليه‌السلام عن وضوء رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فدعا بطست - أو تور - فيه ماء فغمس يده اليمنى فغرف بها غرفة فصبّها على وجهه فغسل بها وجهه، ثمّ غمس يده اليسرى فغرف بها غرفة فأفرغ على ذراعه اليمنى فغسل بها ذراعه من المرافق إلى الكفّ لا يردّها إلى المرافق، ثمّ غمس كفّه اليمنى فأفرغ بها على ذراعه اليسرى من المرفق، و صنع بها ما صنع باليمنى، ثمّ مسح رأسه و قدميه ببلل كفّه لا يحدث لهما ماءً جديداً، ثمّ قال: و لا يدخل أصابعه تحت الشراك. ثمّ قال: إنّ الله عزّوجلّ يقول:( إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ ) فليس له أن يدع شيئاً من وجهه إلّا غسله، و أمر أن يغسل اليدين إلى المرفقين، فليس له أن يدع من يديه إلى المرفقين شيئاً إلّا غسله لأنّ الله يقول:( فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ إِلَى

٢٥٠

الْمَرافِقِ ) ، ثمّ قال:( وَ امْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ) فإذا مسح بشي‏ء من رأسه أو بشي‏ء من قدميه ما بين الكعبين إلى أطراف الأصابع فقد أجزأه. قال: فقلنا: أين الكعبان؟ قال: هنا يعني المفصل دون عظم الساق، فقلنا: هذا ما هو؟ فقال: هذا من عظم الساق، و الكعب أسفل من ذلك، فقلنا: أصلحك الله و الغرفة الواحدة تجزي للوجه و غرفة للذراع؟ قال: نعم إذا بالغت فيها، و اثنتان تأتيان على ذلك كلّه.

أقول: و الرواية من المشهورات، و رواها العيّاشيّ عن بكير و زرارة عن أبي جعفرعليه‌السلام ، و عن عبدالله بن سليمان عن أبي جعفرعليه‌السلام مثله، و في معناها و معنى الرواية السابقة روايات اُخر.

في تفسير البرهان، العيّاشيّ عن زرارة بن أعين، و أبو حنيفة عن أبي بكر بن حزم قال: توضّأ رجل فمسح على خفّيه فدخل المسجد فصلّى فجاء عليّعليه‌السلام فوطأ على رقبته فقال: ويلك تصلّي على غير وضوء؟ فقال: أمرني عمر بن الخطّاب قال: فأخذ بيده فانتهى به إليه، فقال: انظر ما يروي هذا عليك، و رفع صوته، فقال: نعم أنا أمرته إنّ رسول الله مسح، قال: قبل المائدة أو بعدها؟ قال: لا أدري، قال: فلم تفتي و أنت لا تدري؟ سبق الكتاب الخفّين.

أقول: و قد شاع على عهد عمر الخلاف في المسح على الخفّين و قول عليّعليه‌السلام بكونه منسوخاً بآية المائدة على ما يظهر من الروايات، و لذلك روي عن بعضهم كالبراء و بلال و جرير بن عبدالله أنّهم رووا عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المسح على الخفّين بعد نزول المائدة و لا يخلو من شي‏ء فكأنّه ظنّ أنّ النسخ إنّما ادّعي بأمر غير مستند إلى الآية، و ليس كذلك فإنّ الآية إنّما تثبت المسح على القدمين إلى الكعبين و ليس الخفّ بقدم البتّة، و هذا معنى الرواية التالية.

و في تفسير العيّاشيّ، عن محمّد بن أحمد الخراسانيّ - رفع الحديث - قال: أتى أميرالمؤمنينعليه‌السلام رجل فسأله عن المسح على الخفّين فأطرق في الأرض مليّاً ثمّ رفع رأسه فقال: إنّ الله تبارك و تعالى أمر عباده بالطهارة، و قسّمها على الجوارح فجعل للوجه منه نصيباً، و جعل للرأس منه نصيباً، و جعل للرجلين منه نصيباً، و جعل لليدين منه نصيباً

٢٥١

فإن كانتا خفاك من هذه الأجزاء فامسح عليهما.

و فيه، أيضاً عن الحسن بن زيد عن جعفر بن محمّد: إنّ عليّاً خالف القوم في المسح على الخفّين على عهد عمر بن الخطّاب قالوا: رأينا النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يمسح على الخفّين قال: فقال عليّعليه‌السلام : قبل نزول المائدة أو بعدها؟ فقالوا: لا ندري، قال: و لكني أدري إنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ترك المسح على الخفّين حين نزلت المائدة، و لأن أمسح على ظهر حمار أحبّ إلي من أن أمسح على الخفّين، و تلا هذه الآية:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا - إلى قوله -الْمَرافِقِ وَ امْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ) .

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن جرير و النحّاس في ناسخه عن عليّ: أنّه كان يتوضّأ عند كلّ صلاة و يقرأ:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ ) (الآية).

أقول: و قد تقدّم توضيحها.

و في الكافي، بإسناده عن الحلبيّ عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: سألته عن قول الله عزّوجلّ:( أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ ) قال: هو الجماع و لكنّ الله ستير يحبّ الستر فلم يسمّ كما تسمّون.

و في تفسير العيّاشيّ، عن زرارة قال: سألت أباجعفرعليه‌السلام عن التيمّم فقال: إنّ عمّار بن ياسر أتى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال: اُجنبت و ليس معي ماء، فقال: كيف صنعت يا عمّار؟ قال: نزعت ثيابي ثمّ تمعّكت على الصعيد فقال: هكذا يصنع الحمار إنّما قال الله:( فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَ أَيْدِيكُمْ مِنْهُ ) ثمّ وضع يديه جميعاً على الصعيد ثمّ مسحهما ثمّ مسح من بين عينيه إلى أسفل حاجبيه، ثمّ دلك إحدى يديه بالاُخرى على ظهر الكفّ، بدأ باليمين.

و فيه، عن زرارة عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: فرض الله الغسل على الوجه و الذراعين و المسح على الرأس و القدمين فلمّا جاء حال السفر و المرض و الضرورة وضع الله الغسل و أثبت الغسل مسحاً فقال:( وَ إِنْ كُنْتُمْ مَرْضى‏ أَوْ عَلى‏ سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ - إلى قوله -وَ أَيْدِيكُمْ مِنْهُ ) .

و فيه، عن عبد الأعلى مولى آل سام قال: قلت لأبي عبداللهعليه‌السلام إنّي عثرت

٢٥٢

فانقطع ظفري فجعلت على إصبعي مرارة كيف أصنع بالوضوء؟ قال: فقالعليه‌السلام : يعرف هذا و أشباهه من كتاب الله تبارك و تعالى:( ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ )

أقول: إشارة إلى آية سورة الحجّ النافية للحرج، و في عدوله عن ذيل آية الوضوء إلى ما في آخر سورة الحجّ دلالة على ما قدّمناه من معنى نفي الحرج. و فيما نقلناه من الأخبار نكات جمّة تتبيّن بما قدّمناه في بيان الآيات فليتلقّ بمنزلة الشرح للروايات.

٢٥٣

( سورة المائدة الآيات ٨ - ١٤)

يَاأَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوّامِينَ للّهِ‏ِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى‏ أَلّا تَعْدِلُوا إِعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتّقْوَى‏ وَاتّقُوا اللّهَ إِنّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ( ٨) وَعَدَ اللّهُ الّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الْصّالِحَاتِ لَهُم مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ( ٩) وَالّذِينَ كَفَرُوا وَكَذّبُوا بِآيَاتِنَا أُولئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ( ١٠) يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتّقُوا اللّهَ وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكّلِ الْمُؤْمِنُونَ( ١١) وَلَقَدْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقَالَ اللّهُ إِنّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصّلاَةَ وَآتَيْتُمْ الزّكَاةَ وَآمَنتُم بِرُسُلِي وَعَزّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللّهَ قَرْضاً حَسَناً لَأُكَفّرَنّ عَنكُمْ سَيّآتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنّكُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلّ سَوَاءَ السّبِيلِ( ١٢) فَبِمَا نَقْضِهِم مِيثَاقَهُمْ لَعَنّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظّاً مِمّا ذُكّرُوا بِهِ وَلاَ تَزَالُ تَطّلِعُ عَلَى‏ خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلّا قَلِيلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنّ اللّهَ يُحِبّ الْمُحْسِنِينَ( ١٣) وَمِنَ الّذِينَ قَالُوا إِنّا نَصَارَى‏ أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظّاً مِمّا ذُكّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى‏ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبّئُهُمُ اللّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ( ١٤)

( بيان)

اتّصال الآيات ظاهر لا غبار عليه، فإنّها سلسلة خطابات للمؤمنين فيما يهمّهم من كلّيّات اُمورهم في آخرتهم و دنياهم منفرديّن و مجتمعين.

قوله تعالى: ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لله شُهَداءَ بِالْقِسْطِ وَ لا

٢٥٤

يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى‏ أَلَّا تَعْدِلُوا ) الآية نظيره الآية الّتي في سورة النساء:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لله وَ لَوْ عَلى‏ أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَ الْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَالله أَوْلى‏ بِهِما فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى‏ أَنْ تَعْدِلُوا وَ إِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ الله كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً ) (النساء: ١٣٥).

و إنّما الفرق بين الآيتين أنّ آية النساء في مقام النهي عن الانحراف عن العدل في الشهادة لاتّباع الهوى بأن يهوى الشاهد المشهود له لقرابة و نحوها، فيشهد له بما ينتفع به على خلاف الحقّ، و هذه الآية - أعني آية المائدة - في مقام الردع عن الانحراف عن العدل في الشهادة لشنآن و بغض من الشاهد للمشهود عليه، فيقيم الشهادة عليه يريد بها نوع انتقام منه و دحض لحقّه.

و هذا الاختلاف في غرض البيان هو الّذي أوجب اختلاف القيود في الآيتين: فقال في آية النساء:( كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لله ) و في آية المائدة:( كُونُوا قَوَّامِينَ لله شُهَداءَ بِالْقِسْطِ ) .

و ذلك أنّ الغرض في آية المائدة لمّا كان هو الردع عن الظلم في الشهادة لسابق عداوة من الشاهد للمشهود عليه قيّد الشهادة بالقسط، فأمر بالعدل في الشهادة و أن لا يشتمل على ظلم حتّى على العدوّ بخلاف الشهادة لأحد بغير الحقّ لسابق حبّ و هوى، فإنّها لا تعدّ ظلماً في الشهادة و انحرافاً عن العدل و إن كانت في الحقيقة لا تخلو عن ظلم و حيف، و لذلك أمر في آية المائدة بالشهادة بالقسط، و فرّعه على الأمر بالقيام لله، و أمر في آية النساء بالشهادة لله أي أن لا يتّبع فيها الهوى، و فرّعه على الأمر بالقيام بالقسط.

و لذلك أيضاً فرع في آية المائدة على الأمر بالشهادة بالقسط قوله:( اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى‏ وَ اتَّقُوا الله ) فدعا إلى العدل، و عدّه ذريعة إلى حصول التقوى، و عكس الأمر في آية النساء ففرّع على الأمر بالشهادة لله قوله:( فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى‏ أَنْ تَعْدِلُوا ) فنهى عن اتّباع الهوى و ترك التقوى، و عدّه وسيلة سيّئة إلى ترك العدل.

ثمّ حذّر في الآيتين جميعاً في ترك التقوى تحذيراً واحداً فقال في آية النساء:( وَ إِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ الله كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً ) أي إن لم تتّقوا، و قال في

٢٥٥

آية المائدة:( وَ اتَّقُوا الله إِنَّ الله خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ ) و أمّا معنى القوّامين لله شهداء بالقسط إلخ فقد ظهر في الكلام على الآيات السابقة.

قوله تعالى: ( اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) ، الضمير راجع إلى العدل المدلول عليه بقوله:( اعْدِلُوا ) و المعنى ظاهر.

قوله تعالى: ( وَعَدَ الله الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ أَجْرٌ عَظِيمٌ ) الجملة الثانية أعني قوله:( لَهُمْ مَغْفِرَةٌ ) ، إنشاء للوعد الّذي أخبر عنه بقوله:( وَعَدَ الله ) ، و هذا كما قيل: آكد بياناً من قوله:( وَعَدَ الله الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَ أَجْراً عَظِيماً ) (الفتح: ٢٩) لا لما قيل: إنّه لكونه خبراً، بعد خبر فإنّ ذلك خطأ، بل لكونه تصريحاً بإنشاء الوعد من غير أن يدلّ عليه ضمناً كآية سورة الفتح.

قوله تعالى: ( وَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ ) قال الراغب: الجحمة شدّة تأجّج النار و منه الجحيم، انتهي. و الآية تشتمل على نفس الوعيد، و تقابل قوله تعالى في الآية السابقة:( لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ أَجْرٌ عَظِيمٌ ) .

و تقييد الكفر بتكذيب الآيات للاحتراز عن الكفر الّذي لا يقارن تكذيب الآيات الدالّة، و لا ينتهي إلى إنكار الحقّ مع العلم بكونه حقّاً كما في صورة الاستضعاف، فإنّ أمره إلى الله إن يشأ يغفره و إن يشأ يعذّب عليه فهاتان الآيتان وعد جميل للّذين آمنوا و عملوا الصالحات، و إيعاد شديد للّذين كفروا و كذّبوا بآيات الله، و بين المرحلتين مراحل متوسّطة و منازل متخلّلة أبهم الله سبحانه أمرها و عقباها.

قوله تعالى: ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا ) إلخ هذا المضمون يقبل الانطباق على وقائع متعدّدة مختلفة وقعت بين الكفّار و المسلمين كغزوات بدر و اُحد و الأحزاب و غير ذلك، فالظاهر أنّ المراد به مطلق ما همّ به المشركون من قتل المؤمنين و إمحاء أثر الإسلام و دين التوحيد.

و ما ذكره بعض المفسّرين أنّ المراد به ما همّ بعض المشركين من قتل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو ما همّ به بعض اليهود من الفتك به - و سيجي‏ء قصّتهما - فبعيد من ظاهر اللّفظ كما لا يخفى.

٢٥٦

قوله تعالى: ( وَ اتَّقُوا الله وَ عَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ) أمر بالتقوى و التوكّل على الله، و المراد بالحقيقة النهي و التحذير الشديد عن ترك التقوى و ترك التوكّل على الله سبحانه، و الدليل على ذلك ما سرده تعالى من قصّة أخذ الميثاق من بني إسرائيل و من الّذين قالوا إنّا نصارى، ثمّ نقض الطائفتين الميثاق الإلهيّ و ابتلاء الله إيّاهم باللّعن و تقسية القلوب، و نسيان حظّ من دينهم، و إغراء العداوة و البغضاء بينهم إلى يوم القيامة.

و لم يذكر القصّة إلّا ليستشهد بها على المؤمنين، و يجعلها نصب أعينهم ليعتبروا بها و ينتبهوا بأنّ اليهود و النصارى إنّما ابتلوا بما ابتلوا به لنسيانهم ميثاق الله سبحانه و لم يكن إلّا ميثاقاً بالإسلام لله، واثقوه بالسمع و الطاعة، و كان لازم ذلك أن يتّقوا مخالفة ربّهم و أن يتوكّلوا عليه في اُمور دينهم أي يتّخذوه وكيلاً فيها يختارون ما يختاره لهم، و يتركون ما يكرهه لهم، و طريقه طاعة رسلهم بالإيمان بهم، و ترك متابعة غير الله و رسله، ممّن يدعو إلى نفسه و الخضوع لأمره من الجبابرة و الطغاة و غيرهم حتّى الأحبار و الرهبان فلا طاعة إلّا لله أو من أمر بطاعته.

لكنّهم نبذوه وراءهم ظهريّاً فاُبعدوا من رحمة الله و حرّفوا الكلم عن مواضعه و فسّروها بغير ما اُريد بها فأوجب ذلك أن نسوا حظّاً من الدين و لم يكن إلّا حظّاً و سهماً يرتحل بارتحاله عنهم كلّ خير و سعادة و أفسد ذلك ما بقي بأيديهم من الدين فإنّ الدين مجموع من معارف و أحكام مرتبط بعضها ببعض يفسد بعضه بفساد بعض آخر سيّما الأركان و الاُصول و ذلك كمن يصلّي لكن لا لوجه الله، أو ينفق لا لمرضاة الله، أو يقاتل لا لإعلاء كلمة الحقّ. فلا ما بقي في أيديهم نفعهم، إذ كان محرّفاً فاسداً، و لا ما نسوه من الدين أمكنهم أن يستغنوا عنه، و لا غنى عن الدين و لا سيّما اُصوله و أركانه.

فمن هنا يعلم أنّ المقام يقتضي أن يحذّر المؤمنون عن مخالفة التقوى و ترك التوكّل على الله بذكر هذه القصّة و دعوتهم إلى الاعتبار بها.

و من هنا يظهر أيضاً: أنّ المراد بالتوكّل ما يشمل الاُمور التشريعيّة و

٢٥٧

التكوينيّة جميعاً أو ما يختصّ بالتشريعيّات بمعنى أنّ الله سبحانه يأمر المؤمنين بأن يطيعوا الله و رسوله في أحكامه الدينيّة و ما أتاهم به و بيّنه لهم رسوله و يكلوا أمر الدين و القوانين الإلهيّة إلى ربّهم، و يكفّوا عن الاستقلال بأنفسهم، و التصرّف فيما أودعه عندهم من شرائعه كما يأمرهم أن يطيعوه فيما سنّ لهم من سنّة الأسباب و المسبّبات فيجروا على هذه السنّة من غير اعتماد بها و إعطاء استقلال و ربوبيّة لها، و ينتظروا ما يريده الله و يختاره لهم من النتائج بتدبيره و مشيئته.

قوله تعالى: ( وَ لَقَدْ أَخَذَ الله مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَ بَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً ) (الآية) قال الراغب: النقب في الحائط و الجلد كالثقب في الخشب. قال: و النقيب الباحث عن القوم و عن أحوالهم، و جمعه نقباء. انتهي.

و الله سبحانه يقصّ على المؤمنين من هذه الاُمّة ما جرى على بني إسرائيل من إحكام دينهم و تثبيت أمرهم بأخذ الميثاق، و بعث النقباء، و إبلاغ البيان، و إتمام الحجّة ثمّ ما قابلوه به من نقض الميثاق، و ما قابلهم به الله سبحانه من اللّعن و تقسية القلوب إلخ. فقال:( وَ لَقَدْ أَخَذَ الله مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ ) و هو الّذي يذكره كثيراً في سورة البقرة و غيرها:( وَ بَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً ) و الظاهر أنّهم رؤساء الأسباط الاثني عشر، كانوا كالولاة عليهم يتولّون اُمورهم فنسبتهم إلى أسباطهم بوجه كنسبة اُولي الأمر إلى الأفراد في هذه الاُمّة لهم المرجعيّة في اُمور الدين و الدنيا غير أنّهم لا يتلقّون وحياً، و لا يشرّعون شريعة و إنّما ذلك إلى الله و رسوله( وَ قالَ الله إِنِّي مَعَكُمْ ) إيذان بالحفظ و المراقبة فيتفرّع عليه أن ينصرهم إن أطاعوه و يخذلهم إن عصوه و لذلك ذكر الأمرين جميعاً فقال:( لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَ آتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَ آمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَ عَزَّرْتُمُوهُمْ ) و التعزير هو النصرة مع التعظيم، و المراد بالرسل ما سيستقبلهم ببعثته و دعوته كعيسى و محمّدعليهما‌السلام و سائر من بعثه الله بين موسى و محمّدعليهم‌السلام ( وَ أَقْرَضْتُمُ الله قَرْضاً حَسَناً ) و هو الإنفاق المندوب دون الزكاة الواجبة( لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَ لَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ) فهذا ما يرجع إلى جميل الوعد. ثمّ قال:( فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ ) .

٢٥٨

قوله تعالى: ( فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَ جَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً ) ، ذكر تعالى جزاء الكفر بالميثاق المذكور ضلال سواء السبيل، و هو ذكر إجماليّ يفصّله ما في هذه الآية من أنواع النقم الّتي نسب الله سبحانه بعضها إلى نفسه كاللّعن و تقسية القلوب ممّا تستقيم فيه النسبة، و بعضها إلى أنفسهم ممّا وقع باختيارهم كالّذي يعني بقوله:( وَ لا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى‏ خائِنَةٍ مِنْهُمْ ) فهذا كلّه جزاؤهم بما كفروا بآيات الله الّتي على رأسها الميثاق المأخوذ منهم، أو جزاء كفرهم بالميثاق خاصّة فإنّ سواء السبيل الّذي ضلّوه هو سبيل السعادة الّتي بها عمارة دنياهم و اُخراهم.

فقوله:( فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ ) الظاهر أنّه هو الكفر الّذي توعّد الله عليه في الآية السابقة، و لفظة( ما ) في قوله:( فَبِما ) للتأكيد، و يفيد الإبهام لغرض التعظيم أو التحقير أو غيرهما، و المعنى: فبنقض مّا منهم لميثاقهم( لَعَنَّاهُمْ ) و اللّعن هو الإبعاد من الرحمة( وَ جَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً ) و قسوة القلب مأخوذ من قسوة الحجارة و هي صلابتها و القسيّ من القلوب ما لا يخشع لحقّ و لا يتأثّر برحمة، قال تعالى:( أَ لَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ الله وَ ما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَ لا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ ) (الحديد: ١٦).

و بالجملة عقّبت قسوة قلوبهم أنّهم عادوا( يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ ) بتفسيرها بما لا يرضى به الله سبحانه و بإسقاط أو زيادة أو تغيير، فكلّ ذلك من التحريف، و أفضاهم ذلك إلى أن فاتهم حقائق ناصعة من الدين( وَ نَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ ) و لم يكن إلّا حظّاً من الاُصول الّتي تدور على مدارها السعادة، و لا يقوم مقامها إلّا ما يسجّل عليهم الشقوة اللّازمة كقولهم بالتشبيه، و خاتميّة نبوّة موسى، و دوام شريعة التوراة، و بطلان النسخ و البداء إلى غير ذلك.

( وَ لا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى‏ خائِنَةٍ مِنْهُمْ ) أي على طائفة خائنة منهم، أو على خيانة منهم:( إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَ اصْفَحْ إِنَّ الله يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ) و قد تقدّم مراراً أنّ استثناء القليل منهم لا ينافي ثبوت اللّعن و العذاب للجماعة الّتي هي الشعب و الاُمّة.(١)

____________________

(١) و من عجيب القول ما في بعض التفاسير أنّ المراد بالقليل عبدالله بن سلام و أصحابه مع أنّ عبدالله بن سلام كان قد أسلم قبل نزول السورة بمدّة، و ظاهر الآية استثناء بعض اليهود الّذين لم يكونوا قد أسلموا إلى حين نزول الآية.

٢٥٩

قوله تعالى: ( وَ مِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى‏ أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنا ) ، قال الراغب: غري بكذا أي لهج به و لصق، و أصل ذلك من الغراء و هو ما يلصق به، و أغريت فلاناً بكذا نحو ألهجت به. انتهي.

و قد كان المسيح عيسى بن مريم نبيّ رحمة يدعو الناس إلى الصلح و السلم، و يندبهم إلى الإشراف على الآخرة، و الإعراض عن ملاذّ الدنيا و زخارفها، و ينهاهم عن التكالب لأجل هذا العرض الأدنى(١) فلمّا نسوا حظّاً ممّا ذكّروا به أثبت الله سبحانه في قلوبهم مكان السلم و الصلح حرباً، و بدّل المؤاخاة و الموادّة الّتي ندبوا إليها معاداة و مباغضة كما يقول:( فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَ الْبَغْضاءَ إِلى‏ يَوْمِ الْقِيامَةِ ) .

و هذه العداوة و البغضاء اللّتان ذكرهما الله تعالى صارتا من الملكات الراسخة المرتكزة بين هؤلاء الاُمم المسيحيّة و كالنار الآخرة الّتي لا مناص لهم كلّما أرادوا أن يخرجوا منها من غمّ اُعيدوا فيها و ذوقوا عذاب الحريق.

و لم يزل منذ رفع عيسى بن مريمعليه‌السلام ، و اختلف حواريّوه و الدعاة السائحون من تلامذتهم فيما بينهم نشب الاختلاف فيما بينهم، و لم يزل ينمو و يكثر حتّى تبدّل إلى الحروب و المقاتلات و الغارات و أنواع الشرد و الطرد و غير ذلك حتّى انتهى إلى حروب عالميّة كبري تهدّد الأرض بالخراب و الإنسانيّة بالفناء و الانقراض.

كلّ ذلك من تبدّل النعمة نقمة و إنتاج السعي ضلالاً:( وَ سَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ الله بِما كانُوا يَصْنَعُونَ ) .

____________________

(١) راجع في ذلك إلى بيانات المسيحعليه‌السلام في مختلف مواقفه المنقولة عنه في الأناجيل الأربعة.

٢٦٠