الميزان في تفسير القرآن الجزء ٥

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 444

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 444
المشاهدات: 86807
تحميل: 10312


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 444 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 86807 / تحميل: 10312
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 5

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

( سورة المائدة الآيات ١٥ - ١٩)

يَاأَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُوا عَن كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُم مِنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ( ١٥) يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِنَ الظّلُمَاتِ إِلَى النّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى‏ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ( ١٦) لَقَدْ كَفَرَ الّذِينَ قَالُوا إِنّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمّهُ وَمَن فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَللّهِ‏ِ مُلْكُ السّماوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللّهُ عَلَى‏ كُلّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ( ١٧) وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنّصَارَى‏ نَحْنُ أَبْنَاءُ اللّهِ وَأَحِبّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنْتُم بَشَرٌ مِمّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذّبُ مَن يَشَاءُ وَللّهِ‏ِ مُلْكُ السّماوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ( ١٨) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيّنُ لَكُمْ عَلَى‏ فَتْرَةٍ مِنَ الرّسُلِ أَن تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللّهُ عَلَى‏ كُلّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ( ١٩)

( بيان)

لمّا ذكر تعالى أخذه الميثاق من أهل الكتاب على نصرة رسله و تعزيرهم و على حفظ ما آتاهم من الكتاب ثمّ نقضهم ميثاقه تعالى الّذي واثقهم به دعاهم إلى الإيمان برسوله الّذي أرسله و كتابه الّذي أنزله، بلسان تعريفهما لهم و إقامة البيّنة على صدق الرسالة و حقّيّة الكتاب، و إتمام الحجّة عليهم في ذلك:

أمّا التعريف فهو الّذي يشتمل عليه قوله:( يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً ) إلخ، و قوله:( يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى‏ فَتْرَةٍ ) إلخ.

٢٦١

و أمّا إقامة البيّنة فما في قوله:( يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ ) إلخ فإنّ ذلك نعم الشاهد على صدق الرسالة من اُمّيّ يخبر بما لا سبيل إليه إلّا للأخصّاء من علمائهم، و كذا قوله:( يَهْدِي بِهِ الله مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ ) إلخ فإنّ المطالب الحقّة الّتي لا غبار على حقّيّتها هي نعم الشاهد على صدق الرسالة و حقّيّة الكتاب.

و أمّا إتمام الحجّة فما يتضمّنه قوله:( أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَ لا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَ نَذِيرٌ وَ الله عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ ) .

و قد ردّ الله تعالى عليهم في ضمن الآيات قول البعض:( إِنَّ الله هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ ) و قول اليهود و النصارى:( نَحْنُ أَبْناءُ الله وَ أَحِبَّاؤُهُ ) .

قوله تعالى: ( يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَ يَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ ) أمّا بيانه كثيراً كانوا يخفون من الكتاب فكبيانه آيات النبوّة و بشاراتها كما يشير إليه قوله تعالى:( الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَ الْإِنْجِيلِ ) الآية (الأعراف: ١٥٧) و قوله تعالى:( يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ ) الآية: (البقرة: ١٤٦) و قوله:( مُحَمَّدٌ رَسُولُ الله وَ الَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ - إلى قوله - ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَ مَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ ) الآية: (الفتح: ٢٩) و كبيانهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حكم الرجل الّذي كتموه و كابروا فيه الحقّ على ما يشير إليه قوله تعالى فيما سيأتي:( لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ ) الآيات: (المائدة: ٤١) و هذا الحكم أعني حكم الرجم موجود الآن في الأصحاح الثاني و العشرين من سفر التثنية من التوراة الدائرة بينهم.

و أمّا عفوه عن كثير فهو تركه كثيراً ممّا كانوا يخفونه من الكتاب، و يشهد بذلك الاختلاف الموجود في الكتابين، كاشتمال التوراة على اُمور في التوحيد و النبوّة لا يصحّ استنادها إليه تعالى كالتجسّم و الحلول في المكان و نحو ذلك، و ما لا يجوّز العقل نسبته إلى الأنبياء الكرام من أنواع الكفر و الفجور و الزلّات، و كفقدان التوراة ذكر المعاد من رأس و لا يقوم دين على ساق إلّا بمعاد، و كاشتمال ما عندهم من الأناجيل و لا سيّما إنجيل يوحنّا على عقائد الوثنيّة.

٢٦٢

قوله تعالى: ( قَدْ جاءَكُمْ مِنَ الله نُورٌ وَ كِتابٌ مُبِينٌ ) ظاهر قوله:( قَدْ جاءَكُمْ مِنَ الله ) كون هذا الجائي قائماً به تعالى نحو قيام كقيام البيان أو الكلام بالمبيّن و المتكلّم و هذا يؤيّد كون المراد بالنور هو القرآن، و على هذا فيكون قوله:( وَ كِتابٌ مُبِينٌ ) معطوفاً عليه عطف تفسير، و المراد بالنور و الكتاب المبين جميعاً القرآن، و قد سمّى الله تعالى القرآن نوراً في موارد من كلامه كقوله تعالى:( وَ اتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ ) (الأعراف: ١٥٧) و قوله:( فَآمِنُوا بِالله وَ رَسُولِهِ وَ النُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا ) (التغابن: ٨) و قوله:( وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً ) (النساء: ١٧٤).

و من المحتمل أن يكون المراد بالنور النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على ما ربّما أفاده صدر الكلام في الآية، و قد عدّه الله تعالى نوراً في قوله:( وَ سِراجاً مُنِيراً ) (الأحزاب: ٤٦).

قوله تعالى: ( يَهْدِي بِهِ الله مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ ) الباء في قوله:( بِهِ ) للآلة و الضمير عائد إلى الكتاب أو إلى النور سواءً اُريد به النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو القرآن فمآل الجميع واحد فإنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أحد الأسباب الظاهريّة في مرحلة الهداية، و كذا القرآن و حقيقة الهداية قائمة به قال تعالى:( إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَ لكِنَّ الله يَهْدِي مَنْ يَشاءُ ) (القصص: ٥٦)، و قال:( وَ كَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَ لَا الْإِيمانُ وَ لكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَ إِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى‏ صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ صِراطِ الله الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى الله تَصِيرُ الْأُمُورُ ) (الشورى: ٥٣) و الآيات كما ترى تنسب الهداية إلى القرآن و إلى الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في عين أنّها ترجعها إلى الله سبحانه فهو الهادي حقيقة و غيره سبب ظاهريّ مسخّر لإحياء أمر الهداية.

و قد قيّد تعالى قوله:( يَهْدِي بِهِ الله ) بقوله:( مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ ) و يؤول إلى اشتراط فعليّة الهداية الإلهيّة باتّباع رضوانه، فالمراد بالهداية هو الإيصال إلى المطلوب، و هو أن يورده الله تعالى سبيلاً من سبل السلام أو جميع السبل أو أكثرها واحداً بعد آخر.

و قد اُطلق تعالى السلام فهو السلامة و التخلّص من كلّ شقاء يختلّ به أمر

٢٦٣

سعادة الحياة في دنيا أو آخرة، فيوافق ما وصف القرآن الإسلام لله و الإيمان و التقوى بالفلاح و الفوز و الأمن و نحو ذلك، و قد تقدّم في الكلام على قوله تعالى:( اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ ) (الحمد: ٦) في الجزء الأوّل من الكتاب أنّ لله سبحانه بحسب اختلاف حال السائرين من عباده سبلاً كثيرة تتّحد الجميع في طريق واحد منسوب إليه تعالى يسمّيه في كلامه بالصراط المستقيم قال تعالى:( وَ الَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَ إِنَّ الله لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ) (العنكبوت: ٦٩)، و قال تعالى:( وَ أَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَ لا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ) (الأنعام: ١٥٣) فدلّ على أنّ له سبلاً كثيرة لكنّ الجميع تتّحد في الإيصال إلى كرامته تعالى من غير أن تفرّق سالكيها و يبين كلّ سبيل سالكيه عن سالكي غيره من السبل كما هو شأن غير صراطه تعالى من السبل.

فمعنى الآية - و الله العالم -: يهدي الله سبحانه و يورد بسبب كتابه أو بسبب نبيّه من اتّبع رضاه سبلاً من شأنها أنّه يسلم من سار فيها من شقاء الحياة الدنيا و الآخرة، و كلّ ما تتكدّر به العيشة السعيدة.

فأمر الهداية إلى السلام و السعادة يدور مدار اتّباع رضوان الله، و قد قال تعالى:( وَ لا يَرْضى‏ لِعِبادِهِ الْكُفْرَ ) (الزمر: ٧)، و قال:( فَإِنَّ الله لا يَرْضى‏ عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ ) (التوبة: ٩٦) و يتوقّف بالآخرة على اجتناب سبيل الظلم و الانخراط في سلك الظالمين، و قد نفى الله سبحانه عنهم هدايته و آيسهم من نيل هذه الكرامة الإلهيّة بقوله:( وَ الله لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) (الجمعة: ٥) فالآية أعني قوله:( يَهْدِي بِهِ الله مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ ) تجري بوجه مجرى قوله:( الَّذِينَ آمَنُوا وَ لَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَ هُمْ مُهْتَدُونَ ) (الأنعام: ٨٢).

قوله تعالى: ( وَ يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ ) في جمع الظلمات و إفراد النور إشارة إلى أنّ طريق الحقّ لا اختلاف فيه و لا تفرّق و إن تعدّدت بحسب المقامات و المواقف بخلاف طريق الباطل.

و الإخراج من الظلمات إلى النور إذا نسب إلى غيره تعالى كنبيّ أو كتاب فمعنى

٢٦٤

إذنه تعالى فيه إجازته و رضاه كما قال تعالى:( كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ ) (إبراهيم: ١) فقيّد إخراجه إيّاهم من الظلمات إلى النور بإذن ربّهم ليخرج بذلك عن الاستقلال في السببيّة فإنّ السبب الحقيقيّ لذلك هو الله سبحانه و قال:( وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى‏ بِآياتِنا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ ) (إبراهيم: ٥) فلم يقيّده بالإذن لاشتمال الأمر على معناه.

و إذا نسب ذلك إلى الله تعالى فمعنى إخراجهم بإذنه إخراجهم بعلمه و قد جاء الإذن بمعنى العلم يقال: أذن به أي علم به، و من هذا الباب قوله تعالى:( وَ أَذانٌ مِنَ الله وَ رَسُولِهِ ) (التوبة: ٣)( فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى‏ سَواءٍ ) (الأنبياء: ١٠٩)، و قوله:( وَ أَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ ) (الحجّ: ٢٧) إلى غيرها من الآيات.

و أمّا قوله تعالى:( وَ يَهْدِيهِمْ إِلى‏ صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ) ، فقد اُعيد فيه لفظ الهداية لحيلولة قوله:( وَ يُخْرِجُهُمْ ) ، بين قوله( يَهْدِي بِهِ الله ) ، و بين هذه الجملة، و لأنّ الصراط المستقيم كما تقدّم بيانه في سورة الفاتحة طريق مهيمن على الطرق كلّها فالهداية إليه أيضاً هداية مهيمنة على سائر أقسام الهداية الّتي تتعلّق بالسبل الجزئيّة.

و لا ينافي تنكير قوله:( صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ) كون المراد به هو الصراط المستقيم الوحيد الّذي نسبه الله تعالى في كلامه إلى نفسه - إلّا في سورة الفاتحة - لأنّ قرينة المقام تدلّ على ذلك، و إنّما التنكير لتعظيم شأنه و تفخيم أمره.

قوله تعالى: ( لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ الله هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ ) هؤلاء إحدى الطوائف الثلاثة الّتي تقدّم نقل أقوالهم في سورة آل عمران، و هي القائلة باتّحاد الله سبحانه بالمسيح فهو إله و بشر بعينه، و يمكن تطبيق الجملة أعني قولهم:( إِنَّ الله هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ ) على القول بالبنوّة و على القول بثالث ثلاثة أيضاً غير أنّ ظاهر الجملة هو حصول العينيّة بالاتّحاد.

قوله تعالى: ( قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ الله شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَ أُمَّهُ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ) (الآية) هذا برهان على إبطال قولهم: من جهة مناقضة بعضه بعضاً لأنّهم لمّا وضعوا أنّ المسيح مع كونه إلهاً بشر كما وصفوه بأنّه ابن مريم

٢٦٥

جوّزوا له ما يجوز على أيّ بشر مفروض من سكّان هذه الأرض، و هم جميعاً كسائر أجزاء السماوات و الأرض و ما بينهما مملوكون لله تعالى مسخّرون تحت ملكه و سلطانه، فله تعالى أن يتصرّف فيهم بما أراد، و أن يحكم لهم أو عليهم كيفما شاء، فله أن يهلك المسيح كما له أن يهلك اُمّه و من في الأرض على حدّ سواء من غير مزيّة للمسيح على غيره، و كيف يجوز الهلاك على الله سبحانه؟! فوضعهم أنّ المسيح بشر يبطل وضعهم أنّه هو الله سبحانه للمناقضة.

فقوله:( فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ الله شَيْئاً ) كناية عن نفي المانع مطلقاً فملك شي‏ء من الله هو السلطنة عليه تعالى في بعض ما يرجع إليه، و لازمها انقطاع سلطنته عن ذلك الشي‏ء، و هو أن يكون سبب من الأسباب يستقلّ في التأثير في شي‏ء بحيث يمانع تأثيره تعالى أو يغلب عليه فيه، و لا ملك إلّا لله وحده لا شريك له إلّا ما ملّك غيره تمليكاً لا يبطل ملكه و سلطانه.

و قوله:( إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَ أُمَّهُ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ) إنّما قيّد المسيح بقوله:( ابْنُ مَرْيَمَ ) للدلالة على كونه بشراً تامّاً واقعاً تحت التأثير الربوبيّ كسائر البشر، و لذلك بعينه عطف عليه( أُمَّهُ ) لكونها مسانخة له من دون ريب، و عطف عليه( مَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ) لكون الحكم في الجميع على حدّ سواء.

و من هنا يظهر أنّ في هذا التقييد و العطف تلويحاً إلى برهان الإمكان، و محصّله أنّ المسيح يماثل غيره من أفراد البشر كاُمّه و سائر من في الأرض فيجوز عليه ما يجوز عليهم لأنّ حكم الأمثال فيما يجوز و فيما لا يجوز واحد، و يجوز على غيره أن يقع تحت حكم الهلاك فيجوز عليه ذلك و لا مانع هناك يمنع، و لو كان هو الله سبحانه لما جاز عليه ذلك.

و قوله:( وَ لله مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما ) في مقام التعليل للجملة السابقة، و التصريح بقوله:( وَ ما بَيْنَهُما ) مع أنّ القرآن كثيراً ما يعبّر عن عالم الخلقة بالسماوات و الأرض فقط إنّما هو ليكون الكلام أقرب من التصريح، و أسلم من ورود التوهّمات و الشبهات فليس لمتوهّم أن يتوهّم أنّه إنّما ذكر السماوات و الأرض و لم يذكر ما بينهما، و مورد الكلام ممّا بينهما.

٢٦٦

و تقديم الخبر أعني قوله:( وَ لله ) للدلالة على الحصر، و بذلك يتمّ البيان، و المعنى: كيف يمكن أن يمنع مانع من إرادته تعالى إهلاك المسيح و غيره و وقوع ما أراده من ذلك، و الملك و السلطنة المطلقة في السماوات و الأرض و ما بينهما لله تعالى لا ملك لأحد سواه؟ فلا مانع من نفوذ حكمه و مضيّ أمره.

و قوله:( يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَ الله عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ ) في مقام التعليل للجملة السابقة عليه أعني قوله:( وَ لله مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما ) فإنّ الملك - بضمّ الميم - و هو نوع سلطنة و مالكيّة على سلطنة الناس و ما يملكونه إنّما يتقوّم بشمول القدرة و نفوذ المشيئة، و لله سبحانه ذلك في جميع السماوات و الأرض و ما بينهما، فله القدرة على كلّ شي‏ء و هو يخلق ما يشاء من الأشياء فله الملك المطلق في السماوات و الأرض و ما بينهما فخلقه ما يشاء و قدرته على كلّ شي‏ء هو البرهان على ملكه كما أنّ ملكه هو البرهان على أنّ له أن يريد إهلاك الجميع ثمّ يمضي إرادته لو أراد، و هو البرهان على أنّه لا يشاركه أحد منهم في اُلوهيّته.

و أمّا البرهان على نفوذ مشيّته و شمول قدرته فهو أنّه الله عزّ اسمه، و لعلّه لذلك كرّر لفظ الجلالة في الآية مرّات فقد آل فرض الاُلوهيّة في شي‏ء إلى أنّه لا شريك له في اُلوهيّته.

قوله تعالى: ( وَ قالَتِ الْيَهُودُ وَ النَّصارى‏ نَحْنُ أَبْناءُ الله وَ أَحِبَّاؤُهُ ) لا ريب أنّهم لم يكونوا يدّعون النبوّة الحقيقيّة كما يدّعيه معظم النصارى للمسيحعليه‌السلام فلا اليهود كانت تدّعي ذلك حقيقة و لا النصارى، و إنّما كانوا يطلقونها على أنفسهم إطلاقاً تشريفيّاً بنوع من التجوّز، و قد ورد في كتبهم المقدّسة هذا الإطلاق كثيراً كما في حقّ آدم(١) و يعقوب(٢) و داود(٣) و إقرام(٤) و عيسى(٥) و اُطلق(٦) أيضاً

____________________

(١) آية ٣٨ من الإصحاح الثالث من إنجيل لوقا.

(٢) آية ٢٢ من الإصحاح الرابع من سفر الخروج من التوراة.

(٣) آية ٧ من المزمور ٢ من مزامير داود.

(٤) آية ٩ من الإصحاح ٣١ من نبوّة إرميا.

(٥) موارد كثيرة من الأناجيل و ملحقاتها.

(٦) آية ٩ من الإصحاح ٥ إنجيل متى، و في غيره من الأناجيل.

٢٦٧

على صلحاء المؤمنين.

و كيف كان فإنّما اُريد بالأبناء أنّهم من الله سبحانه بمنزلة الأبناء من الأب، فهم بمنزلة أبناء الملك بالنسبة إليه المنحازين عن الرعيّة المخصوصين بخصيصة القرب المقتضية أن لا يعامل معهم معاملة الرعيّة كأنّهم مستثنون عن إجراء القوانين و الأحكام المجراة بين الناس لأنّ تعلّقهم بعرش الملك لا يلائم مجازاتهم بما يجازي به غيرهم و لا إيقافهم موقفاً توقف فيه سائر الرعيّة، فلا يستهان بهم كما يستهان بغيرهم فكلّ ذلك لما تتعقّبه علقة النسب من علقة الحبّ و الكرامة.

فالمراد بهذه النبوّة الاختصاص و التقرّب، و يكون عطف قوله:( وَ أَحِبَّاؤُهُ ) على قوله:( أَبْناءُ الله ) كعطف التفسير و ليس به حقيقة، و غرضهم من دعوى هذا الاختصاص و المحبوبيّة إثبات لازمه و هو أنّه لا سبيل إلى تعذيبهم و عقوبتهم فلن يصيروا إلّا إلى النعمة و الكرامة لأنّ تعذيبه تعالى إيّاهم يناقض ما خصّهم به من المزيّة، و حباهم به من الكرامة.

و الدليل عليه ما ورد في الردّ عليهم من قوله تعالى:( يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ ) ، إذ لو لا أنّهم كانوا يريدون بقولهم:( نَحْنُ أَبْناءُ الله وَ أَحِبَّاؤُهُ ) أنّه لا سبيل إلى عذابهم و إن لم يستجيبوا الدعوة الحقّة لم يكن وجه لذكر هذه الجملة:( يَغْفِرُ ) ، ردّاً عليهم و لا لقوله:( بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ ) موقع حسن مناسب فمعنى قولهم:( نَحْنُ أَبْناءُ الله وَ أَحِبَّاؤُهُ ) أنّا خاصّة الله و محبوبوه لا سبيل له تعالى إلى تعذيبنا و إن فعلنا، ما فعلنا و تركنا ما تركنا لأنّ انتفاء السبيل و وقوع الأمن التامّ من كلّ مكروه و محذور هو لازم معنى الاختصاص و الحبّ.

قوله تعالى: ( قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ ) أمر نبيّه بالاحتجاج عليهم و ردّ دعواهم بالحجّة، و تلك حجّتان: إحداهما: النقض عليهم بالتعذيب الواقع عليهم، و ثانيتهما: معارضتهم بحجّة تنتج نقيض دعواهم.

و محصّل الحجّة الاُولى الّتي يشتمل عليها قوله:( فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ ) أنّه لو صحّت دعواكم أنّكم أبناء الله و أحبّاؤه مأمونون من التعذيب الإلهيّ لا سبيل إليه

٢٦٨

فيكم لكنتم مأمونين من كلّ عذاب اُخرويّ أو دنيويّ فما هذا العذاب الواقع عليكم المستمرّ فيكم بسبب ذنوبكم؟ فأمّا اليهود فلم تزل تذنب ذنوباً كقتلهم أنبياءهم و الصالحين من شعبهم و تفجر بنقض المواثيق الإلهيّة المأخوذة منهم، و تحريف الكلم عن مواضعه و كتمان آيات الله و الكفر بها و كلّ طغيان و اعتداء، و تذوق وبال أمرها نكالاً عليها من مسخ بعضهم و ضرب الذلّة و المسكنة على آخرين، و تسلّط الظالمين عليهم يقتلون أنفسهم و يهتكون أعراضهم و يخرّبون بلادهم، و ما لهم من العيش إلّا عيشة الحرض الّذي لا هو حيّ فيرجى و لا ميّت فينسى.

و أمّا النصارى فلا فساد المعاصي و الذنوب الواقعة في اُممهم يقلّ ممّا كان من اليهود، و لا أنواع العذاب النازل عليهم قبل البعثة و في زمانها و بعدها حتّى اليوم، فهو ذا التاريخ يحفظ عليهم جميع ذلك أو أكثرها، و القرآن يقصّ من ذلك شيئاً كثيراً كما في سورة البقرة و آل عمران و النساء و المائدة و الأعراف و غيرها.

و ليس لهؤلاء أن يقولوا: إنّ هذه المصائب و البلايا و الفتن النازلة بنا إنّما هي من قبيل( البلاء للولاء) و لا دليل على كونها عن سخط إلهيّ يسحب نكالاً و وبالاً و قد نزل أمثالها على صالحي عباد الله من الأنبياء و الرسل كإبراهيم و إسماعيل و يعقوب و يوسف و زكريّا و يحيى و غيرهم، و نزل عليكم معاشر المسلمين نظائرها كما في غزوة اُحد و موتة و غيرهما، فما بال هذه المكاره إذا حلّت بنا عدّت أعذبة إلهيّة و إذا حلّت بكم عادت نعماً و كرامات؟

و ذلك أنّه لا ريب لأحد أنّ هذه المكاره الجسمانيّة و المصائب و البلايا الدنيويّة توجد عند المؤمنين كما توجد عند الكافرين، و تأخذ الصالحين و الطالحين معاً، سنّة الله الّتي قد خلت في عباده إلّا أنّها تختلف عنواناً و أثراً باختلاف موقف الإنسان من الصلاح، و الطلاح مقام العبد من ربّه.

فلا ريب أنّ من استقرّ الصلاح في نفسه و تمكّنت الفضيلة الإنسانيّة من جوهره كالأنبياء الكرام و من يتلوهم لا تؤثّر المصائب و المحن الدنيويّة النازلة عليه إلّا فعليّة الفضائل الكامنة في نفسه ممّا ينتفع به و بآثاره الحسنة هو و غيره فهذا النوع من المحن

٢٦٩

المشتملة على ما يستكرهه الطبع ليس إلّا تربية إلهيّة و إن شئت فقل: ترفيعاً للدرجة.

و من لم يثبت على سعادة أو شقاوة و لم يركب طريق السعادة اللّازمة بعد إذا نزلت به النوازل و دارت عليه الدوائر عقّبت تعيّن طريقه و تميّز موقفه من كفر أو إيمان، و صلاح أو طلاح، و لا ينبغي أن يسمّى هذا النوع من البلايا و المحن إلّا امتحانات و ابتلاءات إلهيّة تخدّ للإنسان خدّه إلى الجنّة أو إلى النار.

و من لم يعتمد في حياته إلّا على هوى النفس و لم يألف إلّا الفساد و الإفساد و الانغمار في لجج الشهوة و الغضب، و لم يزل يختار الرذيلة على الفضيلة، و الاستعلاء على الله على الخضوع للحقّ كما يقصّه القرآن من عاقبة أمر الاُمم الظالمة كقوم نوح و عاد و ثمود و قوم فرعون و أصحاب مدين و قوم لوط، إثر ما فرّطوا في جنب الله. فالنوائب المنصبّة عليهم المبيدة لجمعهم لا يستقيم إلّا أن تعدّ تعذيبات إلهيّة و نكالات و وبالات عليهم لا غير.

و قد جمع الله تعالى هذه المعاني في قوله عزّ من قائل:( وَ تِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ وَ لِيَعْلَمَ الله الَّذِينَ آمَنُوا وَ يَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ وَ الله لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ وَ لِيُمَحِّصَ الله الَّذِينَ آمَنُوا وَ يَمْحَقَ الْكافِرِينَ ) (آل عمران: ١٤١).

و تاريخ اليهود من لدن بعثة موسىعليه‌السلام إلى أن بعث الله محمّداًصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - فيما يزيد على ألفي سنة - و كذا تاريخ النصارى من لدن رفع المسيح إلى ظهور الإسلام - فيما يقرب من ستّة قرون على ما يقال - مملوءٌ من أنواع الذنوب الّتي أذنبوها، و جرائم ارتكبوها، و لم يبقوا منها باقية ثمّ أصرّوا و استكبروا من غير ندم، فالنوائب الحالّة بساحتهم لا تستحقّ إلّا اسم العذاب و النكال.

و أمّا أنّ المسلمين ابتلوا بأمثال ما ابتليت به هؤلاء الاُمم فهذه الابتلاءات بالنظر إلى طبيعتها الكونيّة ليست إلّا حوادث ساقتها يد التدبير الإلهيّ سنّة الله الّتي قد خلت من قبل و لن تجد لسنّة الله تبديلاً، و بالنظر إلى حال المسلمين المبتلين بها فيما كانوا على طريق الحقّ لم تكن إلّا امتحانات إلهيّة، و فيما انحرفوا عنه من قبيل النكال و العذاب، و ليس لأحد على الله كرامة، و لا لمتحكّم عليه حقّ و لم يثبت القرآن

٢٧٠

لهم على ربّهم كرامة، و لا عدهم أبناء الله و أحبّاءه، و لا اعتنى بما تسمّوا به من أسماء أو ألقاب.

قال تعالى مخاطباً لهم:( أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَ لَمَّا يَعْلَمِ الله الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَ يَعْلَمَ الصَّابِرِينَ - إلى أن قال -وَ ما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَ فَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى‏ أَعْقابِكُمْ وَ مَنْ يَنْقَلِبْ عَلى‏ عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ الله شَيْئاً وَ سَيَجْزِي الله الشَّاكِرِينَ ) (آل عمران: ١٤٤) و قال تعالى:( لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَ لا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَ لا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ الله وَلِيًّا وَ لا نَصِيراً ) (النساء: ١٢٣).

و في الآية أعني قوله:( قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ ) وجه آخر و هو أن يكون المراد بالعذاب الاُخرويّ، و المضارع (يُعَذِّبُكُمْ ) بمعنى الاستقبال دون الاستمرار كما في الوجه السابق فإنّ أهل الكتاب معترفون بالعذاب بحذاء ذنوبهم في الجملة: أمّا اليهود فقد نقل القرآن عنهم قولهم:( لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً ) (البقرة: ٨٠) و أمّا النصارى فإنّهم و إن قالوا بالفداء لمغفرة الذنوب لكنّه إثبات في نفسه للذنوب و العذاب الّذي أصاب المسيح بالصلب و الأناجيل مع ذلك تثبت ذنوباً كالزنا و نحوه، و الكنيسة كانت تثبته عملاً بما كانت تصدره من صكوك المغفرة. هذا. لكنّ الوجه هو الأوّل.

قوله تعالى: ( بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَ لله مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما وَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ ) حجّة ثانية مسوقة على نحو المعارضة محصّلها: أن النظر في حقيقتكم يؤدّي إلى بطلان دعواكم أنّكم أبناء الله و أحبّاؤه، فإنّكم بشر من جملة من خلقه الله من بشر أو غيره لا تمتازون عن سائر من خلقه الله منهم، و لا يزيد أحد من الخليقة من السماوات و الأرض و ما بينهما على أنّه مخلوق لله الّذي هو المليك الحاكم فيه و في غيره بما شاء و كيفما شاء و سيصير إلى ربّه المليك الحاكم فيه و في غيره، و إذا كان كذلك كان لله سبحانه أن يغفر لمن شاء منهم، و يعذّب من شاء منهم من غير أن تمانعه مزيّة أو كرامة أو غير ذلك من أن يريد في شي‏ء ما يريده من مغفرة أو عذاب أو يقطع سبيله قاطع أو يضرب دونه

٢٧١

حجاب يحجبه عن نفوذ المشيئة و مضيّ الحكم.

فقوله:( بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ ) بمنزلة إحدى مقدّمات الحجّة، و قوله:( وَ لله مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما ) مقدّمة اُخرى و قوله:( وَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ ) مقدّمة ثالثة، و قوله:( يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ ) بمنزلة نتيجة البيان الّتي تناقض دعواهم: أنّه لا سبيل إلى تعذيبهم.

قوله تعالى: ( يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى‏ فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ ) قال الراغب: الفتور سكون بعد حدّة و لين بعد شدّة، و ضعف بعد قوّة قال تعالى:( يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى‏ فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ ) أي سكون خال عن مجي‏ء رسول الله. انتهي.

و الآية خطاب ثان لأهل الكتاب متمّم للخطاب السابق فإنّ الآية الاُولى بيّنت لهم أنّ الله أرسل إليهم رسولاً أيّده بكتاب مبين يهدي بإذن الله إلى كلّ خير و سعادة، و هذه الآية تبيّن أنّ ذلك البيان الإلهيّ إنّما هو لإتمام الحجّة عليهم أن يقولوا: ما جاءنا من بشير و لا نذير.

و بهذا البيان يتأيّد أن يكون متعلّق الفعل (يُبَيِّنُ لَكُمْ ) في هذه الآية هو الّذي في الآية السابقة، و التقدير: يبيّن لكم كثيراً ممّا كنتم تخفون من الكتاب أي إنّ هذا الدين الّذي تدعون إليه هو بعينه دينكم الّذي كنتم تدينون به مصدّقاً لما معكم و الّذي يرى فيه من موارد الاختلاف فإنّما هو بيان لما أخفيتموه من معارف الدين الّتي بيّنته الكتب الإلهيّة، و لازم هذا الوجه أن يكون قوله:( يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ ) من قبيل إعادة عين الخطاب السابق لضمّ بعض الكلام المفصول عن الخطاب السابق المتعلّق به و هو قوله:( أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا) إلخ إليه و إنّما جوّز ذلك وقوع الفصل الطويل بين المتعلّق و المتعلّق به و هو شائع في اللّسان، قال:

قرّبا مربط النعامة منّي

لقحت حرب وائل عن حيال

قرّبا مربط النعامة منّي

إنّ بيع الكريم بالشسع غال

و يمكن أن يكون خطاباً مستأنفاً و الفعل (يُبَيِّنُ لَكُمْ ) إنّما حذف متعلّقه.

٢٧٢

للدلالة على العموم أي يبيّن لكم جميع ما يحتاج إلى البيان، أو لتفخيم أمره أي يبيّن لكم أمراً عظيماً تحتاجون إلى بيانه، و قوله:( عَلى‏ فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ ) لا يخلو عن إشعار أو دلالة على هذه الحاجة فإنّ المعنى: يبيّن لكم ما مسّت حاجتكم إلى بيانه و الزمان خال من الرسل حتّى يبيّنوا لكم ذلك.

و قوله:( أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَ لا نَذِيرٍ ) ، متعلّق بقوله:( قَدْ جاءَكُمْ ) بتقدير: حذر أن تقولوا، أو لئلّا تقولوا.

و قوله:( وَ الله عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ ) كأنّه لدفع الدخل فإنّ اليهود كانت لا ترى جواز تشريع شريعة بعد شريعة التوراة لذهابهم إلى امتناع النسخ و البداء فردّ الله سبحانه مزعمتهم بأنّها تنافي عموم القدرة، و قد تقدّم الكلام في النسخ في تفسير قوله تعالى:( ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ ) الآية: (البقرة: ١٠٦) في الجزء الأوّل من الكتاب.

( كلام في طريق التفكّر الّذي يهدي إليه)

( القرآن و هو بحث مختلط)

ممّا لا نرتاب فيه أنّ الحياة الإنسانيّة حياة فكريّة لا تتمّ له إلّا بالإدراك الّذي نسمّيه فكراً، و كان من لوازم ابتناء الحياة على الفكر أنّ الفكر كلّما كان أصحّ و أتمّ كانت الحياة أقوم، فالحياة القيّمة - بأيّة سنّة من السنن أخذ الإنسان، و في أيّ طريق من الطرق المسلوكة و غير المسلوكة سلك الإنسان - ترتبط بالفكر القيّم و تبتني عليه، و بقدر حظّها منه يكون حظّها من الاستقامة.

و قد ذكر الله سبحانه في كتابه العزيز بطرق مختلفة و أساليب متنوّعة كقوله:( أَ وَ مَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَ جَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها ) (الأنعام: ١٢٢)، و قوله:( هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ) (الزمر: ٩)، و قوله:( يَرْفَعِ الله الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ ) (المجادلة: ١١) و قوله:( فَبَشِّرْ عِبادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ

٢٧٣

الَّذِينَ هَداهُمُ الله وَ أُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ ) (الزمر: ١٨) إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة الّتي لا تحتاج إلى الإيراد. فأمر القرآن في الدعوة إلى الفكر الصحيح و ترويج طريق العلم ممّا لا ريب فيه.

و القرآن الكريم مع ذلك يذكر أنّ ما يهدي إليه طريق من الطرق الفكريّة، قال تعالى:( إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ) (إسراء: ٩) أي الملّة أو السنّة أو الطريقة الّتي هي أقوم، و على أيّ حال هي صراط حيويّ كونه أقوم يتوقّف على كون طريق الفكر فيه أقوم، و قال تعالى:( قَدْ جاءَكُمْ مِنَ الله نُورٌ وَ كِتابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ الله مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَ يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَ يَهْدِيهِمْ إِلى‏ صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ) (المائدة: ١٦) و الصراط المستقيم هو الطريق البيّن الّذي لا اختلاف فيه و لا تخلّف أي لا يناقض الحقّ المطلوب، و لا يناقض بعض أجزائه بعضاً.

و لم يعيّن في الكتاب العزيز هذا الفكر الصحيح القيّم الّذي يندب إليه إلّا أنّه أحال فيه إلى ما يعرفه الناس بحسب عقولهم الفطريّة، و إدراكهم المركوز في نفوسهم، و أنّك لو تتبّعت الكتاب الإلهيّ ثمّ تدبّرت في آياته وجدت ما لعلّه يزيد على ثلاثمائة آية تتضمّن دعوة الناس إلى التفكّر أو التذكّر أو التعقّل، أو تلقّن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الحجّة لإثبات حقّ أو لإبطال باطل كقوله:( قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ الله شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَ أُمَّهُ ) (الآية) أو تحكي الحجّة عن أنبيائه و أوليائه كنوح و إبراهيم و موسى و سائر الأنبياء العظام، و لقمان و مؤمن آل فرعون و غيرهماعليهم‌السلام كقوله:( قالَتْ رُسُلُهُمْ أَ فِي الله شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ) (إبراهيم: ١٠)، و قوله:( وَ إِذْ قالَ لُقْمانُ لِابْنِهِ وَ هُوَ يَعِظُهُ يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِالله إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ) (لقمان: ١٣)، و قوله:( وَ قالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَ تَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ الله وَ قَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ ) الآية: (غافر: ٢٨)، و قوله حكاية عن سحرة فرعون:( قالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى‏ ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَ الَّذِي فَطَرَنا فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا ) إلى آخر ما احتجوا به: (طه: ٧٢).

و لم يأمر الله تعالى عباده في كتابه و لا في آية واحدة أن يؤمنوا به أو بشي‏ء ممّا

٢٧٤

هو من عنده أو يسلكوا سبيلاً على العمياء و هم لا يشعرون، حتّى أنّه علّل الشرائع و الأحكام الّتي جعلها لهم ممّا لا سبيل للعقل إلّا تفاصيل ملاكاته باُمور تجري مجرى الاحتجاجات كقوله:( إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى‏ عَنِ الْفَحْشاءِ وَ الْمُنْكَرِ وَ لَذِكْرُ الله أَكْبَرُ ) (العنكبوت: ٤٥) و قوله:( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) (البقرة: ١٨٣)، و قوله في آية الوضوء:( ما يُرِيدُ الله لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَ لكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَ لِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) (المائدة: ٦) إلى غير ذلك من الآيات.

و هذا الإدراك العقليّ أعني طريق الفكر الصحيح الّذي يحيل إليه القرآن الكريم و يبني على تصديقه ما يدعو إليه من حقّ أو خير أو نفع، و يزجر عنه من باطل أو شرّ أو ضرّ إنّما هو الّذي نعرفه بالخلقة و الفطرة ممّا يتغيّر و لا يتبدّل و لا يتنازع فيه إنسان و إنسان، و لا يختلف فيه اثنان، و إن فرض فيه اختلاف أو تنازع فإنّما هو من قبيل المشاجرة في البديهيّات ينتهي إلى عدم تصوّر أحد المتشاجرين أو كليهما حقّ المعنى المتشاجر فيه لعدم التفاهم الصحيح.

و أمّا أنّ هذا الطريق الّذي نعرفه بحسب فطرتنا الإنسانيّة ما هو؟ فلئن شككنا في شي‏ء لسنا نشكّ أنّ هناك حقائق خارجيّة واقعيّة مستقلّة منفكّة عن أعمالنا كمسائل المبدأ و المعاد، و مسائل اُخرى رياضيّة أو طبيعيّة و نحو ما إذا أردنا أن نحصل عليها حصولاً يقينيّاً استرحنا في ذلك إلى قضايا أوليّة بديهيّة غير قابلة للشكّ، و اُخرى تلزمها لزوماً كذلك، و نرتّبها ترتيباً فكريّاً خاصّاً نستنتج منها ما نطلبه كقولنا: أ. ب، و كلّ ب. ج، ف أ. ج، و كقولنا: لو كان أ. ب ف ج. د، و لو كان ج د ف ه. ز ينتج: لو كان أ ب، ف ه. ز و كقولنا: إن كان أ. ب فج. د و لو لكنّ أ. ب، ينتج: ب ج.

و هذه الأشكال الّتي ذكرناها و الموادّ الأوّليّة الّتي أشرنا إليها اُمور بديهيّة يمتنع أن يرتاب فيها إنسان ذو فطرة سليمة إلّا عن آفة عقليّة أو لاختلاط في الفهم مقتض لعدم تعقّل هذه الاُمور الضروريّة بأخذ مفهوم تصوّريّ أو تصديقيّ آخر مكان

٢٧٥

التصوّر أو التصديق البديهيّ، كما هو الغالب فيمن يتشكّك في البديهيّات.

و نحن إذا راجعنا التشكيكات و الشبه الّتي اُوردت على هذا الطريق المنطقيّ المذكور وجدنا أنّهم يعتمدون في استنتاج دعاويهم و مقاصدهم على مثل القوانين المدوّنة في المنطق الراجعة إلى الهيئة و المادّة بحيث لو حلّلنا كلامهم إلى المقدّمات الابتدائيّة المأخوذة فيه عاد إلى موادّ و هيئات منطقيّة، و لو غيّرنا بعض تلك المقدّمات أو الهيئات إلى ما يهتف المنطق بعدم إنتاجها عاد الكلام غير منتج، و رأيتهم لا يرضون بذلك، و هذا بعينه أوضح شاهد على أنّ هؤلاء معترفون بحسب فطرتهم الإنسانيّة بصحّة هذه الاُصول المنطقيّة مسلّمون لها مستعملون إيّاها، جحدوا بها و استيقنتها أنفسهم.

١- كقول بعض المتكلّمين: ( لو كان المنطق طريقاً موصلاً لم يقع الاختلاف بين أهل المنطق لكنّا نجدهم مختلفين في آرائهم) فقد استعمل القياس الاستثنائيّ من حيث لا يشعر، و قد غفل هذا القائل عن أنّ معنى كون المنطق آلة الاعتصام أنّ استعماله كما هو حقّه يعصم الإنسان من الخطأ، و أمّا أنّ كلّ مستعمل له فإنّما يستعمله صحيحاً فلا يدّعيه أحد، و هذا كما أنّ السيف آلة القطع لكن لا يقطع إلّا عن استعمال صحيح.

٢- و قول بعضهم: إنّ هذه القوانين دوّنت ثمّ كمّلت تدريجاً فكيف يبتني عليها ثبوت الحقائق الواقعيّة؟ و كيف يمكن إصابة الواقع لمن لم يعرفها أو لم يستعملها؟ و هذا كسابقه قياس استثنائيّ و من أردء المغالطة. و قد غلط القائل في معنى التدوين، فإنّ معناه الكشف التفصيليّ عن قواعد معلومة للإنسان بالفطرة إجمالاً لا أنّ معنى التدوين هو الإيجاد.

٣- و قول بعضهم: إنّ هذه الاُصول إنّما روّجت بين الناس لسدّ باب أهل البيت أو لصرف الناس عن اتّباع الكتاب و السنّة فيجب على المسلمين اجتنابها و هذا كلام منحلّ إلى أقيسة اقترانيّة و استثنائيّة. و لم يتفطّن المستدلّ به أنّ تسوية طريق لغرض فاسد أو سلوكه لغاية غير محمودة لا ينافي استقامته في نفسه كالسيف يقتل به المظلوم، و كالدين يستعمل لغير مرضاة الله سبحانه.

٢٧٦

٤- و قول بعضهم: ( إنّ السلوك العقليّ ربّما انتهى بسالكه إلى ما يخالف صريح الكتاب و السنّة كما نرى من آراء كثير من المتفلسفين) و هذا قياس اقترانيّ مؤلّف غولط فيه من جهة أنّ هذا المنهي ليس هو شكل القياس و لا مادّة بديهيّة بل مادّة فاسدة غريبة داخلت الموادّ الصحيحة.

٥- و قول بعضهم: ( المنطق إنّما يتكفّل تمييز الشكل المنتج من الشكل الفاسد و أمّا الموادّ فليس فيها قانون يعصم الإنسان من الخطأ فيها و لا يؤمن الوقوع في الخطأ لو راجعنا غير أهل العصمة، فالمتعيّن هو الرجوع إليهم) و فيه مغالطة من جهة أنّه سيق لبيان حجّيّة أخبار الآحاد أو مجموع الآحاد و الظواهر الظنّيّة من الكتاب، و من المعلوم أنّ الاعتصام بعصمة أهل العصمةعليهم‌السلام إنّما يحصل فيما أيقنّا من كلامهم بصدوره و المراد منه معاً يقيناً صادقاً، و أنّى يحصل ذلك في أخبار الآحاد الّتي هي ظنّيّة صدوراً و دلالة؟ و كذا في كلّ ما دلالته ظنّيّة، و إذا كان المناط في الاعتصام هو المادّة اليقينيّة فما الفرق بين المادّة اليقينيّة المأخوذة من كلامهم و المادّة اليقينيّة المأخوذة من المقدّمات العقليّة؟ و اعتبار الهيئة مع ذلك على حاله.

و قولهم:( لا يحصل لنا اليقين بالموادّ العقليّة بعد هذه الاشتباهات كلّها) فيه: أوّلاً أنّه مكابرة. و ثانياً: أنّ هذا الكلام بعينه مقدّمة عقليّة يراد استعمالها يقينيّة، و الكلام مشتمل على الهيئة.

٦- و قول بعضهم: ( إنّ جميع ما يحتاج إليه النفوس الإنسانيّة مخزونة في الكتاب العزيز، مودعة في أخبار أهل العصمةعليهم‌السلام فما الحاجة إلى أسآر الكفّار و الملاحدة؟) .

و الجواب عنه أنّ الحاجة إليها عين الحاجة الّتي تشاهد في هذا الكلام بعينه، فقد اُلّف تأليفاً اقترانيّاً منطقيّاً، و استعملت فيه الموادّ اليقينيّة لكن غولط فيه أوّلاً بأنّ تلك الاُصول المنطقيّة بعض ما هو مخزون مودع في الكتاب و السنّة، و لا طريق إليها إلّا البحث المستقلّ.

٢٧٧

و ثانياً: أنّ عدم حاجة الكتاب و السنّة و استغناءهما عن ضميمة تنضمّ إليهما غير عدم حاجة المتمسّك بهما و المتعاطي لهما، و فيه المغالطة، و ما مثل هؤلاء إلّا كمثل الطبيب الباحث عن بدن الإنسان لو ادّعى الاستغناء عن تعلّم العلوم الطبيعيّة و الاجتماعيّة و الأدبيّة، لأنّ الجميع متعلّق بالإنسان. أو كمثل الإنسان الجاهل إذا استنكف عن تعلّم العلوم معتذراً أنّ جميع العلوم مودعة في الفطرة الإنسانيّة.

و ثالثاً: أنّ الكتاب و السنّة هما الداعيان إلى التوسّع في استعمال الطرق العقليّة الصحيحة (و ليست إلّا المقدّمات البديهيّة أو المتّكئة على البديهيّة) قال تعالى:( فَبَشِّرْ عِبادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ الله وَ أُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ ) (الزمر: ١٨) إلى غير ذلك من الآيات و الأخبار الكثيرة، نعم الكتاب و السنّة ينهيان عن اتّباع ما يخالفهما مخالفة صريحة قطعيّة لأنّ الكتاب و السنّة القطعيّة من مصاديق ما دلّ صريح العقل على كونهما من الحقّ و الصدق، و من المحال أن يبرهن العقل ثانياً على بطلان ما برهن على حقّيّته أوّلاً، و الحاجة إلى تمييز المقدّمات العقليّة الحقّة من الباطلة ثمّ التعلّق بالمقدّمات الحقّة كالحاجة إلى تمييز الآيات و الأخبار المحكمة من المتشابهة ثمّ التعلّق بالمحكمة منهما، و كالحاجة إلى تمييز الأخبار الصادرة حقّاً من الأخبار الموضوعة و المدسوسة و هي أخبار جمّة.

و رابعاً: أنّ الحقّ حقّ أينما كان و كيفما اُصيب و عن أيّ محلّ اُخذ، و لا يؤثّر فيه إيمان حامله و كفره، و لا تقواه و فسقه، و الإعراض عن الحقّ بغضاً لحامله ليس إلّا تعلّقا بعصبيّة الجاهليّة الّتي ذمّها الله سبحانه و ذمّ أهلها في كتابه العزيز و بلسان رسلهعليهم‌السلام .

٧- و قول بعضهم: ( إنّ طريق الاحتياط في الدين المندوب إليه في الكتاب و السنّة الاقتصار على ظواهر الكتاب و السنّة و الاجتناب عن تعاطي الاُصول المنطقيّة و العقليّة فإنّ فيه التعرّض للهلاك الدائم و الشقوة الّتي لا سعادة بعدها أبداً) .

٢٧٨

و فيه أنّ هذا البيان بعينه قد تعوطي فيه الاُصول المنطقيّة و العقليّة فإنّه مشتمل على قياس استثنائيّ اُخذ فيه مقدّمات عقليّة متبيّنة عند العقل و لو لم يكن كتاب و لا سنّة. على أنّ البيان إنّما يتمّ فيمن لا يفي استعداده بفهم الاُمور الدقيقة العقليّة و أمّا المستعدّ الّذي يطيق ذلك فلا دليل من كتاب و لا سنّة و لا عقل على حرمانه من نيل حقائق المعارف الّتي لا كرامة للإنسان و لا شرافة إلّا بها، و قد دلّ على ذلك الكتاب و السنّة و العقل جميعاً.

٨- و قول بعضهم: - فيما ذكره -: إنّ طريق السلف الصالح كان مبايناً لطريق الفلسفة و العرفان و كانوا يستغنون بالكتاب و السنّة عن استعمال الاُصول المنطقيّة و العقليّة كالفلاسفة، و عن استعمال طرق الرياضة كالعرفاء.

ثمّ لمّا نقلت فلسفة يونان في عصر الخلفاء إلى العربيّة رام المتكلّمون من المسلمين و قد كانوا من تبعة القرآن إلى تطبيق المطالب الفلسفيّة على المعارف القرآنيّة فتفرّقوا بذلك إلى فرقتي الأشاعرة و المعتزلة، ثمّ نبغ آخرون في زمان الخلفاء تسمّوا بالصوفيّة و العرفاء كانوا يدّعون كشف الأسرار و العلم بحقائق القرآن و كانوا يزعمون أنّهم في غنى عن الرجوع إلى أهل العصمة و الطهارة، و بذلك امتازت الفقهاء و الشيعة - و هم المتمسّكون بذيلهمعليهم‌السلام - عنهم، و لم يزل الأمر على ذلك إلى ما يقرب من أواسط القرن الثالث عشر من الهجرة (قبل مائة سنة تقريباً) و عند ذلك أخذ هؤلاء (يعني الفلاسفة و العرفاء) في التدليس و التلبيس و تأويل مقاصد القرآن و الحديث إلى ما يوافق المطالب الفلسفيّة و العرفانيّة حتّى اشتبه الأمر على الأكثرين.

و استنتج من ذلك أنّ هذه الاُصول مخالفة للطريقة الحقّة الّتي يهدي إليها الكتاب و السنّة.

ثمّ أورد بعض الإشكالات على المنطق - ممّا أوردناه - كوجود الاختلاف بين المنطقيّين أنفسهم، و وقوع الخطأ مع استعماله، و عدم وجود البديهيّات و اليقينيّات بمقدار كاف في المسائل الحقيقيّة، ثمّ ذكر مسائل كثيرة من الفلسفة و عدّها جميعاً مناقضة لصريح ما يستفاد من الكتاب و السنّة.

٢٧٩

هذا محصّل كلامه و قد لخّصناه تلخيصاً.

و ليت شعري أيّ جهة من الجهات الموضوعة في هذا الكلام على كثرتها تقبل الإصلاح و الترميم فقد استظهر الداء على الدواء.

أمّا ما ذكره من تاريخ المتكلّمين و انحرافهم عن الأئمّةعليهم‌السلام و قصدهم إلى تطبيق الفلسفة على القرآن و انقسامهم بذلك إلى فرقتي الأشاعرة و المعتزلة و ظهور الصوفيّة و زعمهم أنّهم و متّبعيهم في غنى عن الكتاب و السنّة و بقاء الأمر على هذا الحال و ظهور الفلسفة العرفانيّة في القرن الثالث عشر كلّ ذلك ممّا يدفعه التاريخ القطعيّ، و سيجي‏ء إشارة إلى ذلك كلّه إجمالاً.

على أنّ فيه خلطاً فاحشاً بين الكلام و الفلسفة فإنّ الفلسفة تبحث بحثاً حقيقيّاً و يبرهن على مسائل مسلّمة بمقدّمات يقينيّة و الكلام يبحث بحثاً أعمّ من الحقيقيّ و الاعتباريّ، و يستدلّ على مسائل موضوعة مسلّمة بمقدّمات هي أعمّ من اليقينيّة و المسلّمة، فبين الفنّين أبعد ممّا بين السماء و الأرض، فكيف يتصوّر أن يروم أهل الكلام في كلامهم تطبيق الفلسفة على القرآن؟ على أنّ المتكلّمين لم يزالوا منذ أوّل ناجم نجم منهم إلى يومنا هذا في شقاق مع الفلاسفة و العرفاء، و الموجود من كتبهم و رسائلهم و المنقول من المشاجرات الواقعة بينهم أبلغ شاهد يشهد بذلك.

و لعلّ هذا الإسناد مأخوذ من كلام بعض المستشرقين القائل بأنّ نقل الفلسفة إلى الإسلام هو الّذي أوجد علم الكلام بين المسلمين. هذا، و قد جهل هذا القائل معنى الكلام و الفلسفة و غرض الفنّين و العلل الموجبة لظهور التكلّم و رمي من غير مرمى.

و أعجب من ذلك كلّه أنّه ذكر بعد ذلك: الفرق بين الكلام و الفلسفة بأنّ البحث الكلاميّ يروم إثبات مسائل المبدء و المعاد مع مراعاة جانب الدين و البحث الفلسفيّ يروم ذلك من غير أن يعتني بأمر الدين ثمّ جعل ذلك دليلاً على كون السلوك من طريق الاُصول المنطقيّة و العقليّة سلوكاً مبايناً لسلوك الدين مناقضاً للطريق المشروع فيه هذا. فزاد في الفساد، فكلّ ذي خبرة يعلم أنّ كلّ من ذكر هذا الفرق بين الفنّين أراد أن يشير إلى أنّ القياسات المأخوذة في الأبحاث الكلاميّة جدليّة مركّبة من مقدّمات مسلّمة:

٢٨٠