الميزان في تفسير القرآن الجزء ٥

الميزان في تفسير القرآن13%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 444

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 444 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 91154 / تحميل: 10837
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ٥

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

في ذمته أو كان له مال تجدد له بعد الحجر ـ ولو بالاستدانة أو قبول الهدية مثلاً ـ أو أذن له الغرماء بدفع الثمن من ماله المحجور عليه.

مسألة 333 : تثبت الشفعة للشريك وإن كان سفيهاً أو صبياً أو مجنوناً فيأخذ لهم الولي بها ، بل إذا أخذ السفيه بها بإذن الولي صح. نعم إذا كان الولي هو الوصي أو الحاكم ليس له ذلك إلا مع رعاية الغبطة والمصلحة بخلاف الأب والجد فإنه تكفي فيهما رعاية عدم المفسدة كما هو الحال في سائر التصرفات.

مسألة 334 : إذا أسقط الولي عن الصبي أو المجنون أو السفيه حق الشفعة ـ مع رعاية ما تقدم ـ لم يكن لهم المطالبة بها بعد البلوغ والعقل والرشد ، وكذا إذا لم يكن الأخذ بها مصلحة فلم يطالب. أما إذا ترك المطالبة بها مساهلة منه في حقهم فالظاهر أن لهم المطالبة بها بعد البلوغ والعقل والرشد.

مسألة 335 : إذا كان المبيع مشتركاً بين الولي والمولى عليه فباع الولي سهم المولىّ عليه جاز له أن يأخذ بالشفعة لنفسه على الأقوى.

مسألة 336 : إذا باع الولي سهم نفسه جاز له أن يأخذ بالشفعة للمولى عليه ، وكذا الحكم في الوكيل إذا كان شريكاً مع الموكل.

١٠١

فصل

في الأخذ بالشفعة

مسألة 337 : الأخذ بالشفعة من الإنشائيات المعتبر فيها الإيقاع ويتحقق ذلك بالقول مثل أن يقول : أخذت المبيع الكذائي بثمنه ، وبالفعل مثل أن يدفع الثمن إلى المشتري ويستقل بالمبيع.

مسألة 338 : لا يجوز للشفيع أخذ بعض المبيع وترك بعضه الآخر بل إما أن يأخذ الجميع أو يدع الجميع.

مسألة 339 : الشفيع يتملك المبيع بإعطاء قدر الثمن إلى المشتري لا بأكثر منه ولا بأقل سواء أكانت قيمة المبيع السوقية مساوية للثمن أم زائدة أم ناقصة ، ولا يلزم أن يعطي عين الثمن في فرض التمكن منها بل له أن يعطي مثله إن كان مثلياً.

مسألة 340 : إذا كان الثمن قيمياً ففي ثبوت الشفعة للشريك بأن يأخذ المبيع بقيمة الثمن حين البيع إشكال ، فالأحوط له عدم الأخذ بالشفعة إلا برضى المشتري كما أن الأحوط للمشتري إجابته إذا أخذ بها.

مسألة 341 : إذا غرم المشتري شيئاً من أجرة الدلال أو غيرها أو تبرع بشيء للبائع من خلعة ونحوها لم يلزم الشفيع تداركه.

مسألة 342 : إذا حط البائع شيئاً من الثمن للمشتري بعد البيع لم يكن للشفيع تنقيصه.

مسألة 343 : الأقوى لزوم المبادرة إلى الأخذ بالشفعة فيسقط مع المماطلة والتأخير بلا عذر ولا يسقط إذا كان التأخير عن عذر ـ ولو كان عرفياً ـ كجهله بالبيع أو جهله باستحقاق الشفعة ، أو توهمه كثرة الثمن فبان قليلا ،

١٠٢

أو كون المشتري زيداً فبان عمراً ، أو أنه اشتراه لنفسه فبان لغيره أو العكس ، أو أنه واحد فبان اثنين أو العكس ، أوإن المبيع النصف بمائة فتبين أنه الربع بخمسين ، أو كون الثمن ذهباً فبان فضة ، أو لكونه محبوساً ظلماً أو بحق يعجز عن أدائه ، وكذا أمثال ذلك من الأعذار.

مسألة 344 : المبادرة اللازمة في استحقاق الأخذ بالشفعة يراد منها المبادرة على النحو المتعارف الذي جرت به العادة ، فإذا كان مشغولاً بعبادة واجبة أو مندوبة لم يجب عليه قطعها.

مسألة 345 : إذا كان مشغولاً بأكل أو شرب لم يجب قطعه ولا يجب عليه الإسراع في المشي.

مسألة 346 : يجوز له إن كان غائباً انتظار الرفقة إذا كان الطريق مخوفاً ، أو انتظار زوال الحر أو البرد إذا جرت العادة بانتظاره لمثله ، وقضاء وطره من الحمام إذا علم بالبيع وهو في الحمام وأمثال ذلك مما جرت العادة بفعله لمثله ، نعم يشكل مثل عيادة المريض وتشييع المؤمن ونحو ذلك إذا لم يكن تركه موجباً للطعن فيه وكذا الاشتغال بالنوافل ابتداءً ، والأظهر السقوط في كل مورد صدقت فيه المماطلة عرفاً.

مسألة 347 : إذا كان غائباً عن بلد البيع وعلم بوقوعه وكان يتمكن من الأخذ بالشفعة ولو بالتوكيل فلم يبادر إليه سقطت الشفعة.

مسألة 348 : لا ينتقل المبيع إلى الشفيع بمجرد قوله : ( أخذت بالشفعة ) مثلاً ، بل لابد من تعقبه بدفع الثمن إلا أن يرضى المشتري بالتأخير ، فإذا قال ذلك وهرب أو ماطل أو عجز عن دفع الثمن بقي المبيع على ملك المشتري لا أنه ينتقل بالقول إلى ملك الشفيع وبالعجز أو الهرب أو المماطلة يرجع إلى ملك المشتري.

مسألة 349 : إذا باع المشتري قبل أخذ الشفيع بالشفعة لم تسقط بل

١٠٣

جاز للشفيع الأخذ من المشتري الأول بالثمن الأول فيبطل الثاني وتجزي الإجازة منه في صحته له ، وله الأخذ من المشتري الثاني بثمنه فيصح البيع الأول.

مسألة 350 : إذا زادت العقود على اثنين فإن أخذ بالأول بطل ما بعده ويصح مع إجازته ، وإن أخذ بالأخير صح ما قبله ، وإن أخذ بالمتوسط صح ما قبله وبطل ما بعده ويصح مع إجازته.

مسألة 351 : إذا تصرف المشتري في المبيع بوقف أو هبة غير معوضة أو بجعله صداقاً أو غير ذلك مما لا شفعة فيه كان للشفيع الأخذ بالشفعة بالنسبة إلى البيع فتبطل التصرفات اللاحقة له.

مسألة 352 : الشفعة من الحقوق فتسقط بالإسقاط ، ويجوز أخذ المال بإزاء إسقاطها وبإزاء عدم الأخذ بها ، لكن على الأول لا يسقط إلا بالإسقاط فإذا لم يسقطه وأخذ بالشفعة صح ولم يستحق المال المبذول ، بل الظاهر صحة الأخذ بالشفعة على الثاني أيضاً. ويصح الصلح على سقوطها فيسقط بذلك.

مسألة 353 : الظاهر أنه لا إشكال في أن حق الشفعة لا يقبل الانتقال إلى غير الشفيع.

مسألة 354 : إذا باع الشريك نصيبه قبل الأخذ بالشفعة فالظاهر سقوطها خصوصاً إذا كان بيعه بعد علمه بالشفعة.

مسألة 355 : المشهور اعتبار العلم بالثمن في جواز الأخذ بالشفعة ، فإذا أخذ بها وكان جاهلاً به لم يصح لكن الصحة لا تخلو من وجه.

مسألة 356 : إذا تلف تمام المبيع قبل الأخذ بالشفعة سقطت.

مسألة 357 : إذا تلف بعضه دون بعض لم تسقط وجاز له أخذ الباقي بتمام الثمن من دون ضمان على المشتري.

١٠٤

مسألة 358 : إذا كان التلف بعد الأخذ بالشفعة فإن كان التلف بفعل المشتري ضمنه.

مسألة 359 : إذا كان التلف بغير فعل المشتري ضمنه المشتري أيضاً فيما إذا كان التلف بعد المطالبة ومسامحة المشتري في الإقباض.

مسألة 360 : في انتقال الشفعة إلى الوراث إشكال وعلى تقدير الانتقال ليس لبعض الورثة الأخذ بها ما لم يوافقه الباقون.

مسألة 361 : إذا أسقط الشفيع حقه قبل البيع لم يسقط ، وكذا إذا شهد على البيع أو بارك للمشتري إلا أن تقوم القرينة على إرادة الإسقاط بالمباركة بعد البيع.

مسألة 362 : إذا كانت العين مشتركة بين حاضر وغائب وكانت حصة الغائب بيد ثالث فعرضها للبيع بدعوى الوكالة عن الغائب جاز الشراء منه والتصرف فيه ما لم يعلم كذبه في دعواه ، وهل يجوز للشريك الحاضر الأخذ بالشفعة بعد إطلاعه على البيع؟ إشكال ، وإن كان الجواز أقرب فإذا حضر الغائب وصدق فهو ، وإن أنكر كان القول قوله بيمينه ما لم يكن مخالفاً للظاهر فإذا حلف انتزع الحصة من يد الشفيع وكان له عليه الأجرة إن كانت ذات منفعة مستوفاة أو غيرها على تفصيل تقدم في المسألة (78) ، فإن دفعها إلى المالك رجع بها على مدعي الوكالة.

مسألة 363 : إذا كان الثمن مؤجلاً جاز للشفيع الأخذ بالشفعة بالثمن المؤجل ، والظاهر جواز إلزامه بالكفيل ، ويجوز أيضاً الأخذ بالثمن حالاً إن رضي المشتري به أو كان شرط التأجيل للمشتري على البائع.

مسألة 364 : إذا تقايل المتبايعان قبل أخذ الشريك بالشفعة فالمشهور عدم سقوطها بالإقالة ، بل لو أخذ الشفيع بها كشف ذلك عن بطلان الإقالة فيكون نماء المبيع بعدها للمشتري ونماء الثمن للبائع كما كان الحال قبلها

١٠٥

كذلك ، ولكن لا يبعد سقوطها حينئذ ، وأما لو كان التقايل بعد أخذ الشريك بالشفعة لم يمنع ذلك عن صحة الإقالة فيرجع البائع بعوض المبيع إلى المشتري.

مسألة 365 : إذا كان للبائع خيار رد العين فالظاهر أن الشفعة لا تسقط به لكن البائع إذا فسخ قبل أخذ الشريك بالشفعة يرجع المبيع إليه ولا شفعة وإن فسخ بعده رجع بالمثل أو القيمة ، وهكذا الحكم في سائر الخيارات الثابتة للبائع أو المشتري غير ما يسقط بخروج العين عن ملك المشتري كخيار العيب.

مسألة 366 : إذا كانت العين معيبة فإن علمه المشتري فلا خيار له ولا أرش ، فإذا أخذ الشفيع بالشفعة فإن كان عالماً به فلا شيء له وإن كان جاهلاً كان له الخيار في الرد وليس له اختيار الأرش ، وأذا كان المشتري جاهلاً كان له الرد فإن لم يمكن ـ ولو لأخذ الشريك بالشفعة قبل ذلك ـ كان له الأرش ، وأما الشفيع الجاهل بالعيب حين أخذه بالشفعة فيتخير بين الرد إلى المشتري وبين مطالبته بالأرش حتى وإن كان قد أسقطه عن البائع على الأقرب.

مسألة 367 : إذا اتفق اطلاع المشتري على العيب بعد أخذ الشفيع فالظاهر أن له أخذ الأرش وعليه دفعه إلى الشفيع ، وأذا اطلع الشفيع عليه دون المشتري فليس له مطالبة البائع بالأرش بل له إعلام المشتري بالحال ويتخير بين رد العين المعيبة إليه وبين مطالبته بالأرش.

١٠٦

كتاب الإجارة

١٠٧
١٠٨

وهي المعاوضة على المنفعة عملاً كانت أو غيره ، فالأول مثل إجارة الخياط للخياطة ، والثاني مثل إجارة الدار.

وفيه فصول :

فصل في شروطها

مسألة 368 : لابد فيها من الإيجاب والقبول ، فالإيجاب مثل قول الخياط : آجرتك نفسي ، وقول صاحب الدار : آجرتك داري ، والقبول مثل قول المستأجر : قبلت ، ويجوز وقوع الإيجاب من المستأجر ، مثل : استأجرتك لتخيط ثوبي وأستأجرت دارك ، فيقول المؤجر : قبلت ، ويكفي في الأخرس الإشارة المفهمة للإيجار أو الاستئجار.

مسألة 369 : تجري المعاطاة في الإجارة ـ كما تجري في البيع ـ فلو سلّم المؤجر ماله للمستأجر بقصد الإيجار وقبضه المستأجر بقصد الاستئجار صحت الإجارة.

مسألة 370 : يشترط في صحة الإجارة أمور بعضها في المتعاقدين ، وبعضها في العين المستأجرة ، وبعضها في المنفعة المقصودة بالإجارة ، وبعضها في الأجرة.

١٠٩

( شرائط المتعاقدين )

يشترط في المؤجر والمستأجر أن يكون كل منهما بالغاً عاقلا مختارا ، كما يشترط في المؤجر أن يكون مالكا للمنفعة المقصودة بالإيجار وفي المستأجر أن يكون مالكاً للأجرة ، ويشترط فيهما أن لا يكونا محجورين لسفه أو تفليس ، فلا تصح إجارة الصبي والمجنون والمكره ـ إلا أن يكون الإكراه بحق ـ كما لا تصح إجارة الفضولي ، ولا إجارة السفيه أمواله مطلقاً ، ولا إجارة المفلس أمواله التي حجر عليها.

مسألة 371 : إذا أجر السفيه نفسه لعمل فالأظهر بطلان الإجارة ـ ما لم تتعقب بإجازة الولي ـ وأما إذا آجر المفلس نفسه فالأظهر صحتها.

مسألة 372 : إذا لم يكن المؤجر مالكاً للمنفعة ـ ولم يكن ولياً ولا وكيلاً ـ توقفت صحة الإجارة على إجازة المالك ، وأذا كان محجوراً عليه لسفه توقفت صحتها على إجازة الولي ، وإن كان محجوراً عليه لفلس توقفت صحتها على إجازة الغرماء ، وإن كان مكرهاً توقفت صحتها على الرضا لا بداعي الإكراه.

( شرائط العين المستأجرة )

وهي أمور :

1 ـ التعيين ، فلا يصح إجارة المبهم كما لو قال : ( آجرتك إحدى دوري ) نعم يصح إجارة الكلي في المعين كسيارة من عدة سيارات متماثلة.

2 ـ المعلومية ، فإن كانت عيناً معينة فإما بالمشاهدة وأما بذكر الأوصاف التي تختلف بها الرغبات في إجارتها لو كانت غائبة ، وكذا لو كانت كلية.

١١٠

3 ـ التمكن من التسليم ، فلا تصح الإجارة من دونه حتى مع الضميمة على الأحوط ، نعم يكفي تمكن المستأجر من الاستيلاء على العين المستأجرة فتصح إجارة الدابة الشاردة مثلاً إذا كان المستأجر قادراً على أخذها.

4 ـ إمكان الانتفاع بها مع بقاء عينها ، فلا تصح إجارة الخبز ونحوه من المأكولات للأكل.

5 ـ قابليتها للانتفاع المقصود من الإجارة ، فلا تصح إجارة الأرض للزراعة إذا لم يكن المطر وافياً ولم يمكن سقيها من النهر أو غيره.

( شرائط المنفعة المقصودة بالإجارة )

وهي أمور :

1 ـ أن تكون محللة ، فلو انحصرت منافع المال في الحرام أو اشترط الانتفاع بخصوص المحرم منها ، أو أوقع العقد مبنياً على ذلك بطلت الإجارة ، كما لو آجر الدكان بشرط أن يباع أو يحفظ فيه الخمر ، أو آجر الحيوان بشرط أن يحمل الخمر عليه.

2 ـ أن تكون لها مالية يبذل المال بإزائها عند العقلاء على الأحوط.

3 ـ تعيين نوع المنفعة إذا كانت للعين منافع متعددة ، فلو أجر حيواناً قابلاً للركوب ولحمل الأثقال وجب تعيين حق المستأجر من الركوب أو الحمل أو كليهما.

4 ـ معلومية المنفعة ، وهي أما بتعيين المدة مثل سكنى الدار سنة أو شهراً ، وأما بتعيين المسافة مثل ركوب السيارة فرسخاً أو فرسخين ، وأما بتعيين العمل كخياطة الثوب المعين على كيفية معينة أو سياقة السيارة إلى مكة أو غيرها من البلاد المعروفة من طريق معين.

١١١

ولابد في الأولين من تعيين الزمان ، فإذا استأجر الدار للسكنى سنة ، والسيارة للركوب فرسخا من دون تعيين الزمان ، بطلت الإجارة ، إلا أن تكون قرينة على التعيين كالإطلاق الذي هو قرينة على التعجيل.

مسألة 373 : لا يعتبر تعيين الزمان في الإجارة على الخياطة ونحوها من الأعمال ، فيجب الإتيان به متى طالب المستأجر ، هذا إذا لم تختلف الأغراض باختلاف الأزمنة التي يقع فيها العمل ، والا فلابد من تعيين الزمان فيه أيضاً.

( شرائط الأجرة )

يعتبر في الأجرة معلوميتها ، فإذا كانت من المكيل أو الموزون أو المعدود لابد من معرفتها بالكيل أو الوزن أو العد ، وما يعرف منها بالمشاهدة لابد من مشاهدته أو وصفه على نحو ترتفع الجهالة.

ويجوز أن تكون الأجرة عيناً خارجية أو كلياً في الذمة ، أو عملاً أو منفعة أو حقاً قابلاً للنقل والانتقال كحق التحجير.

مسألة 374 : إذا استأجر سيارة للحمل فلابد من تعيين الحمل ، وأذا استأجر دراجة للركوب فلابد من تعيين الراكب ، وأذا استأجر ماكنة لحرث جريب من الأرض فلابد من تعيين الأرض. نعم إذا كان اختلاف الراكب أو الحمل أو الأرض لا يوجب اختلافاً في الأغراض النوعية لم يجب التعيين.

مسألة 375 : إذا قال آجرتك الدار شهراً أو شهرين أو قال آجرتك كل شهر بدرهم مهما أقمت فيها بطلت الإجارة ، وأذا قال : آجرتك شهراً بدرهم فإن زدت فبحسابه صح في الشهر الأول وبطل في غيره ، هذا إذا كان بعنوان الإجارة ، أما إذا كان بعنوان الجعالة بأن يجعل المنفعة لمن يعطيه درهماً أو كان من قبيل الإباحة بالعوض بأن يبيح المنفعة لمن يعطيه درهما فلا

١١٢

بأس.

مسألة 376 : إذا قال : إن خطت هذا الثوب بدرز فلك درهم وإن خطته بدرزين فلك درهمان ، فإن قصد الجعالة كما هو الظاهر صح وإن قصد الإجارة بطل ، وكذا إن قال : إن خطته هذا اليوم فلك درهم وإن خطته غداً فلك نصف درهم. والفرق بين الإجارة والجعالة أن في الإجارة تشتغل ذمة العامل بالعمل للمستأجر حين العقد وكذا تشتغل ذمة المستأجر بالعوض ولأجل ذلك صارت عقداً وليس ذلك في الجعالة فإن اشتغال ذمة المالك بالعوض يكون بعد عمل العامل من دون اشتغال لذمة العامل بالعمل أبداً ، ولأجل ذلك صارت إيقاعا.

مسألة 377 : إذا استأجره على عمل مقيد بقيد خاص من زمان أو مكان أو آلة أو وصف فجاء به على خلاف القيد لم يستحق شيئاً على عمله ، فإن لم يمكن العمل ثانياً تخير المستأجر بين فسخ الإجارة وبين مطالبة الأجير بأجرة المثل للعمل المستأجر عليه فإن طالبه بها لزمه إعطاؤه أجرة المثل ، وإن أمكن العمل ثانياً وجب الإتيان به على النهج الذي وقعت عليه الإجارة.

مسألة 378 : إذا استأجره على عمل بشرط ، بأن كان إنشاء الشرط في ضمن عقد الإجارة أو وقع العقد مبنياً عليه فلم يتحقق الشرط ، كما إذا استأجره ليوصله إلى مكان معين وشرط عليه أن يوصله في وقت محدد فأوصله ولكن في غير ذلك الوقت أو استأجره على خياطة ثوبه وأشترط عليه قراءة سورة من القرآن فخاط الثوب ولم يقرأ السورة ـ كان له فسخ الإجارة وعليه حينئذ أجرة المثل وله إمضاؤها ودفع الأجرة المسماة ، والفرق بين القيد والشرط أن متعلق الإجارة في موارد التقييد حصة خاصة مغايرة لسائر الحصص وأما في موارد الاشتراط فمتعلق الإجارة هو طبيعي العمل ولكن العقد معلق على التزام الطرف بتحقق أمر كالإيصال في الوقت المحدد أو القراءة في المثالين ، ولازم

١١٣

ذلك أن يكون التزامه بالعقد مشروطاً بنفس تحقق الملتزم به ، ومعنى ذلك جعل الخيار لنفسه على تقدير عدم تحققه.

مسألة 379 : إذا استأجر سيارة إلى «كربلاء» مثلاً بدرهم وأشترط له على نفسه أنه إن أوصله المؤجر نهاراً أعطاه درهمين صح.

مسألة 380 : لو استأجر سيارة مثلاً إلى مسافة بدرهمين وأشترط على المؤجر أن يعطيه درهماً واحداً إن لم يوصله نهاراً صح ذلك.

مسألة 381 : إذا استأجر سيارة على أن يوصله المؤجر نهاراً بدرهمين أو ليلاً بدرهم بحيث تكون الإجارة على أحد الأمرين مردداً بينهما فالإجارة باطلة.

مسألة 382 : إذا استأجره على أن يوصله إلى «كربلاء» وكان من نيته زيارة ليلة النصف من شعبان ولكن لم يذكر ذلك في العقد ولم تكن قرينة على التعيين استحق الأجرة وإن لم يوصله ليلة النصف من شعبان.

١١٤

فصل

في مسائل تتعلق بلزوم الإجارة

مسألة 383 : الإجارة من العقود اللازمة لا تنفسخ إلا بالتراضي بين الطرفين أو يكون للفاسخ الخيار ، ولا فرق في ذلك بين أن تكون الإجارة منشأة باللفظ أو بالمعاطاة.

مسألة 384 : إذا باع المالك العين المستأجرة قبل تمام مدة الإجارة لم تنفسخ الإجارة بل تنتقل العين إلى المشتري مسلوبة المنفعة مدة الإجارة وإذا كان المشتري جاهلاً بالإجارة أو معتقداً قلة المدة فتبين زيادتها كان له فسخ البيع وليس له المطالبة بالأرش ، وإذا فسخت الإجارة رجعت المنفعة إلى البائع.

مسألة 385 : لا فرق فيما ذكرناه من عدم انفساخ الإجارة بالبيع بين أن يكون البيع على المستأجر وغيره ، فلو استأجر داراً ثم اشتراها بقيت الإجارة على حالها ويكون ملكه للمنفعة في بقية المدة بسبب الإجارة لا من جهة تبعية العين فلو انفسخت الإجارة رجعت المنفعة في بقية المدة إلى البائع ، ولو فسخ البيع بأحد أسبابه بقي ملك المشتري المستأجر للمنفعة على حاله.

مسألة 386 : إذا باع المالك العين على شخص وأجرها وكيله مدة معينة على شخص آخر واقترن البيع والإجارة زماناً صحا جميعاً فيكون المبيع للمشتري مسلوب المنفعة مدة الإجارة ويثبت الخيار له حينئذ.

مسألة 387 : لا تبطل الإجارة بموت المؤجر ولا بموت المستأجر حتى فيما إذا استأجر داراً على أن يسكنها بنفسه فمات ، فإنه لا تبطل الإجارة بموته

١١٥

ولكن يثبت للمؤجر مع التخلف خيار الفسخ ، نعم إذا اعتبر سكناه على وجه القيدية تبطل بموته.

مسألة 388 : إذا أجر نفسه للعمل بنفسه فمات قبل إنجازه بطلت الإجارة ، نعم إذا تعمد ترك الإتيان به قبل موته لم تبطل الإجارة بل يتخير المستأجر بين الفسخ وبين المطالبة بأجرة مثل العمل.

مسألة 389 : إذا لم يكن المؤجر مالكا للعين المستأجرة بل مالكا لمنفعتها ما دام حياً ـ بوصية مثلاً ـ فمات أثناء مدة الأجارة بطلت حينئذ بالنسبة إلى المدة الباقية ، نعم لما كانت المنفعة في بقية المدة لورثة الموصي فلهم أن يجيزوها بالنسبة إلى تلك المدة فتقع لهم الإجارة وتكون لهم الأجرة.

مسألة 390 : إذا أجر البطن السابق من الموقوف عليهم العين الموقوفة فانقرضوا قبل انتهاء مدة الإجارة بطلت بالنسبة إلى بقية المدة إذا لم تجزها الطبقة المتأخرة ، وفي صورة أخذ الطبقة الأولى للأجرة كلها يكون للمستأجر استرجاع مقدار إجارة المدة الباقية منها من أموال الطبقة الأولى ، وأما إذا أجرها المتولي ـ سواء أكان هو البطن السابق أم غيره ـ ملاحظاً بذلك مصلحة الوقف لم تبطل بموته ، وكذا إذا أجرها لمصلحة البطون اللاحقة إذا كانت له ولاية على ذلك فأنها تصح ويكون للبطون اللاحقة حصتهم من الأجرة.

مسألة 391 : إذا أجر نفسه للعمل أما بالإتيان به مباشرة أو تسبيباً فمات قبل ذلك بطلت الإجارة على تفصيل تقدم في المسألة (388) ، وأما إذا تقبل العمل الكلي في ذمته من دون التقييد بذلك فمات قبل تحقيقه لم تبطل المعاملة بل يجب أداء العمل من تركته كسائر الديون.

مسألة 392 : إذا أجر الولي مال الطفل مدة ، وبلغ الطفل أثناءها كانت صحة الإجارة بالنسبة إلى ما بعد بلوغه موقوفة على إجازته حتى فيما إذا كان

١١٦

عدم جعل ما بعد البلوغ جزءاً من مدة الإيجار على خلاف مصلحة الطفل ، وهكذا الحكم فيما إذا أجر الولي الطفل نفسه إلى مدة فبلغ أثناءها ، نعم إذا كان امتداد مدة الإيجار إلى ما بعد البلوغ هو مقتضى مصلحة ملزمة شرعاً بحيث يعلم عدم رضا الشارع بتركها صح الإيجار كذلك بإذن الحاكم الشرعي ولم يكن للطفل أن يفسخه بعد بلوغه.

مسألة 393 : إذا أجرت المرأة نفسها للخدمة مدة معينة فتزوجت في أثنائها لم تبطل الإجارة وإن كانت الخدمة منافية لحق الزوج.

مسألة 394 : إذا أجرت نفسها بعد التزويج توقفت صحة الإجارة على إجازة الزوج فيما ينافي حقه ونفذت الإجارة فيما لا ينافي حقه.

مسألة 395 : إذا وجد المستأجر في العين المستأجرة عيباً فإن كان عالما به حين العقد فلا أثر له وإن كان جاهلاً به فإن كان موجباً لفوات بعض المنفعة كخراب بعض بيوت الدار قسطت الأجرة ورجع على المالك بما يقابل المنفعة الفائتة وله فسخ العقد من أصله ، هذا إذا لم يكن الخراب قابلاً للانتفاع أصلاً ولو بغير السكنى وإلا لم يكن له إلا خيار العيب. وإن كان العيب موجباً لنقص في المنفعة كبطء سير السيارة كان له الخيار في الفسخ وليس له مطالبة الأرش ، وإن لم يوجب العيب شيئا من ذلك لكن يوجب نقص الأجرة ككون السيارة مخسوفة البدنة كان له الخيار أيضاً ، وإن لم يوجب ذلك أيضاً فلا خيار. هذا إذا كانت العين شخصية أما إذا كانت كلية وكان المقبوض معيباً كان له المطالبة بالصحيح ولا خيار في الفسخ ، وإذا تعذر الصحيح كان له الخيار في أصل العقد.

مسألة 396 : إذا وجد المؤجر عيباً في الأجرة وكان جاهلاً به كان له الفسخ وليس له المطالبة بالأرش وإذا كانت الأجرة كلية فقبض فرداً معيباً منها فليس له فسخ العقد بل له المطالبة بالصحيح فإن تعذر كان له الفسخ.

١١٧

مسألة 397 : يجري في الإجارة خيار الغبن ـ على تفصيل تقدم نظيره في البيع ـ كما يجري فيها خيار العيب وخيار الشرط ـ حتى للأجنبي ـ ومنه خيار شرط رد العوض نظير شرط رد الثمن ، وكذا خيار تخلف الشرط الصريح أو الارتكازي ومنه خيار تبعض الصفقة وتعذر التسليم والتفليس والتدليس والشركة ، ولا يجري فيها خيار المجلس ولا خيار الحيوان ولا خيار التأخير على النحو المتقدم في البيع ، نعم مع التأخير في تسليم أحد العوضين عن الحد المتعارف يثبت الخيار للطرف.

مسألة 398 : إذا حصل الفسخ في عقد الإيجار ابتداء المدة فلا إشكال وإذا حصل أثناء المدة فإن لم يكن الخيار مجعولاً للفاسخ على نحو يقتضي التبعيض وبطلان الإجارة بالنسبة إلى ما بقي خاصة ـ كما هو الحال في شرط الخيار غالباً ـ فالأقوى كونه موجباً لانفساخ العقد في جميع المدة فيرجع المستأجر بتمام المسمى ويكون للمؤجر أجرة المثل بالنسبة إلى ما مضى.

١١٨

فصل

في أحكام التسليم في الإجارة

مسألة 399 : إذا وقع عقد الإجارة ملك المستأجر المنفعة في إجارة الأعيان والعمل في الإجارة على الأعمال بنفس العقد وكذا المؤجر والأجير يملكان الأجرة بنفس العقد ، لكن ليس للمستأجر المطالبة بالمنفعة والعمل مع تأجيل الأجرة وعدم تسليمها إلا إذا كان قد شرط ذلك صريحاً أو كانت العادة جارية عليه ، كما أنه ليس للأجير والمؤجر المطالبة بالأجرة مع عدم تسليم العمل والمنفعة إلا إذا كانا قد اشترطا تقديم الأجرة وإن كان لأجل جريان العادة.

مسألة 400 : يجب على كل منهما تسليم ما عليه تسليمه في الزمان الذي يقتضيه العقد ، ولكن وجوب التسليم على كل منهما مشروط بعدم امتناع الآخر ، ولو امتنع المؤجر من تسليم العين المستأجرة مع بذل المستأجر الأجرة جاز للمستأجر إجباره على تسليم العين كما جاز له الفسخ وأخذ الأجرة إذا كان قد دفعها وله إبقاء الإجارة والمطالبة بقيمة المنفعة الفائتة ، وكذا إذا دفع المؤجر العين ثم أخذها من المستأجر بلا فصل أو في أثناء المدة ، ومع الفسخ في الأثناء يرجع بتمام الأجرة وعليه أجرة المثل لما مضى ، وكذا الحكم فيما إذا امتنع المستأجر من تسليم الأجرة مع بذل المؤجر للعين المستأجرة.

مسألة 401 : تسليم المنفعة يكون بتسليم العين ، وتسليم العمل فيما لا يتعلق بعين للمستأجر في يد الأجير يكون بإتمامه ، وفيما يتعلق بعين له في يد الأجير يكون بإتمام العمل فيها مع تسليمها ـ على تقدير عدم تلفها ـ

١١٩

إلى المستأجر.

مسألة 402 : إذا كان العمل المستأجر عليه في العين التي هي بيد الأجير فتلفت العين بعد تمام العمل قبل دفعها إلى المستأجر من غير تفريط استحق الأجير المطالبة بالأجرة ، فإذا كان أجيراً على خياطة ثوب فتلف بعد الخياطة وقبل دفعه إلى المستأجر استحق مطالبة الأجرة فإذا كان الثوب مضموناً على الأجير استحق عليه المالك قيمة الثوب مخيطاً وإلا لم يستحق عليه شيئا.

مسألة 403 : يجوز للأجير بعد إتمام العمل حبس العين إلى أن يستوفي الأجرة ، وإذا حبسها لذلك فتلفت من غير تفريط لم يضمن.

مسألة 404 : تبطل الإجارة بسقوط العين المستأجرة عن قابلية الانتفاع منها بالمنفعة الخاصة المملوكة ، فإذا استأجر داراً سنة ـ مثلاً ـ فانهدمت قبل دخول السنة أو بعد دخولها بلا فصل بطلت الإجارة ، وإذا انهدمت أثناء السنة تبطل الإجارة بالنسبة إلى المدة الباقية وكان للمستأجر الخيار في فسخ الإيجار ، فإن فسخ رجع على المؤجر بتمام الأجرة المسماة وعليه له أجرة المثل بالنسبة إلى المدة الماضية ، وإن لم يفسخ قسطت الأجرة بالنسبة وكان للمالك حصة من الأجرة بنسبة المدة الماضية.

مسألة 405 : إذا استأجر داراً فانهدم قسم منها ، فإن كانت بحيث لو أعيد بناء القسم المهدوم على الوجه المتعارف لعدت بعد التعمير مغايرة لما قبله في النظر العرفي كان حكمه ما تقدم في المسألة السابقة ، وإن لم تعد كذلك فإن أقدم المؤجر على تعميرها فوراً على وجه لا يتلف شيء من منفعتها عرفاً لم تبطل الإجارة ولم يكن للمستأجر حق الفسخ ، وإن لم يقدم على ذلك وكان قادراً عليه فللمستأجر الزامه به ـ فإن لم يفعل كان له مطالبته بأجرة مثل المنفعة الفائتة كما إن له الخيار في فسخ الإجارة رأساً ـ ولو مع

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

(المشهورات و المسلّمات) لكون الاستدلال بها على مسائل مسلّمة، و ما اُخذ في الأبحاث الفلسفيّة منها قياسات برهانيّة يراد بها إثبات ما هو الحقّ لا إثبات ما سلّم ثبوتها تسليماً و هذا غير أن يقال: إنّ أحد الطريقين (طريق الكلام) طريق الدين و الآخر طريق مباين لطريق الدين لا يعتنى به و إن كان حقّاً.

و أمّا ما ذكره من الإشكال على المنطق و الفلسفة و العرفان فما اعترض به على المنطق قد تقدّم الكلام فيه، و أمّا ما ذكره في موضوع الفلسفة و العرفان فإن كان ما ذكره على ما ذكره و فهم منه ثمّ ناقض ما هو صريح الدين الحقّ فلا ريب لمرتاب في أنّه باطل و من هفوات الباحثين في الفلسفة أو السالكين مسلك العرفان و أغلاطهم، لكنّ الشأن في أنّ هفوات أهل فنّ و سقطاتهم و انحرافهم لا تحمل على عاتق الفنّ، و إنّما يحمل على قصور الباحثين في بحثهم.

و كان عليه أن يتأمّل الاختلافات الناشئة بين المتكلّمين: أشعريّهم و معتزليّهم و إماميّهم فقد اقتسمت هذه الاختلافات الكلمة الواحدة الإسلاميّة فجعلتها بادء بدء ثلاثاً و سبعين فرقة ثمّ فرّقت كلّ فرقة إلى فرق، و لعلّ فروع كلّ أصل لا ينقص عدداً من اُصولها.

فليت شعري هل أوجد الاختلافات شي‏ء غير سلوك طريق الدين؟ و هل يسع لباحث أن يستدلّ بذلك على بطلان الدين و فساد طريقه؟ أو يأتي ههنا بعذر لا يجري هناك أو يرمي اُولئك برذيلة معنويّة لا توجد عينها أو مثلها في هؤلاء؟! و نظير فنّ الكلام في ذلك الفقه الإسلاميّ و انشعاب الشعب و الطوائف فيه ثمّ الاختلافات الناشئة بين كلّ طائفة أنفسهم، و كذلك سائر العلوم و الصناعات على كثرتها و اختلافها.

و أمّا ما استنتج من جميع كلامه من بطلان جميع الطرق المعمولة و تعيّن طريق الكتاب و السنّة و هو مسلك الدين فلا يسعه إلّا أن يرى طريق التذكّر و هو الّذي نسب إلى أفلاطون اليونانيّ و هو أنّ الإنسان لو تجرّد عن الهوسات النفسانيّة و تحلّى بحلية التقوى و الفضائل الروحيّة ثمّ رجع إلى نفسه في أمر بان له الحقّ فيه.

هذا هو الّذي ذكروه، و قد اختاره بعض القدماء من يونان و غيرهم و جمع من

٢٨١

المسلمين و طائفة من فلاسفة الغرب غير أنّ كلّاً من القائلين به قرّره بوجه آخر:

فمنهم من قرّره على أنّ العلوم الإنسانيّة فطريّة بمعنى أنّها حاصلة له، موجودة معه بالفعل في أوّل وجوده، فلا جرم يرجع معنى حدوث كلّ علم له جديد إلى حصول التذكّر. و منهم من قرّره على أنّ الرجوع إلى النفس بالانصراف عن الشواغل المادّيّة يوجب انكشاف الحقائق لا بمعنى كون العلوم عند الإنسان بالفعل بل هي له بالقوّة و إنّما الفعليّة في باطن النفس الإنسانيّة المفصولة عن الإنسان عند الغفلة الموصولة به عند التذكّر، و هذا ما يقول به العرفاء و أهل الإشراق و أترابهم من سائر الملل و النحل. و منهم من قرّره على نحو ما قرّره العرفاء غير أنّه اشتراط في ذلك التقوى و اتّباع الشرع علماً و عملاً كعدّة من المسلمين ممّن عاصرناهم و غيرهم زعماً منهم أنّ اشتراط اتّباع الشرع يفرق ما بينهم و بين العرفاء و المتصوّفة، و قد خفي عليهم أنّ العرفاء سبقوهم في هذا الاشتراط كما يشهد به كتبهم المعتبرة الموجودة، فالقول عين ما قال به المتصوّفة، و إنّما الفرق بين الفريقين في كيفيّة الاتّباع و تشخيص معنى التبعيّة، و هؤلاء يعتبرون في التبعيّة مرحلة الجمود على الظواهر محضاً، فطريّقهم طريق مولّد من تناكح طريقي المتصوّفة و الأخباريّة إلى غير ذلك من التقريرات.

و القول بالتذكّر إن لم يرد به إبطال الرجوع إلى الاُصول المنطقيّة و العقليّة لا يخلو من وجه صحّة في الجملة فإنّ الإنسان حينما يوجد بهويّته يوجد شاعراً بذاته و قوى ذاته و بعلله، عالماً بها علماً حضوريّاً، و معه من القوى ما يبدّل علمه الحضوريّ إلى علم حصوليّ. و لا توجد قوّة هي مبدأ الفعل إلّا و هي تفعل فعلها فللإنسان في أوّل وجوده شي‏ء من العلوم و إن كانت متأخّرة عنه بحسب الطبع لكنّه معه بالزمان. هذا، و أيضاً حصول بعض العلوم للإنسان إذا انصرف عن التعلّقات المادّيّة بعض الانصراف لا يسع لأحد إنكاره.

و إن اُريد بالقول بالتذكّر إبطال أثر الرجوع إلى الاُصول المنطقيّة و العقليّة بمعنى أنّ ترتيب المقدّمات البديهيّة المتناسبة يوجب خروج الإنسان من القوّة إلى الفعل بالنسبة إلى العلم بما يعدّ نتيجة لها، أو بمعنى أنّ التذكّر بمعنى الرجوع إلى

٢٨٢

النفس بالتخلية يغني الإنسان عن ترتيب المقدّمات العلميّة لتحصيل النتائج فهو من أسخف القول الّذي لا يرجع إلى محصّل.

أمّا القول بالتذكّر بمعنى إبطاله الرجوع إلى الاُصول المنطقيّة و العقليّة فيبطله أوّلاً: أنّ البحث العميق في العلوم و المعارف الإنسانيّة يعطي أنّ علومه التصديقيّة تتوقّف على علومه التصوّريّة و العلوم التصوّريّة تنحصر في العلوم الحسّيّة أو المنتزع منها بنحو من الأنحاء(١) و قد دلّ القياس و التجربة على أنّ فاقد حسّ من الحواسّ فاقد لجميع العلوم المنتهية إلى ذلك الحسّ، تصوّريّة كانت أو تصديقيّة، نظريّة كانت أو بديهيّة، و لو كانت العلوم موجودة للهويّة الإنسانيّة بالفعل لم يؤثّر الفقد المفروض في ذلك، و القول بأنّ العمى و الصمم و نحوهما مانعة عن التذكّر رجوع عن أصل القول و هو أنّ التذكّر بمعنى الرجوع إلى النفس بالانصراف عن التعلّقات المادّيّة مفيد لذكر المطلوب بارتفاع الغفلة.

و ثانياً: أنّ التذكّر إنّما يوفّق له بعض أفراد هذا النوع، و عامّة الأفراد يستعملون في مقاصدهم الحيويّة سنّة التأليف و الاستنتاج و يستنتجون من ذلك الاُلوف بعد الاُلوف من النتائج المستقيمة، و على ذلك يجري الحال في جميع العلوم و الصناعات، و إنكار شي‏ء من ذلك مكابرة، و حمل ذلك على الاتّفاق مجازفة فالأخذ بهذه السنّة أمر فطريّ للإنسان لا محيد عنه، و من المحال أن يجهّز نوع من الأنواع بجهاز فطريّ تكوينيّ ثمّ يخبط في عمله و لا ينجح في مسعاه.

و ثالثاً: أنّ جميع ما ينال هؤلاء بما يسمّونه تذكّراً يعود بالتحليل إلى مقدّمات مترتّبة ترتيباً منطقيّاً بحيث يختلّ أمر النتيجة فيها باختلال شي‏ء من الاُصول المقرّرة في هيئتها و مادّتها، فهم يستعملون الاُصول المنطقيّة من حيث لا يحسّون به، و الاتّفاق و الصحابة الدائمان لا محصّل لهما، و عليهم أن يأتوا بصورة علميّة تذكريّة صحيحة لا تجري فيها اُصول المنطق.

و أمّا القول بالتذكّر بمعنى إغنائه عن الرجوع إلى الاُصول المنطقيّة - و يرجع

____________________

(١) راجع اُصول الفلسفة: المقالة الخامسة.

٢٨٣

محصّله إلى أنّ هناك طريقين: طريق المنطق و طريق التذكّر باتّباع الشرع مثلاً، و الطريقان سواء في الإصابة أو أنّ طريق التذكّر أفضل و اُولى لإصابته دائماً لموافقته قول المعصوم بخلاف طريق المنطق و العقل - ففيه خطر الوقوع في الغلط دائماً أو غالباً.

و كيف كان يرد عليه الإشكال الثاني الوارد على ما تقدّمه فإنّ الإحاطة بجميع مقاصد الكتاب و السنّة و رموزها و أسرارها على سعة نطاقها العجيبة غير متأتّ إلّا للآحاد من الناس المتوغّلين في التدبّر في المعارف الدينيّة على ما فيها من الارتباط العجيب، و التداخل البالغ بين اُصولها و فروعها و ما يتعلّق منها بالاعتقاد و ما يتعلّق منها بالأعمال الفرديّة و الاجتماعيّة، و من المحال أن يكلّف الإنسان تكويناً بالتجهيز التكوينيّ بما وراء طاقته و استطاعته أو يكلّف بذلك تشريعاً فليس على الناس إلّا أن يعقلوا مقاصد الدين بما هو الطريق المألوف عندهم في شؤون حياتهم الفرديّة و الاجتماعيّة، و هو ترتيب المعلومات لاستنتاج المجهولات، و المعلوم من الشرع بعض أفراد المعلومات لقيام البرهان على صدقه.

و من العجيب أنّ بعض القائلين بالتذكّر جعل هذا بعينه وجهاً للتذكّر على المنطق فذكر أنّ العلم بالحقائق الواقعيّة إن صحّ حصوله باستعمال المنطق و الفلسفة - و لن يصحّ - فإنّما يتأتّى ذلك لمثل أرسطو و ابن سينا من أوحديّي الفلسفة، و ليس يتأتّى لعامّة الناس فكيف يمكن أن يأمر الشارع باستعمال المنطق و الاُصول الفلسفيّة طريقاً إلى نيل الواقعيّات؟ و لم يتفطّن أنّ الإشكال بعينه مقلوب عليه فإن أجاب بأنّ استعمال التذكّر ميسور لكلّ أحد على حسب اتّباعه اُجيب بأنّ استعمال المنطق قليلاً أو كثيراً ميسور لكلّ أحد على حسب استعداده لنيل الحقائق و لا يجب لكلّ أحد أن ينال الغاية، و يركب ما فوق الطاقة.

و يرد عليه ثانياً: الإشكال الثالث السابق فإنّ هؤلاء يستعملون طريق المنطق في جميع المقاصد الّتي يبدونها باسم التذكّر كما تقدّم حتّى في البيان الّذي أوردوه لإبطال طريق المنطق و تحقيق طريق التذكّر و كفى به فساداً.

و يرد عليه ثالثاً: أنّ الوقوع في الخطأ واقع بل غالب في طريق التذكّر الّذي

٢٨٤

ذكروه فإنّ التذكّر كما زعموه هو الطريق الّذي كان يسلكه السلف الصالح دون طريق المنطق، و قد نقل الاختلاف و الخطأ فيما بينهم بما ليس باليسير كعدّة من أصحاب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ممّن اتّفق المسلمون على علمه و اتّباعه الكتاب و السنّة، أو اتّفق الجمهور على فقهه و عدالته، و كعدّة من أصحاب الأئمّة على هذه النعوت كأبي حمزة و زرارة و أبان و أبي خالد و الهشامين و مؤمن الطاق و الصفوانين و غيرهم، فالاختلافات الأساسيّة بينهم مشهورة معروفة و من البيّن أنّ المختلفين لا ينال الحقّ إلّا أحدهما، و كذلك الفقهاء و المحدّثون من القدماء كالكلينيّ و الصدوق و شيخ الطائفة و المفيد و المرتضى و غيرهم رضوان الله عليهم، فما هو مزيّة التذكّر على التفكّر المنطقيّ؟ فكان من الواجب حينئذ التماس مميّز آخر غير التذكّر يميّز بين الحقّ و الباطل، و ليس إلّا التفكّر المنطقيّ فهو المرجع و الموئل.

و يرد عليه رابعاً: أنّ محصّل الاستدلال أنّ الإنسان إذا تمسّك بذيل أهل العصمة و الطهارة لم يقع في خطأ، و لازمه ما تقدّم أنّ الرأي المأخوذ من المعصوم فيما سمعه منه سمعاً يقينيّاً و علم بمراده علماً يقينيّاً لا يقع فيه خطأ، و هذا ممّا لا كلام فيه لأحد.

و في الحقيقة المسموع من المعصوم أو المأخوذ منه مادّة ليس هو عين التذكّر و لا الفكر المنطقيّ ثمّ يعقّبه هو أنّ: هذا ما يراه المعصوم، و كلّ ما يراه حقّ فهذا حقّ و هذا برهان قطعيّ النتيجة، و أمّا غير هذه الصورة من مؤدّيات أخبار الآحاد أو ما يماثلها ممّا لا يفيد إلّا الظنّ فإنّ ذلك لا يفيد شيئاً و لا يوجد دليل على حجّيّة الآحاد في غير الأحكام إلّا مع موافقة الكتاب و لا الظنّ يحصل على شي‏ء مع فرض العلم على خلافه من دليل علميّ.

٩- و قول بعضهم: ( إنّ الله سبحانه خاطبنا في كلامه بما نألفه من الكلام الدائر بيننا، و النظم و التأليف الذي يعرفه أهل اللّسان، و ظاهر البيانات المشتملة على الأمر و النهي و الوعد و الوعيد و القصص و الحكمة و الموعظة و الجدال بالّتي هي أحسن، و هذه اُمور لا حاجة في فهمها و تعقّلها إلى تعلّم المنطق و الفلسفة و سائر ما هو تراث

٢٨٥

الكفّار و المشركين و سبيل الظالمين، و قد نهانا عن ولايتهم و الركون إليهم و اتّخاذ دئوبهم و اتّباع سبلهم، فليس على من يؤمن بالله و رسوله إلّا أن يأخذ بظواهر البيانات الدينيّة، و يقف على ما يتلقّاه الفهم العاديّ من تلك الظواهر من غير أن يؤوّلها أو يتعدّاها إلى غيرها) و هذا ما يراه الحشويّة و المشبّهة و عدّة من أصحاب الحديث.

و هو فاسد أمّا من حيث الهيئة فقد استعمل فيه الاُصول المنطقيّة و قد اُريد بذلك المنع عن استعمالها بعينها، و لم يقل القائل بأنّ القرآن يهدي إلى استعمال اُصول المنطق: إنّه يجب على كلّ مسلم أن يتعلّم المنطق، لكن نفس الاستعمال ممّا لا محيص عنه، فما مثل هؤلاء في قولهم هذا إلّا مثل من يقول: إنّ القرآن إنّما يريد أن يهدينا إلى مقاصد الدين فلا حاجة لنا إلى تعلّم اللسان الّذي هو تراث أهل الجاهليّة، فكما أنّه لا وقع لهذا الكلام بعد كون اللّسان طريقاً يحتاج إليه الإنسان في مرحلة التخاطب بحسب الطبع و قد استعمله الله سبحانه في كتابه و النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في سنّته كذلك لا معنى لما اعترض به على المنطق بعد كونه طريقاً معنويّاً يحتاج إليه الإنسان في مرحلة التعقّل بحسب الطبع و قد استعمله الله سبحانه في كتابه و النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في سنّته.

و أمّا بحسب المادّة فقد اُخذت فيه مواد عقليّة، غير أنّه غولط فيه من حيث التسوية بين المعنى الظاهر من الكلام و المصاديق الّتي تنطبق عليها المعاني و المفاهيم، فالّذي على المسلم المؤمن بكتاب الله أن يفهمه من مثل العلم و القدرة و الحياة و السمع و البصر و الكلام و المشيئة و الإرادة مثلاً أن يفهم معاني تقابل الجهل و العجز و الممات و الصمم و العمى و نحوها، و أمّا أن يثبت لله سبحانه علماً كعلمنا و قدرة كقدرتنا و حياة كحياتنا و سمعاً و بصراً و كلاماً و مشيئة و إرادة كذلك فليس له ذلك لا كتاباً و لا سنّة و لا عقلاً، و قد تقدّم شطر من الكلام المتعلّق بهذا الباب في بحث المحكم و المتشابه في الجزء الثالث من الكتاب.

١٠- و قول بعضهم: ( إنّ الدليل على حجّيّة المقدّمات الّتي قامت عليها الحجج العقليّة ليس إلّا المقدّمة العقليّة القائلة بوجوب اتّباع الحكم العقليّ، و

٢٨٦

بعبارة اُخرى لا حجّة على حكم العقل إلّا نفس العقل و هذا دور مصرّح فلا محيص في المسائل الخلافيّة عن الرجوع إلى قول المعصوم من نبيّ أو إمام من غير تقليد) . هذا، و هو أسخف تشكيك اُورد في هذا الباب و إنّما اُريد به تشييد بنيان فأنتج هدمه، فإنّ القائل أبطل به حكم العقل بالدور المصرّح على زعمه ثمّ لمّا عاد إلى حكم الشرع لزمه إمّا أن يستدلّ عليه بحكم العقل و هو الدور، أو بحكم الشرع و هو الدور فلم يزل حائراً يدور بين دورين. إلّا أن يرجع إلى التقليد و هو حيرة ثانية.

و قد اشتبه عليه الأمر في تحصيل معنى وجوب متابعة حكم العقل فإن اُريد بوجوب متابعة حكم العقل ما يقابل الحظر و الإباحة و يستتبع مخالفته ذمّاً أو عقاباً نظير وجوب متابعة الناصح المشفق، و وجوب العدل في الحكم و نحو ذلك فهو حكم العقل العمليّ و لا كلام لنا فيه، و إن اُريد بوجوب المتابعة أنّ الإنسان مضطرّ على تصديق النتيجة إذا استدلّ عليه بمقدّمات علميّة و شكل صحيح علميّ مع التصوّر التامّ لأطراف القضايا فهذا أمر يشاهده الإنسان بالوجدان، و لا معنى عندئذ لأن يسأل العقل عن الحجّة، لحجّيّة حجّته لبداهة حجّيّته. و هذا نظير سائر البديهيّات، فإنّ الحجّة على كلّ بديهي إنّما هي نفسه، و معناه أنّه مستغن عن الحجّة.

١١- و قول بعضهم: ( إنّ غاية ما يرومه المنطق هو الحصول على المهيّات الثابتة للأشياء، و الحصول على النتائج بالمقدّمات الكليّة الدائمة الثابتة، و قد ثبت بالأبحاث العلميّة اليوم أن لا كلّيّ و لا دائم و لا ثابت في خارج و لا ذهن و إنّما هي الأشياء تجري تحت قانون التحوّل العامّ من غير أن يثبت شي‏ء بعينه على حال ثابتة أو دائمة أو كلّيّة) .

و هذا فاسد من جهة أنّه استعمل فيه الاُصول المنطقيّة هيئة و مادّة كما هو ظاهر لمن تأمّل فيه. على أنّ المعترض يريد بهذا الاعتراض بعينه أن يستنتج أنّ المنطق القديم غير صحيح البتّة، و هي نتيجة كلّيّة دائمة ثابتة مشتملة على مفاهيم ثابتة، و إلّا لم يفده شيئاً فالاعتراض يبطل نفسه.

٢٨٧

و لعلّنا خرجنا عمّا هو شريطة هذا الكتاب من إيثار الاختصار مهما أمكن فلنرجع إلى ما كنّا فيه أوّلاً:

القرآن الكريم يهدي العقول إلى استعمال ما فطرت على استعماله و سلوك ما تألفه و تعرفه بحسب طبعها و هو ترتيب المعلومات لاستنتاج المجهولات، و الّذي فطرت العقول عليه هو أن تستعمل مقدّمات حقيقيّة يقينيّة لاستنتاج المعلومات التصديقيّة الواقعيّة و هو البرهان، و أن تستعمل فيما له تعلّق بالعمل من سعادة و شقاوة و خير و شرّ و نفع و ضرر و ما ينبغي أن يختار و يؤثر و ما لا ينبغي، و هي الاُمور الاعتباريّة، المقدّمات المشهورة أو المسلّمة، و هو الجدل، و أن تستعمل في موارد الخير و الشرّ المظنونين مقدّمات ظنّيّة لإنتاج الإرشاد و الهداية إلى خير مظنّون، أو الردع عن شرّ مظنون، و هي العظة قال تعالى:( ادْعُ إِلى‏ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَ الْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَ جادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) (النحل: ١٢٥) و الظاهر أنّ المراد بالحكمة هو البرهان كما ترشد إلى ذلك مقابلته الموعظة الحسنة و الجدال.

فإن قلت: طريق التفكّر المنطقيّ ممّا يقوى عليه الكافر و المؤمن، و يتأتّى من الفاسق و المتّقي، فما معنى نفيه تعالى العلم المرضيّ و التذكّر الصحيح عن غير أهل التقوى و الاتّباع كما في قوله تعالى:( وَ ما يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ ) (غافر: ١٣)، و قوله:( وَ مَنْ يَتَّقِ الله يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً ) (الطلاق: ٢)، و قوله:( فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَ لَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى) (النجم: ٣٠) و الروايات الناطقة بأنّ العلم النافع لا ينال إلّا بالعمل الصالح كثيرة مستفيضة.

قلت: اعتبار الكتاب و السنّة التقوى في جانب العلم ممّا لا ريب فيه، غير أنّ ذلك ليس لجعل التقوى أو التقوى الّذي معه التذكّر طريقاً مستقلّاً لنيل الحقائق وراء الطريق الفكري الفطريّ الّذي يتعاطاه الإنسان تعاطياً لا مخلص له منه، إذ لو كان الأمر على ذلك لغت جميع الاحتجاجات الواردة في الكتاب على الكفّار و المشركين و أهل الفسق و الفجور ممّن لا يتّبع الحقّ، و لا يدري ما هو التقوى و التذكّر فإنّهم لا سبيل لهم على

٢٨٨

هذا الفرض إلى إدراك المطلوب و حالهم هذا الحال، و مع فرض تبدّل الحال يلغو الاحتجاج معهم، و نظيرها ما ورد في السنّة من الاحتجاج مع شتّى الفرق و الطوائف الضالّة.

بل اعتبار التقوى لردّ النفس الإنسانيّة المدركة إلى استقامتها الفطريّة، توضيح ذلك: أنّ الإنسان بحسب جسميّته مؤلّف من قوى متضادّة بهيميّة و سبعيّة محتدها البدن العنصريّ، و كلّ واحدة منها تعمل عملها الشعوريّ الخاصّ بها من غير أن ترتّبط بغيرها من القوى ارتباطاً تراعي به حالها في عملها إلّا بنحو الممانعة و المضادة فشهوة الغذاء تبعث الإنسان إلى الأكل و الشرب من غير أن يحدّ بحدّ أو يقدّر بقدر من ناحية هذه القوّة إلّا أن يمتنع منهما المعدة مثلاً لأنّها لا تسع إلّا مقداراً محدوداً، أو يمتنع الفكّ مثلاً لتعب و كلال يصيب عضلته من المضغ إذا أكثر من الأكل و أمثال ذلك، فهذه اُمور نشاهدها من أنفسنا دائماً.

و إذا كان كذلك كان تمايل الإنسان إلى قوّة من القوى، و استرساله في طاعة أوامرها، و الانبعاث إلى ما تبعث إليه يوجب طغيان القوّة المطاعة، و اضطهاد القوّة المضادّة لها اضطهاداً ربّما بلغ بها إلى حدّ البطلان أو كاد يبلغ، فالاسترسال في شهوة الطعامّ أو شهوة النكاح يصرف الإنسان عن جميع مهمّات الحياة من كسب و عشرة و تنظيم أمر منزل و تربية أولاد و سائر الواجبات الفرديّة و الاجتماعيّة الّتي يجب القيام بها، و نظيره الاسترسال في طاعة سائر القوى الشهويّة و القوى الغضبيّة، و هذا أيضاً ممّا لا نزال نشاهدها من أنفسنا و من غيرنا خلال أيّام الحياة.

و في هذا الإفراط و التفريط هلاك الإنسانيّة فإنّ الإنسان هو النفس المسخّرة لهذه القوى المختلفة، و لا شأن له إلّا سوق المجموع من القوى بأعمالها في طريق سعادته في الحياة الدنيا و الآخرة، و ليست إلّا حياة علميّة كماليّة، فلا محيص له عن أن يعطي كلّاً من القوى من حظّها ما لا تزاحم به القوى الاُخرى و لا تبطل من رأس.

فالإنسان لا يتمّ له معنى الإنسانيّة إلّا إذا عدّل قواه المختلفة تعديلاً يورد كلّاً منها وسط الطريق المشروع لها، و ملكة الاعتدال في كلّ واحدة من القوى هي

٢٨٩

الّتي نسمّيها بخُلقها الفاضل كالحكمة و الشجاعة و العفّة و غيرها، و يجمع الجميع العدالة.

و لا ريب أنّ الإنسان إنّما يحصل على هذه الأفكار الموجودة عنده و يتوسّع في معارفه و علومه الإنسانيّة باقتراح هذه القوى الشعوريّة أعمالها و مقتضياتها، بمعنى أنّ الإنسان في أوّل كينونته صفر الكفّ من هذه العلوم و المعارف الوسيعة حتّى تشعر قواه الداخلة بحوائجها، و تقترح عليه ما تشتهيها و تطلبها، و هذه الشعورات الابتدائيّة هي مبادئ علوم الإنسان ثمّ لا يزال الإنسان يعمّم و يخصّص و يركّب و يفصّل حتّى يتم له أمر الأفكار الإنسانيّة.

و من هنا يحدس اللّبيب أنّ توغّل الإنسان في طاعة قوّة من قواه المتضادّة و إسرافه في إجابة ما تقترح عليه يوجب انحرافه في أفكاره و معارفه بتحكيم جميع ما تصدّقه هذه القوّة على ما يعطيه غيرها من التصديقات و الأفكار، و غفلته عمّا يقتضيه غيرها.

و التجربة تصدّق ذلك فإنّ هذا الانحراف هو الّذي نشاهده في الأفراد المسرفين المترفين من حلفاء الشهوة، و في البغاة الطغاة الظلمة المفسدين أمر الحياة في المجتمع الإنسانيّ فإنّ هؤلاء الخائضين في لجج الشهوات، العاكفين على لذائذ الشرب و السماع و الوصال لا يكادون يستطيعون التفكّر في واجبات الإنسانيّة، و مهامّ الاُمور الّتي يتنافس فيها أبطال الرجال و قد تسرّبت روح الشهوة في قعودهم و قيامهم و اجتماعهم و افتراقهم و غير ذلك و كذلك الطغاة المستكبرون أقسياء القلوب لا يتأتّى لهم أن يتصوّروا رأفة و شفقة و رحمة و خضوعاً و تذلّلاً حتّى فيما يجب فيه ذلك، و حياتهم تمثّل حالهم الخبيث الّذي هم عليه في جميع مظاهرها من تكلّم و سكوت و نظر و غضّ و إقبال و إدبار، فهؤلاء جميعاً سالكوا طريق الخطأ في علومهم، كلّ طائفة منهم مكبّة على ما تناله من العلوم و الأفكار المحرّفة المنحرفة المتعلّقة بما عنده، غافلون عمّا وراءه و فيما وراءه، العلوم النافعة و المعارف الحقّة الإنسانيّة فالمعارف الحقّة و العلوم النافعة لا تتمّ للإنسان إلّا إذا صلحت أخلاقه و تمّت له الفضائل الإنسانيّة القيّمة و هو التقوى.

٢٩٠

فقد تحصّل أنّ الأعمال الصالحة هي الّتي تحفظ الأخلاق الحسنة، و الأخلاق الحسنة هي الّتي تحفظ المعارف الحقّة و العلوم النافعة و الأفكار الصحيحة، و لا خير في علم لا عمل معه.

و هذا البحث و إن سقناه سوقاً علميّاً أخلاقيّاً لمسيس الحاجة إلى التوضيح إلّا أنّه هو الّذي جمعه الله تعالى في كلمة حيث قال:( وَ اقْصِدْ فِي مَشْيِكَ ) (لقمان: ١٩) فإنّه كناية عن أخذ وسط الاعتدال في مسير الحياة، و قال:( إِنْ تَتَّقُوا الله يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً ) (الأنفال: ٢٩) و قال:( وَ تَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى‏ وَ اتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ ) (البقرة: ١٩٧)، أي لأنّكم اُولوا الألباب تحتاجون في عمل لبّكم إلى التقوى و الله أعلم، و قال تعالى:( وَ نَفْسٍ وَ ما سَوَّاها فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَ تَقْواها قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها وَ قَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها ) (الشمس: ١٠) و قال:( وَ اتَّقُوا الله لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) (آل عمران: ١٣٠).

و من طريق آخر: قال تعالى:( فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَ اتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا إِلَّا مَنْ تابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً ) (مريم: ٦٠) فذكر أنّ اتّباع الشهوات يسوق إلى الغيّ، و قال تعالى:( سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَ إِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها وَ إِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَ إِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَ كانُوا عَنْها غافِلِينَ ) (الأعراف: ١٤٦) فذكر أنّ اُسراء القوى الغضبيّة ممنوعون من اتّباع الحقّ مسوقون إلى سبيل الغيّ، ثمّ ذكر أنّ ذلك بسبب غفلتهم عن الحقّ، و قال تعالى:( وَ لَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَ لَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَ لَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ ) (الأعراف: ١٧٩) فذكر أنّ هؤلاء الغافلين إنّما هم غافلون عن حقائق المعارف الّتي للإنسان، فقلوبهم و أعينهم و آذانهم بمعزل عن نيل ما يناله الإنسان، السعيد في إنسانيّته، و إنّما ينالون بها ما تناله الأنعام أو ما هو أضلّ من الأنعام و هي الأفكار الّتي إنّما تصوّبها و تميل إليها و تألف بها البهائم السائمة و السباع الضارية.

٢٩١

فظهر من جميع ما تقدّم أنّ القرآن الكريم إنّما اشترط التقوى في التفكّر و التذكّر و التعقّل، و قارن العلم بالعمل للحصول على استقامة الفكر و إصابة العلم و خلوصه من شوائب الأوهام الحيوانيّة و الإلقاءات الشيطانيّة.

نعم ههنا حقيقة قرآنيّة لا مجال لإنكارها، و هو أنّ دخول الإنسان في حظيرة الولاية الإلهيّة، و تقرّبه إلى ساحة القدس و الكبرياء يفتح له باباً إلى ملكوت السماوات و الأرض يشاهد منه ما خفي على غيره من آيات الله الكبرى، و أنوار جبروته الّتي لا تطفأ، قال الصادقعليه‌السلام : لو لا أنّ الشياطين يحومون حول قلوب بني آدم لرأوا ملكوت السماوات و الأرض، و فيما رواه الجمهور عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: لو لا تكثير في كلامكم و تمريج في قلوبكم لرأيتم ما أرى و لسمعتم ما أسمع، و قد قال تعالى:( وَ الَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَ إِنَّ الله لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ) (العنكبوت: ٦٩) و يدلّ على ذلك ظاهر قوله تعالى:( وَ اعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ) (الحجر: ٩٩) حيث فرّع اليقين على العبادة، و قال تعالى:( وَ كَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ لِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ ) (الأنعام: ٧٥) فربط وصف الإيقان بمشاهدة الملكوت، و قال تعالى:( كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ ) (التكاثر: ٧) و قال تعالى:( إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ وَ ما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ كِتابٌ مَرْقُومٌ يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ ) (المطففين: ٢١) و ليطلب البحث المستوفى في هذا المعنى ممّا سيجي‏ء من الكلام في قوله تعالى:( إِنَّما وَلِيُّكُمُ الله وَ رَسُولُهُ ) الآية: (المائدة: ٥٥) و في قوله تعالى:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ ) الآية: (المائدة: ١٠٥).

و لا ينافي ثبوت هذه الحقيقة ما قدّمناه أنّ القرآن الكريم يؤيّد طريق التفكّر الفطريّ الّذي فطر عليه الإنسان و بني عليه بنية الحياة الإنسانيّة، فإنّ هذا طريق غير فكريّ، و موهبة إلهيّة يختصّ بها من يشاء من عباده و العاقبة للمتّقين.

٢٩٢

( بحث تاريخي)

( في تاريخ التفكّر الإسلامي إجمالاً)

ننظر فيه نظراً إجماليّاً في تاريخ التفكّر الإسلاميّ و الطريق الّذي سلكته الاُمّة الإسلاميّة على اختلاف طوائفها و مذاهبها، و لا نلوي فيه إلى مذهب من المذاهب بإحقاق أو إبطال، و إنّما نعرض الحوادث الواقعة على منطق القرآن و نحكّمه في الموافقة و المخالفة، و أمّا ما باهى به موافق و ما اعتذر به مخالف فلا شأن لنا في الغور في اُصوله و جذوره، فإنّما ذلك طريق آخر من البحث مذهبيّ أو غيره.

القرآن الكريم يتعرّض بمنطقه في سنّته المشروعة لجميع شؤون الحياة الإنسانيّة من غير أن تتقيّد بقيد أو تشترط بشرط، يحكم على الإنسان منفرداً أو مجتمعاً، صغيراً أو كبيراً، ذكراً أو اُنثى، على الأبيض و الأسود، و العربيّ و العجميّ، و الحاضر و البادي، و العالم و الجاهل، و الشاهد و الغائب، في أيّ زمان كان و في أيّ مكان كان و يداخل كلّ شأن من شؤونه من اعتقاد أو خلق أو عمل من غير شكّ.

فللقرآن اصطكاك مع جميع العلوم و الصناعات المتعلّقة بأطراف الحياة الإنسانيّة و من الواضح اللّائح من خلال آياته النادبة إلى التدبّر و التفكّر و التذكّر و التعقّل أنّه يحثّ حثّاً بالغاً على تعاطي العلم و رفض الجهل في جميع ما يتعلّق بالسماويّات و الأرضيّات و النبات و الحيوان و الإنسان، من أجزاء عالمنا و ما وراءه من الملائكة و الشياطين و اللّوح و القلم و غير ذلك ليكون ذريعة إلى معرفة الله سبحانه، و ما يتعلّق نحواً من التعلّق بسعادة الحياة الإنسانيّة الاجتماعيّة من الأخلاق و الشرائع و الحقوق و أحكام الاجتماع.

و قد عرفت أنّه يؤيّد الطريق الفطريّ من التفكّر الّذي تدعو إليه الفطرة دعوة اضطراريّة لا معدل عنها على حقّ ما تدعو إليه الفطرة من السير المنطقيّ.

و القرآن نفسه يستعمل هذه الصناعات المنطقيّة من برهان و جدل و موعظة، و يدعو الاُمّة الّتي يهديها إلى أن يتّبعوه في ذلك فيتعاطوا البرهان فيما كان من الواقعيّات الخارجة من باب العمل و يستدلّوا بالمسلّمات في غير ذلك أو بما يعتبر به.

٢٩٣

و قد اعتبر القرآن في بيان مقاصده السنّة النبويّة، و عيّن لهم الاُسوة في رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فكانوا يحفظون عنه، و يقلّدون مشيته العلميّة تقليد المتعلّم معلّمه في السلوك العلميّ.

كان القوم في عهد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (و نعني به أيّام إقامته بالمدينة) حديثي عهد بالتعليم الإسلاميّ، حالهم أشبه بحال الإنسان القديم في تدوين العلوم و الصناعات، يشتغلون بالأبحاث العلميّة اشتغالاً ساذجاً غير فنّيّ على عناية منهم بالتحصيل و التحرير، و قد اهتمّوا أوّلاً بحفظ القرآن و قراءته، و حفظ الحديث عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من غير كتابة، و نقله، و كان لهم بعض المطارحات الكلاميّة فيما بينهم أنفسهم، و احتجاجات مع بعض أرباب الملل الأجنبيّة و لا سيّما اليهود و النصارى لوجود أجيال منهم في الجزيرة و الحبشة و الشام، و من هنا يبتدئ ظهور علم الكلام و كانوا، يشتغلون برواية الشعر و قد كانت سنّة عربيّة لم يهتمّ بأمرها الإسلام و لم يمدح الكتاب الشعر و الشعراء بكلمة، و لا السنّة بالغت في أمره.

ثمّ لمّا ارتحل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان من أمر الخلافة ما هو معروف و زاد الاختلاف الحادث عند ذلك باباً على الأبواب الموجودة.

و جمع القرآن في زمن الخليفة الأوّل بعد غزوة يمامة و شهادة جماعة من القرّاء فيها.

و كان الأمر على هذا في عهد خلافته - و هي سنتان تقريباً - ثمّ في عهد الخليفة الثاني.

و الإسلام و إن انتشر صيته و اتّسع نطاقه بما رزق المسلمون من الفتوحات العظيمة في عهده لكنّ الاشتغال بها كان يعوقهم عن التعمّق في إجالة النظر في روابط العلوم و التماس الارتقاء في مدارجها، أو أنّهم ما كانوا يرون لما عندهم من المستوى العلميّ حاجة إلى التوسّع و التبسّط.

و ليس العلم و فضله أمراً محسوساً يعرفه اُمّة من اُمّة اُخرى إلّا أن يرتبط بالصنعة فيظهر أثره على الحسّ فيعرفه العامّة.

٢٩٤

و قد أيقظت هذه الفتوحات المتوالية الغزيرة العرب الجاهليّة من الغرور و النخوة بعد ما كانت في سكن بالتربية النبويّة، فكانت تتسرّب فيهم روح الاُمم المستعلية الجبّارة، و تتمكّن منهم رويداً، يشهد به شيوع تقسيم الاُمّة المسلمة يومئذ إلى العرب و الموالي، و سير معاوية - و هو والي الشام يومذاك - بين المسلمين بسيرة ملوكيّة قيصريّة، و اُمور اُخرى كثيرة ذكرها التاريخ عن جيوش المسلمين، و هذه نفسيّات لها تأثير في السير العلميّ و لا سيّما التعليمات القرآنيّة.

و أمّا الّذي كان عندهم من حاضر السير العلميّ فالاشتغال بالقرآن كان على حاله و قد صار مصاحف متعدّدة تنسب إلى زيد و اُبيّ و ابن مسعود و غيرهم.

و أمّا الحديث فقد راج رواجاً بيّناً و كثر النقل و الضبط إلى حيث نهى عمر بعض الصحابة عن التحديث لكثرة ما روى، و قد كان عدّة من أهل الكتاب دخلوا في الإسلام و أخذ عنهم المحدّثون شيئاً كثيراً من أخبار كتبهم و قصص أنبيائهم و اُممهم، فخلطوها بما كان عندهم من الأحاديث المحفوظة عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و أخذ الوضع و الدسّ يدوران في الأحاديث، و يوجد اليوم في الأحاديث المقطوعة المنقولة عن الصحابة و رواتهم في الصدر الأوّل شي‏ء كثير من ذلك يدفعه القرآن بظاهر لفظه.

و جملة السبب في ذلك اُمور ثلاثة:

١- المكانة الرفيعة الّتي كانت تعتقدها الناس لصحبة النبيّ و حفظ الحديث عنه، و كرامة الصحابة و أصحابهم النقلة عنهم على الناس، و تعظيمهم لأمرهم، فدعا ذلك الناس إلى الأخذ و الإكثار (حتى عن مسلمي أهل الكتاب) و الرقابة الشديدة بين حملة الحديث في حيازة التقدّم و الفخر.

٢- أنّ الحرص الشديد منهم على حفظ الحديث و نقله منعهم عن تمحيصه و التدبّر في معناه و خاصّة في عرضه على كتاب الله و هو الأصل الّذي تبتني عليه بنية الدين و تستمدّ منه فروعه، و قد وصّاهم بذلك النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيما صحّ من قوله:( ستكثر عليّ القالة) الحديث، و غيره.

و حصلت بذلك فرصة لأن تدور بينهم أحاديث موضوعة في صفات الله و أسمائه

٢٩٥

و أفعاله، و زلّات منسوبة إلى الأنبياء الكرام، و مساوئ مشوّهة تنسب إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و خرافات في الخلق و الإيجاد، و قصص الاُمم الماضية، و تحريف القرآن و غير ذلك ممّا لا تقصر عمّا تتضمّنه التوراة و الإنجيل من هذا القبيل.

و اقتسم القرآن و الحديث عند ذلك التقدّم و العمل: فالتقدّم الصوريّ للقرآن و الأخذ و العمل بالحديث فلم يلبث القرآن دون أن هجر عملاً، و لم تزل تجري هذه السيرة و هي الصفح عن عرض الحديث على القرآن مستمرّة بين الاُمّة عملاً حتّى اليوم و إن كانت تنكرها قولاً:( وَ قالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً ) اللّهمّ إلّا آحاد بعد آحاد.

و هذا التساهل بعينه هو أحد الأسباب في بقاء كثير من الخرافات القوميّة القديمة بين الاُمم الإسلاميّة بعد دخولهم في الإسلام و الداء يجرّ الداء.

٣- أنّ ما جرى في أمر الخلافة بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أوجب اختلاف آراء عامّة المسلمين في أهل بيته فمن عاكف عليهم هائم بهم، و من معرض عنهم لا يعبأ بأمرهم و مكانتهم من علم القرآن أو مبغض شانئ لهم، و قد وصّاهم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بما لا يرتاب في صحّته و دلالته مسلم أن يتعلّموا منهم و لا يعلّموهم و هم أعلم منهم بكتاب الله، و ذكر لهم أنّهم لن يغلطوا في تفسيره و لن يخطؤوا في فهمه‏ قال في حديث الثقلين المتواتر: إنّي تارك فيكم الثقلين كتاب الله و عترتي و لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض‏، الحديث. و في بعض طرقه: لا تعلّموهم فإنّهم أعلم منكم. و قال في المستفيض من كلامه:( من فسّر القرآن برأيه فليتبوّأ مقعده من النار) و قد تقدّم في أبحاث المحكم و المتشابه في الجزء الثالث من الكتاب.

و هذا أعظم ثلمة انثلم بها علم القرآن و طريق التفكّر الّذي يندب إليه. و من الشاهد على هذا الإعراض قلّة الأحاديث المنقولة عنهمعليهم‌السلام فإنّك إذا تأمّلت ما عليه علم الحديث في عهد الخلفاء من المكانة و الكرامة، و ما كان عليه الناس من الولع و الحرص الشديد على أخذه ثمّ أحصيت ما نقل في ذلك عن عليّ و الحسن و الحسين، و خاصّة ما نقل من ذلك في تفسير القرآن لرأيت عجباً: أمّا الصحابة فلم ينقلوا عن عليّ

٢٩٦

عليه‌السلام شيئاً يذكر، و أمّا التابعون فلا يبلغ ما نقلوا عنه - إن أحصي - مائة رواية في تمام القرآن و أمّا الحسنعليه‌السلام فلعلّ المنقول عنه لا يبلغ عشراً، و أمّا الحسين فلم ينقل عنه شي‏ء يذكر، و قد أنهى بعضهم الروايات الواردة في التفسير إلى سبعة عشر ألف(١) حديث من طريق الجمهور وحده، و هذه النسبة موجودة في روايات الفقه أيضاً(٢) .

فهل هذا لأنّهم هجروا أهل البيت و أعرضوا عن حديثهم؟ أو لأنّهم أخذوا عنهم و أكثروا ثمّ اُخفيت و نسيت في الدولة الاُمويّة لانحراف الاُمويّين عنهم؟ ما أدري.

غير أنّ عزلة عليّ و عدم اشتراكه في جمع القرآن أوّلاً و أخيراً و تاريخ حياة الحسن و الحسينعليه‌السلام يؤيّد أوّل الاحتمالين.

و قد آل أمر عامّة حديثه إلى أن أنكر بعض كون ما اشتمل عليه كتاب نهج البلاغة من غرر خطبه من كلامه، و أمّا أمثال الخطبة البتراء لزياد بن أبيه و خمريّات يزيد فلا يكاد يختلف فيها اثنان!.

و لم يزل أهل البيت مضطهدين، مهجوراً حديثهم إلى أن انتهض الإمامان: محمّد بن عليّ الباقر و جعفر بن محمّد الصادقعليهما‌السلام في برهة كالهدنة بين الدولة الاُمويّة و الدولة العبّاسيّة فبيّنا ما ضاعت من أحاديث آبائهم، و جدّدا ما اندرست و عفيت من آثارهم.

غير أنّ حديثهما و غيرهما من آبائهما و أبنائهما من أئمّة أهل البيت أيضاً لم يسلم من الدخيل و لم يخلص من الدسّ و الوضع كحديث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و قد ذكرا ذلك في الصريح من كلامهما، و عدّا رجالاً من الوضّاعين كمغيرة بن سعيد و ابن أبي الخطّاب و غيرهما، و أنكر بعض الأئمّة روايات كثيرة مرويّة عنهم و عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ،

____________________

(١) ذكر ذلك السيوطيّ في الإتقان، و ذكر أنّه عدد الروايات في تفسيره المسمى بترجمان القرآن و تلخيصه المسمّى بالدرّ المنثور.

(٢) ذكر بعض المتتبّعين أنّه عثر على حديثين مرويّين عن الحسينعليه‌السلام في الروايات الفقهية.

٢٩٧

و أمروا أصحابهم و شيعتهم بعرض الأحاديث المنقولة عنهم على القرآن و أخذ ما وافقه و ترك ما خالفه.

و لكن القوم (إلّا آحاد منهم) لم يجروا عليها عملاً في أحاديث أهل البيتعليهم‌السلام و خاصّة في غير الفقه، و كان السبيل الّذي سلكوه في ذلك هو السبيل الّذي سلكه الجمهور في أحاديث النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

و قد اُفرط في الأمر إلى حيث ذهب جمع إلى عدم حجّيّة ظواهر الكتاب و حجّيّة مثل مصباح الشريعة و فقه الرضا و جامع الأخبار! و بلغ الإفراط إلى حيث ذكر بعضهم أنّ الحديث يفسّر القرآن مع مخالفته لصريح دلالته، و هذا يوازن ما ذكره بعض الجمهور: أنّ الخبر ينسخ الكتاب. و لعلّ المتراءى من أمر الاُمّة لغيرهم من الباحثين كما ذكره بعضهم:( أنّ أهل السنّة أخذوا بالكتاب و تركوا العترة، فآل ذلك إلى ترك الكتاب لقول النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( إنّهما لن يفترقا) و أنّ الشيعة أخذوا بالعترة و تركوا الكتاب، فآل ذلك منهم إلى ترك العترة لقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( إنّهما لن يفترقا) فقد تركت الاُمّة القرآن و العترة (الكتاب و السنّة) معاً) .

و هذه الطريقة المسلوكة في الحديث أحد العوامل الّتي عملت في انقطاع رابطة العلوم الإسلاميّة و هي العلوم الدينيّة و الأدبيّة عن القرآن مع أنّ الجميع كالفروع و الثمرات من هذه الشجرة الطيّبة الّتي أصلها ثابت و فرعها في السماء تؤتي اُكلها كلّ حين بإذن ربها، و ذلك أنّك إن تبصّرت في أمر هذه العلوم وجدت أنّها نظّمت تنظيماً لا حاجة لها إلى القرآن أصلاً حتّى أنّه يمكن لمتعلّم أن يتعلّمها جميعاً: الصرف و النحو و البيان و اللّغة و الحديث و الرجال و الدراية و الفقه و الاُصول فيأتي آخرها، ثمّ يتضلّع بها ثمّ يجتهد و يتمهّر فيها و هو لم يقرء القرآن، و لم يمسّ مصحفاً قطّ، فلم يبق للقرآن بحسب الحقيقة إلّا التلاوة لكسب الثواب أو اتّخاذه تميمة للأولاد تحفظهم عن طوارق الحدثان! فاعتبر إن كنت من أهله. و لنرجع إلى ما كنّا فيه:

كان حال البحث عن القرآن و الحديث في عهد عمر ما سمعته، و قد اتّسع نطاق المباحث الكلاميّة في هذا العهد لما أنّ الفتوحات الوسيعة أفضت بالطبع إلى اختلاط

٢٩٨

المسلمين بغيرهم من الاُمم و أرباب الملل و النحل و فيهم العلماء و الأحبار و الأساقفة و البطارقة الباحثون في الأديان و المذاهب فارتفع منار الكلام لكن لم يدوّن بعد تدويناً، فإنّ ما عُدّ من التآليف فيه إنّما ذكر في ترجمات من هو بعد هذا العصر.

ثمّ كان الأمر على ذلك في عهد عثمان على ما فيه من انقلاب الناس على الخلافة، و إنّما وُفّق لجمع المصاحف، و الاتّفاق على مصحف واحد.

ثمّ كان الأمر على ذلك في خلافة عليّعليه‌السلام و شغله إصلاح ما فسد من مجتمع المسلمين بالاختلافات الداخليّة و وقع حروب متوالية في إثر ذلك.

غير أنّهعليه‌السلام وضع علم النحو و أملأ كلّيّاته أبا الأسود الدئليّ من أصحابه و أمره بجمع جزئيّات قواعده، و لم يتأتّ له وراء ذلك إلّا أن ألقى بيانات من خطب و أحاديث فيها جوامع موادّ المعارف الدينيّة و أنفس الأسرار القرآنيّة، و له مع ذلك احتجاجات كلاميّة مضبوطة في جوامع الحديث.

ثمّ كان الأمر على ذلك في خصوص القرآن و الحديث في عهد معاوية و من بعده من الاُمويّين و العبّاسيّين إلى أوائل القرن الرابع من الهجرة تقريباً و هو آخر عهد الأئمّة الاثني عشر عند الشيعة، فلم يحدث في طريق البحث عن القرآن و الحديث أمر مهمّ غير ما كان في عهد معاوية من بذل الجهد في إماتة ذكر أهل البيتعليهم‌السلام و إعفاء أثرهم و وضع الأحاديث، و قد انقلبت الحكومة الدينيّة إلى سلطنة استبداديّة، و تغيّرت السنّة الإسلاميّة إلى سيطرة إمبراطوريّة، و ما كان في عهد عمر بن عبد العزيز من أمره بكتابة الحديث، و قد كان المحدّثون يتعاطون الحديث إلى هذه الغاية بالأخذ و الحفظ من غير تقييد بالكتابة.

و في هذه البرهة راج الأدب العربيّ غاية رواجه، شرع ذلك من زمن معاوية فقد كان يبالغ في ترويج الشعر ثمّ الّذين يلونه من الاُمويّين ثمّ العبّاسيّين، و كان ربّما يبذل بإزاء بيت من الشعر أو نكتة أدبيّة المئات و الاُلوف من الدنانير، و انكبّ الناس على الشعر و روايته، و أخبار العرب و أيّامهم، و كانوا يكتسبون بذلك الأموال الخطيرة، و كانت الاُمويّون ينتفعون برواجه و بذل الأموال بحذائه لتحكيم موقعهم

٢٩٩

تجاه بني هاشم ثمّ العبّاسيّون تجاه بني فاطمة كما كانوا يبالغون في إكرام العلماء ليظهروا بهم على الناس، و يحمّلوهم ما شاؤوا و تحكّموا.

و بلغ من نفوذ الشعر و الأدب في المجتمع العلميّ أنّك ترى كثيراً من العلماء يتمثّلون بشعر شاعر أو مثل سائر في مسائل عقليّة أو أبحاث علميّة ثمّ يكون له القضاء، و كثيراً ما يبنون المقاصد النظريّة على مسائل لغويّة و لا أقلّ من البحث اللّغويّ في اسم الموضوع أوّلاً ثمّ الورود في البحث ثانياً، و هذه كلّها اُمور لها آثار عميقة في منطق الباحثين و سيرهم العلميّ.

و في تلك الأيّام راج البحث الكلاميّ، و كتب فيه الكتب و الرسائل، و لم يلبثوا أن تفرّقوا فرقتين عظيمتين و هما الأشاعرة و المعتزلة، و كانت اُصول أقوالهم موجودة في زمن الخلفاء بل في زمن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يدلّ على ذلك ما روي من احتجاجات عليّعليه‌السلام في الجبر و التفويض و القدر و الاستطاعة و غيرها، و ما روي عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ذلك(١) .

و إنّما امتازت الطائفتان في هذا الأوان بامتياز المسلكين و هو تحكيم المعتزلة ما يستقلّ به العقل على الظواهر الدينيّة كالقول بالحسن و القبح العقليّين، و قبح الترجيح من غير مرجّح، و قبح التكليف بما لا يطاق، و الاستطاعة، و التفويض، و غير ذلك، و تحكيم الأشاعرة الظواهر على حكم العقل بالقول بنفي الحسن و القبح، و جواز الترجيح من غير مرجّح، و نفي الاستطاعة، و القول بالجبر، و قدم كلام الله، و غير ذلك ممّا هو مذكور في كتبهم.

ثمّ رتّبوا الفنّ و اصطلحوا الاصطلاحات و زادوا مسائل قابلوا بها الفلاسفة في المباحث المعنونة بالاُمور العامّة، و ذلك بعد نقل كتب الفلسفة إلى العربيّة و انتشار دراستها بين المسلمين، و ليس الأمر على ما ذكره بعضهم: أنّ التكلّم ظهر أو انشعب في الإسلام إلى الاعتزال و الأشعريّة بعد انتقال الفلسفة إلى العرب، يدلّ على

____________________

(١) كقوله صلّى الله عليه و آله فيما روي عنه: لا جبر و لا تفويض بل أمر بين أمرين، و قوله: القدرية مجوس هذه الاُمّة.

٣٠٠

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444