الميزان في تفسير القرآن الجزء ٥

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 444

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 444
المشاهدات: 86826
تحميل: 10312


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 444 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 86826 / تحميل: 10312
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 5

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

(المشهورات و المسلّمات) لكون الاستدلال بها على مسائل مسلّمة، و ما اُخذ في الأبحاث الفلسفيّة منها قياسات برهانيّة يراد بها إثبات ما هو الحقّ لا إثبات ما سلّم ثبوتها تسليماً و هذا غير أن يقال: إنّ أحد الطريقين (طريق الكلام) طريق الدين و الآخر طريق مباين لطريق الدين لا يعتنى به و إن كان حقّاً.

و أمّا ما ذكره من الإشكال على المنطق و الفلسفة و العرفان فما اعترض به على المنطق قد تقدّم الكلام فيه، و أمّا ما ذكره في موضوع الفلسفة و العرفان فإن كان ما ذكره على ما ذكره و فهم منه ثمّ ناقض ما هو صريح الدين الحقّ فلا ريب لمرتاب في أنّه باطل و من هفوات الباحثين في الفلسفة أو السالكين مسلك العرفان و أغلاطهم، لكنّ الشأن في أنّ هفوات أهل فنّ و سقطاتهم و انحرافهم لا تحمل على عاتق الفنّ، و إنّما يحمل على قصور الباحثين في بحثهم.

و كان عليه أن يتأمّل الاختلافات الناشئة بين المتكلّمين: أشعريّهم و معتزليّهم و إماميّهم فقد اقتسمت هذه الاختلافات الكلمة الواحدة الإسلاميّة فجعلتها بادء بدء ثلاثاً و سبعين فرقة ثمّ فرّقت كلّ فرقة إلى فرق، و لعلّ فروع كلّ أصل لا ينقص عدداً من اُصولها.

فليت شعري هل أوجد الاختلافات شي‏ء غير سلوك طريق الدين؟ و هل يسع لباحث أن يستدلّ بذلك على بطلان الدين و فساد طريقه؟ أو يأتي ههنا بعذر لا يجري هناك أو يرمي اُولئك برذيلة معنويّة لا توجد عينها أو مثلها في هؤلاء؟! و نظير فنّ الكلام في ذلك الفقه الإسلاميّ و انشعاب الشعب و الطوائف فيه ثمّ الاختلافات الناشئة بين كلّ طائفة أنفسهم، و كذلك سائر العلوم و الصناعات على كثرتها و اختلافها.

و أمّا ما استنتج من جميع كلامه من بطلان جميع الطرق المعمولة و تعيّن طريق الكتاب و السنّة و هو مسلك الدين فلا يسعه إلّا أن يرى طريق التذكّر و هو الّذي نسب إلى أفلاطون اليونانيّ و هو أنّ الإنسان لو تجرّد عن الهوسات النفسانيّة و تحلّى بحلية التقوى و الفضائل الروحيّة ثمّ رجع إلى نفسه في أمر بان له الحقّ فيه.

هذا هو الّذي ذكروه، و قد اختاره بعض القدماء من يونان و غيرهم و جمع من

٢٨١

المسلمين و طائفة من فلاسفة الغرب غير أنّ كلّاً من القائلين به قرّره بوجه آخر:

فمنهم من قرّره على أنّ العلوم الإنسانيّة فطريّة بمعنى أنّها حاصلة له، موجودة معه بالفعل في أوّل وجوده، فلا جرم يرجع معنى حدوث كلّ علم له جديد إلى حصول التذكّر. و منهم من قرّره على أنّ الرجوع إلى النفس بالانصراف عن الشواغل المادّيّة يوجب انكشاف الحقائق لا بمعنى كون العلوم عند الإنسان بالفعل بل هي له بالقوّة و إنّما الفعليّة في باطن النفس الإنسانيّة المفصولة عن الإنسان عند الغفلة الموصولة به عند التذكّر، و هذا ما يقول به العرفاء و أهل الإشراق و أترابهم من سائر الملل و النحل. و منهم من قرّره على نحو ما قرّره العرفاء غير أنّه اشتراط في ذلك التقوى و اتّباع الشرع علماً و عملاً كعدّة من المسلمين ممّن عاصرناهم و غيرهم زعماً منهم أنّ اشتراط اتّباع الشرع يفرق ما بينهم و بين العرفاء و المتصوّفة، و قد خفي عليهم أنّ العرفاء سبقوهم في هذا الاشتراط كما يشهد به كتبهم المعتبرة الموجودة، فالقول عين ما قال به المتصوّفة، و إنّما الفرق بين الفريقين في كيفيّة الاتّباع و تشخيص معنى التبعيّة، و هؤلاء يعتبرون في التبعيّة مرحلة الجمود على الظواهر محضاً، فطريّقهم طريق مولّد من تناكح طريقي المتصوّفة و الأخباريّة إلى غير ذلك من التقريرات.

و القول بالتذكّر إن لم يرد به إبطال الرجوع إلى الاُصول المنطقيّة و العقليّة لا يخلو من وجه صحّة في الجملة فإنّ الإنسان حينما يوجد بهويّته يوجد شاعراً بذاته و قوى ذاته و بعلله، عالماً بها علماً حضوريّاً، و معه من القوى ما يبدّل علمه الحضوريّ إلى علم حصوليّ. و لا توجد قوّة هي مبدأ الفعل إلّا و هي تفعل فعلها فللإنسان في أوّل وجوده شي‏ء من العلوم و إن كانت متأخّرة عنه بحسب الطبع لكنّه معه بالزمان. هذا، و أيضاً حصول بعض العلوم للإنسان إذا انصرف عن التعلّقات المادّيّة بعض الانصراف لا يسع لأحد إنكاره.

و إن اُريد بالقول بالتذكّر إبطال أثر الرجوع إلى الاُصول المنطقيّة و العقليّة بمعنى أنّ ترتيب المقدّمات البديهيّة المتناسبة يوجب خروج الإنسان من القوّة إلى الفعل بالنسبة إلى العلم بما يعدّ نتيجة لها، أو بمعنى أنّ التذكّر بمعنى الرجوع إلى

٢٨٢

النفس بالتخلية يغني الإنسان عن ترتيب المقدّمات العلميّة لتحصيل النتائج فهو من أسخف القول الّذي لا يرجع إلى محصّل.

أمّا القول بالتذكّر بمعنى إبطاله الرجوع إلى الاُصول المنطقيّة و العقليّة فيبطله أوّلاً: أنّ البحث العميق في العلوم و المعارف الإنسانيّة يعطي أنّ علومه التصديقيّة تتوقّف على علومه التصوّريّة و العلوم التصوّريّة تنحصر في العلوم الحسّيّة أو المنتزع منها بنحو من الأنحاء(١) و قد دلّ القياس و التجربة على أنّ فاقد حسّ من الحواسّ فاقد لجميع العلوم المنتهية إلى ذلك الحسّ، تصوّريّة كانت أو تصديقيّة، نظريّة كانت أو بديهيّة، و لو كانت العلوم موجودة للهويّة الإنسانيّة بالفعل لم يؤثّر الفقد المفروض في ذلك، و القول بأنّ العمى و الصمم و نحوهما مانعة عن التذكّر رجوع عن أصل القول و هو أنّ التذكّر بمعنى الرجوع إلى النفس بالانصراف عن التعلّقات المادّيّة مفيد لذكر المطلوب بارتفاع الغفلة.

و ثانياً: أنّ التذكّر إنّما يوفّق له بعض أفراد هذا النوع، و عامّة الأفراد يستعملون في مقاصدهم الحيويّة سنّة التأليف و الاستنتاج و يستنتجون من ذلك الاُلوف بعد الاُلوف من النتائج المستقيمة، و على ذلك يجري الحال في جميع العلوم و الصناعات، و إنكار شي‏ء من ذلك مكابرة، و حمل ذلك على الاتّفاق مجازفة فالأخذ بهذه السنّة أمر فطريّ للإنسان لا محيد عنه، و من المحال أن يجهّز نوع من الأنواع بجهاز فطريّ تكوينيّ ثمّ يخبط في عمله و لا ينجح في مسعاه.

و ثالثاً: أنّ جميع ما ينال هؤلاء بما يسمّونه تذكّراً يعود بالتحليل إلى مقدّمات مترتّبة ترتيباً منطقيّاً بحيث يختلّ أمر النتيجة فيها باختلال شي‏ء من الاُصول المقرّرة في هيئتها و مادّتها، فهم يستعملون الاُصول المنطقيّة من حيث لا يحسّون به، و الاتّفاق و الصحابة الدائمان لا محصّل لهما، و عليهم أن يأتوا بصورة علميّة تذكريّة صحيحة لا تجري فيها اُصول المنطق.

و أمّا القول بالتذكّر بمعنى إغنائه عن الرجوع إلى الاُصول المنطقيّة - و يرجع

____________________

(١) راجع اُصول الفلسفة: المقالة الخامسة.

٢٨٣

محصّله إلى أنّ هناك طريقين: طريق المنطق و طريق التذكّر باتّباع الشرع مثلاً، و الطريقان سواء في الإصابة أو أنّ طريق التذكّر أفضل و اُولى لإصابته دائماً لموافقته قول المعصوم بخلاف طريق المنطق و العقل - ففيه خطر الوقوع في الغلط دائماً أو غالباً.

و كيف كان يرد عليه الإشكال الثاني الوارد على ما تقدّمه فإنّ الإحاطة بجميع مقاصد الكتاب و السنّة و رموزها و أسرارها على سعة نطاقها العجيبة غير متأتّ إلّا للآحاد من الناس المتوغّلين في التدبّر في المعارف الدينيّة على ما فيها من الارتباط العجيب، و التداخل البالغ بين اُصولها و فروعها و ما يتعلّق منها بالاعتقاد و ما يتعلّق منها بالأعمال الفرديّة و الاجتماعيّة، و من المحال أن يكلّف الإنسان تكويناً بالتجهيز التكوينيّ بما وراء طاقته و استطاعته أو يكلّف بذلك تشريعاً فليس على الناس إلّا أن يعقلوا مقاصد الدين بما هو الطريق المألوف عندهم في شؤون حياتهم الفرديّة و الاجتماعيّة، و هو ترتيب المعلومات لاستنتاج المجهولات، و المعلوم من الشرع بعض أفراد المعلومات لقيام البرهان على صدقه.

و من العجيب أنّ بعض القائلين بالتذكّر جعل هذا بعينه وجهاً للتذكّر على المنطق فذكر أنّ العلم بالحقائق الواقعيّة إن صحّ حصوله باستعمال المنطق و الفلسفة - و لن يصحّ - فإنّما يتأتّى ذلك لمثل أرسطو و ابن سينا من أوحديّي الفلسفة، و ليس يتأتّى لعامّة الناس فكيف يمكن أن يأمر الشارع باستعمال المنطق و الاُصول الفلسفيّة طريقاً إلى نيل الواقعيّات؟ و لم يتفطّن أنّ الإشكال بعينه مقلوب عليه فإن أجاب بأنّ استعمال التذكّر ميسور لكلّ أحد على حسب اتّباعه اُجيب بأنّ استعمال المنطق قليلاً أو كثيراً ميسور لكلّ أحد على حسب استعداده لنيل الحقائق و لا يجب لكلّ أحد أن ينال الغاية، و يركب ما فوق الطاقة.

و يرد عليه ثانياً: الإشكال الثالث السابق فإنّ هؤلاء يستعملون طريق المنطق في جميع المقاصد الّتي يبدونها باسم التذكّر كما تقدّم حتّى في البيان الّذي أوردوه لإبطال طريق المنطق و تحقيق طريق التذكّر و كفى به فساداً.

و يرد عليه ثالثاً: أنّ الوقوع في الخطأ واقع بل غالب في طريق التذكّر الّذي

٢٨٤

ذكروه فإنّ التذكّر كما زعموه هو الطريق الّذي كان يسلكه السلف الصالح دون طريق المنطق، و قد نقل الاختلاف و الخطأ فيما بينهم بما ليس باليسير كعدّة من أصحاب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ممّن اتّفق المسلمون على علمه و اتّباعه الكتاب و السنّة، أو اتّفق الجمهور على فقهه و عدالته، و كعدّة من أصحاب الأئمّة على هذه النعوت كأبي حمزة و زرارة و أبان و أبي خالد و الهشامين و مؤمن الطاق و الصفوانين و غيرهم، فالاختلافات الأساسيّة بينهم مشهورة معروفة و من البيّن أنّ المختلفين لا ينال الحقّ إلّا أحدهما، و كذلك الفقهاء و المحدّثون من القدماء كالكلينيّ و الصدوق و شيخ الطائفة و المفيد و المرتضى و غيرهم رضوان الله عليهم، فما هو مزيّة التذكّر على التفكّر المنطقيّ؟ فكان من الواجب حينئذ التماس مميّز آخر غير التذكّر يميّز بين الحقّ و الباطل، و ليس إلّا التفكّر المنطقيّ فهو المرجع و الموئل.

و يرد عليه رابعاً: أنّ محصّل الاستدلال أنّ الإنسان إذا تمسّك بذيل أهل العصمة و الطهارة لم يقع في خطأ، و لازمه ما تقدّم أنّ الرأي المأخوذ من المعصوم فيما سمعه منه سمعاً يقينيّاً و علم بمراده علماً يقينيّاً لا يقع فيه خطأ، و هذا ممّا لا كلام فيه لأحد.

و في الحقيقة المسموع من المعصوم أو المأخوذ منه مادّة ليس هو عين التذكّر و لا الفكر المنطقيّ ثمّ يعقّبه هو أنّ: هذا ما يراه المعصوم، و كلّ ما يراه حقّ فهذا حقّ و هذا برهان قطعيّ النتيجة، و أمّا غير هذه الصورة من مؤدّيات أخبار الآحاد أو ما يماثلها ممّا لا يفيد إلّا الظنّ فإنّ ذلك لا يفيد شيئاً و لا يوجد دليل على حجّيّة الآحاد في غير الأحكام إلّا مع موافقة الكتاب و لا الظنّ يحصل على شي‏ء مع فرض العلم على خلافه من دليل علميّ.

٩- و قول بعضهم: ( إنّ الله سبحانه خاطبنا في كلامه بما نألفه من الكلام الدائر بيننا، و النظم و التأليف الذي يعرفه أهل اللّسان، و ظاهر البيانات المشتملة على الأمر و النهي و الوعد و الوعيد و القصص و الحكمة و الموعظة و الجدال بالّتي هي أحسن، و هذه اُمور لا حاجة في فهمها و تعقّلها إلى تعلّم المنطق و الفلسفة و سائر ما هو تراث

٢٨٥

الكفّار و المشركين و سبيل الظالمين، و قد نهانا عن ولايتهم و الركون إليهم و اتّخاذ دئوبهم و اتّباع سبلهم، فليس على من يؤمن بالله و رسوله إلّا أن يأخذ بظواهر البيانات الدينيّة، و يقف على ما يتلقّاه الفهم العاديّ من تلك الظواهر من غير أن يؤوّلها أو يتعدّاها إلى غيرها) و هذا ما يراه الحشويّة و المشبّهة و عدّة من أصحاب الحديث.

و هو فاسد أمّا من حيث الهيئة فقد استعمل فيه الاُصول المنطقيّة و قد اُريد بذلك المنع عن استعمالها بعينها، و لم يقل القائل بأنّ القرآن يهدي إلى استعمال اُصول المنطق: إنّه يجب على كلّ مسلم أن يتعلّم المنطق، لكن نفس الاستعمال ممّا لا محيص عنه، فما مثل هؤلاء في قولهم هذا إلّا مثل من يقول: إنّ القرآن إنّما يريد أن يهدينا إلى مقاصد الدين فلا حاجة لنا إلى تعلّم اللسان الّذي هو تراث أهل الجاهليّة، فكما أنّه لا وقع لهذا الكلام بعد كون اللّسان طريقاً يحتاج إليه الإنسان في مرحلة التخاطب بحسب الطبع و قد استعمله الله سبحانه في كتابه و النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في سنّته كذلك لا معنى لما اعترض به على المنطق بعد كونه طريقاً معنويّاً يحتاج إليه الإنسان في مرحلة التعقّل بحسب الطبع و قد استعمله الله سبحانه في كتابه و النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في سنّته.

و أمّا بحسب المادّة فقد اُخذت فيه مواد عقليّة، غير أنّه غولط فيه من حيث التسوية بين المعنى الظاهر من الكلام و المصاديق الّتي تنطبق عليها المعاني و المفاهيم، فالّذي على المسلم المؤمن بكتاب الله أن يفهمه من مثل العلم و القدرة و الحياة و السمع و البصر و الكلام و المشيئة و الإرادة مثلاً أن يفهم معاني تقابل الجهل و العجز و الممات و الصمم و العمى و نحوها، و أمّا أن يثبت لله سبحانه علماً كعلمنا و قدرة كقدرتنا و حياة كحياتنا و سمعاً و بصراً و كلاماً و مشيئة و إرادة كذلك فليس له ذلك لا كتاباً و لا سنّة و لا عقلاً، و قد تقدّم شطر من الكلام المتعلّق بهذا الباب في بحث المحكم و المتشابه في الجزء الثالث من الكتاب.

١٠- و قول بعضهم: ( إنّ الدليل على حجّيّة المقدّمات الّتي قامت عليها الحجج العقليّة ليس إلّا المقدّمة العقليّة القائلة بوجوب اتّباع الحكم العقليّ، و

٢٨٦

بعبارة اُخرى لا حجّة على حكم العقل إلّا نفس العقل و هذا دور مصرّح فلا محيص في المسائل الخلافيّة عن الرجوع إلى قول المعصوم من نبيّ أو إمام من غير تقليد) . هذا، و هو أسخف تشكيك اُورد في هذا الباب و إنّما اُريد به تشييد بنيان فأنتج هدمه، فإنّ القائل أبطل به حكم العقل بالدور المصرّح على زعمه ثمّ لمّا عاد إلى حكم الشرع لزمه إمّا أن يستدلّ عليه بحكم العقل و هو الدور، أو بحكم الشرع و هو الدور فلم يزل حائراً يدور بين دورين. إلّا أن يرجع إلى التقليد و هو حيرة ثانية.

و قد اشتبه عليه الأمر في تحصيل معنى وجوب متابعة حكم العقل فإن اُريد بوجوب متابعة حكم العقل ما يقابل الحظر و الإباحة و يستتبع مخالفته ذمّاً أو عقاباً نظير وجوب متابعة الناصح المشفق، و وجوب العدل في الحكم و نحو ذلك فهو حكم العقل العمليّ و لا كلام لنا فيه، و إن اُريد بوجوب المتابعة أنّ الإنسان مضطرّ على تصديق النتيجة إذا استدلّ عليه بمقدّمات علميّة و شكل صحيح علميّ مع التصوّر التامّ لأطراف القضايا فهذا أمر يشاهده الإنسان بالوجدان، و لا معنى عندئذ لأن يسأل العقل عن الحجّة، لحجّيّة حجّته لبداهة حجّيّته. و هذا نظير سائر البديهيّات، فإنّ الحجّة على كلّ بديهي إنّما هي نفسه، و معناه أنّه مستغن عن الحجّة.

١١- و قول بعضهم: ( إنّ غاية ما يرومه المنطق هو الحصول على المهيّات الثابتة للأشياء، و الحصول على النتائج بالمقدّمات الكليّة الدائمة الثابتة، و قد ثبت بالأبحاث العلميّة اليوم أن لا كلّيّ و لا دائم و لا ثابت في خارج و لا ذهن و إنّما هي الأشياء تجري تحت قانون التحوّل العامّ من غير أن يثبت شي‏ء بعينه على حال ثابتة أو دائمة أو كلّيّة) .

و هذا فاسد من جهة أنّه استعمل فيه الاُصول المنطقيّة هيئة و مادّة كما هو ظاهر لمن تأمّل فيه. على أنّ المعترض يريد بهذا الاعتراض بعينه أن يستنتج أنّ المنطق القديم غير صحيح البتّة، و هي نتيجة كلّيّة دائمة ثابتة مشتملة على مفاهيم ثابتة، و إلّا لم يفده شيئاً فالاعتراض يبطل نفسه.

٢٨٧

و لعلّنا خرجنا عمّا هو شريطة هذا الكتاب من إيثار الاختصار مهما أمكن فلنرجع إلى ما كنّا فيه أوّلاً:

القرآن الكريم يهدي العقول إلى استعمال ما فطرت على استعماله و سلوك ما تألفه و تعرفه بحسب طبعها و هو ترتيب المعلومات لاستنتاج المجهولات، و الّذي فطرت العقول عليه هو أن تستعمل مقدّمات حقيقيّة يقينيّة لاستنتاج المعلومات التصديقيّة الواقعيّة و هو البرهان، و أن تستعمل فيما له تعلّق بالعمل من سعادة و شقاوة و خير و شرّ و نفع و ضرر و ما ينبغي أن يختار و يؤثر و ما لا ينبغي، و هي الاُمور الاعتباريّة، المقدّمات المشهورة أو المسلّمة، و هو الجدل، و أن تستعمل في موارد الخير و الشرّ المظنونين مقدّمات ظنّيّة لإنتاج الإرشاد و الهداية إلى خير مظنّون، أو الردع عن شرّ مظنون، و هي العظة قال تعالى:( ادْعُ إِلى‏ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَ الْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَ جادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) (النحل: ١٢٥) و الظاهر أنّ المراد بالحكمة هو البرهان كما ترشد إلى ذلك مقابلته الموعظة الحسنة و الجدال.

فإن قلت: طريق التفكّر المنطقيّ ممّا يقوى عليه الكافر و المؤمن، و يتأتّى من الفاسق و المتّقي، فما معنى نفيه تعالى العلم المرضيّ و التذكّر الصحيح عن غير أهل التقوى و الاتّباع كما في قوله تعالى:( وَ ما يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ ) (غافر: ١٣)، و قوله:( وَ مَنْ يَتَّقِ الله يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً ) (الطلاق: ٢)، و قوله:( فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَ لَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى) (النجم: ٣٠) و الروايات الناطقة بأنّ العلم النافع لا ينال إلّا بالعمل الصالح كثيرة مستفيضة.

قلت: اعتبار الكتاب و السنّة التقوى في جانب العلم ممّا لا ريب فيه، غير أنّ ذلك ليس لجعل التقوى أو التقوى الّذي معه التذكّر طريقاً مستقلّاً لنيل الحقائق وراء الطريق الفكري الفطريّ الّذي يتعاطاه الإنسان تعاطياً لا مخلص له منه، إذ لو كان الأمر على ذلك لغت جميع الاحتجاجات الواردة في الكتاب على الكفّار و المشركين و أهل الفسق و الفجور ممّن لا يتّبع الحقّ، و لا يدري ما هو التقوى و التذكّر فإنّهم لا سبيل لهم على

٢٨٨

هذا الفرض إلى إدراك المطلوب و حالهم هذا الحال، و مع فرض تبدّل الحال يلغو الاحتجاج معهم، و نظيرها ما ورد في السنّة من الاحتجاج مع شتّى الفرق و الطوائف الضالّة.

بل اعتبار التقوى لردّ النفس الإنسانيّة المدركة إلى استقامتها الفطريّة، توضيح ذلك: أنّ الإنسان بحسب جسميّته مؤلّف من قوى متضادّة بهيميّة و سبعيّة محتدها البدن العنصريّ، و كلّ واحدة منها تعمل عملها الشعوريّ الخاصّ بها من غير أن ترتّبط بغيرها من القوى ارتباطاً تراعي به حالها في عملها إلّا بنحو الممانعة و المضادة فشهوة الغذاء تبعث الإنسان إلى الأكل و الشرب من غير أن يحدّ بحدّ أو يقدّر بقدر من ناحية هذه القوّة إلّا أن يمتنع منهما المعدة مثلاً لأنّها لا تسع إلّا مقداراً محدوداً، أو يمتنع الفكّ مثلاً لتعب و كلال يصيب عضلته من المضغ إذا أكثر من الأكل و أمثال ذلك، فهذه اُمور نشاهدها من أنفسنا دائماً.

و إذا كان كذلك كان تمايل الإنسان إلى قوّة من القوى، و استرساله في طاعة أوامرها، و الانبعاث إلى ما تبعث إليه يوجب طغيان القوّة المطاعة، و اضطهاد القوّة المضادّة لها اضطهاداً ربّما بلغ بها إلى حدّ البطلان أو كاد يبلغ، فالاسترسال في شهوة الطعامّ أو شهوة النكاح يصرف الإنسان عن جميع مهمّات الحياة من كسب و عشرة و تنظيم أمر منزل و تربية أولاد و سائر الواجبات الفرديّة و الاجتماعيّة الّتي يجب القيام بها، و نظيره الاسترسال في طاعة سائر القوى الشهويّة و القوى الغضبيّة، و هذا أيضاً ممّا لا نزال نشاهدها من أنفسنا و من غيرنا خلال أيّام الحياة.

و في هذا الإفراط و التفريط هلاك الإنسانيّة فإنّ الإنسان هو النفس المسخّرة لهذه القوى المختلفة، و لا شأن له إلّا سوق المجموع من القوى بأعمالها في طريق سعادته في الحياة الدنيا و الآخرة، و ليست إلّا حياة علميّة كماليّة، فلا محيص له عن أن يعطي كلّاً من القوى من حظّها ما لا تزاحم به القوى الاُخرى و لا تبطل من رأس.

فالإنسان لا يتمّ له معنى الإنسانيّة إلّا إذا عدّل قواه المختلفة تعديلاً يورد كلّاً منها وسط الطريق المشروع لها، و ملكة الاعتدال في كلّ واحدة من القوى هي

٢٨٩

الّتي نسمّيها بخُلقها الفاضل كالحكمة و الشجاعة و العفّة و غيرها، و يجمع الجميع العدالة.

و لا ريب أنّ الإنسان إنّما يحصل على هذه الأفكار الموجودة عنده و يتوسّع في معارفه و علومه الإنسانيّة باقتراح هذه القوى الشعوريّة أعمالها و مقتضياتها، بمعنى أنّ الإنسان في أوّل كينونته صفر الكفّ من هذه العلوم و المعارف الوسيعة حتّى تشعر قواه الداخلة بحوائجها، و تقترح عليه ما تشتهيها و تطلبها، و هذه الشعورات الابتدائيّة هي مبادئ علوم الإنسان ثمّ لا يزال الإنسان يعمّم و يخصّص و يركّب و يفصّل حتّى يتم له أمر الأفكار الإنسانيّة.

و من هنا يحدس اللّبيب أنّ توغّل الإنسان في طاعة قوّة من قواه المتضادّة و إسرافه في إجابة ما تقترح عليه يوجب انحرافه في أفكاره و معارفه بتحكيم جميع ما تصدّقه هذه القوّة على ما يعطيه غيرها من التصديقات و الأفكار، و غفلته عمّا يقتضيه غيرها.

و التجربة تصدّق ذلك فإنّ هذا الانحراف هو الّذي نشاهده في الأفراد المسرفين المترفين من حلفاء الشهوة، و في البغاة الطغاة الظلمة المفسدين أمر الحياة في المجتمع الإنسانيّ فإنّ هؤلاء الخائضين في لجج الشهوات، العاكفين على لذائذ الشرب و السماع و الوصال لا يكادون يستطيعون التفكّر في واجبات الإنسانيّة، و مهامّ الاُمور الّتي يتنافس فيها أبطال الرجال و قد تسرّبت روح الشهوة في قعودهم و قيامهم و اجتماعهم و افتراقهم و غير ذلك و كذلك الطغاة المستكبرون أقسياء القلوب لا يتأتّى لهم أن يتصوّروا رأفة و شفقة و رحمة و خضوعاً و تذلّلاً حتّى فيما يجب فيه ذلك، و حياتهم تمثّل حالهم الخبيث الّذي هم عليه في جميع مظاهرها من تكلّم و سكوت و نظر و غضّ و إقبال و إدبار، فهؤلاء جميعاً سالكوا طريق الخطأ في علومهم، كلّ طائفة منهم مكبّة على ما تناله من العلوم و الأفكار المحرّفة المنحرفة المتعلّقة بما عنده، غافلون عمّا وراءه و فيما وراءه، العلوم النافعة و المعارف الحقّة الإنسانيّة فالمعارف الحقّة و العلوم النافعة لا تتمّ للإنسان إلّا إذا صلحت أخلاقه و تمّت له الفضائل الإنسانيّة القيّمة و هو التقوى.

٢٩٠

فقد تحصّل أنّ الأعمال الصالحة هي الّتي تحفظ الأخلاق الحسنة، و الأخلاق الحسنة هي الّتي تحفظ المعارف الحقّة و العلوم النافعة و الأفكار الصحيحة، و لا خير في علم لا عمل معه.

و هذا البحث و إن سقناه سوقاً علميّاً أخلاقيّاً لمسيس الحاجة إلى التوضيح إلّا أنّه هو الّذي جمعه الله تعالى في كلمة حيث قال:( وَ اقْصِدْ فِي مَشْيِكَ ) (لقمان: ١٩) فإنّه كناية عن أخذ وسط الاعتدال في مسير الحياة، و قال:( إِنْ تَتَّقُوا الله يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً ) (الأنفال: ٢٩) و قال:( وَ تَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى‏ وَ اتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ ) (البقرة: ١٩٧)، أي لأنّكم اُولوا الألباب تحتاجون في عمل لبّكم إلى التقوى و الله أعلم، و قال تعالى:( وَ نَفْسٍ وَ ما سَوَّاها فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَ تَقْواها قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها وَ قَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها ) (الشمس: ١٠) و قال:( وَ اتَّقُوا الله لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) (آل عمران: ١٣٠).

و من طريق آخر: قال تعالى:( فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَ اتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا إِلَّا مَنْ تابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً ) (مريم: ٦٠) فذكر أنّ اتّباع الشهوات يسوق إلى الغيّ، و قال تعالى:( سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَ إِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها وَ إِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَ إِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَ كانُوا عَنْها غافِلِينَ ) (الأعراف: ١٤٦) فذكر أنّ اُسراء القوى الغضبيّة ممنوعون من اتّباع الحقّ مسوقون إلى سبيل الغيّ، ثمّ ذكر أنّ ذلك بسبب غفلتهم عن الحقّ، و قال تعالى:( وَ لَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَ لَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَ لَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ ) (الأعراف: ١٧٩) فذكر أنّ هؤلاء الغافلين إنّما هم غافلون عن حقائق المعارف الّتي للإنسان، فقلوبهم و أعينهم و آذانهم بمعزل عن نيل ما يناله الإنسان، السعيد في إنسانيّته، و إنّما ينالون بها ما تناله الأنعام أو ما هو أضلّ من الأنعام و هي الأفكار الّتي إنّما تصوّبها و تميل إليها و تألف بها البهائم السائمة و السباع الضارية.

٢٩١

فظهر من جميع ما تقدّم أنّ القرآن الكريم إنّما اشترط التقوى في التفكّر و التذكّر و التعقّل، و قارن العلم بالعمل للحصول على استقامة الفكر و إصابة العلم و خلوصه من شوائب الأوهام الحيوانيّة و الإلقاءات الشيطانيّة.

نعم ههنا حقيقة قرآنيّة لا مجال لإنكارها، و هو أنّ دخول الإنسان في حظيرة الولاية الإلهيّة، و تقرّبه إلى ساحة القدس و الكبرياء يفتح له باباً إلى ملكوت السماوات و الأرض يشاهد منه ما خفي على غيره من آيات الله الكبرى، و أنوار جبروته الّتي لا تطفأ، قال الصادقعليه‌السلام : لو لا أنّ الشياطين يحومون حول قلوب بني آدم لرأوا ملكوت السماوات و الأرض، و فيما رواه الجمهور عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: لو لا تكثير في كلامكم و تمريج في قلوبكم لرأيتم ما أرى و لسمعتم ما أسمع، و قد قال تعالى:( وَ الَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَ إِنَّ الله لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ) (العنكبوت: ٦٩) و يدلّ على ذلك ظاهر قوله تعالى:( وَ اعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ) (الحجر: ٩٩) حيث فرّع اليقين على العبادة، و قال تعالى:( وَ كَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ لِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ ) (الأنعام: ٧٥) فربط وصف الإيقان بمشاهدة الملكوت، و قال تعالى:( كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ ) (التكاثر: ٧) و قال تعالى:( إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ وَ ما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ كِتابٌ مَرْقُومٌ يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ ) (المطففين: ٢١) و ليطلب البحث المستوفى في هذا المعنى ممّا سيجي‏ء من الكلام في قوله تعالى:( إِنَّما وَلِيُّكُمُ الله وَ رَسُولُهُ ) الآية: (المائدة: ٥٥) و في قوله تعالى:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ ) الآية: (المائدة: ١٠٥).

و لا ينافي ثبوت هذه الحقيقة ما قدّمناه أنّ القرآن الكريم يؤيّد طريق التفكّر الفطريّ الّذي فطر عليه الإنسان و بني عليه بنية الحياة الإنسانيّة، فإنّ هذا طريق غير فكريّ، و موهبة إلهيّة يختصّ بها من يشاء من عباده و العاقبة للمتّقين.

٢٩٢

( بحث تاريخي)

( في تاريخ التفكّر الإسلامي إجمالاً)

ننظر فيه نظراً إجماليّاً في تاريخ التفكّر الإسلاميّ و الطريق الّذي سلكته الاُمّة الإسلاميّة على اختلاف طوائفها و مذاهبها، و لا نلوي فيه إلى مذهب من المذاهب بإحقاق أو إبطال، و إنّما نعرض الحوادث الواقعة على منطق القرآن و نحكّمه في الموافقة و المخالفة، و أمّا ما باهى به موافق و ما اعتذر به مخالف فلا شأن لنا في الغور في اُصوله و جذوره، فإنّما ذلك طريق آخر من البحث مذهبيّ أو غيره.

القرآن الكريم يتعرّض بمنطقه في سنّته المشروعة لجميع شؤون الحياة الإنسانيّة من غير أن تتقيّد بقيد أو تشترط بشرط، يحكم على الإنسان منفرداً أو مجتمعاً، صغيراً أو كبيراً، ذكراً أو اُنثى، على الأبيض و الأسود، و العربيّ و العجميّ، و الحاضر و البادي، و العالم و الجاهل، و الشاهد و الغائب، في أيّ زمان كان و في أيّ مكان كان و يداخل كلّ شأن من شؤونه من اعتقاد أو خلق أو عمل من غير شكّ.

فللقرآن اصطكاك مع جميع العلوم و الصناعات المتعلّقة بأطراف الحياة الإنسانيّة و من الواضح اللّائح من خلال آياته النادبة إلى التدبّر و التفكّر و التذكّر و التعقّل أنّه يحثّ حثّاً بالغاً على تعاطي العلم و رفض الجهل في جميع ما يتعلّق بالسماويّات و الأرضيّات و النبات و الحيوان و الإنسان، من أجزاء عالمنا و ما وراءه من الملائكة و الشياطين و اللّوح و القلم و غير ذلك ليكون ذريعة إلى معرفة الله سبحانه، و ما يتعلّق نحواً من التعلّق بسعادة الحياة الإنسانيّة الاجتماعيّة من الأخلاق و الشرائع و الحقوق و أحكام الاجتماع.

و قد عرفت أنّه يؤيّد الطريق الفطريّ من التفكّر الّذي تدعو إليه الفطرة دعوة اضطراريّة لا معدل عنها على حقّ ما تدعو إليه الفطرة من السير المنطقيّ.

و القرآن نفسه يستعمل هذه الصناعات المنطقيّة من برهان و جدل و موعظة، و يدعو الاُمّة الّتي يهديها إلى أن يتّبعوه في ذلك فيتعاطوا البرهان فيما كان من الواقعيّات الخارجة من باب العمل و يستدلّوا بالمسلّمات في غير ذلك أو بما يعتبر به.

٢٩٣

و قد اعتبر القرآن في بيان مقاصده السنّة النبويّة، و عيّن لهم الاُسوة في رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فكانوا يحفظون عنه، و يقلّدون مشيته العلميّة تقليد المتعلّم معلّمه في السلوك العلميّ.

كان القوم في عهد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (و نعني به أيّام إقامته بالمدينة) حديثي عهد بالتعليم الإسلاميّ، حالهم أشبه بحال الإنسان القديم في تدوين العلوم و الصناعات، يشتغلون بالأبحاث العلميّة اشتغالاً ساذجاً غير فنّيّ على عناية منهم بالتحصيل و التحرير، و قد اهتمّوا أوّلاً بحفظ القرآن و قراءته، و حفظ الحديث عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من غير كتابة، و نقله، و كان لهم بعض المطارحات الكلاميّة فيما بينهم أنفسهم، و احتجاجات مع بعض أرباب الملل الأجنبيّة و لا سيّما اليهود و النصارى لوجود أجيال منهم في الجزيرة و الحبشة و الشام، و من هنا يبتدئ ظهور علم الكلام و كانوا، يشتغلون برواية الشعر و قد كانت سنّة عربيّة لم يهتمّ بأمرها الإسلام و لم يمدح الكتاب الشعر و الشعراء بكلمة، و لا السنّة بالغت في أمره.

ثمّ لمّا ارتحل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان من أمر الخلافة ما هو معروف و زاد الاختلاف الحادث عند ذلك باباً على الأبواب الموجودة.

و جمع القرآن في زمن الخليفة الأوّل بعد غزوة يمامة و شهادة جماعة من القرّاء فيها.

و كان الأمر على هذا في عهد خلافته - و هي سنتان تقريباً - ثمّ في عهد الخليفة الثاني.

و الإسلام و إن انتشر صيته و اتّسع نطاقه بما رزق المسلمون من الفتوحات العظيمة في عهده لكنّ الاشتغال بها كان يعوقهم عن التعمّق في إجالة النظر في روابط العلوم و التماس الارتقاء في مدارجها، أو أنّهم ما كانوا يرون لما عندهم من المستوى العلميّ حاجة إلى التوسّع و التبسّط.

و ليس العلم و فضله أمراً محسوساً يعرفه اُمّة من اُمّة اُخرى إلّا أن يرتبط بالصنعة فيظهر أثره على الحسّ فيعرفه العامّة.

٢٩٤

و قد أيقظت هذه الفتوحات المتوالية الغزيرة العرب الجاهليّة من الغرور و النخوة بعد ما كانت في سكن بالتربية النبويّة، فكانت تتسرّب فيهم روح الاُمم المستعلية الجبّارة، و تتمكّن منهم رويداً، يشهد به شيوع تقسيم الاُمّة المسلمة يومئذ إلى العرب و الموالي، و سير معاوية - و هو والي الشام يومذاك - بين المسلمين بسيرة ملوكيّة قيصريّة، و اُمور اُخرى كثيرة ذكرها التاريخ عن جيوش المسلمين، و هذه نفسيّات لها تأثير في السير العلميّ و لا سيّما التعليمات القرآنيّة.

و أمّا الّذي كان عندهم من حاضر السير العلميّ فالاشتغال بالقرآن كان على حاله و قد صار مصاحف متعدّدة تنسب إلى زيد و اُبيّ و ابن مسعود و غيرهم.

و أمّا الحديث فقد راج رواجاً بيّناً و كثر النقل و الضبط إلى حيث نهى عمر بعض الصحابة عن التحديث لكثرة ما روى، و قد كان عدّة من أهل الكتاب دخلوا في الإسلام و أخذ عنهم المحدّثون شيئاً كثيراً من أخبار كتبهم و قصص أنبيائهم و اُممهم، فخلطوها بما كان عندهم من الأحاديث المحفوظة عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و أخذ الوضع و الدسّ يدوران في الأحاديث، و يوجد اليوم في الأحاديث المقطوعة المنقولة عن الصحابة و رواتهم في الصدر الأوّل شي‏ء كثير من ذلك يدفعه القرآن بظاهر لفظه.

و جملة السبب في ذلك اُمور ثلاثة:

١- المكانة الرفيعة الّتي كانت تعتقدها الناس لصحبة النبيّ و حفظ الحديث عنه، و كرامة الصحابة و أصحابهم النقلة عنهم على الناس، و تعظيمهم لأمرهم، فدعا ذلك الناس إلى الأخذ و الإكثار (حتى عن مسلمي أهل الكتاب) و الرقابة الشديدة بين حملة الحديث في حيازة التقدّم و الفخر.

٢- أنّ الحرص الشديد منهم على حفظ الحديث و نقله منعهم عن تمحيصه و التدبّر في معناه و خاصّة في عرضه على كتاب الله و هو الأصل الّذي تبتني عليه بنية الدين و تستمدّ منه فروعه، و قد وصّاهم بذلك النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيما صحّ من قوله:( ستكثر عليّ القالة) الحديث، و غيره.

و حصلت بذلك فرصة لأن تدور بينهم أحاديث موضوعة في صفات الله و أسمائه

٢٩٥

و أفعاله، و زلّات منسوبة إلى الأنبياء الكرام، و مساوئ مشوّهة تنسب إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و خرافات في الخلق و الإيجاد، و قصص الاُمم الماضية، و تحريف القرآن و غير ذلك ممّا لا تقصر عمّا تتضمّنه التوراة و الإنجيل من هذا القبيل.

و اقتسم القرآن و الحديث عند ذلك التقدّم و العمل: فالتقدّم الصوريّ للقرآن و الأخذ و العمل بالحديث فلم يلبث القرآن دون أن هجر عملاً، و لم تزل تجري هذه السيرة و هي الصفح عن عرض الحديث على القرآن مستمرّة بين الاُمّة عملاً حتّى اليوم و إن كانت تنكرها قولاً:( وَ قالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً ) اللّهمّ إلّا آحاد بعد آحاد.

و هذا التساهل بعينه هو أحد الأسباب في بقاء كثير من الخرافات القوميّة القديمة بين الاُمم الإسلاميّة بعد دخولهم في الإسلام و الداء يجرّ الداء.

٣- أنّ ما جرى في أمر الخلافة بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أوجب اختلاف آراء عامّة المسلمين في أهل بيته فمن عاكف عليهم هائم بهم، و من معرض عنهم لا يعبأ بأمرهم و مكانتهم من علم القرآن أو مبغض شانئ لهم، و قد وصّاهم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بما لا يرتاب في صحّته و دلالته مسلم أن يتعلّموا منهم و لا يعلّموهم و هم أعلم منهم بكتاب الله، و ذكر لهم أنّهم لن يغلطوا في تفسيره و لن يخطؤوا في فهمه‏ قال في حديث الثقلين المتواتر: إنّي تارك فيكم الثقلين كتاب الله و عترتي و لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض‏، الحديث. و في بعض طرقه: لا تعلّموهم فإنّهم أعلم منكم. و قال في المستفيض من كلامه:( من فسّر القرآن برأيه فليتبوّأ مقعده من النار) و قد تقدّم في أبحاث المحكم و المتشابه في الجزء الثالث من الكتاب.

و هذا أعظم ثلمة انثلم بها علم القرآن و طريق التفكّر الّذي يندب إليه. و من الشاهد على هذا الإعراض قلّة الأحاديث المنقولة عنهمعليهم‌السلام فإنّك إذا تأمّلت ما عليه علم الحديث في عهد الخلفاء من المكانة و الكرامة، و ما كان عليه الناس من الولع و الحرص الشديد على أخذه ثمّ أحصيت ما نقل في ذلك عن عليّ و الحسن و الحسين، و خاصّة ما نقل من ذلك في تفسير القرآن لرأيت عجباً: أمّا الصحابة فلم ينقلوا عن عليّ

٢٩٦

عليه‌السلام شيئاً يذكر، و أمّا التابعون فلا يبلغ ما نقلوا عنه - إن أحصي - مائة رواية في تمام القرآن و أمّا الحسنعليه‌السلام فلعلّ المنقول عنه لا يبلغ عشراً، و أمّا الحسين فلم ينقل عنه شي‏ء يذكر، و قد أنهى بعضهم الروايات الواردة في التفسير إلى سبعة عشر ألف(١) حديث من طريق الجمهور وحده، و هذه النسبة موجودة في روايات الفقه أيضاً(٢) .

فهل هذا لأنّهم هجروا أهل البيت و أعرضوا عن حديثهم؟ أو لأنّهم أخذوا عنهم و أكثروا ثمّ اُخفيت و نسيت في الدولة الاُمويّة لانحراف الاُمويّين عنهم؟ ما أدري.

غير أنّ عزلة عليّ و عدم اشتراكه في جمع القرآن أوّلاً و أخيراً و تاريخ حياة الحسن و الحسينعليه‌السلام يؤيّد أوّل الاحتمالين.

و قد آل أمر عامّة حديثه إلى أن أنكر بعض كون ما اشتمل عليه كتاب نهج البلاغة من غرر خطبه من كلامه، و أمّا أمثال الخطبة البتراء لزياد بن أبيه و خمريّات يزيد فلا يكاد يختلف فيها اثنان!.

و لم يزل أهل البيت مضطهدين، مهجوراً حديثهم إلى أن انتهض الإمامان: محمّد بن عليّ الباقر و جعفر بن محمّد الصادقعليهما‌السلام في برهة كالهدنة بين الدولة الاُمويّة و الدولة العبّاسيّة فبيّنا ما ضاعت من أحاديث آبائهم، و جدّدا ما اندرست و عفيت من آثارهم.

غير أنّ حديثهما و غيرهما من آبائهما و أبنائهما من أئمّة أهل البيت أيضاً لم يسلم من الدخيل و لم يخلص من الدسّ و الوضع كحديث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و قد ذكرا ذلك في الصريح من كلامهما، و عدّا رجالاً من الوضّاعين كمغيرة بن سعيد و ابن أبي الخطّاب و غيرهما، و أنكر بعض الأئمّة روايات كثيرة مرويّة عنهم و عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ،

____________________

(١) ذكر ذلك السيوطيّ في الإتقان، و ذكر أنّه عدد الروايات في تفسيره المسمى بترجمان القرآن و تلخيصه المسمّى بالدرّ المنثور.

(٢) ذكر بعض المتتبّعين أنّه عثر على حديثين مرويّين عن الحسينعليه‌السلام في الروايات الفقهية.

٢٩٧

و أمروا أصحابهم و شيعتهم بعرض الأحاديث المنقولة عنهم على القرآن و أخذ ما وافقه و ترك ما خالفه.

و لكن القوم (إلّا آحاد منهم) لم يجروا عليها عملاً في أحاديث أهل البيتعليهم‌السلام و خاصّة في غير الفقه، و كان السبيل الّذي سلكوه في ذلك هو السبيل الّذي سلكه الجمهور في أحاديث النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

و قد اُفرط في الأمر إلى حيث ذهب جمع إلى عدم حجّيّة ظواهر الكتاب و حجّيّة مثل مصباح الشريعة و فقه الرضا و جامع الأخبار! و بلغ الإفراط إلى حيث ذكر بعضهم أنّ الحديث يفسّر القرآن مع مخالفته لصريح دلالته، و هذا يوازن ما ذكره بعض الجمهور: أنّ الخبر ينسخ الكتاب. و لعلّ المتراءى من أمر الاُمّة لغيرهم من الباحثين كما ذكره بعضهم:( أنّ أهل السنّة أخذوا بالكتاب و تركوا العترة، فآل ذلك إلى ترك الكتاب لقول النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( إنّهما لن يفترقا) و أنّ الشيعة أخذوا بالعترة و تركوا الكتاب، فآل ذلك منهم إلى ترك العترة لقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( إنّهما لن يفترقا) فقد تركت الاُمّة القرآن و العترة (الكتاب و السنّة) معاً) .

و هذه الطريقة المسلوكة في الحديث أحد العوامل الّتي عملت في انقطاع رابطة العلوم الإسلاميّة و هي العلوم الدينيّة و الأدبيّة عن القرآن مع أنّ الجميع كالفروع و الثمرات من هذه الشجرة الطيّبة الّتي أصلها ثابت و فرعها في السماء تؤتي اُكلها كلّ حين بإذن ربها، و ذلك أنّك إن تبصّرت في أمر هذه العلوم وجدت أنّها نظّمت تنظيماً لا حاجة لها إلى القرآن أصلاً حتّى أنّه يمكن لمتعلّم أن يتعلّمها جميعاً: الصرف و النحو و البيان و اللّغة و الحديث و الرجال و الدراية و الفقه و الاُصول فيأتي آخرها، ثمّ يتضلّع بها ثمّ يجتهد و يتمهّر فيها و هو لم يقرء القرآن، و لم يمسّ مصحفاً قطّ، فلم يبق للقرآن بحسب الحقيقة إلّا التلاوة لكسب الثواب أو اتّخاذه تميمة للأولاد تحفظهم عن طوارق الحدثان! فاعتبر إن كنت من أهله. و لنرجع إلى ما كنّا فيه:

كان حال البحث عن القرآن و الحديث في عهد عمر ما سمعته، و قد اتّسع نطاق المباحث الكلاميّة في هذا العهد لما أنّ الفتوحات الوسيعة أفضت بالطبع إلى اختلاط

٢٩٨

المسلمين بغيرهم من الاُمم و أرباب الملل و النحل و فيهم العلماء و الأحبار و الأساقفة و البطارقة الباحثون في الأديان و المذاهب فارتفع منار الكلام لكن لم يدوّن بعد تدويناً، فإنّ ما عُدّ من التآليف فيه إنّما ذكر في ترجمات من هو بعد هذا العصر.

ثمّ كان الأمر على ذلك في عهد عثمان على ما فيه من انقلاب الناس على الخلافة، و إنّما وُفّق لجمع المصاحف، و الاتّفاق على مصحف واحد.

ثمّ كان الأمر على ذلك في خلافة عليّعليه‌السلام و شغله إصلاح ما فسد من مجتمع المسلمين بالاختلافات الداخليّة و وقع حروب متوالية في إثر ذلك.

غير أنّهعليه‌السلام وضع علم النحو و أملأ كلّيّاته أبا الأسود الدئليّ من أصحابه و أمره بجمع جزئيّات قواعده، و لم يتأتّ له وراء ذلك إلّا أن ألقى بيانات من خطب و أحاديث فيها جوامع موادّ المعارف الدينيّة و أنفس الأسرار القرآنيّة، و له مع ذلك احتجاجات كلاميّة مضبوطة في جوامع الحديث.

ثمّ كان الأمر على ذلك في خصوص القرآن و الحديث في عهد معاوية و من بعده من الاُمويّين و العبّاسيّين إلى أوائل القرن الرابع من الهجرة تقريباً و هو آخر عهد الأئمّة الاثني عشر عند الشيعة، فلم يحدث في طريق البحث عن القرآن و الحديث أمر مهمّ غير ما كان في عهد معاوية من بذل الجهد في إماتة ذكر أهل البيتعليهم‌السلام و إعفاء أثرهم و وضع الأحاديث، و قد انقلبت الحكومة الدينيّة إلى سلطنة استبداديّة، و تغيّرت السنّة الإسلاميّة إلى سيطرة إمبراطوريّة، و ما كان في عهد عمر بن عبد العزيز من أمره بكتابة الحديث، و قد كان المحدّثون يتعاطون الحديث إلى هذه الغاية بالأخذ و الحفظ من غير تقييد بالكتابة.

و في هذه البرهة راج الأدب العربيّ غاية رواجه، شرع ذلك من زمن معاوية فقد كان يبالغ في ترويج الشعر ثمّ الّذين يلونه من الاُمويّين ثمّ العبّاسيّين، و كان ربّما يبذل بإزاء بيت من الشعر أو نكتة أدبيّة المئات و الاُلوف من الدنانير، و انكبّ الناس على الشعر و روايته، و أخبار العرب و أيّامهم، و كانوا يكتسبون بذلك الأموال الخطيرة، و كانت الاُمويّون ينتفعون برواجه و بذل الأموال بحذائه لتحكيم موقعهم

٢٩٩

تجاه بني هاشم ثمّ العبّاسيّون تجاه بني فاطمة كما كانوا يبالغون في إكرام العلماء ليظهروا بهم على الناس، و يحمّلوهم ما شاؤوا و تحكّموا.

و بلغ من نفوذ الشعر و الأدب في المجتمع العلميّ أنّك ترى كثيراً من العلماء يتمثّلون بشعر شاعر أو مثل سائر في مسائل عقليّة أو أبحاث علميّة ثمّ يكون له القضاء، و كثيراً ما يبنون المقاصد النظريّة على مسائل لغويّة و لا أقلّ من البحث اللّغويّ في اسم الموضوع أوّلاً ثمّ الورود في البحث ثانياً، و هذه كلّها اُمور لها آثار عميقة في منطق الباحثين و سيرهم العلميّ.

و في تلك الأيّام راج البحث الكلاميّ، و كتب فيه الكتب و الرسائل، و لم يلبثوا أن تفرّقوا فرقتين عظيمتين و هما الأشاعرة و المعتزلة، و كانت اُصول أقوالهم موجودة في زمن الخلفاء بل في زمن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يدلّ على ذلك ما روي من احتجاجات عليّعليه‌السلام في الجبر و التفويض و القدر و الاستطاعة و غيرها، و ما روي عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ذلك(١) .

و إنّما امتازت الطائفتان في هذا الأوان بامتياز المسلكين و هو تحكيم المعتزلة ما يستقلّ به العقل على الظواهر الدينيّة كالقول بالحسن و القبح العقليّين، و قبح الترجيح من غير مرجّح، و قبح التكليف بما لا يطاق، و الاستطاعة، و التفويض، و غير ذلك، و تحكيم الأشاعرة الظواهر على حكم العقل بالقول بنفي الحسن و القبح، و جواز الترجيح من غير مرجّح، و نفي الاستطاعة، و القول بالجبر، و قدم كلام الله، و غير ذلك ممّا هو مذكور في كتبهم.

ثمّ رتّبوا الفنّ و اصطلحوا الاصطلاحات و زادوا مسائل قابلوا بها الفلاسفة في المباحث المعنونة بالاُمور العامّة، و ذلك بعد نقل كتب الفلسفة إلى العربيّة و انتشار دراستها بين المسلمين، و ليس الأمر على ما ذكره بعضهم: أنّ التكلّم ظهر أو انشعب في الإسلام إلى الاعتزال و الأشعريّة بعد انتقال الفلسفة إلى العرب، يدلّ على

____________________

(١) كقوله صلّى الله عليه و آله فيما روي عنه: لا جبر و لا تفويض بل أمر بين أمرين، و قوله: القدرية مجوس هذه الاُمّة.

٣٠٠