الميزان في تفسير القرآن الجزء ٥

الميزان في تفسير القرآن13%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 444

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 444 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 91136 / تحميل: 10835
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ٥

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

ذلك وجود معظم مسائلهم و آرائهم في الروايات قبل ذلك.

و لم تزل المعتزلة تتكثّر جماعتهم و تزداد شوكتهم و اُبّهتهم منذ أوّل الظهور إلى أوائل العهد العبّاسيّ (أوائل القرن الثالث الهجريّ) ثمّ رجعوا يسلكون سبيل الانحطاط و السقوط حتّى أبادتهم الملوك من بني أيّوب فانقرضوا و قد قتل في عهدهم و بعدهم لجرم الاعتزال من الناس ما لا يحصيه إلّا الله سبحانه و عند ذلك صفا جوّ البحث الكلاميّ للأشاعرة من غير معارض فتوغّلوا فيه بعد ما كان فقهاؤهم يتأثّمون بذلك أوّلاً، و لم يزل الأشعريّة رائجة عندهم إلى اليوم.

و كان للشيعة قدم في التكلّم، كان أوّل طلوعهم بالتكلّم بعد رحلة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و كان جلّهم من الصحابة كسلمان و أبي ذرّ و المقداد و عمّار و عمرو بن الحمق و غيرهم و من التابعين كرشيد و كميل و ميثم و سائر العلويّين أبادتهم أيدي الاُمويّين، ثمّ تأصّلوا و قوي أمرهم ثانياً في زمن الإمامين: الباقر و الصادقعليهما‌السلام و أخذوا بالبحث و تأليف الكتب و الرسائل، و لم يزالوا يجدّون الجدّ تحت قهر الحكومات و اضطهادها حتّى رزقوا بعض الأمن في الدولة البويهيّة(١) ثمّ اُخنقوا ثانياً حتّى صفا لهم الأمر بظهور الدولة الصفويّة في إيران(٢) ، ثمّ لم يزالوا على ذلك حتّى اليوم.

و كانت سيماء بحثهم في الكلام أشبه بالمعتزلة منها بالأشاعرة، و لذلك ربّما اختلط بعض الآراء كالقول بالحسن و القبح و مسألة الترجيح من غير مرجّح و مسألة القدر و مسألة التفويض، و لذلك أيضاً اشتبه الأمر على بعض الناس فعدّ الطائفتين أعني الشيعة و المعتزلة ذواتي طريقة واحدة في البحث الكلاميّ، كفرسي رهان، و قد أخطأ، فإنّ الاُصول المرويّة عن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام و هي المعتبرة عند القوم لا تلائم مذاق المعتزلة في شي‏ء.

و على الجملة فنّ الكلام فنّ شريف يذبّ عن المعارف الحقّة الدينيّة غير أنّ المتكلّمين من المسلمين أساءوا في طريق البحث فلم يميّزوا بين الأحكام العقليّة

____________________

(١) في القرن الرابع من الهجرة تقريب

(٢) في أوائل القرن العاشر من الهجرة.

٣٠١

و اختلط عندهم الحقّ بالمقبول على ما سيجي‏ء إيضاحه بعض الإيضاح.

و في هذه البرهة من الزمن نقلت علوم الأوائل من المنطق و الرياضيّات و الطبيعيّات و الإلهيّات و الطبّ و الحكمة العمليّة إلى العربيّة، نقل شطر منها في عهد الاُمويّين ثمّ اُكمل في أوائل عهد العبّاسيّين، فقد ترجموا مئات من الكتب من اليونانيّة و الروميّة و الهنديّة و الفارسيّة و السريانيّة إلى العربيّة، و أقبل الناس يتدارسون مختلف العلوم و لم يلبثوا كثيراً حتّى استقلّوا بالنظر، و صنفوا فيها كتباً و رسائل، و كان ذلك يغيظ علماء الوقت، و لا سيّما ما كانوا يشاهدونه من تظاهر الملاحدة من الدهريّة و الطبيعيّة و المانويّة و غيرهم على المسائل المسلّمة في الدين، و ما كان عليه المتفلسفون من المسلمين من الوقيعة في الدين و أهله، و تلقّي اُصول الإسلام و معالم الشرع الطاهرة بالإهانة و الإزراء (و لا داء كالجهل).

و من أشدّ ما كان يغيظهم ما كانوا يسمعونه منهم من القول في المسائل المبتنية على اُصول موضوعة مأخوذة من الهيئة و الطبيعيّات كوضع الأفلاك البطليموسيّة، و كونها طبيعة خامسة، و استحالة الخرق و الالتيام فيها، و قدم الأفلاك و الفلكيّات بالشخص و قدم العناصر بالنوع، و قدم الأنواع و نحو ذلك فإنّها مسائل مبنيّة على اُصول موضوعة لم يبرهن عليها في الفلسفة لكنّ الجهلة من المتفلسفين كانوا يظهرونها في زيّ المسائل المبرهن عليها، و كانت الدهريّة و أمثالهم و هم يومئذ منتحلون إليها يضيفون إلى ذلك اُموراً اُخرى من أباطيلهم كالقول بالتناسخ و نفي المعاد و لا سيّما المعاد الجسمانيّ، و يطعنون بذلك كلّه في ظواهر الدين و ربّما قال القائل منهم: إنّ الدين مجموع وظائف تقليديّة أتى بها الأنبياء لتربية العقول الساذجة البسيطة و تكميلها، و أمّا الفيلسوف المتعاطي للعلوم الحقيقيّة فهو في غنى عنهم و عمّا أتوا به، و كانوا ذوي أقدام في طرق الاستدلال.

فدعا ذلك الفقهاء و المتكلّمين و حملهم على تجبيههم بالإنكار و التدمير عليهم بأيّ وسيلة تيسّرت لهم من محاجّة و دعوة عليهم و براءة منهم و تكفير لهم حتّى كسروا سورتهم و فرّقوا جمعهم و أفنوا كتبهم في زمن المتوكّل، و كادت الفلسفة تنقرض بعده

٣٠٢

حتّى جدّده ثانياً المعلّم الثاني أبو نصر الفارابيّ المتوفّى سنة ٣٣٩ ثمّ بعده الشيخ الرئيس أبو عليّ الحسين بن عبدالله بن سينا المتوفّى سنة ٤٢٨ ثمّ غيرهما من معاريف الفلسفة كأبي عليّ بن مسكويه و ابن رشد الاُندلسيّ و غيرهما، ثمّ لم تزل الفلسفة تعيش على قلّة من متعاطيها و تجول بين ضعف و قوّة.

و هي و إن انتقلت ابتداءً إلى العرب لكن لم يشتهر بها منهم إلّا الشاذّ النادر كالكنديّ و ابن رشد، و قد استقرّت أخيراً في إيران، و المتكلّمون من المسلمين و إن خالفوا الفلسفة و أنكروا على أهلها أشدّ الإنكار لكنّ جمهورهم تلقّوا المنطق بالقبول فألّفوا فيها الرسائل و الكتب لما وجدوه موافقاً لطريق الاستدلال الفطريّ.

غير أنّهم - كما سمعت - أخطأوا في استعماله فجعلوا حكم الحدود الحقيقيّة و أجزائها مطّرداً في المفاهيم الاعتباريّة، و استعملوا البرهان في القضايا الاعتباريّة الّتي لا مجرى فيها إلّا للقياس الجدليّ فتراهم يتكلّمون في الموضوعات الكلاميّة كالحسن و القبح و الثواب و العقاب و الحبط و الفضل في أجناسها و فصولها و حدودها، و أين هي من الحدّ؟ و يستدلّون في المسائل الاُصوليّة و المسائل الكلاميّة من فروع الدين بالضرورة و الامتناع. و ذلك من استخدام الحقائق في الاُمور الاعتباريّة و يبرهنون في اُمور ترجع إلى الواجب تعالى بأنّه يجب عليه كذا و يقبح منه كذا فيحكّمون الاعتبارات على الحقائق، و يعدّونه برهاناً، و ليس بحسب الحقيقة إلّا من القياس الشعريّ.

و بلغ الإفراط في هذا الباب إلى حدّ قال قائلهم: إنّ الله سبحانه أنزه ساحة من أن يدبّ في حكمه و فعله الاعتبار الّذي حقيقته الوهم فكلّ ما كوّنه تكويناً أو شرّعه تشريعاً اُمور حقيقيّة واقعيّة، و قال آخر: إنّ الله سبحانه أقدر من أن يحكم بحكم ثمّ لا يستطاع من إقامة البرهان عليه، فالبرهان يشمل التكوينيّات و التشريعيّات جميعاً. إلى غير ذلك من الأقاويل الّتي هي لعمري من مصائب العلم و أهله، ثمّ الاضطرار إلى وضعها و البحث عنها في المسفورات العلميّة أشدّ مصيبة.

و في هذه البرهة ظهر التصوّف بين المسلمين، و قد كان له أصل في عهد الخلفاء

٣٠٣

يظهر في لباس الزهد، ثمّ بان الأمر بتظاهر المتصوّفة في أوائل عهد بني العبّاس بظهور رجال منهم كأبي يزيد و الجنيد و الشبليّ و معروف و غيرهم.

يرى القوم أنّ السبيل إلى حقيقة الكمال الإنسانيّ و الحصول على حقائق المعارف هو الورود في الطريقة، و هي نحو ارتياض بالشريعة للحصول على الحقيقة، و ينتسب المعظم منهم من الخاصّة و العامّة إلى عليّعليه‌السلام .

و إذا كان القوم يدّعون اُموراً من الكرامات، و يتكلّمون باُمور تناقض ظواهر الدين و حكم العقل مدّعين أنّ لها معاني صحيحة لا ينالها فهم أهل الظاهر ثقل على الفقهاء و عامّة المسلمين سماعها فأنكروا ذلك عليهم و قابلوهم بالتبرّي و التكفير، فربّما أخذوا بالحبس أو الجلد أو القتل أو الصلب أو الطرد أو النفي كلّ ذلك لخلاعتهم و استرسالهم في أقوال يسمّونها أسرار الشريعة، و لو كان الأمر على ما يدّعون و كانت هي لبّ الحقيقة و كانت الظواهر الدينيّة كالقشر عليها و كان ينبغي إظهارها و الجهر بها لكان مشرّع الشرع أحقّ برعاية حالها و إعلان أمرها كما يعلنون، و إن لم تكن هي الحقّ فما ذا بعد الحقّ إلّا الضلال؟.

و القوم لم يدلّوا في أوّل أمرهم على آرائهم في الطريقة إلّا باللّفظ ثمّ زادوا على ذلك بعد أن أخذوا موضعهم من القلوب قليلاً بإنشاء كتب و رسائل بعد القرن الثالث الهجريّ، ثمّ زادوا على ذلك بأن صرّحوا بآرائهم في الحقيقة و الطريقة جميعاً بعد ذلك فانتشر منهم ما أنشأوه نظماً و نثراً في أقطار الأرض.

و لم يزالوا يزيدون عدّة و عُدّة و وقوعاً في قلوب العامّة و وجاهة حتّى بلغوا غاية أوجهم في القرنين السادس و السابع ثمّ انتكسوا في المسير و ضعف أمرهم و أعرض عامّة الناس عنهم.

و كان السبب في انحطاطهم أوّلاً أنّ شأناً من الشؤون الحيويّة الّتي لها مساس بحال عامّة الناس إذا اشتدّ إقبال النفوس عليه و تولّع القلوب إليه تاقت إلى الاستدرار من طريقه نفوس و جمع من أرباب المطامع فتزيّوا بزيّه و ظهروا في صورة أهله و خاصّته فأفسدوا فيه و تعقّب ذلك تنفّر الناس عنه.

٣٠٤

و ثانياً: أنّ جماعة من مشائخهم ذكروا أنّ طريقة معرفة النفس طريقة مبتدعة لم يذكرها مشرّع الشريعة فيما شرّعه إلّا أنّها طريقة مرضيّة ارتضاها الله سبحانه كما ارتضى الرهبانيّة المبتدعة بين النصارى قال تعالى:( وَ رَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ الله فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها ) (الحديد: ٢٧).

و تلقّاه الجمهور منهم بالقبول فأباح ذلك لهم أن يحدثوا للسلوك رسوماً و آداباً لم تعهد في الشريعة، فلم تزل تبتدع سنّة جديدة و تترك اُخرى شرعيّة، حتّى آل إلى أن صارت الشريعة في جانب، و الطريقة في جانب، و آل بالطبع إلى انهماك المحرّمات و ترك الواجبات من شعائر الدين و رفع التكاليف، و ظهور أمثال القلندريّة و لم يبق من التصوّف إلّا التكدّي و استعمال الأفيون و البنج و هو الفناء.

و الّذي يقضي به في ذلك الكتاب و السنّة - و هما يهديان إلى حكم العقل - هو أنّ القول بأنّ تحت ظواهر الشريعة حقائق هي باطنها حقّ، و القول بأنّ للإنسان طريقاً إلى نيلها حقّ، و لكنّ الطريق إنّما هو استعمال الظواهر الدينيّة على ما ينبغي من الاستعمال لا غير، و حاشا أن يكون هناك باطن لا يهدي إليه ظاهر، و الظاهر عنوان الباطن و طريقه، و حاشا أن يكون هناك شي‏ء آخر أقرب ممّا دلّ عليه شارع الدين غفل عنه أو تساهل في أمره أو أضرب عنه لوجه من الوجوه بالمرّة و هو القائل عزّ من قائل:( وَ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْ‏ءٍ ) (النحل: ٨٩) و بالجملة فهذه طرق ثلاثة في البحث عن الحقائق و الكشف عنها: الظواهر الدينيّة و طريق البحث العقليّ و طريق تصفية النفس، أخذ بكلّ منها طائفة من المسلمين على ما بين الطوائف الثلاث من التنازع و التدافع، و جمعهم في ذلك كزوايا المثلّث كلّما زدت في مقدار واحدة منها نقصت من الاُخريين و بالعكس. و كان الكلام في التفسير يختلف اختلافاً فاحشاً بحسب اختلاف مشرب المفسّرين بمعنى أنّ النظر العلميّ في غالب الأمر كان يحمل على القرآن من غير عكس إلّا ما شذّ.

و قد عرفت أنّ الكتاب يصدّق من كلّ من الطرق ما هو حقّ، و حاشا أن يكون هناك باطن حقّ و لا يوافقه ظاهره، و حاشا أن يكون هناك حقّ من ظاهر أو باطن و البرهان الحقّ يدفعه و يناقضه.

٣٠٥

و لذلك رام جمع من العلماء بما عندهم من بضاعة العلم على اختلاف مشاربهم أن يوفّقوا بين الظواهر الدينيّة و العرفان كابن العربيّ و عبدالرزّاق القاسانيّ و ابن فهد و الشهيد الثاني و الفيض القاساني.

و آخرون أن يوفّقوا بين الفلسفة و العرفان كأبي نصر الفارابيّ و الشيخ السهرورديّ صاحب الإشراق و الشيخ صائن الدين محمّد تركه.

و آخرون أن يوفّقوا بين الظواهر الدينيّة و الفلسفة كالقاضي سعيد و غيره.

و آخرون أن يوفّقوا بين الجميع كابن سينا في تفاسيره و كتبه و صدر المتألّهين الشيرازيّ في كتبه و رسائله و عدّة ممّن تأخّر عنه.

و مع ذلك كلّه فالاختلاف العريق على حاله لا تزيد كثرة المساعي في قطع أصله إلّا شدّة في التعرّق، و لا في إخماد ناره إلّا اشتعالاً:

ألفيت كلّ تميمة لا تنفع

و أنت لا ترى أهل كلّ فنّ من هذه الفنون إلّا ترمي غيره بجهالة أو زندقة أو سفاهة رأي، و العامّة تتبرّي منهم جميعاً.

كلّ ذلك لما تخلّفت الاُمّة في أوّل يوم عن دعوة الكتاب إلى التفكّر الاجتماعيّ (و اعتصموا بحبل الله جميعاً و لا تتفرّقوا) و الكلام ذو شجون.

اللّهمّ اهدنا إلى ما يرضيك عنّا و اجمع كلمتنا على الحقّ، و هب لنا من لدنك وليّاً، و هب لنا من لدنك نصيراً.

( بحث روائي)

في الدرّ المنثور، في قوله تعالى:( يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً ) (الآية): أخرج ابن الضريس و النسائيّ و ابن جرير و ابن أبي حاتم و الحاكم - و صحّحه - عن ابن عبّاس قال: من كفر بالرجم فقد كفر بالقرآن من حيث لا يحتسب، قال تعالى:( يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ ) قال: فكان الرجم ممّا أخفوا.

٣٠٦

أقول: إشارة إلى ما سيجي‏ء في تفسير قوله تعالى:( يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ ) إلى آخر الآيات: (المائدة: ٤١) من حديث كتمان اليهود حكم الرجم في عهد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و كشفه عن ذلك.

و في تفسير القمّيّ، في قوله تعالى:( يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى‏ فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ ) (الآية) قال: قال: على انقطاع من الرسل.

و في الكافي، بإسناده عن أبي حمزة ثابت بن دينار الثماليّ و أبي الربيع قال: حججنا مع أبي جعفرعليه‌السلام في السنة الّتي حجّ فيها هشام بن عبدالملك، و كان معه نافع مولى عمر بن الخطّاب فنظر إلى أبي جعفرعليه‌السلام في ركن البيت و قد اجتمع عليه الناس فقال نافع: يا أميرالمؤمنين من هذا الّذي تداك عليه النّاس؟ فقال: هذا نبيّ أهل الكوفة هذا محمّد بن عليّ، فقال: اشهد لآتينّه و لأسالنّه عن مسائل لا يجيبني فيها إلّا نبيّ أو وصيّ نبيّ قال: فاذهب فاسأله لعلّك تخجله.

فجاء نافع حتّى اتّكئ على الناس ثمّ أشرف على أبي جعفرعليه‌السلام فقال: يا محمّد بن عليّ إنّي قرأت التوراة و الإنجيل و الزبور و الفرقان، و قد عرفت حلالها و حرامها و قد جئت أسألك عن مسائل لا يجيب فيها إلّا نبيّ أو وصيّ نبيّ قال فرفع أبوجعفرعليه‌السلام رأسه فقال: سل عمّا بدا لك فقال: أخبرني كم بين عيسى و محمّد من سنة؟ فقال: اُخبرك بقولي أو بقولك؟ قال: أخبرني بالقولين جميعاً قال: أمّا في قولي فخمسمائة سنة، و أمّا في قولك فستّمائة سنة.

أقول: و قد روي في أسباب نزول الآيات، أخبار مختلفة كما رواه الطبريّ عن عكرمة: أنّ اليهود سألت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن حكم الرجم فسأل عن أعلمهم فأشاروا إلى ابن صوريا فناشده بالله هل يجدون حكم الرجم في كتابهم؟ فقال: إنّه لما كثر فينا جلدنا مائة و حلقنا الرؤس، فحكم عليهم بالرجم فأنزل الله:( يا أَهْلَ الْكِتابِ - إلى قوله -صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ )

و ما رواه أيضاً عن ابن عبّاس قال: أتى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ابن اُبيّ، و بحريّ بن عمرو، و شاس بن عدّي فكلّمهم و كلّموه، و دعاهم إلى الله و حذّرهم نقمته فقالوا: ما

٣٠٧

تخوّفنا يا محمّد؟ نحن و الله أبناء الله و أحبّاؤه - كقول النصارى - فأنزل الله فيهم:( وَ قالَتِ الْيَهُودُ وَ النَّصارى) إلى آخر الآية.

و ما رواه أيضاً عن ابن عبّاس قال: دعا رسول الله اليهود إلى الإسلام فرغّبهم فيه و حذّرهم فأبوا عليه، فقال لهم معاذ بن جبل و سعد بن عبادة و عقبة بن وهب: يا معشر اليهود اتّقوا الله فوالله إنّكم لتعلمون أنّه رسول الله لقد كنتم تذكرونه لنا قبل مبعثه، و تصفونه لنا بصفته، فقال رافع بن حريمة و وهب بن يهودا: ما قلنا لكم هذا، و ما أنزل الله من كتاب من بعد موسى، و لا أرسل بشيراً و لا نذيراً بعده فأنزل الله:( يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى‏ فَتْرَةٍ ) (الآية): و قد رواها في الدرّ المنثور، عنه و عن غيره و روي غير ذلك.

و مضامين الروايات كغالب ما ورد في أسباب نظرية إنّما هي تطبيقات للقضايا على مضامين الآيات ثمّ قضاء بكونها أسباباً للنزول فهي أسباب نظريّة و الآيات كأنّها مطلقة نزولاً.

٣٠٨

( سورة المائدة الآيات ٢٠ - ٢٦)

وَإِذْ قَالَ مُوسَى‏ لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُم مُلُوكاً وَآتاكُم مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدَاً مِنَ الْعَالَمِينَ( ٢٠) يَاقَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدّسَةَ الّتِي كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدّوا عَلَى‏ أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ( ٢١) قَالُوا يَامُوسى‏ إِنّ فِيهَا قَوْماً جَبّارِينَ وَإِنّا لَن نَدْخُلَهُا حَتّى‏ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنّا دَاخِلُونَ( ٢٢) قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللّهِ فَتَوَكّلُوا إِن كُنْتُم مُؤْمِنِينَ( ٢٣) قَالُوا يَا مُوسَى‏ إِنّا لَن نَدْخُلَهَا أَبَداً مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبّكَ فَقَاتِلاَ إِنّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ( ٢٤) قَالَ رَبّ إِنّي لاَ أَمْلِكُ إِلّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ( ٢٥) قَالَ فَإِنّهَا مُحَرّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ( ٢٦)

( بيان)

الآيات غير خالية عن الاتّصال بما قبلها فإنّها تشتمل على نقضهم بعض المواثيق المأخوذة عليهم و هو الميثاق بالسمع و الطاعة لموسى، و تجبيههم موسىعليه‌السلام بالردّ الصريح لما دعاهم إليه و ابتلائهم جزاءً لذنبهم هذا بالتيه و هو عذاب إلهيّ.

و في بعض الأخبار ما يشعر أنّ هذه الآيات نزلت قبل غزوة بدر في أوائل الهجرة، على ما ستجي‏ء الإشارة إليها في البحث الروائيّ التالي إن شاء الله.

قوله تعالى: ( وَ إِذْ قالَ مُوسى‏ لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ الله عَلَيْكُمْ ) إلى آخر الآية الآيات النازلة في قصص موسى تدلّ على أنّ هذه القصّة - دعوة موسى إيّاهم

٣٠٩

إلى دخول الأرض المقدّسة - إنّما كانت بعد خروجهم من مصر، كما أنّ قوله في هذه الآية:( وَ جَعَلَكُمْ مُلُوكاً ) يدلّ على ذلك أيضاً.

و يدلّ قوله:( وَ آتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ ) على سبق عدّة من الآيات النازلة عليهم كالمنّ و السلوى و انفجار العيون من الحجارة و إضلال الغمام.

و يدلّ قوله:( الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ ) المتكرّر مرّتين على تحقّق المخالفة و معصية الرسول منهم قبل القصّة مرّة بعد مرّة حتّى عادوا بذلك متلبّسين بصفة الفسق.

فهذه قرائن تدلّ على وقوع القصّة أعني قصّة التيه في الشطر الأخير من زمان مكث موسىعليه‌السلام فيهم بعد أن بعثه الله تعالى إليهم و أنّ غالب القصص المقتصّة في القرآن عنهم إنّما وقعت قبل ذلك.

فقول موسى لهم:( اذْكُرُوا نِعْمَتَ الله عَلَيْكُمْ ) اُريد به مجموع النعم الّتي أنعم الله بها عليهم، و حباهم بها و إنّما بدء بذلك مقدّمة لما سيندبهم إليه من دخول الأرض المقدّسة فذكّرهم نعم ربّهم لينشطوا بذلك لاستزادة النعمة و استتمامها فإنّ الله قد كان أنعم عليهم ببعثة موسى و هدايتهم إلى دينه، و نجاتهم من آل فرعون، و إنزال التوراة، و تشريع الشريعة فلم يبق لهم من تمام النعمة إلّا أن يمتلكوا أرضاً مقدّسة يستقلّون فيها بالقطون و السؤدد.

و قد قسّم النعمة الّتي ذكرهم بها ثلاثة أقسام حين التفصيل فقال:( إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ ) و هم الأنبياء الّذين في عمود نسبهم كإبراهيم و إسحاق و يعقوب و من بعدهم من الأنبياء، أو خصوص الأنبياء من بني إسرائيل كيوسف أو الأسباط و موسى و هارون، و النبوّة نعمة لا يعادلها أيّ نعمة اُخرى.

ثمّ قال:( وَ جَعَلَكُمْ مُلُوكاً ) أي مستقلّين بأنفسكم خارجين من ذلّ استرقاق الفراعنة و تحكّم الجبابرة، و ليس الملك إلّا من استقلّ في أمر نفسه و أهله و ماله، و قد كان بنو إسرائيل في زمن موسى يسيرون بسنّة اجتماعيّة هي أحسن السنن و هي سنّة التوحيد الّتي تأمرهم بطاعة الله و رسوله، و العدل التامّ في مجتمعهم، و عدم الاعتداء على غيرهم من الاُمم من غير أن يتأمّر عليهم بعضهم أو يختلف طبقاتهم اختلافاً

٣١٠

يختلّ به أمر المجتمع، و ما عليهم إلّا موسى و هو نبيّ غير سائر سيرة ملك أو رئيس عشيرة يستعلي عليهم بغير الحقّ.

و قيل: المراد بجعلهم ملوكاً هو ما قدّر الله فيهم من الملك الّذي يبتدئ من طالوت فداود إلى آخر ملوكهم، فالكلام على هذا وعد بالمُلك إخباراً بالغيب فإنّ الملك لم يستقرّ فيهم إلّا بعد موسى بزمان. و هذا الوجه لا بأس به لكن لا يلائمه قوله:( وَ جَعَلَكُمْ مُلُوكاً ) و لم يقل: و جعل منكم ملوكاً، كما قال:( جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ ) .

و يمكن أن يكون المراد بالمُلك مجرّد ركوز الحكم عند بعض الجماعة فيشمل سنّة الشيخوخيّة، و يكون على هذا موسىعليه‌السلام ملكاً و بعده يوشع النبيّ و قد كان يوسف ملكاً من قبل، و ينتهي إلى الملوك المعروفين طالوت و داود و سليمان و غيرهم. هذا، و يرد على هذا الوجه أيضاً ما يرد على سابقه.

ثمّ قال:( وَ آتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ ) و هي العنايات و الألطاف الإلهيّة الّتي اقترنت بآيات باهرة قيّمة بتعديل حياتهم لو استقاموا على ما قالوا، و داموا على ما واثقوا، و هي الآيات البيّنات الّتي أحاطت بهم من كلّ جانب أيّام كانوا بمصر، و بعد إذ نجّاهم الله من فرعون و قومه، فلم يتوافر و يتواتر من الآيات المعجزات و البراهين الساطعات و النعم الّتي يتنعّم بها في الحياة على اُمّة من الاُمم الماضية المتقدّمة على عهد موسى ما توافرت و تواترت على بني إسرائيل.

و على هذا فلا وجه لقول بعضهم: إنّ المراد بالعالمين عالمو زمانهم و ذلك أنّ الآية تنفي أن يكون اُمّة من الاُمم إلى ذلك الوقت اُوتيت من النعم ما اُوتي بنو إسرائيل، و هو كذلك.

قوله تعالى: ( يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ الله لَكُمْ وَ لا تَرْتَدُّوا عَلى‏ أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ ) أمرهم بدخول الأرض المقدّسة، و كان يستنبط من حالهم التمرّد و التأبّي عن القبول، و لذلك أكّد أمره بالنهي عن الارتداد و ذكر استتباعه الخسران. و الدليل على أنّه كان يستنبط منهم الردّ توصيفه إيّاهم بالفاسقين بعد ردّهم، فإنّ الردّ و هو فسق واحد لا يصحّح إطلاق( الْفاسِقِينَ ) عليهم الدالّ على نوع من الاستمرار و التكرّر.

٣١١

و قد وصف الأرض بالمقدّسة، و قد فسّروه بالمطهّرة من الشرك لسكون الأنبياء و المؤمنين فيها، و لم يرد في القرآن الكريم ما يفسّر هذه الكلمة. و الّذي يمكن أن يستفاد منه ما يقرب من هذا المعنى قوله تعالى:( إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ ) (إسراء: ١) و قوله:( وَ أَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَ مَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها ) (الأعراف: ١٣٧) و ليست المباركة في الأرض إلّا جعل الخير الكثير فيها، و من الخير الكثير إقامة الدين و إذهاب قذارة الشرك.

و قوله:( كَتَبَ الله لَكُمْ ) ظاهر الآيات أنّ المراد به قضاء توطّنهم فيها، و لا ينافيه قوله في آخرها:( فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً ) بل يؤكّده فإنّ قوله:( كَتَبَ الله لَكُمْ ) كلام مجمل اُبهم فيه ذكر الوقت و حتّى الأشخاص، فإنّ الخطاب للاُمّة من غير تعرّض لحال الأفراد و الأشخاص، كما قيل: إنّ السامعين لهذا الخطاب الحاضرين المكلّفين به ماتوا و فنوا عن آخرهم في التيه، و لم يدخل الأرض المقدّسة إلّا أبناؤهم و أبناء أبنائهم مع يوشع بن نون، و بالجملة لا يخلو قوله:( فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً ) عن إشعار بأنّها مكتوبة لهم بعد ذلك.

و هذه الكتابة هي الّتي يدلّ عليها قوله تعالى:( وَ نُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَ نَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَ نَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ وَ نُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ ) (القصص: ٦) و قد كان موسىعليه‌السلام يرجو لهم ذلك بشرط الاستعانة بالله و الصبر حيث يقول:( قالَ مُوسى‏ لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِالله وَ اصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لله يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَ الْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ قالُوا أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَ مِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا قالَ عَسى‏ رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَ يَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ) (الأعراف: ١٢٩).

و هذا هو الّذي يخبر تعالى عن إنجازه بقوله:( وَ أَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَ مَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها وَ تَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى‏ عَلى‏ بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا ) (الأعراف: ١٣٧) فدلّت الآية على أنّ استيلاءهم على الأرض المقدّسة و توطّنهم فيها كانت كلمة إلهيّة و كتاباً و قضاءً مقضيّاً مشترطاً بالصبر على الطاعة و عن المعصية، و في مرّ الحوادث.

٣١٢

و إنّما عمّمنا الصبر لمكان إطلاق الآية، و لأنّ الحوادث الشاقّة كانت تتراكم عليهم أيّام موسى و معها الأوامر و النواهي الإلهيّة، و كلّما أصرّوا على المعصية اشتدّت عليهم التكاليف الشاقّة كما تدلّ على ذلك أخبارهم المذكورة في القرآن الكريم.

و هذا هو الظاهر من القرآن في معنى كتابة الأرض المقدّسة لهم، و الآيات مع ذلك مبهمة في زمان الكتابة و مقدارها غير أنّ قوله تعالى في ذيل آيات سورة الإسراء:( وَ إِنْ عُدْتُمْ عُدْنا وَ جَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً ) (إسراء: ٨) و كذا قول موسى لهم في ذيل الآية السابقة:( عَسى‏ رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَ يَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ) (الأعراف: ١٢٩) و قوله أيضاً:( وَ إِذْ قالَ مُوسى‏ لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ - إلى أن قال -وَ إِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَ لَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ ) (إبراهيم: ٧) و ما يناظرها من الآيات تدلّ على أنّ هذه الكتابة كتابة مشترطة لا مطلقة غير قابلة للتغيّر و التبدّل.

و قد ذكر بعض المفسّرين أنّ مراد موسى في محكيّ قوله في الآية:( كَتَبَ الله لَكُمْ ) ما وعد الله إبراهيمعليه‌السلام ، ثمّ ذكر ما في التوراة(١) من وعد الله إبراهيم و إسحاق و يعقوب أنّه سيعطي الأرض لنسلهم، و أطال البحث في ذلك.

و لا يهمنا البحث في ذلك على شريطة الكتاب سواء كانت هذه العدات من التوراة الأصليّة أو ممّا لعبت به يد التحريف فإنّ القرآن لا يفسّر بالتوراة.

قوله تعالى: ( قالُوا يا مُوسى‏ إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ وَ إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ ) قال الراغب: أصل الجبر إصلاح الشي‏ء

____________________

(١) كما في سفر التكوين أنّه لما مرّ إبراهيم بأرض الكنعانيين ظهر له الربّ:( و قال لنسلك أعطي هذه الأرض) ١٢: ٧ و فيه أيضاً:( في ذلك اليوم قطع الربّ مع إبرام ميثاقاً قائلاً: لنسلك أعطي هذه الأرض من نهر مصر إلى النهر الكبير نهر الفرات) ١٥: ١٨ و في سفر تثنية الاشتراع:( الربّ إلهنا كلمنا في حوريب قائلاً: كفاكم قعوداً في هذا الجبل، تحوّلوا و ارتحلوا و ادخلوا جبل الاُموريّين و كلّ ما يليه من القفر و الجبل و السهل و الجنوب و ساحل البحر أرض الكنعانيّ و لبنان إلى النهر الكبير نهر الفرات. انظروا قد جعلت أمامكم الأرض ادخلوا و تملكوا الأرض الّتي أقسم الربّ لآبائكم إبراهيم و إسحاق و يعقوب أن يعطيها لهم و لنسلهم من بعدهم) ١ - ٨.

٣١٣

بضرب من القهر يقال: جبرته فانجبر و اجتبر. قال: و قد يقال الجبر تارة في الإصلاح المجرّد نحو قول عليّ رضي الله عنه: يا جابر كلّ كسير و يا مسهّل كلّ عسير، و منه قولهم للخبز: جابر بن حبّة، و تارة في القهر المجرّد نحو قولهعليه‌السلام : لا جبر و لا تفويض‏، قال: و الإجبار في الأصل حمل الغير على أن يجبر الآخر لكن تعورف في الإكراه المجرّد فقيل: أجبرته على كذا كقولك:

أكرهته. قال: و الجبّار في صفة الإنسان يقال لمن يجبر نقيصة بادّعاء منزلة من التعالي لا يستحقّها، و هذا لا يقال إلّا على طريق الذمّ كقوله عزّوجلّ:( وَ خابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ ) و قوله تعالى:( وَ لَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا ) و قوله عزّوجلّ:( إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ ) قال: و لتصوّر القهر بالعلوّ على الأقران قيل: نخلة جبّارة و ناقة جبّارة انتهى موضع الحاجة.

فظهر أنّ المراد بالجبّارين هم اُولو السطوة و القوّة من الّذين يجبرون الناس على ما يريدون.

و قوله:( وَ إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها ) اشتراط منهم خروج القوم الجبّارين في دخول الأرض، و حقيقته الردّ لأمر موسى و إن وعدوه ثانياً الدخول على الشرط بقولهم:( فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ ) .

و قد ورد في عدّة من الأخبار في صفة هؤلاء الجبّارين من العمالقة و عظم أجسامهم و طول قامتهم اُمور عجيبة لا يستطيع ذو عقل سليم أن يصدّقها، و لا يوجد في الآثار الأرضيّة و الأبحاث الطبيعيّة ما يؤيّدها فليست إلّا موضوعة مدسوسة.

قوله تعالى: ( قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ الله عَلَيْهِمَا ) إلى آخر الآية ظاهر السياق أنّ المراد بالمخافة مخافة الله سبحانه و أنّ هناك رجالاً كانوا يخافون الله أن يعصوا أمره و أمر نبيّه، و منهم هذان الرجلان اللّذان قالا، ما قالا و أنّهما كانا يختصّان من بين اُولئك الّذين يخافون بأنّ الله أنعم عليهما، و قد مرّ في موارد تقدّمت من الكتاب أنّ النعمة إذا اُطلقت في عرف القرآن يراد بها الولاية الإلهيّة فهما كانا من أولياء الله تعالى، و هذا في نفسه قرينة على أنّ المراد بالمخافة مخافة الله سبحانه فإنّ أولياء الله لا يخشون غيره قال تعالى:( أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ الله لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ ) (يونس: ٦٢).

٣١٤

و يمكن أن يكون متعلّق( أَنْعَمَ ) المحذوف أعني المنعم به هو الخوف، فيكون المراد أنّ الله أنعم عليهما بمخافته، و يكون حذف مفعول( يَخافُونَ ) للاكتفاء بذكره في قوله:( أَنْعَمَ الله عَلَيْهِمَا ) إذ من المعلوم أنّ مخافتهما لم يكن من اُولئك القوم الجبّارين و إلّا لم يدعو بني إسرائيل إلى الدخول بقولهما:( ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ ) .

و ذكر بعض المفسّرين: أنّ ضمير الجمع في( يَخافُونَ ) عائد إلى بني إسرائيل و الضمير العائد إلى الموصول محذوف، و المعنى: و قال رجلان من الّذين يخافهم بنو إسرائيل قد أنعم الله على الرجلين بالإسلام، و أيّدوه بما نسب إلى ابن جبير من قراءة( يَخافُونَ ) بضمّ الياء قالوا: و ذلك أنّ رجلين من العمالقة كانا قد آمنا بموسى، و لحقا بني إسرائيل ثمّ قالا لبني إسرائيل ما قالا إراءة لطريق الظفر على العمالقة و الاستيلاء على بلادهم و أرضهم.

و كان هذا التفسير باستناد منهم إلى بعض الأخبار الواردة في تفسير الآيات لكنّه من الآحاد المشتملة على ما لا شاهد له من الكتاب و غيره.

و قوله:( ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ ) لعلّ المراد به أوّل بلد من بلاد اُولئك الجبابرة يلي بني إسرائيل، و قد كان على ما يقال: أريحاء، و هذا استعمال شائع أو المراد باب البلدة.

و قوله:( فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ ) وعدٌ منهما لهم بالفتح و الظفر على العدوّ، و إنّما أخبرا إخباراً بتّيّاً اتّكالاً منهما بما ذكره موسىعليه‌السلام أنّ الله كتب لهم تلك الأرض لإيمانهما بصدق إخباره، أو أنّهما عرفا ذلك بنور الولاية الإلهيّة. و قد ذكر المعظم من مفسّري الفريقين: أنّ الرجلين هما يوشع بن نون و كالب بن يوفنا و هما من نقباء بني إسرائيل الاثني عشر.

ثمّ دعواهم إلى التوكّل على ربّهم بقولهما:( وَ عَلَى الله فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) لأنّ الله سبحانه كافي من توكّل عليه و فيه تطييب لنفوسهم و تشجيع لهم.

قوله تعالى: ( قالُوا يا مُوسى‏ إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها ) (الآية) تكرارهم قولهم:( إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها ) ثانياً لإيئاس موسىعليه‌السلام من أن يصرّ على دعوته فيعود إلى

٣١٥

الدعوة بعد الدعوة.

و في الكلام وجوه من الإهانة و الإزراء و التهكّم بمقام موسى و ما ذكّرهم به من أمر ربّهم و وعده فقد سرد الكلام سرداً عجيباً، فهم أعرضوا عن مخاطبة الرجلين الداعيين إلى دعوة موسىعليه‌السلام أوّلاً، ثمّ أوجزوا الكلام مع موسى بعد ما أطنبوا فيه بذكر السبب و الخصوصيّات في بادئ كلامهم، و في الإيجاز بعد الإطناب في مقام التخاصم و التجاوب دلالة على استملال الكلام و كراهة استماع الحديث أن يمضي عليه المتخاصم الآخر. ثمّ أكّدوا قولهم:( لَنْ نَدْخُلَها ) ثانياً بقولهم:( أَبَداً ) ثمّ جرّأهم الجهالة على ما هو أعظم من ذلك كلّه، و هو قولهم مفرّعين على ردّهم الدعوة:( فَاذْهَبْ أَنْتَ وَ رَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ ) .

و في الكلام أوضح الدلالة على كونهم مشبّهين كالوثنيّين، و هو كذلك فإنّهم القائلون على ما يحكيه الله سبحانه عنهم في قوله:( وَ جاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلى‏ قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى‏ أَصْنامٍ لَهُمْ قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ ) (الأعراف: ١٣٨) و لم يزالوا على التجسيم و التشبيه حتّى اليوم على ما يدلّ عليه كتبهم الدائرة بينهم.

قوله تعالى: ( قالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَ أَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنا وَ بَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ ) السياق يدلّ على أنّ قوله:( إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَ أَخِي ) كناية عن نفي القدرة على حمل غير نفسه و أخيه على ما أتاهم به من الدعوة. فإنّه إنّما كان في مقدرته حمل نفسه على إمضاء ما دعا إليه و حمل أخيه هارون و قد كان نبيّاً مرسلاً و خليفة له في حياته لا يتمرّد عن أمر الله سبحانه. أو أنّ المراد أنّه ليس له قدرة إلّا على نفسه و لا لأخيه قدرة إلّا كذلك.

و ليس مراده نفي مطلق القدرة حتّى من حيث إجابة المسؤل لإيمان و نحوه حتّى ينافي ظاهر سياق الآية أنّ الرجلين من الّذين يخافون و آخرين غيرهما كانوا مؤمنين به مستجيبين لدعوته فإنّه لم يذكر فيمن يملكه حتّى أهله و أهل أخيه مع أنّ الظاهر أنّهم ما كانوا ليتخلّفوا عن أوامره.

٣١٦

و ذلك أنّ المقام لا يقتضي إلّا ذلك فإنّه دعاهم إلى خطب مشروع فأبلغ و أعذر فرد عليه المجتمع الإسرائيليّ دعوته أشنع ردّ و أقبحه، فكان مقتضى هذا الحال أن يقول: ربّ إنّي أبلغت و أعذرت و لا أملك في إقامة أمرك إلّا نفسي و كذلك أخي، و قد قمنا بما علينا من واجب التكليف و لكن القوم واجهونا بأشدّ الامتناع، و نحن الآن آئسان منهم، و السبيل منقطع فاحلل أنت هذه العقدة و مهّد بربوبيّتك السبيل إلى نيل ما وعدته لهم من تمام النعمة و إيراثهم الأرض و استخلافهم فيها، و احكم و افصل بيننا و بين هؤلاء الفاسقين.

و هذا المورد على خلاف جميع الموارد الّتي عصوا فيها أمر موسى كمسألة الرؤية و عبادة العجل و دخول الباب و قول حطّة و غيرها يختصّ بالردّ الصريح من المجتمع الإسرائيليّ لأمره من غير أيّ رفق و ملاءمة، و لو تركهم موسى على حالهم، و أغمض عن أمره لبطلت الدعوة من أصلها، و لم يتمشّ له بعد ذلك أمر و لا نهي و تلاشت بينهم أركان ما أوجده من الوحدة.

و يتبيّن بهذا البيانأوّلاً: أنّ مقتضى هذا الحال أن يتعرّض موسىعليه‌السلام في شكواه إلى ربّه لحال نفسه و أخيه، و هما المبلّغان عن الله تعالى، و لا يتعرّض لحال غيرهما من المؤمنين و إن كانوا غير متمرّدين. إذ لا شأن لهم في التبليغ و الدعوة، و المقام إنّما يقتضي التعرّض لحال مبلّغ الحكم لا العامل الآخذ به المستجيب له.

و ثانياً: أنّ المقام كان يقتضي رجوع موسىعليه‌السلام إلى ربّه بالشكوى و هو في الحقيقة استنصار منه في إجراء الأمر الإلهيّ.

و ثالثاً: أنّ قوله:( وَ أَخِي ) معطوف على الياء في قوله:( إِنِّي ) و المعنى: و أخي مثلي لا يملك إلّا نفسه لا على قوله:( نَفْسِي ) فإنّه خلاف ما يقتضيه السياق و إن كان المعنى صحيحاً على جميع التقادير فإنّ موسى و هارون كما كانا يملك كلّ منهما من نفسه الطاعة و الامتثال كان موسى يملك من نفس هارون الطاعة لكونه خليفته في حياته، و كذا كانا يملكان ممّن أخلص لله من المؤمنين السمع و الطاعة.

و رابعاً: أنّ قوله:( فَافْرُقْ بَيْنَنا وَ بَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ ) ليس دعاء منه على بني

٣١٧

إسرائيل بالحكم الفصل المستعقب لنزول العذاب عليهم أو بالتفريق بينهما و بينهم بإخراجهما من بينهم أو بتوفّيهما فإنّهعليه‌السلام كان يدعوهم إلى ما كتب الله لهم من تمام النعمة، و كان هو الّذي كتب الله المنّ على بني إسرائيل بإنجائهم و استخلافهم في الأرض بيده كما قال تعالى:( وَ نُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَ نَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَ نَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ ) (القصص: ٥).

و كان بنو إسرائيل يعلمون ذلك منه كما يستفاد من قولهم على ما حكى الله:( قالُوا أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَ مِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا ) الآية: (الأعراف: ١٢٩).

و يشهد بذلك أيضاً قوله تعالى:( فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ ) فإنّه يكشف عن أنّ موسىعليه‌السلام كان يشفق عليهم من نزول السخط الإلهيّ، و كان من المترقّب أن يحزن بسبب حلول نقمة التيه بهم.

قوله تعالى:( قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ ) الضمير في قوله:( فَإِنَّها ) راجعة إلى الأرض المقدّسة، و المراد بالتحريم التحريم التكوينيّ و هو القضاء، و التيه التحيّر، و اللّام في( الْأَرْضِ ) للعهد، و قوله:( فَلا تَأْسَ ) نهي من الأسى و هو الحزن، و قد أمضى الله تعالى قول موسىعليه‌السلام حيث وصفهم في دعائه بالفاسقين.

و المعنى: أنّ الأرض المقدّسة أي دخولها و تملّكها محرّمة عليهم، أي قضينا أن لا يوفّقوا لدخولها أربعين سنة يسيرون فيها في الأرض متحيّرين لا هم مدنيّون يستريحون إلى بلد من البلاد، و لا هم بدويّون يعيشون عيشة القبائل و البدويّين، فلا تحزن على القوم الفاسقين من نزول هذه النقمة عليهم لأنّهم فاسقون لا ينبغي أن يحزن عليهم إذا اُذيقوا وبال أمرهم.

٣١٨

( بحث روائي)

في الدرّ المنثور، أخرج ابن أبي حاتم عن أبي سعيد الخدريّ عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: كانت بنو إسرائيل إذا كان لأحدهم خادم دابّة و امرأة كتب ملكاً.

و فيه: أخرج أبوداود في مراسله عن زيد بن أسلم: في قوله:( وَ جَعَلَكُمْ مُلُوكاً ) قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : زوجة و مسكن و خادم.

أقول: و روي غير هاتين الروايتين روايات اُخرى في هذا المعنى غير أنّ الآية في سياقها لا تلائم هذا التفسير، فإنّه و إن كان من الممكن أن يكون من دأب بني إسرائيل أن يسمّوا كلّ من كان له بيت و امرأة و خادم ملكاً أو يكتبوه ملكاً إلّا أنّ من البديهيّ أنّهم لم يكونوا كلّهم حتّى الخوادم على هذا النعت ذوي بيوت و نساء و خدّام فالكائن منهم على هذه الصفة بعضهم و يماثلهم في ذلك سائر الاُمم و الأجيال فاتّخاذ البيوت و النساء و الخدام عادة جارية في جميع الاُمم لا يخلو عن ذلك اُمّة عن الاُمم، و إذا كان كذلك لم يكن أمراً يخصّ بني إسرائيل حتّى يمتنّ الله عليهم في كلامه بأنّه جعلهم ملوكاً، و الآية في مقام الامتنان.

و لعلّ التنبّه على ذلك أوجب وقوع ما وقع في بعض الروايات كما عن قتادة: أنّهم أوّل من ملك الخدم، و التاريخ لا يصدّقه.

و في أمالي المفيد، بإسناده عن أبي حمزة عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: لما انتهى لهم موسى إلى الأرض المقدّسة قال لهم:( ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ الله لَكُمْ وَ لا تَرْتَدُّوا عَلى‏ أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ ) و قد كتبها الله لهم:( قالُوا يا مُوسى‏ إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ وَ إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ الله عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ وَ عَلَى الله فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ قالُوا يا مُوسى‏ إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَ رَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ قالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَ أَخِي

٣١٩

فَافْرُقْ بَيْنَنا وَ بَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ ) فلمّا أبوا أن يدخلوها حرّمها الله عليهم فتاهوا في أربع فراسخ أربعين سنة يتيهون في الأرض فلا تأس على القوم الفاسقين.

قال أبوعبداللهعليه‌السلام : كانوا إذا أمسوا نادى مناديهم: الرحيل فيرتحلون بالحداء و الزجر حتّى إذا أسحروا أمر الله الأرض فدارت بهم فيصبحوا في منزلهم الّذي ارتحلوا منه فيقولون: قد أخطأتم الطريق فمكثوا بهذا أربعين سنة، و نزل عليهم المنّ و السلوى حتّى هلكوا جميعاً إلّا رجلان: يوشع بن نون و كالب بن يوفنا و أبناؤهم و كانوا يتيهون في نحو أربع فراسخ فإذا أرادوا أن يرتحلوا يبست ثيابهم عليهم و خفافهم.

قال: و كان معهم حجر إذا نزلوا ضربه موسى بعصاه فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً لكلّ سبط عين، فإذا ارتحلوا رجع الماء إلى الحجر و وضع الحجر على الدابّة، الحديث.

أقول: و الروايات فيما يقرب من هذه المعاني كثيرة من طرق الشيعة و أهل السنّة و قوله في الرواية: و قال أبوعبدالله إلخ رواية اُخرى، و هذه الروايات و إن اشتملت في معنى التيه و غيره على اُمور لا يوجد في كلامه تعالى ما تتأيّد به لكنّها مع ذلك لا تشتمل على شي‏ء ممّا يخالف الكتاب، و أمر بني إسرائيل في زمن موسىعليه‌السلام كان عجيباً تحتفّ بحياتهم خوارق العادة من كلّ ناحية فلا ضير في أن يكون تيههم على هذا النحو المذكور في الروايات.

و في تفسير العيّاشيّ، عن مسعدة بن صدقة عن أبي عبداللهعليه‌السلام : أنّه سئل عن قول:( ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ الله لَكُمْ ) قال: كتبها لهم ثمّ محاها ثمّ كتبها لأبنائهم فدخلوها و الله يمحو ما يشاء و يثبت و عنده اُمّ الكتاب.

أقول: و روي هذا المعنى أيضاً عن إسماعيل الجعفيّ عنهعليه‌السلام و عن زرارة و حمران و محمّد بن مسلم عن أبي جعفرعليه‌السلام . و قد قاسعليه‌السلام الكتابة بالنسبة إلى السامعين لخطاب موسىعليه‌السلام بدخول الأرض، و إلى الداخلين فيها فأنتج البداء في خصوص المكتوب لهم فلا ينافي ذلك ظاهر سياق الآية: أنّ المكتوب لهم هم الداخلون، و إنّما حرموا الدخول أربعين سنة و رزقوه بعدها فإنّ الخطاب في الآية متوجّه بحسب المعنى إلى المجتمع الإسرائيليّ فيتحد عليه المكتوب لهم الدخول مع الداخلين لكونهم

٣٢٠

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

قال المصنّف ١(١) :

التاسع : الضرورة قاضية بالفرق بين من أحسن إلينا دائما ، ومن أساء إلينا دائما ، وحسن مدح الأوّل وذمّ الثاني ، وقبح ذمّ الأوّل ومدح الثاني ، ومن شكّ في ذلك فقد كابر مقتضى عقله.

* * *

__________________

(١) نهج الحقّ : ٨٥.

٤٤١

وقال الفضل(١) :

هذا الحسن وهذا القبح ممّا لا نزاع فيه بأنّهما عقليّان ؛ لأنّهما يرجعان إلى الملاءمة والمنافرة ، أو الكمال والنقص.

على إنّه قد يقال : جاز أن يكون هناك عرف عامّ هو مبدأ لذلك الجزم المشترك ، وبالجملة : هو من إقامة الدليل في غير محلّ النزاع ، والله تعالى أعلم.

هذه جملة ما أورده من الدلائل على رأيه العاطل ، وقد وفّقنا الله لأجوبتها كما يرتضيه أولو الآراء الصائبة.

ولنا في هذا المبحث تحقيق نريد أن نذكره في هذا المقام ، فنقول :

اتّفقت كلمة الفريقين من الأشاعرة والمعتزلة على إنّ من أفعال العباد ما يشتمل على المصالح والمفاسد ، وما يشتمل على الصفات الكمالية والنقصانية ، وهذا ممّا لا نزاع فيه.

وبقي النزاع في أنّ الأفعال التي تقتضي الثواب أو العقاب ، هل في ذواتها جهة محسّنة ، صارت تلك الجهة سبب المدح والثواب ، أو جهة مقبّحة ، صارت سببا للذمّ والعقاب ، أو لا؟

فمن نفى وجود هاتين الجهتين في الفعل ، ماذا يريد من هذا النفي؟!

إن أراد عدم هاتين الجهتين في ذوات الأفعال ، فيرد عليه أنّك

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ ١ / ٣٧٧.

٤٤٢

سلّمت وجود الكمال والنقص والمصلحة والمفسدة في الأفعال ، وهذا عين التسليم بأنّ الأفعال في ذواتها جهة الحسن والقبح ؛ لأنّ المصلحة والكمال حسن ، والمفسدة والنقص قبح.

وإن أراد نفي كون هاتين الجهتين مقتضيتان للمدح والثواب بلا حكم الشرع بأحدهما ؛ لأنّ تعيين الثواب والعقاب للشارع والمصالح والمفاسد في الأفعال التي تدركهما العقول ، لا يقتضي تعيين الثواب والعقاب بحسب العقل ؛ لأنّ العقل عاجز عن إدراك أقسام المصالح والمفاسد في الأفعال ، ومزج بعضها ببعض ، حتّى يعرف الترجيح ويحكم بأنّ هذا الفعل حسن لاشتماله على المصلحة ، أو قبيح لاشتماله على المفسدة ، فهذا الحكم خارج عن طوق العقل فتعيّن تعيّنه للشرع.

فهذا كلام صالح صحيح لا ينبغي أن يردّه المعتزلي.

مثلا : شرب الخمر كان مباحا في بعض الشرائع ، فلو كان شرابه حسنا في ذاته بالحسن العقلي ، كيف صار حراما في بعض الشرائع الأخر؟! هل انقلب حسنه الذاتي قبحا؟!

وهذا ممّا لا يجوز ، فبقي أنّه كان مشتملا على مصلحة ومفسدة ، كلّ واحد منهما بوجه ، والعقل كان عاجزا عن إدراك المصالح والمفاسد بالوجوه المختلفة.

فالشرع صار حاكما بترجيح جهة المصلحة في زمان ، وترجيح جهة المفسدة في زمان آخر ، فصار حلالا في بعض الأزمنة حراما في البعض الآخر.

فعلى الأشعري أن يوافق المعتزلي ؛ لاشتمال ذوات الأفعال على جهة المصالح والمفاسد ، وهذا يدركه العقل ولا يحتاج في إدراكه إلى الشرع.

٤٤٣

وهذا في الحقيقة هو الجهة المحسّنة والمقبّحة في ذوات الأفعال.

وعلى المعتزلي أن يوافق الأشعري أنّ هاتين الجهتين في العقل لا تقتضي حكم الثواب والعقاب والمدح والذمّ باستقلال العقل ؛ لعجزه عن مزج جهات المصالح والمفاسد في الأفعال.

وقد سلّم المعتزلي هذا في ما لا يستقلّ العقل به ، فليسلّم في جميع الأفعال ، فإنّ العقل في الواقع لا يستقلّ في شيء من الأشياء بإدراك تعلّق الثواب.

فإذا كان النزاع بين الفريقين مرتفعا ، تحفّظ بهذا التحقيق ، وبالله التوفيق.

* * *

٤٤٤