الميزان في تفسير القرآن الجزء ٥

الميزان في تفسير القرآن13%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 444

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 444 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 91840 / تحميل: 10915
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ٥

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

و في ( عيون ابن قتيبة ) قالت عائشة : خطب النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله امرأة من كلب ، فبعثني أنظر إليها فقال لي : كيف رأيت ؟ فقلت : ما رأيت طائلا فقال : لقد رأيت خالا بخدّها أقشعر كلّ شعرة منك على حدها فقالت : ما دونك ستر(١) .

و روى ( سنن أبي داود ) عن أنس أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كان عند بعض نسائه ، فأرسلت إحدى امهات المؤمنين مع خادمها قصعة فيها طعام ، فضربت بيدها فكسرت القصعة ، فأخذ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله الكسرتين فضمّ إحداهما إلى الاخرى فجعل يجمع فيها الطعام و يقول : غارت امّكم(٢) .

قلت : و المرسلة للطعام في قصعة كانت صفية بن حيّ بن أخطب و الكاسرة لها عائشة كما صرّح به في خبر رواه بعد و في ذاك الخبر : أخذ عائشة أفكل فكسرت الإناء .

و في ( اسد الغابة ) في عنوان خديجة ، قالت عائشة : كان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لا يكاد يخرج من البيت حتى يذكر خديجة فيحسن الثناء عليها ، فذكرها يوما فأدركتني الغيرة فقلت : هل كانت إلاّ عجوزا فقد أبدلك اللَّه خيرا منها فغضب حتى اهتزّ مقدّم شعره من الغضب ، ثم قال : لا و اللَّه ما أبدلني اللَّه خيرا منها ، آمنت بي إذ كفر الناس ، و صدّقتني إذ كذّبني الناس ، و واستني في مالها إذ حرمني الناس ، و رزقني اللَّه منها أولادا إذ حرمني أولاد النساء(٣) .

قلت : و مغزى كلامهصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّ أباها كان كافرا فيمن كفر و مكذّبا فيمن كذب حين اسلام خديجة ، كما أنّها هي من نسائه اللاتي حرم الولد منهن ، فكيف يدّعون لأبيها تقدم اسلامه .

____________________

( ١ ) عيون الأخبار لابن قتيبة ٤ : ١٩ كذا أخبار النساء لابن قيم الجوزية : ٩ .

( ٢ ) سنن أبي داود ٣ : ٢٩٧ ح ٣٥٦٧ .

( ٣ ) اسد الغابة لابن الأثير ٥ : ٤٣٨ .

٢٨١

و في ( تفسير القمّي ) في قوله تعالى :( و امرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي ) (١) كان سبب نزولها أنّ امرأة من الأنصار أتت النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله و قد تهيّأت و تزيّنت ، فقالت : يا رسول اللَّه هل لك فيّ حاجة فقد وهبت نفسي لك فقالت لها عائشة : قبّحك اللَّه ما أنهمك للرجال فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : مه يا عائشة فإنّها رغبت في رسول اللَّهصلى‌الله‌عليه‌وآله إذ زهدتنّ فيه ثم قال : رحمك اللَّه و رحمكم يا معشر الأنصار ، نصرني رجالكم و رغبت فيّ نساؤكم ، إرجعي رحمك اللَّه فإنّي أنتظر أمر اللَّه فأنزل اللَّه تعالى( و امرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي إن أراد النبيّ أن يستنكحها خالصة لك من دون المؤمنين ) (٢) فلا تحلّ الهبة إلاّ لرسول اللَّه(٣) .

ثم من المضحك أنّ النووي في شرحه على صحيح مسلم قال بعد ذكر رواية مسلم عن عائشة قالت : قال لي النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّي لأعلم إذا كنت عنّي راضية و إذا كنت عليّ غضبى قلت : و من أين تعرف ذلك ؟ قال : أمّا إذ كنت عني راضية تقولين : « لا و ربّ محمّد » و إذ كنت غضبى تقولين : « لا و ربّ إبراهيم » .

قلت : أجل و اللَّه لا أهجر إلاّ اسمك .

مغاضبة عائشة للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله هي ممّا سبق من الغيرة التي عفي عنها للنساء في كثير من الأحكام كما سبق لعدم انفكاكهن منها ، حتى قال مالك و غيره من علماء المدينة : يسقط عنها الحد إذا قذفت زوجها بالفاحشة على جهة الغيرة ، قال و احتج بما روي ان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قال : ما تدري الغيراء أعلى الوادي من أسفله و لو لا ذلك لكان على عائشة في ذلك من الحرج ما فيه ، لأن الغضب على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله و هجره كبيرة عظيمة(٤) .

____________________

( ١ ) الأحزاب : ٥٠ .

( ٢ ) الأحزاب : ٥٠ .

( ٣ ) تفسير القمي ٢ : ١٩٥ .

( ٤ ) صحيح مسلم بشرح النووي ١٥ : ٢٠٣ .

٢٨٢

فإنّ إخواننا إنّما عرفوا الحق بالأشخاص ، فاعتقدوا بحسب مذهبهم المتناقض أنّ عائشة صدّيقة ابنة صدّيق .

فاشتروا بذلك قول اللَّه جل و علا :( يا نساء النبي من يأت منكنّ بفاحشة مبيّنة يضاعف لها العذاب ضعفين و كان ذلك على اللَّه يسيرا ) (١) و قوله تعالى فيها و في صاحبتها :( و إن تظاهرا عليه فإنّ اللَّه هو مولاه و جبريل و صالح المؤمنين ) (٢) .

و قوله عزّ اسمه تعريضا بهما كما صرّح به ( الزمخشري )(٣) و رواه ( صحيح مسلم )(٤) :( ضرب اللَّه مثلا للّذين كفروا امرأت نوح و امرأت لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما فلم يغنيا عنهما من اللَّه شيئا و قيل ادخلا النّار مع الدّاخلين ) (٥) بثمن قليل ، فكان ضعف العذاب عليها لإتيانها بتلك الفواحش المبيّنة عليهم عسيرا ، و تظاهرها هي و صاحبتها على نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله نسيا منسيا ، و أنّها مع خيانتها تلك الخيانات التي أثبتها التاريخ في الجمل و غير الجمل كان كونها تحت النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لا يغني عنها شيئا .

كما أغمضوا عمّا شاهدوا من أبيها و صاحبه مع النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بالتخلّف عن جيش اسامة الذي لعن المتخلف عنه و منعه من الوصية و نسبة الهجر إليه ، مع قوله تعالى :( و ما ينطق عن الهوى إن هو إلاّ وحي يوحى ) (٦) و مع أهل بيته بإحراقهم لو لم يبايعوا مع قوله تعالى فيهم( إنّما يريد اللَّه ليذهب

____________________

( ١ ) الأحزاب : ٣٠ .

( ٢ ) التحريم : ٤ .

( ٣ ) الكاشف للزمخشري ٤ : ٥٧١ .

( ٤ ) صحيح مسلم ١٥ : ٢٠٣ .

( ٥ ) التحريم : ١٠ .

( ٦ ) النجم : ٣ ٤ .

٢٨٣

 عنكم الرجس أهل البيت و يطهّركم تطهيرا ) (١) .

و لمّا قال بعضهم لأمير المؤمنينعليه‌السلام : إني أعتزلك لاعتزال سعد و ابن عمر لك قالعليه‌السلام له : إنّك تعرف الحقّ بالرجال و الواجب أن تعرف الرجال بالحقّ(٢) .

و كيف تكون غيرتهن عفوا و قد قال أمير المؤمنينعليه‌السلام « غيرتهن كفر » و قال الباقرعليه‌السلام : غيرة النساء الحسد ، و الحسد أصل الكفر ، إنّ النساء إذا غرن غضبن ، و إذا غضبن كفرن إلاّ المسلمات منهنّ(٣) .

و قال الصادقعليه‌السلام : إن اللَّه تعالى لم يجعل الغيرة للنساء ، و إنّما تغار المنكرات منهن ، فأمّا المؤمنات فلا ، إنّما جعل اللَّه الغيرة للرجال(٤) .

فأمّا قول النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله « الغيراء لا تدري أعلى الوادي من أسفله » فبيان حالهن لا دليل جواز عملهن .

و ورد من طريقنا(٥) أيضا هكذا : بينا كان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قاعدا إذ جاءت امرأة عريانة حتى قامت بين يديه فقالت : إنّي قد فجرت فطهّرني ، و جاء رجل يعدو في أثرها و ألقى عليها ثوبا ، فقال : ما هي منك ؟ قال : صاحبتي خلوت بجاريتي فصنعت ما ترى فقال : ضمّها إليك ثم قال : ان الغيراء لا تبصر أعلى الوادي من أسفله(٦) .

____________________

( ١ ) الأحزاب : ٣٣ .

( ٢ ) ذكره المفيد في أماليه : ٣ بلفظ : « فإنّك امرؤ ملبوس عليك ، إنّ دين اللَّه لا يعرف بالرجال بل بآية الحق ، فأعرف الحق تعرف أهله .

( ٣ ) الفروع من الكافي للكليني ٥ : ٥٠٥ ، و ذكره الطبرسي في مكارم الأخلاق : ١٢٤ .

( ٤ ) الفروع من الكافي للكليني ٥ : ٥٠٥ ح ٢ .

( ٥ ) من حديث مطول أسنده الطبرسي إلى جابر . لم يأت المؤلف على ذكره بالتفصيل انظر مكارم الأخلاق : ١٢٤ .

( ٦ ) الكافي للكليني ٥ : ٥٠٥ ح ٣ ، و فتح الباري في شرح صحيح البخاري ٩ : ٣٢٥ .

٢٨٤

و كيف يعفى عنهنّ مع ترتب مفاسد كثيرة على غيرتهن ، فقد روى الكافي أنّ عمر اتي بجارية قد شهدوا عليها أنّها بغت و كان من قصتها أنّها كانت يتيمة عند رجل و كان الرجل كثيرا ما يغيب عن أهله ، فشبّت اليتيمة فتخوّفت المرأة أن يتزوجها زوجها ، فدعت بنسوة حتى أمسكنها فأخذت عذرتها بأصبعها ، فلما قدم زوجها من غيبته رمت المرأة اليتيمة بالفاحشة و أقامت البيّنة من جاراتها اللاّتي ساعدنها على ذلك ، فرفع ذلك إلى عمر فلم يدر كيف يقضي فيها ، ثم قال للرجل : إئت عليّ بن أبي طالب و إذهب بنا إليه .

فأتوهعليه‌السلام و قصوا عليه القصة ، فقالعليه‌السلام لامرأة الرجل : ألك بيّنة أو برهان ؟

قالت : هؤلاء جاراتي يشهدن عليها بما أقول ، و أحضرتهن فأخرج عليعليه‌السلام سيفه من غمده فطرحه بين يديه و أمر بكلّ واحدة منهن فأدخلت بيتا ، ثم دعا امرأة الرجل فأدارها بكل وجه فأبت أن تزول عن قولها ، فردّها إلى البيت الذي كانت فيه و دعا إحدى الشهود و جثا على ركبتيه ثم قال : تعرفيني أنا علي بن أبي طالب و هذا سيفي و قد قالت امرأة الرجل ما قالت و رجعت إلى الحق و أعطيتها الأمان و إن لم تصدقيني لأمكّننّ السيف منك فالتفتت المرأة إلى عمر و قالت : الأمان على الصدق فقال لها علي فاصدقي ، فقالت لا و اللَّه إلاّ أنّها رأت جمالا و هيئة فخافت فساد زوجها فسقتها المسكر و دعتنا فأمسكناها فافتضّتها بأصبعها فقال عليعليه‌السلام : اللَّه أكبر أنا أوّل من فرق بين الشهود إلاّ دانيال النبيعليه‌السلام ، و الزمهن حدّ القاذف و الزمهن جميعا العقر و جعل عقرها أربعمائة درهم ، و أمر بالمرأة أن تنفى من الرجل و يطلقها زوجها ، و زوّجهعليه‌السلام الجارية و ساق المهر عنه .(١) .

و روى أيضا أنّه كان على عهد أمير المؤمنينعليه‌السلام رجلان متؤاخيان

____________________

( ١ ) الكافي للكليني ٧ : ٤٢٥ ح ٩ .

٢٨٥

في اللَّه عز و جل ، فمات أحدهما و أوصى إلى الآخر في حفظ بنية كانت له ، فحفظها الرجل و أنزلها منزلة ولده في اللطف و الإكرام ، ثم حضره سفر فخرج و أوصى امرأته في الصبية ، فأطال السفر حتى إذا أدركت الصبيّة و كان لها جمال و كان الرجل يكتب في حفظها و التعاهد لها ، فلما رأت ذلك امرأته خافت أن يقدم فيراها قد بلغت مبلغ النساء فيعجبه جمالها فيتزوجها ، فعمدت إليها هي و نسوة معها قد كانت أعدّتهن ، فأمسكنّها لها ثم افترعتها بأصبعها ، فلما قدم الرجل من سفره دعا الجارية ، فأبت أن تجيبه استحياء ممّا صارت إليه ، فألحّ عليها في الدعاء ، كلّ ذلك و هي تأبى أن تجيبه ، فلما أكثر عليها قالت له امرأته : دعها فانّها تستحي أن تأتيك من ذنب أتته ، و رمتها بالفجور ، فاسترجع الرجل ثم قام إلى الجارية فوبّخها و قال لها : ويحك أما علمت ما كنت أصنع بك من الألطاف ، و اللَّه ما كنت أعدّك إلاّ كبعض ولدي أو إخوتي و إن كنت لابنتي ، فما دعاك إلى ما صنعت ؟ فقالت له الجارية : أمّا إذ قيل لك ما قيل فو اللَّه ما فعلت الذي رمتني به امرأتك و لقد كذبت عليّ ، فإنّ القصة لكذا و كذا و وصفت له ما صنعت امرأته بها فأخذ الرجل بيد امرأته و يد الجارية فمضى بهما حتى أجلسهما بين يدي أمير المؤمنينعليه‌السلام و أخبره بالقصة كلّها و أقرّت المرأة بذلك ، و كان الحسنعليه‌السلام بين يدي أبيه فقال له : إقض فيها فقال الحسنعليه‌السلام :

نعم على المرأة الحد لقذفها الجارية و عليها القيامة لافتراعها فقالعليه‌السلام له :

صدقت(١) .

و في ( مناقب السروي ) عن تميم بن خزام الأسدي قال : صبّت امرأة بياض البيض على فراش ضرّتها و قالت لزوجها : قد بات عندها رجل ، ففتّش ثيابها فأصاب ذلك البيض ، فقص ذلك على عمر فهمّ أن يعاقبها فقال أمير

____________________

( ١ ) الكافي للكليني ٧ : ٢٠٧ ح ١٢ .

٢٨٦

المؤمنينعليه‌السلام : إيتوني بماء حار قد اغلي غليانا شديدا ، فلما اتي به أمرهم فصبّوا على الموضع فاشتوى ذلك الموضع ، فرمى به إليها و قال :( إنّه من كيدكن إنّ كيدكن عظيم ) (١) و قالعليه‌السلام لزوجها : أمسك عليك زوجك فإنّها حيلة تلك التي قذفتها ، فضربها الحدّ(٢) .

و في ( معجم أدباء الحموي ) نقلا عن كتاب شعراء ابن المعتزّ : كان الخليل منقطعا إلى الليث بن رافع بن نصر بن سيّار ، و كان الليث من أكتب أهل زمانه بارع الأدب بصيرا بالشعر و الغريب و النحو ، و كان كاتبا للبرامكة و كانوا معجبين به ، فارتحل إليه الخليل و عاشره فوجده بحرا فأغناه ، و أحبّ الخليل أن يهدي إليه هدية تشبهه ، فاجتهد في تصنيف كتاب العين فصنّفه له و خصّه به دون الناس و حبّره و أهداه إليه ، فوقع منه موقعا عظيما و سرّ به و عوّضه عنه مائة ألف درهم و اعتذر إليه ، و أقبل الليث ينظر فيه ليلا و نهارا لا يملّ النظر فيه حتى حفظ نصفه و كانت ابنة عمّه تحته فاشترى عليها جارية نفيسة بمال جليل ، فبلغها ذلك فغارت غيرة شديدة ، فقالت و اللَّه لأغيظنّه و لا ابقي غاية فقالت : إن غظته في المال فذاك ما لا يبالي و لكني أراه مكبّا ليله و نهاره على هذا الدفتر و اللَّه لأفجعنه به ، فأخذت الكتاب و أضرمت نارا و ألقته فيها ، و أقبل الليث إلى منزله و دخل إلى البيت الذي كان فيه الكتاب ، فصاح بخدمه و سألهم عن الكتاب فقالوا : أخذته الحرة ، فبادر إليها و قد علم من أين اتي ، فلما دخل عليها ضحك في وجهها و قال لها : ردّي الكتاب فقد وهبت لك الجارية و حرّمتها على نفسي ، و كانت غضبى فأخذت بيده و أرته رماده ، فسقط في يد الليث فكتب نصفه من حفظه و جمع على الباقي أدباء زمانه و قال

____________________

( ١ ) يوسف : ٢٨ .

( ٢ ) المناقب للسروي ٢ : ٣٦٧ .

٢٨٧

لهم : مثلوا عليه و اجتهدوا ، فعملوا هذا النصف الذي بأيدي الناس ، فهو ليس من تصنيف الخليل و لا يشقّ غباره(١) .

هذا ، و في السير : ضرب البعث على كوفي إلى آذربيجان ، فاقتاد جارية و فرسا و كان مملكا بابنة عمه ، فكتب إليها ليغيرها :

ألا بلغوا ام البنين بأننا

غنينا و أغنتنا الغطارفة المرد

بعيد مناط المنكبين إذا جرى

و بيضاء كالتمثال زيّنها العقد

فهذا لأيّام العدو و هذه

لحاجة نفسي حين ينصرف الجند

فكبت إليه امرأته :

ألا فاقره منّي السّلام و قل له

غنينا و أغنتنا غطارفة المرد

إذا شئت أغناني غلام مرجّل

و نازعته في ماء معتصر الورد

و ان شاء منهم ناشى‏ء مدّ كفّه

إلى عكن ملساء أو كفل نهد

فما كنتم تقضون حاجة أهلكم

شهودا قضيناها على النأي و البعد

فعجّل علينا بالسراح فإنّه

منانا و لا ندعو لك اللَّه بالرد

فلا قفل الجند الذي أنت فيهم

و زادك رب الناس بعدا على بعد

فلما ورد عليه الكتاب لم يزد ان ركب فرسه و أردف الجارية و لحق بها ، فكان أوّل شي‏ء قال لها : تاللَّه هل كنت فاعلة قالت : أنت أحقر من أن أعصي اللَّه فيك ، كيف ذقت طعم الغيرة ، فوهب لها الجارية و انصرف إلى بعثه(٢) .

و في المناقب عن غريب حديث أبي عبيد : جاءت امرأة إلى عليعليه‌السلام و قالت : ان زوجها يأتي جاريتها فقالعليه‌السلام : ان كنت صادقة رجمناه و ان كنت كاذبة جلدناك فقالت : ردوني إلى أهلي غيري نقزة قال أبو عبيد : تعني ان

____________________

( ١ ) معجم الأدباء لياقوت الحموي ١٧ : ٤٥ ، عقلا عن طبقات الشعراء لعبد اللَّه بن المعتز : ٩٧ .

( ٢ ) الابشيهي ، المستطرف في كل فن مستظرف ٢ : ٤٨٧ ٤٨٨ .

٢٨٨

جوفها يغلي من الغيظ و الغيرة(١) .

و في ( المروج ) : ذكر مصعب الزبيري أنّ امّ سلمة بنت يعقوب المخزومي كانت بعد هشام بن عبد الملك عند السفاح ، و كان حلف لها أن لا يتزوّج عليها و لا يتسرّى ، و غلبت عليه غلبة شديدة حتى ما كان يقطع أمرا إلاّ بمشورتها ، حتى أفضت الخلافة إليه فوفى لها بما حلف لها ، فلما كان ذات يوم خلا به خالد ابن صفوان فقال له : إني فكّرت في أمرك و سعة ملكك ، و قد ملكت نفسك امرأة واحدة ، فإن مرضت مرضت و ان غابت غبت و حرمت نفسك التلذّذ باستطراف الجواري و معرفة أخبار حالاتهن و التمتّع بما تشتهي منهنّ ، فإنّ منهن الطويلة الغيداء و منهن الفضة البيضاء ، و منهن العتيقة الأدماء و الدقيقة السمراء و البربرية العجزاء ، من مولدات المدينة تفتن بمحادثتها و تلذّ بخلوتها ، و أين أنت من بنات الأحرار و النظر إلى ما عندهن و حسن الحديث منهن ، و لو رأيت الطويلة البيضاء و السمراء اللعساء و الصفراء العجزاء و المولّدات من البصريات و الكوفيات ، ذوات الألسن العذبة و القدود المهفهفة و الأوساط المخصّرة و الأصداغ المزرفنة ، و العيون المكحلة و الثدي المحقة ، و حسن زيّهن و زينتهن و شكلهن ، لرأيت شيئا حسنا و جعل يجيد في الوصف و يجدّ في الاطناب بحلاوة لفظه وجودة صفته .

فلما فرغ قال له السفاح : و يحك يا خالد ما صكّ مسامعي و اللَّه قطّ كلام أحسن من كلامك ، فأعده علي فقد وقع منّي موقعا ، فأعاد عليه خالد أحسن ممّا ابتدأ ، ثم انصرف و بقي السفاح مفكّرا فيما سمع من خالد ، فدخلت عليه ام سلمة فلما رأته متفكّرا قالت : إنّي لأنكرك ، هل حدث أمر أو أتاك خبر ؟ قال : لم يكن من ذلك شي‏ء قالت : فما قصّتك ؟ فجعل يزوي عنها فلم تزل به حتى

____________________

( ١ ) المناقب لابن شهر آشوب ٢ : ٣٨١ .

٢٨٩

أخبرها بمقالة خالد ، فقالت : فما قلت لابن الفاعلة قال : سبحان اللَّه ينصحني و تشتمينه ، فخرجت من عنده مغضبة و أرسلت إلى خالد من البخارية و معهم من الكافر كوبات ، و أمرتهم أن لا يتركوا منه عضوا صحيحا .

قال خالد : فانصرفت إلى منزلي و أنا على السرور بما رأيت من السفاح و إعجابه بما ألقيته إليه ، و لم أشكّ أنّ صلته تأتيني ، فلم ألبث حتى صار إليّ اولئك البخارية و أنا قاعد على باب داري ، فلما رأيتهم أيقنت بالجائزة واصلة ، حتى وقفوا عليّ فسألوا عني فقلت : ها أنا ذا خالد ، فسبق اليّ أحدهم بهراوة كانت معه ، فلما أهوى بها اليّ و ثبت الى منزلي و أغلقت الباب و استترت ، و مكثت أيّاما على تلك الحال لا أخرج من منزلي ، و وقع في خلدي أنّي أوتيت من قبل امّ سلمة ، و طلبني السفاح طلبا شديدا فلم أشعر ذات يوم إلاّ بقوم هجموا عليّ و قالوا : أجب الخليفة فأيقنت بالموت ، فركبت و ليس عليّ لحم و لا دم ، فلما وصلت إلى الدار أومى اليّ بالجلوس و نظرت فإذا خلف ظهري باب عليه ستور قد ارخيت و حركة خلفها ، فقال السفاح : لم أرك يا خالد منذ ثلاث .

قلت : كنت عليلا قال : ويحك إنّك وصفت لي في آخر دخلة من أمر الناس و الجواري ما لم يخرق مسامعي قط كلام أحسن منه فأعده علي قلت : نعم .

أعلمتك أنّ العرب اشتقت اسم الضرّة من الضر ، و ان أحدهم ما تزوج من النساء أكثر من واحدة إلاّ كان في جهد فقال : ويحك لم يكن هذا في الحديث .

قلت : بلى ، و أخبرتك أنّ الثلاث من النساء كأثافي القدر يغلي عليهن قال : برئت من قرابتي من النبي إن كنت سمعت هذا منك في حديثك قلت : و أخبرتك أنّ الأربعة من النساء شرّ صيح بصاحبه يشنه و يهرمنه و يسقمنه قال : ويلك ما سمعت هذا منك و لا من غيرك قبل هذا قال خالد : بلى قال : ويلك تكذّبني .

قلت : و تريد أن تقتلني قال : مر في حديثك قلت : و أخبرتك ان أبكار الجواري

٢٩٠

رجال و لكن لا خصي لهن .

قال خالد : و سمعت الضحك من وراء الستر قلت : و نعم و أخبرتك أيضا ان بني مخزوم ريحانة قريش و أنت عندك ريحانة من الرياحين و أنت تطمح بعينك إلى حرائر النساء و غيرهن من الاماء .

قال خالد : فقيل لي من وراء الستر صدقت يا عمّاه و برّرت بهذا حديث الخليفة و لكنه بدل و غيّر و نطق عن لسانك بغيره فقال لي السفاح : قاتلك اللَّه و أخزاك و فعل بك و فعل ، فتركته و خرجت و قد أيقنت بالحياة قال : فما شعرت إلاّ برسل ام سلمة قد صاروا إليّ و معهم عشرة آلاف درهم و تخت و برذون و غلام(١) .

و غيرة الرجل التي هي إيمان ، غيرته على ميل امرأته إلى رجل أجنبي ، و أمّا ميلها إلى زوج لها قبل بمعنى مدحها له بصفات ليست في الأخير فيغيّر زوجها فليس بايمان بل من الكفر ، ففي السير كانت مع سعد بن أبي وقاص بالقادسية زوجة له كانت قبل تحت المثنى بن حارثة ، فلما لم تر من سعد إقداما مثل المثنى قالت : و امثنياه و لا مثنى للمسلمين اليوم فلطمها سعد فقالت المرأة : أ غيرة و جبنا فذهبت مثلا(٢) .

٢ الحكمة ( ٢٣٨ ) و قالعليه‌السلام :

اَلْمَرْأَةُ شَرٌّ كُلُّهَا وَ شَرُّ مَا فِيهَا أَنَّهُ لاَ بُدَّ مِنْهَا « المرأة شرّ كلّها » قالوا : كتب بعض الحكماء على باب داره « لا يدخل داري

____________________

( ١ ) مروج الذهب للمسعودي ٣ : ٢٦٠ .

( ٢ ) شرح ابن أبي الحديد ٩ : ١٦٣ .

٢٩١

شرّ » فقال بعض آخر منهم : من أين تدخل امرأتك(١) ؟

و قالوا : تزوّج بعضهم امرأة نحيفة فقيل له في ذلك فقال : اخترت من الشرّ أقلّه(٢) .

و قالوا : رأى بعض الحكماء امرأة غريقة قد احتملها السيل فقال : زادت الكدر كدرا ، و الشر بالشر يهلك(٣) .

و في ( الملل ) : رأى ديو جانس امرأة تحملها الماء فقال : على هذا المعنى جرى المثل « دع الشر يغسله الشر »(٤) .

و رأى نساء يتشاورن فقال : على هذا جرى المثل : « هو ذا الثعبان يستقرض من الأفاعي سمّا » .

و رأى امرأة متزينة في ملعب فقال : هذه لم تخرج لترى و لكن لترى و قالوا : رأى بعضهم جارية تحمل نارا فقال : نار على نار ، و الحامل شر من المحمول و قالوا : رأى حكيم جارية تتعلّم الكتابة ، فقال : يسقى هذا السهم سمّا ليرمي به يوما ما(٥) .

و قالوا : و نظر حكيم إلى امرأة مصلوبة على شجرة ، فقال : ليت كلّ شجرة تحمل مثل هذه الثمرة(٦) .

و قال بعضهم :

ان النساء شياطين خلقن لنا

نعوذ باللَّه من شرّ الشياطين(٧)

____________________

( ١ ) مروج الذهب للمسعودي ٢ : ٣٢٥ .

( ٢ ) شرح ابن أبي الحديد ٩ : ١٦٣ و ١٨ : ١٩٨ ١٩٩ .

( ٣ ) المصدر نفسه .

( ٤ ) الملل و النحل للشهرستاني ٢ : ١٥٢ ، و شرح ابن أبي الحديد ١٨ : ١٩٨ .

( ٥ ) الملل و النحل للشهرستاني ٢ : ١٥٢ ، و شرح ابن أبي الحديد ٩ : ١٦٣ .

( ٦ ) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ٩ : ١٦٣ و ١٨ : ١٩٨ .

( ٧ ) نسبوا هذا البيت إلى عمر بن الخطاب ، قاله عند ما سمع امرأة تقول : ان النساء رياحين خلقن لكم و كلكم يشتهي

٢٩٢

و قال بعضهم في قولهم « بعد الّتي و اللّتيّا » : إن رجلا تزوج امرأة قصيرة و امرأة طويلة ، فلقي منهما شدّة ، فطلّقهما و قال : بعد اللتيا يعني القصيرة و الّتي أي الطويلة لا أتزوج أبدا(١) .

و في ( شعراء ابن قتيبة ) : كان جران العود و الرحال خدنين ، فتزوج كلّ واحد منهما امرأتين ، فلقيا منهما مكروها فقال الأول :

ألا لا تغرنّ امرأ نوفلية

على الرأس بعدي أو ترائب وضّح

و لا فاحم يسقي الدهان كأنّه

أساود يزهاها لعينك أبطح

و أذناب خيل علقت في عقيصة

ترى قرطها من تحتها يتطوّح

جرت يوم جئنا بالركاب نزفّها

عقاب و تشحاج من الطير متيح

فأمّا العقاب فهي منّا عقوبة

و أمّا الغراب فالغريب المطوّح

هي الغول و السعلاة حلقي منهما

مكدّح ما بين التراقي مجرّح

خذا نصف مالي و اتركا لي نصفه

و بينا بذم فالتعزّب أروح

و سمّي جران العود بقوله لامرأتيه :

خذا حذرا يا جارتيّ فإنّني

رأيت جران العود قد كان يصلح

فخوفهما بسير قدّ من صدر جمل مسن ، قال و يتمثل من شعره بقوله :

و لا تأمنوا مكر النساء و أمسكوا

عرى المال عن أبنائهن الأصاغر

فإنّك لم ينذرك أمر تخافه

إذا كنت منه خائفا مثل خابر(٢)

و في القاموس هو عامر بن الحرث و قول الصحاح اسمه المستورد غلط .

شم الرياحين ، راجع أدب الدنيا و الدين للماوردي : ١٥٦ .

____________________

( ١ ) مجمع الأمثال للميداني ١ : ١٢٥ .

( ٢ ) الشعر و الشعراء لابن قتيبة : ٢٧٥ ٢٧٧ .

٢٩٣

و قال الثاني :

فلا بارك الرحمن في عود أهلها

عشية زفّوها و لا فيك من بكر

و لا الزعفران حين مسّحنها به

و لا الحلي منها حين نيط من النحر

و لا فرش طوهرن من كلّ جانب

كأنّي أطوي فوقهن من الجمر

فيا ليت أنّ الذئب خلّل درعها

و إن كان ذا ناب حديد و ذا ظفر

و جاءوا بها قبل المحاق بليلة

و كان محاقا كلّه آخر الشهر

لقد أصبح الرحّال عنهن صادفا

إلى يوم يلقى اللَّه في آخر العمر(١)

و في ( الاستيعاب ) : كانت عند الأعشى المازني امرأة يقال لها معاذة ، فخرج يمير أهله من هجر ، فهربت امرأته بعده ناشزة عليه ، فعاذت برجل منهم يقال له مطرف ، فجعلها خلف ظهره ، فلما قدم الأعشى لم يجدها في بيته و اخبر أنّها نشزت و عاذت بمطرف ، فأتاه فقال له : يا ابن عم عندك امرأتي فادفعها اليّ فقال : ليست عندي و لو كانت عندي لم أدفعها إليك و كان مطرف أعزّ منه ، فخرج حتى أتى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله و أنشأ يقول :

يا سسّد الناس و ديّان العرب

أشكو إليك ذربة من الذرب(٢)

خرجت أبغيها الطعام في رجب

فخلفتني بنزاع و هرب

اخلفت العهد و ألظت بالذنب

و هنّ شر غالب لمن غلب(٣)

فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله « و هنّ شر غالب لمن غلب » و كتب إلى مطرف : إدفع إليه امرأته ، فلما قرأ الكتاب قال لمعاذة : هذا كتاب النبي فيك و أنا دافعك إليه فقالت :

خذ لي العهد أن لا يعاقبني فيما صنعت ، فأنشأ يقول :

____________________

( ١ ) الشعر و الشعراء لابن قتيبة : ١٧٠ .

( ٢ ) الذرب : حدّة اللسان .

( ٣ ) حياة الحيوان للدميري ١ : ٥١٢ .

٢٩٤

لعمرك ما حبّي معاذة بالذي

يغيّره الواشي و لا قدم العهد

و لا سوء ما جاءت به إذ أزلّها

غواة رجال إذ ينادونها بعدي(١)

و في ( الملل ) : قيل للاسكندر : إنّ روشنك امرأتك بنت دارا الملك و هي من أجمل النساء فلو قربتها إلى نفسك قال : أكره أن يقال : غلب الاسكندر دارا ، و غلبت روشنك الاسكندر(٢) .

و قالوا : كان أحمد بن يوسف كاتب المأمون إذا دخل عليه حيّاه بتحية أبرويز الملك : « عشت الدهر ، و نلت المنى ، و حبيت طاعة النساء »(٣) .

و في ( الكافي ) عن أمير المؤمنينعليه‌السلام : إتّقوا من شرار النساء و كونوا من خيارهن على حذر ، و إن أمرنكم بالمعروف فخالفوهنّ كيلا يطمعن في المنكر(٤) .

و عنهعليه‌السلام : في خلاف النساء البركة(٥) .

____________________

( ١ ) ذكر الحكاية ( ابن الأثير ) في اسد الغابة ١ : ١٢٣ ، و لم يذكر ( ابن عبد البر ) في الإستيعاب ١ : ١٤٤ ( المصدر الّذي اعتمده المؤلف ) إلاّ جزءا من الحكاية ، فقد ذكر أبيات الأعشى المازني إمام النبيّ صلّى اللَّه عليه و آله و قول النبي له فقط ، مع تغيير عمّا ذكره المؤلف و الأبيات هي:

يا مالك الناس و ديان العرب

إنّي لقيتف دربة من الذّرب

ذهبت ابضيها الطعام في رجب

فخالفتني بنزاع و هرب

أخلفت العهد و الطّت بالذنب

و هن شر غالب لمن غلب

( ٢ ) الملل و النحل للشهرستاني ٢ : ١٤٧ .

( ٣ ) شرح ابن أبي الحديد ٦ : ١٩٥ .

( ٤ ) الكافي للكليني ٥ : ٥١٧ ح ٥ .

( ٥ ) لفظ الحديث كما رود في بحار الأنوار ١٠٣ : ٢٦٢ ، و جامع أحاديث الشيعة ١٦ : ٨٦ ، عن هارون بن موسى عن محمّد بن علي بن محمّد بن الحسين عن علي بن اسباط عن أبي فضال عن الصادق عن ايائه عن رسول اللَّه أنه قال : شاوروا النساء و خالفوهن فأن خلافهن بركة و قد أورد جمع من المتأخرين هذا الحديث و نسبوه إلى الإمام عليّعليه‌السلام أو إلى الرسول صلّى اللَّه عليه و آله بينما لم يرد في المصادر من نسب هذا القول إلى الإمام عليّعليه‌السلام أمّا نسبته إلى الرسول صلّى اللَّه عليه و آله فقد عجّت و صادر الحديث بذكره في الموضوعات ، من هذه الكتب : ١ السخاوي في المقاصد

٢٩٥

و كل أمر تدبرته امرأة فهو ملعون(١) .

و عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّ النساء لا يشاورن في النجوى و لا يطعن في ذوي القربى ، إنّ المرأة إذا أسنّت ذهب خير شطريها و بقي شرهما ، يعقم رحمها و يسوء خلقها و يحتدّ لسانها ، و إن الرّجل إذا أسنّ ذهب شرّ شطريه و بقي خيرهما يؤوب عقله و يستحكم رأيه و يحسن خلقه(٢) .

و عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله : كان إذا أراد الحرب دعا نساءه فاستشارهن ثم خالفهن(٣) .

و قال طفيل الغنوي :

إنّ النّساء متى ينهين عن خلق

فإنّه واجب لا بدّ مفعول(٤)

و قالوا : قيل لسقراط أيّ السباع أجسر ؟ قال : المرأة(٥) .

قالوا : و مرّت به امرأة فقالت له : ما أقبحك فقال لها : لو لا أنّك من المرايا الحسنة ، و قال عنه : لم أره مرفوعا ، و لكن عن العسكري من احديث حفص بن عثمان بن عبيد اللَّه بن عبد اللَّه بن عمر قال : قال عمر : خالفوا النساء فإنّ خلافهن لبركة ( راجع المقاصد الحسنة : ٢٤٨ ح ٥٨٥ ) ٢ أورده المنقي الهندي في كنز العمّال عن ( عمر ) أنه قال : خالفوا النساء فإن خلافهن بركة ( كنز العمّال ٣ : ٤٥١ ) ٣ الزبيري في إتحاف السادة المتقين بشرح أسرار إحياء علوم الدين ٥ : ٣٥٦ ، يقول عنه هكذا اشتهر على الألسنه و ليس بحديث .

٤ ابن عراق الشافعي في تنزيه الشريعة المرفوعة عن الأحاديث الشيعة الموضوعة ٢ : ٢١٠ ، نسبه إلى عمر بن الخطاب ٥ ( ملا علي القالي في الأسرار المرفوعة في الأخبار الموضوعة ، المعروف بالموضوعات الكبرى : ٢٢٢ ) ذكر قائلا : حديث شاورهن و خالفوهن لم يثبت بهذا المعنى و إن كان له وجه من حيث المعنى .

____________________

( ١ ) في بحار الأنوار ١٠٣ : ٢٢٨ « كل امرى‏ء تدبره امرأة فهو ملعون » .

( ٢ ) من لا يحضره الفقيه للصدوق ٣ : ٤٦٨ ح ٤٦٢١ .

( ٣ ) ذكره المجلسي في مكانين ٩١ : ٢٥٥ و ١٠٣ : ٢٢٨ إلاّ ان أرباب السير ذكروا ان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله استشار ( امّ سلمة ) في صاح الحديبيه ، فقد قال ابن حجر العسقلاني في فتح الباري ٥ : ٢٦٥ ٢٦٦ : فلمّا لم يقم منهم ( الأصحاب ) أحد دخل على امّ سلمة فذكر لها ما لقي من الناس ، فقالت امّ سلمة : يا نبي اللَّه ، اتحب ذلك ؟ أخرج و لا تكلم أحدا منهم كلمة حتى تنحر بذلك و تدعو حالقك فيحلقك ، فخرج فلم يكلم أحدا منهم حتى فعل ذلك ، نحر بدنة ، و دعا حالقه فحلقه ، فلمّا رأوا قاموا فنحروا ، و جعل بعضهم بحلق بعضا حتى كاد بعضهم يقتل بعضا .

( ٤ ) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ١٨ : ١٩٨ .

( ٥ ) المصدر نفسه .

٢٩٦

الصديّة لغمّني ما بان من قبح صورتي فيك(١) .

هذا ، و عن ( ملح النوادر ) كان ذئب ينتاب بعض القرى و يعبث فيها ، فترصّدوه حتى أخذوه ، ثم تشاوروا فيه فقال بعضهم : تقطع يداه و رجلاه و تدقّ أسنانه و يخلع لسانه ، و قال آخر بل يصلب و يرمى بالنبال ، و قال آخر :

توقد نار عظيمة و يلقى فيها ، و قال بعض الممتحنين بالنساء : بل يزوّج و كفى بالتزويج تعذيبا و في هذه القصة قال الشاعر :

رب ذئب أخذوه

و تماروا في عقاب

ثم قالوا زوّجوه

و ذروه في عذاب(٢)

« و شر ما فيها أنّه لا بدّ منها » في ( الكافي ) عن الصادقعليه‌السلام : ان إبراهيمعليه‌السلام شكا إلى اللَّه ما يلقى من سوء خلق سارة ، فأوحى إليه : إنّما مثل المرأة مثل الضلع المعوجّ ، إن أقمته كسرته و إن تركته استمتعت فاصبر عليها(٣) و نظم مضمونه من قال :

هي الضلع العوجاء لست تقيمها

ألا إنّ تقويم الضلوع انكسارها(٤)

و في ( البيان ) : سمع أعرابي يقول « اللّهم اغفر لامّ أوفى » قيل له : من امّ أوفى ؟ قال : إمرأتي ، إنّها لحمقاء مرغامة(٥) أكول قامّة(٦) لا تبقي خامّة(٧) ، غير

____________________

( ١ ) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ١٨ : ٢٠٠ .

( ٢ ) لم نعثر على الكتاب لا في المطبوعات و لا في المخطوطات ، و يبدو ان المؤلف لم ير الكتاب حيث ذكر ( و عن ) ، و قد ذكر حاجي خليفة الكتاب في كشف الظنون ٢ : ١٨١٧ ، و نسبه إلى الشيخ أبي عبد اللَّه الكاتب .

( ٣ ) الكافي للكليني ٥ : ٥١٣ ح ٢ .

( ٤ ) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ١٨ : ١٩٩ .

( ٥ ) المرغامة : المبغضة ليعلها .

( ٦ ) قمّ : أكولة .

( ٧ ) الخامّ : ما تغيّر ريحه من لحم أو لبن .

٢٩٧

أنّها حسناء فلا تفرك و امّ غلمان فلا تترك(١) .

و نظير المرأة في مطلوبيتها مع شدائدها لعدم بدّ منها ، الشيب فرارا من الموت قال الشاعر :

الشيب كره و كره أن يفارقني

فأعجب لشي‏ء على البغضاء مودود(٢)

٣ الحكمة ( ٦١ ) و قالعليه‌السلام :

اَلْمَرْأَةُ عَقْرَبٌ حُلْوَةُ اَللَّبْسِةِ « المرأة عقرب » في ( اللّسان ) العقرب يكون للذّكر و الانثى ، و الغالب عليه التأنيث ، و يقال للانثى : عقربة و عقرباء ، و العقربان : الذكر منها ، قال إياس بن الأرتّ :

كأنّ مرعى امكم إذ غدت

عقربة يكومها عقربان(٣)

و عقرب بن أبي عقرب كان من تجّار المدينة مشهورا بالمطل ، قال الزبير ابن بكار : عامله الفضل بن عباس بن عتبة بن أبي لهب فلزم الفضل بيته زمانا فلم يعطه شيئا ، فقال الفضل :

قد تجرت في سوقنا عقرب

لا مرحبا بالعقرب التاجره

كلّ عدو يتّقى مقبلا

و عقرب تخشى من الدابره

إن عادت العقرب عدنا لها

و كانت النعل لها حاضره

____________________

( ١ ) البيان و التبيان للجاحظ ٢ : ٩٥ .

( ٢ ) هو مسلم بن الوليد ذكره النويري ، في نهاية الارب ٢ : ٣٧ .

( ٣ ) لسان العرب لابن منظور ٩ : ٣١٨ .

٢٩٨

كلّ عدوّ كيده في استه

فغير مخشي و لا ضائره(١)

« حلوة اللبسة » هكذا في ( الطبعة المصرية )(٢) ، و الصواب : ( اللسبة ) كما نقله ( ابن أبي الحديد(٣) و اللسبة من لسب بالفتح ، قال ابن السكيت يقال لسبته العقرب إذا لسعته ، و اما لسب بالكسر فبمعنى لعق ، يقال لسبت العسل أي لعقته(٤) .

و لكون المرأة عقربا حلوة اللسبة قال كثيّر في صاحبته عزّة :

هنيئا مريئا غير داء مخامر

لعزّة من أعراضنا ما استحلّت(٥)

و عن مجنون في صاحبته ليلى :

حلال لليلى شتمنا و انتقاصنا

هنيئا و مغفور لليلى ذنوبها(٦)

و في ( الأغاني ) : قدم الوليد بن عبد الملك مكة فأراد أن يأتي الطائف فقال :

هل من رجل عالم يخبرني عنها قالوا : عمر بن أبي ربيعة قال : لا حاجة لي به ، ثم عاد فسأل فذكروه فقال : هاتوه فأتى و ركب معه ، فجعل يحدّثه ثم حوّل رداءه ليصلحه على نفسه ، فرأى الوليد على ظهره أثرا فقال : ما هذا ؟ قال : كنت عند جارية لي إذ جاءتني جارية برسالة من عند جارية اخرى و جعلت تسارّني بها ، فغارت التي كنت عندها فعضّت منكبي ، فما وجدت ألم عضتها من لذة ما كانت تلك تنفث في اذني حتى بلغت ما ترى و الوليد يضحك(٧) .

____________________

( ١ ) حياة الحيوان للدميري ٢ : ٦١ .

( ٢ ) راجع النسخة المصرية : ٦٧١ رقم ٦٢ .

( ٣ ) شرح ابن أبي الحديد ١٨ : ١٩٨ رقم ٥٩ .

( ٤ ) ترتيب اصلاح المنطق لابن السكّيت : ٣٣٤ .

( ٥ ) ديوان كثير عزة : ٥٦ .

( ٦ ) ديوان مجنون ليلى : ٣٤ .

( ٧ ) الأغاني للأصفهاني ١ : ١١٢ .

٢٩٩

و قال حجر آكل المرار في هند امرأته :

حلوة العين و الحديث و مرّ

كل شي‏ء أجنّ منها الضمير(١)

و قال أبو العتاهية :

رأيت الهوى جمر الغضا غير أنّه

على جمره في صدر صاحبه حلو(٢)

و في ( الجمهرة ) ( زينب ) اشتقاقه من زنابة العقرب و هي ابرته التي تلذع بها ، فأما زبانيا العقرب فهما قرناها(٣) .

٤ الحكمة ( ٢٣٤ ) و قالعليه‌السلام :

خِيَارُ خِصَالِ اَلنِّسَاءِ شَرُّ خِصَالِ اَلرِّجَالِ اَلزَّهْوُ وَ اَلْجُبْنُ وَ اَلْبُخْلُ فَإِذَا كَانَتِ اَلْمَرْأَةُ مَزْهُوَّةً لَمْ تُمَكِّنْ مِنْ نَفْسِهَا وَ إِذَا كَانَتْ بَخِيلَةً حَفِظَتْ مَالَهَا وَ مَالَ بَعْلِهَا وَ إِذَا كَانَتْ جَبَانَةً فَرِقَتْ مِنْ كُلِّ شَيْ‏ءٍ يَعْرِضُ لَهَا « خيار خصال النساء شرّ خصال الرجال » و ممّا قيل في اختلافهن مع الرجال في غير ما قالعليه‌السلام قول ابن شبرمة : ما رأيت لباسا على رجل أزين من فصاحته ، و لا رأيت لباسا على امرأة أزين من شحم(٤) و لشاعر :

الخال يقبح بالفتى في خدّه

و الخال في خد الفتاة مليح

و الشيب يحسن بالفتى في رأسه

و الشيب في رأس الفتاة قبيح(٥)

الزهو : أي : الكبر و الفخر و كونه من شرار خصال الرجال واضح .

____________________

( ١ ) الأغاني للأصفهاني ١٦ : ٣٥٨ ، كذا ابن قيم الجوزية : ١٤٤ و نسب البيت إلى عمرو الملك .

( ٢ ) الأغاني للأصفهاني ٤ : ٤١ و في نسخة التحقيق ورد العجز بلفظ « على كل حال عند صاحبه حلو » .

( ٣ ) جمهرة اللغة لابن دريد ٣ : ٣٦٥ .

( ٤ ) عيون الأخبار لابن قتيبة ٤ : ٣٠ .

( ٥ ) المصدر نفسة ٤ : ٢٢ .

٣٠٠

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

جميعاً اُمّة واحدة كتب لها الدخول إجمالاً ثمّ حرمت الدخول مدّة و رزقته بعدها و لا بداء على هذا و إن كان بالنظر إلى خصوص الأشخاص بداءً.

و في الكافي، بإسناده عن عبدالرحمن بن يزيد عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : مات داود النبيّ يوم السبت مفجوّاً فأظلّته الطير بأجنحتها، و مات موسى كليم الله في التيه فصاح صائح من السماء مات موسى و أيّ نفس لا تموت؟

٣٢١

( سورة المائدة الآيات ٢٧ - ٣٢)

وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقّ إِذْ قَرّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنّكَ قَالَ إِنّمَا يَتَقَبّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتّقِينَ( ٢٧) لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لَأَقْتُلَكَ إِنّي أَخَافُ اللّهَ رَبّ الْعَالَمِينَ( ٢٨) إِنّي أُرِيدُ أَن تَبُوأَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النّارِ وَذلِكَ جَزَاءُ الظّالِمِينَ( ٢٩) فَطَوّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ( ٣٠) فَبَعَثَ اللّهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي‏غ سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَاوَيْلَتَى‏ أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النّادِمِينَ( ٣١) مِن أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنَا عَلَى‏ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنّمَا قَتَلَ النّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنّمَا أَحْيَا النّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيّنَاتِ ثُمّ إِنّ كَثِيراً مِنْهُم بَعْدَ ذلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ( ٣٢)

( بيان)

الآيات تنبئ عن قصّة ابني آدم، و تبيّن أنّ الحسد ربّما يبلغ بابن آدم إلى حيث يقتل أخاه ظالماً فيصبح من الخاسرين و يندم ندامة لا يستتبع نفعاً، و هي بهذا المعنى ترتبط بما قبلها من الكلام على بني إسرائيل و استنكافهم عن الإيمان برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فإنّ إباءهم عن قبول الدعوة الحقّة لم يكن إلّا حسداً و بغياً، و هذا شأن الحسد يبعث الإنسان إلى قتل أخيه ثمّ يوقعه في ندامة و حسرة لا مخلص عنها أبداً، فليعتبروا بالقصّة و لا يلحّوا في حسدهم ثمّ في كفرهم ذاك الإلحاح.

قوله تعالى: ( وَ اتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ ) (الآية) التلاوة من التلو و هي القراءة سمّيت بها لأنّ القارئ للنبأ يأتي ببعض أجزائه في تلو بعض آخر. و

٣٢٢

النبأ هو الخبر إذا كان ذا جدوى و نفع. و القربان ما يتقرّب به إلى الله سبحانه أو إلى غيره، و هو في الأصل مصدر لا يثنّى و لا يجمع. و التقبّل هو القبول بزيادة عناية و اهتمام بالمقبول و الضمير في قوله( عَلَيْهِمْ ) لأهل الكتاب لما مرّ من كونهم هم المقصودين في سرد الكلام.

و المراد بهذا المسمّى بآدم هو آدم الّذي يذكر القرآن أنّه أبوالبشر، و قد ذكر بعض المفسّرين أنّه كان رجلاً من بني إسرائيل تنازع ابناه في قربان قرّباه فقتل أحدهما الآخر، و هو قابيل أو قايين قتل هابيل و لذلك قال تعالى بعد سرد القصّة:( مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى‏ بَنِي إِسْرائِيلَ ) .

و هو فاسد أمّا أوّلاً: فلأنّ القرآن لم يذكر ممّن سمّي بآدم إلّا الّذي يذكر أنّه أبوالبشر، و لو كان المراد بما في الآية غيره لكان من اللّازم نصب القرينة على ذلك لئلّا يبهم أمر القصّة.

و أمّا ثانياً فلأنّ بعض ما ذكر من خصوصيّات القصّة كقوله:( فَبَعَثَ الله غُراباً ) إنّما يلائم حال الإنسان الأوّليّ الّذي كان يعيش على سذاجة من الفكر و بساطة من الإدراك، يأخذ باستعداده الجبلّيّ في ادّخار المعلومات بالتجارب الحاصلة من وقوع الحوادث الجزئيّة حادثة بعد حادثة، فالآية ظاهرة في أنّ القاتل ما كان يدري أنّ الميّت يمكن أن يستر جسده بمواراته في الأرض، و هذه الخاصّة إنّما تناسب حال ابن آدم أبي البشر لا حال رجل من بني إسرائيل، و قد كانوا أهل حضارة و مدنيّة بحسب حالهم في قوميّتهم لا يخفى على أحدهم أمثال هذه الاُمور قطعاً.

و أمّا ثالثاً فلأنّ قوله: و لذلك قال تعالى بعد تمام القصّة:( مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى‏ بَنِي إِسْرائِيلَ ) ، يريد به الجواب عن سؤال اُورد على الآية، و هو أنّه ما وجه اختصاص الكتابة ببني إسرائيل مع أنّ الّذي تقتضيه القصّة - و هو الّذي كتبه الله - يعمّ حال جميع البشر، من قتل منهم نفساً فكأنّما قتل الناس جميعاً، و من أحيا منهم نفساً فكأنّما أحيا الناس جميعاً؟

فأجاب القائل بقوله: و لذلك قال تعالى إلخ أنّ القاتل و المقتول لم يكونا

٣٢٣

ابني آدم أبي البشر حتّى تكون قصّتهما مشتملة على حادثة من الحوادث الأوّليّة بين النوع الإنسانيّ فيكون عبرة يعتبر بها كلّ من جاء بعدهما، و إنّما هما ابنا رجل من بني إسرائيل و كان نبأهما من الأخبار القوميّة الخاصّة و لذلك اُخذ عبرة مكتوبة لخصوص بني إسرائيل.

لكنّ ذلك لا يحسم مادّة الإشكال فإنّ السؤال بعدُ باق على حاله فإنّ كون قتل الواحد بمنزلة قتل الجميع و إحياء الواحد بمنزلة إحياء الجميع معنى يرتبط بكلّ قتل وقع بين هذا النوع من غير اختصاصه ببعض دون بعض، و قد وقع ما لا يحصى من القتل قبل بني إسرائيل، و قبل هذا القتل الّذي يشير إليه، فما باله رتّب على قتل خاصّ و كتب على قوم خاصّ؟.

على أنّ الأمر لو كان كما يقول كان الأحسن أن يقال: من قتل منكم نفساً إلخ ليكون خاصّاً بهم، ثمّ يعود السؤال في هذا التخصيص مع عدم استقامته في نفسه.

و الجواب عن أصل الإشكال أنّ الّذي يشتمل عليه قوله:( أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ ) (الآية) حكمة بالغة و ليس بحكم مشرّع فالمراد بالكتابة عليهم بيان هذه الحكمة لهم مع عموم فائدتها لهم و لغيرهم كالحكم و المواعظ الّتي بيّنت في القرآن لاُمّة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع عدم انحصار فائدتها فيهم. و إنّما ذكر في الآية أنّه بيّنه لهم لأنّ الآيات مسوقة لعظتهم و تنبيههم و توبيخهم على ما حسدوا النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و أصرّوا في العناد و إشعال نار الفتن و التسبيب إلى القتال و مباشرة الحروب على المسلمين، و لذلك ذيل قوله:( مَنْ قَتَلَ نَفْساً ) إلخ بقوله:( وَ لَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ ) على أنّ أصل القصّة على النحو الّذي ذكره لا مأخذ له رواية و لا تاريخاً.

فتبيّن أنّ قوله:( نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ ) يراد به قصّة ابني آدم أبي البشر، و تقييد الكلام بقوله:( بِالْحَقِّ ) - و هو متعلّق بالنبأ أو بقوله:( وَ اتْلُ ) - لا يخلو عن إشعار أو دلالة على أنّ المعروف الدائر بينهم من النبأ لا يخلو من تحريف و سقط، و هو كذلك فإنّ القصّة موجودة في الفصل الرابع من سفر التكوين من التوراة، و ليس فيها خبر بعث الغراب و

٣٢٤

بحثه في الأرض، و القصّة مع ذلك صريحة في تجسّم الربّ تعالى عن ذلك علوّاً كبيراً.

و قوله:( إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَ لَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ ) ظاهر السياق أنّ كلّ واحد منهما قدّم إلى الربّ تعالى شيئاً يتقرّب به و إنّما لم يثنّ لفظ القربان لكونه في الأصل مصدراً لا يثنّى و لا يجمع.

و قوله:( قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ الله مِنَ الْمُتَّقِينَ ) القائل الأوّل هو القاتل و الثاني هو المقتول، و سياق الكلام يدلّ على أنّهما علما تقبّل قربان أحدهما و عدم تقبّله من الآخر، و أمّا أنّهما من أين علما ذلك؟ أو بأيّ طريق استدلّوا عليه؟ فالآية ساكتة عن ذلك.

غير أنّه ذكر في موضع من كلامه تعالى: أنّه كان من المعهود عند الاُمم السابقة أو عند بني إسرائيل خاصّة تقبّل القربان المتقرّب به بأكل النار إيّاه قال تعالى:( الَّذِينَ قالُوا إِنَّ الله عَهِدَ إِلَيْنا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَ بِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ) (آل عمران: ١٨٣) و القربان معروف عند أهل الكتاب إلى هذا اليوم(١) فمن الممكن أن يكون التقبّل للقربان في هذه القصّة أيضاً على ذلك النحو، و خاصّة بالنظر إلى إلقاء القصّة إلى أهل الكتاب المعتقدين لذلك، و كيف كان فالقاتل و المقتول جميعاً كانا يعلمان قبوله من أحدهما و ردّه من الآخر.

ثمّ السياق يدلّ أيضاً على أنّ القائل( لَأَقْتُلَنَّكَ ) هو الّذي لم يتقبّل قربانه، و أنّه‏ إنّما قال ذلك حسداً من نفسه إذ لم يكن هناك سبب آخر، و لا أنّ المقتول كان قد أجرم إجراماً باختيار منه حتّى يواجه بمثل هذا القول و يهدّد بالقتل.

فقول القاتل:( لَأَقْتُلَنَّكَ ) تهديد بالقتل حسداً لقبول قربان المقتول دون القاتل فقول المقتول:( إِنَّما يَتَقَبَّلُ الله مِنَ الْمُتَّقِينَ ) إلى آخر ما حكى الله تعالى عنه جواب عمّا

____________________

(١) القربان عند اليهود أنواع كذبائح الحيوان بالتضحية، و تقدّمة الدقيق و الزيت و اللبان و باكورة الثمار، و عند النصارى ما يقدّمونه من الخبز و الخمر فيتبدّل إلى لحم المسيح و دمه حقيقة في زعمهم.

٣٢٥

قاله القاتل فيذكر له أوّلاً: أنّ مسألة قبول القربان و عدم قبوله لا صنع له في ذلك و لا إجرام، و إنّما الاجرام من قبل القاتل حيث لم يتّق الله فجازاه الله بعدم قبول قربانه.

و ثانياً: أنّ القاتل لو أراد قتله و بسط إليه يده لذلك ما هو بباسط يده إليه ليقتله لتقواه و خوفه من الله سبحانه، و إنّما يريد على هذا التقدير أن يرجع القاتل و هو يحمل إثم المقتول و إثم نفسه فيكون من أصحاب النار و ذلك جزاء الظالمين.

فقوله:( إِنَّما يَتَقَبَّلُ الله مِنَ الْمُتَّقِينَ ) مسوق لقصر الإفراد للدلالة على أنّ التقبّل لا يشمل قربان التقيّ و غير التقيّ جميعاً، أو لقصر القلب كأنّ القاتل كان يزعم أنّه سيتقبّل قربانه دون قربان المقتول زعماً منه أنّ الأمر لا يدور مدار التقوى أو أنّ الله سبحانه غير عالم بحقيقة الحال، يمكن أن يشتبه عليه الأمر كما ربّما يشتبه على الإنسان.

و في الكلام بيان لحقيقة الأمر في تقبّل العبادات و القرابين، و موعظة و بلاغ في أمر القتل و الظلم و الحسد، و ثبوت المجازاة الإلهيّة و أنّ ذلك من لوازم ربوبيّة ربّ العالمين فإنّ الربوبيّة لا تتمّ إلّا بنظام متقن بين أجزاء العالم يؤدّي إلى تقدير الأعمال بميزان العدل و جزاء الظلم بالعذاب الأليم ليرتدع الظالم عن ظلمه أو يجزى بجزائه الّذي أعدّه لنفسه و هو النار.

قوله تعالى: ( لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ ) إلخ اللّام للقسم، و بسط اليد إليه كناية عن الأخذ بمقدّمات القتل و إعمال أسبابه، و قد أتى في جواب الشرط بالنفي الوارد على الجملة الاسميّة، و بالصفة( بِباسِطٍ ) دون الفعل و أكّد النفي بالباء ثمّ الكلام بالقسم، كلّ ذلك للدلالة على أنّه بمراحل من البعد من إرادة قتل أخيه، لا يهمّ به و لا يخطر بباله.

و أكّد ذلك كلّه بتعليل ما ادّعاه من قوله:( ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ ) إلخ بقوله:( إِنِّي أَخافُ الله رَبَّ الْعالَمِينَ ) فإنّ ذكر المتّقين لربّهم و هو الله ربّ العالمين الّذي يجازي في كلّ إثم بما يتعقّبه من العذاب ينبّه في نفوسهم غريزة الخوف من الله تعالى، و لا يخلّيهم و إن يرتكبوا ظلماً يوردهم مورد الهلكة.

ثمّ ذكر تأويل قوله:( لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ ) إلخ

٣٢٦

بمعنى حقيقة هذا الّذي أخبر به، و محصّله أنّ الأمر على هذا التقدير يدور بين أن يقتل هو أخاه فيكون هو الظالم الحامل للإثم الداخل في النار، أو يقتله أخوه فيكون هو كذلك، و ليس يختار قتل أخيه الظالم على سعادة نفسه و ليس بظالم، بل يختار أن يشقى أخوه الظالم بقتله و يسعد هو و ليس بظالم، و هذا هو المراد بقوله:( إِنِّي أُرِيدُ ) إلخ كنّى بالإرادة عن الاختيار على تقدير دوران الأمر.

فالآية في كونها تأويلاً لقوله:( لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ ) إلخ كالّذي وقع في قصّة موسى و صاحبه حين قتل غلاماً لقياه فاعترض عليه موسى بقوله:( أَ قَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً ) فنبّأه صاحبه بتأويل ما فعل بقوله:( وَ أَمَّا الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَ كُفْراً فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً وَ أَقْرَبَ رُحْماً ) (الكهف: ٨١).

فقد أراد المقتول أي اختار الموت مع السعادة و إن استلزم شقاء أخيه بسوء اختياره على الحياة مع الشقاء و الدخول في حزب الظالمين، كما اختار صاحب موسى موت الغلام مع السعادة و إن استلزم الحزن و الأسى من أبويه على حياته و صيرورته طاغياً كافراً يضلّ بنفسه و يضلّ أبويه، و الله يعوّضهما منه من هو خير منه زكاة و أقرب رحماً.

و الرجل أعني ابن آدم المقتول من المتّقين العلماء بالله، أمّا كونه من المتّقين فلقوله:( إِنَّما يَتَقَبَّلُ الله مِنَ الْمُتَّقِينَ ) المتضمّن لدعوى التقوى، و قد أمضاها الله تعالى بنقله من غير ردّ، و أمّا كونه من العلماء بالله فلقوله:( إِنِّي أَخافُ الله رَبَّ الْعالَمِينَ ) فقد ادّعى مخافة الله و أمضاها الله سبحانه منه، و قد قال تعالى:( إِنَّما يَخْشَى الله مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ ) (فاطر: ٢٨) فحكايته تعالى قوله:( إِنِّي أَخافُ الله رَبَّ الْعالَمِينَ ) و إمضاؤه له توصيف له بالعلم كما وصف صاحب موسى أيضاً بالعلم إذ قال:( وَ عَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً ) (الكهف: ٦٥). و كفى له علماً ما خاطب به أخاه الباغي عليه من الحكمة البالغة و الموعظة الحسنة فإنّه بيّن عن طهارة طينته و صفاء فطرته: أنّ البشر ستكثر عدّتهم ثمّ تختلف بحسب الطبع البشريّ جماعتهم فيكون منهم متّقون و آخرون ظالمون، و أنّ لهم جميعاً و لجميع العالمين ربّاً واحداً يملكهم و يدبّر أمرهم، و أنّ من التدبير

٣٢٧

المتقن أن يحبّ و يرتضي العدل و الإحسان، و يكره و يسخط الظلم و العدوان و لازمه وجوب التقوى و مخافة الله على الإنسان و هو الدين، فهناك طاعات و قربات و معاصي و مظالم، و أنّ الطاعات و القربات إنّما تتقبّل إذا كانت عن تقوى، و أنّ المعاصي و المظالم آثام يحملها الظالم، و من لوازمه أن تكون هناك نشأة اُخرى فيها الجزاء، و جزاء الظالمين النار.

و هذه - كما ترى - اُصول المعارف الدينيّة و مجامع علوم المبدء و المعاد أفاضها هذا العبد الصالح إفاضة ضافية لأخيه الجاهل الّذي لم يكن يعرف أنّ الشي‏ء يمكن أن يتوارى عن الأنظار بالدفن حتّى تعلّمه من الغراب، و هو لم يقل لأخيه حينما كلّمه: إنّك إن أردت أن تقتلني ألقيت نفسي بين يديك و لم اُدافع عن نفسي و لا أتّقي القتل، و إنّما قال: ما كنت لأقتلك.

و لم يقل: إنّي اُريد أن اُقتل بيدك على أيّ تقدير لتكون ظالماً فتكون من أصحاب النار فإنّ التسبيب إلى ضلال أحد و شقائه في حياته ظلم و ضلال في شريعة الفطرة من غير اختصاص بشرع دون شرع، و إنّما قال: إنّي اُريد ذلك و أختاره على تقدير بسطك يدك لقتلي.

و من هنا يظهر اندفاع ما اُورد على القصّة: أنّه كما أنّ القاتل منهما أفرط بالظلم و التعدّي كذلك المقتول قصّر بالتفريط و الانظلام حيث لم يخاطبه و لم يقابله بالدفاع عن نفسه بل سلّم له أمر نفسه و طاوعه في إرادة قتله حيث قال له:( لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ ) إلخ.

وجه الاندفاع أنّه، لم يقل: إنّي لا اُدافع عن نفسي و أدعك و ما تريد منّي و إنّما قال: لست اُريد قتلك، و لم يذكر في الآية أنّه قتل و لم يدافع عن نفسه على علم منه بالأمر فلعلّه قتله غيلة أو قتله و هو يدافع أو يحترز.

و كذا ما اُورد عليها أنّه ذكر إرادته تمكين أخيه من قتله ليشقى بالعذاب الخالد ليكون هو بذلك سعيداً حيث قال:( إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَ إِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ ) كبعض المتقشّفين من أهل العبادة و الورع حيث يرى أنّ الّذي عليه

٣٢٨

هو التزهّد و التعبّد، و إن ظلمه ظالم أو تعدّى عليه متعدّ حمل الظالم وزر ظلمه، و ليس عليه من الدفاع عن حقّه إلّا الصبر و الاحتساب. و هذا من الجهل، فإنّه من الإعانة على الإثم، و هي توجب اشتراك المعين و المعان في الإثم جميعاً لا انفراد الظالم بحمل الاثنين معاً.

وجه الاندفاع: أنّ قوله:( إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَ إِثْمِكَ ) ، قول على تقدير بالمعنى الّذي تقدّم بيانه.

و قد اُجيب عن الإشكالين ببعض وجوه سخيفة لا جدوى في ذكرها.

قوله تعالى: ( إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَ إِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ ) ، أي ترجع بإثمي و إثمك كما فسّره بعضهم، و قال الراغب في مفرداته: أصل البواء مساواة الأجزاء في المكان خلاف النبوّة الّذي هو منافاة الأجزاء يقال: مكان بواء إذا لم يكن نابئاً بنازلة، و بوّأت له مكاناً: سوّيته فتبوّء - إلى أن قال - و قوله:( إنّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَ إِثْمِكَ ) أي تقيم بهذه الحالة. قال:

(أنكرت باطلها و بؤت بحقها)

انتهى. و على هذا فتفسيره بالرجوع تفسير بلازم المعنى.

و المراد بقوله:( أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَ إِثْمِكَ ) أن ينتقل إثم المقتول ظلماً إلى قاتله على إثمه الّذي كان له فيجتمع عليه الإثمان، و المقتول يلقى الله سبحانه و لا إثم عليه، فهذا ظاهر قوله:( أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَ إِثْمِكَ ) و قد ورد بذلك الروايات و الاعتبار العقليّ يساعد عليه. و قد تقدّم شطر من البحث فيه في الكلام على أحكام الأعمال في الجزء الثاني من الكتاب.

و الإشكال عليه بأن لازمه جواز مؤاخذة الإنسان بذنب غيره، و العقل يحكم بخلافه، و قد قال تعالى:( أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) (النجم: ٣٨) مدفوع بأنّ ذلك ليس من أحكام العقل النظريّ حتّى يختم عليه باستحالة الوقوع، بل من أحكام العقل العمليّ الّتي تتبع مصالح المجتمع الإنسانيّ في ثبوتها و تغيّرها، و من الجائز أن يعتبر المجتمع الفعل الصادر عن أحد فعلاً صادراً عن غيره و يكتبه عليه و يؤاخذه به، أو الفعل

٣٢٩

الصادر عنه غير صادر عنه كما إذا قتل إنساناً و للمجتمع على المقتول حقوق كان يجب أن يستوفيها منه، فمن الجائز أن يستوفي المجتمع حقوقه من القاتل، و كما إذا بغى على المجتمع بالخروج و الإفساد و الإخلال بالأمن العامّ فإنّ للمجتمع أن يعتبر جميع الحسنات الباغي كأن لم تكن، إلى غير ذلك.

ففي هذه الموارد و أمثالها لا يرى المجتمع السيّئات الّتي صدرت من المظلوم إلّا أوزاراً للظالم، و إنّما تزر وازرته وزر نفسها لا وزر غيرها، لأنّها تملّكتها من الغير بما أوقعته عليه من الظلم و الشرّ نظير ما يبتاع الإنسان ما يملكه غيره بثمن، فكما أنّ تصرّفات المالك الجديد لا تمنع لكون المالك الأوّل مالكاً للعين زماناً لانتقالها إلى غيره ملكاً، كذلك لا يمنع قوله:( أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) مؤاخذة النفس القاتلة بسيّئة بمجرّد أنّ النفس الوازرة كانت غيرها زماناً، و لا أنّ قوله:( لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى‏ ) يبقى بلا فائدة و لا أثر بسبب جواز انتقال الوزر بسبب جديد كما لا يبقى‏ قولهعليه‌السلام :( لا يحلّ مال امرء مسلم إلّا بطيب نفسه) بلا فائدة بتجويز انتقال الملك ببيع و نحوه.

و قد ذكر بعض المفسّرين: أنّ المراد بقوله:( بِإِثْمِي وَ إِثْمِكَ ) بإثم قتلي إن قتلتني و إثمك الّذي كنت أثمته قبل ذلك كما نقل عن ابن مسعود و ابن عبّاس و غيرهما، أو أنّ المراد بإثم قتلي و إثمك الّذي لم يتقبّل من أجله قربانك كما نقل عن الجبائيّ و الزجّاج، أو أنّ معناه بإثم قتلي و إثمك الّذي هو قتل جميع الناس كما نقل عن آخرين.

و هذه وجوه ذكروها ليس على شي‏ء منها من جهة اللّفظ دليل، و لا يساعد عليه اعتبار.

على أنّ المقابلة بين الإثمين مع كونهما جميعاً للقاتل ثمّ تسمية أحدهما بإثم المقتول و غيره بإثمّ القاتل خالية عن الوجه.

قوله تعالى: ( فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ ) قال الراغب في مفرداته: الطوع الانقياد و يضادّه الكره، و الطاعة مثله لكن أكثر ما يقال في الايتمار لما اُمر و الارتسام فيما رسم، و قوله:( فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ ) نحو أسمحت له قرينته

٣٣٠

و انقادت له و سوّلت، و طوّعت أبلغ من أطاعت و طوّعت له نفسه بإزاء قولهم: تأبّت عن كذا نفسه. انتهى ملخّصاً. و ليس مراده أنّ طوّعت مضمّن معنى انقادت أو سوّلت بل يريد أنّ التطويع يدلّ على التدريج كالإطاعة على الدفعة، كما هو الغالب في بابي الإفعال و التفعيل فالتطويع في الآية اقتراب تدريجيّ للنفس من الفعل بوسوسة بعد وسوسة و همامة بعد همامة تنقاد لها حتّى تتمّ لها الطاعة الكاملة فالمعنى: انقادت له نفسه و أطاعت أمره إيّاها بقتل أخيه طاعة تدريجيّة، فقوله:( قَتْلَ أَخِيهِ ) من وضع المأمور به موضع الأمر كقولهم: أطاع كذا في موضع: أطاع الأمر بكذا.

و ربّما قيل: إنّ قوله: طوّعت بمعنى زيّنت فقوله:( قَتْلَ أَخِيهِ ) مفعول به، و قيل: بمعنى طاوعت أي طاوعت له نفسه في قتل أخيه، فالقتل منصوب بنزع الخافض، و معنى الآية ظاهر.

و ربّما استفيد من قوله:( فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ ) أنّه إنّما قتله ليلاً، و فيه كما قيل: إنّ أصبح - و هو مقابل أمسى - و إن كان بحسب أصل معناه يفيد ذلك لكنّ عرف العرب يستعمله بمعنى صار من غير رعاية أصل اشتقاقه، و في القرآن شي‏ء كثير من هذا القبيل كقوله:( فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً ) (آل عمران: ١٠٣) و قوله:( فَيُصْبِحُوا عَلى‏ ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ ) (المائدة: ٥٢) فلا سبيل إلى إثبات إرادة المعنى الأصليّ في المقام.

قوله تعالى: ( فَبَعَثَ الله غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ ) البحث طلب الشي‏ء في التراب ثمّ يقال: بحثت عن الأمر بحثاً كذا في المجمع. و المواراة: الستر، و منه التواري للتستّر، و الوراء لما خلف الشي‏ء. و السوأة ما يتكرّهه الإنسان. و الويل الهلاك. و يا ويلتا كلمة تقال عند الهلكة، و العجز مقابل الاستطاعة.

و الآية بسياقها تدلّ على أنّ القاتل قد كان بقي زماناً على تحيّر من أمره، و كان يحذر أن يعلم به غيره، و لا يدري كيف الحيلة إلى أن لا يظفروا بجسده حتّى بعث الله الغراب، و لو كان بعث الغراب و بحثه و قتله أخاه متقاربين لم يكن وجه لقوله:( يا وَيْلَتى‏ أَ عَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ ) .

٣٣١

و كذا المستفاد من السياق أنّ الغراب دفن شيئاً في الأرض بعد البحث فإنّ ظاهر الكلام أنّ الغراب أراد إراءة كيفيّة المواراة لا كيفيّة البحث، و مجرّد البحث ما كان يعلّمه كيفيّة المواراة و هو في سذاجة الفهم بحيث لم ينتقل ذهنه بعد إلى معنى البحث، فكيف كان ينتقل من البحث إلى المواراة و لا تلازم بينهما بوجه؟ فإنّما انتقل إلى معنى المواراة بما رأى أنّ الغراب بحث في الأرض ثمّ دفن فيها شيئاً.

و الغراب من بين الطير من عادته أنّه يدّخر بعض ما اصطاده لنفسه بدفنه في الأرض و بعض ما يقتات بالحبّ و نحوه من الطير و إن كان ربّما بحث في الأرض لكنّه للحصول على مثل الحبوب و الديدان لا للدفن و الادّخار.

و ما تقدّم من إرجاع ضمير الفاعل في( لِيُرِيَهُ ) إلى الغراب هو الظاهر من الكلام لكونه هو المرجع القريب، و ربّما قيل: إنّ الضمير راجع إلى الله سبحانه، و لا بأس به لكنّه لا يخلو عن شي‏ء من البعد، و المعنى صحيح على التقديرين، و أمّا قوله:( قالَ يا وَيْلَتى‏ أَ عَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ ) ، فإنّما قاله لأنّه استسهل ما رأى من حيلة الغراب للمواراة فإنّه وجد نفسه تقدر على إتيان مثل ما أتى به الغراب من البحث ثمّ التوسّل به إلى المواراة لظهور الرابطة بين البحث و المواراة، و عند ذلك تأسّف على ما فاته من الفائدة، و ندم على إهماله في التفكّر في التوسّل إلى المواراة حتّى يستبين له أنّ البحث هو الوسيلة القريبة إليه، فأظهر هذه الندامة بقوله:( يا وَيْلَتى‏ أَ عَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي ) و هو تخاطب جار بينه و بين نفسه على طريق الاستفهام الإنكاريّ، و التقدير أن يستفهم منكراً: أ عجزت أن تكون مثل هذا الغراب فتواري سوأة أخيك؟ فيجاب: لا. ثمّ يستفهم ثانياً استفهاماً إنكاريّاً فيقال: فلم غفلت عن ذلك و لم تتوسّل إليها بهذه الوسيلة على ظهورها و أشقيت نفسك في هذه المدّة من غير سبب؟ و لا جواب عن هذه المسألة، و فيه الندامة فإنّ الندامة تأثّر روحيّ خاصّ من الإنسان و تألّم باطنيّ يعرضه من مشاهدته إهماله شيئاً من الأسباب المؤدّية إلى فوت منفعة أو حدوث مضرّة، و إن شئت فقل هي تأثّر الإنسان العارض له من تذكّره إهماله في الاستفادة من إمكان من الإمكانات.

٣٣٢

و هذا حال الإنسان إذا أتى من المظالم بما يكره أن يطّلع عليه الناس فإنّ هذه اُمور لا يقبلها المجتمع بنظامه الجاري فيه، المرتبط بعض أجزائه ببعض فلا بدّ أن يظهر أثر هذه الاُمور المنافية له و إن خفيت على الناس في أوّل حدوثها، و الإنسان الظالم المجرم يريد أن يجبر النظام على قبوله و ليس بقابل نظير أن يأكل الإنسان أو يشرب شيئاً من السمّ و هو يريد أن يهضمه جهاز هضمه و ليس بهاضم، فهو و إن أمكن وروده في باطنه لكنّ له موعداً لن يخلفه و مرصداً لن يتجاوزه، و إنّ ربّك لبالمرصاد.

و عند ذلك يظهر للإنسان نقص تدبيره في بعض ما كان يجب عليه مراقبته و رعايته فيندم لذلك، و لو عاد فأصلح هذا الواحد فسد آخر و لا يزال الأمر على ذلك حتّى يفضحه الله على رؤس الأشهاد.

و قد اتّضح بما تقدّم من البيان: أنّ قوله:( فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ ) إشارة إلى ندامته على عدم مواراته سوأة أخيه، و ربّما أمكن أن يقال: إنّ المراد به ندمه على أصل القتل و ليس ببعيد.

( كلام في معنى الإحساس و التفكير)

هذا الشطر من قصّة ابني آدم أعني قوله تعالى:( فَبَعَثَ الله غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قالَ يا وَيْلَتى‏ أَ عَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ ) آية واحدة في القرآن لا نظيرة لها من نوعها و هي تمثّل حال الإنسان في الانتفاع بالحسّ، و أنّه يحصّل خواصّ الأشياء من ناحية الحسّ، ثمّ يتوسّل بالتفكّر فيها إلى أغراضه و مقاصده في الحياة على نحو ما يقضي به البحث العلميّ أنّ علوم الإنسان و معارفه تنتهي إلى الحسّ خلافاً للقائلين بالتذكّر و العلم الفطريّ.

و توضيحه أنّك إذا راجعت الإنسان فيما عنده من الصور العلميّة من تصوّر أو تصديق جزئيّ أو كلّيّ و بأيّ صفة كانت علومه و إدراكاته وجدت عنده و إن كان

٣٣٣

من أجهل الناس و أضعفهم فهماً و فكراً صوراً كثيرة و علوماً جمّة لا تكاد تنالها يد الإحصاء بل لا يحصيها إلّا ربّ العالمين.

و من المشهود من أمرها على كثرتها و خروجها عن طور الإحصاء و التعديد أنّها لا تزال تزيد و تنمو مدّة الحياة الإنسانيّة في الدنيا، و لو تراجعنا القهقرى وجدناها تنقص ثمّ تنقص حتّى تنتهي إلى الصفر، و عاد الإنسان و ما عنده شي‏ء من العلم بالفعل قال تعالى:( عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ ) (العلق: ٥).

و ليس المراد بالآية أنّه تعالى يعلّمه ما لم يعلم و أمّا ما علمه فهو فيه في غنى عن تعليم ربّه فإنّ من الضروريّ أنّ العلم في الإنسان أيّاً مّا كان هو لهدايته إلى ما يستكمل به في وجوده و ينتفع به في حياته، و الّذي تسير إليه أقسام الأشياء غير الحيّة بالانبعاثات الطبيعيّة تسير و تهتدي أقسام الموجودات الحيّة - و منها الإنسان - إليه بنور العلم فالعلم من مصاديق الهدى.

و قد نسب الله سبحانه مطلق الهداية إلى نفسه حيث قال:( الَّذِي أَعْطى‏ كُلَّ شَيْ‏ءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى‏ ) (طه: ٥٠) و قال:( الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَ الَّذِي قَدَّرَ فَهَدى‏ ) (الأعلى: ٣) و قال و هو بوجه من الهداية بالحسّ و الفكر:( أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ ) (النمل: ٦٣) و قد مرّ شطر من الكلام في معنى الهداية في بعض المباحث السابقة، و بالجملة لمّا كان كلّ علم هداية و كلّ هداية فهي من الله كان كلّ علم للإنسان بتعليمه تعالى.

و يقرب من قوله:( عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ ) قوله:( وَ الله أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَ جَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَ الْأَبْصارَ وَ الْأَفْئِدَةَ ) (النحل: ٧٨).

و التأمّل في حال الإنسان و التدبّر في الآيات الكريمة يفيدان أنّ علم الإنسان النظريّ أعني العلم بخواصّ الأشياء و ما يستتبعه من المعارف العقليّة يبتدئ من الحسّ فيعلّمه الله من طريقه خواصّ الأشياء كما يدلّ عليه قوله:( فَبَعَثَ الله غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ ) (الآية).

فنسبة بعث الغراب لإراءة كيفيّة المواراة إلى الله سبحانه نسبة تعليم كيفيّة

٣٣٤

المواراة إليه تعالى بعينه فالغراب و إن كان لا يشعر بأنّ الله سبحانه هو الّذي بعثه، و كذلك ابن آدم لم يكن يدري أنّ هناك مدبّراً يدبّر أمر تفكيره و تعلّمه، و كانت سببيّة الغراب و بحثه بالنسبة إلى تعلّمه بحسب النظر الظاهريّ سببيّة اتّفاقيّة كسائر الأسباب الاتّفاقيّة الّتي تعلّم الإنسان طرق تدبير المعاش و المعاد، لكنّ الله سبحانه هو الّذي خلق الإنسان و ساقه إلى كمال العلم لغاية حياته، و نظم الكون نوع نظم يؤدّيه إلى الاستكمال بالعلم بأنواع من التماسّ و التصاكّ تقع بينه و بين أجزاء الكون، فيتعلّم بها الإنسان ما يتوسّل به إلى أغراضه و مقاصده من الحياة فالله سبحانه هو الّذي يبعث الغراب و غيره إلى عمل يتعلّم به الإنسان شيئاً فهو المعلّم للإنسان.

و لهذا المعنى نظائر في القرآن كقوله تعالى:( وَ ما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ الله ) (المائدة: ٤) عدّ ما علموه و علّموه ممّا علّمهم الله و إنّما تعلّموه من سائر الناس أو ابتكروه بأفكار أنفسهم، و قوله:( وَ اتَّقُوا الله وَ يُعَلِّمُكُمُ الله ) (البقرة: ٢٨٢) و إنّما كانوا يتعلّمونه من الرسول، و قوله:( وَ لا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ الله ) (البقرة: ٢٨٢) و إنّما تعلّم الكاتب ما علمه بالتعلّم من كاتب آخر مثله إلّا أنّ جميع ذلك اُمور مقصودة في الخلق و التدبير فما حصل من هذه الأسباب من فائدة العلم الّذي يستكمل به الإنسان فالله سبحانه هو معلّمه بهذه الأسباب كما أنّ المعلّم من الإنسان يعلّم بالقول و التلقين، و الكاتب من الإنسان يعلّم غيره بالقول و القلم مثلاً.

و هذا هو السبيل في جميع ما يسند إليه تعالى في عالم الأسباب فالله تعالى هو خالقه و بينه و بين مخلوقة أسباب هي الأسباب بحسب الظاهر و هي أدوات و آلات لوجود الشي‏ء، و إن شئت فقل: هي من شرائط وجود الشي‏ء الّذي تعلّق وجوده من جميع جهاته و أطرافه بالأسباب، فمن شرائط وجود زيد( الذي ولده عمرو و هند) أن يتقدّمه عمرو و هند و ازدواج و تناكح بينهما، و إلّا لم يوجد زيد المفروض، و من شرائط( الإبصار بالعين الباصرة) أن تكون قبله عين باصرة، و هكذا.

فمن زعم أنّه يوحّد الله سبحانه بنفي الأسباب و إلغائها، و قدّر أنّ ذلك أبلغ

٣٣٥

في إثبات قدرته المطلقة و نفي العجز عنه، و زعم أنّ إثبات ضرورة تخلّل الأسباب قول بكونه تعالى مجبراً على سلوك سبيل خاصّ في الإيجاد فاقداً للاختيار فقد ناقض نفسه من حيث لا يشعر.

و بالجملة فالله سبحانه هو الّذي علم الإنسان خواصّ الأشياء الّتي تنالها حواسّه نوعاً من النيل، علّمه إيّاها من طريق الحواسّ، ثمّ سخّر له ما في الأرض و السماء جميعاً، قال تعالى:( وَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ ) (الجاثية: ١٣).

و ليس هذا التسخير إلّا لأن يتوسّل بنوع من التصرّف فيها إلى بلوغ أغراضه و أمانيّه في الحياة أي إنّه جعلها مرتبطة بوجوده لينتفع بها، و جعله متفكّراً يهتدي إلى كيفيّة التصرّف و الاستعمال و التوسّل، و من الدليل على ذلك قوله تعالى:( أَ لَمْ تَرَ أَنَّ الله سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ وَ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ ) (الحجّ: ٦٥)، و قوله تعالى:( وَ جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَ الْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ ) (الزخرف: ١٢)، و قوله تعالى:( عَلَيْها وَ عَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ ) (غافر: ٨٠) و غير ذلك من الآيات المشابهة لها فانظر إلى لسان الآيات كيف نسبت جعل الفلك إلى الله سبحانه و هو من صنع الإنسان، ثمّ نسب الحمل إليه تعالى و هو من صنع الفلك و الأنعام و نسب جريانها في البحر إلى أمره و هو مستند إلى جريان البحر أو هبوب الريح أو البخار و نحوه، و سمّي ذلك كلّه تسخيراً منه للإنسان لما أنّ لإرادته نوع حكومة في الفلك و ما يناظرها من الأنعام و في الأرض و السماء تسوقها إلى الغايات المطلوبة له.

و بالجملة هو سبحانه أعطاه الفكر على الحسّ ليتوسّل به إلى كماله المقدّر له بسبب علومه الفكريّة الجارية في التكوينيّات أعني العلوم النظريّة.

قال تعالى:( وَ جَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَ الْأَبْصارَ وَ الْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) (النحل: ٧٨) و أمّا العلوم العمليّة و هي الّتي تجري فيما ينبغي أن يعمل و ما لا ينبغي فإنّما هي بإلهام من الله سبحانه من غير أن يوجدها حسّ أو عقل نظريّ، قال تعالى:( وَ نَفْسٍ وَ ما سَوَّاها فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَ تَقْواها قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها وَ قَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها ) (الشمس: ١٠) و قال:( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ الله الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله

٣٣٦

ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ) (الروم: ٣٠) فعدّ العلم بما ينبغي فعله و هو الحسنة و ما لا ينبغي فعله و هو السيّئة ممّا يحصل له بالإلهام الإلهيّ و هو القذف في القلب.

فجميع ما يحصل للإنسان من العلم إنّما هي هداية إلهيّة و بهداية إلهيّة، غير أنّها مختلفة بحسب النوع: فما كان من خواصّ الأشياء الخارجيّة فالطريق الّذي يهدي به الله سبحانه الإنسان هو طريق الحسّ، و ما كان من العلوم الكلّيّة الفكريّة فإنّما هي بإعطاء و تسخير إلهيّ من غير أن يبطله وجود الحسّ أو يستغني الإنسان عنها في حال من الأحوال، و ما كان من العلوم العمليّة المتعلّقة بصلاح الأعمال و فسادها و ما هو تقوى أو فجور فإنّما هي بإلهام إلهيّ بالقذف في القلوب و قرع باب الفطرة.

و القسم الثالث الّذي يرجع بحسب الأصل إلى إلهام إلهيّ إنّما ينجح في عمله و يتمّ في أثره إذا صلح القسم الثاني و نشأ على صحّة و استقامة كما أنّ العقل أيضاً إنّما يستقيم في عمله إذا استقام الإنسان في تقواه و دينه الفطريّ، قال تعالى:( وَ ما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ ) (آل عمران: ٧) و قال تعالى:( وَ ما يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ ) (غافر: ١٣) و قال تعالى:( وَ نُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَ أَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ ) (الأنعام: ١١٠) و قال تعالى:( وَ مَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ ) (البقرة: ١٣٠) أي لا يترك مقتضيّات الفطرة إلّا من فسد عقله فسلك غير سبيله.

و الاعتبار يساعد هذا التلازم الّذي بين العقل و التقوى، فإنّ الإنسان إذا اُصيب في قوّته النظريّة فلم يدرك الحقّ حقّاً أو لم يدرك الباطل باطلاً فكيف يلهم بلزوم هذا أو اجتناب ذاك؟ كمن يرى أن ليس وراء الحياة المادّيّة المعجّلة شي‏ء فإنّه لا يلهم التقوى الدينيّ الّذي هو خير زاد للعيشة الآخرة.

و كذلك الإنسان إذا فسد دينه الفطريّ و لم يتزوّد من التقوى الدينيّ لم تعتدل قواه الداخليّة المحسّة من شهوة أو غضب أو محبّة أو كراهة و غيرها، و مع اختلال أمر هذه القوى لا تعمل قوّة الإدراك النظريّة عملها عملاً مرضيّاً.

و البيانات القرآنيّة تجري في بثّ المعارف الدينيّة و تعليم الناس العلم النافع هذا المجرى، و تراعي الطرق المتقدّمة الّتي عيّنتها للحصول على المعلومات، فما كان من

٣٣٧

الجزئيّات الّتي لها خواصّ تقبل الإحساس فإنّها تصريح فيها إلى الحواسّ كالآيات المشتملة على قوله:( أَ لَمْ تَرَ أَ فَلا يَرَوْنَ أَ فَرَأَيْتُمْ، أَ فَلا تُبْصِرُونَ ) و غير ذلك و ما كان من الكلّيّات العقليّة ممّا يتعلّق بالاُمور الكلّيّة المادّيّة أو الّتي هي وراء عالم الشهادة فإنّها تعتبر فيها العقل اعتباراً جازماً و إن كانت غائبة عن الحسّ خارجة عن محيط المادّة و المادّيّات، كغالب الآيات الراجعة إلى المبدأ و المعاد المشتملة على أمثال قوله:( لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ) ،( لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ) ،( لقوم يتذكرون ) ،( يَفْقَهُونَ ) ، و غيرها، و ما كان من القضايا العمليّة الّتي لها مساس بالخير و الشرّ و النافع و الضارّ في العمل و التقوى و الفجور فإنّها تستند فيها إلى الإلهام الإلهيّ بذكر ما بتذكّره يشعر الإنسان بإلهامه الباطنيّ كالآيات المشتملة على مثل قوله:( ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ، فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ فِيهِما إِثْمٌ وَ الْإِثْمَ وَ الْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ إِنَّ الله لا يَهْدِي ) و غيرها، و عليك بالتدبّر فيها.

و من هنا يظهر أوّلاً: أنّ القرآن الكريم يخطّئ طريق الحسّيّين و هم المعتمدون على الحسّ و التجربة، النافون للأحكام العقليّة الصرفة في الأبحاث العلميّة، و ذلك أنّ أوّل ما يهتمّ القرآن به في بيانه هو أمر توحيد الله عزّ اسمه، ثمّ يرجع إليه و يبتني عليه جميع المعارف الحقيقيّة الّتي يبيّنها و يدعو إليها.

و من المعلوم أنّ التوحيد أشدّ المسائل ابتعاداً من الحسّ، و بينونة للمادّة و ارتباطاً بالأحكام العقليّة الصرفة.

و القرآن يبيّن أنّ هذه المعارف الحقيقيّة من الفطرة قال:( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ الله الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله ) (الروم: ٣٠) أي إنّ الخلقة الإنسانيّة نوع من الإيجاد يستتبع هذه العلوم و الإدراكات، و لا معنى لتبديل خلق إلّا أن يكون نفس التبديل أيضاً من الخلق و الإيجاد، و أمّا تبديل الإيجاد المطلق أي إبطال حكم الواقع فلا يتصوّر له معنى فلن يستطيع الإنسان، (و حاشا ذلك) أن يبطل علومه الفطريّة، و يسلك في الحياة سبيلاً آخر غير سبيلها البتّة، و أمّا الانحراف المشهود عن أحكام الفطرة فليس إبطالاً لحكمها بل استعمالاً لها في غير ما ينبغي من نحو الاستعمال نظير ما ربّما يتّفق أنّ الرامي لا يصيب الهدف في رميته فإنّ آلة الرمي

٣٣٨

و سائر شرائطه موضوعة بالطبع للإصابة إلّا أنّ الاستعمال يوقعها في الغلط، و السكاكين و المناشير و المثاقب و الإبر و أمثالها إذا عبّئت في الماكينات تعبئة معوّجة تعمل عملها الّذي فطرت عليه بعينه من قطع أو نشر أو ثقب و غير ذلك لكن لا على الوجه المقصود، و أمّا الانحراف عن العمل الفطريّ كان يخاط بنشر المنشار، بأن يعوّض المنشار فعل الإبرة من فعل نفسه، فيضع الخياطة موضع النشر، فمن المحال ذلك.

و هذا ظاهر لمن تأمّل عامّة ما استدلّ به القوم على صحّة طريقهم كقولهم: إنّ الأبحاث العقليّة المحضة، و القياسات المؤلّفة من مقدّمات بعيدة من الحسّ يكثر وقوع الخطإ فيها كما يدلّ عليه كثرة الاختلافات في المسائل العقليّة المحضة فلا ينبغي الاعتماد عليها لعدم اطمينان النفس إليها.

و قولهم في الاستدلال على صحّة طريق الحسّ و التجربة: إنّ الحسّ آلة لنيل خواص الأشياء بالضرورة و إذا اُحس بأثر في موضوع من الموضوعات على شرائط مخصوصة ثمّ تكرّر مشاهدة الأثر معه مع حفظ تلك الشرائط بعينها من غير تخلّف و اختلاف كشف ذلك عن أنّ هذا الأثر خاصّة الموضوع من غير اتّفاق لأنّ الاتّفاق لا يدوم البتّة.

و الدليلان كما ترى سيقا لإثبات وجوب الاعتماد على الحسّ و التجربة و رفض السلوك العقليّ المحض مع كون المقدّمات المأخوذة فيهما جميعاً مقدّمات عقليّة خارجة عن الحسّ و التجربة ثمّ اُريد بالأخذ بهذه المقدّمات العقليّة إبطال الأخذ بها، و هذا هو الّذي تقدّم أنّ الفطرة لن تبطل البتّة و إنّما يغلط الإنسان في كيفيّة استعمالها!.

و أفحش من ذلك استعمال التجربة في تشخيص الأحكام المشرّعة و القوانين الموضوعة كأن يوضع حكم ثمّ يجري بين الناس يختبر بذلك حسن أثره بإحصاء و نحوه فإن غلب على موارد جريانه حسن النتيجة اُخذ حكماً ثابتاً جارياً و إلّا اُلقى في جانب و اُخذ آخر كذلك و هكذا، و نظيره فيه جعل الحكم بقياس أو استحسان.(١)

____________________

(١) و أمّا القياس الفقهي و الاستحسان و ما يسمّى بشم الفقاهة فهي أمارات لاستكشاف الحكم لا لجعلها، و البحث عنها موكول إلى فنّ الاُصول.

٣٣٩

و القرآن يبطل ذلك كلّه بإثبات أنّ الأحكام المشرّعة فطريّة بيّنة، و التقوى و الفجور العامّين إلهاميّان علميّان، و أنّ تفاصيلها ممّا يجب أخذه من ناحية الوحي، قال تعالى:( وَ لا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ) (إسراء: ٣٦) و قال:( وَ لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ ) (البقرة: ١٦٨) و القرآن يسمّى الشريعة المشرّعة حقّاً قال تعالى:( أَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ ) (البقرة: ٢١٣) و قال:( وَ إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً ) (النجم: ٢٨) و كيف يغني و في اتّباعه مخافة الوقوع في خطر الباطل و هو الضلال؟ قال:( فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ ) (يونس: ٣٢) و قال:( فَإِنَّ الله لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ ) (النحل: ٣٧) أي إنّ الضلال لا يصلح طريقاً يوصل الإنسان إلى خير و سعادة فمن أراد أن يتوسّل بباطل إلى حقّ أو بظلم إلى عدل أو بسيّئة إلى حسنة أو بفجور إلى تقوى فقد أخطأ الطريق، و طمع من الصنع و الإيجاد الّذي هو الأصل للشرائع و القوانين فيما لا يسمح له بذلك البتّة، و لو أمكن ذلك لجرى في خواصّ الأشياء المتضادّة، و تكفّل أحد الضدّين ما هو من شأن الآخر من العمل و الأثر.

و كذلك القرآن يبطل طريق التذكّر الّذي فيه إبطال السلوك العلميّ الفكريّ و عزل منطق الفطرة، و قد تقدّم الكلام في ذلك.

و كذلك القرآن يحظر على الناس التفكّر من غير مصاحبة تقوى الله سبحانه، و قد تقدّم الكلام فيه أيضاً في الجملة، و لذلك ترى القرآن فيما يعلّم من شرائع الدين يشفّع الحكم الّذي يبيّنه بفضائل أخلاقيّة و خصال حميدة تستيقظ بتذكّرها في الإنسان غريزة تقواه، فيقوى على فهم الحكم و فقهه، و اعتبر ذلك في أمثال قوله تعالى:( وَ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِالله وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكُمْ أَزْكى‏ لَكُمْ وَ أَطْهَرُ وَ الله يَعْلَمُ وَ أَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) (البقرة: ٢٣٢) و قوله تعالى:( وَ قاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَ يَكُونَ الدِّينُ لله فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ ) (البقرة: ١٩٣) و قوله تعالى:( وَ أَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى‏ عَنِ الْفَحْشاءِ وَ الْمُنْكَرِ وَ لَذِكْرُ الله أَكْبَرُ وَ الله يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ ) (العنكبوت: ٤٥).

٣٤٠

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444