الميزان في تفسير القرآن الجزء ٥

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 444

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 444
المشاهدات: 86821
تحميل: 10312


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 444 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 86821 / تحميل: 10312
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 5

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

من أهل البصرة قد أفسد في الأرض و حارب، و كلّم رجالاً من قريش أن يستأمنوا له عليّاً فأبوا فأتى سعيد بن قيس الهمدانيّ فأتى عليّاً فقال: يا أميرالمؤمنين ما جزاء الّذين يحاربون الله و رسوله و يسعون في الأرض فساداً؟ قال: أن يقتّلوا أو يصلّبوا أو تقطّع أيديهم و أرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ثمّ قال: إلّا الّذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم.

فقال سعيد: و إن كان حارثة بن بدر، فقال سعيد: هذا حارثة بن بدر قد جاء تائباً فهو آمن؟ قال: نعم، قال: فجاء به إليه فبايعه و قبل ذلك منه و كتب له أماناً.

أقول: قول سعيد في الرواية:( و إن كان حارثة بن بدر) ضميمة ضمّها إلى الآية لإبانة إطلاقها لكلّ تائب بعد المحاربة و الإفساد و هذا كثير في الكلام.

و في الكافي، بإسناده عن سورة بني كليب قال: قلت لأبي عبداللهعليه‌السلام : رجل يخرج من منزله يريد المسجد أو يريد حاجة فيلقاه رجل فيستقفيه فيضربه فيأخذ ثوبه؟ قال: أيّ شي‏ء يقول فيه من قبلكم؟ قلت: يقولون: هذه ذعارة معلنة و إنّما المحارب في قرى مشركة، فقال: أيّها أعظم حرمة: دار الإسلام أو دار الشرك؟ قال: فقلت: دار الإسلام فقال: هؤلاء من أهل هذه الآية:( إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ الله وَ رَسُولَهُ ) إلى آخر الآية.

أقول: ما أشار إليه الراوي من قول القوم هو الّذي وقع في بعض روايات الجمهور كما في بعض روايات سبب النزول عن الضحّاك قال: نزلت هذه الآية في المشركين، و ما في تفسير الطبريّ: أنّ عبدالملك بن مروان كتب إلى أنس يسأله عن هذه الآية فكتب إليه أنس يخبره: أنّ هذه الآية نزلت في اُولئك النفر من العرنيّين و هم من بجيلة، قال أنس: فارتدّوا عن الإسلام، و قتلوا الراعي، و استاقوا الإبل، و أخافوا السبيل، و أصابوا الفرج الحرام فسأل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جبرئيل عن القضاء فيمن حارب فقال: من سرق و أخاف السبيل و استحلّ الفرج الحرام فاصلبه، إلى غير ذلك من الروايات.

٣٦١

و الآية بإطلاقها تؤيّد ما في خبر الكافي، و من المعلوم أنّ سبب النزول لا يوجب تقيّد ظاهر الآية.

و في تفسير القمّيّ، في قوله تعالى:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا الله وَ ابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ ) (الآية) قال: فقال: تقرّبوا إليه بالإمام.

أقول: أي بطاعته فهو من قبيل الجري و الانطباق على المصداق، و نظيره ما عن ابن شهر آشوب قال: قال أميرالمؤمنينعليه‌السلام : في قوله تعالى:( وَ ابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ ) أنا وسيلته.

و قريب منه ما في بصائر الدرجات، بإسناده عن سلمان عن عليّعليه‌السلام ، و يمكن أن يكون الروايتان من قبيل التأويل فتدبّر فيهما.

و في المجمع: روي عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : سلوا الله لي الوسيلة فإنّها درجة في الجنّة لا ينالها إلّا عبد واحد و أرجو أن أكون أنا هو.

و في المعاني، بإسناده عن أبي سعيد الخدريّ قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إذا سألتم الله فاسألوا لي الوسيلة، فسألنا النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن الوسيلة، فقال: هي درجتي في الجنّة (الحديث) و هو طويل معروف بحديث الوسيلة.

و أنت إذا تدبّرت الحديث، و انطباق معنى الآية عليه وجدت أنّ الوسيلة هي مقام النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من ربّه الّذي به يتقرّب هو إليه تعالى، و يلحق به آله الطاهرون ثمّ الصالحون من اُمّته، و قد ورد في بعض الروايات عنهمعليهم‌السلام : أنّ رسول الله آخذ بحجزة ربّه و نحن آخذون بحجزته، و أنتم آخذون بحجزتنا.

و إلى ذلك يرجع ما ذكرناه في روايتي القمّيّ و ابن شهر آشوب أنّ من المحتمل أن تكونا من التأويل، و لعلّنا نوفّق لشرح هذا المعنى في موضع يناسبه ممّا سيأتي.

و من الملحق بهذه الروايات‏ ما رواه العيّاشيّ عن أبي بصير قال: سمعت أباجعفرعليه‌السلام يقول: عدوّ عليّ هم المخلدون في النار قال الله:( وَ ما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها ) .

و في البرهان، في قوله تعالى:( وَ السَّارِقُ وَ السَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما ) (الآية):

٣٦٢

عن التهذيب، بإسناده عن أبي إبراهيمعليه‌السلام قال: تقطع يد السارق و يترك إبهامه و راحته، و تقطع رجله و يترك عقبه يمشي عليها.

و في التهذيب، أيضاً بإسناده عن محمّد بن مسلم قال: قلت لأبي عبداللهعليه‌السلام : في كم تقطع يد السارق؟ فقال: في ربع دينار. قال: قلت له: في درهمين؟ فقال: في ربع دينار بلغ الدينار ما بلغ. قال: فقلت له: أ رأيت من سرق أقلّ من ربع الدينار هل يقع عليه حين سرق اسم السارق؟ و هل هو عندالله سارق في تلك الحال؟ فقال: كلّ من سرق من مسلم شيئاً قد حواه و أحرزه فهو يقع عليه اسم السارق، و هو عندالله سارق و لكن لا تقطع إلّا في ربع دينار أو أكثر، و لو قطعت يد السارق فيما هو أقلّ من ربع دينار لألفيت عامّة الناس مقطّعين.

أقول: يريدعليه‌السلام بقوله: و لو قطعت يد السارق إلخ أنّ في حكم القطع تخفيفاً من الله رحمة منه لعباده، و هذا المعنى أعني اختصاص الحكم بسرقة ربع دينار أو أكثر مرويّ ببعض طرق الجمهور أيضاً ففي صحيحي البخاريّ و مسلم، بإسنادهما عن عائشة أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: لا يقطع يد السارق إلّا في ربع دينار فصاعداً.

و في تفسير العيّاشيّ، عن سماعة عن أبي عبداللهعليه‌السلام : أنّه قال: إذا اُخذ السارق فقطع وسط الكفّ فإن عاد قطعت رجله من وسط القدم فإن عاد استودع السجن فإن سرق في السجن قتل.

و فيه، عن زرارة عن أبي جعفرعليه‌السلام : عن رجل سرق و قطعت يده اليمنى ثمّ سرق فقطعت رجله اليسرى ثمّ سرق الثالثة؟ قال: كان أميرالمؤمنينعليه‌السلام يخلّده في السجن و يقول: إنّي لأستحيي من ربّي أن أدعه بلا يد يستنظف بها و لا رجل يمشي بها إلى حاجته.

قال: فكان إذا قطع اليد قطعها دون المفصل، و إذا قطع الرجل قطعها دون الكعبين قال: و كان لا يرى أن يغفل عن شي‏ء من الحدود.

و فيه: عن زرقان صاحب ابن أبي دواد و صديقه بشدّة قال: رجع ابن أبي دواد ذات يوم من عند المعتصم، و هو مغتمّ فقلت له في ذلك فقال: وددت اليوم أنّي قدمتّ

٣٦٣

منذ عشرين سنة قال: قلت له: و لم ذاك؟ قال: لما كان من هذا الأسود أباجعفر محمّد بن عليّ بن موسى اليوم بين يدي أميرالمؤمنين المعتصم قال: قلت: و كيف كان ذلك؟ قال: إنّ سارقاً أقرّ على نفسه بالسرقة و سأل الخليفة تطهيره بإقامة الحدّ عليه فجمع لذلك الفقهاء في مجلسه، و قد أحضر محمّد بن عليّ فسألنا عن القطع في أيّ موضع يجب أن يقطع؟ قال: فقلت: من الكرسوع لقول الله في التيمّم:( فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَ أَيْدِيكُمْ ) و اتّفق معي على ذلك قوم.

و قال آخرون: بل يجب القطع من المرفق قال: و ما الدليل على ذلك؟ قالوا: لأنّ الله لمّا قال:( وَ أَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ ) في الغسل دلّ على ذلك أنّ حدّ اليد هو المرفق.

قال: فالتفت إلى محمّد بن عليّ فقال: ما تقول في هذا يا أباجعفر؟ فقال: قد تكلّم القوم فيه يا أميرالمؤمنين قال: دعني بما تكلّموا به أيّ شي‏ء عندك؟ قال: اعفني عن هذا يا أميرالمؤمنين قال: أقسمت عليك بالله لمّا أخبرت بما عندك فيه، فقال: أمّا إذا أقسمت عليّ بالله إنّي أقول: إنّهم أخطأوا فيه السنّة، فإنّ القطع يجب أن يكون من مفصل اُصول الأصابع فتترك الكفّ، قال: و ما الحجّة في ذلك؟ قال: قول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : السجود على سبعة أعضاء: الوجه، و اليدين، و الركبتين، و الرجلين فإذا قطعت يده من الكرسوع أو المرفق لم يبق له يد يسجد عليها، و قال الله تبارك و تعالى:( وَ أَنَّ الْمَساجِدَ لله ) يعني هذه الأعضاء السبعة الّتي يسجد عليها( فَلا تَدْعُوا مَعَ الله أَحَداً ) و ما كان لله لم يقطع. قال: فأعجب المعتصم ذلك فأمر بقطع يد السارق من مفصل الأصابع دون الكفّ. قال ابن أبي دواد: قامت قيامتي و تمنّيت أنّي لم أك حيّاً.

قال ابن أبي زرقان: إنّ ابن أبي دواد قال: صرت إلى المعتصم بعد ثالثة فقلت: إنّ نصيحة أميرالمؤمنين عليّ واجبة و أنا اُكلّمه بما أعلم أنّي أدخل به النار قال: و ما هو؟ قلت: إذا جمع أميرالمؤمنين في مجلسه فقهاء رعيّته و علماءهم لأمر واقع من اُمور الدين فسألهم عن الحكم فيه فأخبروه بما عندهم من الحكم في ذلك، و قد حضر المجلس بنوه و قوّاده و وزراؤه و كتّابه، و قد تسامع الناس بذلك من وراء بابه ثمّ يترك أقاويلهم

٣٦٤

كلّهم لقول رجل يقول شطر هذه الاُمّة بإمامته، و يدّعون أنّه اُولى منه بمقامه ثمّ يحكم بحكمه دون حكم الفقهاء؟ قال: فتغيّر لونه، و انتبه لما نبّهته له، و قال: جزاك الله عن نصيحتك خيراً.

قال: فأمر اليوم الرابع فلاناً من كتّاب وزرائه بأن يدعوه إلى منزله فدعاه فأبى أن يجيبه، و قال: قد علمت أنّي لا أحضر مجالسكم فقال: إنّي إنّما أدعوك إلى الطعامّ و اُحبّ أن تطأ ثيابي و تدخل منزلي فأتبرّك بذلك و قد: اُحبّ فلان بن فلان من وزراء الخليفة لقائك فصار إليه فلمّا اُطعم منها أحسّ مآلم السمّ فدعا بدابّته فسأله ربّ المنزل أن يقيم قال: خروجي من دارك خير لك، فلم يزل يومه ذلك و ليلته في خلفه حتّى قبض.

أقول: و رويت القصّة بغيره من الطرق، و إنّما أوردنا الرواية بطولها كبعض ما تقدّمها من الروايات المتكرّرة لاشتمالها على أبحاث قرآنيّة دقيقة يستعان بها على فهم الآيات.

و في الدرّ المنثور، أخرج أحمد و ابن جرير و ابن أبي حاتم عن عبدالله بن عمر: أنّ امرأة سرقت على عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقطعت يدها اليمنى فقالت: هل لي من توبة يا رسول الله؟ قال: نعم أنت اليوم من خطيئتك كيوم ولدتك اُمّك، فنزل الله في سورة المائدة:( فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَ أَصْلَحَ فَإِنَّ الله يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ الله غَفُورٌ رَحِيمٌ ) .

أقول: الرواية من قبيل التطبيق و اتّصال الآية بما قبلها، و نزولهما معاً ظاهر.

٣٦٥

( سورة المائدة الآيات ٤١ - ٥٠)

يَا أَيّهَا الرّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الّذِينَ قَالُوا آمَنّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الّذِينَ هَادُوا سَمّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَن يُرِدِ اللّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللّهِ شَيْئاً أُولئِكَ الّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللّهُ أَن يُطَهّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ( ٤١) سَمّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكّالُونَ لِلسّحْتِ فَإِن جَاؤوكَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ إِنّ اللّهَ يُحِبّ الْمُقْسِطِينَ( ٤٢) وَكَيْفَ يُحَكّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللّهِ ثُمّ يَتَوَلّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَمَا أُوْلئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ( ٤٣) إِنّا أَنْزَلْنَا التّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النّبِيّونَ الّذِينَ أَسْلَمُوا لِلّذِينَ هَادُوا وَالرّبّانِيّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِن كِتَابِ اللّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلاَ تَخْشَوُا النّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلاَ تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَن لَمْ يَحْكُم بِمَا أَنْزَلَ اللّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ( ٤٤) وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنّ النّفْسَ بِالنّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسّنّ بِالسّنّ وَالجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدّقَ بِهِ فَهُوَ كَفّارَةٌ لَهُ وَمَن لَمْ يَحْكُم بِمَا أَنْزَلَ اللّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ( ٤٥) وَقَفّيْنَا عَلَى‏ آثَارِهِم بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التّوْرَاةِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتّقِينَ( ٤٦) وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللّهُ فِيهِ وَمَن لَمْ يَحْكُم بِمَا أَنْزَلَ

٣٦٦

اللّهُ فَأُوْلئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ( ٤٧) وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقّ مُصَدّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنْزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمّا جَاءَكَ مِنَ الحَقّ لِكُلّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاءَ اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمّةً وَاحِدَةً وَلكِن لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ( ٤٨) وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلّوْا فَاعْلَمْ أَنّمَا يُرِيدُ اللّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنّ كَثِيراً مِنَ النّاسِ لَفَاسِقُونَ( ٤٩) أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ( ٥٠)

( بيان)

الآيات متّصلة الأجزاء يرتبط بعضها ببعض ذات سياق واحد يلوح منه أنّها نزلت في طائفة من أهل الكتاب حكّموا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في بعض أحكام التوراة و هم يرجون أن يحكم فيهم بخلاف ما حكمت به التوراة فيستريحوا إليه فراراً من حكمها قائلين بعضهم لبعض:( إِنْ أُوتِيتُمْ هذا - أي ما يوافق هواهم -فَخُذُوهُ وَ إِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ - أي اُوتيتم حكم التوراة -فَاحْذَرُوا ) .

و أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أرجعهم إلى حكم التوراة فتولّوا عنه، و أنّه كان هناك طائفة من المنافقين يميلون إلى مثل ما يميل إليه اُولئك المحكّمون المستفتون من أهل الكتاب يريدون أن يفتنوا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيحكم بينهم على الهوى و رعاية جانب الأقوياء و هو حكم الجاهليّة، و من أحسن حكماً من الله لقوم يوقنون؟ و بذلك يتأيّد ما ورد في أسباب النزول أنّ الآيات نزلت في اليهود حين زنا منهم محصنان من أشرافهم، و أراد أحبارهم أن يبدّلوا حكم الرجم الّذي في التوراة الجلد، فبعثوا من يسأل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن حكم زنا المحصن، و وصّوهم إن هو حكم بالجلد أن يقبلوه، و إن حكم بالرجم أن يردّوه فحكم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالرجم فتولّوا عنه فسألصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ابن صوريا

٣٦٧

عن حكم التوراة في ذلك و أقسمه بالله و آياته أن لا يكتم ما يعلمه من الحقّ فصدّق رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأنّ حكم الرجم موجود في التوراة (القصّة) و سيجي‏ء في البحث الروائيّ الآتي إن شاء الله تعالى.

و الآيات مع ذلك مستقلّة في بيانها غير مقيّدة فيما أفادها بسبب النزول، و هذا شأن الآيات القرآنيّة ممّا نزلت لأسباب خاصّة من الحوادث الواقعة، ليس لأسباب نزولها منها إلّا ما لواحد من مصاديقها الكثيرة من السهم، و ليس إلّا لأنّ القرآن كتاب عامّ دائم لا يتقيّد بزمان أو مكان، و لا يختصّ بقوم أو حادثة خاصّة، و قال تعالى:( إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ ) (يوسف: ١٠٤) و قال تعالى:( تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى‏ عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً ) (الفرقان: ١) و قال تعالى:( وَ إِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لا مِنْ خَلْفِهِ ) (فصّلت: ٤٢).

قوله تعالى: ( يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ ) ، تسلية للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و تطييب لنفسه ممّا لقي من هؤلاء المذكورين في الآية، و هم الّذين يسارعون في الكفر أي يمشون فيه المشية السريعة، و يسيرون فيه السير الحثيث، تظهر من أفعالهم و أقوالهم موجبات الكفر واحدة بعد اُخرى فهم كافرون مسارعون في كفرهم، و المسارعة في الكفر غير المسارعة إلى الكفر.

و قوله:( مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَ لَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ ) بيان لهؤلاء الّذين يسارعون في الفكر أي من المنافقين، و في وضع هذا الوصف موضع الموصوف إشارة إلى علّة النهي كما أنّ الأخذ بالوصف السابق أعني قوله:( الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ ) للإشارة إلى علّة المنهي عنه، و المعنى - و الله أعلم -: لا يحزنك هؤلاء بسبب مسارعتهم في الكفر فإنّهم إنّما آمنوا بألسنتهم لا بقلوبهم و ما اُولئك بالمؤمنين، و كذلك اليهود الّذين جاؤك و قالوا ما قالوا.

و قوله:( وَ مِنَ الَّذِينَ هادُوا ) عطف على قوله:( مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا ) إلخ على ما يفيده السياق، و ليس من الاستيناف في شي‏ء، و على هذا فقوله:( سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ ) خبر لمبتدء محذوف أي هم سمّاعون إلخ.

٣٦٨

و هذه الجمل المتّسقة بيان حال الّذين هادوا، و أمّا المنافقون المذكورون في صدر الآية فحالهم لا يوافق هذه الأوصاف كما هو ظاهر.

فهؤلاء المذكورون من اليهود هم سمّاعون للكذب أي يكثرون من سماع الكذب مع العلم بأنّه كذب، و إلّا لم يكن صفة ذمّ، و هم كثير السمع لقوم آخرين لم يأتوك، يقبلون منهم كلّ ما ألقوه إليهم و يطيعونهم في كلّ ما أرادوه منهم، و اختلاف معنى السمع هو الّذي أوجب تكرار قوله:( سَمَّاعُونَ ) فإنّ الأوّل يفيد معنى الإصغاء و الثانية معنى القبول.

و قوله:( يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ ) أي بعد استقرارها في مستقرّها و الجملة صفة لقوله:( لِقَوْمٍ آخَرِينَ ) و كذا قوله:( يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَ إِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا ) .

و يتحصّل من المجموع أنّ عدّة من اليهود ابتلوا بواقعة دينيّة فيما بينهم، لها حكم إلهيّ عندهم لكنّ علماءهم غيّروا الحكم بعد ثبوته ثمّ بعثوا طائفة منهم إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و أمروهم أن يحكّموه في الواقعة فإن حكم بما أنبأهم علماؤهم من الحكم المحرّف فليأخذوه و إن حكم بغير ذلك فليحذروا.

و قوله:( وَ مَنْ يُرِدِ الله فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ الله شَيْئاً ) الظاهر أنّها معترضة يبيّن بها أنّهم في أمرهم هذا مفتونون بفتنة إلهيّة، فلتطب نفس النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأنّ الأمر من الله و إليه و ليس يملك منه تعالى شي‏ء في ذلك، و لا موجب للتحزّن فيما لا سبيل إلى التخلّص منه.

و قوله:( أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ الله أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ ) فقلوبهم باقية على قذارتها الأوّليّة لما تكرّر منهم من الفسق بعد الفسق فأضلّهم الله به، و ما يضلّ به إلّا الفاسقين.

و قوله:( لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ ) إيعاد لهم بالخزي في الدنيا و قد فعل بهم، و بالعذاب العظيم في الآخرة.

قوله تعالى:( سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ ) قال الراغب في المفردات:

٣٦٩

السحت القشر الّذي يستأصل، قال تعالى:( فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ ) و قرئ:( فَيُسْحِتَكُمْ ) (أي بفتح الياء) يقال: سحته و أسحته، و منه السحت للمحظور الّذي يلزم صاحبه العار كأنّه يسحت دينه و مروءته، قال تعالى:( أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ ) أي لما يسحت دينهم، و قالعليه‌السلام : كلّ لحم نبت من سحت فالنار اُولى به، و سمّي الرشوة سحتاً. انتهى.

فكلّ مال اكتسب من حرام فهو سحت، و السياق يدلّ على أنّ المراد بالسحت في الآية هو الرشا و يتبيّن من إيراد هذا الوصف في المقام أنّ علماءهم الّذين بعثوا طائفة منهم إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كانوا قد أخذوا في الواقعة رشوة لتحريف حكم الله فقد كان الحكم ممّا يمكن أن يتضرّر به بعضه فسدّ الباب بالرشوة، فأخذوا الرشوة و غيّروا حكم الله تعالى.

و من هنا يظهر أنّ قوله تعالى:( سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ ) باعتبار المجموع وصف لمجموع القوم، و أمّا بحسب التوزيع فقوله:( سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ ) وصف لقوله:( الَّذِينَ هادُوا ) و هم المبعوثون إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و من في حكمهم من التابعين، و قوله:( أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ ) وصف لقوم آخرين، و المحصّل أنّ اليهود منهم علماء يأكلون الرشا، و عامّة مقلّدون سماعون لأكاذيبهم.

قوله تعالى: ( فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ ) إلى آخر الآية تخيير للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بيّن أن يحكم بينهم إذا حكّموه أو يعرض عنهم، و من المعلوم أنّ اختيار أحد الأمرين لم يكن يصدر منهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلّا لمصلحة داعية فيؤول إلى إرجاع الأمر إلى نظر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و رأيه.

ثمّ قرّر تعالى هذا التخيير بأنّه ليس عليهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ضرر لو ترك الحكم فيهم و أعرض عنهم، و بيّن له أنّه لو حكم بينهم فليس له أن يحكم إلّا بالقسط و العدل.

فيعود المضمون بالآخرة إلى أنّ الله سبحانه لا يرضى أن يجري بينهم إلّا حكمه فإمّا أن يجري فيهم ذلك أو يهمل أمرهم فلا يجري من قبلهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حكم آخر.

قوله تعالى: ( وَ كَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَ عِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ الله ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَ ما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ ) تعجيب من فعالهم أنّهم اُمّة ذات كتاب و شريعة و هم

٣٧٠

منكرون لنبوّتك و كتابك و شريعتك ثمّ يبتلون بواقعة في كتابهم حكم الله فيها، ثمّ يتولّون بعد ما عندهم التوراة فيها حكم الله و الحال أنّ اُولئك المبتعدين من الكتاب و حكمه ليسوا بالّذين يؤمنون بذلك.

و على هذا المعنى فقوله:( ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ ) أي عن حكم الواقعة مع كون التوراة عندهم و فيها حكم الله، و قوله:( وَ ما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ ) أي بالّذين يؤمنون بالتوراة و حكمها، فهم تحوّلوا من الإيمان بها و بحكمها إلى الكفر.

و يمكن أن يفهم من قوله:( ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ ) ، التولّي عمّا حكم به النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و من قوله:( وَ ما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ ) نفي الإيمان بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على ما كان يظهر من رجوعهم إليه و تحكيمهم إيّاه، أو نفي الإيمان بالتوراة و بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جميعاً، لكنّ ما تقدّم من المعنى أنسب لسياق الآيات.

و في الآية تصديق مّا للتوراة الّتي عند اليهود اليوم، و هي الّتي جمعها لهم عزراء بإذن( كورش) ملك إيران بعد ما فتح بابل، و أطلق بني إسرائيل من أسر البابليّين و أذن لهم في الرجوع إلى فلسطين و تعمير الهيكل، و هي الّتي كانت بيدهم في زمن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و هي الّتي بيدهم اليوم، فالقرآن يصدّق أنّ فيها حكم الله، و هو أيضاً يذكر أنّ فيها تحريفاً و تغييراً.

و يستنتج من الجميع: أنّ التوراة الموجودة الدائرة بينهم اليوم فيها شي‏ء من التوراة الأصليّة النازلة على موسىعليه‌السلام و اُمور حرّفت و غيّرت إمّا بزيادة أو نقصان أو تغيير لفظ أو محلّ أو غير ذلك، و هذا هو الّذي يراه القرآن في أمر التوراة، و البحث الوافي عنها أيضاً يهدي إلى ذلك.

قوله تعالى: ( إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَ نُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ ) إلخ بمنزلة التعليل لما ذكر في الآية السابقة، و هي و ما بعدها من الآيات تبيّن أنّ الله سبحانه شرع لهذه الاُمم على اختلاف عهودهم شرائع، و أودعها في كتب أنزلها إليهم ليهتدوا بها و يتبصّروا بسببها، و يرجعوا إليها فيما اختلفوا فيه، و أمر الأنبياء و العلماء منهم أن يحكموا بها، و يتحفّظوا عليها و يقوها من التغيير و التحريف، و لا يطلبوا في

٣٧١

الحكم ثمناً ليس إلّا قليلاً، و لا يخافوا فيها إلّا الله سبحانه و لا يخشوا غيره.

و أكّد ذلك عليهم و حذّرهم اتّباع الهوى، و تفتين أبناء الدنيا، و إنّما شرّع من الأحكام مختلفاً باختلاف الاُمم و الأزمان ليتمّ الامتحان الإلهيّ فإنّ استعداد الأزمان مختلف بمرور الدهور، و لا يستكمل المختلفان في الاستعداد شدّة و ضعفاً بمكمّل واحد من التربية العلميّة و العمليّة على وتيرة واحدة.

فقوله:( إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَ نُورٌ ) أي شي‏ء من الهداية يهتدي بها، و شي‏ء من النور يتبصّر به من المعارف و الأحكام على حسب حال بني إسرائيل، و مبلغ استعدادهم، و قد بيّن الله سبحانه في كتابه عامّة أخلاقهم، و خصوصيّات أحوال شعبهم و مبلغ فهمهم، فلم ينزل إليهم من الهداية إلّا بعضها و من النور إلّا بعضه لسبق عهدهم و قدمة اُمّتهم، و قلّة استعدادهم، قال تعالى:( وَ كَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْ‏ءٍ مَوْعِظَةً وَ تَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْ‏ءٍ ) (الأعراف: ١٤٥).

و قوله:( يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا ) إنّما وصف النبيّين بالإسلام و هو التسليم لله، الّذي هو الدين عندالله سبحانه للإشارة إلى أنّ الدين واحد، و هو الإسلام لله و عدم الاستنكاف عن عبادته، و ليس لمؤمن بالله - و هو مسلم له - أن يستكبر عن قبول شي‏ء من أحكامه و شرائعه.

و قوله:( وَ الرَّبَّانِيُّونَ وَ الْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ الله وَ كانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ ) أي و يحكم بها الربّانيّون و هم العلماء المنقطعون إلى الله علماً و عملاً، أو الّذين إليهم تربية الناس بعلومهم بناءً على اشتقاق اللّفظ من الربّ أو التربية، و الأحبار و هم الخبراء من علمائهم يحكمون بما أمرهم الله به و أراده منهم أن يحفظوه من كتاب الله، و كانوا من جهة حفظهم له و تحمّلهم إيّاه شهداء عليه لا يتطرّق إليه تغيير و تحريف لحفظهم له في قلوبهم، فقوله:( وَ كانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ ) بمنزلة النتيجة لقوله:( بِمَا اسْتُحْفِظُوا ) إلخ أي اُمروا بحفظه فكانوا حافظين له بشهادتهم عليه.

و ما ذكرناه من معنى الشهادة هو الّذي يلوح من سياق الآية، و ربّما قيل: إنّ المراد بها الشهادة على حكم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الرجم أنّه ثابت في التوراة، و قيل:

٣٧٢

إنّ المراد الشهادة على الكتاب أنّه من عندالله وحده لا شريك له، و لا شاهد من جهة السياق يشهد على شي‏ء من هذين المعنيين.

و أمّا قوله تعالى:( فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَ اخْشَوْنِ وَ لا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا ) فهو متفرّع على قوله:( إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَ نُورٌ يَحْكُمُ بِهَا ) ، أي لمّا كانت التوراة منزّلة من عندنا مشتملة على شريعة يقضي بها النبيّون و الربّانيّون و الأحبار بينكم فلا تكتموا شيئاً منها و لا تغيّروها خوفاً أو طمعاً، أمّا خوفاً فبأن تخشوا الناس و تنسوا ربّكم بل الله فاخشوا حتّى لا تخشوا الناس، و أمّا طمعاً فبأن تشتروا بآيات الله ثمناً قليلاً هو مال أو جاه دنيويّ زائل باطل.

و يمكن أن يكون متفرّعاً على قوله:( بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ الله وَ كانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ ) بحسب المعنى لأنّه في معنى أخذ الميثاق على الحفظ أي أخذنا منهم الميثاق على حفظ الكتاب و أشهدناهم عليه أن لا يغيّروه و لا يخشوا في إظهاره غيري، و لا يشتروا بآياتي ثمناً قليلاً، قال تعالى:( وَ إِذْ أَخَذَ الله مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَ لا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَ اشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا ) (آل عمران: ١٨٧) و قال تعالى:( فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى‏ وَ يَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا وَ إِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَ لَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى الله إِلَّا الْحَقَّ وَ دَرَسُوا ما فِيهِ وَ الدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَ فَلا تَعْقِلُونَ وَ الَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ وَ أَقامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ ) (الأعراف: ١٧٠).

و هذا المعنى الثاني لعلّه أنسب و أوفق لما يتلوه من التأكيد و التشديد بقوله:( وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ الله فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ ) .

قوله تعالى: ( وَ كَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ - إلى قوله -وَ الْجُرُوحَ قِصاصٌ ) السياق و خاصّة بالنظر إلى قوله:( وَ الْجُرُوحَ قِصاصٌ ) يدلّ على أنّ المراد به بيان حكم القصاص في أقسام الجنايات من القتل و القطع و الجرح، فالمقابلة الواقعة في قوله:( النَّفْسَ بِالنَّفْسِ ) و غيره إنّما وقعت بين المقتصّ له و المقتصّ به و المراد به

٣٧٣

أنّ النفس تعادل النفس في باب القصاص، و العين تقابل العين و الأنف الأنف و هكذا و الباء للمقابلة كما في قولك: بعت هذا بهذا.

فيؤول معنى الجمل المتّسقة إلى أنّ النفس تقتل بالنفس، و العين تفقأ بالعين و الأنف تجدع بالأنف، و الاُذن تصلم بالاُذن، و السنّ تقلع بالسنّ و الجروح ذوات قصاص، و بالجملة إنّ كلّاً من النفس و أعضاء الإنسان مقتصّ بمثله.

و لعلّ هذا هو مراد من قدّر في قوله:( النَّفْسَ بِالنَّفْسِ ) إنّ النفس مقتصّة أو مقتولة بالنفس و هكذا و إلّا فالتقدير بمعزل عن الحاجة، و الجمل تامّة من دونه و الظرف لغو.

و الآية لا تخلو من إشعار بأنّ هذا الحكم غير الحكم الّذي حكّموا فيه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و تذكره الآيات السابقة فإنّ السياق قد تجدّد بقوله:( إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَ نُورٌ ) .

و الحكم موجود في التوراة الدائرة على ما سيجي‏ء نقله في البحث الروائيّ التالي إن شاء الله تعالى.

قوله تعالى: ( فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ ) أي فمن عفا من أولياء القصاص كوليّ المقتول أو نفس المجنيّ عليه و المجروح عن الجاني، و وهبه ما يملكه من القصاص فهو أي العفو كفّارة لذنوب المتصدّق أو كفّارة عن الجاني في جنايته.

و الظاهر من السياق أنّ الكلام في تقدير قولنا: فإن تصدّق به من له القصاص فهو كفّارة له، و إن لم يتصدّق فليحكم صاحب الحكم بما أنزله الله من القصاص، و من لم يحكم بما أنزل الله فاُولئك هم الظالمون.

و بذلك يظهرأوّلاً: أنّ الواو في قوله:( وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ ) للعطف على قوله:( فَمَنْ تَصَدَّقَ ) لا للاستيناف كما أنّ الفاء في قوله:( فَمَنْ تَصَدَّقَ ) للتفريع: تفريع المفصّل على المجمل، نظير قوله تعالى في آية القصاص:( فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْ‏ءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَ أَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ ) (البقرة: ١٧٨).

و ثانياً: أنّ قوله:( وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ ) ، من قبيل وضع العلّة موضع معلولها

٣٧٤

و التقدير: و إن لم يتصدّق فليحكم بما أنزل الله فإنّ من لم يحكم بما أنزل الله فاُولئك هم الظالمون.

قوله تعالى: ( وَ قَفَّيْنا عَلى‏ آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ ) التقفية جعل الشي‏ء خلف الشي‏ء و هو مأخوذ من القفا، و الآثار جمع أثر و هو ما يحصل من الشي‏ء ممّا يدلّ عليه، و يغلب استعماله في الشكل الحاصل من القدم ممّن يضرب في الأرض، و الضمير في( آثارِهِمْ ) للأنبياء.

فقوله:( وَ قَفَّيْنا عَلى‏ آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ) استعارة بالكناية اُريد بها الدلالة على أنّه سلك بهعليه‌السلام المسلك الّذي سلكه من قبله من الأنبياء، و هو طريق الدعوة إلى التوحيد و الإسلام لله.

و قوله:( مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ ) تبيين لما تقدّمه من الجملة و إشارة إلى أنّ دعوة عيسى هي دعوة موسىعليهما‌السلام من غير بينونة بينهما أصلاً.

قوله تعالى: ( وَ آتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَ نُورٌ وَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ ) إلخ سياق الآيات من جهة تعرّضها لحال شريعة موسى و عيسى و محمّد (صلّي الله عليهما) و نزولها في حقّ كتبهم يقضي بانطباق بعضها على بعض و لازم ذلك:

أوّلاً: أنّ الإنجيل المذكور في الآية - و معناها البشارة - كان كتاباً نازلاً على المسيحعليه‌السلام لا مجرّد البشارة من غير كتاب غير أنّ الله سبحانه لم يفصّل القول في كلامه في كيفيّة نزوله على عيسى كما فصّله في خصوص التوراة و القرآن قال تعالى في حقّ التوراة:( قالَ يا مُوسى‏ إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَ بِكَلامِي فَخُذْ ما آتَيْتُكَ وَ كُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ وَ كَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْ‏ءٍ مَوْعِظَةً وَ تَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْ‏ءٍ ) (الأعراف: ١٤٥) و قال:( أَخَذَ الْأَلْواحَ وَ فِي نُسْخَتِها هُدىً وَ رَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ ) (الأعراف: ١٥٤).

و قال في خصوص القرآن:( نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى‏ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ ) (الشعراء: ١٩٥) و قال:( إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي

٣٧٥

الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ ) (التكوير: ٢١) و قال:( فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ بِأَيْدِي سَفَرَةٍ كِرامٍ بَرَرَةٍ ) (عبس: ١٦) و هو سبحانه لم يذكر في تفصيل نزول الإنجيل و مشخّصاته شيئاً، لكن ذكره نزوله على عيسى في الآية محاذياً لذكر نزول التوراة على موسى في الآية السابقة، و نزول القرآن على محمّد (صلّي الله عليهما) يدلّ على كونه كتاباً في عرض الكتابين.

و ثانياً: أنّ قوله تعالى في وصف الإنجيل:( فِيهِ هُدىً وَ نُورٌ ) محاذاة لقوله في وصف التوراة:( إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَ نُورٌ ) يراد به ما يشتمل عليه الكتاب من المعارف و الأحكام غير أنّ قوله تعالى في هذه الآية ثانياً:( وَ هُدىً وَ مَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ ) يدلّ على أنّ الهدى المذكور أوّلاً غير الهدى الّذي تفسيره الموعظة فالهدى المذكور أوّلاً هو نوع المعارف الّتي يحصل بها الاهتداء في باب الاعتقادات، و أمّا ما يهدي من المعارف إلى التقوى في الدين فهو الّذي يراد بالهدى المذكور ثانياً.

و على هذا لا يبقى لقوله:( وَ نُورٌ ) من المصداق إلّا الأحكام و الشرائع، و التدبّر ربّما ساعد على ذلك فإنّها اُمور يستضاء بها و يسلك في ضوئها و تنوّرها مسلك الحياة، و قد قال تعالى:( أَ وَ مَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَ جَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ ) (الأنعام: ١٢٢).

و قد ظهر بذلك: أنّ المراد بالهدى في وصف التوراة و في وصف الإنجيل أوّلاً هو نوع المعارف الاعتقاديّة كالتوحيد و المعاد، و بالنور في الموضعين نوع الشرائع و الأحكام، و بالهدى ثانياً في وصف الإنجيل هو نوع المواعظ و النصائح، و الله أعلم.

و ظهر أيضاً وجه تكرار الهدى في الآية فالهدى المذكور ثانياً غير الهدى المذكور أوّلاً و أنّ قوله:( وَ مَوْعِظَةً ) من قبيل عطف التفسير و الله أعلم.

و ثالثاً: أنّ قوله ثانياً في وصف الإنجيل:( وَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ ) ليس من قبيل التكرار لتأكيد و نحوه بل المراد به تبعيّة الإنجيل لشريعة التوراة فلم يكن في الإنجيل إلّا الإمضاء لشريعة التوراة و الدعوة إليها إلّا ما استثناه عيسى المسيح

٣٧٦

على ما حكاه الله تعالى من قوله:( وَ لِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ ) (آل عمران: ٥٠).

و الدليل على ذلك قوله تعالى في الآية الآتية في وصف القرآن:( وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَ مُهَيْمِناً عَلَيْهِ ) على ما سيجي‏ء من البيان.

قوله تعالى:( وَ هُدىً وَ مَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ ) قد مرّ توضيحه، و الآية تدلّ على أنّ في الإنجيل النازل على المسيح عناية خاصّة بالتقوى في الدين مضافاً إلى ما يشتمل عليه التوراة من المعارف الاعتقاديّة و الأحكام العمليّة، و التوراة الدائرة بينهم اليوم و إن لم يصدّقها القرآن كلّ التصديق، و كذا الأناجيل الأربعة المنسوبة إلى متّى و مرقس و لوقا و يوحنّا و إن كانت غير ما يذكره القرآن من الإنجيل النازل على المسيح نفسه لكنّها مع ذلك كلّه تصدّق هذا المعنى كما سيجي‏ء إن شاء الله الإشارة إليه.

قوله تعالى: ( وَ لْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ الله فِيهِ ) إلخ و قد أنزل فيه تصديق التوراة في شرائعها إلّا ما استثني من الأحكام المنسوخة الّتي ذكرت في الإنجيل النازل على عيسىعليه‌السلام ، فإنّ الإنجيل لمّا صدّق التوراة فيما شرّعته، و أحلّ بعض ما حرّم فيها كان العمل بما في التوراة في غير ما أحلّها الإنجيل من المحرّمات عملاً بما أنزل الله في الإنجيل و هو ظاهر.

و من هنا يظهر ضعف ما استدلّ بعض المفسّرين بالآية على أنّ الإنجيل مشتمل على صرائع مفصّلة كما اشتملت عليه التوراة، و وجه الضعف ظاهر.

و أمّا قوله:( وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ الله فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ ) فهو تشديد في الأمر المدلول عليه بقوله:( وَ لْيَحْكُمْ ) ، و قد كرّر الله سبحانه هذه الكلمة للتشديد ثلاث مرّات: مرّتين في أمر اليهود و مرّة في أمر النصارى باختلاف يسير فقال:( وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ الله فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ، فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ، فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ ) فسجّل عليهم الكفر و الظلم و الفسق.

و لعلّ الوجه في ذكر الفسق عند التعرّض لما يرجع إلى النصارى، و الكفر و الظلم فيما يعود إلى اليهود أنّ النصارى بدّلوا التوحيد تثليثاً و رفضوا أحكام التوراة

٣٧٧

بأخذ بولس دين المسيح ديناً مستقلّاً منفصلاً عن دين موسى مرفوعاً فيه الأحكام بالتفدية فخرجت النصارى بذلك عن التوحيد و شريعته بتأوّل ففسقوا عن دين الله الحقّ، و الفسق خروج الشي‏ء من مستقرّه كخروج لبّ التمرة عن قشرها.

و أمّا اليهود فلم يشتبه عليهم الأمر فيما عندهم من دين موسىعليه‌السلام و إنّما ردّوا الأحكام و المعارف الّتي كانوا على علم منها و هو الكفر بآيات الله و الظلم لها.

و الآيات الثلاث أعني قوله:( وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ الله فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ، فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ، فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ ) آيات مطلقة لا تختصّ بقوم دون قوم، و إن انطبقت على أهل الكتاب في هذا المقام.

و قد اختلف المفسّرون في معنى كفر من لم يحكم بما أنزل الله كالقاضي يقضي بغير ما أنزل الله، و الحاكم يحكم على خلاف ما أنزل الله، و المبتدع يستنّ بغير السنّة و هي مسألة فقهيّة الحقّ فيها أنّ المخالفة لحكم شرعيّ أو لأيّ أمر ثابت في الدين في صورة العلم بثبوته و الردّ له توجب الكفر، و في صورة العلم بثبوته مع عدم الردّ له توجب الفسق، و في صورة عدم العلم بثبوته مع الردّ له لا توجب كفراً و لا فسقاً لكونه قصوراً يعذر فيه إلّا أن يكون قصّر في شي‏ء من مقدّماته و ليراجع في ذلك كتب الفقه.

قوله تعالى: ( وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَ مُهَيْمِناً عَلَيْهِ ) هيمنة الشي‏ء على الشي‏ء - على ما يتحصّل من معناها - كون الشي‏ء ذا سلطة على الشي‏ء في حفظه و مراقبته و أنواع التصرّف فيه، و هذا حال القرآن الّذي وصفه الله تعالى بأنّه تبيان كلّ شي‏ء بالنسبة إلى ما بين يديه من الكتب السماويّة: يحفظ منها الاُصول الثابتة غير المتغيّرة و ينسخ منها ما ينبغي أن ينسخ من الفروع الّتي يمكن أن يتطرّق إليها التغيّر و التبدّل حتّى يناسب حال الإنسان بحسب سلوكه صراط الترقّي و التكامل بمرور الزمان قال تعالى:( إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ) (إسراء: ٩) و قال:( ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها ) (البقرة: ١٠٦) و قال:( الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَ الْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ يُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَ يُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ

٣٧٨

الْخَبائِثَ وَ يَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَ الْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَ عَزَّرُوهُ وَ نَصَرُوهُ وَ اتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) (الأعراف: ١٥٧).

فهذه الجملة أعني قوله:( وَ مُهَيْمِناً عَلَيْهِ ) متمّمة لقول:( مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ ) تتميم إيضاح إذ لولاها لأمكن أن يتوهّم من تصديق القرآن للتوراة و الإنجيل أنّه يصدّق ما فيهما من الشرائع و الأحكام تصديق إبقاء من غير تغيير و تبديل لكنّ توصيفه بالهيمنة يبيّن أنّ تصديقه لها تصديق أنّها معارف و شرائع حقّة من عندالله و لله أن يتصرّف منها فيما يشاء بالنسخ و التكميل كما يشير إليه قوله ذيلاً:( وَ لَوْ شاءَ الله لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَ لكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ ) .

فقول:( مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ ) معناه تقرير ما فيها من المعارف و الأحكام بما يناسب حال هذه الاُمّة فلا ينافيه ما تطرّق إليها من النسخ و التكميل و الزيادة كما كان المسيحعليه‌السلام أو إنجيله مصدّقاً للتوراة مع إحلاله بعض ما فيها من المحرّمات كما حكاه الله عنه في قوله:( وَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَ لِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ ) (آل عمران: ٥٠).

قوله تعالى: ( فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ الله وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ ) أي إذا كانت الشريعة النازلة إليك المودعة في الكتاب حقّاً و هو حقّ فيما وافق ما بين يديه من الكتب و حقّ فيما خالفه لكونه مهيمناً عليه فليس لك إلّا أن تحكم بين أهل الكتاب - كما يؤيّده ظاهر الآيات السابقة - أو بين الناس - كما تؤيّده الآيات اللّاحقة - بما أنزل الله إليك و لا تتّبع أهواءهم بالإعراض و العدول عمّا جاءك من الحقّ.

و من هنا يظهر جواز أن يراد بقوله:( فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ ) الحكم بين أهل الكتاب أو الحكم بين الناس لكن تبعّد المعنى الأوّل حاجته إلى تقدير كقولنا فاحكم بينهم إن حكمت، فإنّ الله سبحانه لم يوجب عليهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الحكم بينهم بل خيّره بين الحكم و الإعراض بقوله:( فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ ) (الآية) على أنّ الله سبحانه ذكر المنافقين مع اليهود في أوّل الآيات فلا موجب لاختصاص اليهود

٣٧٩

برجوع الضمير إليهم لسبق الذكر و قد ذكر معهم غيرهم، فالأنسب أن يرجع الضمير إلى الناس لدلالة المقام.

و يظهر أيضاً أنّ قوله:( عَمَّا جاءَكَ ) متعلّق بقوله:( وَ لا تَتَّبِعْ ) بإشرابه معنى العدول أو الإعراض.

قوله تعالى: ( لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَ مِنْهاجاً ) قال الراغب في المفردات: الشرع نهج الطريق الواضح يقال: شرعت له طريقاً و الشرع مصدر ثمّ جعل اسماً للطريق النهج فقيل له: شِرع و شَرع و شريعة، و أستعير ذلك للطريقة الإلهيّة قال:( شِرْعَةً وَ مِنْهاجاً ) - إلى أن قال - قال بعضهم: سمّيت الشريعة شريعة تشبيهاً بشريعة الماء انتهى.

و لعلّ الشريعة بالمعنى الثاني مأخوذ من المعنى الأوّل لوضوح طريق الماء عندهم بكثرة الورود و الصدور و قال: النهج (بالفتح فالسكون): الطريق الواضح، و نهج الأمر و أنهج وضح، و منهج الطريق و منهاجه. انتهي.

( كلام في معنى الشريعة)

( و الفرق بينها و بين الدين و الملّة في عرف القرآن)

معنى الشريعة كما عرفت هو الطريقة، و الدين و كذلك الملّة طريقة متّخذة لكنّ الظاهر من القرآن أنّه يستعمل الشريعة في معنى أخصّ من الدين كما يدلّ عليه قوله تعالى:( إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ الله الْإِسْلامُ ) (آل عمران: ١٩) و قوله تعالى:( وَ مَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَ هُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ ) (آل عمران: ٨٥) إذا انضمّا إلى قوله:( لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَ مِنْهاجاً ) (الآية) و قوله:( ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى‏ شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها ) (الجاثية: ١٨).

فكان الشريعة هي الطريقة الممهّدة لاُمّة من الاُمم أو لنبيّ من الأنبياء الّذين بعثوا بها كشريعة نوح و شريعة إبراهيم و شريعة موسى و شريعة عيسى و شريعة محمّد (صلّي الله عليهم)، و الدين هو السنّة و الطريقة الإلهيّة العامّة لجميع الاُمم

٣٨٠