الميزان في تفسير القرآن الجزء ٥

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 444

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 444
المشاهدات: 86770
تحميل: 10312


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 444 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 86770 / تحميل: 10312
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 5

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

خاصّة، و الحديث و التاريخ لا يضبطان لهم بخصوصهم شأناً من هذا القبيل، و على الثاني كان لازمه انقطاع حكم الآية بانقطاع زمان حياتهم، و كان لازمه أن تتصدّى الآية لبيان ذلك كما في جميع الأحكام الخاصّة بشطر من الزمان المذكورة في القرآن كالأحكام الخاصّة بالنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و لا أثر في الآية من ذلك.

و أمّا القول بأنّ المراد باُولي الأمر أهل الحلّ و العقد، و هذا القائل لمّا رأى أنّه لم يكن في عهد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جماعة مشخّصة هم أهل الحلّ و العقد على حدّ ما يوجد بين الاُمم المتمدّنة ذوات المجتمعات المتشكّلة كهيئة الوزراء، و جمعيّة المبعوثين إلى المنتدى و غير ذلك فإنّ الاُمة لم يكن يجري فيها إلّا حكم الله و رسوله، اضطرّ إلى تفسيره بأهل الشورى من الصحابة و خاصّة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منهم.

و كيف كان، يرد عليه أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يجمع في مشاورته المؤمنين و المنافقين كعبدالله بن اُبيّ و أصحابه، و حديث مشاورته يوم اُحد معروف، و كيف يمكن أن يأمر الله سبحانه بالردّ إلى أمثاله.

على أنّ ممّن لا كلام في كونه ذا هذا الشأن عند النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و بعده عبدالرحمن بن عوف، و هذه الآيات المسرودة في ذمّ ضعفاء المؤمنين و تعييرهم على ما وقع منهم إنّما ابتدأت به و بأصحابه أعني قوله:( أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا ) (الآيات) فقد ورد في الصحيح أنّها نزلت في عبدالرحمن بن عوف و أصحاب له، رواه النسائيّ في صحيحة و رواه الحاكم في مستدركه و صحّحه و رواه الطبريّ و غيره في تفاسيرهم، و قد مرّت الرواية في البحث الروائيّ السابق. و إذا كان الأمر على هذه الوتيرة فكيف يمكن أن يؤمر في الآية بإرجاع الأمر و ردّه إلى مثل هؤلاء؟.

فالمتعيّن هو الّذي رجّحناه في قوله تعالى:( أَطِيعُوا الله وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ) (الآية).

قوله تعالى: ( وَ لَوْ لا فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلَّا قَلِيلًا ) قد تقدّم أنّ الأظهر كون الآيات مشيرة إلى قصّة بدر الصغرى، و بعث أبي سفيان نعيم بن مسعود الأشجعيّ إلى المدينة لبسط الخوف و الوحشة بين الناس و إخزائهم في الخروج

٢١

إلى بدر فالمراد باتّباع الشيطان التصديق بما جاء به من النبأ، و اتّباعه في التخلّف عن الخروج إلى بدر.

و بذلك يظهر استقامة معنى الاستثناء من غير حاجة إلى تكلّف أو تمحّل فإنّ نعيماً كان يخبرهم أنّ أباسفيان جمع الجموع و جهّز الجيوش فاخشوهم و لا تلقوا بأنفسكم إلى حياض القتل الذريع، و قد أثّر ذلك في قلوب الناس فتعلّلوا عن الخروج إلى موعدهم ببدر، و لم يسلم من ذلك إلّا النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و بعض خاصّته و هو المراد بقوله تعالى:( إِلَّا قَلِيلًا ) ، فقد كان الناس تزلزلوا إلّا القليل منهم ثمّ لحقوا بذلك القليل و ساروا.

و هذا الّذي استظهرناه من معنى الاستثناء هو الّذي يؤيّده ما مرّ ذكره من القرائن، على ما فيه من الاستقامة.

و للمفسّرين في أمر هذا الاستثناء مذاهب شتّى لا يخلو شي‏ء منها من فساد أو تكلّف، فقد قيل: إنّ المراد بالفضل و الرحمة ما هداهم الله إليه من إيجاب طاعته و طاعة رسوله و اُولي الأمر منهم، و المراد بالمستثنى هم المؤمنون اُولو الفطرة السليمة و القلوب الطاهرة، و معنى الآية: و لو لا هذا الّذي هداكم الله إليه من وجوب الطاعة، و إرجاع الأمر إلى الرسول و إلى اُولي الأمر لاتّبعتم الشيطان جميعاً بالوقوع في الضلال إلّا قليلاً منكم من أهل الفطرة السليمة فإنّهم لا يزيغون عن الحقّ و الصلاح. و فيه أنّه تخصيص الفضل و الرحمة بحكم خاصّ من غير دليل يدلّ عليه، و هو بعيد من البيان القرآنيّ، مع أنّ ظاهر الآية أنّه امتنان في أمر ماض منقض.

و قيل: إنّ الآية على ظاهرها، و المؤمنون غير المخلصين يحتاجون إلى فضل و رحمة زائدين و إن كان المخلصون أيضاً لا يستغنون عن العناية الإلهيّة، و فيه أنّ الّذي يوهمه الظاهر حينئذ ممّا يجب في بلاغة القرآن دفعه و لم يدفع في الآية. و قد قال تعالى:( وَ لَوْ لا فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ ما زَكى‏ مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً ) (النور: ٢١) و قال مخاطباً لنبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و هو خير الناس:( وَ لَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَ ضِعْفَ الْمَماتِ ) (الإسراء: ٧٥).

٢٢

و قيل: إنّ المراد بالفضل و الرحمة القرآن و النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . و قيل: المراد بهما الفتح و الظفر، فيستقيم الاستثناء لأنّ الأكثرين إنّما يثبتون على الحقّ بما يستطاب به قلوبهم من فتح و ظفر و ما أشبههما من العنايات الظاهريّة الإلهيّة، و لا يصبر على مرّ الحقّ إلّا القليل من المؤمنين الّذين هم على بصيرة من أمرهم. و قيل: الاستثناء إنّما هو من قوله:( أَذاعُوا بِهِ ) ، و قيل: الاستثناء من قوله:( الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ ) . و قيل: إنّ الاستثناء إنّما هو في اللّفظ و هو دليل على الجمع و الإحاطة فمعنى الآية: و لو لا فضل الله عليكم و رحمته لاتّبعتم الشيطان جميعاً، و هذا نظير قوله تعالى:( سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى‏ إِلَّا ما شاءَ الله ) (الأعلى: ٧) فاستثناء المشيّة يفيد عموم الحكم بنفي النسيان، و جميع هذه الوجوه لا تخلو من تكلّف ظاهر.

قوله تعالى: ( فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ الله لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ ) ، التكليف من الكلفة بمعنى المشقّة لما فيه من تحميل المشقّة على المكلّف، و التنكيل من النكال، و هو على ما في المجمع: ما يمتنع به من الفساد خوفاً من مثله من العذاب فهو عقاب المتخلّف لئلّا يعود إلى مثله و ليعتبر به غيره من المكلّفين.

و الفاء في قوله:( فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ الله ) ،. للتفريع و الأمر بالقتال متفرّع على المتحصّل من مضامين الآيات السابقة. و هو تثاقل القوم في الخروج إلى العدوّ و تبطئتهم في ذلك، و يدلّ عليه ما يتلوه من الجمل أعني قوله:( لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ ) إلخ فإنّ المعنى: فإذا كانوا يتثاقلون في أمر الجهاد و يكرهون القتال فقاتل أنت يا رسول الله بنفسك، و لا يشقّ عليك تثاقلهم و مخالفتهم لأمر الله سبحانه فإنّ تكليف غيرك لا يتوجّه إليك، و إنّما يتوجّه إليك تكليف نفسك لا تكليفهم، و إنّما عليك في غيرك أن تحرّضهم فقاتل:( وَ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللهُ أَنْ يَكفّ بَأْسَ الّذينَ كَفَرُوا ) . و قوله:( لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ ) أي لا تكلّف أنت شيئاً إلّا عمل نفسك فالاستثناء بتقدير مضاف.

و قوله( عَسَى الله أَنْ يَكُفَّ ) إلخ قد تقدّم أنّ( عسى ) تدلّ على الرجاء أعمّ من أن يكون ذلك الرجاء قائماً بنفس المتكلّم أو المخاطب أو بمقام التخاطب فلا حاجة إلى ما ذكروه من أنّ( عسى ) من الله حتم.

٢٣

و في الآية دلالة على زيادة تعيير من الله سبحانه للمتثاقلين من الناس حيث أدّى تثاقلهم إلى أن أمر الله نبيّه بالقيام بالقتال بنفسه، و أن يعرض عن المتثاقلين و لا يلحّ عليهم بالإجابة و يخلّيهم و شأنهم، و لا يضيق بذلك صدره فليس عليه إلّا تكليف نفسه و تحريض المؤمنين أطاع من أطاع، و عصى من عصى.

( بحث روائي‏)

في الكافي، بإسناده عن محمّد بن عجلان قال: سمعت أباعبداللهعليه‌السلام يقول: إنّ الله عيّر أقواماً بالإذاعة في قوله عزّوجلّ:( وَ إِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ ) فإيّاكم و الإذاعة.

و فيه، بإسناده عن عبدالحميد بن أبي الديلم عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: قال الله عزّوجلّ:( أَطِيعُوا الله وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ) ، و قال:( وَ لَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَ إِلى‏ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ ) ، فردّ أمر الناس إلى اُولي الأمر منهم، الّذين أمر بطاعتهم و الردّ إليهم.

أقول: و الرواية تؤيّد ما قدّمناه من أنّ المراد باُولي الأمر في الآية الثانية هم المذكورون في الآية الاُولى.

و في تفسير العيّاشيّ، عن عبدالله بن عجلان عن أبي جعفرعليه‌السلام في قوله:( وَ لَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَ إِلى‏ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ ) قال: هم الأئمّة.

أقول: و روي هذا المعنى أيضاً عن عبدالله بن جندب عن الرضاعليه‌السلام في كتاب كتبه إليه في أمر الواقفيّة، و روى هذا المعنى أيضاً المفيد في الاختصاص، عن إسحاق بن عمّار عن الصادقعليه‌السلام في حديث طويل.

و في تفسير العيّاشيّ، عن محمّد بن الفضيل عن أبي الحسنعليه‌السلام في قوله:( وَ لَوْ لا فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ ) ، قال: الفضل رسول الله، و رحمته أميرالمؤمنين.

و فيه، عن زرارة عن أبي جعفرعليه‌السلام ، و حمران عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال:( لَوْ لا فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ ) ، قال: فضل الله رسوله، و رحمته ولاية الأئمّة.

٢٤

و فيه، عن محمّد بن الفضيل عن العبد الصالحعليه‌السلام قال: الرحمة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و الفضل عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام .

أقول: و الروايات من باب الجري، و المراد النبوّة و الولاية فإنّهما السببان المتّصلان اللّذان أنقذنا الله بهما من مهبط الضلال و مصيدة الشيطان، إحداهما: سبب مبلّغ، و الاُخرى: سبب مجر، و الرواية الأخيرة أقرب من الاعتبار فإنّ الله سمّى رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في كتابه بالرحمة حيث قال:( وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ ) (الآية) (الأنبياء: ١٠٧).

و في الكافي، بإسناده عن عليّ بن حديد عن مرازم قال قال أبوعبداللهعليه‌السلام : إنّ الله كلّف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما لم يكلّف به أحداً من خلقه، ثمّ كلّفه أن يخرج على الناس كلّهم وحده بنفسه، و إن لم يجد فئة تقاتل معه، و لم يكلّف هذا أحداً من خلقه لا قبله و لا بعده، ثمّ تلا هذه الآية:( فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ الله لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ ) .

ثمّ قال: و جعل الله له أن يأخذ ما أخذ لنفسه فقال عزّوجلّ:( مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها ) و جعل الصلاة على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعشر حسنات‏.

و في تفسير العيّاشيّ، عن سليمان بن خالد قال: قلت لأبي عبداللهعليه‌السلام قول الناس لعليّعليه‌السلام ، إن كان له حقّ فما منعه أن يقوم به،؟ قال: فقال: إنّ الله لا يكلّف هذا لإنسان واحد إلّا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قال:( فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ الله لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ ) فليس هذا إلّا للرسول، و قال لغيره:( إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى‏ فِئَةٍ ) فلم يكن يومئذ فئة يعينونه على أمره.

و فيه، عن زيد الشحّام عن جعفر بن محمّدعليه‌السلام قال: ما سئل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شيئاً قطّ فقال: لا، إن كان عنده أعطاه، و إن لم يكن عنده قال: يكون إن شاء الله، و لا كافي بالسيّئة قطّ، و ما لقي سريّة مذ نزلت عليه،( فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ الله لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ ) إلّا ولى بنفسه.

أقول: و في هذه المعاني روايات اُخر.

٢٥

( سورة النساء الآيات ٨٥ – ٩١)

مَن يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُن لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَن يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيّئَةً يَكُن لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللّهُ عَلَى‏ كُلّ شَيْ‏ءٍ مُقِيتاً( ٨٥) وَإِذَا حُيّيتُم بِتَحِيّةٍ فَحَيّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدّوهَا إِنّ اللّهَ كَانَ عَلَى‏ كُلّ شَيْ‏ءٍ حَسِيباً( ٨٦) اللّهُ لاَ إِلهَ إِلّا هُوَ لَيَجْمَعَنّكُمْ إِلَى‏ يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ حَدِيثاً( ٨٧) فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللّهُ أَرْكَسَهُم بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُوا مَنْ أَضَلّ اللّهُ وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً( ٨٨) وَدّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلاَ تَتّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتّى‏ يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَإِن تَوَلّوا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُم وَلاَ تَتّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً( ٨٩) إِلّا الّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى‏ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَن يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللّهُ لَسَلّطَهمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً( ٩٠) سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَن يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلّ مَا رُدّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِن لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السّلَمَ وَيَكُفّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً مُبِيناً( ٩١)

( بيان‏)

الآيات متّصلة بما قبلها من حيث تتعرّض جميعاً (٨٥ - ٩١) لما يرتبط بأمر القتال مع طائفة من المشركين و هم المنافقون منهم، و يظهر من التدبّر فيها أنّها نزلت في قوم من المشركين أظهروا الإيمان للمؤمنين ثمّ عادوا إلى مقرّهم و شاركوا المشركين في شركهم فوقع الريب في قتالهم، و اختلفت أنظار المسلمين في أمرهم، فمن قائل يرى قتالهم،

٢٦

و آخر يمنع منه و يشفع لهم لتظاهرهم بالإيمان، و الله سبحانه يكتب عليهم إمّا المهاجرة أو القتال و يحذّر المؤمنين الشفاعة في حقّهم.

و يلحق بهم قوم آخرون ثمّ آخرون يكتب عليهم إمّا إلقاء السلم أو القتال، و يستهلّ لما في الآيات من المقاصد في صدر الكلام ببيان حال الشفاعة في آية، و ببيان حال التحيّة لمناسبتها إلقاء السلم في آية اُخرى.

قوله تعالى: ( مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها ) ، النصيب و الكفل بمعنى واحد، و لمّا كانت الشفاعة نوع توسّط لترميم نقيصة أو لحيازة مزيّة و نحو ذلك كانت لها نوع سببيّة لإصلاح شأن فلها شي‏ء من التبعة و المثوبة المتعلّقتين بما لأجله الشفاعة، و هو مقصد الشفيع و المشفوع له فالشفيع ذو نصيب من الخير أو الشرّ المترتّب على الشفاعة، و هو قوله تعالى:( مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً ) إلخ.

و في ذكر هذه الحقيقة تذكرة للمؤمنين، و تنبيه لهم أن يتيقّظوا عند الشفاعة لما يشفعون له، و يجتنبوها إن كان المشفوع لأجله ممّا فيه شرّ و فساد كالشفاعة للمنافقين من المشركين أن لا يقاتلوا، فإنّ في ترك الفساد القليل على حاله، و إمهاله في أن ينمو و يعظم فساداً معقّباً لا يقوم له شي‏ء، و يهلك به الحرث و النسل فالآية في معنى النهي عن الشفاعة السيّئة و هي شفاعة أهل الظلم و الطغيان و النفاق و الشرك المفسدين في الأرض.

قوله تعالى: ( وَ إِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها ) (الآية) أمر بالتحيّة قبال التحيّة بما يزيد عليها أو يماثلها، و هو حكم عامّ لكلّ تحيّة حيّي بها، غير أنّ مورد الآيات هو تحيّة السلم و الصلح الّتي تلقى إلى المسلمين على ما يظهر من الآيات التالية.

قوله تعالى: ( الله لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ ) إلخ معنى الآية ظاهر، و هي بمنزلة التعليل لما تشتمل عليه الآيتان السابقتان من المضمون كأنّه قيل: خذوا بما كلّفكم الله في أمر الشفاعة الحسنة و السيّئة، و لا تبطلوا تحيّة من يحيّيكم بالإعراض و الردّ فإنّ أمامكم يوماً يجمعكم الله فيه و يجازيكم على إجابة ما دعاكم إليه و ردّه.

٢٧

قوله تعالى: ( فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَ الله أَرْكَسَهُمْ ) (الآية) الفئة الطائفة، و الإركاس الردّ.

و الآية بما لها من المضمون كأنّها متفرّعة على ما تقدّم من التوطئة و التمهيد أعني قوله:( مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً ) (الآية)، و المعنى: فإذا كانت الشفاعة السيّئة تعطي لصاحبها كفلاً من مساءتها فما لكم أيّها المؤمنون تفرّقتم في أمر المنافقين فئتين، و تحزّبتهم حزبين: فئة ترى قتالهم، و فئة تشفع لهم و تحرّض على ترك قتالهم، و الإغماض عن شجرة الفساد الّتي تنمو بنمائهم، و تثمر برشدهم، و الله ردّهم إلى الضلال بعد خروجهم منه جزاءً بما كسبوا من سيّئات الأعمال، أ تريدون بشفاعتكم أن تهدوا هؤلاء الّذين أضلّهم الله؟ و من يضلل الله فما له من سبيل إلى الهدى.

و في قوله:( وَ مَنْ يُضْلِلِ الله فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا ) التفات من خطاب المؤمنين إلى خطاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إشارة إلى أنّ من يشفع لهم من المؤمنين لا يتفهّم حقيقة هذا الكلام حقّ التفهّم، و لو فقهه لم يشفع في حقّهم فأعرض عن مخاطبتهم به و اُلقى إلى من هو بيّن واضح عنده و هو النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

قوله تعالى: ( وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً ) إلخ هو بمنزلة البيان لقوله:( وَ الله أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا أَ تُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ الله ) ، و المعنى: أنّهم كفروا و زادوا عليه أنّهم ودّوا و أحبّوا أن تكفروا مثلهم فتستووا.

ثمّ نهاهم عن ولايتهم إلّا أن يهاجروا في سبيل الله فإن تولّوا فليس عليكم فيهم إلّا أخذهم و قتلهم حيث وجدتموهم، و الاجتناب عن ولايتهم و نصرتهم، و في قوله( فَإِنْ تَوَلَّوْا) ، دلالة على أنّ على المؤمنين أن يكلّفوهم بالمهاجرة فإن أجابوا فليوالوهم، و إن تولّوا فيقتلوهم.

قوله تعالى: ( إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى‏ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُمْ مِيثاقٌ أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ ) استثنى الله سبحانه من قوله:( فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَ اقْتُلُوهُمْ ) ، طائفتين: (إحداهما)( الّذينَ يَصِلُونَ ) إلخ أي بينهم و بين بعض أهل الميثاق ما يوصلهم بهم من حلف و نحوه، و (الثانية) الّذين يتحرّجون من مقاتلة المسلمين و مقاتلة قومهم لقلّتهم أو

٢٨

لعوامل اُخر، فيعتزلون المؤمنين و يلقون إليهم السلم لا للمؤمنين و لا عليهم بوجه، فهاتان الطائفتان مستثنون من الحكم المذكور، و قوله:( حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ ) ، أي ضاقت.

قوله تعالى: ( سَتَجِدُونَ آخَرِينَ ) ، إخبار بأنّه سيواجهكم قوم آخرون ربّما شابهوا الطائفة الثانية من الطائفتين المستثناتين حيث إنّهم يريدون أن يأمنوكم و يأمنوا قومهم غير أنّ الله سبحانه يخبر أنّهم منافقون غير مأمونين في مواعدتهم و موادعتهم، و لذا بدّل الشرطين المثبتين في حقّ غيرهم أعني قوله:( فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَ أَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ ) بالشرط المنفيّ أعني قوله:( فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَ يُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَ يَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ ) إلخ و هذا في معنى تنبيه المؤمنين على أن يكونوا على حذر منهم و معنى الآية ظاهر.

( كلام في معنى التحيّة)

الاُمم و الأقوام على اختلافها في الحضارة و التوحّش و التقدّم و التأخّر لا تخلو في مجتمعاتهم من تحيّة يتعارفونها عند الملاقاة ملاقاة البعض البعض على أقسامها و أنواعها من الإشارة بالرأس و اليد و رفع القلانس و غير ذلك، و هي مختلفة باختلاف العوامل المختلفة العاملة في مجتمعاتهم.

و أنت إذا تأمّلت هذه التحيّات الدائرة بين الاُمم على اختلافها و على اختلافهم وجدتها حاكية مشيرة إلى نوع من الخضوع و الهوان و التذلّل يبديه الداني للعالي، و الوضيع للشريف، و المطيع لمطاعه، و العبد لمولاه، و بالجملة تكشف عن رسم الاستعباد الّذي لم يزل رائجاً بين الاُمم في أعصار الهمجيّة فما دونها، و إن اختلفت ألوانه، و لذلك ما نرى أنّ هذه التحيّة تبدء من المطيع و تنتهي إلى المطاع، و تشرع من الداني الوضيع و تختتم في العالي الشريف، فهي من ثمرات الوثنيّة الّتي ترتضع من ثدي الاستعباد.

و الإسلام - كما تعلم - أكبر همّه إمحاء الوثنيّة و كلّ رسم من الرسوم ينتهي إليها، و يتولّد، منها و لذلك أخذ لهذا الشأن طريقة سويّة و سنّة مقابلة لسنّة الوثنيّة

٢٩

و رسم الاستعباد، و هو إلقاء السلام الّذي هو بنحو أمن المسلّم عليه من التعدّي عليه، و دحض حرّيّته الفطريّة الإنسانيّة الموهوبة له فإنّ أوّل ما يحتاج إليه الاجتماع التعاونيّ بين الأفراد هو أن يأمن بعضهم بعضاً في نفسه و عرضه و ماله، و كلّ أمر يؤل إلى أحد هذه الثلاثة.

و هذا هو السلام الّذي سنّ الله تعالى إلقاؤه عند كلّ تلاق من متلاقيين قال تعالى:( فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى‏ أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ الله مُبارَكَةً طَيِّبَةً ) (النور: ٦١) و قال تعالى:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَ تُسَلِّمُوا عَلى‏ أَهْلِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) (النور: ٢٧) و قد أدّب الله رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالتسليم للمؤمنين و هو سيّدهم فقال:( وَ إِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى‏ نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ) (الأنعام: ٥٤) و أمره بالتسليم لغيرهم في قوله:( فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَ قُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) (الزخرف: ٨٩).

و التحيّة بإلقاء السلام كانت معمولاً بها عند عرب الجاهليّة على ما يشهد به المأثور عنهم من شعر و نحوه، و في لسان العرب: و كانت العرب في الجاهليّة يحيّون بأن يقول أحدهم لصاحبه: أنعم صباحاً، و أبيت اللّعن، و يقولون سلام عليكم فكأنّه علامة المسالمة، و أنّه لا حرب هنالك. ثمّ جاء الله بالإسلام فقصروا على السلام، و اُمروا بإفشائه. (انتهى).

إلّا أنّ الله سبحانه يحكيه في قصص إبراهيم عنهعليه‌السلام كثيراً: و لا يخلو ذلك من شهادة على أنّه كان من بقايا دين إبراهيم الحنيف عند العرب كالحجّ و نحوه قال تعالى: حكاية عنه فيما يحاور أباه:( قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي ) (مريم: ٤٧) و قال تعالى:( وَ لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى‏ قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ ) (هود: ٦٩) و القصّة واقعة في غير مورد من القرآن الكريم.

و لقد أخذه الله سبحانه تحيّة لنفسه، و استعمله في موارد من كلامه، قال تعالى:( سَلامٌ عَلى‏ نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ ) (الصافّات: ٧٩) و قال:( سَلامٌ عَلى‏ إِبْراهِيمَ ) (الصافّات: ١٠٩) و قال:( سَلامٌ عَلى‏ مُوسى‏ وَ هارُونَ ) (الصافّات: ١٢٠) و قال:( سَلامٌ عَلى‏ إِلْ‏ياسِينَ )

٣٠

(الصافّات: ١٣٠) و قال:( وَ سَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ ) (الصافّات: ١٨١).

و ذكر تعالى أنّه تحيّة ملائكته المكرمين قال:( الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ) (النحل: ٣٢) و قال:( وَ الْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ) (الرعد: ٢٤) و ذكر أيضاً أنّه تحيّة أهل الجنّة قال:( وَ تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ ) (يونس: ١٠)، و قال تعالى:( لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَ لا تَأْثِيماً إِلَّا قِيلًا سَلاماً سَلاماً ) (الواقعة: ٢٦).

( بحث روائي)

في المجمع، في قوله تعالى:( وَ إِذا حُيِّيتُمْ ) (الآية): قال: ذكر عليّ بن إبراهيم في تفسيره، عن الصادقين: أنّ المراد بالتحيّة في الآية السلام و غيره من البرّ.

و في الكافي، بإسناده عن السكونيّ قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : السلام تطوّع و الردّ فريضة.

و فيه، بإسناده عن جرّاح المدائنيّ عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: يسلّم الصغير على الكبير، و المارّ على القاعد، و القليل على الكثير.

و فيهعليه‌السلام ، بإسناده عن عيينة(١) عن مصعب عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: القليل يبدؤن الكثير بالسلام، و الراكب يبدء الماشي، و أصحاب البغال يبدؤن أصحاب الحمير، و أصحاب الخيل يبدؤن أصحاب البغال.

و فيه، بإسناده عن ابن بكير عن بعض أصحابه عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: سمعته يقول: يسلّم الراكب على الماشي، و الماشي على القاعد، و إذا لقيت جماعة سلّم الأقلّ على الأكثر، و إذا لقي واحد جماعة سلّم الواحد على الجماعة.

أقول: و روي ما يقرب منه في الدرّ المنثور، عن البيهقيّ عن زيد بن أسلم عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

و فيه، بالإسناد عنهعليه‌السلام قال: إذا مرّت الجماعة بقوم أجزأهم أن يسلّم واحد منهم، و إذا سلّم على القوم و هم جماعة، أجزأهم أن يردّ واحد منهم.

____________________

(١) عنبسة (خ ل)

٣١

و في التهذيب، بإسناده عن محمّد بن مسلم قال: دخلت على أبي جعفرعليه‌السلام و هو في الصلاة فقلت: السلام عليك، فقال: السلام عليك، فقلت: كيف أصبحت؟ فسكت، فلمّا انصرف قلت: أ يردّ السلام و هو في الصلاة؟ قال: نعم، مثل ما قيل له.

و فيه، بإسناده عن منصور بن حازم عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: إذا سلّم عليك الرجل و أنت تصلّي، قال: تردّ عليه خفيّاً كما قال‏.

و في الفقيه، بإسناده عن مسعدة بن صدقة عن جعفر بن محمّد عن أبيهعليه‌السلام قال: لا تسلّموا على اليهود، و لا على النصارى، و لا على المجوس، و لا على عبدة الأوثان، و لا على موائد شرّاب الخمر، و لا على صاحب الشطرنج و النرد، و لا على المخنّث، و لا على الشاعر الّذي يقذف المحصنات، و لا على المصلّي لأنّ المصلّي لا يستطيع أن يردّ السلام، لأنّ التسليم من المسلّم تطوّع و الردّ فريضة، و لا على آكل الربا، و لا على رجل جالس على غائط و لا على الّذي في الحمّام، و لا على الفاسق المعلن بفسقه.

أقول: و الروايات في معنى ما تقدّم كثيرة، و الإحاطة بما تقدّم من البيان توضح معنى الروايات فالسلام تحيّة مؤذنة ببسط السلم، و نشر الأمن بين المتلاقين على أساس المساواة و التعادل من استعلاء و إدحاض، و ما في الروايات من ابتداء الصغير بالتسليم للكبير، و القليل للكثير، و الواحد للجمع لا ينافي مسألة المساواة و إنّما هو مبنيّ على وجوب رعاية الحقوق فإنّ الإسلام لم يأمر أهله بإلغاء الحقوق، و إهمال أمر الفضائل و المزايا بل أمر غير صاحب الفضل أن يراعي فضل ذي الفضل، و حقّ صاحب الحقّ، و إنّما نهى صاحب الفضل أن يعجب بفضله، و يتكبر على غيره فيبغي على الناس بغير حقّ فيبطل بذلك التوازن بين أطراف المجتمع الإنسانيّ.

و أمّا النهي الوارد عن التسليم على بعض الأفراد فإنّما هو متفرّع على النهي عن تولّيهم و الركون إليهم كما قال تعالى:( لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَ النَّصارى‏ أَوْلِياءَ ) (المائدة: ٥١) و قال:( لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَ عَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ ) (الممتحنة: ١) و قال:( وَ لا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا ) (هود: ١١٣) إلى غير ذلك من الآيات.

نعم ربّما اقتضت مصلحة التقرّب من الظالمين لتبليغ الدين أو إسماعهم كلمة الحقّ

٣٢

التسليم عليهم ليحصل به تمام الاُنس و تمتزج النفوس كما اُمر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بذلك في قوله:( فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَ قُلْ سَلامٌ ) (الزخرف: ٨٩) و كما في قوله يصف المؤمنين:( وَ إِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً ) (الفرقان: ٦٣).

و تفسير الصافي، عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ رجلاً قال له: السلام عليك، فقال: و عليك السلام و رحمة الله، و قال آخر: السلام عليك و رحمة الله، فقال: و عليك السلام و رحمة الله و بركاته، و قال آخر: السلام عليك و رحمة الله و بركاته، فقال: و عليك، فقال الرجل: نقصتني فأين ما قال الله:( وَ إِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها ) (الآية) فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّك لم تترك فضلاً و رددت عليك مثله.

أقول: و روي مثله في الدرّ المنثور، عن أحمد في الزهد و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و الطبرانيّ و ابن مردويه بسند حسن عن سلمان الفارسيّ.

و في الكافي، عن الباقرعليه‌السلام قال: مرّ أميرالمؤمنينعليه‌السلام بقوم فسلّم عليهم فقالوا: عليك السلام و رحمة الله و بركاته و مغفرته و رضوانه، فقال لهم أميرالمؤمنينعليه‌السلام : لا تجاوزوا بنا مثل ما قالت الملائكة لأبينا إبراهيم، قالوا: رحمة الله و بركاته عليكم أهل البيت.

أقول: و فيه إشارة إلى أنّ السنّة في التسليم التامّ، و هو قول المسلّم( السلام عليك و رحمة الله و بركاته) مأخوذة من حنيفيّة إبراهيم،عليه‌السلام و تأييد لما تقدّم أنّ التحيّة بالسلام من الدين الحنيف.

و فيه، عن الصادقعليه‌السلام : إنّ من تمام التحيّة للمقيم المصافحة، و تمام التسليم على المسافر المعانقة.

و في الخصال، عن أميرالمؤمنينعليه‌السلام : إذا عطس أحدكم قولوا يرحمكم الله، و هو يقول: يغفر الله لكم و يرحمكم، قال الله تعالى:( وَ إِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها ) الآية.

و في المناقب: جاءت جارية للحسنعليه‌السلام بطاق ريحان، فقال لها، أنت حرّة لوجه الله، فقيل له في ذلك، فقالعليه‌السلام : أدّبنا الله تعالى فقال:( إِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها ) (الآية) و كان أحسن منها إعتاقها.

٣٣

أقول: و الروايات كما ترى تعمّم معنى التحيّة في الآية.

و في المجمع، في قوله تعالى:( فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ ) (الآية) قال اختلفوا في من نزلت هذه الآية فيه، فقيل، نزلت في قوم قدموا المدينة من مكّة، فأظهروا للمسلمين الإسلام ثمّ رجعوا إلى مكّة لأنّهم استوخموا المدينة فأظهروا الشرك، ثمّ سافروا ببضائع المشركين إلى اليمامة، فأراد المسلمون أن يغزوهم فاختلفوا، فقال بعضهم لا نفعل فإنّهم مؤمنون، و قال آخرون: إنّهم مشركون، فأنزل الله فيهم الآية: قال: و هو المرويّ عن أبي جعفرعليه‌السلام .

و في تفسير القمّيّ، في قوله تعالى:( وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا ) (الآية) أنّها نزلت في أشجع و بني ضمرة، و هما قبيلتان، و كان من خبرهم أنّه لمّا خرج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى غزاة الحديبيّة مرّ قريباً من بلادهم، و قد كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هادن بني ضمرة، و واعدهم قبل ذلك فقال أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا رسول الله هذه بنو ضمرة قريباً منّا، و نخاف أن يخالفونا إلى المدينة أو يعينوا علينا قريشاً فلو بدأنا بهم، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كلّا إنّهم أبرّ العرب بالوالدين، و أوصلهم للرحم، و أوفاهم بالعهد.

و كان أشجع بلادهم قريباً من بلاد بني ضمرة، و هم بطن من كنانة، و كانت أشجع بينهم و بين بني ضمرة حلف بالمراعاة و الأمان، فأجدبت بلاد أشجع و أخصبت بلاد بني ضمرة فسارت أشجع إلى بلاد بني ضمرة فلمّا بلغ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مسيرهم إلى بني ضمرة تهيّأ للمسير إلى أشجع ليغزوهم للموادعة الّتي كانت بينه و بين بني ضمرة فأنّزل الله:( وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ الله فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَ اقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَ لا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَ لا نَصِيراً ) .

ثمّ استثنى بأشجع فقال:( إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى‏ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُمْ مِيثاقٌ أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَ لَوْ شاءَ الله لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَ أَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَما جَعَلَ الله لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا ) .

٣٤

و كانت أشجع محالّها البيضاء و الحلّ و المستباح، و قد كانوا قربوا من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فهابوا لقربهم من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يبعث إليهم من يغزوهم، و كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد خافهم أن يصيبوا من أطرافه شيئاً فهمّ بالمسير إليهم فبينما هو على ذلك إذ جاءت أشجع و رئيسها مسعود بن رجيلة، و هم سبعمائة فنزلوا شعب سلع، و ذلك في شهر ربيع الأوّل سنة ستّ من الهجرة فدعا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اُسيد بن حصين و قال له: اذهب في نفر من أصحابك حتّى تنظر ما أقدم أشجع.

فخرج اُسيد و معه ثلاثة نفر من أصحابه فوقف عليهم فقال: ما أقدمكم؟ فقام إليه مسعود بن رجيلة و هو رئيس أشجع فسلّم على اُسيد و على أصحابه فقالوا: جئنا لنوادع محمّداً، فرجع اُسيد إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأخبره، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : خاف القوم أن أغزوهم فأرادوا الصلح بيني و بينهم. ثمّ بعث إليهم بعشرة أحمال تمر فقدّمها أمامه، ثمّ قال: نعم الشي‏ء الهدية أمام الحاجة، ثمّ أتاهم فقال: يا معشر أشجع ما أقدمكم؟ قالوا: قربت دارنا منك، و ليس في قومنا أقلّ عدداً منّا فضقنا لحربك لقرب دارنا منك، و ضقنا لحرب قومنا لقلّتنا فيهم فجئنا لنوادعكم، فقبل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منهم و وادعهم فأقاموا يومهم ثمّ رجعوا إلى بلادهم، و فيهم نزلت هذه الآية:( إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى‏ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُمْ مِيثاقٌ - إلى قوله -فَما جَعَلَ الله لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا ) .

و في الكافي، بإسناده عن الفضل أبي العبّاس عن أبي عبداللهعليه‌السلام : في قول الله عزّوجلّ( أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ ) قال: نزلت في بني مدلج، لأنّهم جاؤا إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالوا: إنّا قد حصرت صدورنا أن نشهد أنّك لرسول الله، فلسنا معكم و لا مع قومنا عليك، قال: قلت: كيف صنع بهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قال: وادعهم إلى أن يفرغ من العرب، ثمّ يدعوهم فإن أجابوا، و إلّا قاتلهم.

و في تفسير العيّاشيّ، عن سيف بن عميرة قال: سألت أباعبداللهعليه‌السلام ( أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَ لَوْ شاءَ الله لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ ) قال: كان أبي يقول: نزلت في بني مدلج اعتزلوا فلم يقاتلوا النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و لم يكونوا مع قومهم. قلت: فما صنع بهم؟ قال: لم يقاتلهم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتّى فرغ من عدوّه، ثمّ نبذ إليهم على سواء. قال:( و حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ ) هو الضيق.

٣٥

و في المجمع: المرويّ عن أبي جعفرعليه‌السلام أنّه قال: المراد بقوله تعالى:( قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُمْ مِيثاقٌ ) هو هلال بن عويمر السلميّ واثق عن قومه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و قال في موادعته، على أن لا نخيف يا محمّد من أتانا و لا تخيف من أتاك فنهى الله أن يتعرّض لأحد عهد إليهم.

أقول: و قد روي هذه المعاني و ما يقرب منها في الدرّ المنثور بطرق مختلفة عن ابن عبّاس و غيره.

و في الدرّ المنثور، أخرج أبوداود في ناسخه و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و النحّاس و البيهقيّ في سننه عن ابن عبّاس: في قوله:( إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى‏ قَوْمٍ ) ، (الآية) قال: نسختها براءة،( فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ) .

٣٦

( سورة النساء الآيات ٩٢ - ٩٤)

وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلّا خَطَأً وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلّمَةٌ إِلَى‏ أَهْلِهِ إِلّا أَن يَصّدّقُوا فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلّمَةٌ إِلَى‏ أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَن لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللّهِ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً( ٩٢) وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً( ٩٣) يَاأَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَتَبَيّنُوا وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى‏ إِلَيْكُمُ السّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الْدّنْيَا فَعِندَ اللّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنتُم مِنْ قَبلُ فَمَنّ اللّهُ عَلَيكُم فَتَبَيّنُوا إِنّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً( ٩٤)

( بيان)

قوله تعالى: ( وَ ما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً ) الخطأ بفتحتين من غير مدّ، و مع المدّ على فعال: خلاف الصواب، و المراد به هنا ما يقابل التعمّد لمقابلته بما في الآية التالية:( وَ مَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً ) .

و المراد بالنفي في قوله( وَ ما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً ) ، نفي الاقتضاء أي ليس و لا يوجد في المؤمن بعد دخوله في حريم الإيمان و حماه اقتضاء لقتل مؤمن هو مثله في ذلك أيّ قتل كان إلّا قتل الخطأ، و الاستثناء متّصل فيعود معنى الكلام إلى أنّ المؤمن لا يريد قتل المؤمن بما هو مؤمن بأن يقصد قتله مع العلم بأنّه مؤمن، و نظير هذه الجملة

٣٧

في سوقها لنفي الاقتضاء قوله تعالى:( وَ ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ الله ) (الشورى: ٥١) و قوله:( ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها ) (النمل: ٦٠) و قوله:( فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ ) (يونس: ٧٤) إلى غير ذلك.

و الآية مع ذلك مسوقة كناية عن التكليف بالنهي التشريعيّ بمعنى أنّ الله تعالى لم يبح قطّ، و لا يبيح أبداً أن يقتل مؤمن مؤمناً و حرّم ذلك إلّا في قتل الخطأ فإنّه لمّا لم يقصد هناك قتل المؤمن إمّا لكون القتل غير مقصود أصلاً أو قصد و لكن بزعم أنّ المقتول كافر جائز القتل مثلاً فلا حرمة مجعولة هناك.

و قد ذكر جمع من المفسّرين: أنّ الاستثناء في قوله:( إِلَّا خَطَأً ) منقطع، قالوا: و إنّما لم يحمل قوله:( إِلَّا خَطَأً ) على حقيقة الاستثناء لأنّ ذلك يؤدّي إلى الأمر بقتل الخطأ أو إباحته. (انتهى) و قد عرفت أنّ ذلك لا يؤدّي إلّا إلى رفع الحرمة عن قتل الخطأ، أو عدم وضع الحرمة فيه، و لا محذور فيه قطعاً. فالحقّ أنّ الاستثناء متّصل.

قوله تعالى: ( وَ مَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً - إلى قوله -يَصَّدَّقُوا ) التحرير جعل المملوك حرّاً، و الرقبة هي العنق شاع استعمالها في النفس المملوكة مجازاً، و الدية ما يعطى من المال عوضاً عن النفس أو العضو أو غيرهما، و المعنى: و من قتل مؤمناً بقتل الخطأ وجب عليه تحرير نفس مملوكة مؤمنة، و إعطاء دية يسلّمها إلى أهل المقتول إلّا أن يتصدّق أولياء القتيل الدية على معطيها و يعفوا عنها فلا تجب الدية.

قوله تعالى: ( فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ ) ، الضمير يرجع إلى المؤمن المقتول، و القوم العدوّ هم الكفّار المحاربون، و المعنى: إن كان المقتول خطأ مؤمناً و أهله كفّار محاربون لا يرثون وجب التحرير و لا دية إذ لا يرث الكافر المحارب من المؤمن شيئاً.

قوله تعالى: ( وَ إِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُمْ مِيثاقٌ ) ، الضمير في( كانَ ) يعود إلى المؤمن المقتول أيضاً على ما يفيده السياق، و الميثاق مطلق العهد أعمّ من الذمّة و كلّ عهد، و المعنى: و إن كان المؤمن المقتول من قوم بينكم و بينهم عهد وجبت الدية و تحرير الرقبة، و قد قدّم ذكر الدية تأكيداً في مراعاة جانب الميثاق.

قوله تعالى: ( فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ) ، أي من لم يستطع التحرير - لأنّه هو

٣٨

الأقرب بحسب اللّفظ - وجب عليه صيام شهرين متتابعين.

قوله تعالى: ( تَوْبَةً مِنَ الله ) إلخ أي هذا الحكم و هو إيجاب الصيام توبة و عطف رحمة من الله لفاقد الرقبة، و ينطبق على التخفيف فالحكم تخفيف من الله في حقّ غير المستطيع، و يمكن أن يكون قوله( تَوْبَةً ) قيداً راجعاً إلى جميع ما ذكر في الآية من الكفّارة أعني قوله:( فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ ) إلخ و المعنى: أنّ جعل الكفّارة للقاتل خطأ توبة و عناية من الله للقاتل فيما لحقه من درن هذا الفعل قطعاً. و ليتحفّظ على نفسه في عدم المحاباة في المبادرة إلى القتل نظير قوله تعالى:( وَ لَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ ) (البقرة: ١٧٩).

و كذا هو توبة من الله للمجتمع و عناية لهم حيث يزيد به في أحرارهم واحد بعد ما فقدوا واحداً، و يرمّم ما ورد على أهل المقتول من الضرر الماليّ بالدية المسلّمة.

و من هنا يظهر أنّ الإسلام يرى الحرّيّة حياة و الاسترقاق نوعاً من القتل، و يرى المتوسّط من منافع وجود الفرد هو الدية الكاملة. و سنوضح هذا المعنى في ما سيأتي من المباحث.

و أمّا تشخيص معنى الخطأ و العمد و التحرير و الدية و أهل القتيل و الميثاق و غيره المذكورات في الآية فعلى السنّة. من أراد الوقوف عليها فليراجع الفقه.

قوله تعالى: ( وَ مَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ ) ، التعمّد هو القصد إلى الفعل بعنوانه الّذي له، و حيث إنّ الفعل الاختياريّ لا يخلو من قصد العنوان و كان من الجائز أن يكون لفعل أكثر من عنوان واحد أمكن أن يكون فعل واحد عمديّاً من جهة خطائيّاً من اُخرى فالرامي إلى شبح و هو يزعم أنّه من الصيد و هو في الواقع إنسان إذا قتله كان متعمّداً إلى الصيد خاطئاً في قتل الإنسان، و كذا إذا ضرب إنساناً بالعصا قاصداً تأديبه فقتلته الضربة كان القتل قتل خطأ، و على هذا فمن يقتل مؤمناً متعمّداً هو الّذي يقصد بفعله قتل المؤمن عن علم بأنّه قتل و أنّ المقتول مؤمن.

و قد أغلظ الله سبحانه و تعالى في وعيد قاتل المؤمن متعمّداً بالنار الخالدة غير أنّك عرفت في الكلام على قوله تعالى:( إِنَّ الله لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ ) (النساء: ٤٨) أنّ تلك الآية، و كذا قوله تعالى:( إِنَّ الله يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً ) (الزمر: ٥٣) تصلحان

٣٩

لتقييد هذه الآية فهذه الآية توعد بالنار الخالدة لكنّها ليست بصريحة في الحتم فيمكن العفو بتوبة أو شفاعة.

قوله تعالى: ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ الله فَتَبَيَّنُوا ) الضرب هو السير في الأرض و المسافرة، و تقييده بسبيل الله يدلّ على أنّ المراد به هو الخروج للجهاد، و التبيّن هو التمييز و المراد به التمييز بين المؤمن و الكافر بقرينة قوله:( وَ لا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى‏ إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً ) و المراد بإلقاء السلام إلقاء التحيّة تحيّة أهل الإيمان، و قرء:( لمن ألقى إليكم السلم) بفتح اللّام و هو الاستسلام.

و المراد بابتغاء عرض الحياة الدنيا طلب المال و الغنيمة، و قوله( فَعِنْدَ الله مَغانِمُ كَثِيرَةٌ ) جمع مغنم و هو الغنيمة أي ما عندالله من المغانم أفضل من مغنم الدنيا الّذي يريدونه لكثرتها و بقائها فهي الّتي يجب عليكم أن تؤثروها.

قوله تعالى: ( كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ الله عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا ) إلخ أي على هذا الوصف - و هو ابتغاء عرض الحياة الدنيا - كنتم من قبل أن تؤمنوا فمنّ الله عليكم بالإيمان الصارف لكم عن ابتغاء عرض الحياة الدنيا إلى ما عندالله من المغانم الكثيرة فإذا كان كذلك فيجب عليكم أن تبيّنوا، و في تكرار الأمر بالتبيّن تأكيد في الحكم.

و الآية مع اشتمالها على العظة و نوع من التوبيخ لا تصرّح بكون هذا القتل الّذي ظاهرها وقوعه قتل مؤمن متعمّداً، فالظاهر أنّه كان قتل خطأ من بعض المؤمنين لبعض من ألقى السلم من المشركين لعدم وثوق القاتل بكونه مؤمناً حقيقة بزعم أنّه إنّما يظهر الإيمان خوفاً على نفسه، و الآية توبّخه بأنّ الإسلام إنّما يعتبر بالظاهر، و يحلّ أمر القلوب إلى اللّطيف الخبير.

و على هذا فقوله:( تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا ) موضوع في الكلام على اقتضاء الحال، أي حالكم في قتل من يظهر لكم الإيمان من غير اعتناء بأمره و تبيّن في شأنه حال من يريد المال و الغنيمة فيقتل المؤمن المتظاهر بالإيمان بأدنى ما يعتذر به من غير أن يكون من موجّه العذر، و هذا هو الحال الّذي كان عليه المؤمنون قبل إيمانهم لا يبتغون إلّا الدنيا فإذا أنعم الله عليهم بالإيمان، و منّ عليهم بالإسلام كان الواجب

٤٠