الميزان في تفسير القرآن الجزء ٥

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 444

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 444
المشاهدات: 86785
تحميل: 10312


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 444 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 86785 / تحميل: 10312
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 5

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

فالشريعة تقبل النسخ دون الدين بمعناه الوسيع.

و هناك فرق آخر و هو أنّ الدين ينسب إلى الواحد و الجماعة كيفما كانا، و لكنّ الشريعة لا تنسب إلى الواحد إلّا إذا كان واضعها أو القائم بأمرها يقال: دين المسلمين و دين اليهود و شريعتهم، و يقال: دين الله و شريعته و دين محمّد و شريعته، و يقال: دين زيد و عمرو، و لا يقال: شريعة زيد و عمرو، و لعلّ ذلك لما في لفظ الشريعة من التلميح إلى المعنى الحدثيّ و هو تمهيد الطريق و نصبه فمن الجائز أن يقال: الطريقة الّتي مهّدها الله أو الطريقة الّتي مهّدت للنبيّ أو للاُمّة الفلانيّة دون أن يقال: الطريقة الّتي مهّدت لزيد إذ لا اختصاص له بشي‏ء.

و كيف كان فالمستفاد منها أنّ الشريعة أخصّ معنى من الدين و أمّا قوله تعالى:( شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَ ما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَ مُوسى‏ وَ عِيسى‏ ) (الشورى: ١٣) فلا ينافي ذلك إذ الآية إنّما تدلّ على أنّ شريعة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المشروعة لاُمّته هي مجموع وصايا الله سبحانه لنوح و إبراهيم و موسى و عيسى مضافاً إليها ما أوحاه إلى محمّد (صلّى الله عليه و آله و عليهم)، و هو كناية إمّا عن كون الإسلام جامعاً لمزايا جميع الشرائع السابقة و زيادة، أو عن كون الشرائع جميعاً ذات حقيقة واحدة بحسب اللّبّ و إن كانت مختلفة بحسب اختلاف الاُمم في الاستعداد كما يشعر به أو يدلّ عليه قوله بعده:( أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَ لا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ) (الشورى: ١٣).

فنسبة الشرائع الخاصّة إلى الدين - و هو واحد و الشرائع تنسخ بعضها بعضاً - كنسبة الأحكام الجزئيّة في الإسلام فيها ناسخ و منسوخ إلى أصل الدين، فالله سبحانه لم يتعبّد عباده إلّا لدين واحد و هو الإسلام له إلّا أنّه سلك بهم لنيل ذلك مسالك مختلفة و سنّ لهم سنناً متنوّعة على حسب اختلاف استعداداتهم و تنوّعها، و هي شرائع نوح و إبراهيم و موسى و عيسى و محمّد (صلّى الله عليه و آله و عليهم) كما أنّه تعالى ربّما نسخ في شريعة واحدة بعض الأحكام ببعض لانقضاء مصلحة الحكم المنسوخ و ظهور مصلحة الحكم الناسخ كنسخ الحبس المخلّد في زنا النساء بالجلد و الرجم و غير ذلك، و يدلّ على ذلك قوله تعالى:( وَ لَوْ شاءَ الله لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَ لكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ ) (الآية).

٣٨١

و أمّا الملّة فكأنّ المراد بها السنّة الحيويّة المسلوكة بين الناس، و كأنّ فيها معنى الإملال و الإملاء فيكون هي الطريقة المأخوذة من الغير، و ليس الأصل في معناه واضحاً ذاك الوضوح، فالأشبه أن تكون مرادفة للشريعة بمعنى أنّ الملّة كالشريعة هي الطريقة الخاصّة بخلاف الدين، و إن كان بينهما فرق من حيث أنّ الشريعة تستعمل فيها بعناية أنّها سبيل مهّده الله تعالى لسلوك الناس إليه، و الملّة إنّما تطلق عليها لكونها مأخوذة عن الغير بالاتّباع العمليّ، و لعلّه لذلك لا تضاف إلى الله سبحانه كما يضاف الدين و الشريعة، يقال: دين الله و شريعة الله، و لا يقال: ملّة الله.

بل إنّما تضاف إلى النبيّ مثلاً من حيث إنّها سيرته و سنّته أو إلى الاُمّة من جهة أنّهم سائرون مستنّون به، قال تعالى:( مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَ ما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) (البقرة: ١٣٥) و قال تعالى حكاية عن يوسفعليه‌السلام :( إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِالله وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ وَ اتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ ) (يوسف: ٣٨) و قال تعالى حكاية عن الكفّار في قولهم لأنبيائهم:( لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا ) (إبراهيم: ١٣).

فقد تلخّص أنّ الدين في عرف القرآن أعمّ من الشريعة و الملّة و هما كالمترادفين مع فرق مّا من حيث العناية اللفظيّة.

قوله تعالى: ( وَ لَوْ شاءَ الله لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَ لكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ ) بيان لسبب اختلاف الشرائع، و ليس المراد بجعلهم اُمّة واحدة الجعل التكوينيّ بمعنى النوعيّة الواحدة فإنّ الناس أفراد نوع واحد يعيشون على نسق واحد كما يدلّ عليه قوله تعالى:( وَ لَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَ مَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ ) (الزخرف: ٣٣).

بل المراد أخذهم بحسب الاعتبار اُمّة واحدة على مستوى واحد من الاستعداد و التهيّؤ حتّى تشرّع لهم شريعة واحدة لتقارب درجاتهم الملحوظة فقوله:( وَ لَوْ شاءَ الله لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً ) من قبيل وضع علّة الشرط موضع الشرط ليتّضح باستحضارها معنى الجزاء أعني قوله:( وَ لكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ ) أي ليمتحنكم فيما أعطاكم و أنعم عليكم،

٣٨٢

و لا محالة هذه العطايا المشار إليها في الآية مختلفة في الاُمم، و ليست هي الاختلافات بحسب المساكن و الألسنة و الألوان فإنّ الله لم يشرّع شريعتين أو أكثر في زمان واحد قطّ بل هي الاختلافات بحسب مرور الزمان، و ارتقاء الإنسان في مدارج الاستعداد و التهيّؤ و ليست التكاليف الإلهيّة و الأحكام المشرّعة إلّا امتحاناً إلهيّاً للإنسان في مختلف مواقف الحياة و إن شئت فقل: إخراجاً له من القوّة إلى الفعل في جانبي السعادة و الشقاوة، و إن شئت فقل: تمييزاً لحزب الرحمن و عباده من حزب الشيطان فقد اختلف التعبير عنه في الكتاب العزيز، و مآل الجميع إلى معنى واحد، قال تعالى جرياً على مسلك الامتحان:( وَ تِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ وَ لِيَعْلَمَ الله الَّذِينَ آمَنُوا وَ يَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ وَ الله لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ وَ لِيُمَحِّصَ الله الَّذِينَ آمَنُوا وَ يَمْحَقَ الْكافِرِينَ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَ لَمَّا يَعْلَمِ الله الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَ يَعْلَمَ الصَّابِرِينَ ) (آل عمران: ١٤٢) إلى غير ذلك من الآيات.

و قال جرياً على المسلك الثاني:( فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَ لا يَشْقى‏ وَ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَ نَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى‏ ) (طه: ١٢٤).

و قال جرياً على المسلك الثالث:( وَ إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً - إلى أن قال -قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ وَ إِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ ) (الحجر: ٤٣) إلى غير ذلك من الآيات.

و بالجملة لمّا كانت العطايا الإلهيّة لنوع الإنسان من الاستعداد و التهيّؤ مختلفة باختلاف الأزمان، و كانت الشريعة و السنّة الإلهيّة الواجب إجراؤها بينهم لتتميم سعادة حياتهم و هي الامتحانات الإلهيّة تختلف لا محالة باختلاف مراتب الاستعدادات و تنوّعها أنتج ذلك لزوم اختلاف الشرائع، و لذلك علّل تعالى ما ذكره من اختلاف الشرعة و المنهاج بأنّ إرادته تعلّقت ببلائكم و امتحانكم فيما أنعم عليكم

٣٨٣

فقال:( لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَ مِنْهاجاً وَ لَوْ شاءَ الله لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَ لكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ ) .

فمعنى الآية - و الله أعلم -: لكلّ اُمّة جعلنا منكم (جعلاً تشريعيّاً) شرعة و منهاجاً و لو شاء الله لأخذكم اُمّة واحدة و شرّع لكم شريعة واحدة، و لكن جعل لكم شرائع مختلفة ليمتحنكم فيما ءاتاكم من النعم المختلفة، و اختلاف النعم كان يستدعي اختلاف الامتحان الّذي هو عنوان التكاليف و الأحكام المجعولة فلا محالة ألقي الاختلاف بين الشرائع.

و هذه الاُمم المختلفة هي اُمم نوح و إبراهيم و موسى و عيسى و محمّد (صلّى الله عليه و آله و عليهم) كما يدلّ عليه ما يمتنّ الله به على هذه الاُمّة بقوله:( شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَ ما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَ مُوسى‏ وَ عِيسى) (الشورى: ١٣).

قوله تعالى: ( فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً ) إلخ الاستباق أخذ السبق، و المرجع مصدر ميميّ من الرجوع، و الكلام متفرّع على قوله:( لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَ مِنْهاجاً ) بما له من لازم المعنى أي و جعلنا هذه الشريعة الحقّة المهيمنة على سائر الشرائع شريعة لكم، و فيه خيركم و صلاحكم لا محالة فاستبقوا الخيرات و هي الأحكام و التكاليف، و لا تشتغلوا بأمر هذه الاختلافات الّتي بينكم و بين غيركم فإنّ مرجعكم جميعاً إلى ربّكم تعالى فينبّؤكم بما كنتم فيه تختلفون و يحكم بينكم حكماً فصلاً، و يقضي قضاءً عدلاً.

قوله تعالى: ( وَ أَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ الله وَ لا تَتَّبِعْ ) ، هذا الصدر يتّحد مع ما في الآية السابقة من قوله:( أَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ الله وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ ) ، ثمّ يختلفان فيما فرّع على كلّ منهما، و يعلم منه أنّ التكرار لحيازة هذه الفائدة فالآية الاُولى تأمر بالحكم بما أنزل الله و تحذّر اتّباع أهواء الناس لأنّ هذا الّذي أنزله الله هي الشريعة المجعولة للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و لاُمّته فالواجب عليهم أن يستبقوا هذه الخيرات، و الآية الثانية تأمر بالحكم بما أنزل الله، و تحذّر اتّباع أهواء الناس و تبيّن أن تولّيهم

٣٨٤

إن تولّوا عمّا أنزل الله كاشف عن إضلال إلهيّ لهم لفسقهم و قد قال الله تعالى:( يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَ يَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَ ما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ ) (البقرة: ٢٦).

فيتحصّل ممّا تقدّم أنّ هذه الآية بمنزلة البيان لبعض ما تتضمّنه الآية السابقة من المعاني المفتقرة إلى البيان، و هو أنّ إعراض أرباب الأهواء عن اتّباع ما أنزل الله بالحقّ إنّما هو لكونهم فاسقين، و قد أراد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم الموجبة لفسقهم، و الإصابة هو الإضلال ظاهراً، فقوله:( وَ أَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ الله ) عطف على الكتاب في قوله:( وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ ) كما قيل، و الأنسب حينئذ أن يكون اللّام فيه مشعرة بالتلميح إلى المعنى الحدثيّ، و يصير المعنى: و أنزلنا إليك ما كتب عليهم من الأحكام و أن احكم بينهم بما أنزل الله إلخ.

و قوله:( وَ احْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ الله إِلَيْكَ ) أمره تعالى نبيّه بالحذر عن فتنتهم مع كونهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم معصوماً بعصمة الله إنّما هو من جهة أنّ قوّة العصمة لا توجب بطلان الاختيار و سقوط التكاليف المبنيّة عليه فإنّها من سنخ الملكات العلميّة، و العلوم و الإدراكات لا تخرج القوى العاملة و المحرّكة في الأعضاء و الأعضاء الحاملة لها عن استواء نسبة الفعل و الترك إليها.

كما أنّ العلم الجازم بكون الغذاء مسموماً يعصم الإنسان عن تناوله و أكله، لكنّ الأعضاء المستخدمة للتغذّي كاليد و الفم و اللّسان و الأسنان من شأنها أن تعمل عملها في هذا الأكل و تتغذّى به، و من شأنها أن تسكن فلا تعمل شيئاً مع إمكان العمل لها فالفعل اختياريّ و إن كان كالمستحيل صدوره ما دام هذا العلم.

و قد تقدّم شطر من الكلام في ذلك في الكلام على قوله تعالى:( وَ ما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْ‏ءٍ وَ أَنْزَلَ الله عَلَيْكَ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ عَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَ كانَ فَضْلُ الله عَلَيْكَ عَظِيماً ) (النساء: ١١٣).

و قوله:( فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ الله أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ ) بيان لأمر إضلالهم إثر فسقهم كما تقدّم، و فيه رجوع إلى بدء الكلام في هذه الآيات:( يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ ) إلخ ففيه تسلية للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و تطييب

٣٨٥

لنفسه، و تعليم له ما لا يدبّ معه الحزن في قلبه، و هكذا فعل الله سبحانه في جلّ الموارد الّتي نهى فيها النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن أن يحزن على تولّيهم عن الدعوة الحقّة و استنكافهم عن قبول ما يرشدهم إلى سبيل الرشاد و الفلاح فبيّن لهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّهم ليسوا بمعجزين لله في ملكه و لا غالبين عليه بل الله غالب على أمره، و هو الّذي يضلّهم بسبب فسقهم، و يزيغ قلوبهم عن زيغ منهم، و يجعل الرجس عليهم بسلب توفيقه عنهم و استدراجه إيّاهم، قال تعالى:( وَ لا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ ) (الأنفال: ٥٩) و إذا كان الأمر إلى الله سبحانه، و هو الّذي يذبّ عن ساحة دينه الطاهرة كلّ رجس نجس فلم يفته شي‏ء ممّا أراده و لا وجه للحزن إذا لم يكن فائت.

و لعلّه إلى ذلك الإشارة بقوله:( فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ الله ) إلخ دون أن يقال: فإن تولّوا فإنّما يريد الله إلخ أو ما يؤدّي معناه فيؤول المعنى إلى تعليم أن تولّيهم أنّما هو بتسخير إلهيّ فلا ينبغي أن يحزّن ذلك النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فإنّه رسول داع إلى سبيل ربّه إن أحزنه شي‏ء فإنّما ينبغي أن يحزنه لغلبته إرادة الله في أمر الدعوة الدينيّة، و إذا كان الله سبحانه لا يعجزه شي‏ء بل هو الّذي يسوقهم إلى هنا و هناك بتسخير إلهيّ و توفيق و مكر فلا موجب للحزن.

و قد بيّن تعالى هذه الحقيقة بلسان آخر في قوله:( فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى‏ آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَ إِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً ) (الكهف: ٨) فبيّن أنّ الله تعالى لم يرد بإرسال الرسل و الإنذار و التبشير الدينيّ إيمان الناس جميعاً على حدّ ما يريده الإنسان في حوائجه و مآربه، و إنّما ذلك كلّه امتحان و ابتلاء يبتلى به الناس ليمتاز به من هو أحسن عملاً، و إلّا فالدنيا و ما فيها ستبطل و تفنى فلا يبقى إلّا الصعيد العاري من هؤلاء الكفّار المعرضين عن الحديث الحقّ، و من كلّ ما يتعلّق به قلوبهم فلا موجب للأسف إذ لا يجرّ ذلك خيبة إلى سعينا و لا بطلاناً لقدرتنا و كلالاً لإرادتنا.

و قوله:( وَ إِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ ) في محلّ التعليل لقوله:( أَنَّما يُرِيدُ الله أَنْ يُصِيبَهُمْ ) إلخ على ما تقدّم بيانه.

٣٨٦

قوله تعالى: ( أَ فَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَ مَنْ أَحْسَنُ مِنَ الله حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ) تفريع بنحو الاستفهام على ما بيّن في الآية السابقة من تولّيهم مع كون ما يتولّون عنه هو حكم الله النازل إليهم و الحقّ الّذي علموا أنّه حقّ، و يمكن أن يكون في مقام النتيجة اللّازمة لما بيّن في جميع الآيات السابقة.

و المعنى: و إذا كانت هذه الأحكام و الشرائع حقّة نازلة من عندالله و لم يكن وراءها حكم حقّ لا يكون دونها إلّا حكم الجاهليّة الناشئة عن اتّباع الهوى فهؤلاء الّذين يتولّون عن الحكم الحقّ ما ذا يريدون بتولّيهم و ليس هناك إلّا حكم الجاهليّة؟ أ فحكم الجاهليّة يبغون و الحال أنّه ليس أحد أحسن حكماً من الله لهؤلاء المدّعين للإيمان؟.

فقوله:( أَ فَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ ) استفهام توبيخيّ، و قوله:( وَ مَنْ أَحْسَنُ مِنَ الله حُكْماً ) استفهام إنكاريّ أي لا أحد أحسن حكماً من الله، و إنّما يتّبع الحكم لحسنه، و قوله:( لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ) في أخذ وصف اليقين تعريض لهم بأنّهم إن صدقوا في دعواهم الإيمان بالله فهم يوقنون بآياته، و الّذين يوقنون بآيات الله ينكرون أن يكون أحد أحسن حكماً من الله سبحانه.

و اعلم أنّ في الآيات موارد من الالتفات من التكلّم وحده أو مع الغير إلى الغيبة و بالعكس كقوله:( إِنَّ الله يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ) ثمّ قوله:( إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ ) ثمّ قوله:( بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ الله ) ثمّ قوله:( وَ اخْشَوْنِ ) و هكذا، فما كان منها يختار فيه الغيبة بلفظ الجلالة فإنّما يراد به تعظيم الأمر بتعظيم صاحبه.

و ما كان منها بلفظ المتكلّم وحده فيراد به أنّ الأمر إلى الله وحده لا يداخله وليّ و لا يشفع فيه شفيع، فإذا كان ترغيباً أو وعداً فإنّما القائم به هو الله سبحانه، و هو أكرم من يفي بوعده، و إذا كان تحذيراً أو إيعاداً فهو أشدّ و أشقّ و لا يصرف عن الإنسان بشفيع و لا وليّ إذ الأمر إلى الله نفسه و قد نفي كلّ واسطة و رفع كلّ سبب متخلّل فافهم ذلك، و قد مرّ بعض الكلام فيه في بعض المباحث السابقة.

٣٨٧

( بحث روائي)

في المجمع، في قوله تعالى:( يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ ) (الآية) عن الباقرعليه‌السلام : أنّ امرأة من خيبر ذات شرف بينهم زنت مع رجل من أشرافهم و هما محصنان، فكرهوا رجمهما، فأرسلوا إلى يهود المدينة و كتبوا إليهم أن يسألوا النبيّ عن ذلك طمعاً في أن يأتي لهم برخصة فانطلق قوم منهم كعب بن الأشرف و كعب بن اُسيد و شعبة بن عمرو و مالك بن الصيف و كنانة بن أبي الحقيق و غيرهم فقالوا: يا محمّد أخبرنا عن الزاني و الزانية إذا اُحصنا ما حدّهما؟ فقال: و هل ترضون بقضائي في ذلك؟ قالوا: نعم، فنزل جبرائيل بالرجم فأخبرهم بذلك فأبوا أن يأخذوا به فقال جبرائيل: اجعل بينك و بينهم ابن صوريا و وصفه له.

فقال النبيّ: هل تعرفون شابّاً أمرد أبيض أعور يسكن فدكاً يقال له: ابن صوريا؟ قالوا: نعم، قال: فأيّ رجل هو فيكم؟ قالوا: أعلم يهوديّ بقي على ظهر الأرض بما أنزل الله على موسى، قال: فأرسلوا إليه ففعلوا فأتاهم عبدالله بن صوريا.

فقال له النبيّ: إنّي اُنشدك الله الّذي لا إله إلّا هو الّذي أنزل التوراة على موسى، و فلق لكم البحر و أنجاكم و أغرق آل فرعون، و ظلّل عليكم الغمام، و أنزل عليكم المنّ و السلوى هل تجدون في كتابكم الرجم على من اُحصن؟ قال ابن صوريا: نعم و الّذي ذكّرتني به لو لا خشية أن يحرقني ربّ التوراة إن كذبت أو غيّرت ما اعترفت لك، و لكن أخبرني كيف هي في كتابك يا محمّد؟ قال: إذا شهد أربعة رهط عدول أنّه قد أدخله فيها كما يدخل الميل في المكحلة وجب عليه الرجم، قال ابن صوريا: هكذا أنزل الله في التوراة على موسى.

فقال له النبيّ: فما ذا كان أوّل ما ترخّصتم به أمر الله؟ قال: كنّا إذا زنى الشريف تركناه، و إذا زنى الضعيف أقمنا عليه الحدّ فكثر الزنا في أشرافنا حتّى زنا ابن عمّ ملك لنا فلم نرجمه، ثمّ زنى رجل آخر فأراد الملك رجمه فقال له قومه: لا حتّى ترجم

٣٨٨

فلاناً - يعنون ابن عمّه - فقلنا: تعالوا نجتمع فلنضع شيئاً دون الرجم يكون على الشريف و الوضيع، فوضعنا الجلد و التحميم، و هو أن يجلّدا أربعين جلدة ثمّ يسوّد وجوههما ثمّ يحملان على حمارين، و يجعل وجوههما من قبل دبر الحمار و يطاف بهما فجعلوا هذا مكان الرجم.

فقالت اليهود لابن صوريا: ما أسرع ما أخبرته به! و ما كنت لما أتينا عليك بأهل، و لكنّك كنت غائباً فكرهنا أن نغتابك فقال: إنّه أنشدني بالتوراة، و لو لا ذلك لما أخبرته به، فأمر بهما النبيّ فرجما عند باب مسجده، و قال: أنا أوّل من أحيا أمرك إذا أماتوه فأنزل الله فيه:( يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَ يَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ ) فقام ابن صوريا فوضع يديه على ركبتي رسول الله ثمّ قال: هذا مقام العائذ بالله و بك أن تذكر لنا الكثير الّذي اُمرت أن تعفو عنه فأعرض النبيّ عن ذلك.

ثمّ سأله ابن صوريا عن نومه فقال: تنام عيناي و لا ينام قلبي، فقال: صدقت، و أخبرني عن شبه الولد بأبيه ليس فيه من شبه اُمّه شي‏ء أو باُمّه ليس فيه من شبه أبيه شي‏ء، فقال: أيّهما علا و سبق ماء صاحبه كان الشبه له قال: قد صدقت، فأخبرني ما للرجل من الولد و ما للمرأة منه؟ قال: فاُغمي على رسول الله طويلاً ثمّ خلّى عنه محمرّاً وجهه يفيض عرقاً فقال: اللّحم و الدم و الظفر و الشحم للمرأة، و العظم و العصب و العروق للرجل قال له: صدقت، أمرك أمر نبيّ.

فأسلم ابن صوريا عند ذلك و قال: يا محمّد من يأتيك من الملائكة؟ قال: جبرائيل قال: صفه لي فوصفه النبيّ فقال: اشهد أنّه في التوراة كما قلت: و أنّك رسول الله حقّاً.

فلمّا أسلم ابن صوريا وقعت فيه اليهود و شتموه، فلمّا أرادوا أن ينهضوا تعلّقت بنو قريظة ببني النضير فقالوا: يا محمّد إخواننا بنو النضير أبونا واحد، و ديننا واحد، و نبيّنا واحد إذا قتلوا منّا قتيلاً لم يقد، و أعطونا ديته سبعين وسقاً من تمر، و إذا قتلنا منهم قتيلاً قتلوا القاتل و أخذوا منّا الضعف مائة و أربعين وسقاً من تمر، و إن كان القتيل امرأة قتلوا به الرجل منّا، و بالرجل منهم رجلين منّا، و بالعبد الحرّ منّا و

٣٨٩

جراحاتنا على النصف من جراحاتهم، فاقض بيننا و بينهم فأنزل الله في الرجم و القصاص الآيات.

أقول: و أسند الطبرسيّ في المجمع، إلى رواية جماعة من المفسّرين مضافاً إلى روايته عن الباقرعليه‌السلام ، و روي ما يقرب من صدر القصّة في جوامع أهل السنّة و تفاسيرهم بعدّة طرق عن أبي هريرة و براء بن عازب و عبدالله بن عمر و ابن عبّاس و غيرهم، و الروايات متقاربة، و روي ذيل القصّة في الدرّ المنثور، عن عبد بن حميد و أبي الشيخ عن قتادة، و عن ابن جرير و ابن إسحاق و الطبرانيّ و ابن أبي شيبة و ابن المنذر و غيرهم عن ابن عبّاس.

أمّا ما وقع في الرواية من تصديق ابن صوريا وجود حكم الرجم في التوراة و أنّه المراد بقوله:( وَ كَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَ عِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ الله ) (الآية) فيؤيّده أيضاً وجود الحكم في التوراة الدائرة اليوم بنحو يقرب ممّا في الحديث.

ففي الإصحاح(١) الثاني و العشرين من سفر التثنية من التوراة ما هذا نصّه:( (٢٢) إذا وجد رجل مضطجعاً مع امرأة زوجة بعل يقتل الاثنان: الرجل المضطجع مع المرأة و المرأة فتنزع الشرّ من إسرائيل (٢٣) إذا كانت فتاة عذراء مخطوبة لرجل فوجدها رجل في المدينة و اضطجع معها (٢٤) فأخرجوهما كليهما إلى باب تلك المدينة و ارجموهما بالحجارة حتّى يموتا: الفتاة من أجل أنّها لم تصرخ في المدينة، و الرجل من أجل أنّه أذلّ امرأة صاحبه فتنزع الشرّ من وسطك.)

و هذا كما ترى يخصّ الرجم ببعض الصور.

و أمّا ما وقع في الرواية من سؤالهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن حكم الدية مضافاً إلى سؤالهم عن حكم زنا المحصن فقد تقدّم أنّ الآيات لا تخلو عن تأييد لذلك، و الّذي ذكرته الآية في حكم القصاص في القتل و الجرح أنّه مكتوب في التوراة فهو موجود في التوراة الدائرة اليوم:

في الإصحاح(٢) الحادي و العشرين من سفر الخروج من التوراة ما نصّه:

____________________

(١) منقول من التوراة العربيّة المطبوعة في كمبروج سنة ١٩٣٥.

(٢) في المصدر السابق الذكر.

٣٩٠

( (١٢) من ضرب إنساناً فمات يقتل قتلاً (١٣) و لكن الّذي لم يتعمّد بل أوقع الله في يد فأنا أجعل لك مكاناً يهرب إليه (٢٣) و إن حصلت أذيّة تعطي نفساً بنفس (٢٤) و عيناً بعين و سنّاً بسنّ و يداً بيد و رجلاً برجل (٢٥) و كيّاً بكيّ و جرحاً بجرح و رضّاً برضّ ‏) .

و في الإصحاح الرابع و العشرين من سفر اللّاويّين ما نصّه:( (١٧) و إذا أمات أحد إنساناً فإنّه يقتل (١٨) و من أمات بهيمة فإنّه يعوّض عنها نفساً بنفس (١٩) و إذا أحدث إنسان في قرينه عيباً فكما فعل كذلك يفعل به (٢٠) كسر بكسر و عين بعين و سنّ بسنّ كما أحدث عيباً في الإنسان كذلك يحدث فيه) ‏.

و في الدرّ المنثور، أخرج أحمد و أبوداود بن جرير و ابن المنذر و الطبرانيّ و أبوالشيخ و ابن مردويه عن ابن عبّاس قال: إنّ الله أنزل:( وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ الله فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ، الظَّالِمُونَ، الْفاسِقُونَ ) ، أنزلها الله في طائفتين من اليهود قهرت إحداهما الاُخرى في الجاهليّة حتّى ارتضوا و اصطلحوا على أنّ كلّ قتل قتلته العزيزة من الذليلة فديته خمسون وسقاً، و كلّ قتيل قتلته الذليلة من العزيزة فديته مائة وسق فكانوا على ذلك حتّى قدم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المدينة فنزلت الطائفتان كلتاهما لمقدّم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يومئذ لم يظهر عليهم فقامت الذليلة فقالت: و هل كان هذا في حيّين قطّ: دينهما واحد، و نسبهما واحد، و بلدهما واحد، و دية بعضهم نصف دية بعض؟ إنّما أعطيناكم هذا ضيماً منكم لنا و فرقاً منكم فأمّا، إذ قدم محمّد فلا نعطيكم ذلك فكادت الحرب تهيج بينهم ثمّ ارتضوا على أن يجعلوا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بينهم ففكّرت العزيزة فقالت: و الله ما محمّد بمعطيكم منهم ضعف ما يعطيهم منكم، و لقد صدقوا ما أعطونا هذا إلّا ضيماً و قهراً لهم، فدسّوا إلى رسول الله‏صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأخبر الله رسوله بأمرهم كلّه و ما ذا أرادوا فأنزل الله:( يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ - إلى قوله -وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ الله فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ ) ثمّ قال: فيهم و الله أنزلت.

أقول: و روى القصّة القمّيّ في تفسيره في حديث طويل و فيه: أنّ عبدالله بن

٣٩١

اُبيّ هو الّذي كان يتكلّم عن بني النضير - و هي العزيزة - و يخوّف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمرهم، و أنّه كان هو القائل:( إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَ إِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا ) .

و الرواية الاُولى أصدق متناً من هذه لأنّ مضمونها أوفق و أكثر انطباقاً على سياق الآيات فإنّ أوائل الآيات و خاصّة الآيتين الأوّليين لا تنطبق سياقاً على ما ذكر من قصّة الدية بين بني النضير و بني قريظة كما لا يخفى على العارف بأساليب الكلام، و ليس من البعيد أن يكون الرواية من قبيل تطبيق القصّة على القرآن على حدّ كثير من روايات أسباب النزول، فكأنّ الراوي وجد القصّة تنطبق على مثل قوله:( وَ كَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ ) (الآية) و ما قبلها، ثمّ رأى اتّصال الآيات بادئة من قوله:( يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ ) (الآية) فأخذ جميع الآيات نازلة في هذه القصّة، و قد غفل عن قصّة الرجم. و الله أعلم.

و في تفسير العيّاشيّ، عن سليمان بن خالد قال: سمعت أباعبداللهعليه‌السلام يقول: إنّ الله إذا أراد بعبد خيراً نكت في قلبه نكتة بيضاء، و فتح مسامع قلبه، و وكّل به ملكاً يسدّده، و إذا أراد الله بعبد سوءً نكت في قلبه نكتة سوداء، و سدّ مسامع قلبه و وكّل به شيطاناً يضلّه.

ثمّ تلا هذه الآية:( فَمَنْ يُرِدِ الله أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَ مَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً ) (الآية) و قال:( إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ ) و قال:( أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ الله أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ ) .

و في الكافي، بإسناده عن السكونيّ عن أبي عبدالله قال: السحت ثمن الميتة و ثمن الكلب و ثمن الخمر و مهر البغيّ و الرشوة في الحكم و أجر الكاهن.

أقول: ما ذكره في الرواية إنّما هو تعداد من غير حصر، و أقسام السحت كثيرة كما في الروايات، و في هذا المعنى و ما يقرب منه روايات كثيرة من طرق أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام .

و في الدرّ المنثور، أخرج عبد بن حميد عن عليّ بن أبي طالب: أنّه سئل عن السحت فقال: الرشا. فقيل له: في الحكم؟ قال: ذاك الكفر.

٣٩٢

أقول: قوله:( ذاك الكفر) كأنّه إشارة إلى ما وقع بين الآيات المبحوث عنها من قوله تعالى في سياق ذمّ السحت و الارتشاء في الحكم:( وَ لا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ الله فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ ) و قد تكرّر في الروايات عن الباقر و الصادقعليهما‌السلام أنّهما قالا: و أمّا الرشا في الحكم فإنّ ذلك الكفر بالله و برسوله، و الروايات في تفسير السحت و حرمته كثيرة مرويّة من طرق الشيعة و أهل السنّة مودعة في جوامعهم.

و في الدرّ المنثور، في قوله تعالى:( فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ ) (الآية): أخرج ابن أبي حاتم و النحّاس في ناسخه و الطبرانيّ و الحاكم - و صحّحه - و ابن مردويه و البيهقيّ في سننه عن ابن عبّاس قال: آيتان نسختا من هذه السورة - يعني من المائدة -: آية القلائد و قوله:( فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ ) فكان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مخيّراً إن شاء حكم بينهم و إن شاء أعرض عنهم فردّهم إلى أحكامهم، فنزلت:( فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ الله وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ ) قال: فأمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يحكم بينهم بما في كتابنا.

و فيه، أخرج أبوعبيد و ابن المنذر و ابن مردويه عن ابن عبّاس: في قوله:( فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ ) قال: نسختها هذه الآية:( وَ أَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ ) .

أقول: و روي أيضاً عن عبدالرزّاق عن عكرمة مثله‏، و المتحصّل من مضمون الآيات لا يوافق هذا النسخ فإنّ الاتّصال الظاهر من سياق الآيات يقضي بنزولها دفعه واحدة و لا معنى حينئذ لنسخ بعضها بعضاً، على أنّ قوله تعالى:( وَ أَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ الله ) ، آية غير مستقلّة في معناها بل مرتبطة بما تقدّمها و لا وجه على هذا لكونها ناسخة، و لو صحّ النسخ مع ذلك كان ما قبلها أعني قوله:( فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ الله ) ، في الآية السابقة أحقّ بالنسخ منها. على أنّك قد عرفت أنّ الأظهر رجوع الضمير في قوله تعالى:( بَيْنَهُمْ ) إلى الناس مطلقاً دون أهل الكتاب أو اليهود خاصّة، على أنّه قد تقدّم في أوائل الكلام على السورة: أنّ سورة المائدة ناسخة غير منسوخة.

٣٩٣

و في تفسير العيّاشيّ، في قوله تعالى:( إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَ نُورٌ ) (الآية) عن أبي عمرو الزبيريّ عن أبي عبداللهعليه‌السلام : أنّ ممّا استحقّت به الإمامة: التطهير و الطهارة من الذنوب و المعاصي الموبقة الّتي توجب النار ثمّ العلم المنوّر - و في نسخة: المكنون - بجميع ما يحتاج إليه الاُمّة من حلالها و حرامها، و العلم بكتابها خاصّه و عامّه، و المحكم و المتشابه و دقائق علمه، و غرائب تأويله، و ناسخه و منسوخه. قلت: و ما الحجّة بأنّ الإمام لا يكون إلّا عالماً بهذه الأشياء الّتي ذكرت؟ قال: قول الله فيمن أذن الله لهم في الحكومة و جعلهم أهلها:( إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَ نُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَ الرَّبَّانِيُّونَ وَ الْأَحْبارُ ) فهذه الأئمّة دون الأنبياء الّذين يربّون الناس بعلمهم، و أمّا الأحبار فهم العلماء دون الربّانيّين، ثمّ أخبر فقال:( بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ الله وَ كانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ ) و لم يقل بما حمّلوا منه.

أقول: و هذا استدلال لطيف منهعليه‌السلام يظهر به عجيب معنى الآية و هو معنى أدّق ممّا تقدّم بيانه و محصّله: أنّ الترتيب الّذي اتّخذته الآية في العدّ فذكرت الأنبياء ثمّ الربّانيّين ثمّ الأحبار يدلّ على ترتّبهم بحسب الفضل و الكمال: فالربّانيّون دون الأنبياء و فوق الأحبار، و الأحبار هم علماء الدين الّذين حمّلوا علمه بالتعليم و التعلّم.

و قد أخبر الله سبحانه عن نحو علم الربّانيّين بقوله:( بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ الله وَ كانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ ) و لو كان المراد بذلك نحو علم العلماء لقيل: بما حمّلوا كما قال:( مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها ) الآية (الجمعة: ٥) فإنّ الاستحفاظ هو سؤال الحفظ، و معناه التكليف بالحفظ نظير قوله:( لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ ) (الأحزاب ٨) أي ليكلّفهم بأن يظهروا ما كمن في نفوسهم من صفة الصدق، و هذا الحفظ ثمّ الشهادة على الكتاب لا يتمّان إلّا مع عصمة ليست من شأن غير الإمام المعصوم من قبل الله سبحانه فإنّ الله سبحانه بنى إذنه لهم في الحكم على حفظهم للكتاب، و اعتبر شهادتهم بانياً ذلك عليه، و من المحال أن يعتبر شهادتهم على الكتاب، و هي الّتي يثبت بها الكتاب مع جواز الخطأ و الغلط عليهم.

٣٩٤

فهذا الحفظ و الشهادة غير الحفظ و الشهادة اللّذين بيننا معاشر الناس، بل من قبيل حفظ الأعمال و الشهادة الّتي تقدّم في قوله تعالى:( لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَ يَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً ) (البقرة: ١٤٣) و قد مرّ في الجزء الأوّل من الكتاب.

و نسبة هذا الحفظ و الشهادة إلى الجميع مع كون القائم بهما البعض كنسبة الشهادة على الأعمال إلى جميع الاُمّة مع كون القائم بها بعضهم، و هو استعمال شائع في القرآن نظير قوله تعالى:( وَ لَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَ الْحُكْمَ وَ النُّبُوَّةَ ) (الجاثية: ١٦).

و هذا لا ينافي تكليف الأحبار بالحفظ و الشهادة و أخذ الميثاق منهم بذلك لأنّه ثبوت شرعيّ اعتباريّ غير الثبوت الحقيقيّ الّذي يتوقّف على حفظ حقيقيّ خال عن الغلط و الخطأ، و الدين الإلهيّ كما لا يتمّ من دون هذا لا يتمّ من دون ذاك.

فثبت أنّ هناك منزلة بين منزلتي الأنبياء و الأحبار، و هي منزلة الأئمّة و قد أخبر به الله سبحانه في قوله:( وَ جَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَ كانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ ) (السجدة: ٢٤) و لا ينافيه قوله:( وَ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ نافِلَةً وَ كُلًّا جَعَلْنا صالِحِينَ وَ جَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا ) (الأنبياء: ٧٣) فإنّ اجتماع النبوّة و الإمامة في جماعة لا ينافي افتراقهما في غيرهم، و قد تقدّم شطر من الكلام في الإمامة في قوله تعالى:( وَ إِذِ ابْتَلى‏ إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ ) الآية: (البقرة: ١٢٤) في الجزء الأوّل من الكتاب.

و بالجملة للربّانيّين و الأئمّة و هم البرازخ بين الأنبياء و الأحبار العلم بحقّ الكتاب و الشهادة عليه بحقّ الشهادة.

و هذا في الربّانيّين و الأئمّة من بني إسرائيل لكنّ الآية تدلّ على أنّ ذلك لكون التوراة كتاباً منزلاً من عندالله سبحانه مشتملاً على هدى و نور أي المعارف الاعتقاديّة و العمليّة الّتي تحتاج إليها الاُمّة، و إذا كان ذلك هو المستدعي لهذا الاستحفاظ و الشهادة للّذين لا يقوم بهما إلّا الربّانيّون و الأئمّة كان هذا حال كلّ كتاب منزل من عندالله مشتمل على معارف إلهيّة و أحكام عمليّة و بذلك يثبت المطلوب.

٣٩٥

فقولهعليه‌السلام :( فهذه الأئمّة دون الأنبياء) أي هم أخفض منزلة من الأنبياء بحسب الترتيب المأخوذ في الآية كما أنّ الأحبار - و هم العلماء - دون الربّانيّين، و قوله:( يربّون الناس بعلمهم) ظاهر في أنّهعليه‌السلام أخذ لفظ الربّانيّ من مادّة التربية دون الربوبيّة، و قد اتّضح معاني بقيّة فقرات الرواية بما قدّمناه من محصّل المعنى.

و لعلّ هذا المعنى هو مرادهعليه‌السلام فيما رواه العيّاشيّ أيضاً عن مالك الجهنيّ قال: قال أبوجعفرعليه‌السلام :( إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَ نُورٌ - إلى قوله -بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ الله ) قال: فينا نزلت.

و في تفسير البرهان، في قوله تعالى:( وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ الله فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ ) عن الكافي، بإسناده عن عبدالله بن مسكان رفعه قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من حكم في درهمين بحكم جور ثمّ جبر عليه كان من أهل هذه الآية:( وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ الله فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ ) فقلت: و كيف يجبر عليه؟ فقال: يكون له سوط و سجن فيحكم عليه فإن رضي بحكمه و إلّا ضربه بسوطه و حبسه في سجنه.

أقول: و رواه الشيخ في التهذيب، بإسناده عن ابن مسكان مرفوعاً عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و رواه العيّاشيّ في تفسيره مرسلاً عنه. و معنى صدر الحديث مرويّ بطرق اُخرى أيضاً عن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام .

و المراد بتقييد الحكم بالجبر إفادة أن يكون الحكم ممّا يترتّب عليه الأثر فيكون حكماً فصلاً بحسب نفسه بالطبع و إلّا فمجرّد الإنشاء لا يسمّى حكماً.

و في الدرّ المنثور، أخرج سعيد بن منصور و أبوالشيخ و ابن مردويه عن ابن عبّاس قال: إنّما أنزل الله( وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ الله فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ ) ،( و الظَّالِمُونَ ) ،( و الْفاسِقُونَ ) في اليهود خاصّة.

أقول: فيه: أنّ الآيات الثلاث مطلقة لا دليل على تقييدها، و المورد لا يوجب التصرّف في إطلاق اللّفظ، على أنّ مورد الآية الثالثة النصارى دون اليهود، على أنّ ابن عبّاس قد روي عنه ما يناقض ذلك.

و فيه، أخرج عبد بن حميد عن حكيم بن جبير قال: سألت سعيد بن جبير عن هذه

٣٩٦

الآيات في المائدة، قلت: زعم قوم أنّها نزلت على بني إسرائيل و لم تنزل علينا قال: اقرء ما قبلها و ما بعدها فقرأت عليه فقال: لا، بل نزلت علينا، ثمّ لقيت مقسّماً - مولى ابن عبّاس - فسألته عن هؤلاء الآيات الّتي في المائدة قلت: زعم قوم أنّها نزلت على بني إسرائيل و لم ينزل علينا قال: إنّه نزل على بني إسرائيل و نزل علينا، و ما نزل علينا و عليهم فهو لنا و لهم.

ثمّ دخلت على عليّ بن الحسين فسألته عن هذه الآيات الّتي في المائدة و حدّثته أنّي سألت عنها سعيد بن جبير و مقسّماً قال: فما قال مقسّم؟ فأخبرته بها، قال: قال: صدق و لكنّه كفر ليس ككفر الشرك، و فسق ليس كفسق الشرك، و ظلم ليس كظلم الشرك.

فلقيت سعيد بن جبير فأخبرته بما قال فقال سعيد بن جبير لابنه: كيف رأيته؟(١) لقد وجدت له فضلاً عليك و على مقسّم.

أقول: قد ظهر انطباق الرواية على ما يظهر من الآية فيما تقدّم من البيان.

و في الكافي، بإسناده عن الحلبيّ عن أبي عبداللهعليه‌السلام و في تفسير العيّاشيّ، عن أبي بصير عنهعليه‌السلام : في قوله تعالى:( فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ ) الآية قال: يكفّر عنه من ذنوبه بقدر ما عفي من جراح أو غيره.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن مردويه عن رجل من الأنصار عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : في قوله:( فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ ) قال: الرجل تكسر سنّه أو تقطع يده أو يقطع الشي‏ء أو يجرح في بدنه فيعفو عن ذلك فيحطّ عنه قدر خطاياه فإن كان ربع الدية فربع خطاياه، و إن كان الثلث فثلث خطاياه، و إن كانت الدية حطّت عنه خطاياه كذلك.

أقول: و روي مثله أيضاً عن الديلميّ عن ابن عمر، و لعلّ ما وقع في هذه الرواية و الرواية السابقة عليها من انقسام التكفير بحسب انقسام العفو مستفاد من تنزيل الدية شرعاً - و هي منقسمة - منزلة القصاص ثمّ توزين القصاص و الدية جميعاً

____________________

(١) قال ظ.

٣٩٧

بمغفرة الذنوب و هي أيضاً منقسمة فينطبق البعض على البعض كما انطبق الكلّ على الكلّ.

و في تفسير القمّيّ، في قوله تعالى:( لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَ مِنْهاجاً ) قال: لكلّ نبيّ شريعة و طريق.

و في تفسير البرهان، في قوله تعالى:( أَ فَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ ) ، عن الكافي بإسناده عن أحمد بن محمّد بن خالد عن أبيه رفعه عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: القضاة أربعة: ثلاثة في النار و واحد في الجنّة: رجل يقضي بجور و هو يعلم فهو في النار، و رجل قضى بجور و هو لا يعلم فهو في النار، و رجل قضى بالحقّ و هو لا يعلم فهو في النار، و رجل قضى بالحقّ و هو يعلم فهو في الجنّة.

و قالعليه‌السلام : الحكم حكمان: حكم الله و حكم الجاهليّة فمن أخطأ حكم الله حكم بحكم الجاهليّة.

أقول: و في المعنيين جميعاً أخبار كثيرة من طرق الشيعة و أهل السنّة مودعة في أخبار القضاء و الشهادات، و الآية تشعر بل تدلّ على المعنيين جميعاً: أمّا بالنسبة إلى المعنى الأوّل فلأنّ الحكم بالجور سواءً علم به أو حكم بغير علم فكان جوراً بالمصادفة و كذا الحكم بالحقّ من غير علم كلّ ذلك من اتّباع الهوى و قد نهى الله عنه بقوله:( فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ الله وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ ) فحذّر اتّباع الهوى في الحكم و قابل به الحكم بالحقّ فعلم بذلك أنّ العلم بالحقّ شرط في جواز الحكم و إلّا لم يجز لأنّ فيه اتّباع الهوى. على أنّه يصدق عليه حكم الجاهليّة المقابل لحكم الله تعالى.

و أمّا المعنى الثاني و هو كون الحكم منقسماً إلى حكم الجاهليّة و حكم الله فهو مستفاد من ظاهر قوله تعالى:( أَ فَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَ مَنْ أَحْسَنُ مِنَ الله حُكْماً ) من حيث المقابلة الواقعة بين الحكمين، و الله أعلم.

و في تفسير الطبريّ، عن قتادة: في قوله تعالى:( إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَ نُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَ الرَّبَّانِيُّونَ وَ الْأَحْبارُ ) قال: أمّا الربّانيّون ففقهاء اليهود و أمّا الأحبار فعلماؤهم، قال: و ذكر لنا أنّ نبيّ اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

٣٩٨

قال لمّا اُنزلت هذه الآية: نحن نحكم على اليهود و على من سواهم من أهل الأديان.

أقول: و رواه السيوطيّ، أيضاً في قوله تعالى:( إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ ) (الآية) عن عبد بن حميد و عن ابن جرير عن قتادة.

و ظاهر الرواية أنّ المنقول من قول النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم متعلّق بالآية أي أنّ الآية هي الحجّة في ذلك فيشكل بأنّ الآية لا تدلّ إلّا على الحكم بالتوراة على اليهود لقوله تعالى:( لِلَّذِينَ هادُوا ) لا على غير اليهود و لا على الحكم بغير التوراة كما هو ظاهر الرواية إلّا أن يراد بقوله:( نحن نحكم) ، أنّ الأنبياء يحكمون كذا و كذا، و هو مع كونه معنى سخيفاً لا يرتبط بالآية.

و الظاهر أنّ بعض الرواة غلط في نقل الآية، و أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنّما قاله بعد نزول قوله تعالى:( وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ الله ) (الآيات) و ينطبق على ما تقدّم أنّ ظاهر الآية رجوع الضمير في قوله:( بَيْنَهُمْ ) إلى الناس دون اليهود خاصّة. فأخذ الراوي الآية مكان الآية.

٣٩٩

( سورة المائدة الآيات ٥١ - ٥٤)

يَاأَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنّصَارَى‏ أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلّهُم مِنكُمْ فَإِنّهُ مِنْهُمْ إِنّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظّالِمِينَ( ٥١) فَتَرَى الّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى‏ أَن تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى‏ مَا أَسَرّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ( ٥٢) وَيَقُولُ الّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلاَءِ الّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ( ٥٣) يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدّ مِنْكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبّهُمْ وَيُحِبّونَهُ أَذِلّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزّةٍ عَلَى الْكَافِرينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لاَئِمٍ ذلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ( ٥٤)

( بيان)

السير الإجماليّ في هذه الآيات يوجب التوقّف في اتّصال هذه الآيات بما قبلها، و كذا في اتّصال ما بعدها كقوله تعالى:( إِنَّما وَلِيُّكُمُ الله وَ رَسُولُهُ ) (إلى آخر الآيتين) ثمّ اتّصال قوله بعدهما:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً ) إلى تمام عدّة آيات ثمّ في اتّصال قوله:( يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ) (الآية).

أمّا هذه الآيات الأربع فإنّها تذكر اليهود و النصارى، و القرآن لم يكن ليذكر أمرهم في آياته المكّيّة لعدم مسيس الحاجة إليه يومئذ بل إنّما يتعرّض لحالهم في المدنيّة من الآيات، و لا فيما نزلت منها في أوائل الهجرة فإنّ المسلمين إنّما كانوا مبتلين يومئذ بمخالطة اليهود و معاشرتهم أو موادعتهم أو دفع كيدهم و مكرهم

٤٠٠