الميزان في تفسير القرآن الجزء ٥

الميزان في تفسير القرآن8%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 444

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 444 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 94052 / تحميل: 11205
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ٥

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

فالشريعة تقبل النسخ دون الدين بمعناه الوسيع.

و هناك فرق آخر و هو أنّ الدين ينسب إلى الواحد و الجماعة كيفما كانا، و لكنّ الشريعة لا تنسب إلى الواحد إلّا إذا كان واضعها أو القائم بأمرها يقال: دين المسلمين و دين اليهود و شريعتهم، و يقال: دين الله و شريعته و دين محمّد و شريعته، و يقال: دين زيد و عمرو، و لا يقال: شريعة زيد و عمرو، و لعلّ ذلك لما في لفظ الشريعة من التلميح إلى المعنى الحدثيّ و هو تمهيد الطريق و نصبه فمن الجائز أن يقال: الطريقة الّتي مهّدها الله أو الطريقة الّتي مهّدت للنبيّ أو للاُمّة الفلانيّة دون أن يقال: الطريقة الّتي مهّدت لزيد إذ لا اختصاص له بشي‏ء.

و كيف كان فالمستفاد منها أنّ الشريعة أخصّ معنى من الدين و أمّا قوله تعالى:( شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَ ما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَ مُوسى‏ وَ عِيسى‏ ) (الشورى: ١٣) فلا ينافي ذلك إذ الآية إنّما تدلّ على أنّ شريعة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المشروعة لاُمّته هي مجموع وصايا الله سبحانه لنوح و إبراهيم و موسى و عيسى مضافاً إليها ما أوحاه إلى محمّد (صلّى الله عليه و آله و عليهم)، و هو كناية إمّا عن كون الإسلام جامعاً لمزايا جميع الشرائع السابقة و زيادة، أو عن كون الشرائع جميعاً ذات حقيقة واحدة بحسب اللّبّ و إن كانت مختلفة بحسب اختلاف الاُمم في الاستعداد كما يشعر به أو يدلّ عليه قوله بعده:( أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَ لا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ) (الشورى: ١٣).

فنسبة الشرائع الخاصّة إلى الدين - و هو واحد و الشرائع تنسخ بعضها بعضاً - كنسبة الأحكام الجزئيّة في الإسلام فيها ناسخ و منسوخ إلى أصل الدين، فالله سبحانه لم يتعبّد عباده إلّا لدين واحد و هو الإسلام له إلّا أنّه سلك بهم لنيل ذلك مسالك مختلفة و سنّ لهم سنناً متنوّعة على حسب اختلاف استعداداتهم و تنوّعها، و هي شرائع نوح و إبراهيم و موسى و عيسى و محمّد (صلّى الله عليه و آله و عليهم) كما أنّه تعالى ربّما نسخ في شريعة واحدة بعض الأحكام ببعض لانقضاء مصلحة الحكم المنسوخ و ظهور مصلحة الحكم الناسخ كنسخ الحبس المخلّد في زنا النساء بالجلد و الرجم و غير ذلك، و يدلّ على ذلك قوله تعالى:( وَ لَوْ شاءَ الله لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَ لكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ ) (الآية).

٣٨١

و أمّا الملّة فكأنّ المراد بها السنّة الحيويّة المسلوكة بين الناس، و كأنّ فيها معنى الإملال و الإملاء فيكون هي الطريقة المأخوذة من الغير، و ليس الأصل في معناه واضحاً ذاك الوضوح، فالأشبه أن تكون مرادفة للشريعة بمعنى أنّ الملّة كالشريعة هي الطريقة الخاصّة بخلاف الدين، و إن كان بينهما فرق من حيث أنّ الشريعة تستعمل فيها بعناية أنّها سبيل مهّده الله تعالى لسلوك الناس إليه، و الملّة إنّما تطلق عليها لكونها مأخوذة عن الغير بالاتّباع العمليّ، و لعلّه لذلك لا تضاف إلى الله سبحانه كما يضاف الدين و الشريعة، يقال: دين الله و شريعة الله، و لا يقال: ملّة الله.

بل إنّما تضاف إلى النبيّ مثلاً من حيث إنّها سيرته و سنّته أو إلى الاُمّة من جهة أنّهم سائرون مستنّون به، قال تعالى:( مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَ ما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) (البقرة: ١٣٥) و قال تعالى حكاية عن يوسفعليه‌السلام :( إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِالله وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ وَ اتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ ) (يوسف: ٣٨) و قال تعالى حكاية عن الكفّار في قولهم لأنبيائهم:( لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا ) (إبراهيم: ١٣).

فقد تلخّص أنّ الدين في عرف القرآن أعمّ من الشريعة و الملّة و هما كالمترادفين مع فرق مّا من حيث العناية اللفظيّة.

قوله تعالى: ( وَ لَوْ شاءَ الله لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَ لكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ ) بيان لسبب اختلاف الشرائع، و ليس المراد بجعلهم اُمّة واحدة الجعل التكوينيّ بمعنى النوعيّة الواحدة فإنّ الناس أفراد نوع واحد يعيشون على نسق واحد كما يدلّ عليه قوله تعالى:( وَ لَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَ مَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ ) (الزخرف: ٣٣).

بل المراد أخذهم بحسب الاعتبار اُمّة واحدة على مستوى واحد من الاستعداد و التهيّؤ حتّى تشرّع لهم شريعة واحدة لتقارب درجاتهم الملحوظة فقوله:( وَ لَوْ شاءَ الله لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً ) من قبيل وضع علّة الشرط موضع الشرط ليتّضح باستحضارها معنى الجزاء أعني قوله:( وَ لكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ ) أي ليمتحنكم فيما أعطاكم و أنعم عليكم،

٣٨٢

و لا محالة هذه العطايا المشار إليها في الآية مختلفة في الاُمم، و ليست هي الاختلافات بحسب المساكن و الألسنة و الألوان فإنّ الله لم يشرّع شريعتين أو أكثر في زمان واحد قطّ بل هي الاختلافات بحسب مرور الزمان، و ارتقاء الإنسان في مدارج الاستعداد و التهيّؤ و ليست التكاليف الإلهيّة و الأحكام المشرّعة إلّا امتحاناً إلهيّاً للإنسان في مختلف مواقف الحياة و إن شئت فقل: إخراجاً له من القوّة إلى الفعل في جانبي السعادة و الشقاوة، و إن شئت فقل: تمييزاً لحزب الرحمن و عباده من حزب الشيطان فقد اختلف التعبير عنه في الكتاب العزيز، و مآل الجميع إلى معنى واحد، قال تعالى جرياً على مسلك الامتحان:( وَ تِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ وَ لِيَعْلَمَ الله الَّذِينَ آمَنُوا وَ يَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ وَ الله لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ وَ لِيُمَحِّصَ الله الَّذِينَ آمَنُوا وَ يَمْحَقَ الْكافِرِينَ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَ لَمَّا يَعْلَمِ الله الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَ يَعْلَمَ الصَّابِرِينَ ) (آل عمران: ١٤٢) إلى غير ذلك من الآيات.

و قال جرياً على المسلك الثاني:( فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَ لا يَشْقى‏ وَ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَ نَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى‏ ) (طه: ١٢٤).

و قال جرياً على المسلك الثالث:( وَ إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً - إلى أن قال -قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ وَ إِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ ) (الحجر: ٤٣) إلى غير ذلك من الآيات.

و بالجملة لمّا كانت العطايا الإلهيّة لنوع الإنسان من الاستعداد و التهيّؤ مختلفة باختلاف الأزمان، و كانت الشريعة و السنّة الإلهيّة الواجب إجراؤها بينهم لتتميم سعادة حياتهم و هي الامتحانات الإلهيّة تختلف لا محالة باختلاف مراتب الاستعدادات و تنوّعها أنتج ذلك لزوم اختلاف الشرائع، و لذلك علّل تعالى ما ذكره من اختلاف الشرعة و المنهاج بأنّ إرادته تعلّقت ببلائكم و امتحانكم فيما أنعم عليكم

٣٨٣

فقال:( لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَ مِنْهاجاً وَ لَوْ شاءَ الله لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَ لكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ ) .

فمعنى الآية - و الله أعلم -: لكلّ اُمّة جعلنا منكم (جعلاً تشريعيّاً) شرعة و منهاجاً و لو شاء الله لأخذكم اُمّة واحدة و شرّع لكم شريعة واحدة، و لكن جعل لكم شرائع مختلفة ليمتحنكم فيما ءاتاكم من النعم المختلفة، و اختلاف النعم كان يستدعي اختلاف الامتحان الّذي هو عنوان التكاليف و الأحكام المجعولة فلا محالة ألقي الاختلاف بين الشرائع.

و هذه الاُمم المختلفة هي اُمم نوح و إبراهيم و موسى و عيسى و محمّد (صلّى الله عليه و آله و عليهم) كما يدلّ عليه ما يمتنّ الله به على هذه الاُمّة بقوله:( شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَ ما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَ مُوسى‏ وَ عِيسى) (الشورى: ١٣).

قوله تعالى: ( فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً ) إلخ الاستباق أخذ السبق، و المرجع مصدر ميميّ من الرجوع، و الكلام متفرّع على قوله:( لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَ مِنْهاجاً ) بما له من لازم المعنى أي و جعلنا هذه الشريعة الحقّة المهيمنة على سائر الشرائع شريعة لكم، و فيه خيركم و صلاحكم لا محالة فاستبقوا الخيرات و هي الأحكام و التكاليف، و لا تشتغلوا بأمر هذه الاختلافات الّتي بينكم و بين غيركم فإنّ مرجعكم جميعاً إلى ربّكم تعالى فينبّؤكم بما كنتم فيه تختلفون و يحكم بينكم حكماً فصلاً، و يقضي قضاءً عدلاً.

قوله تعالى: ( وَ أَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ الله وَ لا تَتَّبِعْ ) ، هذا الصدر يتّحد مع ما في الآية السابقة من قوله:( أَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ الله وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ ) ، ثمّ يختلفان فيما فرّع على كلّ منهما، و يعلم منه أنّ التكرار لحيازة هذه الفائدة فالآية الاُولى تأمر بالحكم بما أنزل الله و تحذّر اتّباع أهواء الناس لأنّ هذا الّذي أنزله الله هي الشريعة المجعولة للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و لاُمّته فالواجب عليهم أن يستبقوا هذه الخيرات، و الآية الثانية تأمر بالحكم بما أنزل الله، و تحذّر اتّباع أهواء الناس و تبيّن أن تولّيهم

٣٨٤

إن تولّوا عمّا أنزل الله كاشف عن إضلال إلهيّ لهم لفسقهم و قد قال الله تعالى:( يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَ يَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَ ما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ ) (البقرة: ٢٦).

فيتحصّل ممّا تقدّم أنّ هذه الآية بمنزلة البيان لبعض ما تتضمّنه الآية السابقة من المعاني المفتقرة إلى البيان، و هو أنّ إعراض أرباب الأهواء عن اتّباع ما أنزل الله بالحقّ إنّما هو لكونهم فاسقين، و قد أراد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم الموجبة لفسقهم، و الإصابة هو الإضلال ظاهراً، فقوله:( وَ أَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ الله ) عطف على الكتاب في قوله:( وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ ) كما قيل، و الأنسب حينئذ أن يكون اللّام فيه مشعرة بالتلميح إلى المعنى الحدثيّ، و يصير المعنى: و أنزلنا إليك ما كتب عليهم من الأحكام و أن احكم بينهم بما أنزل الله إلخ.

و قوله:( وَ احْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ الله إِلَيْكَ ) أمره تعالى نبيّه بالحذر عن فتنتهم مع كونهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم معصوماً بعصمة الله إنّما هو من جهة أنّ قوّة العصمة لا توجب بطلان الاختيار و سقوط التكاليف المبنيّة عليه فإنّها من سنخ الملكات العلميّة، و العلوم و الإدراكات لا تخرج القوى العاملة و المحرّكة في الأعضاء و الأعضاء الحاملة لها عن استواء نسبة الفعل و الترك إليها.

كما أنّ العلم الجازم بكون الغذاء مسموماً يعصم الإنسان عن تناوله و أكله، لكنّ الأعضاء المستخدمة للتغذّي كاليد و الفم و اللّسان و الأسنان من شأنها أن تعمل عملها في هذا الأكل و تتغذّى به، و من شأنها أن تسكن فلا تعمل شيئاً مع إمكان العمل لها فالفعل اختياريّ و إن كان كالمستحيل صدوره ما دام هذا العلم.

و قد تقدّم شطر من الكلام في ذلك في الكلام على قوله تعالى:( وَ ما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْ‏ءٍ وَ أَنْزَلَ الله عَلَيْكَ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ عَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَ كانَ فَضْلُ الله عَلَيْكَ عَظِيماً ) (النساء: ١١٣).

و قوله:( فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ الله أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ ) بيان لأمر إضلالهم إثر فسقهم كما تقدّم، و فيه رجوع إلى بدء الكلام في هذه الآيات:( يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ ) إلخ ففيه تسلية للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و تطييب

٣٨٥

لنفسه، و تعليم له ما لا يدبّ معه الحزن في قلبه، و هكذا فعل الله سبحانه في جلّ الموارد الّتي نهى فيها النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن أن يحزن على تولّيهم عن الدعوة الحقّة و استنكافهم عن قبول ما يرشدهم إلى سبيل الرشاد و الفلاح فبيّن لهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّهم ليسوا بمعجزين لله في ملكه و لا غالبين عليه بل الله غالب على أمره، و هو الّذي يضلّهم بسبب فسقهم، و يزيغ قلوبهم عن زيغ منهم، و يجعل الرجس عليهم بسلب توفيقه عنهم و استدراجه إيّاهم، قال تعالى:( وَ لا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ ) (الأنفال: ٥٩) و إذا كان الأمر إلى الله سبحانه، و هو الّذي يذبّ عن ساحة دينه الطاهرة كلّ رجس نجس فلم يفته شي‏ء ممّا أراده و لا وجه للحزن إذا لم يكن فائت.

و لعلّه إلى ذلك الإشارة بقوله:( فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ الله ) إلخ دون أن يقال: فإن تولّوا فإنّما يريد الله إلخ أو ما يؤدّي معناه فيؤول المعنى إلى تعليم أن تولّيهم أنّما هو بتسخير إلهيّ فلا ينبغي أن يحزّن ذلك النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فإنّه رسول داع إلى سبيل ربّه إن أحزنه شي‏ء فإنّما ينبغي أن يحزنه لغلبته إرادة الله في أمر الدعوة الدينيّة، و إذا كان الله سبحانه لا يعجزه شي‏ء بل هو الّذي يسوقهم إلى هنا و هناك بتسخير إلهيّ و توفيق و مكر فلا موجب للحزن.

و قد بيّن تعالى هذه الحقيقة بلسان آخر في قوله:( فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى‏ آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَ إِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً ) (الكهف: ٨) فبيّن أنّ الله تعالى لم يرد بإرسال الرسل و الإنذار و التبشير الدينيّ إيمان الناس جميعاً على حدّ ما يريده الإنسان في حوائجه و مآربه، و إنّما ذلك كلّه امتحان و ابتلاء يبتلى به الناس ليمتاز به من هو أحسن عملاً، و إلّا فالدنيا و ما فيها ستبطل و تفنى فلا يبقى إلّا الصعيد العاري من هؤلاء الكفّار المعرضين عن الحديث الحقّ، و من كلّ ما يتعلّق به قلوبهم فلا موجب للأسف إذ لا يجرّ ذلك خيبة إلى سعينا و لا بطلاناً لقدرتنا و كلالاً لإرادتنا.

و قوله:( وَ إِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ ) في محلّ التعليل لقوله:( أَنَّما يُرِيدُ الله أَنْ يُصِيبَهُمْ ) إلخ على ما تقدّم بيانه.

٣٨٦

قوله تعالى: ( أَ فَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَ مَنْ أَحْسَنُ مِنَ الله حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ) تفريع بنحو الاستفهام على ما بيّن في الآية السابقة من تولّيهم مع كون ما يتولّون عنه هو حكم الله النازل إليهم و الحقّ الّذي علموا أنّه حقّ، و يمكن أن يكون في مقام النتيجة اللّازمة لما بيّن في جميع الآيات السابقة.

و المعنى: و إذا كانت هذه الأحكام و الشرائع حقّة نازلة من عندالله و لم يكن وراءها حكم حقّ لا يكون دونها إلّا حكم الجاهليّة الناشئة عن اتّباع الهوى فهؤلاء الّذين يتولّون عن الحكم الحقّ ما ذا يريدون بتولّيهم و ليس هناك إلّا حكم الجاهليّة؟ أ فحكم الجاهليّة يبغون و الحال أنّه ليس أحد أحسن حكماً من الله لهؤلاء المدّعين للإيمان؟.

فقوله:( أَ فَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ ) استفهام توبيخيّ، و قوله:( وَ مَنْ أَحْسَنُ مِنَ الله حُكْماً ) استفهام إنكاريّ أي لا أحد أحسن حكماً من الله، و إنّما يتّبع الحكم لحسنه، و قوله:( لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ) في أخذ وصف اليقين تعريض لهم بأنّهم إن صدقوا في دعواهم الإيمان بالله فهم يوقنون بآياته، و الّذين يوقنون بآيات الله ينكرون أن يكون أحد أحسن حكماً من الله سبحانه.

و اعلم أنّ في الآيات موارد من الالتفات من التكلّم وحده أو مع الغير إلى الغيبة و بالعكس كقوله:( إِنَّ الله يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ) ثمّ قوله:( إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ ) ثمّ قوله:( بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ الله ) ثمّ قوله:( وَ اخْشَوْنِ ) و هكذا، فما كان منها يختار فيه الغيبة بلفظ الجلالة فإنّما يراد به تعظيم الأمر بتعظيم صاحبه.

و ما كان منها بلفظ المتكلّم وحده فيراد به أنّ الأمر إلى الله وحده لا يداخله وليّ و لا يشفع فيه شفيع، فإذا كان ترغيباً أو وعداً فإنّما القائم به هو الله سبحانه، و هو أكرم من يفي بوعده، و إذا كان تحذيراً أو إيعاداً فهو أشدّ و أشقّ و لا يصرف عن الإنسان بشفيع و لا وليّ إذ الأمر إلى الله نفسه و قد نفي كلّ واسطة و رفع كلّ سبب متخلّل فافهم ذلك، و قد مرّ بعض الكلام فيه في بعض المباحث السابقة.

٣٨٧

( بحث روائي)

في المجمع، في قوله تعالى:( يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ ) (الآية) عن الباقرعليه‌السلام : أنّ امرأة من خيبر ذات شرف بينهم زنت مع رجل من أشرافهم و هما محصنان، فكرهوا رجمهما، فأرسلوا إلى يهود المدينة و كتبوا إليهم أن يسألوا النبيّ عن ذلك طمعاً في أن يأتي لهم برخصة فانطلق قوم منهم كعب بن الأشرف و كعب بن اُسيد و شعبة بن عمرو و مالك بن الصيف و كنانة بن أبي الحقيق و غيرهم فقالوا: يا محمّد أخبرنا عن الزاني و الزانية إذا اُحصنا ما حدّهما؟ فقال: و هل ترضون بقضائي في ذلك؟ قالوا: نعم، فنزل جبرائيل بالرجم فأخبرهم بذلك فأبوا أن يأخذوا به فقال جبرائيل: اجعل بينك و بينهم ابن صوريا و وصفه له.

فقال النبيّ: هل تعرفون شابّاً أمرد أبيض أعور يسكن فدكاً يقال له: ابن صوريا؟ قالوا: نعم، قال: فأيّ رجل هو فيكم؟ قالوا: أعلم يهوديّ بقي على ظهر الأرض بما أنزل الله على موسى، قال: فأرسلوا إليه ففعلوا فأتاهم عبدالله بن صوريا.

فقال له النبيّ: إنّي اُنشدك الله الّذي لا إله إلّا هو الّذي أنزل التوراة على موسى، و فلق لكم البحر و أنجاكم و أغرق آل فرعون، و ظلّل عليكم الغمام، و أنزل عليكم المنّ و السلوى هل تجدون في كتابكم الرجم على من اُحصن؟ قال ابن صوريا: نعم و الّذي ذكّرتني به لو لا خشية أن يحرقني ربّ التوراة إن كذبت أو غيّرت ما اعترفت لك، و لكن أخبرني كيف هي في كتابك يا محمّد؟ قال: إذا شهد أربعة رهط عدول أنّه قد أدخله فيها كما يدخل الميل في المكحلة وجب عليه الرجم، قال ابن صوريا: هكذا أنزل الله في التوراة على موسى.

فقال له النبيّ: فما ذا كان أوّل ما ترخّصتم به أمر الله؟ قال: كنّا إذا زنى الشريف تركناه، و إذا زنى الضعيف أقمنا عليه الحدّ فكثر الزنا في أشرافنا حتّى زنا ابن عمّ ملك لنا فلم نرجمه، ثمّ زنى رجل آخر فأراد الملك رجمه فقال له قومه: لا حتّى ترجم

٣٨٨

فلاناً - يعنون ابن عمّه - فقلنا: تعالوا نجتمع فلنضع شيئاً دون الرجم يكون على الشريف و الوضيع، فوضعنا الجلد و التحميم، و هو أن يجلّدا أربعين جلدة ثمّ يسوّد وجوههما ثمّ يحملان على حمارين، و يجعل وجوههما من قبل دبر الحمار و يطاف بهما فجعلوا هذا مكان الرجم.

فقالت اليهود لابن صوريا: ما أسرع ما أخبرته به! و ما كنت لما أتينا عليك بأهل، و لكنّك كنت غائباً فكرهنا أن نغتابك فقال: إنّه أنشدني بالتوراة، و لو لا ذلك لما أخبرته به، فأمر بهما النبيّ فرجما عند باب مسجده، و قال: أنا أوّل من أحيا أمرك إذا أماتوه فأنزل الله فيه:( يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَ يَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ ) فقام ابن صوريا فوضع يديه على ركبتي رسول الله ثمّ قال: هذا مقام العائذ بالله و بك أن تذكر لنا الكثير الّذي اُمرت أن تعفو عنه فأعرض النبيّ عن ذلك.

ثمّ سأله ابن صوريا عن نومه فقال: تنام عيناي و لا ينام قلبي، فقال: صدقت، و أخبرني عن شبه الولد بأبيه ليس فيه من شبه اُمّه شي‏ء أو باُمّه ليس فيه من شبه أبيه شي‏ء، فقال: أيّهما علا و سبق ماء صاحبه كان الشبه له قال: قد صدقت، فأخبرني ما للرجل من الولد و ما للمرأة منه؟ قال: فاُغمي على رسول الله طويلاً ثمّ خلّى عنه محمرّاً وجهه يفيض عرقاً فقال: اللّحم و الدم و الظفر و الشحم للمرأة، و العظم و العصب و العروق للرجل قال له: صدقت، أمرك أمر نبيّ.

فأسلم ابن صوريا عند ذلك و قال: يا محمّد من يأتيك من الملائكة؟ قال: جبرائيل قال: صفه لي فوصفه النبيّ فقال: اشهد أنّه في التوراة كما قلت: و أنّك رسول الله حقّاً.

فلمّا أسلم ابن صوريا وقعت فيه اليهود و شتموه، فلمّا أرادوا أن ينهضوا تعلّقت بنو قريظة ببني النضير فقالوا: يا محمّد إخواننا بنو النضير أبونا واحد، و ديننا واحد، و نبيّنا واحد إذا قتلوا منّا قتيلاً لم يقد، و أعطونا ديته سبعين وسقاً من تمر، و إذا قتلنا منهم قتيلاً قتلوا القاتل و أخذوا منّا الضعف مائة و أربعين وسقاً من تمر، و إن كان القتيل امرأة قتلوا به الرجل منّا، و بالرجل منهم رجلين منّا، و بالعبد الحرّ منّا و

٣٨٩

جراحاتنا على النصف من جراحاتهم، فاقض بيننا و بينهم فأنزل الله في الرجم و القصاص الآيات.

أقول: و أسند الطبرسيّ في المجمع، إلى رواية جماعة من المفسّرين مضافاً إلى روايته عن الباقرعليه‌السلام ، و روي ما يقرب من صدر القصّة في جوامع أهل السنّة و تفاسيرهم بعدّة طرق عن أبي هريرة و براء بن عازب و عبدالله بن عمر و ابن عبّاس و غيرهم، و الروايات متقاربة، و روي ذيل القصّة في الدرّ المنثور، عن عبد بن حميد و أبي الشيخ عن قتادة، و عن ابن جرير و ابن إسحاق و الطبرانيّ و ابن أبي شيبة و ابن المنذر و غيرهم عن ابن عبّاس.

أمّا ما وقع في الرواية من تصديق ابن صوريا وجود حكم الرجم في التوراة و أنّه المراد بقوله:( وَ كَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَ عِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ الله ) (الآية) فيؤيّده أيضاً وجود الحكم في التوراة الدائرة اليوم بنحو يقرب ممّا في الحديث.

ففي الإصحاح(١) الثاني و العشرين من سفر التثنية من التوراة ما هذا نصّه:( (٢٢) إذا وجد رجل مضطجعاً مع امرأة زوجة بعل يقتل الاثنان: الرجل المضطجع مع المرأة و المرأة فتنزع الشرّ من إسرائيل (٢٣) إذا كانت فتاة عذراء مخطوبة لرجل فوجدها رجل في المدينة و اضطجع معها (٢٤) فأخرجوهما كليهما إلى باب تلك المدينة و ارجموهما بالحجارة حتّى يموتا: الفتاة من أجل أنّها لم تصرخ في المدينة، و الرجل من أجل أنّه أذلّ امرأة صاحبه فتنزع الشرّ من وسطك.)

و هذا كما ترى يخصّ الرجم ببعض الصور.

و أمّا ما وقع في الرواية من سؤالهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن حكم الدية مضافاً إلى سؤالهم عن حكم زنا المحصن فقد تقدّم أنّ الآيات لا تخلو عن تأييد لذلك، و الّذي ذكرته الآية في حكم القصاص في القتل و الجرح أنّه مكتوب في التوراة فهو موجود في التوراة الدائرة اليوم:

في الإصحاح(٢) الحادي و العشرين من سفر الخروج من التوراة ما نصّه:

____________________

(١) منقول من التوراة العربيّة المطبوعة في كمبروج سنة ١٩٣٥.

(٢) في المصدر السابق الذكر.

٣٩٠

( (١٢) من ضرب إنساناً فمات يقتل قتلاً (١٣) و لكن الّذي لم يتعمّد بل أوقع الله في يد فأنا أجعل لك مكاناً يهرب إليه (٢٣) و إن حصلت أذيّة تعطي نفساً بنفس (٢٤) و عيناً بعين و سنّاً بسنّ و يداً بيد و رجلاً برجل (٢٥) و كيّاً بكيّ و جرحاً بجرح و رضّاً برضّ ‏) .

و في الإصحاح الرابع و العشرين من سفر اللّاويّين ما نصّه:( (١٧) و إذا أمات أحد إنساناً فإنّه يقتل (١٨) و من أمات بهيمة فإنّه يعوّض عنها نفساً بنفس (١٩) و إذا أحدث إنسان في قرينه عيباً فكما فعل كذلك يفعل به (٢٠) كسر بكسر و عين بعين و سنّ بسنّ كما أحدث عيباً في الإنسان كذلك يحدث فيه) ‏.

و في الدرّ المنثور، أخرج أحمد و أبوداود بن جرير و ابن المنذر و الطبرانيّ و أبوالشيخ و ابن مردويه عن ابن عبّاس قال: إنّ الله أنزل:( وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ الله فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ، الظَّالِمُونَ، الْفاسِقُونَ ) ، أنزلها الله في طائفتين من اليهود قهرت إحداهما الاُخرى في الجاهليّة حتّى ارتضوا و اصطلحوا على أنّ كلّ قتل قتلته العزيزة من الذليلة فديته خمسون وسقاً، و كلّ قتيل قتلته الذليلة من العزيزة فديته مائة وسق فكانوا على ذلك حتّى قدم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المدينة فنزلت الطائفتان كلتاهما لمقدّم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يومئذ لم يظهر عليهم فقامت الذليلة فقالت: و هل كان هذا في حيّين قطّ: دينهما واحد، و نسبهما واحد، و بلدهما واحد، و دية بعضهم نصف دية بعض؟ إنّما أعطيناكم هذا ضيماً منكم لنا و فرقاً منكم فأمّا، إذ قدم محمّد فلا نعطيكم ذلك فكادت الحرب تهيج بينهم ثمّ ارتضوا على أن يجعلوا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بينهم ففكّرت العزيزة فقالت: و الله ما محمّد بمعطيكم منهم ضعف ما يعطيهم منكم، و لقد صدقوا ما أعطونا هذا إلّا ضيماً و قهراً لهم، فدسّوا إلى رسول الله‏صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأخبر الله رسوله بأمرهم كلّه و ما ذا أرادوا فأنزل الله:( يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ - إلى قوله -وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ الله فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ ) ثمّ قال: فيهم و الله أنزلت.

أقول: و روى القصّة القمّيّ في تفسيره في حديث طويل و فيه: أنّ عبدالله بن

٣٩١

اُبيّ هو الّذي كان يتكلّم عن بني النضير - و هي العزيزة - و يخوّف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمرهم، و أنّه كان هو القائل:( إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَ إِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا ) .

و الرواية الاُولى أصدق متناً من هذه لأنّ مضمونها أوفق و أكثر انطباقاً على سياق الآيات فإنّ أوائل الآيات و خاصّة الآيتين الأوّليين لا تنطبق سياقاً على ما ذكر من قصّة الدية بين بني النضير و بني قريظة كما لا يخفى على العارف بأساليب الكلام، و ليس من البعيد أن يكون الرواية من قبيل تطبيق القصّة على القرآن على حدّ كثير من روايات أسباب النزول، فكأنّ الراوي وجد القصّة تنطبق على مثل قوله:( وَ كَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ ) (الآية) و ما قبلها، ثمّ رأى اتّصال الآيات بادئة من قوله:( يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ ) (الآية) فأخذ جميع الآيات نازلة في هذه القصّة، و قد غفل عن قصّة الرجم. و الله أعلم.

و في تفسير العيّاشيّ، عن سليمان بن خالد قال: سمعت أباعبداللهعليه‌السلام يقول: إنّ الله إذا أراد بعبد خيراً نكت في قلبه نكتة بيضاء، و فتح مسامع قلبه، و وكّل به ملكاً يسدّده، و إذا أراد الله بعبد سوءً نكت في قلبه نكتة سوداء، و سدّ مسامع قلبه و وكّل به شيطاناً يضلّه.

ثمّ تلا هذه الآية:( فَمَنْ يُرِدِ الله أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَ مَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً ) (الآية) و قال:( إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ ) و قال:( أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ الله أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ ) .

و في الكافي، بإسناده عن السكونيّ عن أبي عبدالله قال: السحت ثمن الميتة و ثمن الكلب و ثمن الخمر و مهر البغيّ و الرشوة في الحكم و أجر الكاهن.

أقول: ما ذكره في الرواية إنّما هو تعداد من غير حصر، و أقسام السحت كثيرة كما في الروايات، و في هذا المعنى و ما يقرب منه روايات كثيرة من طرق أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام .

و في الدرّ المنثور، أخرج عبد بن حميد عن عليّ بن أبي طالب: أنّه سئل عن السحت فقال: الرشا. فقيل له: في الحكم؟ قال: ذاك الكفر.

٣٩٢

أقول: قوله:( ذاك الكفر) كأنّه إشارة إلى ما وقع بين الآيات المبحوث عنها من قوله تعالى في سياق ذمّ السحت و الارتشاء في الحكم:( وَ لا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ الله فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ ) و قد تكرّر في الروايات عن الباقر و الصادقعليهما‌السلام أنّهما قالا: و أمّا الرشا في الحكم فإنّ ذلك الكفر بالله و برسوله، و الروايات في تفسير السحت و حرمته كثيرة مرويّة من طرق الشيعة و أهل السنّة مودعة في جوامعهم.

و في الدرّ المنثور، في قوله تعالى:( فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ ) (الآية): أخرج ابن أبي حاتم و النحّاس في ناسخه و الطبرانيّ و الحاكم - و صحّحه - و ابن مردويه و البيهقيّ في سننه عن ابن عبّاس قال: آيتان نسختا من هذه السورة - يعني من المائدة -: آية القلائد و قوله:( فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ ) فكان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مخيّراً إن شاء حكم بينهم و إن شاء أعرض عنهم فردّهم إلى أحكامهم، فنزلت:( فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ الله وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ ) قال: فأمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يحكم بينهم بما في كتابنا.

و فيه، أخرج أبوعبيد و ابن المنذر و ابن مردويه عن ابن عبّاس: في قوله:( فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ ) قال: نسختها هذه الآية:( وَ أَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ ) .

أقول: و روي أيضاً عن عبدالرزّاق عن عكرمة مثله‏، و المتحصّل من مضمون الآيات لا يوافق هذا النسخ فإنّ الاتّصال الظاهر من سياق الآيات يقضي بنزولها دفعه واحدة و لا معنى حينئذ لنسخ بعضها بعضاً، على أنّ قوله تعالى:( وَ أَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ الله ) ، آية غير مستقلّة في معناها بل مرتبطة بما تقدّمها و لا وجه على هذا لكونها ناسخة، و لو صحّ النسخ مع ذلك كان ما قبلها أعني قوله:( فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ الله ) ، في الآية السابقة أحقّ بالنسخ منها. على أنّك قد عرفت أنّ الأظهر رجوع الضمير في قوله تعالى:( بَيْنَهُمْ ) إلى الناس مطلقاً دون أهل الكتاب أو اليهود خاصّة، على أنّه قد تقدّم في أوائل الكلام على السورة: أنّ سورة المائدة ناسخة غير منسوخة.

٣٩٣

و في تفسير العيّاشيّ، في قوله تعالى:( إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَ نُورٌ ) (الآية) عن أبي عمرو الزبيريّ عن أبي عبداللهعليه‌السلام : أنّ ممّا استحقّت به الإمامة: التطهير و الطهارة من الذنوب و المعاصي الموبقة الّتي توجب النار ثمّ العلم المنوّر - و في نسخة: المكنون - بجميع ما يحتاج إليه الاُمّة من حلالها و حرامها، و العلم بكتابها خاصّه و عامّه، و المحكم و المتشابه و دقائق علمه، و غرائب تأويله، و ناسخه و منسوخه. قلت: و ما الحجّة بأنّ الإمام لا يكون إلّا عالماً بهذه الأشياء الّتي ذكرت؟ قال: قول الله فيمن أذن الله لهم في الحكومة و جعلهم أهلها:( إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَ نُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَ الرَّبَّانِيُّونَ وَ الْأَحْبارُ ) فهذه الأئمّة دون الأنبياء الّذين يربّون الناس بعلمهم، و أمّا الأحبار فهم العلماء دون الربّانيّين، ثمّ أخبر فقال:( بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ الله وَ كانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ ) و لم يقل بما حمّلوا منه.

أقول: و هذا استدلال لطيف منهعليه‌السلام يظهر به عجيب معنى الآية و هو معنى أدّق ممّا تقدّم بيانه و محصّله: أنّ الترتيب الّذي اتّخذته الآية في العدّ فذكرت الأنبياء ثمّ الربّانيّين ثمّ الأحبار يدلّ على ترتّبهم بحسب الفضل و الكمال: فالربّانيّون دون الأنبياء و فوق الأحبار، و الأحبار هم علماء الدين الّذين حمّلوا علمه بالتعليم و التعلّم.

و قد أخبر الله سبحانه عن نحو علم الربّانيّين بقوله:( بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ الله وَ كانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ ) و لو كان المراد بذلك نحو علم العلماء لقيل: بما حمّلوا كما قال:( مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها ) الآية (الجمعة: ٥) فإنّ الاستحفاظ هو سؤال الحفظ، و معناه التكليف بالحفظ نظير قوله:( لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ ) (الأحزاب ٨) أي ليكلّفهم بأن يظهروا ما كمن في نفوسهم من صفة الصدق، و هذا الحفظ ثمّ الشهادة على الكتاب لا يتمّان إلّا مع عصمة ليست من شأن غير الإمام المعصوم من قبل الله سبحانه فإنّ الله سبحانه بنى إذنه لهم في الحكم على حفظهم للكتاب، و اعتبر شهادتهم بانياً ذلك عليه، و من المحال أن يعتبر شهادتهم على الكتاب، و هي الّتي يثبت بها الكتاب مع جواز الخطأ و الغلط عليهم.

٣٩٤

فهذا الحفظ و الشهادة غير الحفظ و الشهادة اللّذين بيننا معاشر الناس، بل من قبيل حفظ الأعمال و الشهادة الّتي تقدّم في قوله تعالى:( لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَ يَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً ) (البقرة: ١٤٣) و قد مرّ في الجزء الأوّل من الكتاب.

و نسبة هذا الحفظ و الشهادة إلى الجميع مع كون القائم بهما البعض كنسبة الشهادة على الأعمال إلى جميع الاُمّة مع كون القائم بها بعضهم، و هو استعمال شائع في القرآن نظير قوله تعالى:( وَ لَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَ الْحُكْمَ وَ النُّبُوَّةَ ) (الجاثية: ١٦).

و هذا لا ينافي تكليف الأحبار بالحفظ و الشهادة و أخذ الميثاق منهم بذلك لأنّه ثبوت شرعيّ اعتباريّ غير الثبوت الحقيقيّ الّذي يتوقّف على حفظ حقيقيّ خال عن الغلط و الخطأ، و الدين الإلهيّ كما لا يتمّ من دون هذا لا يتمّ من دون ذاك.

فثبت أنّ هناك منزلة بين منزلتي الأنبياء و الأحبار، و هي منزلة الأئمّة و قد أخبر به الله سبحانه في قوله:( وَ جَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَ كانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ ) (السجدة: ٢٤) و لا ينافيه قوله:( وَ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ نافِلَةً وَ كُلًّا جَعَلْنا صالِحِينَ وَ جَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا ) (الأنبياء: ٧٣) فإنّ اجتماع النبوّة و الإمامة في جماعة لا ينافي افتراقهما في غيرهم، و قد تقدّم شطر من الكلام في الإمامة في قوله تعالى:( وَ إِذِ ابْتَلى‏ إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ ) الآية: (البقرة: ١٢٤) في الجزء الأوّل من الكتاب.

و بالجملة للربّانيّين و الأئمّة و هم البرازخ بين الأنبياء و الأحبار العلم بحقّ الكتاب و الشهادة عليه بحقّ الشهادة.

و هذا في الربّانيّين و الأئمّة من بني إسرائيل لكنّ الآية تدلّ على أنّ ذلك لكون التوراة كتاباً منزلاً من عندالله سبحانه مشتملاً على هدى و نور أي المعارف الاعتقاديّة و العمليّة الّتي تحتاج إليها الاُمّة، و إذا كان ذلك هو المستدعي لهذا الاستحفاظ و الشهادة للّذين لا يقوم بهما إلّا الربّانيّون و الأئمّة كان هذا حال كلّ كتاب منزل من عندالله مشتمل على معارف إلهيّة و أحكام عمليّة و بذلك يثبت المطلوب.

٣٩٥

فقولهعليه‌السلام :( فهذه الأئمّة دون الأنبياء) أي هم أخفض منزلة من الأنبياء بحسب الترتيب المأخوذ في الآية كما أنّ الأحبار - و هم العلماء - دون الربّانيّين، و قوله:( يربّون الناس بعلمهم) ظاهر في أنّهعليه‌السلام أخذ لفظ الربّانيّ من مادّة التربية دون الربوبيّة، و قد اتّضح معاني بقيّة فقرات الرواية بما قدّمناه من محصّل المعنى.

و لعلّ هذا المعنى هو مرادهعليه‌السلام فيما رواه العيّاشيّ أيضاً عن مالك الجهنيّ قال: قال أبوجعفرعليه‌السلام :( إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَ نُورٌ - إلى قوله -بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ الله ) قال: فينا نزلت.

و في تفسير البرهان، في قوله تعالى:( وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ الله فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ ) عن الكافي، بإسناده عن عبدالله بن مسكان رفعه قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من حكم في درهمين بحكم جور ثمّ جبر عليه كان من أهل هذه الآية:( وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ الله فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ ) فقلت: و كيف يجبر عليه؟ فقال: يكون له سوط و سجن فيحكم عليه فإن رضي بحكمه و إلّا ضربه بسوطه و حبسه في سجنه.

أقول: و رواه الشيخ في التهذيب، بإسناده عن ابن مسكان مرفوعاً عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و رواه العيّاشيّ في تفسيره مرسلاً عنه. و معنى صدر الحديث مرويّ بطرق اُخرى أيضاً عن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام .

و المراد بتقييد الحكم بالجبر إفادة أن يكون الحكم ممّا يترتّب عليه الأثر فيكون حكماً فصلاً بحسب نفسه بالطبع و إلّا فمجرّد الإنشاء لا يسمّى حكماً.

و في الدرّ المنثور، أخرج سعيد بن منصور و أبوالشيخ و ابن مردويه عن ابن عبّاس قال: إنّما أنزل الله( وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ الله فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ ) ،( و الظَّالِمُونَ ) ،( و الْفاسِقُونَ ) في اليهود خاصّة.

أقول: فيه: أنّ الآيات الثلاث مطلقة لا دليل على تقييدها، و المورد لا يوجب التصرّف في إطلاق اللّفظ، على أنّ مورد الآية الثالثة النصارى دون اليهود، على أنّ ابن عبّاس قد روي عنه ما يناقض ذلك.

و فيه، أخرج عبد بن حميد عن حكيم بن جبير قال: سألت سعيد بن جبير عن هذه

٣٩٦

الآيات في المائدة، قلت: زعم قوم أنّها نزلت على بني إسرائيل و لم تنزل علينا قال: اقرء ما قبلها و ما بعدها فقرأت عليه فقال: لا، بل نزلت علينا، ثمّ لقيت مقسّماً - مولى ابن عبّاس - فسألته عن هؤلاء الآيات الّتي في المائدة قلت: زعم قوم أنّها نزلت على بني إسرائيل و لم ينزل علينا قال: إنّه نزل على بني إسرائيل و نزل علينا، و ما نزل علينا و عليهم فهو لنا و لهم.

ثمّ دخلت على عليّ بن الحسين فسألته عن هذه الآيات الّتي في المائدة و حدّثته أنّي سألت عنها سعيد بن جبير و مقسّماً قال: فما قال مقسّم؟ فأخبرته بها، قال: قال: صدق و لكنّه كفر ليس ككفر الشرك، و فسق ليس كفسق الشرك، و ظلم ليس كظلم الشرك.

فلقيت سعيد بن جبير فأخبرته بما قال فقال سعيد بن جبير لابنه: كيف رأيته؟(١) لقد وجدت له فضلاً عليك و على مقسّم.

أقول: قد ظهر انطباق الرواية على ما يظهر من الآية فيما تقدّم من البيان.

و في الكافي، بإسناده عن الحلبيّ عن أبي عبداللهعليه‌السلام و في تفسير العيّاشيّ، عن أبي بصير عنهعليه‌السلام : في قوله تعالى:( فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ ) الآية قال: يكفّر عنه من ذنوبه بقدر ما عفي من جراح أو غيره.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن مردويه عن رجل من الأنصار عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : في قوله:( فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ ) قال: الرجل تكسر سنّه أو تقطع يده أو يقطع الشي‏ء أو يجرح في بدنه فيعفو عن ذلك فيحطّ عنه قدر خطاياه فإن كان ربع الدية فربع خطاياه، و إن كان الثلث فثلث خطاياه، و إن كانت الدية حطّت عنه خطاياه كذلك.

أقول: و روي مثله أيضاً عن الديلميّ عن ابن عمر، و لعلّ ما وقع في هذه الرواية و الرواية السابقة عليها من انقسام التكفير بحسب انقسام العفو مستفاد من تنزيل الدية شرعاً - و هي منقسمة - منزلة القصاص ثمّ توزين القصاص و الدية جميعاً

____________________

(١) قال ظ.

٣٩٧

بمغفرة الذنوب و هي أيضاً منقسمة فينطبق البعض على البعض كما انطبق الكلّ على الكلّ.

و في تفسير القمّيّ، في قوله تعالى:( لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَ مِنْهاجاً ) قال: لكلّ نبيّ شريعة و طريق.

و في تفسير البرهان، في قوله تعالى:( أَ فَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ ) ، عن الكافي بإسناده عن أحمد بن محمّد بن خالد عن أبيه رفعه عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: القضاة أربعة: ثلاثة في النار و واحد في الجنّة: رجل يقضي بجور و هو يعلم فهو في النار، و رجل قضى بجور و هو لا يعلم فهو في النار، و رجل قضى بالحقّ و هو لا يعلم فهو في النار، و رجل قضى بالحقّ و هو يعلم فهو في الجنّة.

و قالعليه‌السلام : الحكم حكمان: حكم الله و حكم الجاهليّة فمن أخطأ حكم الله حكم بحكم الجاهليّة.

أقول: و في المعنيين جميعاً أخبار كثيرة من طرق الشيعة و أهل السنّة مودعة في أخبار القضاء و الشهادات، و الآية تشعر بل تدلّ على المعنيين جميعاً: أمّا بالنسبة إلى المعنى الأوّل فلأنّ الحكم بالجور سواءً علم به أو حكم بغير علم فكان جوراً بالمصادفة و كذا الحكم بالحقّ من غير علم كلّ ذلك من اتّباع الهوى و قد نهى الله عنه بقوله:( فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ الله وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ ) فحذّر اتّباع الهوى في الحكم و قابل به الحكم بالحقّ فعلم بذلك أنّ العلم بالحقّ شرط في جواز الحكم و إلّا لم يجز لأنّ فيه اتّباع الهوى. على أنّه يصدق عليه حكم الجاهليّة المقابل لحكم الله تعالى.

و أمّا المعنى الثاني و هو كون الحكم منقسماً إلى حكم الجاهليّة و حكم الله فهو مستفاد من ظاهر قوله تعالى:( أَ فَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَ مَنْ أَحْسَنُ مِنَ الله حُكْماً ) من حيث المقابلة الواقعة بين الحكمين، و الله أعلم.

و في تفسير الطبريّ، عن قتادة: في قوله تعالى:( إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَ نُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَ الرَّبَّانِيُّونَ وَ الْأَحْبارُ ) قال: أمّا الربّانيّون ففقهاء اليهود و أمّا الأحبار فعلماؤهم، قال: و ذكر لنا أنّ نبيّ اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

٣٩٨

قال لمّا اُنزلت هذه الآية: نحن نحكم على اليهود و على من سواهم من أهل الأديان.

أقول: و رواه السيوطيّ، أيضاً في قوله تعالى:( إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ ) (الآية) عن عبد بن حميد و عن ابن جرير عن قتادة.

و ظاهر الرواية أنّ المنقول من قول النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم متعلّق بالآية أي أنّ الآية هي الحجّة في ذلك فيشكل بأنّ الآية لا تدلّ إلّا على الحكم بالتوراة على اليهود لقوله تعالى:( لِلَّذِينَ هادُوا ) لا على غير اليهود و لا على الحكم بغير التوراة كما هو ظاهر الرواية إلّا أن يراد بقوله:( نحن نحكم) ، أنّ الأنبياء يحكمون كذا و كذا، و هو مع كونه معنى سخيفاً لا يرتبط بالآية.

و الظاهر أنّ بعض الرواة غلط في نقل الآية، و أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنّما قاله بعد نزول قوله تعالى:( وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ الله ) (الآيات) و ينطبق على ما تقدّم أنّ ظاهر الآية رجوع الضمير في قوله:( بَيْنَهُمْ ) إلى الناس دون اليهود خاصّة. فأخذ الراوي الآية مكان الآية.

٣٩٩

( سورة المائدة الآيات ٥١ - ٥٤)

يَاأَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنّصَارَى‏ أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلّهُم مِنكُمْ فَإِنّهُ مِنْهُمْ إِنّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظّالِمِينَ( ٥١) فَتَرَى الّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى‏ أَن تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى‏ مَا أَسَرّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ( ٥٢) وَيَقُولُ الّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلاَءِ الّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ( ٥٣) يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدّ مِنْكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبّهُمْ وَيُحِبّونَهُ أَذِلّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزّةٍ عَلَى الْكَافِرينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لاَئِمٍ ذلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ( ٥٤)

( بيان)

السير الإجماليّ في هذه الآيات يوجب التوقّف في اتّصال هذه الآيات بما قبلها، و كذا في اتّصال ما بعدها كقوله تعالى:( إِنَّما وَلِيُّكُمُ الله وَ رَسُولُهُ ) (إلى آخر الآيتين) ثمّ اتّصال قوله بعدهما:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً ) إلى تمام عدّة آيات ثمّ في اتّصال قوله:( يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ) (الآية).

أمّا هذه الآيات الأربع فإنّها تذكر اليهود و النصارى، و القرآن لم يكن ليذكر أمرهم في آياته المكّيّة لعدم مسيس الحاجة إليه يومئذ بل إنّما يتعرّض لحالهم في المدنيّة من الآيات، و لا فيما نزلت منها في أوائل الهجرة فإنّ المسلمين إنّما كانوا مبتلين يومئذ بمخالطة اليهود و معاشرتهم أو موادعتهم أو دفع كيدهم و مكرهم

٤٠٠

خاصّة دون النصارى إلّا في النصف الأخير من زمن إقامة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالمدينة فلعلّ الآيات الأربع نزلت فيه، و لعلّ المراد بالفتح فيها فتح مكّة.

لكن تقدّم أنّ الاعتماد على نزول سورة المائدة في سنة حجّة الوداع و قد فتحت مكّة فهل المراد بالفتح فتح آخر غير فتح مكّة؟ أو أنّ هذه الآيات نزلت قبل فتح مكّة و قبل نزول السورة جميعاً؟.

ثمّ إنّ الآية الأخيرة أعني قوله:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ ) (الآية) هل هي متّصلة بالآيات الثلاث المتقدّمة عليها؟ و من المراد بهؤلاء القوم الّذين تتوقّع ردّتهم؟ و من هؤلاء الآخرون الّذين وعد الله أنّه سيأتي بهم؟ كلّ واحد منها أمر يزيد إبهاماً على إبهام، و قد تشتّت ما ورد من أسباب النزول و ليست إلّا أنظار المفسّرين من السلف كغالب أسباب النزول المنقولة في الآيات، و هذا الاختلاف الفاحش أيضاً ممّا يشوّش الذهن في تفهّم المعنى، أضف إلى ذلك كلّه مخالطة التعصّبات المذهبيّة الأنظار القاضية فيها كما سيمرّ بك شواهد تشهد على ذلك من الروايات و أقوال المفسّرين من السلف و الخلف.

و الّذي يعطيه التدبّر في الآيات: أنّ هذه الآيات الأربع على ما نقلناها متّصلة الأجزاء منقطعة عمّا قبلها و ما بعدها، و أنّ الآية الرابعة من متمّمات الغرض المقصود بيانه فيها غير أنّه يجب التحرّز في فهم معناها عن المساهلات و المسامحات الّتي جوّزتها أنظار الباحثين من المفسّرين في الآيات و خاصّة فيما ذكر فيها من الأوصاف و النعوت على ما سيجي‏ء.

و إجمال ما يتحصّل من الآيات أنّ الله سبحانه يحذّر المؤمنين فيها اتّخاذ اليهود و النصارى أولياء، و يهدّدهم في ذلك أشدّ التهديد، و يشير في ملحمة قرآنيّة إلى ما يؤول إليه أمر هذه الموالاة من انهدام بنية السيرة الدينيّة، و أنّ الله سيبعث قوماً يقومون بالأمر، و يعيدون بنية الدين إلى عمارتها الأصليّة.

قوله تعالى: ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَ النَّصارى‏ أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ ) قال في المجمع: الاتّخاذ هو الاعتماد على الشي‏ء لإعداده لأمر، و هو

٤٠١

افتعال من الأخذ، و أصله الائتخاذ فأبدلت الهمزة تاءً، و أدغمتها في التاء الّتي بعدها و مثله الاتّعاد من الوعد، و الأخذ يكون على وجوه تقول: أخذ الكتاب إذا تناوله، و أخذ القربان إذا تقبله، و أخذه الله من مأمنه إذا أهلكه، و أصله جواز الشي‏ء من جهة إلى جهة من الجهات. انتهى.

و قال الراغب في المفردات: الولاء و التوالي أن يحصل شيئاًن فصاعداً حصولاً ليس بينهما ما ليس منهما، و يستعار ذلك للقرب من حيث المكان، و من حيث النسبة و من حيث الدين، و من حيث الصداقة و النصرة و الاعتقاد (انتهى موضع الحاجة) و سيأتي استيفاء البحث في معنى الولاية.

و بالجملة الولاية نوع اقتراب من الشي‏ء يوجب ارتفاع الموانع و الحجب بينهما من حيث ما اقترب منه لأجله فإن كان من جهة التقوّى و الانتصار فالوليّ هو الناصر الّذي لا يمنعه عن نصرة من اقترب منه شي‏ء، و إن كان من جهة الالتيام في المعاشرة و المحبّة الّتي هي الانجذاب الروحيّ فالوليّ هو المحبوب الّذي لا يملك الإنسان نفسه دون أن ينفعل عن إرادته، و يعطيه فيما يهواه و إن كان من جهة النسب فالوليّ هو الّذي يرثه مثلاً من غير مانع يمنعه، و إن كان من جهة الطاعة فالوليّ هو الّذي يحكم في أمره بما يشاء.

و لم يقيّد الله سبحانه في قوله:( لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَ النَّصارى‏ أَوْلِياءَ ) الولاية بشي‏ء من الخصوصيّات و القيود فهي مطلقة غير أنّ قوله تعالى في الآية التالية:( فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشى‏ أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ ) ، يدلّ على أنّ المراد بالولاية نوع من القرب و الاتّصال يناسب هذا الّذي اعتذروا به بقولهم:( نَخْشى‏ أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ ) و هي الدولة تدور عليهم، و كما أنّ الدائرة من الجائز أن تصيبهم من غير اليهود و النصارى فيتأيّدوا بنصرة الطائفتين بأخذهما أولياء النصرة كذلك يجوز أن تصيبهم من نفس اليهود و النصارى فينجو منها باتّخاذهما أولياء المحبّة و الخلطة.

و الولاية بمعنى قرب المحبّة و الخلطة تجمع الفائدتين جميعاً أعني فائدة النصرة و الامتزاج الروحيّ فهو المراد بالآية، و سيجي‏ء ما في القيود و الصفات المأخوذة في الآية

٤٠٢

الأخيرة:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ ) ، من الدلالة على أنّ المراد بالولاية ههنا ولاية المحبّة لا غير.

و قد أصرّ بعض المفسّرين على أنّ المراد بالولاية ولاية النصرة و هي الّتي تجري بين إنسانين أو قومين من الحلف أو العهد على نصرة أحد الوليّين الآخر عند الحاجة، و استدلّ على ذلك بما محصّله أنّ الآيات - كما يلوح من ظاهرها - منزّلة قبل حجّة الوداع في أوائل الهجرة أيّام كان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و المسلمون لم يفرغوا من أمر يهود المدينة و من حولهم من يهود فدك و خيبر و غيرهم، و من ورائهم النصارى و كان بين طوائف من العرب و بينهم عقود من ولاية النصرة و الحلف، و ربّما انطبق على ما ورد في أسباب النزول أنّ عبادة بن الصامت من بني عوف بن الخزرج تبرّأ من بني قينقاع لمّا حاربت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و كان بينه و بينهم ولاية حلف، لكنّ عبدالله بن اُبيّ رأس المنافقين لم يتبرّء منهم و سارع فيهم قائلاً: نَخْشى‏ أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ.

أو ما ورد في قصّة أبي لبابة لمّا أرسله رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليخرج بني قريظة من حصنهم و ينزلهم على حكمه، فأشار أبولبابة بيده إلى حلقه: أنّه الذبح.

أو ما ورد أنّ بعضهم كان يكاتب نصارى الشام بأخبار المدينة، و بعضهم كان يكاتب يهود المدينة لينتفعوا بمالهم و لو بالقرض.

أو ما ورد أنّ بعضهم قال: إنّه يلحق بفلان اليهوديّ أو بفلان النصرانيّ إثر ما نزل بهم يوم اُحد من القتل و الهزيمة.

و هؤلاء الروايات كالمتّفقة في أنّ القائلين:( نَخْشى‏ أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ ) كانوا هم المنافقين، و بالجملة فالآيات إنّما تنهى عن المحالفة و ولاية النصرة بين المسلمين و بين اليهود و النصارى.

و قد أكّد ذلك بعضهم حتّى ادّعى أن كون الولاية في الآية بمعنى ولاية المحبّة و الاعتماد ممّا تتبرّء منه لغة الآية في مفرداتها و سياقها كما يتبرّء منه سبب النزول و الحالة العامّة الّتي كان عليها المسلمون و الكتابيّون في عصر التنزيل.

و كيف يصحّ حمل الآية على النهي عن معاشرتهم و الاختلاط بهم و إن كانوا ذوي

٤٠٣

ذمّة أو عهد، و قد كان اليهود يقيمون مع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و مع الصحابة في المدينة، و كانوا يعاملونهم بالمساواة التامّة (انتهى ما ذكره ملخّصاً).

و هذا كلّه من التساهل في تحصيل معنى الآية أمّا ما ذكروه من كون الآيات نازلة قبل عامّ حجّة الوداع و هي سنة نزول سورة المائدة فممّا ليس فيه كثير إشكال لكنّه لا يوجب كون الولاية بمعنى المحالفة دون ولاية المحبّة.

و أمّا ما ذكروه من أسباب النزول و دلالتها على كون الآيات نازلة في خصوص المحالفة و ولاية النصرة الّتي كانت بين أقوام من العرب و بين اليهود و النصارى. ففيه (أوّلاً) أنّ أسباب النزول في نفسها متعارضة لا ترجع إلى معنى واحد يوثق و يعتمد عليه، و (ثانياً) أنّها لا توجّه ولاية النصارى و إن وجّهت ولاية اليهود بوجه إذ لم يكن بين العرب من المسلمين و بين النصارى ولاية الحلف يومئذ، و (ثالثاً) أنّا نصدّق أسباب النزول فيما تقتصّها إلّا أنّك قد عرفت فيما مرّ أنّ جلّ الروايات الواردة في أسباب النزول على ضعفها متضمّنة لتطبيق الحوادث المنقولة تاريخاً على الآيات القرآنيّة المناسبة لها، و هذا أيضاً لا بأس به.

و أمّا الحكم بأنّ الوقائع المذكورة فيها تخصّص عموم آية من الآيات القرآنيّة أو تقيّد إطلاقها بحسب اللّفظ فممّا لا ينبغي التفوّه به، و لا أنّ الظاهر المتفاهم يساعده. و لو تخصّص أو تقيّد ظاهر الآيات بخصوصيّة في سبب النزول غير مأخوذة في لفظ الآية لمات القرآن بموت من نزل فيهم، و انقطع الحجاج به في واقعة من الوقائع الّتي بعد عصر التنزيل، و لا يوافقه كتاب و لا سنّة و لا عقل سليم.

و أمّا ما ذكره بعضهم:( أنّ أخذ الولاية بمعنى المحبّة و الاعتماد خطأ تتبرّء منه لغة الآية في مفرداتها و سياقها كما يتبرّء منه أسباب النزول و الحالة العامّة الّتي كان عليها المسلمون و الكتابيّون في عصر التنزيل) فممّا لا يرجع إلى معنى محصّل بعد التأمّل فيه فإنّ ما ذكره من تبرّي أسباب النزول و ما ذكره من الحالة العامّة أن تشمل الآيات ذلك و تصدق عليه إذا لم يأب ظهور الآية من الانطباق عليه، و أمّا قصر الدلالة على مورد النزول و الحالة العامّة الموجودة وقتئذ فقد عرفت أنّه لا دليل

٤٠٤

عليه بل الدليل - و هو حجّيّة الآية في ظهورها المطلق - على خلافه فقد عرفت أنّ الآية مطلقة من غير دليل على تقييدها فتكون حجّة في المعنى المطلق، و هو الولاية بمعنى المحبّة.

و ما ذكره من تبرّي الآية بمفرداتها و سياقها من ذلك من عجيب الكلام، و ليت شعري ما الّذي قصده من هذا التبرّي الّذي وصفه و حمله على مفردات الآية و لم يقنع بذلك دون أن عطف عليها سياقها.

و كيف تتبرّء من ذلك مفردات الآية أو سياقها و قد وقع فيها بعد قوله:( لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَ النَّصارى‏ أَوْلِياءَ ) قوله تعالى:( بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ ) و لا ريب في أنّ المراد بهذه الولاية ولاية المحبّة و الاتّحاد و المودّة، دون ولاية الحلف إذ لا معنى لأن يقال: لا تحالفوا اليهود و النصارى بعضهم حلفاء بعض، و إنّما كان ما يكوّن الوحدة بين اليهود و يردّ بعضهم إلى بعض هو ولاية المحبّة القوميّة، و كذا بين النصارى من دون تحالف بينهم أو عهد إلّا مجرّد المحبّة و المودّة من جهة الدين؟.

و كذا قوله تعالى بعد ذلك:( وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ) فإنّ الاعتبار الّذي يوجب كون موالي جماعة من تلك الجماعة هو أنّ المحبّة و المودّة تجمع المتفرّقات و توحّد الأرواح المختلفة و تتوحّد بذلك الإدراكات، و ترتبط به الأخلاق، و تتشابه الأفعال، و ترى المتحابّين بعد استقرار ولاية المحبّة كأنّهما شخص واحد ذو نفسيّة واحدة، و إرادة واحدة، و فعل واحد لا يخطّئ أحدهما الآخر في مسير الحياة، و مستوى العشرة.

فهذا هو الّذي يوجب كون من تولّى قوماً منهم و لحوقه بهم، و قد قيل: من أحبّ قوماً فهو منهم، و المرء مع من أحبّ، و قد قال تعالى في نظيره نهياً عن موالاة المشركين:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَ عَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَ قَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ - إلى أن قال بعد عدة آيات -وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) (الممتحنة: ٩) و قال تعالى:( لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِالله وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ الله وَ رَسُولَهُ وَ لَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ

٤٠٥

عَشِيرَتَهُمْ ) (المجادلة: ٢٢) و قال تعالى في تولّي الكافرين - و اللّفظ عامّ يشمل اليهود و النصارى و المشركين جميعاً -:( لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ الله فِي شَيْ‏ءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً وَ يُحَذِّرُكُمُ الله نَفْسَهُ ) (آل عمران: ٢٨) و الآية صريحة في ولاية المودّة و المحبّة دون الحلف و العهد، و قد كان بين النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و بين اليهود، و كذا بينه و بين المشركين يومئذ أعني زمان نزول سورة آل عمران معاهدات و موادعات.

و بالجملة الولاية الّتي تقتضي بحسب الاعتبار لحوق قوم بقوم هي ولاية المحبّة و المودّة دون الحلف و النصرة و هو ظاهر، و لو كان المراد بقوله:( وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ) أنّ من حالفهم على النصرة بعد هذا النهي فإنّه لمعصيته النهي ظالم ملحق باُولئك الظالمين في الظلم كان معنى - على ابتذاله - بعيداً من اللّفظ يحتاج إلى قيود زائدة في الكلام.

و من دأب القرآن في كلّ ما ينهى عن أمر كان جائزاً سائغاً قبل النهي أن يشير إليه رعاية لجانب الحكم المشروع سابقاً، و احتراماً للسيرة النبويّة الجارية قبله كقوله:( إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا ) (التوبة: ٢٨) و قوله:( فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَ ابْتَغُوا ما كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَ كُلُوا وَ اشْرَبُوا ) الآية: (البقرة: ١٨٧) و قوله:( لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَ لا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ ) (الأحزاب: ٥٢) إلى غير ذلك.

فقد تبيّن أنّ لغة الآية في مفرداتها و سياقها لا تتبرّء من كون المراد بالولاية ولاية المحبّة و المودّة، بل إن تبرّأت فإنّما تتبرّء من غيرها.

و أمّا قولهم: إنّ المراد بالّذين في قلوبهم مرض المنافقون فسيجي‏ء أنّ السياق لا يساعده.

فالمراد بقوله:( لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَ النَّصارى‏ أَوْلِياءَ ) النهي عن موادّتهم الموجب لتجاذب الأرواح و النفوس الّذي يفضي إلى التأثير و التأثّر الأخلاقيّين فإنّ ذلك يقلب حال مجتمعهم من السيرة الدينيّة المبنيّة على سعادة اتّباع الحقّ إلى سيرة الكفر

٤٠٦

المبنيّة على اتّباع الهوى و عبادة الشيطان و الخروج عن صراط الحياة الفطريّة.

و إنّما عبّر عنهم باليهود و النصارى، و لم يعبّر بأهل الكتاب كما عبّر بمثله في الآية الآتية لما في التعبير بأهل الكتاب من الإشعار بقربهم من المسلمين نوعاً من القرب يوجب إثارة المحبّة فلا يناسب النهي عن اتّخاذهم أولياء، و أمّا ما في الآية الآتية:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَ لَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَ الْكُفَّارَ أَوْلِياءَ ) من وصفهم بإيتائهم الكتاب مع النهي عن اتّخاذهم أولياء فتوصيفهم باتّخاذ دين الله هزواً و لعباً يقلّب حال ذلك الوصف - أعني كونهم ذوي كتاب - من المدح إلى الذمّ فإنّ من اُوتي الكتاب الداعي إلى الحقّ و المبيّن له ثمّ جعل يستهزء بدين الحقّ و يلعب به أحقّ و أحرى به أن لا يتّخذ وليّاً، و تجتنب معاشرته و مخالطته و موادّته.

و أمّا قوله تعالى:( بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ ) فالمراد بالولاية - كما تقدّم - ولاية المحبّة المستلزمة لتقارب نفوسهم، و تجاذب أرواحهم المستوجب لاجتماع آرائهم على اتّباع الهوى، و الاستكبار عن الحقّ و قبوله، و اتّحادهم على إطفاء نور الله سبحانه، و تناصرهم على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و المسلمين كأنّهم نفس واحدة ذات ملّة واحدة، و ليسوا على وحدة من الملّيّة لكن يبعث القوم على الاتّفاق، و يجعلهم يداً واحدة على المسلمين أنّ الإسلام يدعوهم إلى الحقّ، و يخالف أعزّ المقاصد عندهم و هو اتّباع الهوى، و الاسترسال في مشتهيات النفس و ملاذّ الدنيا.

فهذا هو الّذي جعل الطائفتين: اليهود و النصارى - على ما بينهما من الشقاق و العداوة الشديدة - مجتمعاً واحداً يقترب بعضه من بعض، و يرتدّ بعضه إلى بعض، يتولّى اليهود النصارى و بالعكس، و يتولّى بعض اليهود بعضاً، و بعض النصارى بعضاً، و هذا معنى إبهام الجملة:( بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ ) في مفرداتها، و الجملة في موضع التعليل لقوله:( لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَ النَّصارى‏ أَوْلِياءَ ) و المعنى لا تتّخذوهم أولياء لأنّهم على تفرّقهم و شقاقهم فيما بينهم يد واحدة عليكم لا نفع لكم في الاقتراب منهم بالمودّة و المحبّة.

و ربّما أمكن أن يستفاد من قوله:( بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ ) معنى آخر، و هو أن

٤٠٧

لا تتّخذوهم أولياء لأنّكم إنّما تتّخذونهم أولياء لتنتصروا ببعضهم الّذي هم أولياؤكم على البعض الآخر، و لا ينفعكم ذلك فإنّ بعضهم أولياء بعض فليسوا ينصرونكم على أنفسهم.

قوله تعالى: ( وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ الله لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) التولي اتّخاذ الوليّ، و( من ) تبعيضيّة و المعنى أنّ من يتّخذهم منكم أولياء فإنّه بعضهم، و هذا إلحاق تنزيليّ يصير به بعض المؤمنين بعضاً من اليهود و النصارى، و يؤل الأمر إلى أنّ الإيمان حقيقة ذات مراتب مختلفة من حيث الشوب و الخلوص، و الكدورة و الصفاء كما يستفاد ذلك من الآيات القرآنيّة قال تعالى:( وَ ما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِالله إِلَّا وَ هُمْ مُشْرِكُونَ ) (يوسف: ١٠٦) و هذا الشوب و الكدر هو الّذي يعبّر تعالى عنه بمرض القلوب فيما سيأتي من قوله:( فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ ) .

فهؤلاء الموالون لاُولئك أقوام عدّهم الله تعالى من اليهود و النصارى و إن كانوا من المؤمنين ظاهراً، و أقلّ ما في ذلك أنّهم غير سالكين سبيل الهداية الّذي هو الإيمان بل سالكو سبيل اتّخذه اُولئك سبيلاً يسوقه إلى حيث يسوقهم و ينتهي به إلى حيث ينتهي بهم.

و لذلك علّل الله سبحانه لحوقه بهم بقوله:( إِنَّ الله لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) فالكلام في معنى: أنّ هذا الّذي يتولّاهم منكم هو منهم غير سألك سبيلكم لأنّ سبيل الإيمان هو سبيل الهداية الإلهيّة، و هذا المتولّي لهم ظالم مثلهم، و الله لا يهدي القوم الظالمين.

و الآية - كما ترى - تشتمل على أصل التنزيل أعني تنزيل من تولّاهم من المؤمنين منزلتهم من غير تعرّض لشي‏ء من آثاره الفرعيّة، و اللّفظ و إن لم يتقيّد بقيد لكنّه لمّا كان من قبيل بيان الملاك - نظير قوله:( وَ أَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ ) (البقرة: ١٨٤) و قوله:( إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى‏ عَنِ الْفَحْشاءِ وَ الْمُنْكَرِ وَ لَذِكْرُ الله أَكْبَرُ ) (العنكبوت: ٤٥) إلى غير ذلك - لم يكن إلّا مهملاً يحتاج التمسّك به في إثبات حكم فرعيّ إلى بيان السنّة، و المرجع في البحث عن ذلك فنّ الفقه.

٤٠٨

قوله تعالى: ( فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ ) تفريع على قوله في الآية السابقة:( إِنَّ الله لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) فمن عدم شمول الهداية الإلهيّة لحالهم - و هو الضلال - مسارعتهم فيهم و اعتذارهم في ذلك بما لا يسمع من القول، و قد قال تعالى:( يُسارِعُونَ فِيهِمْ ) و لم يقل: يسارعون إليهم، فهم منهم و حالّون في الضلال محلّهم، فهؤلاء يسارعون فيهم لا لخشية إصابة دائرة عليهم فليسوا يخافون ذلك، و إنّما هي معذرة يختلقونها لأنفسهم لدفع ما يتوجّه إليهم من ناحية النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و المؤمنين من اللّوم و التوبيخ بل إنّما يحملهم على تلك المسارعة تولّيهم اُولئك (اليهود و النصارى).

و لمّا كان من شأن كلّ ظلم و باطل أن يزهق يوماً و يظهر للملأ فضيحته، و ينقطع رجاء من توسّل إلى أغراض باطلة بوسائل صورتها صورة الحقّ كما قال تعالى:( إِنَّ الله لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) كان من المرجوّ قطعاً أن يأتي الله بفتح أو أمر من عنده فيندموا على فعالهم، و يظهر للمؤمنين كذبهم فيما كانوا يظهرونه.

و بهذا البيان يظهر وجه تفرّع قوله:( فَتَرَى الَّذِينَ ) إلخ على قوله:( إِنَّ الله لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) و قد تقدّم كلام في معنى عدم اهتداء الظالمين في ظلمهم.

فهؤلاء القوم منافقون من جهة إظهارهم للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و المؤمنين ما ليس في قلوبهم حيث يعنونون مسارعتهم في اليهود و النصارى بعنوان الخشية من إصابة الدائرة، و عنوانه الحقيقيّ الموافق لما في قلوبهم هو تولّي أعداء الله فهذا هو وجه نفاقهم، و أمّا كونهم منافقين بمعنى الكافرين المظهرين للإيمان فسياق الآيات لا يوافقه.

و قد ذكر جماعة من المفسّرين أنّهم المنافقون كعبدالله بن اُبيّ و أصحابه على ما يؤيّده أسباب النزول الواردة فإنّ هؤلاء المنافقين كانوا يشاركون المؤمنين في مجتمعهم و يجاملونهم من جانب، و من الجانب الآخر كانوا يتولّون اليهود و النصارى بالحلف و العهد على النصرة استدراراً للفئتين، و أخذاً بالاحتياط في رعاية مصالح أنفسهم ليغتبطوا على أيّ حال، و يكونوا في مأمن من إصابة الدائرة على أيّ واحدة من الفئتين المتخاصمتين دارت.

٤٠٩

و ما ذكروه لا يلائم سياق الآيات فإنّها تتضمّن رجاء أن يندموا بفتح أو أمر من عنده، و الفتح فتح مكّة أو فتح قلاع اليهود و بلاد النصارى أو نحو ذلك على ما قالوا و لا وجه لندمهم على هذا التقدير فإنّهم احتاطوا في أمرهم بحفظ الجانبين، و لا ندامة في الاحتياط، و إنّما كان يصحّ الندم لو انقطعوا من المؤمنين بالمرّة و اتّصلوا باليهود و النصارى ثمّ دارت الدائرة عليهم، و كذا ما ذكره الله تعالى من حبط أعمالهم و صيرورتهم خاسرين بقوله:( حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ ) لا يلائم كونهم هم المنافقين الآخذين بالحائطة لمنافعهم و مطالبهم إذ لا معنى لخسران من احتاط بحائطة اتّقاءً من مكروه يخافه على نفسه ثمّ صادف أن لم يقع ما كان يخاف وقوعه، و الاحتياط في العمل من الطرق العقلائيّة الّتي لا تستتبع لوماً و لا ذمّاً.

إلّا أن يقال: إنّ الذمّ إنّما لحقهم لأنّهم عصوا النهي الإلهيّ و لم تطمئنّ قلوبهم بما وعده الله من الفتح، و هذا و إن كان لا بأس به في نفسه لكن لا دليل عليه من جهة لفظ الآية.

قوله تعالى: ( فَعَسَى الله أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلى‏ ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ ) لفظة( عسى ) و إن كان في كلامه تعالى للترجّي كسائر الكلام - على ما قدّمنا أنّه للترجّي العائد إلى السامع أو إلى المقام - لكنّ القرينة قائمة على أنّه ممّا سيقع قطعاً فإنّ الكلام مسوق لتقرير ما ذكره بقوله:( إِنَّ الله لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) و تثبيت صدقه، فما يشتمل عليه واقع لا محالة.

و الّذي ذكره الله تعالى من الفتح - و قد ردّد بينه و بين أمر من عنده غير بيّن المصداق بل الترديد بينه و بين أمر مجهول لنا - لعلّه يؤيّد كون اللّام في( بِالْفَتْحِ ) للجنس لا للعهد حتّى يكون المراد به فتح مكّة المعهود بوعد وقوعه في مثل قوله تعالى:( إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى‏ مَعادٍ ) (القصص: ٨٥) و قوله:( لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ الله ) (الفتح: ٢٧) و غير ذلك.

و الفتح الواقع في القرآن و إن كان المراد به في أكثر موارده هو فتح مكّة لكن بعض الموارد لا يقبل الحمل على ذلك كقوله تعالى:( وَ يَقُولُونَ مَتى‏ هذَا الْفَتْحُ

٤١٠

إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَ لا هُمْ يُنْظَرُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَ انْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ ) (السجدة: ٣٠) فإنّه تعالى وصف هذا الفتح بأنّه لا ينفع عنده الإيمان لمن كان كافراً قبله، و أنّ الكفّار ينتظرونه، و أنت تعلم أنّه لا ينطبق على فتح مكّة و لا على سائر الفتوحات الّتي نالها المسلمون حتّى اليوم فإنّ عد نفع الإيمان و هو التوبة إنّما يتصوّر لأحد أمرين - كما تقدّم بيانه في الكلام على التوبة(١) -: إمّا بتبدّل نشأة الحياة و ارتفاع الاختيار لتبدّل الدنيا بالآخرة، و إمّا بتكوّن أخلاق و ملكات في الإنسان يقسو بها القلب قسوة لا رجاء معها للتوبة و الرجوع إلى الله سبحانه قال تعالى:( يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً ) (الأنعام: ١٥٨) و قال تعالى:( وَ لَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَ لَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَ هُمْ كُفَّارٌ ) (النساء: ١٨).

و كيف كان فإن كان المراد بالفتح أحد فتوحات المسلمين كفتح مكّة أو فتح قلاع اليهود أو فتح بلاد النصارى فهو، إلّا أنّ في انطباق ما ذكره الله تعالى بقوله:( فَيُصْبِحُوا عَلى‏ ما أَسَرُّوا ) إلخ و قوله:( وَ يَقُولُ الَّذِينَ ) إلخ عليه خفاءً تقدّم وجهه.

و إن كان المراد به الفتح بمعنى القضاء للإسلام على الكفر و الحكم الفصل بين الرسول و قومه فهو من الملاحم القرآنيّة الّتي ينبئ تعالى فيها عمّا سيستقبل هذه الاُمّة من الحوادث، و ينطبق على ما ذكره الله في سورة يونس من قوله:( وَ لِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ ) إلى آخر الآيات: (يونس: ٤٧ - ٥٦).

و أمّا قوله:( فَيُصْبِحُوا عَلى‏ ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ ) فإنّ الندامة إنّما تحصل عند فعل ما لم يكن ينبغي أن يفعل أو ترك ما لم يكن ينبغي أن يترك، و قد فعلوا شيئاً، و الله سبحانه يذكر في الآية التالية حبط أعمالهم و خسرانهم في صفقتهم فإنّما أسرّوا في أنفسهم تولّي اليهود و النصارى لينالوا به و بالمسارعة فيهم ما كانت اليهود

____________________

(١) في الكلام على قوله تعالى:( إنّما التوبة على الله ) الآيتين النساء ١٧ - ١٨ في الجزء الرابع من الكتاب.

٤١١

و النصارى يريدونه من انطفاء نور الله و التسلّط على شهوات الدنيا من غير مانع من الدين.

فهذا - لعلّه - هو الّذي أسرّوه في أنفسهم، و سارعوا لأجله فيهم، و سوف يندمون على بطلان سعيهم إذا فتح الله للحقّ.

قوله تعالى: ( وَ يَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا ) إلى آخر الآية و قرء:( يَقُولُ ) بالنصب عطفاً على قوله:( فَيُصْبِحُوا ) و هي أرجح لكونها أوفق بالسياق فإنّ ندامتهم على ما أسرّوه في أنفسهم و قول المؤمنين:( أَ هؤُلاءِ ) إلخ جميعاً تقريع لهم بعاقبة تولّيهم و مسارعتهم في اليهود و النصارى، و قوله:( هؤُلاءِ ) إشارة إلى اليهود و النصارى، و قوله:( لَمَعَكُمْ ) خطاب‏ للّذين في قلوبهم مرض و يمكن العكس، و كذا الضمير في قوله:( حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا ) ، يمكن رجوعه إلى اليهود و النصارى، و إلى الّذين في قلوبهم مرض.

لكنّ الظاهر من السياق أنّ الخطاب للّذين في قلوبهم مرض، و الإشارة إلى اليهود و النصارى، و قوله:( حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ ) ، كالجواب لسؤال مقدّر، و المعنى: و عسى أن يأتي الله بالفتح أو أمر من عنده فيقول الّذين آمنوا لهؤلاء الضعفاء الإيمان عند حلول السخط الإلهيّ بهم: أ هؤلاء اليهود و النصارى هم الّذين أقسموا بالله جهد أيمانهم أي أيمانهم الّتي بالغوا و جهدوا فيها جهداً إنّهم لمعكم فلمّا ذا لا ينفعونكم؟! ثمّ كأنّه سئل فقيل: فإلى م انتهى أمر هؤلاء الموالين؟ فقيل في جوابه: حبطت أعمالهم فأصبحوا خاسرين.

( كلام في معنى مرض القلب)

و في قوله تعالى:( فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ) دلالة على أنّ للقلوب مرضاً فلها لا محالة صحّة إذ الصحّة و المرض متقابلان لا يتحقّق أحدهما في محل إلّا بعد إمكان تلبّسه بالآخر كالبصر و العمى أ لا ترى أنّ الجدار مثلاً لا يتّصف بأنّه مريض لعدم جواز اتّصافه بالصحّة و السلامة.

و جميع الموارد الّتي أثبت الله سبحانه فيها للقلوب مرضاً في كلامه يذكر فيها من أحوال تلك القلوب و آثارها اُموراً تدلّ على خروجها من استقامة الفطرة، و انحرافها

٤١٢

عن مستوى الطريقة كقوله تعالى:( وَ إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا الله وَ رَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً ) (الأحزاب: ١٢) و قوله تعالى:( إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ ) (الأنفال: ٤٩) و قوله تعالى:( لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَ الْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ ) (الحجّ: ٥٣) إلى غير ذلك.

و جملة الأمر أنّ مرض القلب تلبّسه بنوع من الارتياب و الشكّ يكدّر أمر الإيمان بالله و الطمأنينة إلى آياته، و هو اختلاط من الإيمان بالشرك، و لذلك يرد على مثل هذا القلب من الأحوال، و يصدر عن صاحب هذا القلب في مرحلة الأعمال و الأفعال ما يناسب الكفر بالله و بآياته.

و بالمقابلة تكون سلامة القلب و صحّته هي استقراره في استقامة الفطرة و لزومه مستوى الطريقة، و يؤل إلى خلوصه في توحيد الله سبحانه و ركونه إليه عن كلّ شي‏ء يتعلّق به هوى الإنسان، قال تعالى:( يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَ لا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى الله بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ) (الشعراء: ٨٩).

و من هنا يظهر أنّ الّذين في قلوبهم مرض غير المنافقين كما لا يخلو تعبير القرآن عنهما بمثل قوله:( الْمُنافِقُونَ وَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ) في غالب الموارد عن إشعار مّا بذلك، و ذلك أنّ المنافقين هم الّذين آمنوا بأفواههم و لم تؤمن قلوبهم، و الكفر الخالص موت للقلب لا مرض فيه قال تعالى:( أَ وَ مَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَ جَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ ) (الأنعام: ١٢٢) و قال:( إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَ الْمَوْتى‏ يَبْعَثُهُمُ الله ) (الأنعام: ٣٦).

فالظاهر أنّ مرض القلب في عرف القرآن هو الشكّ و الريب المستولي على إدراك الإنسان فيما يتعلّق بالله و آياته، و عدم تمكّن القلب من العقد على عقيدة دينيّة.

فالّذين في قلوبهم مرض بحسب طبع المعنى هم ضعفاء الإيمان، الّذين يصغون إلى كلّ ناعق، و يميلون مع كلّ ريح، دون المنافقين الّذين أظهروا الإيمان و استبطنوا الكفر رعاية لمصالحهم الدنيويّة ليستدرّوا المؤمنين بظاهر إيمانهم و الكفّار بباطن كفرهم.

نعم ربّما اُطلق عليهم المنافقون في القرآن تحليلاً لكونهم يشاركونهم في عدم

٤١٣

اشتمال باطنهم على لطيفة الإيمان، و هذا غير إطلاق الّذين في قلوبهم مرض على من هو كافر لم يؤمن إلّا ظاهراً قال تعالى:( بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَ يَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لله جَمِيعاً وَ قَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ الله يُكْفَرُ بِها وَ يُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ الله جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَ الْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً ) (النساء: ١٤٠).

و أمّا قوله تعالى في سورة البقرة:( وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِالله وَ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَ ما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ - إلى أن قال -فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ الله مَرَضاً - إلى أن قال -وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ قالُوا أَ نُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ ) الآيات (البقرة: ٧ ٢٠) فإنّما هو بيان لسلوك قلوبهم من الشكّ في الحقّ إلى إنكاره، و أنّهم كانوا في بادئ حالهم مرضى بسبب كذبهم في الإخبار عن إيمانهم و كانوا مرتابين لم يؤمنوا بعد، فزادهم الله مرضاً حتّى هلكوا بإنكارهم الحقّ و استهزائهم له.

و قد ذكر الله سبحانه أنّ مرض القلب على حدّ الأمراض الجسمانيّة ربّما أخذ في الزيادة حتّى أزمن و انجرّ الأمر إلى الهلاك و ذلك بإمداده بما يضرّ طبع المريض في مرضه، و ليس إلّا المعصية قال تعالى:( فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ الله مَرَضاً ) (البقرة: ١٠) و قال تعالى( وَ إِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ - إلى أن قال -:وَ أَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَ ماتُوا وَ هُمْ كافِرُونَ أَ وَ لا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَ لا هُمْ يَذَّكَّرُونَ ) (التوبة: ١٢٦) و قال تعالى و هو بيان عامّ:( ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى‏ أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ الله وَ كانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ ) (الروم: ١٠).

ثمّ ذكر تعالى في علاجه الإيمان به قال تعالى - و هو بيان عامّ -:( يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ ) (يونس: ٩) و قال تعالى:( إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ) (فاطر: ١٠) فعلى مريض القلب - إن أراد مداواة مرضه - أن يتوب إلى الله، و هو الإيمان به و أن يتذكّر بصالح الفكر و صالح العمل كما يشير إليه الآية السابقة الذكر:( ثُمَّ

٤١٤

لا يَتُوبُونَ وَ لا هُمْ يَذَّكَّرُونَ ) (التوبة: ١٢٦).

و قال سبحانه و هو قول جامع في هذا الباب:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَ تُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لله عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَ لَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَ أَصْلَحُوا وَ اعْتَصَمُوا بِالله وَ أَخْلَصُوا دِينَهُمْ لله فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَ سَوْفَ يُؤْتِ الله الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً ) (النساء: ١٤٦) و قد تقدّم أنّ المراد بذلك الرجوع إلى الله بالإيمان و الاستقامة عليه و الأخذ بالكتاب و السنّة ثمّ الإخلاص.

قوله تعالى: ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ ) ارتدّ عن دينه رجع عنه، و هو في اصطلاح أهل الدين الرجوع من الإيمان إلى الكفر سواءً كان إيمانه مسبوقاً بكفر آخر كالكافر يؤمن ثمّ يرتدّ أو لم يكن، و هما المسمّيان بالارتداد الملّيّ و الفطريّ (حقيقة شرعيّة أو متشرّعيّة).

ربّما يسبق إلى الذهن أنّ المراد بالارتداد في الآية هو ما اصطلح عليه أهل الدين، و يكون الآية على هذا غير متّصلة بما قبلها، و إنّما هي آية مستقلّة تحكي عن نحو استغناء من الله سبحانه عن إيمان طائفة من المؤمنين بإيمان آخرين.

لكن التدبّر في الآية و ما تقدّم عليها من الآيات يدفع هذا الاحتمال فإنّ الآية على هذا تذكّر المؤمنين بقدرة الله سبحانه على أن يعبد في أرضه، و أنّه سوف يأتي بأقوام لا يرتدّون عن دينه بل يلازمونه كقوله تعالى:( فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ ) (الأنعام: ٨٩) أو كقوله تعالى:( وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ ) (آل عمران: ٩٧) و قوله تعالى:( إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ الله لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ ) (إبراهيم: ٨).

و المقام الّذي هذه صفته لا يقتضي أزيد من التعرّض لأصل الغرض، و هو الإخبار بالإتيان بقوم مؤمنين لا يرتدّون عن دين الله، و أمّا أنّهم يحبّون الله و يحبّهم، و أنّهم أذلّة على المؤمنين أعزّة على الكافرين إلى آخر ما ذكر في الآية من الأوصاف فهي اُمور زائدة يحتاج التعرّض لها إلى اقتضاء زائد من المقام و الحال.

٤١٥

و من جهة اُخرى نجد أنّ ما ذكر في الآية من الأوصاف اُمور لا تخلو من الارتباط بما ذكر في الآيات السابقة من تولّي اليهود و النصارى فإنّ اتّخاذهم أولياء من دون المؤمنين لا يخلو من تعلّق القلب بهم تعلّق المحبّة و المودّة، و كيف يحتوي قلب هذا شأنه على محبّة الله سبحانه و قد قال تعالى:( ما جَعَلَ الله لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ ) (الأحزاب: ٤).

و من لوازم هذا التولّي أن يتذلّل المؤمن لهؤلاء الكفّار، و أن يتعزّز على المؤمنين و يترفّع عنهم كما قال تعالى:( أَ يَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لله جَمِيعاً ) (النساء: ١٣٩).

و من لوازم هذا التولّي المساهلة في الجهاد عليهم و الانقباض عن مقاتلتهم، و التحرّج من الصبر على كلّ حرمان، و التحمّل لكلّ لائمة في قطع الروابط الاجتماعيّة معهم كما قال تعالى:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَ عَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَ قَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ - إلى أن قال -إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ ) (الممتحنة: ١) و قال تعالى:( قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَ الَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَ مِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ الله كَفَرْنا بِكُمْ وَ بَدا بَيْنَنا وَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَ الْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِالله وَحْدَهُ ) (الممتحنة: ٤).

و كذلك الارتداد بمعناه اللّغويّ أو بالعناية التحليليّة صادق على تولّي الكفّار كما قال تعالى في الآية السابقة (آية: ٥١):( وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ) و قال أيضاً:( وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ الله فِي شَيْ‏ءٍ ) (آل عمران: ٢٨) و قال تعالى:( إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ ) (النساء: ١٤٠).

فقد تبيّن بهذا البيان أنّ للآية اتّصالاً بما قبلها من الآيات و أنّ الآية مسوقة لإظهار أنّ دين الله في غنىّ عن اُولئك الّذين يخاف عليهم الوقوع في ورطة المخالفة و تولّي اليهود و النصارى لدبيب النفاق في جماعتهم، و اشتمالها على عدّة مرضى القلوب لا يبالون باشتراء الدنيا بالدين، و إيثار ما عند أعداء الدين من العزّة الكاذبة و المكانة

٤١٦

الحيويّة الفانية على حقيقة العزّة الّتي هي لله و لرسوله و للمؤمنين، و السعادة الواقعيّة الشاملة على حياة الدنيا و الآخرة.

و إنّما أظهرت الآية ذلك بالإنباء عن ملحمة غيبيّة أنّ الله سبحانه في قبال ما يلقاه الدين من تلوّن هؤلاء الضعفاء الإيمان، و اختيارهم محبّة غير الله على محبّته، و ابتغاء العزّة عند أعدائه و مساهلتهم في الجهاد في سبيله، و الخوف من كلّ لومة و توبيخ سيأتي بقوم يحبّهم و يحبّونه أذلّة على المؤمنين أعزّة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله لا يخافون لومة لائم.

و كثير من المفسّرين و إن تنبّهوا على اشتمال الآية على الملحمة و أطالوا في البحث عمّن تنطبق عليه الآية مصداقاً غير أنّهم تساهلوا في تفسير مفرداتها فلم يعطوا ما ذكر فيها من الأوصاف حقّ معناها فآل الأمر إلى معاملتهم كلام الله سبحانه معاملة كلام غيره و تجويز وقوع المسامحات و المساهلات العرفيّة فيه كما في غيره.

فالقرآن و إن لم يسلك في بلاغته مسلكاً بدعاً، و لم يتّخذ نهجاً مخترعاً جديداً في استعمال الألفاظ و تركيب الجمل و وضع الكلمات بحذاء معانيها بل جرى في ذلك مجرى غيره من الكلام.

و لكنّه يفارق سائر الكلام في أمر آخر، و هو أنّا معاشر المتكلّمين من البليغ و غيره إنّما نبني الكلام على أساس ما نعقله من المعاني، و المدرك لنا من المعاني إنّما يدرك بفهم مكتسب من الحياة الاجتماعيّة الّتي اختلقناها بفطرتنا الإنسانيّة الاجتماعيّة، و من شأنها الحكم بالقياس، و عند ذلك ينفتح باب المسامحة و المساهلة على أذهاننا فنأخذ الكثير مكان الجميع، و الغالب موضع الدائم، و نفرض كلّ أمر قياسيّ أمراً مطلقاً، و نلحق كلّ نادر بالمعدوم، و نجري كلّ أمر يسير مجرى ما ليس بموجود يقول قائلنا: كذا حسن أو قبيح، و كذا محبوب أو مبغوض، و كذا محمود أو مذموم، و كذا نافع أو ضارّ، و فلان خيّر أو شرير، إلى غير ذلك فنطلق القوم في ذلك، و إنّما هو كذلك في بعض حالاته و على بعض التقادير، و عند بعض الناس، و بالقياس إلى بعض الأشياء لا مطلقاً، لكنّ القائل إنّما يلحق بعض التقادير المخالفة بالعدم تسامحاً

٤١٧

في إدراكه و حكمه، هذا فيما أدركه من جهات الواقع الخارج، و أمّا ما يغفل عنه لمحدوديّة إدراكه من جهات الكون المربوطة فهو أكثر، فما يخبر به الإنسان و يحدّثه عن الخارج و خيّلت له الإحاطة بالواقع إدراكاً و كشفاً فإنّما هو مبنيّ على التسامح في بعض الجهات، و الجهل في بعض آخر، و هو من الهزل إن قدرنا على أن نحيط بالواقع ثمّ نطبّق كلامه عليه، فافهم ذلك.

فهذا حال كلام الإنسان المبنيّ على ما يحصل عنده من العلم، و أمّا كلام الله سبحانه فمن الواجب أن نجلّه عن هذه النقيصة، و هو المحيط بكلّ شي‏ء علماً و قد قال تعالى في صفة كلامه:( إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ وَ ما هُوَ بِالْهَزْلِ ) .

و هذا من وجوه الأخذ بإطلاق كلامه تعالى فيما كان بظاهره مطلقاً لم يعقّب بقيد متّصل أو منفصل، و من وجوه إشعار الوصف في كلامه بالعلّيّة فإذا قال:( يُحِبُّهُمْ ) فليس يبغضهم في شي‏ء و إلّا لاستثنى، و إذا وصف قوماً بأنّهم أذلّة على المؤمنين كان من الواجب أن يكونوا أذلّاء لهم بما هم مؤمنون أي لصفة إيمانهم بالله سبحانه، و أن يكونوا أذلّاء في جميع أحوالهم و على جميع التقادير، و إلّا لم يكن القول فصلاً.

نعم هناك معان تنسب إلى غير صاحبها إذا جمعها جامع يصحّح ذلك كما في قوله:( وَ لَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَ الْحُكْمَ وَ النُّبُوَّةَ وَ رَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَ فَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ ) (الجاثية: ١٦) و قوله:( هُوَ اجْتَباكُمْ وَ ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) (الحجّ: ٧٨) و قوله:( كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ تَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ) (آل عمران: ١١٠) و قوله:( لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَ يَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً ) (البقرة: ١٤٣) و قوله:( وَ قالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً ) (الفرقان: ٣٠) إلى غير ذلك من الآيات المشتملة على أوصاف اجتماعيّة يتّصف بها الفرد و المجتمع و ليس شي‏ء من ذلك جارياً مجرى التسامح و التساهل بل هي أوصاف يتّصف بها الجزء و الكلّ، و الفرد و المجتمع لعناية متعلّقه بذلك كمثل حفنة من تراب مشتملة على جوهرة يقبض عليها لأجل الجوهرة فالتراب مقبوض و الجوهرة مقبوضة و الأصل في ذلك الجوهرة، و لنرجع إلى ما كنّا فيه:

٤١٨

أمّا قوله:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ ) فالمراد بالارتداد و الرجوع عن الدين بناءً على ما مرّ هو موالاة اليهود و النصارى، و خصّ الخطاب فيه بالمؤمنين لكون الخطاب السابق أيضاً متوجّها إليهم، و المقام مقام بيان أن الدين الحقّ في غنىّ عن إيمانهم المشوب بموالاة أعداء الله، و قد عدّه الله سبحانه كفراً و شركاً حيث قال:( وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ) لما أنّ الله سبحانه هو وليّ دينه و ناصره، و من نصرته لدينه أنّه سوف يأتي بقوم برآء من أعدائه يتولّون أولياءه و لا يحبّون إلّا إيّاه.

و أمّا قوله:( فَسَوْفَ يَأْتِي الله بِقَوْمٍ ) نسب الإتيان إلى نفسه ليقرّر معنى نصره لدينه المفهوم من السياق المشعر بأنّ لهذا الدين ناصراً لا يحتاج معه إلى نصرة غيره، و هو الله عزّ اسمه.

و كون الكلام مسوقاً لبيان انتصار الدين بهؤلاء القوم تجاه من يقصده هؤلاء الموالون لأعدائه من الانتصار القوميّ، و كذا التعبير بالقوم و الإتيان بالأوصاف و الأفعال بصيغة الجمع كلّ ذلك مشعر بأنّ القوم الموعود إيتاؤهم إنّما يبعثون جماعة مجتمعين لا فرادى و لا مثنّى كان يأتي الله سبحانه في كلّ زمان برجل يحبّ الله و يحبّه الله ذليل على المؤمنين عزيز على الكافرين يجاهد في سبيل الله لا يخاف لومة لائم.

و إتيان هذه القوم في عين أنّه منسوب إليهم منسوب إليه تعالى و هو الآتي بهم لا بمعنى أنّه خالقهم إذ لا خالق إلّا الله سبحانه قال:( الله خالِقُ كُلِّ شَيْ‏ءٍ ) (الزمر: ٦٢) بل بمعنى أنّه الباعث لهم فيما ينتهزون إليه من نصرة الدين، و المكرم لهم بحبّه لهم و حبّهم له، و الموفّق لهم بالتذلّل لأوليائه، و التعزّز لأعدائه، و الجهاد في سبيله، و الإعراض عن كلّ لائمة، فنصرتهم للدين هي نصرته تعالى له بسببهم و من طريقهم، و قريب الزمان و بعيده عندالله واحد، و إن كانت أنظارنا لقصورها تفرّق في ذلك.

و أمّا قوله تعالى:( يُحِبُّهُمْ وَ يُحِبُّونَهُ ) فالحبّ مطلق معلّق على الذات من غير تقييده بوصف أو غير ذلك، أمّا حبّهم لله فلازمه إيثارهم ربّهم على كلّ شي‏ء سواه ممّا يتعلّق به نفس الإنسان من مال أو جاه أو عشيرة أو غيرها، فهؤلاء لا يوالون أحداً من أعداء الله سبحانه، و إن والوا أحداً فإنّما يوالون أولياء الله بولاية الله تعالى.

٤١٩

و أمّا حبّه تعالى لهم فلازمه براءتهم من كلّ ظلم، و طهارتهم من كلّ قذارة معنويّة من الكفر و الفسق بعصمة أو مغفرة إلهيّة عن توبة، و ذلك أنّ جمل المظالم و المعاصي غير محبوبة لله كما قال تعالى:( فَإِنَّ الله لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ ) (آل عمران: ٣٢) و قال:( وَ الله لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ) (آل عمران: ٥٧) و قال:( إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ) (الأنعام: ٤١) و قال:( وَ الله لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ) (المائدة: ٦٤) و قال:( إِنَّ الله لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ) (البقرة: ١٩٠) و قال:( إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ ) (النحل: ٢٣) و قال:( إِنَّ الله لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ ) (الأنفال: ٥٨) إلى غير ذلك من الآيات.

و في هذه الآيات جماع الرذائل الإنسانيّة، و إذا ارتفعت عن إنسان بشهادة محبّة الله له اتّصف بما يقابلها من الفضائل لأنّ الإنسان لا مخلص له عن أحد طرفي الفضيلة و الرذيلة إذا تخلّق بخلق.

فهؤلاء هم المؤمنون بالله حقّاً غير مشوب إيمانهم بظلم و قد قال تعالى:( الَّذِينَ آمَنُوا وَ لَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَ هُمْ مُهْتَدُونَ ) (الأنعام: ٨٢) فهم مأمونون من الضلال و قد قال تعالى:( فَإِنَّ الله لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ ) (النحل: ٣٧) فهم في أمن إلهيّ من كلّ ضلالة، و على اهتداء إلهيّ إلى صراطه المستقيم، و هم بإيمانهم الّذي صدّقهم الله فيه مهديّون إلى اتّباع الرسول و التسليم التامّ له كتسليمهم لله سبحانه قال تعالى:( فَلا وَ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَ يُسَلِّمُوا تَسْلِيماً ) (النساء: ٦٥).

و عند ذلك يتمّ أنّهم من مصاديق قوله تعالى:( قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ الله فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ الله ) (آل عمران: ٣١) و به يظهر أنّ اتّباع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و محبّة الله متلازمان فمن اتّبع النبيّ أحبّه الله و لا يحبّ الله عبداً إلّا إذا كان متّبعاً لنبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

و إذا اتّبعوا الرسول اتّصفوا بكلّ حسنة يحبّها الله و يرضاها كالتقوى و العدل و الإحسان و الصبر و الثبات و التوكّل و التوبة و التطهّر و غير ذلك قال تعالى:( فَإِنَّ الله يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ) (آل عمران: ٧٦) و قال:( إِنَّ الله يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ) (البقرة: ١٩٥) و قال:( وَ الله يُحِبُّ الصَّابِرِينَ ) (آل عمران: ١٤٦) و قال:( إِنَّ الله يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ

٤٢٠

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444