الميزان في تفسير القرآن الجزء ٥

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 444

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 444
المشاهدات: 86817
تحميل: 10312


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 444 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 86817 / تحميل: 10312
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 5

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

خاصّة دون النصارى إلّا في النصف الأخير من زمن إقامة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالمدينة فلعلّ الآيات الأربع نزلت فيه، و لعلّ المراد بالفتح فيها فتح مكّة.

لكن تقدّم أنّ الاعتماد على نزول سورة المائدة في سنة حجّة الوداع و قد فتحت مكّة فهل المراد بالفتح فتح آخر غير فتح مكّة؟ أو أنّ هذه الآيات نزلت قبل فتح مكّة و قبل نزول السورة جميعاً؟.

ثمّ إنّ الآية الأخيرة أعني قوله:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ ) (الآية) هل هي متّصلة بالآيات الثلاث المتقدّمة عليها؟ و من المراد بهؤلاء القوم الّذين تتوقّع ردّتهم؟ و من هؤلاء الآخرون الّذين وعد الله أنّه سيأتي بهم؟ كلّ واحد منها أمر يزيد إبهاماً على إبهام، و قد تشتّت ما ورد من أسباب النزول و ليست إلّا أنظار المفسّرين من السلف كغالب أسباب النزول المنقولة في الآيات، و هذا الاختلاف الفاحش أيضاً ممّا يشوّش الذهن في تفهّم المعنى، أضف إلى ذلك كلّه مخالطة التعصّبات المذهبيّة الأنظار القاضية فيها كما سيمرّ بك شواهد تشهد على ذلك من الروايات و أقوال المفسّرين من السلف و الخلف.

و الّذي يعطيه التدبّر في الآيات: أنّ هذه الآيات الأربع على ما نقلناها متّصلة الأجزاء منقطعة عمّا قبلها و ما بعدها، و أنّ الآية الرابعة من متمّمات الغرض المقصود بيانه فيها غير أنّه يجب التحرّز في فهم معناها عن المساهلات و المسامحات الّتي جوّزتها أنظار الباحثين من المفسّرين في الآيات و خاصّة فيما ذكر فيها من الأوصاف و النعوت على ما سيجي‏ء.

و إجمال ما يتحصّل من الآيات أنّ الله سبحانه يحذّر المؤمنين فيها اتّخاذ اليهود و النصارى أولياء، و يهدّدهم في ذلك أشدّ التهديد، و يشير في ملحمة قرآنيّة إلى ما يؤول إليه أمر هذه الموالاة من انهدام بنية السيرة الدينيّة، و أنّ الله سيبعث قوماً يقومون بالأمر، و يعيدون بنية الدين إلى عمارتها الأصليّة.

قوله تعالى: ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَ النَّصارى‏ أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ ) قال في المجمع: الاتّخاذ هو الاعتماد على الشي‏ء لإعداده لأمر، و هو

٤٠١

افتعال من الأخذ، و أصله الائتخاذ فأبدلت الهمزة تاءً، و أدغمتها في التاء الّتي بعدها و مثله الاتّعاد من الوعد، و الأخذ يكون على وجوه تقول: أخذ الكتاب إذا تناوله، و أخذ القربان إذا تقبله، و أخذه الله من مأمنه إذا أهلكه، و أصله جواز الشي‏ء من جهة إلى جهة من الجهات. انتهى.

و قال الراغب في المفردات: الولاء و التوالي أن يحصل شيئاًن فصاعداً حصولاً ليس بينهما ما ليس منهما، و يستعار ذلك للقرب من حيث المكان، و من حيث النسبة و من حيث الدين، و من حيث الصداقة و النصرة و الاعتقاد (انتهى موضع الحاجة) و سيأتي استيفاء البحث في معنى الولاية.

و بالجملة الولاية نوع اقتراب من الشي‏ء يوجب ارتفاع الموانع و الحجب بينهما من حيث ما اقترب منه لأجله فإن كان من جهة التقوّى و الانتصار فالوليّ هو الناصر الّذي لا يمنعه عن نصرة من اقترب منه شي‏ء، و إن كان من جهة الالتيام في المعاشرة و المحبّة الّتي هي الانجذاب الروحيّ فالوليّ هو المحبوب الّذي لا يملك الإنسان نفسه دون أن ينفعل عن إرادته، و يعطيه فيما يهواه و إن كان من جهة النسب فالوليّ هو الّذي يرثه مثلاً من غير مانع يمنعه، و إن كان من جهة الطاعة فالوليّ هو الّذي يحكم في أمره بما يشاء.

و لم يقيّد الله سبحانه في قوله:( لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَ النَّصارى‏ أَوْلِياءَ ) الولاية بشي‏ء من الخصوصيّات و القيود فهي مطلقة غير أنّ قوله تعالى في الآية التالية:( فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشى‏ أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ ) ، يدلّ على أنّ المراد بالولاية نوع من القرب و الاتّصال يناسب هذا الّذي اعتذروا به بقولهم:( نَخْشى‏ أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ ) و هي الدولة تدور عليهم، و كما أنّ الدائرة من الجائز أن تصيبهم من غير اليهود و النصارى فيتأيّدوا بنصرة الطائفتين بأخذهما أولياء النصرة كذلك يجوز أن تصيبهم من نفس اليهود و النصارى فينجو منها باتّخاذهما أولياء المحبّة و الخلطة.

و الولاية بمعنى قرب المحبّة و الخلطة تجمع الفائدتين جميعاً أعني فائدة النصرة و الامتزاج الروحيّ فهو المراد بالآية، و سيجي‏ء ما في القيود و الصفات المأخوذة في الآية

٤٠٢

الأخيرة:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ ) ، من الدلالة على أنّ المراد بالولاية ههنا ولاية المحبّة لا غير.

و قد أصرّ بعض المفسّرين على أنّ المراد بالولاية ولاية النصرة و هي الّتي تجري بين إنسانين أو قومين من الحلف أو العهد على نصرة أحد الوليّين الآخر عند الحاجة، و استدلّ على ذلك بما محصّله أنّ الآيات - كما يلوح من ظاهرها - منزّلة قبل حجّة الوداع في أوائل الهجرة أيّام كان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و المسلمون لم يفرغوا من أمر يهود المدينة و من حولهم من يهود فدك و خيبر و غيرهم، و من ورائهم النصارى و كان بين طوائف من العرب و بينهم عقود من ولاية النصرة و الحلف، و ربّما انطبق على ما ورد في أسباب النزول أنّ عبادة بن الصامت من بني عوف بن الخزرج تبرّأ من بني قينقاع لمّا حاربت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و كان بينه و بينهم ولاية حلف، لكنّ عبدالله بن اُبيّ رأس المنافقين لم يتبرّء منهم و سارع فيهم قائلاً: نَخْشى‏ أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ.

أو ما ورد في قصّة أبي لبابة لمّا أرسله رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليخرج بني قريظة من حصنهم و ينزلهم على حكمه، فأشار أبولبابة بيده إلى حلقه: أنّه الذبح.

أو ما ورد أنّ بعضهم كان يكاتب نصارى الشام بأخبار المدينة، و بعضهم كان يكاتب يهود المدينة لينتفعوا بمالهم و لو بالقرض.

أو ما ورد أنّ بعضهم قال: إنّه يلحق بفلان اليهوديّ أو بفلان النصرانيّ إثر ما نزل بهم يوم اُحد من القتل و الهزيمة.

و هؤلاء الروايات كالمتّفقة في أنّ القائلين:( نَخْشى‏ أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ ) كانوا هم المنافقين، و بالجملة فالآيات إنّما تنهى عن المحالفة و ولاية النصرة بين المسلمين و بين اليهود و النصارى.

و قد أكّد ذلك بعضهم حتّى ادّعى أن كون الولاية في الآية بمعنى ولاية المحبّة و الاعتماد ممّا تتبرّء منه لغة الآية في مفرداتها و سياقها كما يتبرّء منه سبب النزول و الحالة العامّة الّتي كان عليها المسلمون و الكتابيّون في عصر التنزيل.

و كيف يصحّ حمل الآية على النهي عن معاشرتهم و الاختلاط بهم و إن كانوا ذوي

٤٠٣

ذمّة أو عهد، و قد كان اليهود يقيمون مع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و مع الصحابة في المدينة، و كانوا يعاملونهم بالمساواة التامّة (انتهى ما ذكره ملخّصاً).

و هذا كلّه من التساهل في تحصيل معنى الآية أمّا ما ذكروه من كون الآيات نازلة قبل عامّ حجّة الوداع و هي سنة نزول سورة المائدة فممّا ليس فيه كثير إشكال لكنّه لا يوجب كون الولاية بمعنى المحالفة دون ولاية المحبّة.

و أمّا ما ذكروه من أسباب النزول و دلالتها على كون الآيات نازلة في خصوص المحالفة و ولاية النصرة الّتي كانت بين أقوام من العرب و بين اليهود و النصارى. ففيه (أوّلاً) أنّ أسباب النزول في نفسها متعارضة لا ترجع إلى معنى واحد يوثق و يعتمد عليه، و (ثانياً) أنّها لا توجّه ولاية النصارى و إن وجّهت ولاية اليهود بوجه إذ لم يكن بين العرب من المسلمين و بين النصارى ولاية الحلف يومئذ، و (ثالثاً) أنّا نصدّق أسباب النزول فيما تقتصّها إلّا أنّك قد عرفت فيما مرّ أنّ جلّ الروايات الواردة في أسباب النزول على ضعفها متضمّنة لتطبيق الحوادث المنقولة تاريخاً على الآيات القرآنيّة المناسبة لها، و هذا أيضاً لا بأس به.

و أمّا الحكم بأنّ الوقائع المذكورة فيها تخصّص عموم آية من الآيات القرآنيّة أو تقيّد إطلاقها بحسب اللّفظ فممّا لا ينبغي التفوّه به، و لا أنّ الظاهر المتفاهم يساعده. و لو تخصّص أو تقيّد ظاهر الآيات بخصوصيّة في سبب النزول غير مأخوذة في لفظ الآية لمات القرآن بموت من نزل فيهم، و انقطع الحجاج به في واقعة من الوقائع الّتي بعد عصر التنزيل، و لا يوافقه كتاب و لا سنّة و لا عقل سليم.

و أمّا ما ذكره بعضهم:( أنّ أخذ الولاية بمعنى المحبّة و الاعتماد خطأ تتبرّء منه لغة الآية في مفرداتها و سياقها كما يتبرّء منه أسباب النزول و الحالة العامّة الّتي كان عليها المسلمون و الكتابيّون في عصر التنزيل) فممّا لا يرجع إلى معنى محصّل بعد التأمّل فيه فإنّ ما ذكره من تبرّي أسباب النزول و ما ذكره من الحالة العامّة أن تشمل الآيات ذلك و تصدق عليه إذا لم يأب ظهور الآية من الانطباق عليه، و أمّا قصر الدلالة على مورد النزول و الحالة العامّة الموجودة وقتئذ فقد عرفت أنّه لا دليل

٤٠٤

عليه بل الدليل - و هو حجّيّة الآية في ظهورها المطلق - على خلافه فقد عرفت أنّ الآية مطلقة من غير دليل على تقييدها فتكون حجّة في المعنى المطلق، و هو الولاية بمعنى المحبّة.

و ما ذكره من تبرّي الآية بمفرداتها و سياقها من ذلك من عجيب الكلام، و ليت شعري ما الّذي قصده من هذا التبرّي الّذي وصفه و حمله على مفردات الآية و لم يقنع بذلك دون أن عطف عليها سياقها.

و كيف تتبرّء من ذلك مفردات الآية أو سياقها و قد وقع فيها بعد قوله:( لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَ النَّصارى‏ أَوْلِياءَ ) قوله تعالى:( بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ ) و لا ريب في أنّ المراد بهذه الولاية ولاية المحبّة و الاتّحاد و المودّة، دون ولاية الحلف إذ لا معنى لأن يقال: لا تحالفوا اليهود و النصارى بعضهم حلفاء بعض، و إنّما كان ما يكوّن الوحدة بين اليهود و يردّ بعضهم إلى بعض هو ولاية المحبّة القوميّة، و كذا بين النصارى من دون تحالف بينهم أو عهد إلّا مجرّد المحبّة و المودّة من جهة الدين؟.

و كذا قوله تعالى بعد ذلك:( وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ) فإنّ الاعتبار الّذي يوجب كون موالي جماعة من تلك الجماعة هو أنّ المحبّة و المودّة تجمع المتفرّقات و توحّد الأرواح المختلفة و تتوحّد بذلك الإدراكات، و ترتبط به الأخلاق، و تتشابه الأفعال، و ترى المتحابّين بعد استقرار ولاية المحبّة كأنّهما شخص واحد ذو نفسيّة واحدة، و إرادة واحدة، و فعل واحد لا يخطّئ أحدهما الآخر في مسير الحياة، و مستوى العشرة.

فهذا هو الّذي يوجب كون من تولّى قوماً منهم و لحوقه بهم، و قد قيل: من أحبّ قوماً فهو منهم، و المرء مع من أحبّ، و قد قال تعالى في نظيره نهياً عن موالاة المشركين:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَ عَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَ قَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ - إلى أن قال بعد عدة آيات -وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) (الممتحنة: ٩) و قال تعالى:( لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِالله وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ الله وَ رَسُولَهُ وَ لَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ

٤٠٥

عَشِيرَتَهُمْ ) (المجادلة: ٢٢) و قال تعالى في تولّي الكافرين - و اللّفظ عامّ يشمل اليهود و النصارى و المشركين جميعاً -:( لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ الله فِي شَيْ‏ءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً وَ يُحَذِّرُكُمُ الله نَفْسَهُ ) (آل عمران: ٢٨) و الآية صريحة في ولاية المودّة و المحبّة دون الحلف و العهد، و قد كان بين النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و بين اليهود، و كذا بينه و بين المشركين يومئذ أعني زمان نزول سورة آل عمران معاهدات و موادعات.

و بالجملة الولاية الّتي تقتضي بحسب الاعتبار لحوق قوم بقوم هي ولاية المحبّة و المودّة دون الحلف و النصرة و هو ظاهر، و لو كان المراد بقوله:( وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ) أنّ من حالفهم على النصرة بعد هذا النهي فإنّه لمعصيته النهي ظالم ملحق باُولئك الظالمين في الظلم كان معنى - على ابتذاله - بعيداً من اللّفظ يحتاج إلى قيود زائدة في الكلام.

و من دأب القرآن في كلّ ما ينهى عن أمر كان جائزاً سائغاً قبل النهي أن يشير إليه رعاية لجانب الحكم المشروع سابقاً، و احتراماً للسيرة النبويّة الجارية قبله كقوله:( إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا ) (التوبة: ٢٨) و قوله:( فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَ ابْتَغُوا ما كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَ كُلُوا وَ اشْرَبُوا ) الآية: (البقرة: ١٨٧) و قوله:( لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَ لا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ ) (الأحزاب: ٥٢) إلى غير ذلك.

فقد تبيّن أنّ لغة الآية في مفرداتها و سياقها لا تتبرّء من كون المراد بالولاية ولاية المحبّة و المودّة، بل إن تبرّأت فإنّما تتبرّء من غيرها.

و أمّا قولهم: إنّ المراد بالّذين في قلوبهم مرض المنافقون فسيجي‏ء أنّ السياق لا يساعده.

فالمراد بقوله:( لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَ النَّصارى‏ أَوْلِياءَ ) النهي عن موادّتهم الموجب لتجاذب الأرواح و النفوس الّذي يفضي إلى التأثير و التأثّر الأخلاقيّين فإنّ ذلك يقلب حال مجتمعهم من السيرة الدينيّة المبنيّة على سعادة اتّباع الحقّ إلى سيرة الكفر

٤٠٦

المبنيّة على اتّباع الهوى و عبادة الشيطان و الخروج عن صراط الحياة الفطريّة.

و إنّما عبّر عنهم باليهود و النصارى، و لم يعبّر بأهل الكتاب كما عبّر بمثله في الآية الآتية لما في التعبير بأهل الكتاب من الإشعار بقربهم من المسلمين نوعاً من القرب يوجب إثارة المحبّة فلا يناسب النهي عن اتّخاذهم أولياء، و أمّا ما في الآية الآتية:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَ لَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَ الْكُفَّارَ أَوْلِياءَ ) من وصفهم بإيتائهم الكتاب مع النهي عن اتّخاذهم أولياء فتوصيفهم باتّخاذ دين الله هزواً و لعباً يقلّب حال ذلك الوصف - أعني كونهم ذوي كتاب - من المدح إلى الذمّ فإنّ من اُوتي الكتاب الداعي إلى الحقّ و المبيّن له ثمّ جعل يستهزء بدين الحقّ و يلعب به أحقّ و أحرى به أن لا يتّخذ وليّاً، و تجتنب معاشرته و مخالطته و موادّته.

و أمّا قوله تعالى:( بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ ) فالمراد بالولاية - كما تقدّم - ولاية المحبّة المستلزمة لتقارب نفوسهم، و تجاذب أرواحهم المستوجب لاجتماع آرائهم على اتّباع الهوى، و الاستكبار عن الحقّ و قبوله، و اتّحادهم على إطفاء نور الله سبحانه، و تناصرهم على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و المسلمين كأنّهم نفس واحدة ذات ملّة واحدة، و ليسوا على وحدة من الملّيّة لكن يبعث القوم على الاتّفاق، و يجعلهم يداً واحدة على المسلمين أنّ الإسلام يدعوهم إلى الحقّ، و يخالف أعزّ المقاصد عندهم و هو اتّباع الهوى، و الاسترسال في مشتهيات النفس و ملاذّ الدنيا.

فهذا هو الّذي جعل الطائفتين: اليهود و النصارى - على ما بينهما من الشقاق و العداوة الشديدة - مجتمعاً واحداً يقترب بعضه من بعض، و يرتدّ بعضه إلى بعض، يتولّى اليهود النصارى و بالعكس، و يتولّى بعض اليهود بعضاً، و بعض النصارى بعضاً، و هذا معنى إبهام الجملة:( بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ ) في مفرداتها، و الجملة في موضع التعليل لقوله:( لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَ النَّصارى‏ أَوْلِياءَ ) و المعنى لا تتّخذوهم أولياء لأنّهم على تفرّقهم و شقاقهم فيما بينهم يد واحدة عليكم لا نفع لكم في الاقتراب منهم بالمودّة و المحبّة.

و ربّما أمكن أن يستفاد من قوله:( بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ ) معنى آخر، و هو أن

٤٠٧

لا تتّخذوهم أولياء لأنّكم إنّما تتّخذونهم أولياء لتنتصروا ببعضهم الّذي هم أولياؤكم على البعض الآخر، و لا ينفعكم ذلك فإنّ بعضهم أولياء بعض فليسوا ينصرونكم على أنفسهم.

قوله تعالى: ( وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ الله لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) التولي اتّخاذ الوليّ، و( من ) تبعيضيّة و المعنى أنّ من يتّخذهم منكم أولياء فإنّه بعضهم، و هذا إلحاق تنزيليّ يصير به بعض المؤمنين بعضاً من اليهود و النصارى، و يؤل الأمر إلى أنّ الإيمان حقيقة ذات مراتب مختلفة من حيث الشوب و الخلوص، و الكدورة و الصفاء كما يستفاد ذلك من الآيات القرآنيّة قال تعالى:( وَ ما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِالله إِلَّا وَ هُمْ مُشْرِكُونَ ) (يوسف: ١٠٦) و هذا الشوب و الكدر هو الّذي يعبّر تعالى عنه بمرض القلوب فيما سيأتي من قوله:( فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ ) .

فهؤلاء الموالون لاُولئك أقوام عدّهم الله تعالى من اليهود و النصارى و إن كانوا من المؤمنين ظاهراً، و أقلّ ما في ذلك أنّهم غير سالكين سبيل الهداية الّذي هو الإيمان بل سالكو سبيل اتّخذه اُولئك سبيلاً يسوقه إلى حيث يسوقهم و ينتهي به إلى حيث ينتهي بهم.

و لذلك علّل الله سبحانه لحوقه بهم بقوله:( إِنَّ الله لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) فالكلام في معنى: أنّ هذا الّذي يتولّاهم منكم هو منهم غير سألك سبيلكم لأنّ سبيل الإيمان هو سبيل الهداية الإلهيّة، و هذا المتولّي لهم ظالم مثلهم، و الله لا يهدي القوم الظالمين.

و الآية - كما ترى - تشتمل على أصل التنزيل أعني تنزيل من تولّاهم من المؤمنين منزلتهم من غير تعرّض لشي‏ء من آثاره الفرعيّة، و اللّفظ و إن لم يتقيّد بقيد لكنّه لمّا كان من قبيل بيان الملاك - نظير قوله:( وَ أَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ ) (البقرة: ١٨٤) و قوله:( إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى‏ عَنِ الْفَحْشاءِ وَ الْمُنْكَرِ وَ لَذِكْرُ الله أَكْبَرُ ) (العنكبوت: ٤٥) إلى غير ذلك - لم يكن إلّا مهملاً يحتاج التمسّك به في إثبات حكم فرعيّ إلى بيان السنّة، و المرجع في البحث عن ذلك فنّ الفقه.

٤٠٨

قوله تعالى: ( فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ ) تفريع على قوله في الآية السابقة:( إِنَّ الله لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) فمن عدم شمول الهداية الإلهيّة لحالهم - و هو الضلال - مسارعتهم فيهم و اعتذارهم في ذلك بما لا يسمع من القول، و قد قال تعالى:( يُسارِعُونَ فِيهِمْ ) و لم يقل: يسارعون إليهم، فهم منهم و حالّون في الضلال محلّهم، فهؤلاء يسارعون فيهم لا لخشية إصابة دائرة عليهم فليسوا يخافون ذلك، و إنّما هي معذرة يختلقونها لأنفسهم لدفع ما يتوجّه إليهم من ناحية النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و المؤمنين من اللّوم و التوبيخ بل إنّما يحملهم على تلك المسارعة تولّيهم اُولئك (اليهود و النصارى).

و لمّا كان من شأن كلّ ظلم و باطل أن يزهق يوماً و يظهر للملأ فضيحته، و ينقطع رجاء من توسّل إلى أغراض باطلة بوسائل صورتها صورة الحقّ كما قال تعالى:( إِنَّ الله لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) كان من المرجوّ قطعاً أن يأتي الله بفتح أو أمر من عنده فيندموا على فعالهم، و يظهر للمؤمنين كذبهم فيما كانوا يظهرونه.

و بهذا البيان يظهر وجه تفرّع قوله:( فَتَرَى الَّذِينَ ) إلخ على قوله:( إِنَّ الله لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) و قد تقدّم كلام في معنى عدم اهتداء الظالمين في ظلمهم.

فهؤلاء القوم منافقون من جهة إظهارهم للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و المؤمنين ما ليس في قلوبهم حيث يعنونون مسارعتهم في اليهود و النصارى بعنوان الخشية من إصابة الدائرة، و عنوانه الحقيقيّ الموافق لما في قلوبهم هو تولّي أعداء الله فهذا هو وجه نفاقهم، و أمّا كونهم منافقين بمعنى الكافرين المظهرين للإيمان فسياق الآيات لا يوافقه.

و قد ذكر جماعة من المفسّرين أنّهم المنافقون كعبدالله بن اُبيّ و أصحابه على ما يؤيّده أسباب النزول الواردة فإنّ هؤلاء المنافقين كانوا يشاركون المؤمنين في مجتمعهم و يجاملونهم من جانب، و من الجانب الآخر كانوا يتولّون اليهود و النصارى بالحلف و العهد على النصرة استدراراً للفئتين، و أخذاً بالاحتياط في رعاية مصالح أنفسهم ليغتبطوا على أيّ حال، و يكونوا في مأمن من إصابة الدائرة على أيّ واحدة من الفئتين المتخاصمتين دارت.

٤٠٩

و ما ذكروه لا يلائم سياق الآيات فإنّها تتضمّن رجاء أن يندموا بفتح أو أمر من عنده، و الفتح فتح مكّة أو فتح قلاع اليهود و بلاد النصارى أو نحو ذلك على ما قالوا و لا وجه لندمهم على هذا التقدير فإنّهم احتاطوا في أمرهم بحفظ الجانبين، و لا ندامة في الاحتياط، و إنّما كان يصحّ الندم لو انقطعوا من المؤمنين بالمرّة و اتّصلوا باليهود و النصارى ثمّ دارت الدائرة عليهم، و كذا ما ذكره الله تعالى من حبط أعمالهم و صيرورتهم خاسرين بقوله:( حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ ) لا يلائم كونهم هم المنافقين الآخذين بالحائطة لمنافعهم و مطالبهم إذ لا معنى لخسران من احتاط بحائطة اتّقاءً من مكروه يخافه على نفسه ثمّ صادف أن لم يقع ما كان يخاف وقوعه، و الاحتياط في العمل من الطرق العقلائيّة الّتي لا تستتبع لوماً و لا ذمّاً.

إلّا أن يقال: إنّ الذمّ إنّما لحقهم لأنّهم عصوا النهي الإلهيّ و لم تطمئنّ قلوبهم بما وعده الله من الفتح، و هذا و إن كان لا بأس به في نفسه لكن لا دليل عليه من جهة لفظ الآية.

قوله تعالى: ( فَعَسَى الله أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلى‏ ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ ) لفظة( عسى ) و إن كان في كلامه تعالى للترجّي كسائر الكلام - على ما قدّمنا أنّه للترجّي العائد إلى السامع أو إلى المقام - لكنّ القرينة قائمة على أنّه ممّا سيقع قطعاً فإنّ الكلام مسوق لتقرير ما ذكره بقوله:( إِنَّ الله لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) و تثبيت صدقه، فما يشتمل عليه واقع لا محالة.

و الّذي ذكره الله تعالى من الفتح - و قد ردّد بينه و بين أمر من عنده غير بيّن المصداق بل الترديد بينه و بين أمر مجهول لنا - لعلّه يؤيّد كون اللّام في( بِالْفَتْحِ ) للجنس لا للعهد حتّى يكون المراد به فتح مكّة المعهود بوعد وقوعه في مثل قوله تعالى:( إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى‏ مَعادٍ ) (القصص: ٨٥) و قوله:( لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ الله ) (الفتح: ٢٧) و غير ذلك.

و الفتح الواقع في القرآن و إن كان المراد به في أكثر موارده هو فتح مكّة لكن بعض الموارد لا يقبل الحمل على ذلك كقوله تعالى:( وَ يَقُولُونَ مَتى‏ هذَا الْفَتْحُ

٤١٠

إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَ لا هُمْ يُنْظَرُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَ انْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ ) (السجدة: ٣٠) فإنّه تعالى وصف هذا الفتح بأنّه لا ينفع عنده الإيمان لمن كان كافراً قبله، و أنّ الكفّار ينتظرونه، و أنت تعلم أنّه لا ينطبق على فتح مكّة و لا على سائر الفتوحات الّتي نالها المسلمون حتّى اليوم فإنّ عد نفع الإيمان و هو التوبة إنّما يتصوّر لأحد أمرين - كما تقدّم بيانه في الكلام على التوبة(١) -: إمّا بتبدّل نشأة الحياة و ارتفاع الاختيار لتبدّل الدنيا بالآخرة، و إمّا بتكوّن أخلاق و ملكات في الإنسان يقسو بها القلب قسوة لا رجاء معها للتوبة و الرجوع إلى الله سبحانه قال تعالى:( يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً ) (الأنعام: ١٥٨) و قال تعالى:( وَ لَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَ لَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَ هُمْ كُفَّارٌ ) (النساء: ١٨).

و كيف كان فإن كان المراد بالفتح أحد فتوحات المسلمين كفتح مكّة أو فتح قلاع اليهود أو فتح بلاد النصارى فهو، إلّا أنّ في انطباق ما ذكره الله تعالى بقوله:( فَيُصْبِحُوا عَلى‏ ما أَسَرُّوا ) إلخ و قوله:( وَ يَقُولُ الَّذِينَ ) إلخ عليه خفاءً تقدّم وجهه.

و إن كان المراد به الفتح بمعنى القضاء للإسلام على الكفر و الحكم الفصل بين الرسول و قومه فهو من الملاحم القرآنيّة الّتي ينبئ تعالى فيها عمّا سيستقبل هذه الاُمّة من الحوادث، و ينطبق على ما ذكره الله في سورة يونس من قوله:( وَ لِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ ) إلى آخر الآيات: (يونس: ٤٧ - ٥٦).

و أمّا قوله:( فَيُصْبِحُوا عَلى‏ ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ ) فإنّ الندامة إنّما تحصل عند فعل ما لم يكن ينبغي أن يفعل أو ترك ما لم يكن ينبغي أن يترك، و قد فعلوا شيئاً، و الله سبحانه يذكر في الآية التالية حبط أعمالهم و خسرانهم في صفقتهم فإنّما أسرّوا في أنفسهم تولّي اليهود و النصارى لينالوا به و بالمسارعة فيهم ما كانت اليهود

____________________

(١) في الكلام على قوله تعالى:( إنّما التوبة على الله ) الآيتين النساء ١٧ - ١٨ في الجزء الرابع من الكتاب.

٤١١

و النصارى يريدونه من انطفاء نور الله و التسلّط على شهوات الدنيا من غير مانع من الدين.

فهذا - لعلّه - هو الّذي أسرّوه في أنفسهم، و سارعوا لأجله فيهم، و سوف يندمون على بطلان سعيهم إذا فتح الله للحقّ.

قوله تعالى: ( وَ يَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا ) إلى آخر الآية و قرء:( يَقُولُ ) بالنصب عطفاً على قوله:( فَيُصْبِحُوا ) و هي أرجح لكونها أوفق بالسياق فإنّ ندامتهم على ما أسرّوه في أنفسهم و قول المؤمنين:( أَ هؤُلاءِ ) إلخ جميعاً تقريع لهم بعاقبة تولّيهم و مسارعتهم في اليهود و النصارى، و قوله:( هؤُلاءِ ) إشارة إلى اليهود و النصارى، و قوله:( لَمَعَكُمْ ) خطاب‏ للّذين في قلوبهم مرض و يمكن العكس، و كذا الضمير في قوله:( حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا ) ، يمكن رجوعه إلى اليهود و النصارى، و إلى الّذين في قلوبهم مرض.

لكنّ الظاهر من السياق أنّ الخطاب للّذين في قلوبهم مرض، و الإشارة إلى اليهود و النصارى، و قوله:( حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ ) ، كالجواب لسؤال مقدّر، و المعنى: و عسى أن يأتي الله بالفتح أو أمر من عنده فيقول الّذين آمنوا لهؤلاء الضعفاء الإيمان عند حلول السخط الإلهيّ بهم: أ هؤلاء اليهود و النصارى هم الّذين أقسموا بالله جهد أيمانهم أي أيمانهم الّتي بالغوا و جهدوا فيها جهداً إنّهم لمعكم فلمّا ذا لا ينفعونكم؟! ثمّ كأنّه سئل فقيل: فإلى م انتهى أمر هؤلاء الموالين؟ فقيل في جوابه: حبطت أعمالهم فأصبحوا خاسرين.

( كلام في معنى مرض القلب)

و في قوله تعالى:( فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ) دلالة على أنّ للقلوب مرضاً فلها لا محالة صحّة إذ الصحّة و المرض متقابلان لا يتحقّق أحدهما في محل إلّا بعد إمكان تلبّسه بالآخر كالبصر و العمى أ لا ترى أنّ الجدار مثلاً لا يتّصف بأنّه مريض لعدم جواز اتّصافه بالصحّة و السلامة.

و جميع الموارد الّتي أثبت الله سبحانه فيها للقلوب مرضاً في كلامه يذكر فيها من أحوال تلك القلوب و آثارها اُموراً تدلّ على خروجها من استقامة الفطرة، و انحرافها

٤١٢

عن مستوى الطريقة كقوله تعالى:( وَ إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا الله وَ رَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً ) (الأحزاب: ١٢) و قوله تعالى:( إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ ) (الأنفال: ٤٩) و قوله تعالى:( لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَ الْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ ) (الحجّ: ٥٣) إلى غير ذلك.

و جملة الأمر أنّ مرض القلب تلبّسه بنوع من الارتياب و الشكّ يكدّر أمر الإيمان بالله و الطمأنينة إلى آياته، و هو اختلاط من الإيمان بالشرك، و لذلك يرد على مثل هذا القلب من الأحوال، و يصدر عن صاحب هذا القلب في مرحلة الأعمال و الأفعال ما يناسب الكفر بالله و بآياته.

و بالمقابلة تكون سلامة القلب و صحّته هي استقراره في استقامة الفطرة و لزومه مستوى الطريقة، و يؤل إلى خلوصه في توحيد الله سبحانه و ركونه إليه عن كلّ شي‏ء يتعلّق به هوى الإنسان، قال تعالى:( يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَ لا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى الله بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ) (الشعراء: ٨٩).

و من هنا يظهر أنّ الّذين في قلوبهم مرض غير المنافقين كما لا يخلو تعبير القرآن عنهما بمثل قوله:( الْمُنافِقُونَ وَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ) في غالب الموارد عن إشعار مّا بذلك، و ذلك أنّ المنافقين هم الّذين آمنوا بأفواههم و لم تؤمن قلوبهم، و الكفر الخالص موت للقلب لا مرض فيه قال تعالى:( أَ وَ مَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَ جَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ ) (الأنعام: ١٢٢) و قال:( إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَ الْمَوْتى‏ يَبْعَثُهُمُ الله ) (الأنعام: ٣٦).

فالظاهر أنّ مرض القلب في عرف القرآن هو الشكّ و الريب المستولي على إدراك الإنسان فيما يتعلّق بالله و آياته، و عدم تمكّن القلب من العقد على عقيدة دينيّة.

فالّذين في قلوبهم مرض بحسب طبع المعنى هم ضعفاء الإيمان، الّذين يصغون إلى كلّ ناعق، و يميلون مع كلّ ريح، دون المنافقين الّذين أظهروا الإيمان و استبطنوا الكفر رعاية لمصالحهم الدنيويّة ليستدرّوا المؤمنين بظاهر إيمانهم و الكفّار بباطن كفرهم.

نعم ربّما اُطلق عليهم المنافقون في القرآن تحليلاً لكونهم يشاركونهم في عدم

٤١٣

اشتمال باطنهم على لطيفة الإيمان، و هذا غير إطلاق الّذين في قلوبهم مرض على من هو كافر لم يؤمن إلّا ظاهراً قال تعالى:( بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَ يَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لله جَمِيعاً وَ قَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ الله يُكْفَرُ بِها وَ يُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ الله جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَ الْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً ) (النساء: ١٤٠).

و أمّا قوله تعالى في سورة البقرة:( وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِالله وَ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَ ما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ - إلى أن قال -فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ الله مَرَضاً - إلى أن قال -وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ قالُوا أَ نُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ ) الآيات (البقرة: ٧ ٢٠) فإنّما هو بيان لسلوك قلوبهم من الشكّ في الحقّ إلى إنكاره، و أنّهم كانوا في بادئ حالهم مرضى بسبب كذبهم في الإخبار عن إيمانهم و كانوا مرتابين لم يؤمنوا بعد، فزادهم الله مرضاً حتّى هلكوا بإنكارهم الحقّ و استهزائهم له.

و قد ذكر الله سبحانه أنّ مرض القلب على حدّ الأمراض الجسمانيّة ربّما أخذ في الزيادة حتّى أزمن و انجرّ الأمر إلى الهلاك و ذلك بإمداده بما يضرّ طبع المريض في مرضه، و ليس إلّا المعصية قال تعالى:( فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ الله مَرَضاً ) (البقرة: ١٠) و قال تعالى( وَ إِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ - إلى أن قال -:وَ أَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَ ماتُوا وَ هُمْ كافِرُونَ أَ وَ لا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَ لا هُمْ يَذَّكَّرُونَ ) (التوبة: ١٢٦) و قال تعالى و هو بيان عامّ:( ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى‏ أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ الله وَ كانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ ) (الروم: ١٠).

ثمّ ذكر تعالى في علاجه الإيمان به قال تعالى - و هو بيان عامّ -:( يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ ) (يونس: ٩) و قال تعالى:( إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ) (فاطر: ١٠) فعلى مريض القلب - إن أراد مداواة مرضه - أن يتوب إلى الله، و هو الإيمان به و أن يتذكّر بصالح الفكر و صالح العمل كما يشير إليه الآية السابقة الذكر:( ثُمَّ

٤١٤

لا يَتُوبُونَ وَ لا هُمْ يَذَّكَّرُونَ ) (التوبة: ١٢٦).

و قال سبحانه و هو قول جامع في هذا الباب:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَ تُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لله عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَ لَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَ أَصْلَحُوا وَ اعْتَصَمُوا بِالله وَ أَخْلَصُوا دِينَهُمْ لله فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَ سَوْفَ يُؤْتِ الله الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً ) (النساء: ١٤٦) و قد تقدّم أنّ المراد بذلك الرجوع إلى الله بالإيمان و الاستقامة عليه و الأخذ بالكتاب و السنّة ثمّ الإخلاص.

قوله تعالى: ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ ) ارتدّ عن دينه رجع عنه، و هو في اصطلاح أهل الدين الرجوع من الإيمان إلى الكفر سواءً كان إيمانه مسبوقاً بكفر آخر كالكافر يؤمن ثمّ يرتدّ أو لم يكن، و هما المسمّيان بالارتداد الملّيّ و الفطريّ (حقيقة شرعيّة أو متشرّعيّة).

ربّما يسبق إلى الذهن أنّ المراد بالارتداد في الآية هو ما اصطلح عليه أهل الدين، و يكون الآية على هذا غير متّصلة بما قبلها، و إنّما هي آية مستقلّة تحكي عن نحو استغناء من الله سبحانه عن إيمان طائفة من المؤمنين بإيمان آخرين.

لكن التدبّر في الآية و ما تقدّم عليها من الآيات يدفع هذا الاحتمال فإنّ الآية على هذا تذكّر المؤمنين بقدرة الله سبحانه على أن يعبد في أرضه، و أنّه سوف يأتي بأقوام لا يرتدّون عن دينه بل يلازمونه كقوله تعالى:( فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ ) (الأنعام: ٨٩) أو كقوله تعالى:( وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ ) (آل عمران: ٩٧) و قوله تعالى:( إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ الله لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ ) (إبراهيم: ٨).

و المقام الّذي هذه صفته لا يقتضي أزيد من التعرّض لأصل الغرض، و هو الإخبار بالإتيان بقوم مؤمنين لا يرتدّون عن دين الله، و أمّا أنّهم يحبّون الله و يحبّهم، و أنّهم أذلّة على المؤمنين أعزّة على الكافرين إلى آخر ما ذكر في الآية من الأوصاف فهي اُمور زائدة يحتاج التعرّض لها إلى اقتضاء زائد من المقام و الحال.

٤١٥

و من جهة اُخرى نجد أنّ ما ذكر في الآية من الأوصاف اُمور لا تخلو من الارتباط بما ذكر في الآيات السابقة من تولّي اليهود و النصارى فإنّ اتّخاذهم أولياء من دون المؤمنين لا يخلو من تعلّق القلب بهم تعلّق المحبّة و المودّة، و كيف يحتوي قلب هذا شأنه على محبّة الله سبحانه و قد قال تعالى:( ما جَعَلَ الله لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ ) (الأحزاب: ٤).

و من لوازم هذا التولّي أن يتذلّل المؤمن لهؤلاء الكفّار، و أن يتعزّز على المؤمنين و يترفّع عنهم كما قال تعالى:( أَ يَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لله جَمِيعاً ) (النساء: ١٣٩).

و من لوازم هذا التولّي المساهلة في الجهاد عليهم و الانقباض عن مقاتلتهم، و التحرّج من الصبر على كلّ حرمان، و التحمّل لكلّ لائمة في قطع الروابط الاجتماعيّة معهم كما قال تعالى:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَ عَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَ قَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ - إلى أن قال -إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ ) (الممتحنة: ١) و قال تعالى:( قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَ الَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَ مِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ الله كَفَرْنا بِكُمْ وَ بَدا بَيْنَنا وَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَ الْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِالله وَحْدَهُ ) (الممتحنة: ٤).

و كذلك الارتداد بمعناه اللّغويّ أو بالعناية التحليليّة صادق على تولّي الكفّار كما قال تعالى في الآية السابقة (آية: ٥١):( وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ) و قال أيضاً:( وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ الله فِي شَيْ‏ءٍ ) (آل عمران: ٢٨) و قال تعالى:( إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ ) (النساء: ١٤٠).

فقد تبيّن بهذا البيان أنّ للآية اتّصالاً بما قبلها من الآيات و أنّ الآية مسوقة لإظهار أنّ دين الله في غنىّ عن اُولئك الّذين يخاف عليهم الوقوع في ورطة المخالفة و تولّي اليهود و النصارى لدبيب النفاق في جماعتهم، و اشتمالها على عدّة مرضى القلوب لا يبالون باشتراء الدنيا بالدين، و إيثار ما عند أعداء الدين من العزّة الكاذبة و المكانة

٤١٦

الحيويّة الفانية على حقيقة العزّة الّتي هي لله و لرسوله و للمؤمنين، و السعادة الواقعيّة الشاملة على حياة الدنيا و الآخرة.

و إنّما أظهرت الآية ذلك بالإنباء عن ملحمة غيبيّة أنّ الله سبحانه في قبال ما يلقاه الدين من تلوّن هؤلاء الضعفاء الإيمان، و اختيارهم محبّة غير الله على محبّته، و ابتغاء العزّة عند أعدائه و مساهلتهم في الجهاد في سبيله، و الخوف من كلّ لومة و توبيخ سيأتي بقوم يحبّهم و يحبّونه أذلّة على المؤمنين أعزّة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله لا يخافون لومة لائم.

و كثير من المفسّرين و إن تنبّهوا على اشتمال الآية على الملحمة و أطالوا في البحث عمّن تنطبق عليه الآية مصداقاً غير أنّهم تساهلوا في تفسير مفرداتها فلم يعطوا ما ذكر فيها من الأوصاف حقّ معناها فآل الأمر إلى معاملتهم كلام الله سبحانه معاملة كلام غيره و تجويز وقوع المسامحات و المساهلات العرفيّة فيه كما في غيره.

فالقرآن و إن لم يسلك في بلاغته مسلكاً بدعاً، و لم يتّخذ نهجاً مخترعاً جديداً في استعمال الألفاظ و تركيب الجمل و وضع الكلمات بحذاء معانيها بل جرى في ذلك مجرى غيره من الكلام.

و لكنّه يفارق سائر الكلام في أمر آخر، و هو أنّا معاشر المتكلّمين من البليغ و غيره إنّما نبني الكلام على أساس ما نعقله من المعاني، و المدرك لنا من المعاني إنّما يدرك بفهم مكتسب من الحياة الاجتماعيّة الّتي اختلقناها بفطرتنا الإنسانيّة الاجتماعيّة، و من شأنها الحكم بالقياس، و عند ذلك ينفتح باب المسامحة و المساهلة على أذهاننا فنأخذ الكثير مكان الجميع، و الغالب موضع الدائم، و نفرض كلّ أمر قياسيّ أمراً مطلقاً، و نلحق كلّ نادر بالمعدوم، و نجري كلّ أمر يسير مجرى ما ليس بموجود يقول قائلنا: كذا حسن أو قبيح، و كذا محبوب أو مبغوض، و كذا محمود أو مذموم، و كذا نافع أو ضارّ، و فلان خيّر أو شرير، إلى غير ذلك فنطلق القوم في ذلك، و إنّما هو كذلك في بعض حالاته و على بعض التقادير، و عند بعض الناس، و بالقياس إلى بعض الأشياء لا مطلقاً، لكنّ القائل إنّما يلحق بعض التقادير المخالفة بالعدم تسامحاً

٤١٧

في إدراكه و حكمه، هذا فيما أدركه من جهات الواقع الخارج، و أمّا ما يغفل عنه لمحدوديّة إدراكه من جهات الكون المربوطة فهو أكثر، فما يخبر به الإنسان و يحدّثه عن الخارج و خيّلت له الإحاطة بالواقع إدراكاً و كشفاً فإنّما هو مبنيّ على التسامح في بعض الجهات، و الجهل في بعض آخر، و هو من الهزل إن قدرنا على أن نحيط بالواقع ثمّ نطبّق كلامه عليه، فافهم ذلك.

فهذا حال كلام الإنسان المبنيّ على ما يحصل عنده من العلم، و أمّا كلام الله سبحانه فمن الواجب أن نجلّه عن هذه النقيصة، و هو المحيط بكلّ شي‏ء علماً و قد قال تعالى في صفة كلامه:( إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ وَ ما هُوَ بِالْهَزْلِ ) .

و هذا من وجوه الأخذ بإطلاق كلامه تعالى فيما كان بظاهره مطلقاً لم يعقّب بقيد متّصل أو منفصل، و من وجوه إشعار الوصف في كلامه بالعلّيّة فإذا قال:( يُحِبُّهُمْ ) فليس يبغضهم في شي‏ء و إلّا لاستثنى، و إذا وصف قوماً بأنّهم أذلّة على المؤمنين كان من الواجب أن يكونوا أذلّاء لهم بما هم مؤمنون أي لصفة إيمانهم بالله سبحانه، و أن يكونوا أذلّاء في جميع أحوالهم و على جميع التقادير، و إلّا لم يكن القول فصلاً.

نعم هناك معان تنسب إلى غير صاحبها إذا جمعها جامع يصحّح ذلك كما في قوله:( وَ لَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَ الْحُكْمَ وَ النُّبُوَّةَ وَ رَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَ فَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ ) (الجاثية: ١٦) و قوله:( هُوَ اجْتَباكُمْ وَ ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) (الحجّ: ٧٨) و قوله:( كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ تَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ) (آل عمران: ١١٠) و قوله:( لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَ يَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً ) (البقرة: ١٤٣) و قوله:( وَ قالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً ) (الفرقان: ٣٠) إلى غير ذلك من الآيات المشتملة على أوصاف اجتماعيّة يتّصف بها الفرد و المجتمع و ليس شي‏ء من ذلك جارياً مجرى التسامح و التساهل بل هي أوصاف يتّصف بها الجزء و الكلّ، و الفرد و المجتمع لعناية متعلّقه بذلك كمثل حفنة من تراب مشتملة على جوهرة يقبض عليها لأجل الجوهرة فالتراب مقبوض و الجوهرة مقبوضة و الأصل في ذلك الجوهرة، و لنرجع إلى ما كنّا فيه:

٤١٨

أمّا قوله:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ ) فالمراد بالارتداد و الرجوع عن الدين بناءً على ما مرّ هو موالاة اليهود و النصارى، و خصّ الخطاب فيه بالمؤمنين لكون الخطاب السابق أيضاً متوجّها إليهم، و المقام مقام بيان أن الدين الحقّ في غنىّ عن إيمانهم المشوب بموالاة أعداء الله، و قد عدّه الله سبحانه كفراً و شركاً حيث قال:( وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ) لما أنّ الله سبحانه هو وليّ دينه و ناصره، و من نصرته لدينه أنّه سوف يأتي بقوم برآء من أعدائه يتولّون أولياءه و لا يحبّون إلّا إيّاه.

و أمّا قوله:( فَسَوْفَ يَأْتِي الله بِقَوْمٍ ) نسب الإتيان إلى نفسه ليقرّر معنى نصره لدينه المفهوم من السياق المشعر بأنّ لهذا الدين ناصراً لا يحتاج معه إلى نصرة غيره، و هو الله عزّ اسمه.

و كون الكلام مسوقاً لبيان انتصار الدين بهؤلاء القوم تجاه من يقصده هؤلاء الموالون لأعدائه من الانتصار القوميّ، و كذا التعبير بالقوم و الإتيان بالأوصاف و الأفعال بصيغة الجمع كلّ ذلك مشعر بأنّ القوم الموعود إيتاؤهم إنّما يبعثون جماعة مجتمعين لا فرادى و لا مثنّى كان يأتي الله سبحانه في كلّ زمان برجل يحبّ الله و يحبّه الله ذليل على المؤمنين عزيز على الكافرين يجاهد في سبيل الله لا يخاف لومة لائم.

و إتيان هذه القوم في عين أنّه منسوب إليهم منسوب إليه تعالى و هو الآتي بهم لا بمعنى أنّه خالقهم إذ لا خالق إلّا الله سبحانه قال:( الله خالِقُ كُلِّ شَيْ‏ءٍ ) (الزمر: ٦٢) بل بمعنى أنّه الباعث لهم فيما ينتهزون إليه من نصرة الدين، و المكرم لهم بحبّه لهم و حبّهم له، و الموفّق لهم بالتذلّل لأوليائه، و التعزّز لأعدائه، و الجهاد في سبيله، و الإعراض عن كلّ لائمة، فنصرتهم للدين هي نصرته تعالى له بسببهم و من طريقهم، و قريب الزمان و بعيده عندالله واحد، و إن كانت أنظارنا لقصورها تفرّق في ذلك.

و أمّا قوله تعالى:( يُحِبُّهُمْ وَ يُحِبُّونَهُ ) فالحبّ مطلق معلّق على الذات من غير تقييده بوصف أو غير ذلك، أمّا حبّهم لله فلازمه إيثارهم ربّهم على كلّ شي‏ء سواه ممّا يتعلّق به نفس الإنسان من مال أو جاه أو عشيرة أو غيرها، فهؤلاء لا يوالون أحداً من أعداء الله سبحانه، و إن والوا أحداً فإنّما يوالون أولياء الله بولاية الله تعالى.

٤١٩

و أمّا حبّه تعالى لهم فلازمه براءتهم من كلّ ظلم، و طهارتهم من كلّ قذارة معنويّة من الكفر و الفسق بعصمة أو مغفرة إلهيّة عن توبة، و ذلك أنّ جمل المظالم و المعاصي غير محبوبة لله كما قال تعالى:( فَإِنَّ الله لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ ) (آل عمران: ٣٢) و قال:( وَ الله لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ) (آل عمران: ٥٧) و قال:( إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ) (الأنعام: ٤١) و قال:( وَ الله لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ) (المائدة: ٦٤) و قال:( إِنَّ الله لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ) (البقرة: ١٩٠) و قال:( إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ ) (النحل: ٢٣) و قال:( إِنَّ الله لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ ) (الأنفال: ٥٨) إلى غير ذلك من الآيات.

و في هذه الآيات جماع الرذائل الإنسانيّة، و إذا ارتفعت عن إنسان بشهادة محبّة الله له اتّصف بما يقابلها من الفضائل لأنّ الإنسان لا مخلص له عن أحد طرفي الفضيلة و الرذيلة إذا تخلّق بخلق.

فهؤلاء هم المؤمنون بالله حقّاً غير مشوب إيمانهم بظلم و قد قال تعالى:( الَّذِينَ آمَنُوا وَ لَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَ هُمْ مُهْتَدُونَ ) (الأنعام: ٨٢) فهم مأمونون من الضلال و قد قال تعالى:( فَإِنَّ الله لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ ) (النحل: ٣٧) فهم في أمن إلهيّ من كلّ ضلالة، و على اهتداء إلهيّ إلى صراطه المستقيم، و هم بإيمانهم الّذي صدّقهم الله فيه مهديّون إلى اتّباع الرسول و التسليم التامّ له كتسليمهم لله سبحانه قال تعالى:( فَلا وَ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَ يُسَلِّمُوا تَسْلِيماً ) (النساء: ٦٥).

و عند ذلك يتمّ أنّهم من مصاديق قوله تعالى:( قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ الله فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ الله ) (آل عمران: ٣١) و به يظهر أنّ اتّباع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و محبّة الله متلازمان فمن اتّبع النبيّ أحبّه الله و لا يحبّ الله عبداً إلّا إذا كان متّبعاً لنبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

و إذا اتّبعوا الرسول اتّصفوا بكلّ حسنة يحبّها الله و يرضاها كالتقوى و العدل و الإحسان و الصبر و الثبات و التوكّل و التوبة و التطهّر و غير ذلك قال تعالى:( فَإِنَّ الله يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ) (آل عمران: ٧٦) و قال:( إِنَّ الله يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ) (البقرة: ١٩٥) و قال:( وَ الله يُحِبُّ الصَّابِرِينَ ) (آل عمران: ١٤٦) و قال:( إِنَّ الله يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ

٤٢٠