الميزان في تفسير القرآن الجزء ٥

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 444

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 444
المشاهدات: 86828
تحميل: 10312


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 444 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 86828 / تحميل: 10312
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 5

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

عليهم أن يتبيّنوا فيما يصنعون و لا ينقادوا لأخلاق الجاهليّة و ما بقي فيهم من أثارتها.

( بحث روائي)

في الدرّ المنثور، في قوله تعالى:( وَ ما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً ) (الآية): أخرج ابن جرير عن عكرمة قال: كان الحارث بن يزيد بن نبيشة، من بني عامر بن لويّ يعذّب، عيّاش بن أبي ربيعة مع أبي جهل، ثمّ خرج مهاجراً إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلقيه عيّاش بالحرّة، فعلاه بالسيف و هو يحسب أنّه كافر، ثمّ جاء إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأخبره فنزلت:( وَ ما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً ) (الآية)، فقرأها عليه، ثمّ قال له: قم فحرّر.

أقول: و روي هذا المعنى بغيره من الطرق، و في بعضها أنّه قتله بمكّة يوم الفتح حين خرج عيّاش و كان في وثاق المشركين إلى ذلك اليوم و هم يعذّبونه و لقي حارثاً و قد أسلم و عيّاش لا يعلم بإسلامه فقتله عيّاش إذ ذاك. و ما أثبتناه من رواية عكرمة أوفق بالاعتبار و أنسب لتاريخ نزول سورة النساء.

و روى الطبريّ في تفسيره عن ابن زيد: أنّ الّذي نزلت فيه الآية هو أبو الدرداء، كان في سريّة فعدل إلى شعب يريد حاجة له، فوجد رجلاً من القوم في غنم له، فحمل عليه بالسيف فقال لا إله إلّا الله، فضربه ثمّ جاء بغنمه إلى القوم، ثمّ وجد في نفسه شيئاً فأتى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فأخبره فنزلت الآية

و روي في الدرّ المنثور، أيضاً عن الرويانيّ و ابن مندة و أبي نعيم عن بكر بن حارثة الجهنيّ: أنّه هو الّذي نزلت فيه الآية، لقصّة نظيرة قصّة أبي الدرداء، و الروايات على أيّ حال لا تزيد على التطبيق.

و في التهذيب، بإسناده عن الحسين بن سعيد عن رجاله عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : كلّ العتق يجوز له المولود إلّا في كفّارة القتل، فإنّ الله تعالى يقول:( فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ ) ، يعني بذلك مقرّة قد بلغت الحنث‏ الحديث.

٤١

و في تفسير العيّاشيّ، عن موسى بن جعفرعليه‌السلام : سئل كيف تعرف المؤمنة؟ قال: على الفطرة.

و في الفقيه، عن الصادقعليه‌السلام : في رجل مسلم في أرض الشرك، فقتله المسلمون ثمّ علم به الإمام بعد، فقالعليه‌السلام : يعتق مكانه رقبة مؤمنة و ذلك قول الله عزّوجلّ:( فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ ) .

أقول: و روى مثله العيّاشيّ. و في قوله:( يعتق مكانه) ، إشعار بأنّ حقيقة العتق إضافة واحد إلى أحرار المسلمين حيث نقص واحد من عددهم كما تقدّمت الإشارة إليه.

و ربّما استفيد من ذلك أنّ مصلحة مطلق العتق في الكفّارات هو إضافة حرّ غير عاص إلى عددهم حيث نقص واحد منهم بالمعصية. فافهم ذلك.

و في الكافي، عن الصادقعليه‌السلام : إن كان على رجل صيام شهرين متتابعين، فأفطر أو مرض في الشهر الأوّل فإنّ عليه أن يعيد الصيام، و إن صام الشهر الأوّل، و صام من الشهر الثاني شيئاً، ثمّ عرض له ما له فيه عذر فعليه أن يقضي.

أقول: أي يقضي ما بقي عليه كما قيل، و قد استفيد من التتابع.

و في الكافي، و تفسير العيّاشيّ، عنهعليه‌السلام : أنّه سئل عن المؤمن يقتل المؤمن متعمّداً له توبة؟ فقال: إن كان قتله لإيمانه فلا توبة له، و إن كان قتله لغضب أو لسبب شي‏ء من أشياء الدنيا، فإنّ توبته أن يقاد منه، و إن لم يكن علم به انطلق إلى أولياء المقتول، فأقرّ عندهم بقتل صاحبهم، فإن عفوا عنه فلم يقتلوه أعطاهم الدية، و أعتق نسمة و صام شهرين متتابعين، و أطعم ستّين مسكيناً توبة إلى الله عزّوجلّ.

و في التهذيب، بإسناده عن أبي السفاتج عن أبي عبداللهعليه‌السلام : في قول الله عزّوجلّ:( وَ مَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ ) قال: جزاؤه جهنّم إن جازاه.

أقول: و روي هذا المعنى في الدرّ المنثور، عن الطبرانيّ و غيره عن أبي هريرة عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . و الروايات كما ترى تشتمل على ما قدّمناه من نكات الآيات، و في باب القتل و القود روايات كثيرة من أرادها فليراجع جوامع الحديث.

٤٢

و في المجمع، في قوله تعالى:( وَ مَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً، فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ ) (الآية) قال، نزلت في مقيس بن ضبابة الكنانيّ، وجد أخاه هشاماً قتيلاً في بني النجّار، فذكر ذلك لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فأرسل معه قيس بن هلال الفهريّ، و قال له: قل لبني النجّار: إن علمتم قاتل هشام فادفعوه إلى أخيه ليقتصّ منه، و إن لم تعلموا فادفعوا إليه ديته. فبلّغ الفهريّ الرسالة فأعطوه الدية، فلمّا انصرف و معه الفهريّ وسوس إليه الشيطان، فقال: ما صنعت شيئاً أخذت دية أخيك فتكون سبّة عليك، اقتل الّذي معك لتكون نفس بنفس و الدية فضل، فرماه بصخرة فقتله و ركب بعيراً، و رجع إلى مكّة كافراً، و أنشد يقول:

قـتلـت به فهراً و حمـلت عقـله

سراة بنـي النجار أرباب فارع

فأدركت ثاري واضطـجعت موسدا

و كنت إلـى الأوثان أوّل راجع

فقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا أؤمنه في حلّ و لا حرم: رواه الضحّاك و جماعة من المفسّرين انتهى.

أقول: و روي ما يقرب منه عن ابن عبّاس و سعيد بن جبير و غيرهما.

و في تفسير القمّيّ، في قوله تعالى:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ) (الآية): أنّها نزلت لمّا رجع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من غزاة خيبر، و بعث اُسامة بن زيد في خيل إلى بعض قرى اليهود، في ناحية فدك ليدعوهم إلى الإسلام، كان رجل يقال له مرداس بن نهيك الفدكيّ في بعض القرى، فلمّا أحسّ بخيل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، جمع أهله و ماله في ناحية الجبل فأقبل يقول: أشهد أن لا إله إلّا الله، و أنّ محمّداً رسول الله، فمرّ به اُسامة بن زيد فطعنه فقتله، فلمّا رجع إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أخبره بذلك، فقال له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : قتلت رجلاً شهد أن لا إله إلّا الله، و أنّي رسول الله،؟ فقال: يا رسول الله إنّما قالها تعوّذاً من القتل، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : فلا كشفت الغطاء عن قلبه، و لا ما قال بلسانه قبلت، و لا ما كان في نفسه علمت. فحلف اُسامة بعد ذلك، أن لا يقتل أحداً شهد أن لا إله إلّا الله، و أنّ محمّداً رسول الله، فتخلّف عن أميرالمؤمنينعليه‌السلام في حروبه فاُنزل في ذلك:( وَ لا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى‏ إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا ) الآية.

٤٣

أقول: و روى هذا المعنى الطبريّ في تفسيره عن السدّيّ، و روي في الدرّ المنثور، روايات كثيرة في سبب نزول الآية، في بعضها: أنّ القصّة لمقداد بن الأسود و في بعضها لأبي الدرداء، و في بعضها لمحلم بن جثامة، و في بعضها لم يذكر اسم للقاتل و لا المقتول و اُبهمت القصّة إبهاماً، هذا، و لكنّ حلف اُسامة بن زيد و اعتذاره إلى عليّعليه‌السلام في تخلّفه عن حروبه معروف مذكور في كتب التاريخ و الله أعلم‏

٤٤

( سورة النساء الآيات ٩٥ - ١٠٠)

لاَ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلّاً وَعَدَ اللّهُ الْحُسْنَى‏ وَفَضّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى‏ الْقَاعِدِينَ أَجْرَاً عَظِيماً( ٩٥) دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللّهُ غَفُوراً رَحِيماً( ٩٦) إِنّ الّذِينَ تَوَفّاهُمُ الْمَلاَئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فُيهَا فَأُولئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً( ٩٧) إِلّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرّجَالِ وَالنّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً( ٩٨) فَأُولئِكَ عَسَى اللّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللّهُ عَفُوّاً غَفُوراً( ٩٩) وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى‏ اللّهِ وَكَانَ اللّهُ غَفُوراً رَحِيماً( ١٠٠)

( بيان)

قوله تعالى: ( لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ - إلى قوله -وَ أَنْفُسِهِمْ ) الضرر هو النقصان في الوجود المانع من القيام بأمر الجهاد و القتال كالعمى و العرج و المرض، و المراد بالجهاد بالأموال إنفاقها في سبيل الله للظفر على أعداء الدين، و بالأنفس القتال.

و قوله:( وَ كُلًّا وَعَدَ الله الْحُسْنى‏ ) ، يدلّ على أنّ المراد بهؤلاء القاعدين هم التاركون للخروج إلى القتال عند ما لا حاجة إلى خروجهم لخروج غيرهم على حدّ

٤٥

الكفاية فالكلام مسوق لترغيب الناس و تحريضهم على القيام بأمر الجهاد و التسابق فيه و المسارعة إليه.

و من الدليل على ذلك أنّ الله سبحانه استثنى اُولي الضرر ثمّ حكم بعدم الاستواء مع أنّ اُولي الضرر كالقاعدين في عدم مساواتهم المجاهدين في سبيل الله و إن قلنا: إنّ الله سبحانه يتدارك ضررهم بنيّاتهم الصالحة فلا شكّ أنّ الجهاد و الشهادة أو الغلبة على عدوّ الله من الفضائل الّتي فضّل بها المجاهدون في سبيل الله على غيرهم، و بالجملة ففي الكلام تحضيض للمؤمنين و تهييج لهم، و إيقاظ لروح إيمانهم لاستباق الخير و الفضيلة.

قوله تعالى: ( فَضَّلَ الله الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً ) الجملة في مقام التعليل لقوله:( لا يَسْتَوِي ) ، و لذا لم توصل بعطف و نحوه، و الدرجة هي المنزلة، و الدرجات المنزلة بعد المنزلة، و قوله:( وَ كُلًّا وَعَدَ الله الْحُسْنى) أي وعد الله كلّاً من القاعدين و المجاهدين، أو كلّاً من القاعدين غير اُولي الضرر و القاعدين اُولي الضرر و المجاهدين الحسنى، و الحسنى وصف محذوف الموصوف أي العاقبة الحسنى أو المثوبة الحسنى أو ما يشابه ذلك، و الجملة مسوقة لدفع الدخل فإنّ القاعد من المؤمنين ربّما أمكنه أن يتوهّم من قوله:( لا يَسْتَوِي - إلى قوله -دَرَجَةً ) أنّه صفر الكفّ لا فائدة تعود إليه من إيمانه و سائر أعماله فدفع ذلك بقوله:( وَ كُلًّا وَعَدَ الله الْحُسْنى) .

قوله تعالى: ( وَ فَضَّلَ الله الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً دَرَجاتٍ مِنْهُ وَ مَغْفِرَةً وَ رَحْمَةً ) هذا التفضيل بمنزلة البيان و الشرح لإجمال التفضيل المذكور أوّلاً، و يفيد مع ذلك فائدة اُخرى، و هي الإشارة إلى أنّه لا ينبغي للمؤمنين أن يقنعوا بالوعد الحسن الّذي يتضمّنه قوله:( وَ كُلًّا وَعَدَ الله الْحُسْنى) فيتكاسلوا في الجهاد في سبيل الله و الواجب من السعي في إعلاء كلمة الحقّ و إزهاق الباطل فإنّ فضل المجاهدين على القاعدين بما لا يستهان به من درجات المغفرة و الرحمة.

و أمر الآية في سياقها عجيب، أمّا أوّلاً: فلأنّها قيّدت المجاهدين (أوّلاً) بقوله:( فِي سَبِيلِ الله بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ ) و (ثانياً) بقوله:( بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ ) و (ثالثاً) أوردته

٤٦

من غير تقييد. و أمّا ثانياً: فلأنّها ذكرت في التفضيل (أوّلاً) أنّها درجة، و (ثانياً) أنّها درجات منه.

أمّا الأوّل فلأنّ الكلام في الآية مسوق لبيان فضل الجهاد على القعود، و الفضل إنّما هو للجهاد إذا كان في سبيل الله لا في سبيل هوى النفس، و بالسماحة و الجود بأعزّ الأشياء عند الإنسان و هو المال، و بما هو أعزّ منه، و هو النفس، و لذلك قيل أوّلاً:( وَ الْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ الله بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ ) ليتبيّن بذلك الأمر كلّ التبيّن، و يرتفع به اللّبس، ثمّ لمّا قيل:( فَضَّلَ الله الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً ) ، لم تكن حاجة إلى ذكر القيود من هذه الجهة لأنّ اللّبس قد ارتفع بما تقدّمه من البيان غير أنّ الجملة لمّا قارنت قوله:( وَ كُلًّا وَعَدَ الله الْحُسْنى‏ ) مسّت حاجة الكلام إلى بيان سبب الفضل، و هو إنفاق المال و بذل النفس على حبّهما فلذا اكتفي بذكرهما قيداً للمجاهدين فقيل:( الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ ) و أمّا قوله ثالثاً:( وَ فَضَّلَ الله الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً ) فلم يبق فيه حاجة إلى ذكر القيود أصلاً لا جميعها و لا بعضها و لذلك تركت كلّاً.

و أمّا الثاني فقوله:( فَضَّلَ الله الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً ) ( دَرَجَةً ) منصوب على التمييز، و هو يدلّ على أنّ التفضيل من حيث الدرجة و المنزلة من غير أن يعترّض أن هذه الدرجة الموجبة للفضيلة واحدة أو أكثر، و قوله:( وَ فَضَّلَ الله الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً دَرَجاتٍ مِنْهُ ) كأنّ لفظة( فَضَّلَ ) فيه مضمّنة معنى الإعطاء أو ما يشابهه، و قوله:( دَرَجاتٍ مِنْهُ ) بدل أو عطف بيان لقوله:( أَجْراً عَظِيماً ) و المعنى: و أعطى الله المجاهدين أجراً عظيماً مفضّلاً إيّاهم على القاعدين معطياً أو مثيباً لهم أجراً عظيماً و هو الدرجات من الله، فالكلام يبيّن بأوّله أنّ فضل المجاهدين على القاعدين بالمنزلة من الله مع السكوت عن بيان أنّ هذه المنزلة واحدة أو كثيرة، و يبيّن بآخره أن هذه المنزلة ليست منزلة واحدة بل منازل و درجات كثيرة، و هي الأجر العظيم الّذي يثاب به المجاهدون.

و لعلّ ما ذكرنا يدفع به ما استشكلوه من إيهام التناقض في قوله أوّلاً( دَرَجَةً )

٤٧

و ثانياً( دَرَجاتٍ مِنْهُ ) ، و قد ذكر المفسّرون للتخلّص من الإشكال وجوهاً لا يخلو جلّها أو كلّها من تكلّف.

منها: أنّ المراد بالتفضيل في صدر الآية تفضيل المجاهدين على القاعدين اُولي الضرر بدرجة و في ذيل الآية تفضيل المجاهدين على القاعدين غير اُولي الضرر بدرجات.

و منها: أنّ المراد بالدرجة في صدر الآية المنزلة الدنيويّة كالغنيمة و حسن الذكر و نحوهما و بالدرجات في آخر الآية المنازل الاُخرويّة و هي أكثر بالنسبة إلى الدنيا، قال تعالى:( وَ لَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ ) (إسراء ٢١).

و منها: أنّ المراد بالدرجة في صدر الآية المنزلة عندالله، و هي أمر معنويّ، و بالدرجات في ذيل الآية منازل الجنّة و درجاتها الرفيعة و هي حسّيّة، و أنت خبير بأن هذه الأقوال لا دليل عليها من جهة اللّفظ.

و الضمير في قوله:( مِنْهُ ) لعلّه راجع إلى الله سبحانه، و يؤيّده قوله:( وَ مَغْفِرَةً وَ رَحْمَةً ) بناء على كونه بياناً للدرجات، و المغفرة و الرحمة من الله، و يمكن رجوع الضمير إلى الأجر المذكور قبلاً.

و قوله:( وَ مَغْفِرَةً وَ رَحْمَةً ) ظاهره كونه بياناً للدرجات فإنّ الدرجات و هي المنازل من الله سبحانه أيّاً ما كانت فهي مصداق المغفرة و الرحمة، و قد علمت في بعض المباحث السابقة أنّ الرحمة - و هي الإفاضة الإلهيّة للنعمة - تتوقّف على إزالة الحاجب و رفع المانع من التلبّس بها، و هي المغفرة، و لازمه أنّ كلّ مرتبة من مراتب النعم، و كلّ درجة و منزلة رفيعة مغفرة بالنسبة إلى المرتبة الّتي بعدها، و الدرجة الّتي فوقها، فصحّ بذلك أنّ الدرجات الاُخرويّة كائنة ما كانت مغفرة و رحمة من الله سبحانه، و غالب ما تذكر الرحمة و ما يشابهها في القرآن تذكر معها المغفرة كقوله:( مَغْفِرَةٌ وَ أَجْرٌ عَظِيمٌ ) (المائدة: ٩) و قوله:( وَ مَغْفِرَةٌ وَ رِزْقٌ كَرِيمٌ ) (الأنفال: ٤)، و قوله:( مَغْفِرَةٌ وَ أَجْرٌ كَبِيرٌ ) (هود: ١١)، و قوله:( وَ مَغْفِرَةٌ مِنَ الله وَ رِضْوانٌ ) (الحديد: ٢٠)، و قوله:( وَ اغْفِرْ لَنا وَ ارْحَمْنا ) (البقرة: ٢٨٦) إلى غير ذلك من الآيات.

ثمّ ختم الآية بقوله:( وَ كانَ الله غَفُوراً رَحِيماً ) و مناسبة الاسمين مع مضمون الآية ظاهرة لا سيّما بعد قوله في ذيلها:( وَ مَغْفِرَةً وَ رَحْمَةً ) .

٤٨

قوله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ ) لفظ( تَوَفَّاهُمُ ) صيغة ماض أو صيغة مستقبل - و الأصل تتوفّاهم حذفت إحدى التاءين من اللّفظ تخفيفاً - نظير قوله تعالى:( الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ ) (النحل: ٢٨).

و المراد بالظلم كما تؤيّده الآية النظيرة هو ظلمهم لأنفسهم بالإعراض عن دين الله و ترك إقامة شعائره من جهة الوقوع في بلاد الشرك و التوسّط بين الكافرين حيث لا وسيلة يتوسّل بها إلى تعلّم معارف الدين، و القيام بما تندب إليه من وظائف العبوديّة، و هذا هو الّذي يدلّ عليه السياق في قوله:( قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ ) إلى آخر الآيات الثلاث.

و قد فسّر الله سبحانه الظالمين (إذا اُطلق) في قوله:( لَعْنَةُ الله عَلَى الظَّالِمِينَ الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ الله وَ يَبْغُونَها عِوَجاً ) (الأعراف: ٤٥)، و محصّل الآيتين تفسير الظلم بالإعراض عن دين الله و طلبه عوجاً و محرفاً، و ينطبق على ما يظهر من الآية الّتي نحن فيها.

قوله تعالى: ( قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ ) أي فيما ذا كنتم من الدين، و كلمة( م ) هي ما الاستفهاميّة حذفت عنها الألف تخفيفاً.

و في الآية دلالة في الجملة على ما تسمّيه الأخبار بسؤال القبر، و هو سؤال الملائكة عن دين الميّت بعد حلول الموت كما يدلّ عليه أيضاً قوله تعالى:( الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلى‏ إِنَّ الله عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ وَ قِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً ) الآيات (النحل: ٣٠).

قوله تعالى: ( قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَ لَمْ تَكُنْ أَرْضُ الله واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها ) كان سؤال الملائكة (فِيمَ كُنْتُمْ) سؤالاً عن الحال الّذي كانوا يعيشون فيه من الدين، و لم يكن هؤلاء المسؤلون على حال يعتدّ به من جهة الدين فأجابوا

٤٩

بوضع السبب موضع المسبّب و هو أنّهم كانوا يعيشون في أرض لا يتمكّنون فيها من التلبّس بالدين لكون أهل الأرض مشركين أقوياء فاستضعفوهم فحالوا بينهم و بين الأخذ بشرائع الدين و العمل بها.

و لمّا كان هذا الّذي ذكروه من الاستضعاف - لو كانوا صادقين فيه - إنّما حلّ بهم من حيث إخلادهم إلى أرض الشرك، و كان استضعافهم من جهة تسلّط المشركين على الأرض الّتي ذكروها، و لم تكن لهم سلطة على غيرها من الأرض فلم يكونوا مستضعفين على أيّ حال بل في حال لهم أن يغيّروه بالخروج و المهاجرة كذّبتهم الملائكة في دعوى الاستضعاف بأنّ الأرض أرض الله كانت أوسع ممّا وقعوا فيه و لزموه، و كان يمكنهم أن يخرجوا من حومة الاستضعاف بالمهاجرة، فهم لم يكونوا بمستضعفين حقيقة لوجود قدرتهم على الخروج من قيد الاستضعاف، و إنّما اختاروا هذا الحال بسوء اختيارهم.

فقوله:( أَ لَمْ تَكُنْ أَرْضُ الله واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها ) الاستفهام فيه للتوبيخ كما في قوله:( فِيمَ كُنْتُمْ ) و يمكن أن يكون أوّل الاستفهامين للتقرير كما هو ظاهر ما مرّ نقله من آيات سورة النحل لكون السؤال فيها عن الظالمين و المتّقين جميعاً، و ثاني الاستفهامين للتوبيخ على أيّ حال.

و قد أضافت الملائكة الأرض إلى الله، و لا يخلو من إيماء إلى أنّ الله سبحانه هيّأ في أرضه سعة أوّلاً ثمّ دعاهم إلى الإيمان و العمل كما يشعر به أيضاً قوله بعد آيتين:( وَ مَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ الله يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَ سَعَةً ) (الآية).

و وصف الأرض بالسعة هو الموجب للتعبير عن الهجرة بقوله:( فَتُهاجِرُوا فِيها ) أي تهاجروا من بعضها إلى بعضها، و لو لا فرض السعة لكان يقال: فتهاجروا منها.

ثمّ حكم الله في حقّهم بعد إيراد المساءلة بقوله:( فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَ ساءَتْ مَصِيراً ) .

قوله تعالى: ( إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَ النِّساءِ وَ الْوِلْدانِ ) ، الاستثناء منقطع، و في إطلاق المستضعفين على هؤلاء بالتفسير الّذي فسّره به دلالة على أنّ

٥٠

الظالمين المذكورين لم يكونوا مستضعفين لتمكّنهم من رفع قيد الاستضعاف عن أنفسهم و إنّما الاستضعاف وصف هؤلاء المذكورين في هذه الآية، و في تفصيل بيانهم بالرجال و النساء و الولدان إيضاح للحكم الإلهيّ و رفع للّبس. و قوله:( لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَ لا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا ) الحيلة كأنّها بناء نوع من الحيلولة ثمّ استعملت استعمال الآلة فهي ما يتوسّل به إلى الحيلولة بين شي‏ء و شي‏ء أو حال للحصول على شي‏ء أو حال آخر، و غلب استعماله في ما يكون على خفية و في الاُمور المذمومة، و في مادّتها على أيّ حال معنى التغيّر على ما ذكره الراغب في مفرداته.

و المعنى: لا يستطيعون و لا يتمكّنون أن يحتالوا لصرف ما يتوجّه إليهم من استضعاف المشركين عن أنفسهم، و لا يهتدون سبيلاً يتخلّصون بها عنهم فالمراد من السبيل على ما يفيده السياق أعمّ من السبيل الحسّيّ كطريق المدينة لمن يريد المهاجرة إليها من مسلمي مكّة، و السبيل المعنويّ و هو كلّ ما يخلّصهم من أيدي المشركين، و استضعافهم لهم بالعذاب و الفتنة.

( كلام في المستضعف)

يتبيّن بالآية أنّ الجهل بمعارف الدين إذا كان عن قصور و ضعف ليس فيه صنع للإنسان الجاهل كان عذراً عندالله سبحانه.

توضيحه: أنّ الله سبحانه يعدّ الجهل بالدين و كلّ ممنوعيّة عن إقامة شعائر الدين ظلماً لا يناله العفو الإلهيّ، ثمّ يستثني من ذلك المستضعفين و يقبل منهم معذرتهم بالاستضعاف ثمّ يعرّفهم بما يعمّهم و غيرهم من الوصف، و هو عدم تمكّنهم ممّا يدفعون به المحذور عن أنفسهم، و هذا المعنى كما يتحقّق فيمن اُحيط به في أرض لا سبيل فيها إلى تلقّي معارف الدين لعدم وجود عالم بها خبير بتفاصيلها، أو لا سبيل إلى العمل بمقتضى تلك المعارف للتشديد فيه بما لا يطاق من العذاب مع عدم الاستطاعة من الخروج و الهجرة إلى دار الإسلام و الالتحاق بالمسلمين لضعف في الفكر أو لمرض أو نقص في

٥١

البدن أو لفقر ماليّ و نحو ذلك كذلك يتحقّق فيمن لم ينتقل ذهنه إلى حقّ ثابت في المعارف الدينيّة و لم يهتد فكره إليه مع كونه ممّن لا يعاند الحقّ و لا يستكبر عنه أصلاً بل لو ظهر عنده حقّ اتّبعه لكن خفي عنه الحقّ لشي‏ء من العوامل المختلفة الموجبة لذلك.

فهذا مستضعف لا يستطيع حيلة و لا يهتدي سبيلاً لا لأنّه أعيت به المذاهب بكونه اُحيط به من جهة أعداء الحقّ و الدين بالسيف و السوط، بل إنّما استضعفته عوامل اُخر سلطت عليه الغفلة، و لا قدرة مع الغفلة، و لا سبيل مع هذا الجهل.

هذا ما يقتضيه إطلاق البيان في الآية الّذي هو في معنى عموم العلّة، و هو الّذي يدلّ عليه غيرها من الآيات كقوله تعالى:( لا يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلَّا وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَ عَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ ) (البقرة: ٢٨٦) فالأمر المغفول عنه ليس في وسع الإنسان كما أنّ الممنوع من الأمر بما يمتنع معه ليس في وسع الإنسان.

و هذه الآية أعني آية البقرة كما ترفع التكليف بارتفاع الوسع كذلك تعطي ضابطاً كلّيّاً في تشخيص مورد العذر و تمييزه من غيره، و هو أن لا يستند الفعل إلى اكتساب الإنسان، و لا يكون له في امتناع الأمر الّذي امتنع عليه صنع، فالجاهل بالدين جملة أو، بشي‏ء من معارفه الحقّة إذا استند جهله إلى ما قصّر فيه و أساء الاختيار استند إليه الترك و كان معصية، و إذا كان جهله غير مستند إلى تقصيره فيه أو في شي‏ء من مقدّماته بل إلى عوامل خارجة عن اختياره أوجبت له الجهل أو الغفلة أو ترك العمل لم يستند الترك إلى اختياره، و لم يعدّ فاعلاً للمعصية، متعمّداً في المخالفة، مستكبراً عن الحقّ جاحداً له، فله ما كسب و عليه ما اكتسب، و إذا لم يكسب فلا له و لا عليه.

و من هنا يظهر أنّ المستضعف صفر الكفّ لا شي‏ء له و لا عليه لعدم كسبه أمراً بل أمره إلى ربّه كما هو ظاهر قوله تعالى بعد آية المستضعفين:( فَأُولئِكَ عَسَى الله أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَ كانَ الله عَفُوًّا غَفُوراً ) و قوله تعالى:( وَ آخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ الله إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَ إِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَ الله عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) (براءة: ١٠٦) و رحمته سبقت غضبه.

قوله تعالى: ( فَأُولئِكَ عَسَى الله أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ ) ، هؤلاء و إن لم يكسبوا سيّئة

٥٢

لمعذوريتهم في جهلهم لكنّا بيّنا سابقاً أنّ أمر الإنسان يدور بين السعادة و الشقاوة و كفى في شقائه أن لا يجوز لنفسه سعادة، فالإنسان لا غنى له في نفسه عن العفو الإلهيّ الّذي يعفى به أثر الشقاء سواء كان صالحاً أو طالحاً أو لم يكن، و لذلك ذكر الله سبحانه رجاء عفوهم.

و إنّما اختير ذكر رجاء عفوهم ثمّ عقّب ذلك بقوله:( وَ كانَ الله عَفُوًّا غَفُوراً ) اللّائح منه شمول العفو لهم لكونهم مذكورين في صورة الاستثناء من الظالمين الّذين اُوعدوا بأنّ مأواهم جهنّم و ساءت مصيراً.

قوله تعالى: ( وَ مَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ الله يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَ سَعَةً ) قال الراغب: الرغام (بفتح الراء) التراب الرقيق، و رغم أنف فلان رغماً وقع في الرغام، و أرغمه غيره، و يعبّر بذلك عن السخط كقول الشاعر:

إذا رغمت تلك الاُنوف لم أرضها

و لم أطلب العتبي و لكن أزيدها

فمقابلته بالإرضاء ممّا ينبه على دلالته على الإسخاط، و على هذا قيل: أرغم الله أنفه، و أرغمه أسخطه، و راغمة ساخطة، و تجاهدا على أن يرغم أحدهما الآخر ثمّ يستعار المراغمة للمنازعة قال الله تعالى:( يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً ) أي مذهباً يذهب إليه إذا رأى منكراً يلزمه أن يغضب منه كقولك: غضبت إلى فلان من كذا و رغمت إليه (انتهى).

فالمعنى:( وَ مَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ ) ، أي طلباً لمرضاته في التلبّس بالدين علماً و عملاً يجد في الأرض مواضع كثيرة كلّما منعه مانع في بعضها من إقامة دين الله استراح إلى بعض آخر بالهجرة إليه لإرغام المانع و إسخاطه أو لمنازعته المانع و مساخطته، و يجد سعة في الأرض.

و قد قال تعالى في سابق الآيات:( أَ لَمْ تَكُنْ أَرْضُ الله واسِعَةً ) ، و لازم التفريع عليه أن يقال: و من يهاجر يجد في الأرض سعة إلّا أنّه لمّا زيد قوله:( مُراغَماً كَثِيراً ) و هو من لوازم سعة الأرض لمن يريد سلوك سبيل الله قيّدت المهاجرة أيضاً بكونها في سبيل الله لينطبق على الغرض من الكلام، و هو موعظة المؤمنين القاطنين في دار الشرك

٥٣

و تهييجهم و تشجيعهم على المهاجرة و تطييب نفوسهم.

قوله تعالى: ( وَ مَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى الله وَ رَسُولِهِ ) إلخ المهاجرة إلى الله و رسوله كناية عن المهاجرة إلى أرض الإسلام الّتي يتمكّن فيها من العلم بكتاب الله و سنّة رسوله، و العمل به.

و إدراك الموت استعارة بالكناية عن وقوعه أو مفاجأته فإنّ الإدراك هو سعي اللاحق بالسير إلى السابق ثمّ وصوله إليه، و كذا وقوع الأجر على الله استعارة بالكناية عن لزوم الأجر و الثواب له تعالى و أخذه ذلك في عهدته، فهناك أجر جميل و ثواب جزيل سيوافي به العبد لا محالة، و الله سبحانه يوافيه باُلوهيّته الّتي لا يعزّها شي‏ء و لا يعجزها شي‏ء و لا يمتنع عليها ما أرادته، و لا تخلف الميعاد. و ختم الكلام بقوله:( وَ كانَ الله غَفُوراً رَحِيماً ) تأكيداً للوعد الجميل بلزوم توفيه الأجر و الثواب.

و قد قسّم الله سبحانه في هذه الآيات المؤمنين أعني المدّعين للإيمان من جهة الإقامة في دار الإيمان و دار الشرك إلى أقسام، و بيّن جزاء كلّ طائفة من هذه الطوائف بما يلائم حالها ليكون عظة و تنبيهاً ثمّ ترغيباً في الهجرة إلى دار الإيمان، و الاجتماع هناك، و تقوية المجتمع الإسلاميّ، و الاتّحاد و التعاون على البرّ و التقوى و إعلاء كلمة الحقّ و رفع راية التوحيد و أعلام الدين.

فطائفة أقامت في دار الإسلام من مجاهدين في سبيل الله بأموالهم و أنفسهم، و قاعدين غير اُولي الضرر، و قاعدين اُولي الضرر، و كلّاً وعد الله الحسنى و فضّل الله المجاهدين على القاعدين درجة.

و طائفة أقامت في دار الشرك، و هي ظالمة لا تهاجر في سبيل الله و مأواهم جهنّم و ساءت مصيراً، و طائفة منهم مستضعفة غير ظالمة لا يستطيعون حيلة و لا يهتدون سبيلاً فاُولئك عسى الله أن يعفو عنهم، و طائفة منهم غير مستضعفة خرجت من بيتها مهاجرة إلى الله و رسوله ثمّ أدركها الموت فقد وقع أجرها على الله.

و الآيات تجري بمضامينها على المسلمين في جميع الأوقات و الأزمنة و إن كان سبب نزولها حال المسلمين في جزيرة العرب في عهد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بين هجرته إلى المدينة

٥٤

و فتح مكّة و كانت الأرض منقسمة يومئذ إلى أرض الإسلام و هي المدينة و ما والاها فيها جماعة المسلمين أحراراً في دينهم و جماعة من المشركين و غيرهم لا يزاحمون في أمرهم لعهد و نحوه، و إلى أرض الشرك و هي مكّة و ما والاها هي تحت سلطة المشركين مقيمين على وثنيّتهم، و يزاحمون المسلمين في أمر دينهم يسومونهم سوء العذاب، و يفتنونهم لردّهم عن دينهم.

لكنّ الآيات تحكم على المسلمين بملاكها دائماً فعلى المسلم أن يقيم حيث يتمكّن فيه من تعلّم معالم الدين، و يستطيع إقامة شعائره و العمل بأحكامه، و أن يهجر الأرض الّتي لا علم فيها بمعارف الدين، و لا سبيل إلى العمل بأحكامه من غير فرق بين أن تسمّى اليوم دار الإسلام أو دار شرك فإنّ الأسماء تغيّرت اليوم و هجرت مسمّياتها و صار الدين جنسيّة، و الإسلام مجرّد تسمّ من غير أن يراعى في تسميته الاعتقاد بمعارفه أو العمل بأحكامه.

و القرآن الكريم إنّما يرتّب الأثر على حقيقة الإسلام دون اسمه و يكلّف الناس من العمل ما فيه شي‏ء من روحه لا ما هو صورته، قال تعالى:( لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَ لا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَ لا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ الله وَلِيًّا وَ لا نَصِيراً وَ مَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى‏ وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَ لا يُظْلَمُونَ نَقِيراً ) (النساء: ١٢٤)، و قال تعالى:( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ الَّذِينَ هادُوا وَ النَّصارى‏ وَ الصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِالله وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ عَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ ) (البقرة: ٦٢).

( بحث روائي)

في الدرّ المنثور، أخرج ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و ابن مردويه و البيهقيّ في سننه عن ابن عبّاس قال: كان قوم من أهل مكّة أسلموا، و كانوا يستخفون بالإسلام، فأخرجهم المشركون معهم يوم بدر، فاُصيب بعضهم، و قتل بعض، فقال

٥٥

المسلمون: قد كان أصحابنا هؤلاء مسلمين، و أكرهوا فاستغفروا لهم فنزلت هذه الآية:( إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ ) إلى آخر الآية.

قال: فكتب إلى من بقي بمكّة من المسلمين بهذه الآية، و أنّه لا عذر لهم فخرجوا فلحقهم المشركون، فأعطوهم الفتنة فاُنزلت فيهم هذه الآية:( وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِالله، فَإِذا أُوذِيَ فِي الله جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ الله، ) إلى آخر الآية، فكتب المسلمون إليهم بذلك فحزنوا، و أيسوا من كلّ خير فنزلت فيهم،( ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا، ثُمَّ جاهَدُوا وَ صَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ) ، فكتبوا إليهم بذلك أنّ الله قد جعل لكم مخرجاً، فاخرجوا فخرجوا فأدركهم المشركون فقاتلوهم حتّى نجا من نجا و قتل من قتل.

و فيه، أخرج ابن جرير و ابن أبي حاتم عن الضحّاك: في الآية قال هم اُناس من المنافقين، تخلّفوا عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمكّة، فلم يخرجوا معه إلى المدينة، و خرجوا مع مشركي قريش إلى بدر، فاُصيبوا يوم بدر فيمن اُصيب، فأنزل الله فيهم هذه الآية.

و فيه، أخرج ابن جرير عن ابن زيد: في الآية قال: لمّا بعث النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و ظهر، و نبع الإيمان نبع النفاق معه، فأتى إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رجال، فقالوا: يا رسول الله لو لا أنّا نخاف هؤلاء القوم يعذّبونا، و يفعلون و يفعلون لأسلمنا، و لكنّا نشهد أن لا إله إلّا الله، و أنّك رسول الله فكانوا يقولون ذلك له، فلمّا كان يوم بدر قام المشركون، فقالوا لا يتخلّف عنّا أحد إلّا هدمنا داره و استبحنا ماله، فخرج اُولئك الّذين كانوا يقولون ذلك القول للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، معهم فقتلت طائفة منهم، و اُسرت طائفة.

قال: فأمّا الّذين قتلوا فهم الّذين قال الله:( إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ ) ، (الآية) كلّها،( أَ لَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها ) - و تتركوا، هؤلاء الّذين يستضعفونكم -،( فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَ ساءَتْ مَصِيراً ) .

ثمّ عذر الله أهل الصدق فقال:( إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَ النِّساءِ وَ الْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَ لا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا - يتوجّهون له، لو خرجوا لهلكوا -فَأُولئِكَ عَسَى الله أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ ) إقامتهم بين ظهريّ المشركين.

٥٦

و قال الّذين اُسروا: يا رسول الله، إنّك تعلم أنّا كنّا نأتيك فنشهد أن لا إله إلّا الله، و أنّك رسول الله، و إنّ هؤلاء القوم خرجنا معهم خوفاً، فقال الله:( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى‏، إِنْ يَعْلَمِ الله فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً، مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَ يَغْفِرْ لَكُمْ ) - صنيعكم الّذي صنعتم، خروجكم مع المشركين على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم -( وَ إِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ فَقَدْ خانُوا الله مِنْ قَبْلُ ) - خرجوا مع المشركين - فأمكن منهم.

و فيه، أخرج عبد بن حميد و ابن أبي حاتم و ابن جرير عن عكرمة: في قوله:( إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ، قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ - إلى قوله -وَ ساءَتْ مَصِيراً ) ، قال: نزلت في قيس بن الفاكه بن المغيرة، و الحارث بن زمعة بن الأسود، و قيس بن الوليد بن المغيرة، و أبي العاص بن منبّه بن الحجّاج، و عليّ بن اُميّة بن خلف،.

قال: لمّا خرج المشركون من قريش و أتباعهم، لمنع أبي سفيان بن حرب و عير قريش، من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و أصحابه، و أن يطلبوا ما نيل منهم يوم نخلة، خرجوا معهم بشبّان كارهين كانوا قد أسلموا، و اجتمعوا ببدر على غير موعد فقتلوا ببدر كفّاراً، و رجعوا عن الإسلام و هم هؤلاء الّذين سمّيناهم.

أقول: و الروايات في ما يقرب من هذه المعاني من طرق القوم كثيرة، و هي و إن كان ظاهرها أشبه بالتطبيق لكنّه تطبيق حسن.

و من أهمّ ما يستفاد منها، و كذا من الآيات بعد التدبّر وجود منافقين بمكّة قبل الهجرة و بعدها. فإنّ لذلك تأثيراً في البحث عن حال المنافقين على ما سيأتي في سورة البراءة إن شاء الله العزيز.

و فيه، أخرج ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم عن ابن عبّاس قال: كان بمكّة رجل يقال له ضمرة من بني بكر، و كان مريضاً، فقال لأهله أخرجوني من مكّة فإنّي أجد الحرّ، فقالوا: أين نخرجك؟ فأشار بيده نحو طريق المدينة، فخرجوا به فمات على ميلين من مكّة فنزلت هذه الآية:( وَ مَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى الله وَ رَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ ) .

أقول: و الروايات في هذا المعنى كثيرة إلّا أنّ فيها اختلافاً شديداً في تسمية هذا

٥٧

الّذي أدركه الموت، ففي بعضها ضمرة بن جندب، و في بعضها أكثمّ بن صيفيّ، و في بعضها أبو ضمرة بن العيص الزرقيّ، و في بعضها ضمرة بن العيص من بني ليث، و في بعضها جندع بن ضمرة الجندعيّ، و في بعضها أنّها نزلت في خالد بن حزام خرج مهاجراً إلى حبشة فنهشته حيّة في الطريق فمات.

و في بعض الروايات عن ابن عبّاس: أنّه أكثم بن صيفيّ. قال الراوي: قلت: فأين اللّيثيّ؟ قال: هذا قبل اللّيثيّ بزمان، و هي خاصّة عامّة.

أقول: يعني أنّها نزلت في أكثم خاصّة ثمّ جرت في غيره عامّة، و المتحصّل من الروايات أنّ ثلاثة من المسلمين أدركهم الموت في سبيل الهجرة: أكثم بن صيفيّ، و اللّيثيّ، و خالد بن حزام، و أمّا نزول الآية في أيّ منهم فكأنّه تطبيق من الراوي.

و في الكافي، عن زرارة قال: سألت أباجعفرعليه‌السلام عن المستضعف، فقال: هو الّذي لا يستطيع حيلة إلى الكفر فيكفر، و لا يهتدي سبيلاً إلى الإيمان، لا يستطيع أن يؤمن، و لا يستطيع أن يكفر فمنهم الصبيان، و من الرجال و النساء، على مثل عقول الصبيان مرفوع عنهم القلم.

أقول: و الحديث مستفيض عن زرارة، رواه الكلينيّ، و الصدوق، و العيّاشيّ، بعدّة طرق عنه.

و فيه، بإسناده عن إسماعيل الجعفيّ قال: سألت أباجعفرعليه‌السلام عن الدين الّذي لا يسع العباد جهله،. قال: الدين واسع، و لكنّ الخوارج ضيّقوا على أنفسهم من جهلهم، قلت: جعلت فداك فاُحدّثك بديني الّذي أنا عليه؟ فقال: نعم،. فقلت: أشهد أن لا إله إلّا الله، و أنّ محمّداً عبده و رسوله، و الإقرار بما جاء به من عندالله تعالى، و أتولّاكم، و أبرأ من أعدائكم و من ركب رقابكم، و تأمّر عليكم، و ظلمكم حقّكم. فقال: و الله ما جهلت شيئاً، هو و الله الّذي نحن عليه. فقلت: فهل يسلم أحد لا يعرف هذا الأمر؟ فقال: إلّا المستضعفين. قلت: من هم؟ قال نساؤكم و أولادكم.

ثمّ قال: أ رأيت أمّ أيمن؟، فإنّي أشهد أنّها من أهل الجنّة، و ما كانت تعرف ما أنتم عليه.

٥٨

و في تفسير العيّاشيّ، عن سليمان بن خالد عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: سألته عن المستضعفين. فقال: البلهاء في خدرها، و الخادم تقول لها: صلّي فتصلّي لا تدري إلّا ما قلت لها، و الجليب الّذي لا يدري إلّا ما قلت له، و الكبير الفاني، و الصبيّ، و الصغير، هؤلاء المستضعفون، فأمّا رجل شديد العنق جدل خصم يتولّى الشراء و البيع، لا تستطيع أن تعينه في شي‏ء تقول، هذا المستضعف؟ لا، و لا كرامة.

و في المعاني، عن سليمان: عن الصادقعليه‌السلام في الآية قال: يا سليمان، في هؤلاء المستضعفين من هو أثخن رقبة منك، المستضعفون قوم يصومون، و يصلّون، تعفّ بطونهم و فروجهم، و لا يرون أنّ الحقّ في غيرنا آخذين بأغصان الشجرة، فاُولئك عسى الله أن يعفو عنهم، إذا كانوا آخذين بالأغصان، و أن يعرفوا اُولئك فإن عفا الله عنهم فبرحمته، و إن عذّبهم فبضلالتهم.

أقول: قوله( لا يرون أنّ الحقّ في غيرنا) ، يريد صورة النصب أو التقصير المؤدّي إليه كما يدلّ عليه الروايات الآتية.

و فيه، عن الصادقعليه‌السلام : أنّه ذكر أنّ المستضعفين ضروب يخالف بعضهم بعضاً، و من لم يكن من أهل القبلة ناصباً فهو مستضعف‏.

و فيه، و في تفسير العيّاشيّ، عن الصادقعليه‌السلام في الآية قال: لا يستطيعون حيلة إلى النصب فينصبون، و لا يهتدون سبيلاً إلى الحقّ فيدخلون فيه، هؤلاء يدخلون الجنّة بأعمال حسنة، و باجتناب المحارم الّتي نهى الله عنها، و لا ينالون منازل الأبرار.

و في تفسير القمّيّ، عن ضريس الكناسيّ عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: قلت له: جعلت فداك ما حال الموحّدين، المقرّين بنبوّة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من المذنبين، الّذين يموتون و ليس لهم إمام، و لا يعرفون ولايتكم،؟ فقال: أمّا هؤلاء فإنّهم في حفرهم لا يخرجون منها: فمن كان له عمل صالح، و لم يظهر منه عداوة، فإنّه يخدّ له خدّ إلى الجنّة الّتي خلقها الله بالمغرب، فيدخل عليه الروح في حفرته إلى يوم القيامة، حتّى يلقى الله فيحاسبه بحسناته و سيّئاته، فإمّا إلى الجنّة، و إمّا إلى النار، فهؤلاء الموقوفون لأمر الله.

٥٩

قال و كذلك يفعل بالمستضعفين و البله، و الأطفال و أولاد المسلمين الّذين لم يبلغوا الحلم.

فأمّا النصّاب من أهل القبلة، فإنّه يخدّ لهم خدّ إلى النار الّتي خلقها الله بالمشرق، فيدخل عليه اللهب و الشرر و الدخان، و فورة الحميم إلى يوم القيامة ثمّ مصيرهم إلى الجحيم‏.

و في الخصال، عن الصادق عن أبيه عن جدّه عن عليّعليه‌السلام قال: إنّ للجنّة ثمانية أبواب: باب يدخل منه النبيّون و الصدّيقون، و باب يدخل منه الشهداء و الصالحون، و خمسة أبواب يدخل منها شيعتنا و محبّونا - إلى أن قال - و باب يدخل منه سائر المسلمين ممّن يشهد أن لا إله إلّا الله، و لم يكن في قلبه مثقال ذرّة من بغضنا أهل البيتعليهم‌السلام .

و في المعاني، و تفسير العيّاشيّ، عن حمران قال: سألت أباعبداللهعليه‌السلام عن قول الله:( إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ ) ، قال: هم أهل الولاية. قلت: أيّ ولاية؟ قال: أمّا إنّها ليست بولاية في الدين، و لكنّها الولاية في المناكحة و الموارثة و المخالطة، و هم ليسوا بالمؤمنين و لا بالكفّار، و هم المرجون لأمر الله عزّوجلّ.

أقول: و هو إشارة إلى قوله تعالى:( وَ آخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ الله إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَ إِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ ) الآية (التوبة: ١٠٦) و سيأتي ما يتعلّق به من الكلام إن شاء الله.

و في النهج، قالعليه‌السلام : و لا يقع اسم الاستضعاف على من بلغته الحجّة، فسمعتها اُذنه، و وعاها قلبه.

و في الكافي، عن الكاظمعليه‌السلام : أنّه سئل عن الضعفاء، فكتبعليه‌السلام : الضعيف من لم ترفع له حجّة، و لم يعرف الاختلاف فإذا عرف الاختلاف فليس بضعيف‏.

و فيه، عن الصادقعليه‌السلام : أنّه سئل: ما تقول في المستضعفين،؟ فقال شبيهاً بالفزع فتركتم أحداً يكون مستضعفاً؟ و أين المستضعفون؟ فوالله لقد مشى بأمركم هذا العواتق، إلى العواتق في خدورهنّ، و تحدّثت به السقّاءات في طريق المدينة.

و في المعاني، عن عمر بن إسحاق قال: سئل أبوعبداللهعليه‌السلام ، ما حدّ المستضعف

٦٠