الميزان في تفسير القرآن الجزء ٥

الميزان في تفسير القرآن13%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 444

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 444 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 91065 / تحميل: 10831
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ٥

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

بسم الله الرّحمن الرّحيم

( بقيّة سورة النساء)

( سورة النساء الآيات ٧٧ - ٨٠)

أَلَمْ تَرَ إِلَى الّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصّلاَةَ وَآتُوا الزّكَاةَ فَلَمّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النّاسَ كَخَشْيَةِ اللّهِ أَوْ أَشَدّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخّرْتَنَا إِلَى‏ أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتّقَى‏ وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً( ٧٧) أَيْنَ ما تَكُونُوا يُدْرِككّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيّدَةٍ وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِندِ اللّهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِن عِندِكَ قُلْ كُلّ مِنْ عِندِ اللّهِ فَمَالِ هؤُلاَءِ الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً( ٧٨) مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيّئَةٍ فَمِن نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنّاسِ رَسُولاً وَكَفَى‏ بِاللّهِ شَهِيداً( ٧٩) مَن يُطِعِ الرّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ وَمَن تَوَلّى‏ فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً( ٨٠)

( بيان‏)

الآيات متّصلة بما قبلها، و هي جميعاً ذات سياق واحد، و هذه الآيات تشتمل على الاستشهاد بأمر طائفة اُخرى من المؤمنين ضعفاء الإيمان و فيها عظة و تذكير بفناء الدنيا، و بقاء نعم الآخرة، و بيان لحقيقة قرآنيّة في خصوص الحسنات و السيّئات.

قوله تعالى: ( أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ - إلى قوله -أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً ) كفّ الأيدي كناية عن الإمساك عن القتال لكون القتل الّذي يقع فيه من عمل الأيدي، و هذا الكلام يدلّ على أنّ المؤمنين كانوا في ابتداء أمرهم يشقّ عليهم ما يشاهدونه من

١

تعدّي الكفّار و بغيهم عليهم فيصعب عليهم أن يصبروا على ذلك و لا يقابلوه بسلّ السيوف فأمرهم الله بالكفّ عن ذلك، و إقامة شعائر الدين من صلاة و زكاة ليشتدّ عظم الدين و يقوم صلبه فيأذن الله لهم في جهاد أعدائه، و لو لا ذلك لانفسخ هيكل الدين، و انهدمت أركانه، و تلاشت أجزاؤه.

ففي الآيات لومهم على أنّهم هم الّذين كانوا يستعجلون في قتال الكفّار، و لا يصبرون على الإمساك و تحمّل الأذى حين لم يكن لهم من العدّة و القوّة ما يكفيهم للقاء عدوّهم فلمّا كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون العدوّ و هم ناس مثلهم كخشية الله أو أشدّ خشية.

قوله تعالى: ( وَ قالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ ) ، ظاهره أنّه عطف على قوله:( إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ ) ، و خاصّة بالنظر إلى تغيير السياق من الفعل المضارع( يَخْشَوْنَ النَّاسَ ) إلى الماضي( قالُوا ) فالقائل بهذا القول هم الّذين كانوا يتوقون للقتال، و يستصعبون الصبر فاُمروا بكفّ أيديهم.

و من الجائز أن يكون قولهم( رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ لَوْ لا أَخَّرْتَنا إِلى‏ أَجَلٍ قَرِيبٍ ) محكيّاً عن لسان حالهم كما أنّ من الجائز أن يكونوا قائلين ذلك بلسانهم الظاهر فإنّ القرآن يستعمل من هذه العنايات كلّ نوع.

و توصيف الأجل الّذي هو أجل الموت حتف الأنف بالقريب ليس المراد به أن يسألوا التخلّص عن القتل، و العيش زماناً يسيراً بل ذلك تلويح منهم بأنّهم لو عاشوا من غير قتل حتّى يموتوا حتف أنفهم لم يكن ذلك إلّا عيشاً يسيراً و أجلاً قريباً فما لله - سبحانه - لا يرضى لهم أن يعيشوا هذه العيشة اليسيرة حتّى يبتليهم بالقتل، و يعجّل لهم الموت؟ و هذا الكلام صادر منهم لتعلّق نفوسهم بهذه الحياة الدنيا الّتي هي في تعليم القرآن متاع قليل يتمتّع به ثمّ ينقضي سريعاً و يعفى أثره، و دونه الحياة الآخرة الّتي هي الحياة الباقية الحقيقيّة فهي خير، و لذلك اُجيب عنهم بقوله( قُلْ ) إلخ.

قوله تعالى: ( قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ ) إلخ أمر للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يجيب هؤلاء الضعفاء بما يوضح لهم خطأ رأيهم في ترجيح العيش الدنيويّ اليسير على كرامة الجهاد

٢

و القتل في سبيل الله تعالى، و محصّله أنّهم ينبغي أن يكونوا متّقين في إيمانهم، و الحياة الدنيا هي متاع يتمتّع به قليل إذا قيس إلى الآخرة، و الآخرة خير لمن اتّقى فينبغي لهم أن يختاروا الآخرة الّتي هي خير على متاع الدنيا القليل لأنّهم مؤمنون و على صراط التقوى، و لا يبقى لهم إلّا أن يخافوا أن يحيف الله عليهم و يظلمهم فيختاروا لذلك ما بأيديهم من المتاع على ما يوعدون من الخير، و ليس لهم ذلك فإنّ الله لا يظلمهم فتيلاً.

و قد ظهر بهذا البيان أنّ قوله:( لِمَنِ اتَّقى‏ ) من قبيل وضع الصفة موضع الموصوف للدلالة على سبب الحكم، و دعوى انطباقه على المورد، و التقدير - و الله أعلم -: و الآخرة خير لكم لأنّكم ينبغي أن تكونوا لإيمانكم أهل تقوى، و التقوى سبب للفوز بخير الآخرة فقوله:( لِمَنِ اتَّقى‏ ) كالكناية الّتي فيها تعريض.

قوله تعالى: ( أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ ) البروج جمع برج بضمّ الباء - و هو البناء المعمول على الحصون، و يستحكم بنيانه ما قدر عليه لدفع العدوّ به و عنه، و أصل معناه الظهور، و منه التبرّج بالزينة و نحوها، و التشييد الرفع، و أصله من الشيد و هو الجصّ لأنّه يحكم البناء و يرفعه و يزيّنه فالبروج المشيّدة الأبنية المحكمة المرتفعة الّتي على الحصون يأوي إليها الإنسان من كلّ عدوّ قادم.

و الكلام موضوع على التمثيل بذكر بعض ما يتّقى به المكروه، و جعله مثلاً لكلّ ركن شديد تتّقى به المكاره، و محصّل المعنى: أنّ الموت أمر لا يفوتكم إدراكه، و لو لجأتم منه إلى أيّ ملجإ محكم متين فلا ينبغي لكم أن تتوهّموا أنّكم لو لم تشهدوا القتال و لم يكتب لكم كنتم في مأمن من الموت، و فاته إدراككم فإنّ أجل الله لآت.

قوله تعالى: ( وَ إِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ الله ) إلى آخر الآية جملتان اُخريان من هفواتهم حكاهما الله تعالى عنهم، و أمر نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يجيبهم عنهما ببيان حقيقة الأمر فيما يصيب الإنسان من حسنة و سيّئة.

و اتّصال السياق يقضي بكون الضعفاء المتقدّم ذكرهم من المؤمنين هم القائلين

٣

ذلك قالوا ذلك بلسان حالهم أو مقالهم، و لا بدع في ذلك فإنّ موسى أيضاً جبّه بمثل هذا المقال كما حكى الله سبحانه ذلك بقوله( فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَ إِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى‏ وَ مَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ الله وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) (الأعراف: ١٣١) و هو مأثور عن سائر الاُمم في خصوص أنبيائهم، و هذه الاُمّة في معاملتهم نبيّهم لا يقصرون عن سائر الاُمم، و قد قال تعالى:( تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ ) (البقرة: ١١٨) و هم مع ذلك أشبه الاُمم ببني إسرائيل، و قد قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( إنّهم لا يدخلون جحر ضبّ إلّا دخلتموه) و قد تقدّم نقل الروايات في ذلك من طرق الفريقين.

و قد تمحّل في الآيات أكثر المفسّرين بجعلها نازلة في خصوص اليهود أو المنافقين أو الجميع من اليهود و المنافقين، و أنت ترى أنّ السياق يدفعه.

و كيف كان فالآية تشهد بسياقها على أنّ المراد بالحسنة و السيّئة ما يمكن أن يسند إلى الله سبحانه، و قد أسندوا قسماً منه إلى الله تعالى و هو الحسنة، و قسماً إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و هو السيّئة فهذه الحسنات و السيّئات هي الحوادث الّتي كانت تستقبلهم بعد ما أتاهم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و أخذ في ترفيع مباني الدين و نشر دعوته و صيته بالجهاد، فهي الفتح و الظفر و الغنيمة فيما غلبوا فيه من الحروب و المغازي، و القتل و الجرح و البلوى في غير ذلك، و إسنادهم السيّئات إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في معنى التطيّر به أو نسبة ضعف الرأي و رداءة التدبير إليه.

فأمر تعالى نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأن يجيبهم بقوله:( قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ الله ) فإنّها حوادث و نوازل ينظمها ناظم النظام الكونيّ، و هو الله وحده لا شريك له إذ الأشياء إنّما تنقاد في وجودها و بقائها و جميع ما يستقبلها من الحوادث له تعالى لا غير. على ما يعطيه تعليم القرآن.

ثمّ استفهم استفهام متعجّب من جمود فهمهم و خمود فطنتهم من فقه هذه الحقيقة و فهمها فقال:( فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً ) .

قوله تعالى: ( ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ الله وَ ما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ ) ، لمّا ذكر أنّهم لا يكادون يفقهون حديثاً ثمّ أراد بيان حقيقة الأمر، صرف الخطاب

٤

عنهم لسقوط فهمهم، و وجّه وجه الكلام إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و بين حقيقة ما يصيبه من حسنة أو سيّئة لذاك الشأن، و ليس للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في نفسه خصوصيّة في هذه الحقيقة الّتي هي من الأحكام الوجوديّة الدائرة بين جميع الموجودات، و لا أقلّ بين جميع الأفراد من الإنسان من مؤمن أو كافر، أو صالح أو طالح، و نبيّ أو من دونه.

فالحسنات و هي الاُمور الّتي يستحسنها الإنسان بالطبع كالعافية و النعمة و الأمن و الرفاهيّة كلّ ذلك من الله سبحانه، و السيّئات و هي الاُمور الّتي تسوء الإنسان كالمرض و الذلّة و المسكنة و الفتنة كلّ ذلك يعود إلى الإنسان لا إليه سبحانه فالآية قريبة مضموناً من قوله تعالى( ذلِكَ بِأَنَّ الله لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى‏ قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَ أَنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) (الأنفال: ٥٣) و لا ينافي ذلك رجوع جميع الحسنات و السيّئات بنظر كلّي آخر إليه تعالى كما سيجي‏ء بيانه.

قوله تعالى: ( وَ أَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا ) ، أي لا سمة لك من عندنا إلّا أنّك رسول وظيفتك البلاغ، و شأنك الرسالة لا شأن لك سواها و ليس لك من الأمر شي‏ء حتّى تؤثّر في ميمنة أو مشأمة، أو تجرّ إلى الناس السيّئات، و تدفع عنهم الحسنات، و فيه ردّ تعريضيّ لقول اُولئك المتطيّرين في السيّئات( هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ ) تشأماً بهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثمّ أيّد ذلك بقوله( وَ كَفى‏ بِالله شَهِيداً ) .

قوله تعالى: ( مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ الله ) ، استئناف فيه تأكيد و تثبيت لقوله في الآية السابقة( وَ أَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا ) ، و بمنزلة التعليل لحكمه أي ما أنت إلّا رسولاً منّا من يطعك بما أنت رسول فقد أطاع الله، و من تولّى فما أرسلناك عليهم حفيظا.

و من هنا يظهر أنّ قوله( مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ ) ، من قبيل وضع الصفة موضع الموصوف للإشعار بعلّة الحكم نظير ما تقدّم في قوله( وَ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى‏ وَ لا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا ) و على هذا فالسياق جار على استقامته من غير التفات من الخطاب في قوله( وَ أَرْسَلْناكَ ) ، إلى الغيبة في قوله( مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ ) ، ثمّ إلى الخطاب في قوله( فَما أَرْسَلْناكَ ) .

٥

( كلام في استناد الحسنات و السيّئات إليه تعالى)

يشبه أن يكون الإنسان أوّل ما تنبّه على معنى الحسن تنبّه عليه من مشاهدة الجمال في أبناء نوعه الّذي هو اعتدال الخلقة، و تناسب نسب الأعضاء و خاصّة في الوجه ثمّ في سائر الاُمور المحسوسة من الطبيعيّات و يرجع بالآخرة إلى موافقة الشي‏ء لما يقصد من نوعه طبعاً.

فحسن وجه الإنسان كون كلّ من العين و الحاجب و الاُذن و الأنف و الفم و غيرها على حال أو صفة ينبغي أن يركّب في نفسه عليها، و كذا نسبة بعضها إلى بعض، و حينئذ تنجذب النفس و يميل الطبع إليه، و يسمّى كون الشي‏ء على خلاف هذا الوصف بالسوء و المساءة و القبح على اختلاف الاعتبارات الملحوظة فالمساءة معنى عدميّ كما أنّ الحسن معنى وجوديّ.

ثمّ عمّم ذلك إلى الأفعال و المعاني الاعتباريّة و العناوين المقصودة في ظرف الاجتماع من حيث ملاءمتها لغرض الاجتماع و هو سعادة الحياة الإنسانيّة أو التمتّع من الحياة، و عدم ملاءمتها فالعدل حسن، و الإحسان إلى مستحقّه حسن، و التعليم و التربية و النصح و ما أشبه ذلك في مواردها حسنات، و الظلم و العدوان و ما أشبه ذلك سيّئات قبيحة لملاءمة القبيل الأوّل لسعادة الإنسان أو لتمتّعه التامّ في ظرف اجتماعه و عدم ملاءمة القبيل الثاني لذلك، و هذا القسم من الحسن و ما يقابله تابع للفعل الّذي يتّصف به من حيث ملاءمته لغرض الاجتماع فمن الأفعال ما حسنه دائميّ ثابت إذا كان ملاءمته لغاية الاجتماع و غرضه كذلك كالعدل، و منها ما قبحه كذلك كالظلم.

و من الأفعال ما يختلف حاله بحسب الأحوال و الأوقات و الأمكنة أو المجتمعات فالضحك و الدعابة حسن عند الخلّان لا عند الأعاظم، و في محافل السرور دون المأتم، و دون المساجد و المعابد، و الزنا و شرب الخمر حسن عند الغربيّين دون المسلمين.

و لا تصغ إلى قول من يقول: إنّ الحسن و القبح مختلفان متغيّران مطلقاً من غير

٦

ثبات و لا دوام و لا كليّة، و يستدلّ على ذلك في مثل العدل و الظلم بأنّ ما هو عدل عند اُمّة بإجراء اُمور من مقرّرات اجتماعيّة غير ما هو عدل عند اُمّة اُخرى بإنفاذ مقرّرات اُخرى اجتماعيّة فلا يستقرّ معنى العدل على شي‏ء معيّن فالجلد للزاني عدل في الإسلام و ليس كذلك عند الغربيّين، و هكذا.

و ذلك أنّ هؤلاء قد اختلط عليهم الأمر، و اشتبه المفهوم عندهم بالمصداق، و لا كلام لنا مع من هذا مبلغ فهمه.

و الإنسان على حسب تحوّل العوامل المؤثّرة في الاجتماعات يرضى بتغيير جميع أحكامه الاجتماعيّة دفعة أو تدريجاً و لا يرضى قطّ بأن يسلب عنه وصف العدل، و يسمّى ظالماً، و لا بأن يجد ظلماً لظالم إلّا مع الاعتذار عنه، و للكلام ذيل طويل يخرجنا الاشتغال به عن ما هو أهمّ منه.

ثمّ عمّم معنى الحسن و القبح لسائر الحوادث الخارجيّة الّتي تستقبل الإنسان مدى حياته على حسب تأثير مختلف العوامل و هي الحوادث الفرديّة أو الاجتماعيّة الّتي منها ما يوافق آمال الإنسان، و يلائم سعادته في حياته الفرديّة أو الاجتماعيّة من عافية أو صحّة أو رخاء، و تسمّى حسنات، و منها ما ينافي ذلك كالبلايا و المحن من فقر أو مرض أو ذلّة أو إسارة و نحو ذلك، و تسمّى سيّئات.

فقد ظهر ممّا تقدّم أنّ الحسنة و السيّئة يتّصف بهما الاُمور أو الأفعال من جهة إضافتها إلى كمال نوع أو سعادة فرد أو غير ذلك فالحسن و القبح وصفان إضافيّان، و إن كانت الإضافة في بعض الموارد ثابتة لازمة، و في بعضها متغيّرة كبذل المال الّذي هو حسن بالنسبة إلى مستحقّه و سيّئ بالنسبة إلى غير المستحقّ.

و أنّ الحسن أمر ثبوتيّ دائماً و المساءة و القبح معنى عدميّ و هو فقدان الأمر صفة الملاءمة و الموافقة المذكورة، و إلّا فمتن الشي‏ء أو الفعل مع قطع النظر عن الموافقة و عدم الموافقة المذكورين واحد من غير تفاوت فيه أصلاً.

فالزلزلة و السيل الهادم إذا حلّا ساحة قوم كانا نعمتين حسنتين لأعدائهم و هما نازلتان سيّئتان عليهم أنفسهم، و كلّ بلاء عامّ في نظر الدين سرّاء إذا نزل بالكفّار

٧

المفسدين في الأرض أو الفجّار العتاة، و هو بعينه ضرّاء إذا نزل بالاُمّة المؤمنة الصالحة.

و أكل الطعامّ حسن مباح إذا كان من مال آكله مثلاً، و هو بعينه سيّئة محرّمة إذا كان من مال الغير من غير رضا منه لفقدانه امتثال النهي الوارد عن أكل مال الغير بغير رضاه، أو امتثال الأمر الوارد بالاقتصار على ما أحلّ الله، و المباشرة بين الرجل و المرأة حسنة مباحة إذا كان عن ازدواج مثلاً، و سيّئة محرّمة إذا كان سفاحاً من غير نكاح لفقدانه موافقة التكليف الإلهيّ فالحسنات عناوين وجوديّة في الاُمور و الأفعال، و السيّئات عناوين عدميّة فيهما، و متن الشي‏ء المتّصف بالحسن و السوء واحد.

و الّذي يراه القرآن الشريف أنّ كلّ ما يقع عليه اسم الشي‏ء ما خلا الله - عزّ اسمه - مخلوق لله قال تعالى:( الله خالِقُ كُلِّ شَيْ‏ءٍ ) (الزمر: ٦٢) و قال تعالى:( وَ خَلَقَ كُلَّ شَيْ‏ءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً ) (الفرقان: ٢) و الآيتان تثبتان الخلقة في كلّ شي‏ء، ثمّ قال تعالى:( الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْ‏ءٍ خَلَقَهُ ) (السجدة: ٧) فأثبت الحسن لكلّ مخلوق، و هو حسن لازم للخلقة غير منفكّ عنها يدور مدارها.

فكلّ شي‏ء له حظّ من الحسن على قدر حظّه من الخلقة و الوجود، و التأمّل في معنى الحسن (على ما تقدّم) يوضح ذلك مزيد إيضاح فإنّ الحسن موافقة الشي‏ء و ملاءمته للغرض المطلوب و الغاية المقصودة منه، و أجزاء الوجود و أبعاض هذا النظام الكونيّ متلائمة متوافقة، و حاشا ربّ العالمين أن يخلق ما تتنافى أجزاؤه، و يبطل بعضه بعضاً فيخلّ بالغرض المطلوب، أو يعجزه تعالى أو يبطل ما أراده من هذا النظام العجيب الّذي يبهت العقل و يحيّر الفكرة. و قد قال تعالى:( هُوَ الله الْواحِدُ الْقَهَّارُ ) (الزّمر: ٤) و قال تعالى:( وَ هُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ ) (الأنعام: ١٨) و قال تعالى:( وَ ما كانَ الله لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْ‏ءٍ فِي السَّماواتِ وَ لا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً ) (فاطر: ٤٤) فهو تعالى لا يقهره شي‏ء و لا يعجزه شي‏ء في ما يريده من خلقه و يشاؤه في عباده.

فكلّ نعمة حسنة في الوجود منسوبة إليه تعالى، و كذلك كلّ نازلة سيّئة إلّا أنّها في نفسها أي بحسب أصل النسبة الدائرة بين موجودات المخلوقة منسوبة إليه تعالى و إن كانت بحسب نسبة اُخرى سيّئة، و هذا هو الّذي يفيده قوله تعالى:( وَ إِنْ

٨

تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ الله وَ إِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ الله فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً ) (النساء: ٧٨) و قوله:( فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَ إِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى‏ وَ مَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ الله وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) (الأعراف: ١٣١) إلى غير ذلك من الآيات.

و أمّا جهة السيّئة فالقرآن الكريم يسندها في الإنسان إلى نفس الإنسان بقوله تعالى في هذه السورة:( ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ الله وَ ما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ ) الآية (النساء: ٧٩) و قوله تعالى:( وَ ما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَ يَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ ) (الشورى: ٣٠) و قوله تعالى:( إِنَّ الله لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ ) (الرعد: ١١)، و قوله تعالى:( ذلِكَ بِأَنَّ الله لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى‏ قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ ) (الأنفال: ٥٣) و غيرها من الآيات.

و توضيح ذلك أنّ الآيات السابقة كما عرفت تجعل هذه النوازل السيّئة كالحسنات اُموراً حسنة في خلقتها فلا يبقى لكونها سيّئة إلّا أنّها لا تلائم طباع بعض الأشياء الّتي تتضرّر بها فيرجع الأمر بالآخرة إلى أنّ الله لم يجد لهذه الأشياء المبتلاة المتضرّرة بما تطلبه و تشتاق إليه بحسب طباعها، فإمساك الجود هذا هو الّذي يعدّ بليّة سيّئة بالنسبة إلى هذه الأشياء المتضرّرة كما يوضحه كلّ الإيضاح قوله تعالى:( ما يَفْتَحِ الله لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وَ ما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) (فاطر: ٢).

ثمّ بين تعالى أنّ إمساك الجود عمّا اُمسك عنه أو الزيادة و النقيصة في إفاضة رحمته إنّما يتّبع أو يوافق مقدار ما يسعه ظرفه، و ما يمكنه أن يستوفيه من ذلك، قال تعالى فيما ضربه من المثل:( أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها ) (الرعد: ١٧) و قال:( وَ إِنْ مِنْ شَيْ‏ءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَ ما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ ) (الحجر: ٢١) فهو تعالى إنّما يعطي على قدر ما يستحقّه الشي‏ء و على ما يعلم من حاله، قال:( أَ لا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَ هُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ) (الملك: ١٤).

و من المعلوم أنّ النعمة و النقمة و البلاء و الرخاء بالنسبة إلى كلّ شي‏ء ما يناسب

٩

خصوص حاله كما يبيّنه قوله تعالى:( لِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها ) (البقرة: ١٤٨) فإنّما يولّي كلّ شي‏ء و يطلب وجهته الخاصّة به و غايته الّتي تناسب حاله.

و من هنا يمكنك أن تحدس أنّ السراء و الضرّاء و النعمة و البلاء بالنسبة إلى هذا الإنسان الّذي يعيش في ظرف الاختيار في تعليم القرآن اُمور مرتبطة باختياره فإنّه واقع في صراط ينتهي به بحسن السلوك و عدمه إلى سعادته و شقائه كلّ ذلك من سنخ ما لاختياره فيه مدخل.

و القرآن الكريم يصدّق هذا الحدس، قال تعالى:( ذلِكَ بِأَنَّ الله لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى‏ قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ ) (الأنفال: ٥٣) فلمّا في أنفسهم من النيّات الطاهرة و الأعمال الصالحة دخل في النعمة الّتي خصّوا بها فإذا غيّروا غيّر الله بإمساك رحمته و قال:( وَ ما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَ يَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ ) (الشورى: ٣٠) فلأعمالهم تأثير في ما ينزل بهم من النوازل و يصيبهم من المصائب، و الله يعفو عن كثير منها.

و قال تعالى:( ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ الله وَ ما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ ) الآية (النساء: ٧٩).

و إيّاك أن تظنّ أنّ الله سبحانه حين أوحى هذه الآية إلى نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نسي الحقيقة الباهرة الّتي أبانها بقوله:( الله خالِقُ كُلِّ شَيْ‏ءٍ ) (الزمر: ٦٢) و قوله:( الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْ‏ءٍ خَلَقَهُ ) (السجدة: ٧) فعدّ كلّ شي‏ء مخلوقاً لنفسه حسناً في نفسه و قد قال:( وَ ما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا ) (مريم: ٦٤) و قال:( لا يَضِلُّ رَبِّي وَ لا يَنْسى‏ ) (طه: ٥٢) فمعنى قوله:( ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ ) (الآية) أنّ ما أصابك من حسنة - و كلّ ما أصابك حسنة - فمن الله، و ما أصابك من سيّئة فهي سيّئة بالنسبة إليك حيث لا يلائم ما تقصده و تشتهيه و إن كانت في نفسها حسنة فإنّما جرّتها إليك نفسك باختيارها السيّئ، و استدعتها كذلك من الله فالله أجلّ من أن يبدأك بشرّ أو ضرّ.

و الآية كما تقدّم و إن كانت خصّت النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالخطاب لكنّ المعنى عامّ للجميع، و بعبارة اُخرى هذه الآية كالآيتين الاُخريين( ذلِكَ بِأَنَّ الله لَمْ يَكُ مُغَيِّراً ) (الآية)

١٠

( وَ ما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ ) (الآية) متكفّلة للخطاب الاجتماعيّ كتكفّلها للخطاب الفرديّ. فإنّ للمجتمع الإنسانيّ كينونة إنسانيّة و إرادة و اختياراً غير ما للفرد من ذلك.

فالمجتمع ذو كينونة يستهلك فيها الماضون و الغابرون من أفراده، و يؤاخذ متأخّروهم بسيّئات المتقدّمين، و الأموات بسيّئات الأحياء، و الفرد غير المقدّم بذنب المقترفين للذنوب و هكذا، و ليس يصحّ ذلك في الفرد بحسب حكمه في نفسه أبداً، و قد تقدّم شطر من هذا الكلام في بحث أحكام الأعمال في الجزء الثاني من هذا الكتاب.

فهذا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أصيب في غزوة اُحد في وجهه و ثناياه، و اُصيب المسلمون بما اُصيبوا، و هوصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نبيّ معصوم إن أسند ما اُصيب به إلى مجتمعة و قد خالفوا أمر الله و رسوله كان ذلك مصيبة سيّئة أصابته بما كسبت أيدي مجتمعة و هو فيهم، و إن اُسند إلى شخصه الشريف كان ذلك محنة إلهيّة أصابته في سبيل الله، و في طريق دعوته الطاهرة إلى الله على بصيرة فإنّما هي نعمة رافعة للدرجات.

و كذا كلّ ما أصاب قوماً من السيّئات إنّما تستند إلى أعمالهم على ما يراه القرآن و لا يرى إلّا الحقّ، و أمّا ما أصابهم من الحسنات فمن الله سبحانه.

نعم ههنا آيات اُخر ربّما نسبت إليهم الحسنات بعض النسبة كقوله تعالى:( وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى‏ آمَنُوا وَ اتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ ) (الأعراف: ٩٦) و قوله:( وَ جَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَ كانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ ) (السجدة: ٢٤) و قوله:( وَ أَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ ) (الأنبياء: ٨٦) و الآيات في هذا المعنى كثيرة جدّاً.

إلّا أنّ الله سبحانه يذكر في كلامه أنّ شيئاً من خلقه لا يقدر على شي‏ء ممّا يقصده من الغاية، و لا يهتدي إلى خير إلّا بإقدار الله و هدايته قال تعالى:( الَّذِي أَعْطى‏ كُلَّ شَيْ‏ءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى) (طه: ٥٠) و قال تعالى:( وَ لَوْ لا فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ ما زَكى‏ مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً ) (النور: ٢١) و يتبيّن بهاتين الآيتين و ما تقدّم معنى آخر لكون الحسنات لله عزّ اسمه، و هو أنّ الإنسان لا يملك حسنة إلّا بتمليك من الله و إيصال منه

١١

فالحسنات كلّها لله و السيّئات للإنسان، و به يظهر معنى قوله تعالى:( ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ الله وَ ما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ ) (الآية).

فللّه سبحانه الحسنات بما أنّ كلّ حسن مخلوق له، و الخلق و الحسن لا ينفكّان، و له الحسنات بما أنّها خيرات، و بيده الخير لا يملكه غيره إلّا بتمليكه، و لا ينسب إليه شي‏ء من السيّئات فإنّ السيّئة من حيث إنّها سيّئة غير مخلوقة و شأنه الخلق، و إنّما السيّئة فقدان الإنسان مثلاً رحمة من لدنه تعالى أمسك عنها بما قدّمته أيدي الناس، و أمّا الحسنة و السيّئة بمعنى الطاعة و المعصية فقد تقدّم الكلام في نسبتهما إلى الله سبحانه في الكلام على قوله تعالى:( إِنَّ الله لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ) (البقرة: ٢٦) في الجزء الأوّل من هذا الكتاب.

و أنت لو راجعت التفاسير في هذا المقام، وجدت من شتات القول و مختلف الآراء و الأهواء و أقسام الإشكالات ما يبهتك، و أرجو أن يكون فيما ذكرناه كفاية للمتدبّر في كلامه تعالى، و عليك في هذا البحث بتفكيك جهات البحث بعضها عن بعض، و تفهّم ما يتعارفه القرآن من معنى الحسنة و السيّئة، و النعمة و النقمة، و الفرق بين شخصيّة المجتمع و الفرد حتّى يتّضح لك مغزى الكلام.

( بحث روائي)

و في الدرّ المنثور، في قوله تعالى:( أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا ) (الآية) أخرج النسائيّ و ابن جرير و ابن أبي حاتم و الحاكم و صحّحه و البيهقيّ في سننه من طريق عكرمة عن ابن عبّاس: أن عبد الرحمن بن عوف و أصحاباً له أتوا النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالوا: يا نبيّ الله كنّا في عزّ و نحن مشركون فلمّا آمنّا صرنا أذلّة فقال: إنّي اُمرت بالعفو فلا تقاتلوا القوم فلمّا حوّله الله إلى المدينة أمره الله بالقتال فكفّوا فأنّزل الله:( أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ ) الآية.

و فيه: أخرج عبد بن حميد و ابن جرير و ابن المنذر عن قتادة في الآية قال: كان

١٢

اُناس من أصحاب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و هم يومئذ بمكّة قبل الهجرة، يسارعون إلى القتال فقالوا للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ذرنا نتّخذ معاول فنقاتل بها المشركين، و ذكر لنا أنّ عبدالرحمن بن عوف كان فيمن قال ذلك، فنهاهم نبيّ اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن ذلك قال: لم اُومر بذلك، فلمّا كانت الهجرة و اُمروا بالقتل كره القوم ذلك، و صنعوا فيه ما تسمعون قال الله تعالى،( قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى‏ وَ لا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا ) .

و في تفسير العيّاشيّ، عن صفوان بن يحيى عن أبي الحسنعليه‌السلام قال: قال الله تعالى: يا ابن آدم، بمشيّتي كنت أنت الّذي تشاء و تقول، و بقوّتي أدّيت إلي فريضتي، و بنعمتي قويت على معصيتي، ما أصابك من حسنة فمن الله، و ما أصابك من سيّئة فمن نفسك، و ذاك أنّي اُولى بحسناتك منك، و أنت اُولى بسيّئاتك منّي، و ذاك أنّي لا اُسأل عمّا أفعل، و هم يسألون.

أقول: و قد تقدّم نقل الرواية بلفظ آخر في الجزء الأوّل من هذا الكتاب في ذيل قوله تعالى:( إِنَّ الله لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ) (البقرة: ٢٦) و تقدّم البحث عنها هناك.

و في الكافي، بإسناده عن عبدالرحمن بن الحجّاج قال: ذكر عند أبي عبداللهعليه‌السلام البلاء و ما يخصّ الله به المؤمن، فقال: سئل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أشدّ الناس بلاءً في الدنيا؟ فقال النبيّون ثمّ الأمثل فالأمثل، و يبتلى المؤمن بعد على قدر إيمانه و حسن أعماله، فمن صحّ إيمانه و حسن عمله اشتدّ بلاؤه، و من سخف إيمانه و ضعف عمله قلّ بلاؤه.

أقول: و من الروايات المشهورة قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : الدنيا سجن المؤمن و جنّة الكافر.

و فيه، أيضاً بعدّة طرق عنهماعليهما‌السلام : إنّ الله عزّوجلّ إذا أحبّ عبداً غثّه بالبلاء غثّاً.(١)

و فيه، أيضاً عن الصادقعليه‌السلام : إنّما المؤمن بمنزلة كفّة الميزان، كلّما زيد في إيمانه زيد في بلائه.

____________________

(١) الغثّ هو الغمس.

١٣

و فيه، أيضاً عن الباقرعليه‌السلام قال: إنّ الله عزّوجلّ ليتعاهد المؤمن بالبلاء، كما يتعاهد الرجل أهله بالهدية من الغيبة، و يحميه الدنيا كما يحمي الطبيب المريض.

و فيه، أيضاً عن الصادقعليه‌السلام قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا حاجة لله فيمن ليس له في ماله و بدنه نصيب.

و في العلل، عن عليّ بن الحسين عن أبيهعليهما‌السلام قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : و لو كان المؤمن على جبل، لقيّضّ الله عزّوجلّ له من يؤذيه ليأجره على ذلك.

و في كتاب التمحيص، عن الصادقعليه‌السلام قال: لا تزال الهموم و الغموم بالمؤمن حتّى لا تدع له ذنباً. و عنهعليه‌السلام قال: لا يمضي على المؤمن أربعون ليلة، إلّا عرض له أمر يحزنه يذكّر ربّه.

و في النهج، قالعليه‌السلام : لو أحبّني جبل لتهافت‏. و قالعليه‌السلام : من أحبّنا أهل البيت فليستعدّ للبلاء جلباباً.

أقول: قال ابن أبي الحديد في شرحه: قد ثبت‏ أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال له:( لا يحبّك إلّا مؤمن، و لا يبغضك إلّا منافق) و قد ثبت أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال:( إنّ البلوى أسرع إلى المؤمن من الماء إلى الحدور) هاتان المقدّمتان يلزمهما نتيجة صادقة هي أنّه لو أحبّه جبل لتهافت (انتهى).

و اعلم أنّ الأخبار في هذه المعاني كثيرة، و هي تؤيّد ما قدّمناه من البيان.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن المنذر و الخطيب عن ابن عمر، قال: كنّا عند رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في نفر من أصحابه، فقال: يا هؤلاء أ لستم تعلمون أنّي رسول الله إليكم؟ قالوا: بلى قال: أ لستم تعلمون أنّ الله أنزل في كتابه، أنّه من أطاعني فقد أطاع الله؟ قالوا: بلى‏ نشهد أنّه من أطاعك فقد أطاع الله، و أنّ من طاعته طاعتك، قال: فإنّ من طاعة الله أن تطيعوني، و إنّ من طاعتي أن تطيعوا أئمّتكم، و إن صلّوا قعوداً فصلّوا قعدواً أجمعين.

أقول: قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : و إن صلّوا إلخ كناية عن وجوب كمال الاتّباع.

١٤

( سورة النساء الآيات ٨١ - ٨٤)

وَيَقُولُونَ طَاعةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الّذِي تَقُولُ وَاللّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكّلْ عَلَى اللّهِ وَكَفَى‏ بِاللّهِ وَكِيلاً ( ٨١ ) أَفَلاَ يَتَدَبّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً ( ٨٢ ) وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدّوهُ إِلَى الرّسُولِ وَإِلَى‏ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتّبَعْتُمُ الشّيْطَانَ إِلّا قَلِيلاً ( ٨٣ ) فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ تُكَلّفُ إِلّا نَفْسَكَ وَحَرّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللّهُ أَن يَكُفّ بَأْسَ الّذِينَ كَفَرُوا وَاللّهُ أَشَدّ بَأْساً وَأَشَدّ تَنْكِيلاً ( ٨٤ )

( بيان‏)

الآيات لا تأبى عن الاتّصال بما قبلها فكأنّها من تتمّة القول في ملامة الضعفاء من المسلمين و فائدتها وعظهم بما يتبصّرون به لو تدبّروا و استبصروا.

قوله تعالى: ( وَ يَقُولُونَ طاعَةٌ ) إلخ( طاعَةٌ ) مرفوع على الخبريّة على ما قيل، و التقدير: أمرنا طاعة أي نطيعك طاعة، و البروز الظهور و الخروج، و التبييت من البيتوتة و معناه إحكام الأمر و تدبيره ليلاً و الضمير في( تَقُولُ ) راجع إلى( طائِفَةٌ ) أو إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

و المعنى - و الله أعلم -: و يقول هؤلاء مجيبين لك فيما تدعوهم إليه من الجهاد: أمرنا طاعة، فإذا خرجوا من عندك دبّروا ليلاً أمراً غير ما أجابوك به و قالوا لك أو غير ما قلته أنت لهم و هو كناية عن عقدهم النيّة على مخالفة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ثمّ أمر الله رسوله بالإعراض عنهم و التوكّل في الأمر و العزيمة فقال:( فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَ توكّل عَلَى اللهِ وَ كَفى‏ بِاللهِ وَكِيلًا ) و لا دليل في الآية يدلّ على كون المحكيّ عنهم هم المنافقين كما ذكره بعضهم بل الأمر بالنظر إلى اتّصال السياق على خلاف ذلك.

١٥

قوله تعالى: ( أَ فَلا يَتدبّرونَ الْقُرْآنَ ) الآية تحضيض في صورة الاستفهام التدبير هو أخذ الشي‏ء بعد الشي‏ء و هو في مورد الآية التأمّل في الآية عقيب الآية أو التأمّل بعد التأمّل في الآية لكن لمّا كان الغرض بيان أنّ القرآن لا اختلاف فيه و ذلك إنّما يكون بين أزيد من آية واحدة كان المعنى الأوّل أعني التأمّل في الآية عقيب الآية هو العمدة و إن كان ذلك لا ينفي المعنى الثاني أيضاً.

فالمراد ترغيبهم أن يتدبّروا في الآيات القرآنيّة، و يراجعوا في كلّ حكم نازل أو حكمة مبيّنة أو قصّة أو عظة أو غير ذلك جميع الآيات المرتبطة به ممّا نزلت مكّيّتها و مدنيّتها و محكمها و متشابهها و يضمّوا البعض إلى البعض حتّى يظهر لهم أنّه لا اختلاف بينها فالآيات يصدّق قديمها حديثها و يشهد بعضها على بعض من غير أن يكون بينها أيّ اختلاف مفروض: لا اختلاف التناقض بأن ينفي بعضها بعضا أو يتدافعا، و لا اختلاف التفاوت بأن يتفاوت الآيتان من حيث تشابه البيان أو متانة المعاني و المقاصد بكون البعض أحكم بياناً و أشدّ ركناً من بعض كتاباً متشابهاً مثاني تقشعرّ منه الجلود. فارتفاع هذه الاختلافات من القرآن يهديهم إلى أنّه كتاب منزل من الله و ليس من عند غيره إذ لو كان من عند غيره لم يسلم من كثرة الاختلاف و ذلك أنّ غيره تعالى من هذه الموجودات الكونيّة - و لا سيّما الإنسان الّذي يرتاب أهل الريب أنّه من كلامه - كلّها موضوعة بحسب الكينونة الوجوديّة و طبيعة الكون على التحرّك و التغيّر و التكامل فما من واحد منها إلّا أنّ امتداد زمان وجوده مختلف الأطراف متفاوت الحالات.

ما من إنسان إلّا و هو يرى كلّ يوم أنّه أعقل من أمس و أنّ ما ينشئه من عمل أو صنعة أو ما أشبه ذلك أو يدبّره من رأي أو نظر أو نحوهما أخيراً أحكم و أمتن ممّا أتا به أوّلاً حتّى العمل الواحد الّذي فيه شي‏ء من الامتداد الوجوديّ كالكتاب يكتبه الكاتب و الشعر يقوله الشاعر و الخطبة يخطبها الخطيب و هكذا يوجد عند الإمعان آخره خيراً من أوّله و بعضه أفضل من بعض.

فالواحد من الإنسان لا يسلم في نفسه و ما يأتي به من العمل من الاختلاف، و ليس هو بالواحد و الاثنين من التفاوت و التناقض بل الاختلاف الكثير، و هذا ناموس

١٦

كلّيّ جار في الإنسان و ما دونه من الكائنات الواقعة تحت سيطرة التحوّل و التكامل العامّين لا ترى واحداً من هذه الموجودات يبقى آنين متواليين على حال واحد بل لا يزال يختلف ذاته و أحواله.

و من هنا يظهر وجه التقييد بالكثير في قوله:( اخْتِلافاً كَثِيراً ) فالوصف وصف توضيحيّ لا احترازيّ، و المعنى: لو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا و كان ذلك الاختلاف كثيراً على حدّ الاختلاف الكثير الّذي في كلّ ما هو من عند غير الله، و ليس المعنى أنّ المرفوع من القرآن هو الاختلاف الكثير دون اليسير.

و بالجملة لا يلبث المتدبّرون أن يشاهد أنّ القرآن كتاب يداخل جميع الشؤون المرتبطة بالإنسانيّة من معارف المبدأ و المعاد و الخلق و الإيجاد، ثمّ الفضائل العامّة الإنسانيّة، ثمّ القوانين الاجتماعيّة و الفرديّة الحاكمة في النوع حكومة لا يشذّ منها دقيق و لا جليل، ثمّ القصص و العبر و المواعظ ببيان دعا إلى مثلها أهل الدنيا، و بآيات نازلة نجوماً في مدّة تعدل ثلاثاً و عشرين سنة على اختلاف الأحوال من ليل و نهار، و من حضر و سفر، و من حرب و سلم، و من ضرّاء و سرّاء، و من شدّة و رخاء، فلم يختلف حاله في بلاغته الخارقة المعجزة، و لا في معارفه العالية و حكمه السامية، و لا في قوانينه الاجتماعيّة و الفرديّة، بل ينعطف آخره إلى ما قرّ عليه أوّله، و ترجع تفاصيله و فروعه إلى ما ثبت فيه أعراقه و اُصوله، يعود تفاصيل شرائعه و حكمه بالتحليل إلى حاقّ التوحيد الخالص، و ينقلب توحيده الخالص بالتركيب إلى أعيان ما أفاده من التفاصيل، هذا شأن القرآن.

و الإنسان المتدبّر فيه هذا التدبّر يقضي بشعوره الحيّ، و قضائه الجبلّيّ أنّ المتكلّم بهذا الكلام ليس ممّن يحكم فيه مرور الأيّام و التحوّل و التكامل العاملان في الأكوان بل هو الله الواحد القهّار.

و قد تبيّن من الآية (أوّلاً): أنّ القرآن ممّا يناله الفهم العاديّ. و (ثانياً): أنّ الآيات القرآنيّة يفسّر بعضها بعضاً. و (ثالثاً): أنّ القرآن كتاب لا يقبل نسخاً و لا إبطالاً و لا تكميلاً و لا تهذيباً، و لا أيّ حاكم يحكم عليه أبداً، و ذلك أنّ ما يقبل شيئاً منها

١٧

لا مناص من كونه يقبل نوعاً من التحوّل و التغيّر بالضرورة، و إذ كان القرآن لا يقبل الاختلاف فليس يقبل التحوّل و التغيّر فليس يقبل نسخاً و لا إبطالاً و لا غير ذلك، و لازم ذلك أنّ الشريعة الإسلاميّة مستمرّة إلى يوم القيامة.

قوله تعالى: ( وَ إِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ ) الإذاعة هي النشر و الإشاعة، و في الآية نوع ذمّ و تعيير لهم في شأن هذه الإذاعة، و في قوله في ذيل الآية:( وَ لَوْ لا فَضْلُ الله ) إلخ دلالة على أنّ المؤمنين كانوا على خطر الضلال من جهة هذه الإذاعة، و ليس إلّا خطر مخالفة الرسول فإنّ الكلام في هذه الآيات موضوع في ذلك، و يؤيّد ذلك ما في الآية التالية من أمر الرسول بالقتال و لو بقي وحده بلا ناصر.

و يظهر به أنّ الأمر الّذي جاءهم من الأمن أو الخوف كان بعض الأراجيف الّتي كانت تأتي بها أيدي الكفّار و رسلهم المبعوثون لإيجاد النفاق و الخلاف بين المؤمنين فكان الضعفاء من المؤمنين يذيعونه من غير تدبّر و تبصّر فيوجب ذلك وهناً في عزيمة المؤمنين، غير أنّ الله سبحانه وقاهم من اتّباع هؤلاء الشياطين الجائين بتلك الأخبار لإخزاء المؤمنين.

فتنطبق الآية على قصّة بدر الصغرى، و قد تقدّم الكلام فيها في سورة آل عمران، و الآيات ههنا تشابه الآيات هناك مضمونا كما يظهر للمتدبّر فيها، قال تعالى في سورة آل عمران:( الَّذِينَ اسْتَجابُوا لله وَ الرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَ اتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَ قالُوا حَسْبُنَا الله وَ نِعْمَ الْوَكِيلُ - إلى قوله -إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ فَلا تَخافُوهُمْ وَ خافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) (آل عمران: ١٧٥).

الآيات كما ترى تذكر أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يدعو الناس بعد ما أصابهم القرح - و هو محنة اُحد - إلى الخروج إلى الكفّار، و أنّ اُناساً كانوا يخزلون الناس و يخذّلونهم عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و يخوّفونهم جمع المشركين.

ثمّ تذكر أنّ ذلك كلّه تخويفات من الشيطان يتكلّم بها من أفواه أوليائه، و تعزم على المؤمنين أن لا يخافوهم و يخافوا الله أن كانوا مؤمنين.

١٨

و المتدبّر فيها و في الآيات المبحوث عنها أعني قوله:( وَ إِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ ) (الآية) لا يرتاب في أنّ الله سبحانه في هذه الآية يذكر قصّة بدر الصغرى و يعدّها في جملة ما يعدّ من الخلال الّتي يلوم هؤلاء الضعفاء عليها كقوله:( فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ ) (الآية) و قوله:( وَ قالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ ) (الآية) و قوله:( وَ إِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ ) (الآية) و قوله:( وَ يَقُولُونَ طاعَةٌ ) (الآية) ثمّ يجري على هذا المجرى قوله:( وَ إِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ ) (الآية).

قوله تعالى: ( وَ لَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَ إِلى‏ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ ) لم يذكر ههنا الردّ إلى الله كما ذكر في قوله:( فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْ‏ءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى الله وَ الرَّسُولِ ) الآية النساء: ٥٩) لأنّ الردّ المذكور هناك هو ردّ الحكم الشرعيّ المتنازع فيه، و لا صنع فيه لغير الله و رسوله.

و أمّا الردّ المذكور ههنا فهو ردّ الخبر الشائع بين الناس من أمن أو خوف، و لا معنى لردّه إلى الله و كتابه، بل الصنع فيه للرسول و لاُولي الأمر منهم، لو ردّ إليهم أمكنهم أن يستنبطوه و يذكروا للرادّين صحّته أو سقمه و صدقه أو كذبه.

فالمراد بالعلم التمييز تمييز الحقّ من الباطل، و الصدق من الكذب على حدّ قوله تعالى:( لِيَعْلَمَ الله مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ ) (المائدة: ٩٤) و قوله:( وَ لَيَعْلَمَنَّ الله الَّذِينَ آمَنُوا وَ لَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ ) (العنكبوت. ١١).

و الاستنباط استخراج القول من حال الإبهام إلى مرحلة التمييز و المعرفة، و أصله من النبط (محرّكة)، و هو أوّل ما يخرج من ماء البئر، و على هذا يمكن أن يكون الاستنباط وصفاً للرسول و اُولي الأمر بمعنى أنّهم يحقّقون الأمر فيحصلون على الحقّ و الصدق و أن يكون وصفاً لهؤلاء الرادّين لو ردّوا فإنّهم يعلمون حقّ الأمر و صدقه بإنباء الرسول و اُولي الأمر لهم.

فيعود معنى الآية إن كان المراد بالّذين يستنبطونه منهم الرسول و اُولي الأمر كما هو الظاهر من الآية: لعلمه من أراد الاستنباط من الرسول و اُولي الأمر أي إذا استصوبه المسؤلون و رأوه موافقاً للصلاح، و إن كان المراد بهم الرادّين: لعلمه الّذين

١٩

يستفسرونه و يبالغون في الحصول على أصل الخبر من هؤلاء الرادّين.

و أمّا اُولوا الأمر في قوله:( وَ إِلى‏ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ ) فالمراد بهم هو المراد باُولي الأمر في قوله:( أَطِيعُوا الله وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ) (النساء: ٥٩) على ما تقدّم من اختلاف المفسّرين في تفسيره و قد تقدّم أنّ اُصول الأقوال في ذلك ترجع إلى خمسة غير أنّ الّذي استفدناه من المعنى أظهر في هذه الآية.

أمّا القول بأنّ اُولي الأمر هم اُمراء السرايا فإنّ هؤلاء لم يكن لهم شأن إلّا الإمارة على سريّة في واقعة خاصّة لا تتجاوزها خبرتهم و دائرة عملهم، و أمّا أمثال ما هو مورد الآية و هو الإخلال في الأمن و إيجاد الخوف و الوحشة العامّة الّتي كان يتوسّل إليها المشركون ببعث العيون و إرسال الرسل السرّيّة الّذين يذيعون من الأخبار ما يخزلون به المؤمنين فلا شأن لاُمراء السرايا في ذلك حتّى يمكنهم أن يبيّنوا وجه الحقّ فيه للناس إذا سألوهم عن أمثال تلك الأخبار.

و أمّا القول بأنّ اُولي الأمر هم العلماء فعدم مناسبته للآية أظهر، إذ العلماء - و هم يومئذ المحدّثون و الفقهاء و القرّاء و المتكلّمون في اُصول الدّين - إنّما خبرتهم في الفقه و الحديث و نحو ذلك، و مورد قوله:( وَ إِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ ) ، هي الأخبار الّتي لها أعراق سياسيّة ترتبط بأطراف شتّى ربّما أفضى قبولها أو ردّها أو الإهمال فيها من المفاسد الحيويّة و المضارّ الاجتماعيّة إلى ما يمكن أن لا يستصلح بأيّ مصلح آخر، أو يبطل مساعي اُمّة في طريق سعادتها، أو يذهب بسؤددهم و يضرب بالذلّ و المسكنة و القتل و الأسر عليهم، و أيّ خبرة للعلماء من حيث إنّهم محدّثون أو فقهاء أو قرّاء أو نحوهم في هذه القضايا حتّى يأمر الله سبحانه بإرجاعها و ردّها إليهم؟ و أيّ رجاء في حلّ أمثال هذه المشكلات بأيديهم؟

و أمّا القول بأنّ اُولي الأمر هم الخلفاء الراشدون أعني أبابكر و عمر و عثمان و عليّاً فمع كونه لا دليل عليه من كتاب أو سنّة قطعيّة، يرد عليه أنّ حكم الآية إمّا مختصّ بزمان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو عامّ يشمله و ما بعده، و على الأوّل كان من اللازم أن يكونوا معروفين بهذا الشأن بما أنّهم هؤلاء الأربعة من بين الناس و من بين الصحابة

٢٠

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

في ذلك قاهر غيره فيجبره على الفعل أو يمنعه من الفعل كما في سائر أفعاله تعالى فإنّه تعالى يفعل ما يشاء و يحكم ما يريد.

فلا ينافي ذلك كون فعله ملازماً لحكم و مصالح و مختلفاً باختلاف الاستعدادات لا يقع إلّا عن استعداد في المحلّ و صلاحية للقبول فإنّ استعداد المستعدّ ليس إلّا كسؤال السائل، فكما أنّ سؤال السائل إنّما يقرّبه من جود المسؤل و عطائه من غير أن يجبره على الإعطاء و يقهره كذلك الاستعداد في تقريبه المستعدّ لإفاضته تعالى و حرمان غير المستعدّ من ذلك فهو تعالى يفعل ما يشاء من غير أن يوجبه عليه شي‏ء أو يمنعه عنه شي‏ء لكنّه لا يفعل شيئاً و لا يفيض رحمة إلّا عن استعداد فيما يفيض عليه و صلاحية منه.

و قد أفاد ذلك في خصوص الرسالة حيث قال:( وَ إِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى‏ مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ، اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ عِنْدَ اللهِ وَ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما كانُوا يَمْكُرُونَ ) الأنعام: ١٢٤ فإنّ الآية ظاهرة في أنّ الموارد مختلفة في قبول كرامة الرسالة و أنّ الله سبحانه أعلم بالمورد الّذي يصلح لها و يستأهل لتلك الكرامة و هو غير هؤلاء المجرمين الماكرين و أمّا هم فليس لهم عندالله إلّا الصغار و العذاب لإجرامهم و مكرهم. هذا.

و من هنا يظهر فساد استدلال بعضهم بالآية على نفي المرجّح في مورد الرسالة و محصّل ما ذكره أنّ الآية تعلّق الرسالة على مجرّد المشيّة الإلهيّة من غير أن تقيّدها بشي‏ء، فالرسول إنّما ينال الرسالة بمشيّة من الله لا لاختصاصه بصفات تؤهّله لذلك و يرجّحه على غيره و وجه الفساد ظاهر ممّا تقدّم.

و نظيره في الفساد الاستدلال بالآية على كون الرسالة عطائيّة غير كسبيّة، و ذلك أنّه تعالى غير محكوم عليه في ما ينسب إليه من الفعل لا يفعل إلّا ما يشاء، و الاُمور العطائيّة و الكسبيّة في ذلك سواء، و لا شي‏ء يقع في الوجود إلّا بإذنه.

و قوله:( أَنْ أَنْذِرُوا أنّه لا إِلهَ إلّا أَنَا فَاتَّقُونِ ) بيان لقوله:( يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ ) لكونه في معنى الوحي أو بيان للروح بناء على كونه بمعنى الوحي، و الإنذار

٢٢١

هو إخبار فيه تخويف، كما أنّ التبشير هو إخبار فيه سرور على ما ذكره الراغب أو إعلام بالمحذور كما ذكره غيره، و التقدير على الأوّل أخبروهم مخوّفين بوحدانيّتي في الاُلوهيّة و وجوب تقواي، و على الثاني أعلموهم ذلك، على أن يكون( أَنَّهُ ) مفعولاً ثانياً لا منصوباً بنزع الخافض.

و قد علم بذلك أنّ قوله:( فَاتَّقُونِ ) متفرّع على قوله:( لا إِلهَ إلّا أَنَا ) و الجملتان جميعاً مفعول ثان أو في موضعه لقوله:( أَنْذِرُوا ) و يوضح ذلك أنّ لا إله و هو الّذي يبتدئ منه و ينتهي إليه كلّ شي‏ء أو المعبود بالحقّ من لوازم صفة اُلوهيّته أن يتّقيه الإنسان لتوقّف كلّ خير و سعادة إليه، فلو فرض أنّه واحد لا شريك له في اُلوهيّته كان لازمه أن يتّقى وحده لأنّ التقوى و هو إصلاح مقام العمل فرع لما في مقام الاعتقاد و النظر، فعبادة الآلهة الكثيرين و الخضوع لهم لا يجامع الاعتقاد بإله واحد لا شريك له الّذي هو القيّوم على كلّ شي‏ء و بيده زمام كلّ أمر و لذا لم يؤمر نبيّ أن يدعو إلى توحيد من غير عمل أو إلى عمل من غير توحيد، قال تعالى:( وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إلّا نُوحِي إِلَيْهِ أنّه لا إِلهَ إلّا أَنَا فَاعْبُدُونِ ) الأنبياء: ٢٥.

فالّذي اُمر الرسل بالإنذار به في الآية هو مجموع قوله:( أَنَّهُ لا إِلهَ إلّا أَنَا فَاتَّقُونِ ) و هو تمام الدين لاندراج الاعتقادات الحقّة في التوحيد و الأحكام العمليّة جميعاً في التقوى، و لا يعبؤ بما ذكره بعضهم أنّ قوله:( فَاتَّقُونِ ) للمستعجلين من الكفّار المذكورين في الآية الاُولى أو لخصوص كفّار قريش من غير أن يكون داخلاً فيما اُمر به الرسل من الإنذار.

قوله تعالى: ( خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بِالحقّ تَعالى‏ عَمَّا يُشْرِكُونَ ) تقدّم معنى خلق السماوات و الأرض بالحقّ، و لازم خلقها بالحقّ أن لا يكون للباطل فيها أثر، و لذلك عقّبه بتنزيهه عن الشركاء الّذين يدعونهم ليشفعوا لهم عندالله و يهدوهم إلى الخير و يقوهم الشرّ فإنّهم من الباطل الّذي لا أثر له.

و في الآية و الآيات التالية لها احتجاج على وحدانيّته تعالى في الاُلوهيّة و الربوبيّة من جهتي الخلق و التدبير جميعاً فإنّ الخلق و الإيجاد آية الاُلوهيّة و

٢٢٢

كون الخلق بعضها نعمة بالنسبة إلى بعض آية الربوبيّة لأنّ الشي‏ء لا يكون نعمة بالنسبة إلى آخر إلّا عن ارتباط بينهما و اتّصال من أحدهما بالآخر يؤدّي إلى نظام جامع بينهما و تدبير واحد يجمعهما، و وحدة التدبير آية وحدة المدبّر فكون ما في السماوات و الأرض من مخلوق نعما للإنسان يدلّ على أنّ الله سبحانه وحده ربّه و ربّ كلّ شي‏ء.

قوله تعالى: ( خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ ) المراد به الخلق الجاري في النوع الإنسانيّ و هو جعل نسله من النطفة فلا يشمل آدم و عيسىعليهما‌السلام .

و الخصيم صفة مشبهة من الخصومة و هي الجدال، و الآية و إن أمكن أن تحمل على الامتنان حيث إنّ من عظيم المنّ أن يبدّل الله سبحانه بقدرته التامّة قطرة من ماء مهين إنساناً كامل الخلقة منطيقا متكلّما ينبئ عن كلّ ما جلّ و دقّ ببيانه البليغ لكن كثرة الآيات الّتي توبّخ الإنسان و تقرّعه على وقاحته في خصامه في ربّه كقوله تعالى:( أَ وَ لَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ وَ ضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَ نَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَ هِيَ رَمِيمٌ ) يس: ٧٨ ترجّح أن يكون المراد بذيل الآية بيان وقاحة الإنسان.

و يؤيّد ذلك أيضاً بعض التأييد ما في ذيل الآية السابقة من تنزيهه تعالى من شركهم.

قوله تعالى: ( وَ الْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْ‏ءٌ وَ مَنافِعُ وَ مِنْها تَأْكُلُونَ ) الأنعام جمع نعم و هي الإبل و البقر و الغنم سمّيت بذلك لنعمة مسّها بخلاف الحافر الّذي يصلب كذا في المجمع، و في المفردات: الدف‏ء خلاف البرد. انتهى. و كأنّ المراد بالدف‏ء ما يحصل من جلودها و أصوافها و أوبارها من الحرارة للاتّقاء من البرد، أو المراد بالدف‏ء ما يدفؤء به.

و المراد بالمنافع سائر ما يستفاد منها لغير الدف‏ء من أصوافها و أوبارها و جلودها و ألبانها و شحومها و غير ذلك، و قوله:( لَكُمْ ) يمكن أن يكون متعلّقا بقوله:( خَلَقَها ) و يكون قوله:( فِيها دِفْ‏ءٌ وَ مَنافِعُ ) حالا من ضمير( خَلَقَها ) و

٢٢٣

يمكن أن يكون( لَكُمْ ) ظرفا مستقرّاً متعلّقاً بالجملة الثانية أي في الأنعام دف‏ء كائنا لكم.

قوله تعالى: ( وَ لَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَ حِينَ تَسْرَحُونَ ) الجمال الزينة و حسن المنظر، قال في المجمع: الإراحة ردّ الماشية بالعشيّ من مراعيها إلى منازلها و المكان الّذي تراح فيه مراح، و السروح خروج الماشية إلى المرعى بالغداة، يقال: سرحت الماشية سرحا و سروحا و سرحها أهلها. انتهى.

يقول تعالى: و لكم في الأنعام منظر حسن حين تردّونها بالعشي إلى منازلها و حين تخرجونها بالغداة إلى مراعيها.

قوله تعالى: ( وَ تَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى‏ بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إلّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ ) الأثقال جمع ثقل و هو المتاع الّذي يثقل حمله و المراد بقوله:( بِشِقِّ الْأَنْفُسِ ) مشقّة تتحمّلها الأنفس في قطع المسافات البعيدة و المسالك الصعبة.

و المراد أنّ الأنعام كالإبل و بعض البقر تحمل أمتعتكم الثقيلة إلى بلد ليس يتيسّر لكم بلوغها إلّا بمشقّة تتحمّلها أنفسكم فرفع عنكم المشاقّ بخلقها و تسخيرها لكم إنّ ربّكم رؤف رحيم.

قوله تعالى: ( وَ الْخَيْلَ وَ الْبِغالَ وَ الْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَ زِينَةً وَ يَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ ) معطوف على الأنعام فيما مرّ أي و الخيل و البغال و الحمير خلقها لكم لتركبوها، و زينةً أي إنّ في خلقها ارتباطاً بمنافعكم و ذلك أنّكم تركبونها و تتّخذونها زينة و جمالاً، و قوله:( وَ يَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ ) أي يخلق ما لا علم لكم به من الحيوان و غيره، و سخّرها لكم لتنتفعوا بها، و الدليل على ما قدّرناه هو السياق.

قوله تعالى: ( وَ عَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَ مِنْها جائِرٌ وَ لَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ ) القصد - على ما ذكره الراغب و غيره - استقامة الطريق و هو كونه قيّما على سالكيه أوصلهم إلى الغاية، و الظاهر أنّ المصدر بمعنى الفاعل و الإضافة من إضافة الصفة إلى موصوفها و المراد السبيل القاصد بدليل مقابلته بقوله:( و منها جائر) أي و من السبيل ما

٢٢٤

هو جائر أي مائل عن الغاية يورد سالكيه غيرها و يضلّهم عنها.

و المراد بكون قصد السبيل على الله وجوب جعل سبيل قاصد عليه تعالى يسلكه عباده فيوردهم مورد السعادة و الفلاح و إذ لا حاكم غيره يحكم عليه فهو الّذي أوجب على نفسه أن يجعل لهم طريقاً هذا نعته ثمّ يهديهم إليه أمّا الجعل فهو ما جهّز الله كلّ موجود و منها الإنسان من القوى و الأدوات بما لو استعملها كما نظمت أدّته إلى سعادته و كماله المطلوب قال تعالى:( الَّذِي أَعْطى‏ كلّ شَيْ‏ءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى) طه: ٥٠ و قال في الإنسان خاصّة:( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الّتي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ) الروم: ٣٠.

و أمّا الهداية فهي الّتي فعلها من ناحية الفطرة و ثنّاها بما من طريق بعث الرسل و إنزال الكتب و تشريع الشرائع قال تعالى:( وَ نَفْسٍ وَ ما سَوَّاها فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَ تَقْواها ) الشمس: ٨ و قال:( إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَ إِمَّا كَفُوراً ) الدهر: ٣.

و إنّما أدرج سبحانه هذه الآية بين هذه الآيات الّتي سياقها عدّ النعم العلويّة و السفليّة من السماء و الأرض و الأنعام و الخيل و البغال و الحمير و الماء النازل من السماء و الزرع و نظائرها لما أنّ الكلام انجرّ في آيتي الأنعام و الخيل إلى معنى قطع الطرق و ركوب المراكب فناسب أن يذكر ما أنعم به من الطريق المعنويّ الموصل للإنسان إلى غايته الحقيقيّة يبتغيها في مسير الحياة كما أنعم بمثله في عالم المادّة و نشأة الصورة.

فذكر سبحانه أنّ من نعمه الّتي منّ بها على عباده أن أوجب على نفسه لهم سبيلا قاصدا يوصلهم إلى سعادة حياتهم فجعله لهم و هداهم إليه.

و قد نسب سبحانه قصد السبيل إلى نفسه دون السبيل الجائر لأنّ سبيل الضلال ليس سبيلاً مجعولاً له و في عرض سبيل الهدى و إنّما هو الخروج عن السبيل و عدم التلبّس بسلوكه فليس بسبيل حقيقة و إنّما هو عدم السبيل.

و كيف كان فالآية ظاهرة في نسبة قصد السبيل إليه تعالى و ترك نسبة السبيل

٢٢٥

الجائر المؤدّي بسبب المقابلة إلى نفي نسبته إليه تعالى.

و إذ كان من الممكن أن يتوهّم أنّ لازم جعله قصد السبيل أن يكون مكفوراً في نعمته مغلوباً في تدبيره و ربوبيّته حيث جعل السبيل و لم يسلكه الأكثرون و هدى إليه و لم يهتد به المدعوّون دفعه بقوله تعالى:( وَ لَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ ) أي إنّ عدم اهتداء الجميع ليس لعجز منه سبحانه عن ذلك أو غلبة من هؤلاء المتخلّفين و ظهورهم عليه بل لأنّه تعالى لم يشأ ذلك و لو شاء لم يسعهم إلّا أن يهتدوا جميعاً فهو القاهر الغالب على كلّ حال.

و بعبارة اُخرى السبيل القاصد الّذي جعله الله تعالى هو السبيل المبنيّ على اختيار الإنسان يقطعه بإتيان الأعمال الصالحة و اجتناب المعاصي عن اختيار منه، و ما هذا شأنه لم يكن ممّا يجبر عليه و لا عامّاً للجميع فإنّ الطبائع متنوّعة و التراكيب مختلفة و لا محالة تتنوّع آثارها، و يختلف الأفراد بالإيمان و الكفر و التقوى و الفجور و الطاعة و المعصية.

و الآية ممّا تشاجرت فيها الأشاعرة و المعتزلة من فرق المسلمين فاستدلّت المعتزلة بأنّ تغيير الاُسلوب بجعل قصد السبيل على الله دون السبيل الجائر للدلالة على ما يجوز إضافته إليه تعالى و ما لا يجوز كما ذكره في الكشّاف.

و تكلّفت الأشاعرة في الجواب عنه فمن مجيب بأنّ السبيلين جميعاً منه تعالى و إنّما لم ينسب السبيل الجائر إليه تأدّباً، و من مجيب بأنّ المراد بقوله:( وَ عَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ) أنّ عليه تعالى بيان السبيل الحقّ فضلاً و كرماً منه دون بيان السبيل الجائر و أمّا أصل الجعل فهما جميعاً مجعولان له تعالى، و من منكر أن يكون تغيير الاُسلوب في الآية لأمر مطلوب.

و الحقّ أنّ دلالة الآية على كون قصد السبيل مضافاً إليه تعالى دون السبيل الجائر ممّا لا ريب فيه لكنّ ذلك لا يستلزم كون السبيل الجائر مخلوقاً لغيره تعالى لما تقدّم أنّ سبيل الضلال ليس بسبيل حقيقة بل حقيقته عدم سلوك سبيل الهدى كما أنّ الضلال عدم الهدى فليس بأمر موجود حتّى ينسب خلقه و إيجاده إليه تعالى

٢٢٦

و إنّما ينسب الضلال إليه تعالى فيما ينسب بمعنى عدم هدايته للضالّ أي عدم إيجاده الهدى في نفسه.

و مع ذلك فالّذي ينسب إليه من الضلال كما في قوله:( يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ ) فاطر: ٨ و قوله:( يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَ يَهْدِي بِهِ كَثِيراً ) البقرة: ٢٦ هو الضلال بطريق المجازاة دون الضلال الابتدائيّ، كما يفسره قوله:( وَ ما يُضِلُّ بِهِ إلّا الْفاسِقِينَ ) البقرة: ٢٦ فإذا فسق الإنسان و خرج بسوء اختياره عن زيّ العبوديّة بأن عصى و لم يرجع و هو ضلاله الابتدائيّ من قبل نفسه جازاه الله بالضلال بأن أثبته على حاله و لم يقض عليه الهدى.

و أمّا الضلال الابتدائي من الإنسان فإنّما هو انكفاف و قصور عن الطاعة و قد هداه الله من طريق الفطرة و دعوة النبوّة.

قوله تعالى: ( هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ وَ مِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ ) شروع في نوع آخر من النعم و هي النعم النباتيّة الّتي يقتات بها الإنسان و غيره و ما سخّر له لتدبير أمرها كالليل و النهار و الشمس و القمر و ما يحذو حذوها، و لذلك غيّر السياق فقال:( هُوَ الَّذِي ) إلخ، و لم يقل: و أنزل من السماء.

و قوله:( تُسِيمُونَ ) من الإسامة و هي رعي المواشي و منه السائمة للماشية الراعية و( مِنَ ) الاُولى تبعيضيّة و الثانية نشؤيّة و الشجر من النبات ما له ساق و ورق و ربّما توسّع فاُطلق على ذي الساق و غيره جميعاً، و منه الشجر المذكور في الآية لمكان قوله:( فِيهِ تُسِيمُونَ ) و الباقي واضح.

قوله تعالى: ( يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَ الزَّيْتُونَ وَ النَّخِيلَ وَ الْأَعْنابَ وَ مِنْ كلّ الثَّمَراتِ ) إلخ، الزيتون شجر معروف و يطلق على ثمره أيضاً يقال: إنّه اسم جنس جمعيّ واحده زيتونة، و كذا النخيل، و يطلق على الواحد و الجمع، و الأعناب جمع عنبة و هي ثمرة شجرة الكرم و يطلق على نفس الشجرة كما في الآية، و السياق يفيد أنّ قوله:( وَ مِنْ كلّ الثَّمَراتِ ) تقديره و من كلّ الثمرات أنبت أشجارها. و لعلّ التصريح بأسماء هذه الثمرات الثلاث بخصوصها و عطف الباقي عليها لكونها ممّا يقتات بها غالبا.

٢٢٧

و لما كان في هذا التدبير العامّ الوسيع الّذي يجمع شمل الإنسان و الحيوان في الارتزاق به حجّة على وحدانيّته تعالى في الربوبيّة ختم الآية بقوله:( إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ) .

قوله تعالى: ( وَ سَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ وَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ ) إلى آخر الآية قد تكرّر الكلام في معنى تسخير الليل و النهار و الشمس و القمر و النجوم، و لكون كلّ من المذكورات و كذا مجموع الليل و النهار و مجموع الشمس و القمر و النجوم ذا خواصّ و آثار في نفسه من شأنه أن يستقلّ بإثبات وحدانيّته في ربوبيّته تعالى ختم الآية بقوله:( إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ) فجمع الآيات في هذه الآية بخلاف الآيتين السابقة و اللاحقة.

قوله تعالى: ( وَ ما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ ) الذرء الخلق، و اختلاف ألوان ما ذرأه في الأرض غير ما مرّ كما يختلف ألوان المعادن و سائر المركّبات العنصريّة الّتي ينتفع بها الإنسان في معاشه و لا يبعد أن يكون اختلاف الألوان كناية عن الاختلاف النوعيّ بينها فتقرب الآية مضموناً من قوله تعالى:( وَ فِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَ جَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَ زَرْعٌ وَ نَخِيلٌ صِنْوانٌ وَ غَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى‏ بِماءٍ واحِدٍ وَ نُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى‏ بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ ) الرعد: ٤ و قد تقدّم تقريب الاستدلال به.

و اختلاف الألوان فيما ذرأ في الأرض كإنبات الشجر و الثمر أمر واحد يستدلّ به على وحدانيّته في الربوبيّة و لذا قال:( إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً ) و لم يقل: لآيات.

و هذه حجج ثلاث نسب الاُولى إلى الّذين يتفكّرون، و الثانية إلى الّذين يعقلون، و الثالثة إلى الّذين يتذكّرون، و ذلك أنّ الحجّة الاُولى مؤلّفة من مقدّمات ساذجة يكفي في إنتاجها مطلق التفكّر، و الثانية مؤلّفة من مقدّمات علميّة لا يتيسّر فهمها إلّا لمن غار في أوضاع الأجرام العلويّة و السفليّة و عقل آثار حركاتها و انتقالاتها، و الثالثة مؤلّفة من مقدّمات كلّيّة فلسفيّة إنّما ينالها الإنسان

٢٢٨

بتذكّر ما للوجود من الأحكام العامّة الكلّيّة كاحتياج هذه النشأة المتغيّرة إلى المادّة و كون المادّة العامّة واحدة متشابهة الأمر، و وجوب انتهاء هذه الاختلافات الحقيقيّة إلى أمر آخر وراء المادّة الواحدة المتشابهة.

قوله تعالى: ( وَ هُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا وَ تَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها ) إلخ و هذا فصل آخر من النعم الإلهيّة و هو نعم البحر و الجبال و الأنهار و السبل و العلامات و كان ما تقدّمه من الفصل مشتملاً على نعم البرّ و السهل من الأشجار و الأثمار و نحوها، و لذلك قال:( وَ هُوَ الَّذِي سَخَّرَ ) و لم يقل: و سخّر إلخ.

و الطريّ فعيل من الطراوة و هو الغضّ الجديد من الشي‏ء على ما ذكره في المفردات، و المخر شقّ الماء عن يمين و شمال، يقال: مخرت السفينة تمخر مخراً فهي ماخرة و مخر الأرض أيضاً شقّها للزراعة. على ما في المجمع و المراد بأكل اللحم الطريّ من البحر هو أكل لحوم الحيتان المصطادة منه، و باستخراج حلية تلبسونها ما يستخرج منه بالغوص من أمثال اللؤلؤ و المرجان الّتي تتحلّى و تتزيّن بها النساء.

و قوله:( وَ تَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ ) أي تشاهد السفائن تشقّ ماءه عن اليمين و الشمال، و لعلّ قوله:( وَ تَرَى ) من الخطابات العامّة الّتي لا يقصد بها مخاطب خاصّ و كثيراً ما يستعمل كذلك و معناه يراه كلّ راء و يشاهده كلّ من له أن يشاهد فليس من قبيل الالتفات من خطاب الجمع السابق إلى خطاب الواحد.

و قوله:( وَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) أي و لتطلبوا بعض رزقه في ركوب البحر و إرسال السفائن فيه و الجملة معطوفة على محذوف و التقدير و ترى الفلك مواخر فيه لتنالوا بذلك كذا و كذا و لتبتغوا من فضله، و هو كثير النظير في كلامه تعالى.

و قوله:( وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) أي و من الغايات في تسخير البحر و إجراء الفلك فيه شكركم له المرجوّ منكم إذ هو من زيادته تعالى في النعمة فقد أغناكم بما أنعم

٢٢٩

عليكم في البرّ عن أن تتصرّفوا في البحر بالغوص و إجراء السفن و غير ذلك لكنّه تعالى زادكم بتسخير البحر لكم نعمة لعلّكم تشكرونه على هذا الزائد فإنّ الإنسان قليلاً ما يتنبّه في الضروريّات أنّها نعمة موهوبة من لدنه سبحانه و لو شاء لقطعها و أمّا الزوائد النافعة فهي أقرب من هذا التنبّه و الانتقال.

قوله تعالى: ( وَ أَلْقى‏ فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَ أَنْهاراً وَ سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ) قال في المجمع: الميد الميل يميناً و شمالاً و هو الاضطراب ماد يميد ميدا. انتهى.

و قوله:( أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ ) أي كراهة أن تميد بكم أو أن لا تميد بكم و المراد أنّه طرح على الأرض جبالاً ثوابت لئلّا تضطرب و تميل يميناً و شمالاً فيختلّ بذلك نظام معاشكم.

و قوله:( وَ أَنْهاراً ) أي و جعل فيها أنهاراً تجري بمائها و تسوقه إلى مزارعكم و بساتينكم و تسقيكم و ما عندكم من الحيوان الأهليّ.

و قوله:( وَ سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ) معطوف على قوله:( وَ أَنْهاراً ) أي و جعل سبلا لغاية الاهتداء المرجوّ منكم، و السبل منها ما هي طبيعيّة و هي المسافات الواقعة بين بقعتين من الأرض الواصلة إحداهما بالاُخرى من غير أن يقطع ما بينهما بحاجب أو مانع كالسهل بين الجبلين، و منها ما هي صناعيّة و هي الّتي تتكوّن بعبور المارّة و آثار الأقدام أو يعملها الإنسان.

و الظاهر من السياق عموم السبل لكلا القسمين، و لا ضير في نسبة ما جعله الإنسان إلى جعله تعالى كما نسب الأنهار و العلامات إلى جعله تعالى و أكثرها من صنع الإنسان و كما نسب ما عمله الإنسان من الأصنام و غيرها إلى خلقه تعالى في قوله:( وَ اللهُ خَلَقَكُمْ وَ ما تَعْمَلُونَ ) الصافّات: ٩٦.

و ذلك أنّها كائنة ما كانت من آثار مجعولاته تعالى و جعل الشي‏ء ذي الأثر جعل لأثره بوجه و إن لم يكن جعلاً مستقيماً من غير واسطة.

قوله تعالى: ( وَ عَلاماتٍ وَ بِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ ) العلامات جمع علامة و هي ما

٢٣٠

يعلم به الشي‏ء، و هو معطوف على قوله:( أَنْهاراً ) أي و جعل علامات تستدلّون بها على الأشياء الغائبة عن الحسّ و هي كلّ آية و أمارة طبيعيّة أو وضعيّة تدلّ على مدلولها و منها الشواخص و النصب و اللغات و الإشارات و الخطوط و غيرها.

ثمّ ذكر سبحانه الاهتداء بالنجوم فقال:( وَ بِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ ) و لعلّ الالتفات فيه من الخطاب إلى الغيبة للتحرّز عن تكرار( تَهْتَدُونَ ) بصيغة الخطاب في آخر الآيتين.

و الآية السابقة:( وَ عَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَ مِنْها جائِرٌ وَ لَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ ) المتضمّنة لمسألة الهداية المعنويّة الّتي هي كالمعترضة بين الآيات العادّة للنعم الصوريّة و إن كان الأنسب ظاهراً أن يوضع بعد هذه الآية أعني قوله:( وَ بِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ ) المتعرّضة هي و ما قبلها للهداية الصوريّة غير أنّ ذلك لم يكن خاليا من اللبس و إيهام التناقض بخلاف موقعها الّذي هي واقعة فيه و إن كانت كالمعترضة كما هو ظاهر.

قوله تعالى: ( أَ فَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ - إلى قوله -إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ ) الآيات تقرير إجماليّ للحجّة المذكورة تفصيلاً في ضمن الآيات الستّ عشرة الماضية و استنتاج للتوحيد و هي حجّة واحدة اُقيمت لتوحيد الربوبيّة، و ملخّصها أنّ الله سبحانه خالق كلّ شي‏ء فهو الّذي أنعم بهذه النعم الّتي لا يحيط بها الإحصاء الّتي ينتظم بها نظام الكون، و هو تعالى عالم بسرّها و علنها فهو الّذي يملك الكلّ و يدبّر الأمر فهو ربّها، و ليس شي‏ء ممّا يدعونه على شي‏ء من هذه الصفات فليست أرباباً فالإله واحد لا غير و هو الله عزّ اسمه.

و من هنا يظهر فساد ما ذكره بعضهم أنّ الآيات تثبت التوحيد من طريقين طريق الخلقة و طريق النعمة، بيان الفساد أنّ طريق الخلقة وحدها إنّما تثبت الصانع و وحدانيّته في الخلق و الإيجاد، و الوثنيّون - و إليهم وجه الكلام في الآيات - لا ينكرون وجود الصانع و لا أنّ الله سبحانه خالق الكلّ حتّى أوثانهم و أن أوثانهم ليسوا بخالقين لشي‏ء و إنّما يدّعون لأوثانهم تدبير أمر العالم بتفويض من الله لذلك إليهم و الشفاعة عند الله فلا يفيد إثبات الصانع تجاه هؤلاء شيئاً.

٢٣١

و إنّما سيقت آيات الخلقة لتثبيت أمر النعمة إذ من البيّن أنّه إذا كان الله سبحانه خالقاً لكلّ شي‏ء موجوداً له كانت آثار وجودات الأشياء و هي النعم الّتي يتنعّم بها له سبحانه كما أنّ وجوداتها له ملكاً طلقاً لا يقبل بطلاناً و لا نقلاً و لا تبديلاً فهو سبحانه المنعم بها حقيقة لا غيره من شي‏ء حتّى الّذي نفس النعمة من آثار وجوده فإنّه و ما له من أثر هو لله وحده.

و لذلك ضمّ إلى حديث الخلق و الإنعام قوله تعالى:( وَ اللهُ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَ ما تُعْلِنُونَ ) لأنّ مجرّد استناد الخلق و الإنعام إلى شي‏ء لا يستلزم ربوبيّته و لا يستوجب عبادته لو لا انضمام العلم إليهما ليتمّ بذلك أنّه مدبّر يهدي كلّ شي‏ء إلى كماله المطلوب له و سعادته المكتوبة في صحيفة عمله، و من المعلوم أنّ العبادة إنّما تستقيم عبادة إذا كان المعبود موسوماً بسمة العلم عالماً بعبادة من يعبده شاهداً لخضوعه.

فمجموع ما تتضمّنه الآيات من حديث الخلق و النعمة و العلم مقدّمات لحجّة واحدة اُقيمت على توحيد الربوبيّة الّذي ينكره الوثنيّة كما عرفت.

فقوله:( أَ فَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَ فَلا تَذَكَّرُونَ ) قياس ما له سبحانه من النعت إلى ما لغيره منه و نفي للمساواة، و الاستفهام للإنكار، و المراد بمن لا يخلق آلهتهم الّذين يدعونهم من دون الله.

و بيانه - كما ظهر ممّا تقدّم - أنّ الله سبحانه يخلق الأشياء و يستمرّ في خلقها فلا يستوي هو و من لا يخلق شيئاً فإنّه تعالى لخلقه الأشياء يملك وجوداتها و آثار وجوداتها الّتي هي الأنظمة الخاصّة بها و النظام العامّ الجاري عليها.

و قوله:( وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها ) إلخ، إشارة إلى كثرة النعم الإلهيّة كثرة خارجة عن حيطة الإحصاء، و بالحقّيقة ما من شي‏ء إلّا و هو نعمة إذا قيس إلى النظام الكلّيّ و إن كان ربّما وجد بينها ما ليس بنعمة إذا قيس إلى بعض آخر.

و قد علّل سبحانه ذلك بقوله:( إِنَّ اللهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ) و هو من ألطف التعليل و أدقّه فأفاد سبحانه أنّ خروج النعمة عن حدّ الإحصاء إنّما هو من بركات اتّصافه تعالى بصفتي المغفرة و الرحمة فإنّه بمغفرته - و المغفرة هي الستر - يستر ما في الأشياء

٢٣٢

من وبال النقص و شوهة القصور، و برحمته - و الرحمة إتمام النقص و رفع الحاجة - يظهر فيها الخير و الكمال و يحلّيها بالجمال فببسط المغفرة و الرحمة على الأشياء يكون كلّ شي‏ء نافعاً في غيره خيراً مطلوباً عنده فيصير نعمة بالنسبة إليه فالأشياء بعضها نعمة لبعض فللنعمة الإلهيّة من السعة و العرض ما لمغفرته و رحمته من ذلك: فإن تعدّوا نعمة الله لا تحصوها، فافهم ذلك.

و الآية من الموارد الّتي استعملت فيها المغفرة في غير الذنب و المعصية للأمر المولويّ هو المعروف عند المتشرّعة.

و قوله:( وَ اللهُ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَ ما تُعْلِنُونَ ) إشارة إلى الركن الثالث من أركان الربوبيّة و هو العلم فإنّ الإله لو كان غير متّصف بالعلم استوت العبادة و اللّاعبادة بالنسبة إليه فكانت عبادته لغواً لا أثر لها.

فمن الواجب في الربّ المعبود أن يكون له علم و لا كلّ علم، كيفما كان بل العلم بظاهر من يعبده و باطنه فإنّ العبادة متقوّمة بالنيّة فهي إنّما تقع عبادة حقيقة إذا اُتي بها عن نيّة صالحة و هو ممّا يرجع إلى الضمير فلا يتمّ العلم بكون صورة العبادة واجدة لحقيقة معناها إلّا بعد إحاطة المعبود بظاهر من يعبده و باطنه لكنّ الله سبحانه عليم بما يسرّه الإنسان و ما يعلنه كما أنّه خالق منعم و يستحقّ بذلك أن يعبد.

و من هنا يظهر وجه اختيار ما في الآية من التعبير لبيان علمه فلم يعبّر بمثل قوله:( عالِمُ الْغَيْبِ وَ الشَّهادَةِ ) و قوله:( وَ اللهُ بِكُلِّ شَيْ‏ءٍ عَلِيمٌ ) بل قال:( وَ اللهُ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَ ما تُعْلِنُونَ ) فذكر العلم بالإسرار و الإعلان، و أضافه إلى الإنسان لأنّ الكلام في عبادة الإنسان لربّه، و الواجب في العلم بالعبادة المرتبطة بعمل الجوارح و القلب جميعاً أن يكون عالماً بما يسرّه الإنسان و ما يعلنه من النيّة القلبيّة و الأحوال و الحركات البدنيّة.

و قوله:( وَ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَخْلُقُونَ شيئاً وَ هُمْ يُخْلَقُونَ ) إشارة إلى فقدان الركن الأوّل من أركان الربوبيّة في آلهتهم الّذين يدعون من دون الله

٢٣٣

و يتفرّع عليه الركن الثاني و هو إيتاء النعمة، فليس الّذين يدعونهم آلهة و أربابا و الله الربّ.

و قوله:( أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ وَ ما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ ) إشارة إلى فقدان الركن الثالث من أركان الربوبيّة في أصنامهم و هو العلم بما يسرّون و ما يعلنون و قد بالغ في نفي ذلك فنفى أصل الحياة المستلزم لنفي مطلق العلم فضلاً عن نوعه الكامل الّذي هو العلم بما يسرّون و ما يعلنون فقال:( أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ ) فأثبت الموت أوّلاً و هو لا يجامع الشعور ثمّ أكّده بنفي الحياة ثانياً.

و خصّ من وجوه جهلهم عدم شعورهم متى يبعث عبّادهم من الناس فقال:( وَ ما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ ) أي ما يدري الأصنام أيّان يبعث عبادهم فإنّ العبادة هي الّتي يجزى بها الإنسان يوم البعث فمن الواجب في الإله المعبود أن يعلم متى يوم البعث حتّى يجزي عبّاده فيه عن عبادتهم، و هؤلاء لا يدرون شيئاً من ذلك.

و من هنا يظهر أنّ أوّل ضميري الجمع( يَشْعُرُونَ ) للأصنام و الثاني( يُبْعَثُونَ ) للمشركين، و أمّا إرجاعهما كليهما إلى الأصنام فغير مرضيّ لأنّ العلم بالبعث مختصّ به سبحانه محجوب عن غيره و لا يختصّ الجهل به بالأصنام، و أردأ منه قول بعضهم: إنّ ضميري الجمع معاً في الآية عائدان إلى المشركين. هذا.

و الآيات و إن كانت مسوقة بظاهرها لنفي ربوبيّة الأصنام لكنّ البيان بعينه بأدنى دقّة جار في أرباب الأصنام كالملائكة المقرّبين و الجنّ و الكمّلين من البشر و الكواكب من كلّ ما يعبده الوثنيّون فإنّ صفات الخلق و الإنعام و العلم لا تقوم بالأصالة و الاستقلال إلّا بالله سبحانه، و لا ربوبيّة حقيقة إلّا بالأصالة و الاستقلال، فافهم.

و في الآيتين أعني قوله:( وَ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ - إلى قوله -يُبْعَثُونَ ) التفات من الخطاب إلى الغيبة، و لعلّ النكتة فيه ذكر يوم البعث فيهما و المشركون لا يقولون به فحوّل الخطاب منهم إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للتوسّل بذلك إليه من غير اعتراض.

٢٣٤

و قوله:( إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ ) بيان لنتيجة الحجّة الّتي اُقيمت في الآيات السابقة أي إذا كان الله سبحانه هو الواجد لما تتوقّف عليه الاُلوهيّة و هي المعبوديّة بالحقّ، و غيره تعالى ممّن يدعون من دونه غير واجد لشي‏ء ممّا تتوقّف عليه و هو الخلق و الإنعام و العلم فإلهكم الّذي يحقّ له أن يعبد واحد و لازم معناه أنّه الله عزّ اسمه.

( بحث روائي)

في المجمع، أربعون آية من أوّلها مكّيّة و الباقي من قوله:( وَ الَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ ) إلى آخر السورة مدنيّة، عن الحسن و قتادة، و قيل: مكّيّة كلّها غير ثلاث آيات نزلت في انصراف النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من اُحد:( وَ إِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا ) إلى آخر السورة نزلت فيما بين مكّة و المدينة عن ابن عبّاس و عطاء و الشعبيّ، و في إحدى الروايات عن ابن عباس: بعضها مكّيّ و بعضها مدنيّ فالمكّيّ من أوّلها إلى قوله:( وَ لَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ ) ، و المدنيّ قوله:( وَ لا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلًا - إلى قوله -بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ ) .

أقول: و قد قدّمنا أنّ الّذي يعطيه السياق خلاف ذلك كلّه فراجع.

و في تفسير العيّاشيّ، عن هشام بن سالم عن بعض أصحابنا عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: سألته عن قول الله:( أَتى‏ أَمْرُ اللهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ ) قال: إذا أخبر الله النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بشي‏ء إلى وقت فهو قوله:( أَتى‏ أَمْرُ اللهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ ) حتّى يأتي ذلك الوقت و قال: إنّ الله إذا أخبر أنّ شيئاً كائن فكأنّه قد كان.

أقول: كأنّه إشارة إلى أنّ التعبير في الآية بلفظ الماضي لتحقّق الوقوع.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن مردويه عن ابن عبّاس قال: لما نزلت:( أَتى‏ أَمْرُ اللهِ ) ذعر أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتّى نزل( فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ ) فسكنوا.

و فيه، أخرج ابن جرير و ابن المنذر عن ابن جريج قال: لما نزلت هذه الآية:( أَتى‏ أَمْرُ اللهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ ) قال رجال من المنافقين بعضهم لبعض: إنّ هذا يزعم أنّ أمر الله قد أتى فأمسكوا عن بعض ما كنتم تعملون حتّى تنظروا ما هو كائن فلمّا

٢٣٥

رأوا أنّه لا ينزل شي‏ء قالوا: ما نراه نزل.

فنزلت:( اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ ) الآية فقالوا: إنّ هذا يزعم مثلها أيضاً فلمّا رأوا أنّه لا ينزل شي‏ء قالوا: ما نراه نزل شي‏ء فنزل:( وَ لَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى‏ أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ ) الآية.

أقول: و الرواية تدلّ على أنّ المسلمين كان بينهم قبل الهجرة منافقون كما يشهد به بعض آخر من الروايات.

و فيه، أخرج ابن أبي حاتم و الطبرانيّ و ابن مردويه و الحاكم و صحّحه عن عقبة بن عامر قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : تطلع عليكم قبل الساعة سحابة سوداء من قبل المغرب مثل الترس فلا تزال ترتفع في السماء حتّى تملأ السماء ثمّ ينادي مناد: يا أيّها الناس! فيقبل الناس بعضهم على بعض: هل سمعتم؟ فمنهم من يقول: نعم و منهم من يشكّ ثمّ ينادي الثانية: يا أيّها الناس فيقول الناس: هل سمعتم؟ فيقولون: نعم ثمّ ينادي: أيّها الناس أتى أمر الله فلا تستعجلوه.

قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : فوالّذي نفسي بيده إنّ الرجلين لينشران الثوب فما يطويانه و إنّ الرجل ليملؤ حوضه فما يسقي فيه شيئاً، و إنّ الرجل ليحلب ناقته فما يشربه و يشغل الناس.

أقول: و قد رام بعضهم أن يستفيد من هذه الروايات الثلاث - و في معناها بعض روايات اُخر - أنّ المراد بالأمر هو يوم القيامة و لا دلالة فيها على ذلك.

أمّا الرواية الاُولى فلا يدلّ ذعرهم أنّهم فهموا منها ذلك فإنّ أمر الله أيّا ما كان ممّا يهيب عباده على أنّه لا حجّة في فهمهم و ليس الشبهة مفهوميّة حتّى يرجع إليهم بما هم أهل اللسان.

على أنّ الرواية لا تخلو عن شي‏ء فإنّ الله سبحانه يعدّ الاستعجال بالقيامة من صفات الكفّار و يذمّهم عليه و يبرّئ المؤمنين منه قال:( وَ الَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها ) الشورى: ١٨ و قد مرّت الإشارة إليه في البيان المتقدّم هذا إذا كان الخطاب في قوله:( فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ ) للمؤمنين، و أمّا إذا كان المخاطب به المشركين و هم

٢٣٦

كانوا يستعجلونه، فمعنى النهي عن استعجالهم هو حلول الأجل و قرب الوقوع لا الإمهال و الإنظار، و لا معنى حينئذ لسكونهم لما سمعوا قوله:( فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ ) .

و أمّا الرواية الثانية فظاهرها أنّهم فهموا منها العذاب الدنيويّ دون الساعة فهي تؤيّد ما قدّمناه في البيان لا ما ذكروه.

و أمّا الرواية الثالثة فأقصى ما تدلّ عليه أنّ قيام الساعة من مصاديق إتيان أمر الله و لا ريب في ذلك و هو غير كون المراد بالأمر في الآية هو الساعة.

و في كتاب الغيبة، للنعمانيّ بإسناده عن عبدالرحمن بن كثير عن أبي عبداللهعليه‌السلام : في قوله عزّوجلّ:( أَتى‏ أَمْرُ اللهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ ) قال: هو أمرنا أمر الله عزّوجلّ فلا يستعجل به يؤيّده بثلاثة أجناد: الملائكة و المؤمنون و الركب، و خروجه كخروج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و ذلك قوله:( كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالحقّ ) .

أقول: و رواه المفيد في كتاب الغيبة، عن عبد الرحمن عنهعليه‌السلام ‏، و مراده ظهور المهديّعليه‌السلام كما صرّح به في روايات اُخر و هو من جري القرآن أو بطنه.

و في الكافي، بإسناده عن سعد الإسكاف قال: أتى رجل أميرالمؤمنينعليه‌السلام يسأله عن الروح أ ليس هو جبرئيل؟ فقال له أميرالمؤمنينعليه‌السلام : جبرئيل من الملائكة و الروح غير جبرئيل، فكبر ذلك على الرجل فقال له: لقد قلت عظيما من القول ما أحد يزعم أنّ الروح غير جبرئيل. فقال له أميرالمؤمنينعليه‌السلام : إنّك ضالّ تروي عن أهل الضلال، يقول الله لنبيّه:( أَتى‏ أَمْرُ اللهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحانَهُ وَ تَعالى‏ عَمَّا يُشْرِكُونَ يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ ) و الروح غير الملائكة.

أقول: و هو يؤيّد ما قدّمناه، و في روايات اُخر: أنّه خلق أعظم من جبرئيل.

و في تفسير القمّيّ، في قوله تعالى:( فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ ) قالعليه‌السلام : خلقه من قطرة من ماء مهين فيكون خصيماً متكلّماً بليغاً.

و فيه، في قوله تعالى:( حِينَ تُرِيحُونَ وَ حِينَ تَسْرَحُونَ ) قالعليه‌السلام : حين ترجع من المرعى و حين تخرج إلى المرعى.

و في تفسير العيّاشيّ، عن زرارة عن أحدهماعليهما‌السلام قال: سألته عن أبوال الخيل

٢٣٧

و البغال و الحمير قال: نكرهها، قلت: أ ليس لحمها حلالا؟ قال: فقال: أ ليس قد بيّن الله لكم:( وَ الْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْ‏ءٌ وَ مَنافِعُ وَ مِنْها تَأْكُلُونَ ) و قال في الخيل و البغال و الحمير:( لِتَرْكَبُوها وَ زِينَةً ) فجعل الأكل من الأنعام الّتي قصّ الله في الكتاب، و جعل للركوب الخيل و البغال و الحمير و ليس لحومها بحرام و لكنّ الناس عافوها.

أقول: و الروايات في الخيل و البغال و الحمير مختلفة و مذهب أهل البيتعليهم‌السلام حلّيّة أكل لحومها على كراهية.

و في تفسير القمّيّ، في قوله تعالى:( وَ يَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ ) قال: قالعليه‌السلام : العجائب الّتي خلقها الله في البرّ و البحر.

و في الدرّ المنثور، في قوله تعالى:( وَ عَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَ مِنْها جائِرٌ ) أخرج عبد بن حميد و ابن المنذر و ابن الأنباري في المصاحف عن عليّ أنّه كان يقرأ هذه الآية:( فمنكم جائر) .

و في تفسير العيّاشيّ، عن إسماعيل بن أبي زياد عن جعفر بن محمّد عن أبيه عن آبائه عن عليّعليهم‌السلام قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( وَ بِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ ) قال: هو الجدي لأنّه نجم لا يدور عليه بناء القبلة، و به يهتدي أهل البرّ و البحر.

أقول: و هو مرويّ عن الصادقعليه‌السلام أيضا.

و في الكافي، بإسناده عن داود الجصّاص قال: سمعت أبا عبداللهعليه‌السلام يقول:( وَ عَلاماتٍ وَ بِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ ) قال: النجم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و العلامات الأئمّةعليهم‌السلام .

أقول: و رواه أيضاً بطريقين آخرين عنه و عن الرضاعليهما‌السلام و رواه العيّاشيّ و القمّيّ في تفسيريهما، و الشيخ في أماليه، عن الصادقعليه‌السلام .

و ليس بتفسير و إنّما هو من البطن و من الدليل عليه‏ ما رواه الطبرسيّ في المجمع، قال: قال أبوعبداللهعليه‌السلام : نحن العلامات و النجم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و لقد قال: إنّ الله جعل النجوم أماناً لأهل السماء و جعل أهل بيتي أماناً لأهل الأرض.

٢٣٨

( سورة النحل الآيات ٢٢ - ٤٠)

إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ  فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُم مُّنكِرَةٌ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ ( ٢٢ ) لَا جَرَمَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ  إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ ( ٢٣ ) وَإِذَا قِيلَ لَهُم مَّاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ  قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ( ٢٤ ) لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ  وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ  أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ ( ٢٥ ) قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللهُ بُنْيَانَهُم مِّنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ ( ٢٦ ) ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ  قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ ( ٢٧ ) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ  فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوءٍ  بَلَىٰ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ( ٢٨ ) فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا  فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ ( ٢٩ ) وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ  قَالُوا خَيْرًا  لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ  وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ  وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ ( ٣٠ ) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ  لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ  كَذَٰلِكَ يَجْزِي اللهُ الْمُتَّقِينَ ( ٣١ ) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ  يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ( ٣٢ ) هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَن تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ

٢٣٩

أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ  كَذَٰلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ  وَمَا ظَلَمَهُمُ اللهُ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ( ٣٣) فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ( ٣٤) وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ نَّحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ  كَذَٰلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ  فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ( ٣٥) وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ  فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ  فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ( ٣٦) إِن تَحْرِصْ عَلَىٰ هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي مَن يُضِلُّ  وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ( ٣٧) وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ  لَا يَبْعَثُ اللهُ مَن يَمُوتُ  بَلَىٰ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ( ٣٨) لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ( ٣٩) إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ( ٤٠)

( بيان)

هذا هو الشطر الثاني من آيات صدر السورة، و قد كان الشطر الأوّل يتضمّن توحيد الربوبيّة و إقامة الحجّة على المشركين في ذلك بعد ما أنذرهم بإتيان الأمر و نزّه الله سبحانه عن شركهم.

و هذا الشطر الثاني يتضمّن ما يناسب المقام ذكره من مساوي صفات المشركين المتفرّعة على إنكارهم التوحيد و أباطيل أقوالهم كاستكبارهم على الله و استهزائهم

٢٤٠

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444