الميزان في تفسير القرآن الجزء ٥

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 444

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 444
المشاهدات: 86777
تحميل: 10312


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 444 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 86777 / تحميل: 10312
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 5

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

الّذي ذكره الله عزّوجلّ،؟ قال: من لا يحسن سورة من سور القرآن، و قد خلقه الله عزّوجلّ خلقه ما ينبغي لأحد أن لا يحسن.

أقول: و ههنا روايات اُخر غير ما أوردناه لكنّ ما مرّ منها حاو لمجامع ما فيها من المقاصد، و الروايات و إن كانت بحسب بادئ النظر مختلفة لكنّها مع قطع النظر عن خصوصيّات بياناتها بحسب خصوصيّات مراتب الاستضعاف تتّفق في مدلول واحد هو مقتضى إطلاق الآية على ما قدّمناه، و هو أنّ الاستضعاف عدم الاهتداء إلى الحقّ من غير تقصير.

٦١

( سورة النساء الآيات ١٠١ - ١٠٤)

وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُوا مِنَ الصّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الّذِينَ كَفَرُوا إِنّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوا مُبِيناً( ١٠١) وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُم مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِن وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى‏ لَمْ يُصَلّوا فَلْيُصَلّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدّ الّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُم مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذَىً مِن مَطَرٍ أَوْ كُنتُم مَرْضَى‏ أَن تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنّ اللّهَ أَعَدّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُهِيناً( ١٠٢) فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصّلاَةَ فَاذْكُرُوا اللّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى‏ جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُوا الصّلاَةَ إِنّ الصّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً( ١٠٣) وَلاَ تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِن تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً( ١٠٤)

( بيان)

الآيات تشرّع صلاة الخوف و القصر في السفر، و تنتهي إلى ترغيب المؤمنين في تعقيب المشركين و ابتغائهم، و هي مرتبطة بالآيات السابقة المتعرّضة للجهاد و ما لها من مختلف الشؤون.

قوله تعالى: ( وَ إِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ ) الجناح الإثم و الحرج و العدول، و القصر النقص من الصلاة، قال في المجمع: في قصر الصلاة ثلاث لغات: قصرت الصلاة أقصرها و هي لغة القرآن، و قصّرتها تقصيراً، أقصرتها إقصاراً.

٦٢

و المعنى: إذا سافرتم فلا مانع من حرج و إثم أن تنقصوا شيئاً من الصلاة، و نفي الجناح الظاهر وحده في الجواز لا ينافي وروده في السياق للوجوب كما في قوله تعالى:( إِنَّ الصَّفا وَ الْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ الله فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما ) (البقرة: ١٥٨) مع كون الطواف واجباً، و ذلك أنّ المقام مقام التشريع، و يكفي فيه مجرّد الكشف عن جعل الحكم من غير حاجة إلى استيفاء جميع جهات الحكم و خصوصيّاته، و نظير الآية بوجه قوله تعالى:( وَ أَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ ) الآية: (البقرة: ١٨٤).

قوله تعالى: ( إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا ) ، الفتنة و إن كانت ذات معان كثيرة مختلفة لكنّ المعهود من إطلاقها في القرآن في خصوص الكفّار و المشركين التعذيب من قتل أو ضرب و نحوهما، و قرائن الكلام أيضاً تؤيّد ذلك فالمعنى: إن خفتم أن يعذّبوكم بالحملة و القتل.

و الجملة قيد لقوله:( فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ ) ، جُناحٌ و تفيد أنّ بدء تشريع القصر في الصلاة إنّما كان عند خوف الفتنة، و لا ينافي ذلك أن يعمّ التشريع ثانياً جميع صور السفر الشرعيّ و إن لم يجامع الخوف فإنّما الكتاب بيّن قسماً منه، و السنّة بيّنت شموله لجميع الصور كما سيأتي في الروايات.

قوله تعالى: ( وَ إِذا كُنْتَ فِيهِمْ - إلى قوله -وَ لْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَ أَسْلِحَتَهُمْ ) الآية، تذكر كيفيّة صلاة الخوف، و توجّه الخطاب إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بفرضه إماماً في صلاة الخوف، و هذا من قبيل البيان بإيراد المثال ليكون أوضح في عين أنّه أوجز و أجمل.

فالمراد بقوله:( فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ ) هو الصلاة جماعة، و المراد بقوله:( فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ ) قيامهم في الصلاة مع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بنحو الايتمام، و هم المأمورون بأخذ الأسلحة، و المراد بقوله:( فَإِذا سَجَدُوا ) إلخ إذا سجدوا و أتمّوا الصلاة ليكون هؤلاء بعد إتمام سجدتهم من وراء القوم، و كذا المراد بقوله:( وَ لْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَ أَسْلِحَتَهُمْ ) أن تأخذ الطائفة الثانية المصلّية مع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حذرهم و أسلحتهم.

و المعنى - و الله أعلم -: و إذا كنت أنت يا رسول الله فيهم و الحال حال الخوف فأقمت

٦٣

لهم الصلاة أي صلّيتهم جماعة فأممتهم فيها، فلا يدخلوا في الصلاة جميعاً بل لتقم طائفة منهم معك بالاقتداء بك و ليأخذوا معهم أسلحتهم، و من المعلوم أنّ الطائفة الاُخرى يحرسونهم و أمتعتهم فإذا سجد المصلّون معك و فرغوا من الصلاة فليكونوا وراءكم يحرسونكم و الأمتعة و لتأت طائفة اُخرى لم يصلّوا فليصلّوا معك، و ليأخذ هؤلاء المصلّون أيضاً كالطائفة الاُولى المصلّية حذرهم و أسلحتهم.

و توصيف الطائفة بالاُخرى، و إرجاع ضمير الجمع المذكّر إليها رعاية تارة لجانب اللّفظ و اُخرى لجانب المعنى، كما قيل. و في قوله تعالى:( وَ لْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَ أَسْلِحَتَهُمْ ) نوع من الاستعارة لطيف، و هو جعل الحذر آلة للدفاع نظير السلاح حيث نسب إليه الأخذ الّذي نسب إلى الأسلحة، كما قيل.

قوله تعالى: ( وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ - إلى قوله -واحِدَةً ) في مقام التعليل للحكم المشرّع، و المعنى ظاهر.

قوله تعالى: ( وَ لا جُناحَ عَلَيْكُمْ ) إلى آخر الآية. تخفيف آخر و هو أنّهم إن كانوا يتأذّون من مطر ينزل عليهم أو كان بعضهم مرضى فلا مانع من أن يضعوا أسلحتهم لكن يجب عليهم مع ذلك أن يأخذوا حذرهم، و لا يغفلوا عن الّذين كفروا فهم مهتمّون بهم.

قوله تعالى: ( فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا الله قِياماً وَ قُعُوداً وَ عَلى‏ جُنُوبِكُمْ ) و القيام و القعود جمعان أو مصدران، و هما حالان و كذا قوله:( عَلى‏ جُنُوبِكُمْ ) و هو كناية عن الذكر المستمرّ المستوعب لجميع الأحوال.

قوله تعالى: ( فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ ) إلخ المراد بالاطمينان الاستقرار، و حيث قوبل به قوله:( وَ إِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ ) ، على ما يؤيّده السياق كان الظاهر أنّ المراد به الرجوع إلى الأوطان، و على هذا فالمراد بإقامة الصلاة إتمامها فإنّ التعبير عن صلاة الخوف بالقصر من الصلاة يلوّح إلى ذلك.

قوله تعالى: ( إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً ) الكتابة كناية عن الفرض و الإيجاب كقوله تعالى:( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ ) (البقرة: ١٨٣) و الموقوت من وقتّ كذا أي جعلت له وقتاً فظاهر اللّفظ أنّ الصلاة فريضة موقّتة منجّمة تؤدّي في أوقاتها و نجومها.

٦٤

و الظاهر أنّ الوقت في الصلاة كناية عن الثبات و عدم التغيّر بإطلاق الملزوم على لازمه فالمراد بكونها كتاباً موقوتاً أنّها مفروضة ثابتة غير متغيّرة أصلاً فالصلاة لا تسقط بحال، و ذلك أنّ إبقاء لفظ الموقوت على بادئ ظهوره لا يلائم ما سبقه من المضمون إذ لا حاجة تمسّ إلى التعرّض لكون الصلاة عبادة ذات أوقات معيّنة مع أنّ قوله:( إِنَّ الصَّلاةَ ) ، في مقام التعليل لقوله:( فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ ) فالظاهر أنّ المراد بكونها موقوتة كونها ثابتة لا تسقط بحال، و لا تتغيّر و لا تتبدّل إلى شي‏ء آخر كالصوم إلى الفدية مثلاً.

قوله تعالى: ( وَ لا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ ) ، الوهن الضعف، و الابتغاء الطلب، و الألم مقابل اللّذة، و قوله:( وَ تَرْجُونَ مِنَ الله ما لا يَرْجُونَ ) حال من ضمير الجمع الغائب، و المعنى: أنّ حال الفريقين في أنّ كلّاً منهما يألم واحد، فلستم أسوأ حالاً من أعدائكم، بل أنتم أرفه منهم و أسعد حيث إنّ لكم رجاء الفتح و الظفر و المغفرة من ربّكم الّذي هو وليّكم، و أمّا أعداؤكم فلا مولى لهم و لا رجاء لهم من جانب يطيّب نفوسهم، و ينشّطهم في عملهم. و يسوقهم إلى مبتغاهم، و كان الله عليماً بالمصالح، حكيماً متقناً في أمره و نهيه.

( بحث روائي)

في تفسير القمّيّ، نزلت - يعني آية صلاة الخوف - لمّا خرج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى الحديبية يريد مكّة، فلمّا وقع الخبر إلى قريش، بعثوا خالد بن الوليد في مائتي فارس، ليستقبل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فكان يعارض رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على الجبال، فلمّا كان في بعض الطريق، و حضرت صلاة الظهر أذّن بلال، و صلّى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالناس، فقال خالد بن الوليد: لو كنّا حملنا عليهم و هم في الصلاة لأصبناهم، فإنّهم لا يقطعون صلاتهم، و لكن يجي‏ء لهم الآن صلاة اُخرى هي أحبّ إليهم من ضياء أبصارهم، فإذا دخلوا في الصلاة أغرنا عليهم فنزل جبرائيل على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بصلاة الخوف في قوله:( وَ إِذا كُنْتَ فِيهِمْ )

و في المجمع، في قوله:( وَ لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ ) (الآية)

٦٥

إنّها نزلت و النبيّ بعسفان و المشركون بضجنان فتواقفوا فصلّى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و أصحابه صلاة الظهر بتمام الركوع و السجود فهمّ المشركون بأن يغيروا عليهم، فقال بعضهم: إنّ لهم صلاة اُخرى أحبّ إليهم من هذه - يعنون صلاة العصر - فأنزل الله عليه هذه الآية فصلّى بهم العصر صلاة الخوف، و كان ذلك سبب إسلام خالد بن الوليد. القصّة.

و فيه: ذكر أبوحمزة - يعني الثماليّ - في تفسيره: أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم غزا محارباً ببني أنمار فهزمهم الله، و أحرزوا الذراري و المال، فنزل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و المسلمون و لا يرون من العدوّ واحداً فوضعوا أسلحتهم و خرج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليقضي حاجته، و قد وضع سلاحه فجعل بينه و بين أصحابه الوادي، فإلى أن يفرغ من حاجته، و قد درأ الوادي، و السماء ترشّ فحال الوادي بين رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و بين أصحابه و جلس في ظلّ شجرة فبصر به الغورث بن الحارث المحاربيّ فقال له أصحابه: يا غورث هذا محمّد قد انقلع من أصحابه. فقال: قتلني الله إن لم أقتله، و انحدر من الجبل و معه السيف، و لم يشعر به رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلّا و هو قائم على رأسه و معه السيف قد سلّه من غمده، و قال: يا محمّد من يعصمك منّي الآن؟ فقال الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : الله. فانكبّ عدوّ الله لوجهه فقام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأخذ سيفه، و قال: يا غورث من يمنعك منّي الآن؟ قال: لا أحد. قال: أ تشهد أن لا إله إلّا الله، و أنّي عبدالله و رسوله؟ قال: لا، و لكنّي أعهد أن لا اُقاتلك أبداً، و لا اُعين عليك عدوّاً، فأعطاه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سيفه، فقال له غورث: و الله لأنت خير منّي. قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنّي أحقّ بذلك.

و خرج غورث إلى أصحابه فقالوا: يا غورث لقد رأيناك قائماً على رأسه بالسيف فما منعك منه؟ قال: الله، أهويت له بالسيف لأضربه فما أدري من زلجني بين كتفي؟ فخررت لوجهي، و خرّ سيفي، و سبقني إليه محمّد و أخذه، و لم يلبث الوادي أن سكن فقطع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى أصحابه فأخبرهم الخبر، و قرأ عليهم( إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ ) الآية كلّها.

و في الفقيه، بإسناده عن عبدالرحمن بن أبي عبدالله عن الصادقعليه‌السلام أنّه قال: صلّى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأصحابه في غزاة ذات الرقاع، ففرّق أصحابه فرقتين، فأقام فرقة

٦٦

بإزاء العدوّ و فرقة خلفه، فكبّر و كبّروا، فقرأ و أنصتوا، فركع و ركعوا، فسجد و سجدوا، ثمّ استمرّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قائماً فصلّوا لأنفسهم ركعة ثمّ سلّم بعضهم على بعض، ثمّ خرجوا إلى أصحابهم فقاموا بإزاء العدوّ.

و جاء أصحابهم فقاموا خلف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فكبّر و كبروا، و قرأ فأنصتوا، و ركع فركعوا، و سجد و سجدوا، ثمّ جلس رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فتشهّد ثمّ سلّم عليهم فقاموا فقضوا لأنفسهم ركعة ثمّ سلّم بعضهم على بعض، و قد قال تعالى لنبيّه( و إذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة - إلى قوله - كِتاباً مَوْقُوتاً) فهذه صلاة الخوف الّتي أمر الله عزّوجلّ بها نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

و قال: من صلّى المغرب في خوف بالقوم صلّى بالطائفة الاُولى ركعة، و بالطائفة الثانية ركعتين‏. (الحديث).

و في التهذيب، بإسناده عن زرارة قال: سألت أباجعفرعليه‌السلام عن صلاة الخوف و صلاة السفر تقصران جميعاً؟ قال: نعم، و صلاة الخوف أحقّ أن تقصر من صلاة السفر ليس فيه خوف‏.

و في الفقيه، بإسناده عن زرارة و محمّد بن مسلم. إنّهما قالا: قلنا لأبي جعفرعليه‌السلام : ما تقول في صلاة السفر؟ كيف هي و كم هي؟ فقال: إنّ الله عزّوجلّ يقول:( وَ إِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ ) فصار التقصير في السفر واجباً كوجوب التامّ في الحضر. قالا: قلنا: إنّما قال الله عزّوجلّ:( فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ ) و لم يقل: افعلوا، كيف أوجب ذلك كما أوجب التمام في الحضر؟ فقالعليه‌السلام : أ و ليس قد قال الله( إِنَّ الصَّفا وَ الْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ الله فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما ) أ لا ترون أن الطواف بهما واجب مفروض؟ لأنّ الله عزّوجلّ ذكره في كتابه، و صنعه نبيّه، و كذلك التقصير في السفر شي‏ء صنعه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذكره الله تعالى في كتابه.

قالا: فقلنا له: فمن صلّى في السفر أربعاً أ يعيد أم لا؟ قال: إن كان قد قرئت عليه آية التقصير و فسّرت له فصلّى أربعاً أعاد، و إن لم تكن قرئت عليه و لم يكن يعلمها فلا إعادة عليه.

٦٧

و الصلوات كلّها في السفر الفريضة ركعتان كلّ صلاة إلّا المغرب فإنّها ثلاث ليس فيها تقصير تركها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في السفر و الحضر ثلاث ركعات‏. (الحديث).

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن أبي شيبة و عبد بن حميد و أحمد و مسلم و أبوداود و الترمذيّ و النسائيّ و ابن ماجة و ابن الجارود و ابن خزيمة و الطحاريّ و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و النحّاس في ناسخه و ابن حبّان عن يعلى بن اُميّة قال: سألت عمر بن الخطّاب، قلت:( فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا ) و قد أمن الناس؟ فقال لي عمر: عجبت ممّا عجبت منه فسألت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن ذلك فقال: صدقة تصدّق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته.

و فيه، أخرج عبد بن حميد و النسائيّ و ابن ماجة و ابن حبّان و البيهقيّ في سننه عن اُميّة بن خالد بن أسد: أنّه سأل ابن عمر: أ رأيت قصر الصلاة في السفر؟ إنّا لا نجدها في كتاب الله، إنّما نجد ذكر صلاة الخوف. فقال ابن عمر: يا ابن أخي إنّ الله أرسل محمّداًصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و لا نعلم شيئاً، فإنّما نفعل كما رأينا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يفعل و قصر الصلاة في السفر سنّة سنّها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

و فيه: أخرج ابن أبي شيبة و الترمذيّ و صحّحه و النسائيّ عن ابن عبّاس قال: صلّينا مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بين مكّة و المدينة و نحن آمنون لا نخاف شيئاً ركعتين.

و فيه: أخرج ابن أبي شيبة و أحمد و البخاريّ و مسلم و أبوداود و الترمذيّ و النسائيّ عن حارثة بن وهب الخزاعيّ قال: صلّيت مع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الظهر و العصر بمنى أكثر ما كان الناس و آمنه ركعتين.

و في الكافي، بإسناده عن داود بن فرقد قال: قلت لأبي عبداللهعليه‌السلام : قوله تعالى:( إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً ) ؟ قال: كتاباً ثابتاً، و ليس إن عجّلت قليلاً أو أخّرت قليلاً بالّذي يضرّك ما لم تضع تلك الإضاعة فإنّ الله عزّوجلّ يقول:( أَضاعُوا الصَّلاةَ وَ اتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا ) .

أقول: إشارة إلى أنّ الفرائض موسّعة من جهة الوقت كما يدلّ عليه روايات اُخر.

و في تفسير العيّاشيّ، عن محمّد بن مسلم عن أحدهماعليهما‌السلام : قال في صلاة المغرب

٦٨

في السفر: لا تترك إن تأخّرت ساعة، ثمّ تصلّيها إن أحببت أن تصلّي العشاء الآخرة، و إن شئت مشيت ساعة إلى أن يغيب الشفق، إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صلّى صلاة الهاجرة و العصر جميعاً، و المغرب و العشاء الآخرة جميعاً، و كان يؤخّر و يقدم أنّ الله تعالى قال:( إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً ) إنّما عنى وجوبها على المؤمنين، لم يعن غيره، إنّه لو كان كما يقولون لم يصلّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هكذا، و كان أعلم و أخبر و كان كما يقولون، و لو كان خيراً لأمر به محمّد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

و قد فات الناس مع أميرالمؤمنينعليه‌السلام يوم صفّين صلاة الظهر و العصر و المغرب و العشاء الآخرة، و أمرهم عليّ أميرالمؤمنينعليه‌السلام فكبّروا و هلّلوا و سبّحوا رجالاً و ركباناً لقول الله( فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالًا أَوْ رُكْباناً ) فأمر عليّعليه‌السلام فصنعوا ذلك.

أقول: و الروايات كما ترى توافق ما قدّمناه في البيان السابق و الروايات في المعاني السابقة و خاصّة من طرق أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام كثيرة جدّاً، و إنّما أوردنا اُنموذجاً ممّا ورد منها.

و اعلم أنّ هناك من طرق أهل السنّة روايات اُخرى تعارض ما تقدّم، و هي مع ذلك تتدافع في أنفسها، و النظر فيها و في سائر الروايات الحاكية لكيفيّة صلاة الخوف خاصّة و صلاة القصر في السفر عامّة ممّا هو راجع إلى الفقه.

و في تفسير القمّيّ، في قوله:( وَ لا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ ) (الآية) إنّه معطوف على قوله في سورة آل عمران:( إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ ) . و قد ذكرنا هناك سبب نزول الآية.

٦٩

( سورة النساء الآيات ١٠٥ - ١٢٦)

إِنّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ وَلاَ تَكُن لِلْخَائِنِينَ خَصِيماً( ١٠٥) وَاسْتَغْفِرِ اللّهَ إِنّ اللّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً( ١٠٦) وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنّ اللّهَ لاَ يُحِبّ مَن كَانَ خَوّاناً أَثِيماً( ١٠٧) يَسْتَخْفُونَ مِنَ النّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى‏ مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً( ١٠٨) ها أَنْتُمْ هؤُلاَءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا فَمَن يُجَادِلُ اللّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَم مَن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً( ١٠٩) وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمّ يَسْتَغْفِرِ اللّهَ يَجِدِ اللّهَ غَفُوراً رَحِيماً( ١١٠) وَمَن يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى‏ نَفْسِهِ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً( ١١١) وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً( ١١٢) وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَن يُضِلّوكَ وَمَا يُضِلّونَ إِلّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرّونَكَ مِن شَيْ‏ءٍ وَأَنْزَلَ اللّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً( ١١٣) لاَ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِن نَجْوَاهُمْ إِلّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً( ١١٤) وَمَن يُشَاقِقِ الرّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيّنَ لَهُ الْهُدَى‏ وَيَتّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلّهِ مَا تَوَلّى‏ وَنُصْلِهِ جَهَنّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً( ١١٥) إِنّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَن يَشَاءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ ضَلّ ضَلاَلاً بَعِيداً( ١١٦) إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلّا إِنَاثاً وَإِن يَدْعُونَ إِلّا شَيْطَاناً مَرِيداً( ١١٧) لَعَنَهُ اللّهُ وَقَالَ لَأَتّخِذَنّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً( ١١٨) وَلَأُضِلّنّهُمْ وَلَأُمَنّيَنّهُمْ وَلَأَمُرَنّهُمْ فَلَيُبَتّكُنّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلْأَمُرَنّهُمْ فَلَيُغَيّرُنّ خَلْقَ اللّهِ وَمَن يَتّخِذِ الشّيْطَانَ وَلِيّاً مِن دُونِ اللّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُبِيناً( ١١٩) يَعِدُهُمْ وَيُمَنّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشّيْطَانُ إِلّا غُرُوراً( ١٢٠) أُولئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنّمُ

٧٠

وَلاَ يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصاً( ١٢١) وَالّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً وَعْدَ اللّهِ حَقّاً وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ قِيلاً( ١٢٢) لَيْسَ بِأَمَانِيّكُمْ وَلاَ أَمَانِيّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً( ١٢٣) وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصّالِحَاتِ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى‏ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيراً( ١٢٤) وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للّهِ‏ِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتّبَعَ مِلّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَاتّخَذَ اللّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً( ١٢٥) وَللّهِ‏ِ مَا فِي السّماوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللّهُ بِكُلّ شَيْ‏ءٍ مُحِيطاً( ١٢٦)

( بيان)

الّذي يفيده التدبّر في الآيات أنّها ذات سياق واحد تتعرّض للتوصية بالعدل في القضاء، و النهي عن أن يميل القاضي في قضائه، و الحاكم في حكمه إلى المبطلين، و يجور على المحقّين كائنين من كانوا.

و ذلك بالإشارة إلى بعض الحوادث الواقعة عند نزول الآيات، ثمّ البحث فيما يتعلّق بذلك من الحقائق الدينيّة و الأمر بلزومها و رعايتها، و تنبيه المؤمنين أنّ الدين إنّما هو حقيقة لا اسم، و إنّما ينفع التلبّس به دون التسمّي.

و الظاهر أنّ هذه القصّة هي الّتي يشير إليها قوله تعالى:( وَ مَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَ إِثْماً مُبِيناً ) حيث يدلّ على أنّه كان هناك شي‏ء من المعاصي الّتي تقبل الرمي كسرقة أو قتل أو إتلاف أو إضرار و نحوها، و أنّه كان من المتوقّع أن يهتمّوا بإضلال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حكمه و الله عاصمه.

و الظاهر أنّ هذه القصّة أيضاً هي الّتي تشير إليها الآيات الاُول كما في قوله تعالى:( وَ لا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً ) (الآية) و قوله:( يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ) (الآية) و قوله:( ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ ) إلخ فإنّ الخيانة و إن كان ظاهرها ما يكون في الودائع و الأمانات لكنّ سياق قوله:( إِنَّ الله لا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً أَثِيماً يَسْتَخْفُونَ

٧١

مِنَ النَّاسِ ) كما سيجي‏ء بيانه يعطي أنّ المراد بها ما يتحقّق في سرقة و نحوها بعناية أنّ المؤمنين كنفس واحدة، و ما لبعضهم من المال مسؤول عنه البعض الآخر من حيث رعاية احترامه، و الاهتمام بحفظه و حمايته، فتعدّي بعضهم إلى مال البعض خيانة منهم لأنفسهم.

فالتدبّر يقرّب أن القصّة كأنّها سرقة وقعت من بعضهم ثمّ رفع الأمر إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فرمى بها السارق غيره ممّن هو بري‏ء منها، ثمّ ألحّ قوم السارق عليهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يقضي لهم، و بالغوا في أن يغيّروهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على المتّهم البري‏ء فاُنزلت الآيات و برّأه الله ممّا قالوا.

فالآيات أشدّ انطباقاً على ما روي في سبب النزول من قصّة سرقة أبي طعمة بن الاُبيرق، و إن كانت أسباب النزول - كما سمعت مراراً - في أغلب ما رويت من قبيل تطبيق القصص المأثورة على ما يناسبها من الآيات القرآنيّة.

و يستفاد من الآيات حجّيّة قضائهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و عصمته و حقائق اُخر سيأتي بيانها إن شاء الله تعالى.

قوله تعالى: ( إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ الله ) ظاهر الحكم بين الناس هو القضاء بينهم في مخاصماتهم و منازعاتهم ممّا يرجع إلى الاُمور القضائيّة و رفع الاختلافات بالحكم، و قد جعل الله تعالى الحكم بين الناس غاية لإنزال الكتاب فينطبق مضمون الآية على ما يتضمّنه قوله تعالى:( كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ الله النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ وَ أَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ ) (الآية) (البقرة: ٢١٣) و قد مرّ تفصيل القول فيه.

فهذه الآية( إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ ) إلخ في خصوص موردها نظيرة تلك الآية( كانَ النَّاسُ اُمّة واحِدَةً ) ، في عمومها، و تزيد عليها في أنّها تدلّ على جعل حقّ الحكم لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و الحجّيّة لرأيه و نظره فإنّ الحكم و هو القطع في القضاء و فصل الخصومة لا ينفكّ عن إعمال نظر من القاضي الحاكم و إظهار عقيدة منه مضافاً إلى ما عنده من العلم بالأحكام العامّة و القوانين الكلّيّة في موارد الخصومة فإنّ

٧٢

العلم بكلّيّات الأحكام و حقوق الناس أمر، و القطع و الحكم بانطباق مورد النزاع على بعضها دون بعض أمر آخر.

فالمراد بالإراءة في قوله( لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ الله ) إيجاد الرأي و تعريف الحكم لا تعليم الأحكام و الشرائع كما احتمله بعضهم.

و مضمون الآية على ما يعطيه السياق أنّ الله أنزل إليك الكتاب و علّمك أحكامه و شرائعه و حكمه لتضيف إليها ما أوجد لك من الرأي و عرّفك من الحكم فتحكم بين الناس، و ترفع بذلك اختلافاتهم.

قوله تعالى: ( وَ لا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً ) عطف على ما تقدّمه من الجملة الخبريّة لكونها في معنى الإنشاء كأنّه قيل: فاحكم بينهم و لا تكن للخائنين خصيماً.

و الخصيم هو الّذي يدافع عن الدعوى و ما في حكمها، و فيه نهيهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن أن يكون خصيماً للخائنين على من يطالبهم بحقوقه فيدافع عن الخائنين و يبطل حقوق المحقّين من أهل الدعوى.

و ربّما أمكن أن يستفاد من عطف قوله:( وَ لا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ ) ، على ما تقدّمه و هو أمرهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمراً مطلقاً بالحكم أنّ المراد بالخيانة مطلق التعدّي على حقوق الغير ممّن لا ينبغي منه ذلك لا خصوص الخيانة للودائع و إن كان ربّما عطف الخاصّ على العامّ لعناية ما بشأنه لكنّ المورد كالخالي عن العناية، و سيجي‏ء لهذا الكلام تتمّة.

قوله تعالى: ( وَ اسْتَغْفِرِ الله إِنَّ الله كانَ غَفُوراً رَحِيماً ) الظاهر أنّ الاستغفار ههنا هو أن يطلب من الله سبحانه الستر على ما في طبع الإنسان من إمكان هضم الحقوق و الميل إلى الهوى و مغفرة ذلك، و قد مرّ مراراً أنّ العفو و المغفرة يستعملان في كلامه تعالى في شؤون مختلفة يجمعها جامع الذنب، و هو التباعد من الحقّ بوجه. فالمعنى - و الله أعلم -: و لا تكن للخائنين خصيماً و لا تمل إليهم، و اطلب من الله سبحانه أن يوفّقك لذلك و يستر على نفسك أن تميل إلى الدفاع عن خيانتهم و يتسلّط عليك هوى النفس. و الدليل على إرادة ذلك ما في ذيل الآيات( الكريمة وَ لَوْ لا فَضْلُ الله عَلَيْكَ وَ رَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَ ما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَ ما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْ‏ءٍ ) فإنّ

٧٣

الآية تنصّ على أنّهم لا يضرّون النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و إن بذلوا غاية جهدهم في تحريك عواطفه إلى إيثار الباطل و إظهاره على الحقّ فالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أمن إلهيّ من الضرر، و الله يعصمه فهو لا يجور في حكمه و لا يميل إلى الجور، و لا يتّبع الهوى، و من الجور و الميل إلى الهوى المذموم أن يفرّق في حكمه بين قويّ و ضعيف، أو صديق و عدوّ، أو مؤمن و كافر ذمّيّ، أو قريب و بعيد، فأمره بأن يستغفر ليس لصدور ذنب ذي وبال و تبعة منه، و لا لإشرافه على ما لا يحمد منه بل ليسأل من الله أن يظهره على هوى النفس، و لا ريب في حاجته في ذلك إلى ربّه و عدم استغنائه عنه و إن كان على عصمة، فإنّ لله سبحانه أن يفعل ما يشاء.

و هذه العصمة مدار عملها ما يعدّ طاعة و معصية، و ما يحمد أو يذمّ عليه من الأعمال لا ما هو الواقع الخارجيّ، و بعبارة اُخرى الآيات تدلّ على أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أمن من اتّباع الهوى، و الميل إلى الباطل، و أمّا أنّ الّذي يحكم و يقضي به بما شرّعه من القواعد و قوانين القضاء الظاهريّة كقوله( البيّنة على المدّعي و اليمين على من أنكر) و نحو ذلك يصادف دائماً ما هو الحقّ في الواقع فينتج دائماً غلبة المحقّ، و مغلوبيّة المبطل في دعواه، فالآيات لا تدلّ على ذلك أصلاً، و لا أنّ القوانين الظاهريّة في استطاعتها أن تهدي إلى ذلك قطعاً فإنّها أمارات مميّزة بين الحقّ و الباطل غالباً لا دائماً، و لا معنى لاستلزام الغالب الدائم و هو ظاهر.

و ممّا تقدّم يظهر ما في كلام بعض المفسّرين حيث ذكر في قوله تعالى:( وَ اسْتَغْفِرِ الله ) ، أنّه أمر بالاستغفار عمّا هم به النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الدفاع و الذبّ عن هذا الخائن المذكور في الآية، و قد سأله قومه أن يدفع عنه و يكون خصيماً له على يهوديّ. و ذلك أنّ هذا القدر أيضاً تأثير منهم بأثر مذموم، و قد نفى الله سبحانه عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كلّ ضرر.

قوله تعالى: ( وَ لا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ ) قيل: إنّ نسبة الخيانة إلى النفس لكون وبالها راجعاً إليها، أو يعدّ كلّ معصية خيانة للنفس كما عدّ ظلماً لها، و قد قال تعالى:( عَلِمَ الله أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ ) (البقرة: ١٨٧).

٧٤

و يمكن أن يستفاد من الآية بمعونة ما يدلّ عليه القرآن من أنّ المؤمنين كنفس واحدة، و أنّ مال الواحد منهم مال لجميعهم يجب على الجميع حفظه و صونه عن الضيعة و التّلف، كون تعدّي بعضهم على بعض بسرقة و نحوها اختياناً لأنفسهم.

و في قوله تعالى:( إِنَّ الله لا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً أَثِيماً ) دلالة على استمرار هؤلاء الخائنين في خيانتهم، و يؤكّده قوله:( أَثِيماً ) فإنّ الأثيم آكد في المعنى من الآثم و هو صفة مشبّهة تدلّ على الثبوت. على أنّ قوله:( يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ ) لا تخلو عن دلالة على الاستمرار، و كذا قوله:( لِلْخائِنِينَ ) حيث عبّر بالوصف و لم يعبّر بمثل قولنا: للّذين خانوا، كما عبّر بذلك في قوله:( فَقَدْ خانُوا الله مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ ) (الأنفال: ٧١).

فمن هذه القرائن و أمثالها يظهر أنّ معنى الآية - بالنظر إلى مورد النزول -: و لا تكن خصيماً لهؤلاء، و لا تجادل عنهم فإنّهم مصرّون على الخيانة مبالغون فيها ثابتون على الإثم، و الله لا يحبّ من كان خوّاناً أثيماً. و هذا يؤيّد ما ورد في أسباب النزول من نزول الآيات في أبي طعمة بن الاُبيرق. كما سيجي‏ء.

و معنى الآية - مع قطع النظر عن المورد -: و لا تدافع في قضائك عن المصرّين على الخيانة المستمرّين عليها، فإنّ الله لا يحبّ الخوّان الأثيم، و كما أنّه تعالى لا يحب كثير الخيانة لا يحبّ قليلها، و لو أمكن أن يحبّ قليلها أمكن أن يحبّ كثيرها و إذا كان كذلك فالله ينهى أن يدافع عن قليل الخيانة كما ينهى عن أن يدافع عن كثيرها و أمّا من خان في أمر ثمّ نازع في أمر آخر و هو محقّ في نزاعه، فالدفاع عنه دفاع غير محظور و لا ممنوع منه، و لا ينهى عنه قوله:( وَ لا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً ) (الآية).

قوله تعالى: ( يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَ لا يَسْتَخْفُونَ مِنَ الله ) ، و هذا أيضاً من الشواهد على ما قدّمناه من أنّ الآيات (١٠٥ - ١٢٦) جميعاً ذات سياق واحد، نازلة في قصّة واحدة، و هي الّتي يشير إليها قوله:( وَ مَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً ) (الآية)، و ذلك أنّ الاستخفاء إنّما يناسب الأعمال الّتي يمكن أن يرمى بها الغير كالسرقة و أمثال ذلك فيتأيّد به أنّ الّذي تشير إليه هذه الآية و ما تقدّمها من الآيات هو الّذي يشير إليه قوله:( وَ مَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ ) (الآية).

٧٥

و الاستخفاء من الله أمر غير مقدور إذ لا يخفى على الله شي‏ء في الأرض و لا في السماء فطرفه المقابل له أعني عدم الاستخفاء أيضاً أمر اضطراريّ غير مقدور، و إذا كان غير مقدور لم يتعلّق به لوم و لا تعيير كما هو ظاهر الآية. لكنّ الظاهر أنّ الاستخفاء كناية عن الاستحياء و لذلك قيّد قوله:( وَ لا يَسْتَخْفُونَ مِنَ الله ) (أوّلاً) بقوله:( وَ هُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ ما لا يَرْضى‏ مِنَ الْقَوْلِ ) فدلّ على أنّهم كانوا يدبّرون الحيلة ليلاً للتبرّي من هذه الخيانة المذمومة، و يبيّتون في ذلك قولاً لا يرضى به الله سبحانه ثمّ قيّده (ثانياً) بقوله:( وَ كانَ الله بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً ) و دلّ على إحاطته تعالى بهم في جميع الأحوال و منها حال الجرم الّذي أجرموه، و التقييد بهذين القيدين أعني قوله:( وَ هُوَ مَعَهُمْ ) ، و قوله:( وَ كانَ الله ) ، تقييد بالعامّ بعد الخاصّ، و هو في الحقيقة تعليل لعدم استخفائهم من الله بعلّة خاصّة ثمّ باُخرى عامّة.

قوله تعالى: ( ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ) (الآية) بيان لعدم الجدوى في الجدال عنهم، و أنّهم لا ينتفعون بذلك في صورة الاستفهام و المراد أنّ الجدال عنهم لو نفعهم فإنّما ينفعهم في الحياة الدنيا، و لا قدر لها عندالله، و أمّا الحياة الاُخرويّة الّتي لها عظيم القدر عندالله أو ظرف الدفاع فيها يوم القيامة فلا مدافع هناك عن الخائنين و لا مجادل عنهم بل لا وكيل لهم يومئذ يتكفّل تدبير اُمورهم و إصلاح شؤونهم.

قوله تعالى: ( وَ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ) (الآية) فيه ترغيب و حثّ لاُولئك الخائنين أن يرجعوا إلى ربّهم بالاستغفار، و الظاهر أنّ الترديد بين السوء و ظلم النفس و التدرّج من السوء إلى الظلم لكون المراد بالسوء التعدّي على الغير، و بالظلم التعدّي على النفس، أو أنّ السوء أهون من الظلم كالمعصية الصغيرة بالنسبة إلى الكبيرة، و الله أعلم.

و هذه الآية و الآيتان بعدها جميعاً كلام مسوق لغرض واحد، و هو بيان أمر الإثم الّذي يكسبه الإنسان بعمله، يتكفّل كلّ واحدة من الآيات الثلاث بيان جهة من جهاته، فالآية الاُولى تبيّن أنّ المعصية الّتي يقترفها الإنسان فيتأثّر بتبعتها

٧٦

نفسه و تكتب في كتاب أعماله، للعبد أن يتوب إلى الله منها و يستغفره فلو فعل ذلك وجد الله غفوراً رحيماً.

و الآية الثانية تذكّر الإنسان أنّ الإثمّ الّذي يكسبه إنّما يكسبه على نفسه و ليس بالّذي يمكن أن يتخطّاه و يلحق غيره برمي أو افتراء و نحو ذلك.

و الآية الثالثة توضح أنّ الخطيئة أو الإثم الّذي يكسبه الإنسان لو رمى به بريئاً غيره كان الرمي به إثماً آخر وراء أصل الخطيئة أو الإثم.

قوله تعالى: ( وَ مَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى‏ نَفْسِهِ وَ كانَ الله عَلِيماً حَكِيماً ) قد تقدّم أنّ الآية مرتبطة مضموناً بالآية التالية المتعرّضة للرمي بالخطيئة و الإثم فهذه كالمقدّمة لتلك، و على هذا فقوله:( فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى‏ نَفْسِهِ ) مسوق لقصر التعيين، و في الآية عظة لمن يكسب الإثم ثمّ يرمي به بريئاً غيره. و المعنى - و الله أعلم -: أنّه يجب على من يكسب إثماً أن يتذكّر أنّ ما يكسبه من الإثم فإنّما يكسبه على نفسه لا على غيره، و أنّه هو الّذي فعله لا غيره و إن رماه به أو تعهّد له هو أن يحمل إثمه و كان الله عليماً يعلم أنّه فعل هذا الكاسب، و أنّه الّذي فعله لا غيره المرميّ به، حكيماً لا يؤاخذ بالإثمّ إلّا آثمه، و بالوزر غير وازرتها كما قال تعالى:( لَها ما كَسَبَتْ وَ عَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ ) (البقرة: ٢٨٦)، و قال:( وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى‏ ) (الأنعام: ١٦٤) و قال:( وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَ لْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ وَ ما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْ‏ءٍ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ ) (العنكبوت: ١٢).

قوله تعالى: ( وَ مَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَ إِثْماً مُبِيناً ) ، قال الراغب في المفردات: إنّ من أراد شيئاً فاتّفق منه غيره يقال: أخطأ و إن وقع منه كما أراده يقال أصاب، و قد يقال لمن فعل فعلاً لا يحسن أو أراد إرادة لا تجمل: إنّه أخطأ. و لهذا يقال: أصاب الخطأ، و أخطأ الصواب، و أصاب الصواب، و أخطأ الخطأ. و هذه اللّفظة مشتركة كما ترى، متردّدة بين معان يجب لمن يتحرّى الحقائق أن يتأمّلها.

قال: و الخطيئة و السيّئة تتقاربان لكنّ الخطيئة أكثر ما تقال فيما لا يكون

٧٧

مقصوداً إليه في نفسه بل يكون القصد سبباً لتولّد ذلك الفعل منه كمن يرمي صيداً فأصاب إنساناً، أو شرب مسكراً فجنى جناية في سكره، و السبب سببان: سبب محظور فعله كشرب المسكر و ما يتولّد عنه من الخطأ غير متجاف عنه، و سبب غير محظور كرمي الصيد، قال تعالى:( لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَ لكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ ) و قال تعالى:( وَ مَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ) فالخطيئة ههنا هي الّتي لا تكون عن قصد إلى فعلها (انتهى).

و أظنّ أن الخطيئة من الأوصاف الّتي استغني عن موصوفاتها بكثرة الاستعمال كالمصيبة و الرزيّة و السليقة و نحوها، و وزن فعيل يدلّ على اختزان الحدث و استقراره، فالخطيئة هي العمل الّذي اختزن و استقرّ فيه الخطأ و الخطأ، الفعل الواقع الّذي لا يقصده الإنسان كقتل الخطأ، هذا في الأصل، ثمّ وسّع إلى ما لا ينبغي للإنسان أن يقصده لو كانت نفسه على سلامتها الفطريّة، فكلّ معصية و أثر معصية من مصاديق الخطأ على هذا التوسّع، و الخطيئة هي العمل أو أثر العمل الّذي لم يقصده الإنسان (و لا يعدّ حينئذ معصية) أو لم يكن ينبغي أن يقصده (و يعدّ حينئذ معصية أو وبال معصية).

لكنّ الله سبحانه لمّا نسبها في قوله:( وَ مَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً ) إلى الكسب كان المراد بها الخطيئة الّتي هي المعصية، فالمراد بالخطيئة في الآية هي الّتي تكون عن قصد إلى فعلها و إن كان من شأنها أن لا يقصد إليها.

و قد مرّ في قوله تعالى:( قُلْ فِيهِما إِثْمٌ ) (البقرة: ٢١٩) أنّ الإثم هو العمل الّذي يوجب بوباله حرمان الإنسان عن خيرات كثيرة كشرب الخمر و القمار و السرقة ممّا يصدّ الإنسان عن حيازة الخيرات الحيويّة، و يوجب انحطاطاً اجتماعيّاً يسقط الإنسان عن وزنه الاجتماعيّ و يسلب عنه الاعتماد و الثقة العامّة.

و على هذا فاجتماع الخطيئة و الإثم على نحو الترديد و نسبتهما جميعاً إلى الكسب في قوله:( وَ مَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ) (الآية) يوجب اختصاص كلّ منهما بما يختصّ به من المعنى، و المعنى - و الله أعلم -: أنّ من يكسب معصية لا تتجاوز موردها وبالاً

٧٨

كترك بعض الواجبات كالصوم أو فعل بعض المحرّمات كأكل الدم أو يكسب معصية يستمرّ وبالها كقتل النفس من غير حقّ و السرقة ثمّ يرم بها بريئاً بنسبتها إليه فقد احتمل بهتاناً و إثماً مبيناً.

و في تسمية نسبة العمل السيّئ إلى الغير رمياً - و الرمي يستعمل في مورد السهم - و كذا في إطلاق الاحتمال على قبول وزر البهتان استعارة لطيفة كأنّ المفتري يفتك بالمتّهم البري‏ء برميه بالسهم فيوجب له فتكه أن يتحمل حملاً يشغله عن كلّ خير مدى حياته من غير أن يفارقه.

و من ما تقدّم يظهر وجه اختلاف التعبير عن المعصية في الآيات الكريمة تارة بالإثم و اُخرى بالخطيئة و السوء و الظلم و الخيانة و الضلال، فكلّ واحد من هذه الألفاظ هو المناسب بمعناه لمحلّه الّذي حلّ فيه.

قوله تعالى: ( وَ لَوْ لا فَضْلُ الله عَلَيْكَ وَ رَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ ) إلى آخر الآية السياق يدلّ على أنّ المراد بهمّهم بإضلال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو همّهم أن يرضوه بالدفاع عن الّذين سمّاهم الله تعالى في صدر الآيات بالخائنين و الجدال عنهم و على هذا فالمراد بهذه الطائفة أيضاً هم الّذين عدل الله سبحانه إلى خطابهم بقوله:( ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ) (الآية) و ينطبق على قوم أبي طعمة على ما سيجي‏ء.

و أمّا قوله:( وَ ما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ ) فالمراد به بقرينة قوله بعده:( وَ ما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْ‏ءٍ ) ، أنّ إضلال هؤلاء لا يتعدّى أنفسهم و لا يتجاوزهم إليك، فهم الضالّون بما همّوا به لأنّه معصية و كلّ معصية ضلال.

و لهذا الكلام معنى آخر تقدّمت الإشارة إليه في الكلام على قوله:( وَ ما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَ ما يَشْعُرُونَ ) (آل عمران: ٦٩) في الجزء الثالث من هذا الكتاب، لكنّه لا يناسب هذا المقام.

و أمّا قوله:( وَ ما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْ‏ءٍ وَ أَنْزَلَ الله عَلَيْكَ ) ، ففيه نفي إضرارهم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نفياً مطلقاً غير أنّ ظاهر السياق أنّه مقيّد بقوله:( وَ أَنْزَلَ الله عَلَيْكَ الْكِتابَ ) ، على أن يكون جملة حاليّة عن الضمير في قوله:( يَضُرُّونَكَ ) و إن كان الأغلب مقارنة

٧٩

الجملة الفعليّة المصدّرة بالماضي بقد على ما ذكره النحاة، و على هذا فالكلام مسوق لنفي إضرار الناس مطلقاً بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في علم أو عمل.

قوله تعالى: ( وَ أَنْزَلَ الله عَلَيْكَ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ عَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ ) ، ظاهر الكلام كما أشرنا إليه أنّه في مقام التعليل لقوله:( وَ ما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْ‏ءٍ ) أو لمجموع قوله:( وَ ما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَ ما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْ‏ءٍ ) و كيف كان فهذا الإنزال و التعليم هو المانع من تأثيرهم في إضلالهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فهو الملاك في عصمته.

( كلام في معنى العصمة)

ظاهر الآية أنّ الأمر الّذي تتحقّق به العصمة نوع من العلم يمنع صاحبه عن التلبّس بالمعصية و الخطأ، و بعبارة اُخرى علم مانع عن الضلال، كما أنّ سائر الأخلاق كالشجاعة و العفّة و السخاء كلّ منها صورة علميّة راسخة موجبة لتحقّق آثارها، مانعة عن التلبّس بأضدادها من آثار الجبن و التهوّر و الخمود و الشره و البخل و التبذير.

و العلم النافع و الحكمة البالغة و إن كانا يوجبان تنزّه صاحبهما عن الوقوع في مهالك الرذائل، و التلوّث بأقذار المعاصي، كما نشاهده في رجال العلم و الحكمة و الفضلاء من أهل التقوى و الدين، غير أنّ ذلك سبب غالبيّ كسائر الأسباب الموجودة في هذا العالم المادّيّ الطبيعيّ فلا تكاد تجد متلبّساً بكمال يحجزه كماله من النواقص و يصونه عن الخطأ صوناً دائميّاً من غير تخلّف، سنّة جارية في جميع الأسباب الّتي نراها و نشاهدها.

و الوجه في ذلك أنّ القوى الشعوريّة المختلفة في الإنسان يوجب بعضها ذهوله عن حكم لبعض الآخر أو ضعف التفاته إليه كما أنّ صاحب ملكة التقوى ما دام شاعراً بفضيلة تقواه لا يميل إلى اتّباع الشهوة غير المرضيّة، و يجري على مقتضى تقواه، غير أنّ اشتعال نار الشهوة و انجذاب نفسه إلى هذا النحو من الشعور ربّما حجبه عن تذكّر فضيلة التقوى أو ضعّف شعور التقوى فلا يلبث دون أن يرتكب ما لا يرتضيه

٨٠