العقائد الإسلامية الجزء ١

العقائد الإسلامية21%

العقائد الإسلامية مؤلف:
تصنيف: أصول الدين
الصفحات: 371

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤
  • البداية
  • السابق
  • 371 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 133840 / تحميل: 7389
الحجم الحجم الحجم
العقائد الإسلامية

العقائد الإسلامية الجزء ١

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

وهذا مردود؛ حيث إنه من الواضح أن فاعل العزم هو الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والظهور العرفي (1) شاهد على أن المراد هو تصميم نفس فاعل العزم؛ أي بعد أن نظرتَ أنت إلى هذه الأقوال المختلفة والآراء المتضادة، فاختر منها ما شئت، واستصوب منها ما تراه مناسباً واعزم.

ويؤيد ذلك ما ورد في الأمر بالتوكل على اللَّه وعدم خشية الآخرين؛ أي أن مورد العزم قد يكون على خلاف ما عليه أراء الأكثرية؛ فتوكَّلْ على اللَّه فيما عزمت مهما كان ذلك، وإن كان على خلاف ما يرونه. وواضح أن الآيات الكريمة وردت في غزوة أُحد حيث ظهر فرار بعض المسلمين وتخلَّف البعض الأخر عن ميدان الحرب، وطمعهم في الغنائم، وسوء ظنِّهم باللَّه بعد ذلك، وتصديقهم موت رسول اللَّه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهذا كله يدلُّ على أن الرأي هو ما اختاره الرسول الأكرم وما عزم عليه، بغض النظر أنه وافق الأكثرية أم لا.

مضافاً إلى أن الرسول الأكرم هو القسطاس المستقيم ( مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى ) ، والجادة الواضحة، والذي يجب أن يتبعه الآخرون. وقد أمره اللَّه عزَّوجل ( فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ ) عندما يحيدون عن جادة الصواب، فكيف يُتصوَّر بمَن يكون بهذه المرتبة وبهذا المقام أنه ملزَم بأن يتَّبع رأي الأكثرية والأغلبية وإن كان رأيها على خطأ.

____________________

(1) بقرينة ما قدمناه مفصَّلا؛ مثل: العفو عنهم والاستغفار لهم الدال على خطئهم مثل قوله تعالى: ( وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ ) فهذه شهادة من الله تعالى بخطأهم في كثير من الموارد، وكذا لينه لهم المذكور في الآية الدال على مقام المربي لمَن تحت يده صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وغيرها من القرائن فراجع، مع أن المعنى على إدعاء صاحب تفسير المنار مؤدَّاه لزوم طاعته صلى‌الله‌عليه‌وآله لِمَا يريدوه، وهو باطل. وكلٌّ لِمَا ذكرناه من أن الشورى، معنى ومادة، عنوان للفعل الفكري للنفس، وهم يجعلونه عنواناً للفعل العملي للنفس كالإرادة والسلطة والقدرة، فيتناقض عندهم الكلام.

١٨١

الخلاصة:

إن لفظ الشورى مشتق من تشاور واشتور، والإشارة والمشورة هي إراءة المصلحة، وشاورته في كذا راجعته لأرى رأيه، وشرت العسل أشوره جنيته، وأشار بيده إشارة أي لوح بشي‏ء يفهم من النطق.

فمادة الشورى تعطي معنى الاستفادة من الخبرات والعقول الأخرى؛ لكي يكون العزم على بصيرة تامة، فهي نظير ما جاء من أن أعقل الناس مَن جمع عقول الناس إلى عقله، وأعلم الناس مَن جمع علوم الناس على علمه، فهي توصية بجمع الخبرات وتنضيج وتسديد الرأي وتصويبه بكشف كل زواياه الواقعية عبر الأذهان المختلفة، وقريب من ذلك ما قاله اللُّغويون: إنها استخراج الرأي بالمفواضة في الكلام ليظهر الحق.

إن استبداد الإنسان برأيه يؤدِّي به إلى الجهالة، سواء كان الأمر بيده وحده أم لا، كما هو الحال في سلطة الإنسان على أمواله إذا أراد أن يقدم على بيع أو عقد معاملي، بخلاف ما إذا اعتمد المشورة والاستشارة، ولكن ذلك لا يعني في وجه من الوجوه قط: سلطة المشير على المستشير، أو سلطة المشير مع المستشير، وإنما يعني اعتماد الوالي على منهج العقل الجماعي في استكشاف الموضوعات والواقعيات العارضة، وهذا هو مفاد الروايات المستفيضة في باب الإشارة والمشورة والاستشارة والشورى؛ أي التوصية باعتماد تجميع الخبرات والعقول، لا جعل السلطة بيد المجموع، بل الفصل والنقض والإبرام والترجيح بين وجهات النظر يكون للولي على الشي‏ء بعد اطلاعه على الآراء المختلفة، كما هو دارج قديماً وحديثاً في

١٨٢

الزعامات الوضعية البشرية؛ حيث تعتمد على لجان وخبرات (مستشارين) (1) في كل حقل ومجال، مع عدم إفادة ذلك - لدى المدرسة العقلية البشرية - ولايةً لأفرادِ تلك اللجان يشاركون فيها ذلك الزعيم.

ولذلك عدَّ الفقهاء تلك الروايات المستفيضة أحد أنواع الاستخارة، بل أفضلها، والاستخارة هي طلب الخير، لا تولية المشيرين مع المستشير، فلا يُتوهَّم أن فتح باب الاستشارة والشورى في الرأي، إن لم يكن بمعنى التشريك في الولاية وتحكيم سلطة المستشارين، فهو لغو؛ إذ أي فائدة أبلغ وأتم من استكشاف الوالي واقع الأشياء وحقائق الأمور عبر مجموع الخبرات والعقول، واعتماده منهج جمع العلوم إلى علمه؟ فإن ذلك يصيّره نافذ البصيرة، سواء كان ذلك على الصعيد الفردي كولاية الفرد على أمواله أم على الصعيد الاجتماعي كولاية الشخص على المجتمع.

من هنا فإن مجيء مادة المشورة في ‏قوله تعالى، يعطي هذه التوصية للمؤمنين في التدبير، بأن يكون البتُّ فيه بعد استخراج الرأي الصائب من العقول المختلفة بالمداولة والمفاوضة مع العقول الأخرى. أمَّا مَن يكون له الرأي النهائي، فليست الآية في ‏صدده؛ لاختلاف ذلك التعبير مع ( وَأَمْرُهُمْ شُورَى ) حيث إن اليد هي من أقرب الكنايات عن السلطة، وكذلك يختلف مع التعبير في قوله تعالى: ( وأُولُوا الارْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللّهِ ) ، وغيرها من التعبيرات القرآنية والمتعرضة للولاية في الأصعدة المختلفة.

وممَّا يعزِّز ما تقدم، قوله تعالى: ( فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا ) فإنه تعالى ندب إلى التشاور بين الزوجين في رضاعة الطفل، مع أن

____________________

(1) كالمستشارين العسكريين والماليين والسياسيين والاجتماعيين وغيرهم.

١٨٣

ولاية الرضاعة ذات الأجرة بيد الزوج فقط، وإن كانت الحضانة في غير ذلك من حق الزوجة.

وكذا قوله تعالى: ( فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ) ففيه ندبة من اللَّه للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى مشورة المسلمين في سياق الرأفة والرحمة بهم واللين معهم والعفو عنهم والاستغفار لهم، لا لتحكيم ولايتهم عليه‏(صلَّى الله عليه وآله ) (والعياذ باللَّه)؛ إذ ذيل الآية صرّح بأن العزم على الفعل مخصوص به صلى‌الله‌عليه‌وآله ، بل إن الأمر بالتوكُّل فيه إشعار بنفوذ عزمه وحكمه صلى‌الله‌عليه‌وآله وإن خالف آراءهم؛ ولذلك ذكر أكثر المفسِّرين وجوهاً في أمره بالمشاورة:

الأوَّل: أن ذلك لتطييب أنفسهم والتألُّف لهم والرفع من قدرهم.

الثاني: أن يُقتدى به في المشاورة، كي لا تُعد نقيصة، وليتميَّز الناصح من الغاش كتشاوره صلى‌الله‌عليه‌وآله قبل واقعة بدر - الكبرى والصغرى - وغيرها من‏ الوقائع.

الثالث: لتشجيعهم وتحفيزهم على الأدوار المختلفة، والتسابق إلى الخيرات والأعمال الخطيرة المهمة، وتنضيج عقول المسلمين وتنميتها، ولكي يتعرَّفوا على حكمة قرارات الرسول وأفعاله صلى‌الله‌عليه‌وآله .

ومن الغفلة الاستدلال بمورد نزول الآية في غزوة أحد على كون الشورى ملزمة له صلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ بدعوى أن رأيه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله كان هو اللبث في المدينة وعدم الخروج، ورأي بقية أصحابه على الخروج، ومع ذلك تابع رأي الأكثرية وخرج إلى جبل أُحد. وقدمنا مفصَّلاً خطأ هذا الاعتقاد.

وممَّا يستأنس لكون معنى الشورى بمعنى المشورة والاستشارة، لا تحكيم السلطة الجماعية، أن الآية مكية ولم يكن ثمَّة كيان سياسي للمسلمين، بل إن ظاهر

١٨٤

الآية - حين نزولها - ترغيب المؤمنين في الاتصاف بتلك الصفات، فيكف يلتئم مفاد السلطة الجماعية مع ولاية الرسول‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله المطلقة؟ ولذلك ترى أن كثيراً من مفسِّري العامة فسروا الآية بمعنى الاستشارة واستخراج الرأي، لا تحكيم السلطة الجماعية.

مناقشة الاستدلال على نظرية التلفيق بين النص والشورى

قام بعض المفكِّرين بمحاولة الجمع بين أدلة التعيين والنصب - ككثير من الآيات القرآنية الدالة على أن الإمامة عهد وجعل إلهي، وأن المنصوب هو علي‏ عليه‌السلام وذرِّيته - وبين ما يُزعم من مفاد آية الشورى ودلالتها على أن السلطة للأمة، بأنَّ مورد الأدلة الأولى هو مع وجود المعصوم‏ عليه‌السلام وتقلُّده للزعامة الاجتماعية السياسية، ومورد الثانية هو مع عدم وجوده عليه‌السلام كما في زمن الغيبة. وهذا الرأي مردود؛ لأنه إن جُعل المدار لسلطة الأمة والشورى، وعدم تَقلُّد المعصوم الزعامة بالفعل، فذلك يعني شرعية سلطة الأمة في الفترة التي كان فيها علي‏ عليه‌السلام مُبعداً عن السلطة، وكذلك في فترة ما بعد صلح الحسن‏ عليه‌السلام إلى عصر الغيبة؛ حيث إنهم عليهم‌السلام ‏لم يكونوا متقلِّدين بالفعل زمام الحكم، وهذا مناقض لمبدأ النص و جعل المدار على وجودهم عليهم‌السلام ‏وإن لم يتقلَّدوا زمام الأمور و

الحكم بالفعل، فوجودهم لا تخلو منه الأرض (اللَّهُم بلى، لا تخلو الأرض من قائم للَّه بحججه، إمَّا ظاهر مشهور أو خائفاً مغمور، لكي لا تبطل حجج اللَّه وبيِّناته) (1) .

____________________

(1) رواه الصدوق في الإكمال بأسانيد مستفيضة عن كميل عن عليٍّ عليه‌السلام ، وأسانيد أخرى في الخصال والأمالي، والحديث موجود في النهج وتحف العقول وكتاب الغارات،بل هذا المضمون روي في أحاديث متواترة في أكثر كتبنا الروائية.

١٨٥

ولا فرق بين حضور الإمام وغيبته بعد كون عدم تقلُّده زمام الأمور بالفعل غير مؤثِّر في كونه إماماً بالفعل - بما للإمامة من عهد إلهيٍّ معهود ذا شؤون عظيمة بالغة - كما في الحديث النبوي المروي عن الفريقين: (الحسن والحسين إمامان إن قاما أو قعدا) فقعودهما عليهما‌السلام ‏بسبب جور الأمة لا يفقدهما الجعل الإلهي والخلافة الإلهية على الأمة.

وهل من الإمكان إبداء الاحتمال أنه(عج) في غيبته يفقد هذا المنصب والجعل الإلهي؟! إذ هذا لا ينسجم مع مبدأ النص والتعيين. ومن هنا كان تمسُّك الفقهاء في نيابتهم في عصر الغيبة الكبرى بنصبه لهم نوَّاباً في قوله المروي مسنداً في غيبة الشيخ الطوسي: (وأمَّا الحوادث الواقعة، فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا؛ فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة اللَّه) فقوله‏ عليه‌السلام : (فإنهم حجتي عليكم) استنابة منه‏ عليه‌السلام للفقهاء.

وهل يُتعقَّل أن يكون للَّه حجتان بالأصل في عرض واحد بالفعل؛ بأن يكون الحجة(عج) في غيبته حجة بالأصل، ومُنْتَخَب الأمة حجة أخرى بالأصل، ولكن بالانتخاب لا بالنيابة عنه؟! ومن هنا كان دأب فقهاء الإمامية - على ضوء مبدأ النص والتعيين - على القول أن ولاية الفقيه مستمدة، في الغيبة، منه‏(عليه السلام وعجَّل اللَّه فرجه الشريف)، لا أنها للفقيه بالأصالة مع خلعه‏ عليه‌السلام عن ذلك المنصب.

هذا؛ ولا يغفل عن أن سبب عدم تقلُّده(عج) زمام الأمور والحكم وعدم الظهور، هو المذكور في قوله‏ عليه‌السلام : (لو كنتم على اجتماع من أمركم؛ لعُجِّل لكم الفرج) ولذلك قال السيد المرتضى والخواجة وغيرهما أن سبب غيبته منَّا نحن.

نعم، إذا أمكن أن تخلو الأرض من الحجة المعصوم، وأن يتْرُك اللَّه البشر وحالهم مع قوانين دينه على ‏أوراق، وتكون - والعياذ باللَّه تعالى - يد اللَّه مغلولة، أمكن حينئذ ذلك الاحتمال والجمع المزعوم بين الأدلة.

ومن الطريف أن الدعوى المزبورة تُذعن في طيَّاتها بشروط المرشَّح بالانتخاب؛

١٨٦

من الفقاهة والكفاءة والأمانة والعدالة والضبط وسلامة الحواس إلى غير ذلك من الشروط التي لا تتوفَّر بنحو الإطلاق والسعة وبنحو الثبات الذي لا تزلزل فيه إلاّ في المعصوم عليه‌السلام ، وكأن ذلك أوْبٌ إلى النص مرة أخرى؛ إذ الاشتراط في جذوره تعيين.

نعم، نصبه(عج) للفقهاء كنوّاب بالنيابة العامة قد استُفيد من قوله: (فارجعوا) الإيكال للأمة في اختيار أحد مصاديق النائب العام ‏الجامع للشرائط، ولا يعني ذلك أن النصب بالأصالة من الأمة بالذات، بل منه(عج) بالأصالة ومن الأمة بتبع إيكال وتولية المعصوم لها، كما هو الحال في القضاء والإفتاء عند التساوي في الأوصاف.

ولا يُتوهَّم أن تولية الأمة ذلك يلزمه إمكان توليتها السلطة على نفسها بالأصالة من اللَّه تعالى في اختيار خليفة اللَّه في أرضه، إذ بين المقامين فيصل فاصل وفاروق فارق؛ حيث إنه لابدَّ من العصمة في قمة الهرم الإداري للمجتمع دون بقيَّة درجات ذلك الهرم، إذ بصلاح القمة يصلح مجموع الهيكل.

كما لا يُتوهَّم أنه حيث لابدَّ للناس من أمير برّ أو فاجر تدار به رحى إدارة النظام الاجتماعي البشري، وهذه اللَّابدَّية والضرورة العقلية التي نبَّه عليها علي‏ عليه‌السلام في النهج تقتضي تنصيب الأمير على الناس بالذات بالأصالة؛ من دون حديث النيابة عن المعصوم.

ووجه اندفاع التوهُّم: أن الضرورة العقلية تقتصي الزعيم. أمَّا شرائط كونه أمير برّ لا فاجر، فهو كون إمارته من تشريع اللَّه تعالى وإذنه؛ إذ الولاية للَّه تعالى الحق، والإمارة تجري على يد الفرد البشري المخوَّل منه تعالى في ذلك؛ ولذلك ترى أن عدة من الفقهاء(قدس سرُّهم‏ا) استدلوا بتلك الضرورة في الكشف عن إذنه وتنصيبه للفقهاء باعتبار أنهم القدر المتيقن، أو غير ذلك من التقريبات المذكورة

١٨٧

في كلماتهم.

وبذلك ننتهي إلى أن الآية هي في صدد الإشادة بصفة ممدوحة مهمة في المؤمنين؛ وهي عدم الاستبداد بالرأي، واعتماد العقل المجموعي في استخراج الرأي الصائب وفتح الأفق. وأما أين هي منطقة السلطة الجماعية؟ وأين هي منطقة السلطة الفردية؟ ومَن هو منهم؟ فذلك يتم استكشافه من مبدأ السلطات، وهو اللَّه تعالى، ومن ثُمَّ رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله وخلفائه المعصومين، بالوقوف على حدود نصوص الجعل والتنصيب كما ذكرنا لذلك مثالاً في النائب العام والقاضي والمفتي.

والمهم التركيز على‏ هذه الجهة في الآية: أن مادة الشورى هي لاستطلاع الرأي الصائب والمداولة مع بقية العقول، وفرق بين استطلاع رأي الآخرين وبين جمع إرادة الآخرين؛ فالأول هو موازنة بين الأفكار والآراء من المستطلِع والمستشير، والثاني سلطة جماعية، فلا يمكن إغفال التباين الماهوي بين الفكر والإرادة، وأن الشركة في الأول لا تعني الشركة في الثاني بتاتاً.

فالتوصية في الآية هي في اعتماد التلاقح الفكري في إعداد الفكرة. أما مرحلة البتّ والعزم والإرادة، فلا نظر إليها من قريب ولا من بعيد، ومجرد إضافة الأمر إلى ضمير الجماعة، لا يعني كونها في المقام الثاني، بعد كون مادة المشورة صريحة في المقام الأول، بل غاية ذلك هي أهمية اعتماد المفاوضة في استصواب الرأي في الموضوعات التي تخصُّ وتتعلق بمجموعهم، هذا لو جمدْنا على استظهار الموضوع المتعلق بالمجموع من لفظة (أمرهم)، ولم نستظهر معنى الشأن من الأمر - كما استظهره كثير من المفسِّرين - أي بمعنى: شأنهم وعادتهم ودأبهم على عدم الاستبداد بالرأي في الولاية والأمر بالمعروف، واعتماد طريقة الاستعانة بالمستشارين.

ونكتة الإضافة إلى ضمير الجماعة هي وحدة سَوق الأفعال في الآيات كما في:

١٨٨

( وَأَقِيمُوا الْصَّلاَةَ ) ( وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ ) ( وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ ) . وأمَّا لفظة (بينهم)، فهي ظرف لغوٍ متعلق بمادة الشورى؛ لكونها مداولة بين الآراء ومفاوضة لا تقلُّ عن كونها بين اثنين، فهي فعل بينيٌّ وفيما بينهم.

بعد هذا الاستعراض المطوَّل للطائفة الأولى من أدلة نظرية الشورى بالمعنى المصطلح؛ وهي ما ورد من الآيات والروايات من مادة الشورى والاستشارة، توصَّلنا إلى نتيجة: أن مفاد الشورى هو بيان منهج عقلائي؛ وهو جمع الخبرات والتجارب والاستضاءة بمعلومات الآخرين، وأن لا يكون إقدام على مهام الأمور إلاّ بعد المداولة الفكرية، وهي بعيدة عن تشريع سلطة للجماعة، بل تبقى السلطة لذلك الفرد الذي يقوم بغربلة هذه الآراء واختيار الأصح منها والأوفق مع ما عليه قواعد الدين. وهذا المنهج أصبح ألان منهجاً حضارياً مُتَّبعاً، بعيداً عن الدكتاتورية المطلقة والاستبداد بالرأي الواحد.

ثانياً: عنوان الولاية والأمر بالمعروف

وقد ورد ذلك في آيتين:

أ - قوله تعالى: ( وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضَهُمْ أَولِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمْ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) (1) .

إن الظاهر من الآية الكريمة إسناد الولاية إلى الكل، فالمولى هو الكل، والمولى عليه كذلك؛ فهي ولاية الكل على الكل، وهذا يعني أن أمر الأمة بيدهم، وهذه الولاية تعمُّ ولاية النصرة (2) وولاية الأخوة والمودة. والأمر بالمعروف معنى عام شامل

____________________

(1) التوبة 71: 9.

(2) المنار، ج10، ص542 و105.

١٨٩

(ويذهب محمد رشيد رضا إلى أن الولاية معنى عام يشمل كلَّ معنى يحتمله، ولا يختص بأمر دون آخر) ويدخل في هذا السياق جميع الآيات الواردة فيها معنى الولاية كما في الأنفال 8 / 73.

ب - ( وَلِتَكُن مِنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) (1) .

فهو أمر لكل المسلمين بأن تكون منهم جماعة خاصة وقوة معينة تأمر بالمعروف وتدير فيهم دفَّة الأمور؛ حيث إن الأمر بالمعروف عام يشمل كل ما فيه صلاح الأمة الإسلامية، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في درجاته الأولى مُثبِت لنحو من الولاية من الآمر والناهي على الطرف الآخر، فكيف في درجاته القصوى المستلزمة للضرب أو المنع الخارجي بالقوة؟

وبتقريب آخر: أن الأمر بالمعروف له صورتان:

أحدهما: صِرف الأمر والنهي الإنشائي والقولي.

  والأخر: أن يراد منه الأمر التنفيذي وتطبيق ذلك المعروف والردع عن المنكر.

فإن كان الأمر الأول، فلا خصوصية فيه حتّى تختص به طائفة معينة، بل هو عام شامل لجميع المسلمين، فلابدَّ أن يكون المراد منه هو الصورة الثانية، وحينئذ يُتعقَّل تخصيصه بجماعة خاصة تقوم بهذا الأمر، بل إن محمد رشيد رضا (2)يرى أن هذه الآية في دلالتها على كون الشورى أصل الحكم في الإسلام أقوى من دلالة آيتي الشورى.

وفي كل ما ذُكر نظر؛ بيان ذلك:

1 - مادة (أولياء) و(ولي) ورد استعمالها في القران في موارد كثيرة جداً (3)

____________________

(1) آل عمران 3: 104.

(2) المنار، ج4، 45.

(3) راجع: معجم ألفاظ القرآن الكريم، ج2، 840.

١٩٠

واختلفت معانيها تبعاً لموارد استخدامها، ويمكن من خلال نظرة عامة إلى تلك الموارد القول: إنّ أكثر مواردها التي بصيغة الجمع كان معناها النصرة والمحبة. والمراد من هذه الآية هو ذلك بقرينة نفس الآيات المحيطة بهذه الآية، فإنها قد وردت ضمن آيات يقارِن فيها الحقُ تعالى بين فئتين من الناس؛ هم المنافقون والمؤمنون، ومورد هذه المقارنة في غزوة تبوك (1) حيث تخلَّفوا عنه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله واستهزؤوا به، فذكر ابتداءً وصف المنافقين؛ بأنّ بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف، ويستمر في ذكر صفاتهم وبُعدهم عن الحق تعالى والعذاب في الآخرة. وفي قبال هذه الفئة يقف المؤمنون، وهم كالبنيان المرصوص في توادِّهم وتناصرهم وتحابِّهم، ويذكر صفاتهم التي هي على طرف النقيض من المنافقين، فهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وعندما يقال: المؤمن ولي المؤمن. معناه: أنه ينصر أولياء اللَّه وينصر دينه، واللَّه وليه بمعنى: أولى بتدبيره وتصريفه وفرض طاعته عليه.

وبقية الصفات المذكورة من عباداتهم؛ إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وإطاعة اللَّه ورسوله، والنتيجة الأخروية، وهي رحمة اللَّه تعالى والوعد بالجنة، وهذه كلها في قبال صفات المنافقين.

فالمنافقون يأمرون بالمنكر، والمؤمنون يأمرون بالمعروف.

والمنافقون ينهون عن المعروف، والمؤمنون ينهون عن المنكر.

والمنافقون يقبضون أيديهم، والمؤمنون يؤتون الزكاة.

والمنافقون نسوا اللَّه فنسيهم، والمؤمنون يطيعون اللَّه ورسوله وسيرحمهم اللَّه.

والمنافقون وعدهم نار جهنم، والمؤمنون وعدهم جنات تجري من تحتها

____________________

(1) البيان في تفسير القرآن، ج5، 257.

١٩١

الأنهار.

فالمنافقون كتلة واحدة لهم نفس الوصف والجزاء، والمؤمنون ينصر بعضهم بعصاً ولهم نفس الوصف والجزاء.

فالآية الكريمة غير ناظرة إلى الولاية بمعنى الحكم وإدارة الشؤون كما هو مورد الاستشهاد بها.

وممَّا يدل على ما ذكرناه أيضاً أن إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة أعمال فردية، وليست متفرِّعة عن ولاية البعض على البعض. مضافاً إلى أن ذيل الآية: ويطيعون اللَّه ورسوله، فإذا كانت بصدد بيان سلطة الجماعة على مجموع الأمة، فكيف يلتئم مع الحثِّ على طاعة الرسول‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله وانصياعهم ومتابعتهم؟

2 - أمَّا الآية الثانية، فإن غاية ما تدل عليه أن الأمة يجب عليها تشكيل مثْل هذه الجماعة لتدير دفة الدولة، ولكن هذا لا يفيد أن السلطة من الأمة، بل السلطة تكون من قبل اللَّه تعالى، وأن التولية الفعلية العملية هي بيد الأمة، وهذه وظيفتهم من حيث أن الحكم وظيفة يقوم بها الحاكم والمحكوم، فالحاكم تكون سلطته من قبل اللَّه تعالى، وعلى المحكوم الرجوع وتمكين الحاكم من ذلك.

وبتعبير آخر: أن الآية تبيِّن الدور الذي يجب أن تقوم به الأمة في مجال الحكومة، وهو تمكين صاحب الصلاحية والسلطة، لا أن التشريع والقدرة هو بيد الأمة، فالآية لا تتعرض لهذا المقام، بل تذكر ما هو تكليف الأمة وكيف تتعامل مع مسألة الحكم وتمكين الحاكم.

3 - أن هذا الدور لا يعني أنّ لها تخويل مَن تشاء وتسلِّطه على نفسها، كيف والآية تصف الجماعة الآخذة بزمام الأمور أنها داعية إلى الخير كل الخير؛ لمكان اللام الجنسية أو الاستغراقية، آمرة بالمعروف كل المعروف؛ لمكان اللام أيضاً، ناهين عن المنكر كل المنكر؛ لذلك أيضاً، بما فيه المنكر الاعتقادي أو الاقتصادي أو المالي أو

١٩٢

الاجتماعي في كل المجالات والشؤون؟ ومن الظاهر أن الداعي إلى كل سبل الخير والآمر بكل معروف، دقَّ أو جلَّ وعظُم، وتوقُّفه، خبر بماهية المنكر، وحائز على العصمة العملية، كي لا يتوانى عن الأمر بكل معروف والنهي عن كل منكر، لا تأخذ في اللَّه لومة لائم، ولا يعدل به هوى عن ذلك؛ فتنحصر وظيفتهم - أي الأمة - في التكوين والرجوع الخارجي إلى تلك الجماعة غير المغضوب عليهم ولا الضالين.

4 - أن الآيات الحاصرة للولاية في فئة خاصة تكون مفسِّرة وحاكمة في الدلالة، ومبينة للفئة الخاصة التي يجب على الأمة الرجوع إليها وتمكينها خارجاً.

5 - أن في الآية احتمالاً آخر؛ وهو كونها في صدد بيان الوجوب الكفائي للآمر بالمعروف غير المشروط بالعلم بالمعروف، بل العلم قيد واجب فيه؛ وهو مغاير للوجوب الاستغراقي المشروط بالعلم بالمعروف؛ نظير: وجوب الحج الكفائي - غير المشروط - على كل المسلمين في كل سنة؛ أن يقيموا هذه الشعيرة لئلا يخلو البيت، وهو مغاير للوجوب الاستغراقي العيني المشورط بالاستطاعة.

ويمكن تقريبه بأن الشرط العام الذي يذكره الفقهاء في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو العلم بأحكام الشريعة، فالجاهل لا يتأتى منه ذلك. فاشتراط العلم هو شرط وجوب، وبضميمة أن التعلُّم لجميع الأحكام، أو غالباً غير ما يبتلى به نفس المكلف، واجب كفائي، فهذا يعني أن الواجب هو قيام فئة من المجتمع بالتعلُّم المزبور، فيتحقق موضوع الوجوب الآخر المشروط به؛ وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

فمن المحتمل أن تكون الآية الكريمة بصدد الإشارة إلى ضرورة حصول ذلك التوجه لدى فئة من المجتمع للقيام بهذه الوظيفة؛ نظير: الوجوب الكفائي، لإقامة الحجج غير المشروط بالاستطاعة؛ لئلاّ يخلو بيت اللَّه الحرام عن إقامة هذه الشعيرة ولئلاّ يعطّل.

وبتعبير آخر: أننا تارة ننظر إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بمعنى إقامة

١٩٣

العدل والحدود وحفظ النظام الذي هو وظيفة الدولة، وتارة ننظر إليه بنحو شامل وعام لجميع الأفراد، والآية ناظرة إلى الثاني؛ والدليل على ذلك هو ما سبق الآية من قوله تعالى: ( يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُم مُسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا ) وهذه كلها ناظرة إلى تكاليف اجتماعية يقوم بها أفراد المجتمع، ويتوجَّب على المجتمع إقامتها والعمل على إيجادها خارجاً، وأن الآية ليست في صدد بيان واجبات الدولة اتجاه المجتمع.

وقد ورد في تفسير هذه الآية قوله‏ عليه‌السلام : (إنما الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على العالم). فوجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على هذا الاحتمال وجوب كفائي؛ وهو واجب على الأمة بنحو الكفاية.

ثالثاً: آيات البيعة

1 - ( إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَن أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً ) (1) .

2 - ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لاَ يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلاَ يَسْرِقْنَ وَلاَ يَزْنِينَ وَلاَ يَقْتُلْنَ أَوْلاَدَهُنَّ وَلاَ يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلاَ يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) (2) .

تقريب الاستدلال:

ينطلق المُستدِل من المعنى اللغوي للبيعة؛ فالبيعة: الصفقة على إيجاب البيع، وبايعته من البيع، والمبايعة: عبارة عن المعاقدة والمعاهدة، كأن كل واحد منهما باع

____________________

(1) الفتح 48: 10.

(2) الممتحنة 60:12.

١٩٤

ما عنده من صاحبه وأعطاه خالصة نفسه (1) .

فالبيع تمليك من جهة البايع للمشتري، ونقل الولاية على هذه العين للمشتري، ولا يصح البيع إلاّ ممَّن له الولاية والصلاحية للتصرُّف في المبيع. والبيعة هي إنشاء ولاية من المبايِع للمبايَع على نفسه، وإسناد هذه المبايعة للأمة يدل على أن الولاية هي للأمة، وهي تنقلها إلى الرسول‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله أو للمعصوم في نظرية النص.

وقد استدل من الروايات:

ـ عن موسى بن جعفر عليه‌السلام قال: (ثلاث موبقات: نكث الصفقة، وترك السنة، وفراق الجماعة) (2) . وقال العلامة المجلسي: نكث الصفقة نقض البيعة، وإنما سُمِّيت البيعة صفقة؛ لأن المتبايعَين يضع أحدهما يده في يد الأخر عندها. ويؤيِّد ما مضى السبر التأريخي؛ حيث نرى الالتزام بالبيعة، فبيعة العقبة الأولى والثانية، وبيعة الإمام علي وأبنيه الحسن والحسين عليهم‌السلام ، ومبايعة الإمام الرضا عليه‌السلام ، وما ورد في مبايعة الإمام المهدي(عجل اللَّه تعالى فرجه) (3) .

وتقريب الاستدلال بالروايات:

1 - نفس المعنى اللغوي المتقدم والذي يجعل البيعة نوع تولية وإنشاء ولاية، فالطاعة وإنشاء الولاية للحاكم في مقابل تقسيم بيت المال والغنائم كما يظهر من مفردات الراغب، وقد ذكر ابن خلدون في مقدمته/ الفصل الثالث/ فصل 29: أن

____________________

(1) لسان العرب، ج8، ص26؛ مادة: بيع.

(2) بحار الأنوار، ج2، ب32، ح26.

(3) سيرة ابن هشام، ج2، ص66 - 73، والكامل لابن الأثير، ج2، ص252، والإرشاد، ص116 - 170 ـ186، والاحتجاج، ج1، ص34، ونهج البلاغة، الخطب، ص137 - 229، وفي الغيبة للنعماني، ص175 - 176 في أمر الحجة عليه‌السلام : (فوالله، لكأني أنظر إليه بين الركن والمقام؛ يبايع الناس بأمر جديد، وكتاب جديد، وسلطان جديد من السماء).

١٩٥

البيعة هي العهد على الطاعة؛ كأنما المبايع يعاهد أميره على أن يُسلم له النظر في أمر نفسه وأمور المسلمين. وكانوا إذا بايعوا الأمير وعقدوا عهداً، جعلوا أيديهم في يده تأكيد للعهد، فأشبه فعل البايع والمشتري، فسُمِّي بيعة؛ مصدر باع، وصارت البيعة مصافحة بالأيدي.

2 - ما ورد من التعبير أنه عهد اللَّه، وهذا ينسجم مع قوله تعالى: ( لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) ، ومنه يعلم أن الإمامة والحاكمية تنوجد وتتولَّد من البيعة.

3 - أن السيرة العقلائية الجارية في فترة ما قبل الإسلام مقتضاها أن البيعة وسيلة لعقد التولية وتأمير الحاكم، وهذه الحقيقة والماهية أمضاها الإسلام.

4 - من تكرُّر السيرة على أخذ البيعة عند الاستخلاف يدل على ضرورة وجود نوع من المناسبة بين البيعة وبين تسليط وتأمير الآخرين، وهذا يدل على أنه كما ننشئ بالتأمير والولاية بالنص فإنها تنشأ بالبيعة، فكأنه يوجد طريقان لحصول التأمير والاستخلاف؛ أحدهما: النص، والأخر: البيعة، فإذا ما وجدا معاً، فإنه يكون من باب التأكيد والثبوت، كما في تولية الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله حيث لم يقل أحد أن تولِّيه كان بالبيعة، بل بنص اللَّه عزَّوجلَّ الذي أوجب حاكمية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأنه أولى بالمؤمنين من أنفسهم، كما أوجب رسالته ونبوته. أما كون البعية له هي المنشئة لتولِّيه وإمرته، فهي بعيدة عن أقوال العامة والخاصة، ومَن ادعى ذلك من المتأخرين، فهو عن غفلة عن تلك النصوص ومخالفة لضرورة الذين عند الفريقين.

وفي هذا الاستدلال تأمل من جهات:

1 - إننا ننطلق من نفس مدلول البيع؛ فإن المحققين والفقهاء (1) نصُّوا على أن البيع ليس من الأسباب الأولية لحصول الملكية، فهو ليس والابتكار

____________________

(1) يراجع: الشيخ الأنصاري، المكاسب، أول كتاب البيع، كما نصَّ على ذلك السنهوري في الوسيط.

١٩٦

والإرث، بل هو يكون فرعاً عن ملكية سابقة، ففي الرتبة السابقة يجب أن يكون للبايع (المبايع) صلاحية وسلطان معين على مورد المبايعة، ثم ينقله إلى آخر. فنفس دليل البيعة لا يدل على وجود تلك الملكية السابقة والسيادة السابقة للأمة؛ إي إذا فرض كون سيادة موجودة، فحينئذ تكون المبايعة نقل لتلك السيادة من الأمة إلى الحاكم (1)؛ ويؤيِّد ذلك أن نفس المعاني التي ذكرها اللُّغويُّون بعيدة عن إنشاء الإمرة والحاكمية، بل غاية ما تدل عليه هو الالتزام ببذل الطاعة. وفي مسند أحمد بن حنبل؛ قلت لسلمة بن الأكوع: على أي شي‏ء بايعتم رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله يوم الحديبية؟ قال: بايعته على الموت. فلم تكن المبايعة على الترشيح أو التولية.

2 - لو لاحظنا ما ذُكر في الآيتين الكريمتين من مورد البيعة، وأن المسلمين عندما بايعوا على ماذا بايعوا؟ وأن المؤمنات عندما بايعن على ماذا بايعن؟ هل بايعوا على أمور لهم صلاحية تركها والالتزام بها، فاختاروا الثاني؟ أم أن المبايعة كانت على الحاكمية؟

إننا نلاحظ أنه في الآيتين - وفي غيرها - لم يرد ذكر للحاكمية على الإطلاق، بل وردت المبايعة على المناصرة والالتزام بأمور أوجبها الإسلام كعدم الشرك وترك الزنا وعدم العصيان، وهي أمور يجب الالتزام بها ويحرم عليهم تركها، فما الذي أفادته البيعة؟! إذن... البيعة تعبير ظاهري وخارجي عن ذلك الالتزام؛ فهي أولاً: لم يكن موردها الحاكمية، فإن حاكمية الرسول هي من اللَّه، وثانياً: لم تكن فيه عملية نقل أو إنشاء ولاية على الإطلاق، وهذا يعني أن للبيعة معنى آخر ليس هو نفس المعنى المأخوذ في البيع.

____________________

(1) ويمكن التنظير بالدليل التعليقي التقديري، فإنه يثبت الحكم على فرض وجود موضوعه، ولا يتعرَّض لحالات الموضوع، فإذا ورد دليل يتعرَّض لنفي الموضوع للحكم المزبور في مورد معين، فإنه لا يعارض ذلك الدليل؛ لأنه لا يتعرَّض للموضوع، بل للمحمول فقط.

١٩٧

3 - النقض بالنذر والعهد واليمين؛ فإن مورد هذه الأمور قد يكون المباحات وقد يكون الواجبات أيضاً، فالصلاة الواجبة والثابت وجوبها قبل النذر يجعلها المكلف مورداً للنذر، وحينئذٍ يكون الوجوب آكد، ويكون وجوبان؛ أحدهما: سابق على النذر، والآخر: لاحق عليه، ويفسِّر الفقهاء ذلك بأنه إنشاء عهد للَّه عزَّوجل. ومورد البيعة قد لا يكون أمراً بيد المكلف اختياره، بل يكون من الواجبات ويكون النذر بها تعهُّداً زائداً، والبيعة كذلك؛ فالمبايع يُنشئ التعهد بالتزام حاكمية ذلك المبايَع مع أن أصل الحاكمية ثابت في‏ رتبة سابقة، وليس سبب الحاكمية هو المبايعة، بل قد تكون في بعض صورها أداء لأمر واجب عليهم كما في مبايعة الرسول‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله والإمام عليه‌السلام .

إذن، فالبيعة تكون نوعُ توثيقٍ وزيادة تعهُّدٍ وتغليظ للتكليف والثبات على مَن نُصَّ على ولايته، وغاية ما يفرق بينها وبين النذر وأخويه، أن الأخير في الأمور العبادية، والأول في الأمور الاجتماعية والسياسية. ويشير لذلك عدة من الروايات؛ منها: موثَّقة مسعدة بن صدقة، عن جعفر عن أبيه عليهما‌السلام أنه قال له: (إن الإيمان قد يجوز بالقلب دون اللسان؟) فقال له: (إن كان ذلك كما تقول، فقد حرم علينا قتال المشركين، وذلك أنَّا لا ندري بزعمك لعل ضميره الإيمان، فهذا القول نقض لامتحان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله مَن كان يجيئه يريد الإسلام، وأخذه إياه بالبيعة عليه وشروطه وشدة التأكيد) قال مسعدة: ومن قال بهذا فقد كفر البتة مِن حيث لا يعلم) (البحار/ ج68 / ص241) نقلاً عن قرب الإسناد للحميري( ومفاده: أن الإيمان لو كان في القلب دون اللسان لتوجَّه النقض - والعياذ باللَّه - على رسول اللَّه‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله في قتاله للمشركين؛ إذ قد يكون آمن وتحقَّق الإيمان في قلبه دون لسانه. ونقض آخر: أنه لم يطالب‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله مَن أتاه يريد الإسلام بالتشهد بالشهادتين وأخذ البيعة بعد تشهده التي هي زيادة استيثاق وتأكيد للالتزام بالتشهد.

١٩٨

4 - إن ما ذُكر من موارد المبايعة في الآيتين، أمور يجب على المبايع الالتزام بها عند إنشائه للشهادتين ودخوله في الإسلام، ولا تحتاج إلى البيعة لأجل إيجابها عليه، ففي بيعة الشجرة كان الجهاد مفروضاً على المسلمين قبلها، وكان واجباً عليهم الإطاعة ممَّا يدل على أن البيعة لم تُنشأ أصل الالتزام، بل هو تغليظ وتعهُّد ظاهري.

5 - من المسلمات والبديهيات الدينية أن منشأ السلطة هو الله عزَّوجل ( إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ ) ، وهذا لا يتلائم مع ما استدل به المدعي من أنّ ماهية البيعة هي نقل سلطة الفرد للمبايَع، وهذا يعني وجود سلطنة للفرد على مورد البيعة في رتبة سابقة، وهذا ينافي تلك المسلمة البديهية وأن السلطنة للَّه عزَّوجلَّ وقد استخلف الرسول‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله في أيَّام حياته.

6 - إن القائل بالبيعة لا يقول بها بنحو مطلق، بل يجعلها مقيَّدة بقيود أوجبها الشارع والعقل، فلا تجوز بيعة الظالمين، وكذلك يجب توافر الشروط التي أوجبها الشارع في الوالي وتدور حول محورين، هما: الكفاءة والأمانة، وهاتان الصفتان لا تكونان بنحوٍ واحد عند كل الأفراد، بل تختلف بنحوٍ متفاوت، فإذا انطبقت على أحدهما دون الآخر، فإن العقل سوف يعيِّن مَن هو أكفأ وأكثر أمانة. وإذا ثبت توفر الصفتين بنحو تام الكمال إلى حد العصمة بأدلة أخرى ونصوص تامة السند والدلالة - طبقاً لنظرية النص - فإنها سوف تكون هي المعينة. وعلى كل حال... فإنّ التعيين، إما أن يكون للعقل أو الشرع.

فيعود الأمر إلى أن الشارع هو الذي يعطي الصلاحية لا الفرد، ويكون دور الفرد هو الكاشفية فقط.

7 - إن الروايات طافحة بعبائر أمثال: (الأمر للَّه يضعه حيث يشاء)، وهذا يعني أن البيعة ليست تولية، وخصوصاً إذا لاحظنا ما دار بين الرسول‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله وبين عامر بن

١٩٩

صعصعة حيث دعاهم إلى اللَّه وعرض عليهم نفسه، فقال له رجل منهم: إن نحن بايعناك على أمرك، ثم أظهرك اللَّه على مَن خالفك، أيكون لنا الأمر من بعدك؟ قال‏ صلى‌الله‌عليه‌وآله : (الأمر للَّه يضعه حيث يشاء).

8 - إن البيعة نوع من العقود والعهود، وهذا يعني أنها تصنَّف في باب المعاملات، فيجب أن نعود قليلاً إلى الأدلة الواردة في باب المعاملات. فإن الفقهاء يصنِّفون الأدلة هناك إلى قسمين: أدلة صحة، وأدلة لزوم. ويعنون بأدلة الصحة: هي الأدلة التي تتعرَّض إلى ماهية المعاملة وحقيقتها وأنها صحيحة أم لا، والثانية تتعرَّض إلى المعاملة الصحيحة وأنها لازمة ولا يجوز فسخها.

وبتعبير آخر؛ الفرق بينهما موضوعاً ومحمولاً:

أما موضوعاً، فموضوع أدلة الصحة هي الماهية المعاملية، بفرض وجودها عند متعارف العقلاء، وموضوع أدلة اللزوم هو المعاملة الصحيحة عند الشرع.

أما محمولاً، ففي أدلة الصحة المحمول هو صحة المعاملة، وإثبات وجودها الاعتباري في اعتبار الشارع. أما أدلة اللزوم، فمحمولها هو لزوم المعاملة وعدم جواز فسخها. والتفريق بين هذين الصنفين من الأدلة مهم جداً؛ حيث لا يمكن التمسَّك بـ (المؤمنون عند شروطهم) إذا شك في صحة ماهية معاملية، فهي ليست من أدلة الصحة، بل من أدلة اللزوم التي يؤخذ في موضوعها ماهية معاملية أولية صحيحة ويتعرض لوصف يطرأ عليها، وهو وصف اللزوم.

وبناء عليه يطرح التساؤل: أين يمكن تصنيف أدلة البيعة أفي أدلة الصحة أم في أدلة اللزوم؟ بمقتضى التعاريف اللغوية وأنها بمعنى العهد، فإنها تصنَّف في الثانية، وهذا يعني أن هذه الأدلة لا تتعرَّض لمورد البيعة وأن المبايعة لهذا الوالي صحيحة أم لا، بل يجب أن يثبت في مرتبة سابقة، ومن خلال أدلة أخرى، أنّ التولية لهذا الشخص ممكنة وواجبة، ثم تكون البيعة نوع توثيق وتوكيد لذلك الأمر الثابت

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

وفيه عنهعليه‌السلام قال: معرفة النفس أنفع المعارف.

وفيه عنهعليه‌السلام قال: نال الفوز الأكبر من ظفر بمعرفة النفس.

وفيه عنهعليه‌السلام قال: لا تجهل نفسك فإن الجاهل معرفة نفسه جاهل بكل شيء.

وفي تحف العقول عن الصادقعليه‌السلام في حديث: من زعم أنه يعرف الله بتوهم القلوب فهو مشرك، ومن زعم أنه يعرف الله بالإسم دون المعنى فقد أقر بالطعن لأن الإسم محدث، ومن زعم أنه يعبد الإسم والمعنى فقد جعل مع الله شريكاً، ومن زعم أنه يعبد بالصفة لا بالإدراك فقد أحال على غائب، ومن زعم أنه يضيف الموصوف إلى الصفة فقد صغر بالكبير، وما قدروا الله حق قدره.

قيل له فكيف سبيل التوحيد؟ قال: باب البحث ممكن وطلب المخرج موجود، إن معرفة عين الشاهد قبل صفته، ومعرفة صفة الغائب قبل عينه. قيل وكيف يعرف عين الشاهد قبل صفته؟ قال: تعرفه وتعلم علمه، وتعرف نفسك به ولا تعرف نفسك من نفسك، وتعلم أن ما فيه له وبه، كما قالوا ليوسف إنك لأنت يوسف، قال أنا يوسف وهذا أخي، فعرفوه به ولم يعرفوه بغيره ولا أثبتوه من أنفسهم بتوهم القلوب.... الحديث.

أقول قد أوضحنا في ذيل قولهعليه‌السلام المعرفة بالنفس أنفع المعرفتين، الرواية الثانية من الباب أن الإنسان إذا اشتغل بآية نفسه وخلا بها عن غيرها انقطع إلى ربه من كل شيء وعقب ذلك معرفة ربه معرفة بلا توسيط وسط وعلماً بلا تسبيب سبب، إذ الإنقطاع يرفع كل حجاب مضروب، وعند ذلك يذهل الإنسان بمشاهدة ساحة العظمة والكبرياء عن نفسه. وأحرى بهذه المعرفة أن تسمى معرفة الله بالله.... وانكشف له عند ذلك من حقيقة نفسه أنها الفقيرة إلى الله سبحانه المملوكة له ملكاً لا تستقل بشيء دونه، وهذا هو المراد بقولهعليه‌السلام : تعرف نفسك به، ولا تعرف نفسك بنفسك من نفسك، وتعلم أن ما فيه له وبه.

وفي هذا المعنى ما رواه المسعودي في إثبات الوصية عن أمير المؤمنينعليه‌السلام قال

٢٦١

في خطبة له: فسبحانك ملأت كل شيء وباينت كل شيء، فأنت لا يفقدك شيء وأنت الفعال لما تشاء.... إلى أن قال: سبحانك أي عين تقوم نصب بهاء نورك وترقى إلى نور ضياء قدرتك، وأي فهم يفهم ما دون ذلك إلا أبصار كشفت عنها الأغطية وهتكت عنها الحجب العمية فرقت أرواحها على أطراف أجنحة الأرواح، فناجوك في أركانك وولجوا بين أنوار بهائك، ونظروا من مرتقى التربة إلى مستوى كبريائك، فسماهم أهل الملكوت زواراً، ودعاهم أهل الجبروت عماراً.

وفي البحار عن إرشاد الديلمي وذكر بعد ذلك سندين لهذا الحديث وفيه: فمن عمل برضائي ألزمه ثلاث خصال: أعرفه شكراً لا يخالطه الجهل، وذكراً لا يخالطه النسيان، ومحبةً لا يؤثر على محبتي محبة المخلوقين. فإذا أحبني أحببته وأفتح عين قلبه إلى جلالي ولا أخفي عليه خاصة خلقي وأناجيه في ظلم الليل ونور النهار، حتى ينقطع حديثه مع المخلوقين ومجالسته معهم، واسمعه كلامي وكلام ملائكتي وأعرفه السر الذي سترته عن خلقي، وألبسه الحياء حتى يستحيي منه الخلق كلهم، ويمشي على الأرض مغفوراً له، واجعل قلبه واعياً وبصيراً، ولا أخفي عليه شيئاً من جنة ولا نار، وأعرفه ما يمر على الناس في القيامة من الهول والشدة، وما أحاسب به الأغنياء والفقراء والجهال والعلماء، وأنومه في قبره وأنزل عليه منكراً ونكيراً حتى يسألاه، ولا يرى غم الموت وظلمة القبر واللحد وهول المطلع، ثم أنصب له ميزانه وأنشر ديوانه، ثم أضع كتابه في يمينه فيقرؤه منشوراً، ثم لا أجعل بيني وبينه ترجماناً. فهذه صفات المحبين.

يا أحمد إجعل همك هماً واحداً، واجعل لسانك لساناً واحداً، واجعل بدنك حياً لا يغفل أبداً، من يغفل عني لا أبالي بأي وادٍ هلك.

والروايات الثلاثة الأخيرة وإن لم تكن من أخبار هذا البحث المعقود على الإستقامة، إلا أنا إنما أوردناها ليقضي الناقد البصير بما قدمناه من أن المعرفة الحقيقية لا تستوفي بالعلم الفكري حق استيفائها، فإن الروايات تذكر أموراً من

٢٦٢

المواهب الإلهية المخصوصة بأوليائه لا ينتجها السير الفكري البتة. وهي أخبار مستقيمة صحيحة يشهد على صحتها الكتاب الإلهي على ما سنبين ذلك فيما سيوافيك من تفسير سورة الأعراف إن شاء الله العزيز....

وأما سائر الفرق المذهبية من الهنود كالجوكية أصحاب الأنفاس والأوهام وكأصحاب الروحانيات وأصحاب الحكمة وغيرهم، فلكل طائفة منهم رياضات شاقة عملية لا تخلو عن العزلة وتحريم اللذائذ الشهوانية على النفس.

وأما البوذية فبناء مذهبهم على تهذيب النفس ومخالفة هواها وتحريم لذائذها عليها للحصول على حقيقة المعرفة، وقد كان هذه هي الطريقة التي سلكها بوذا نفسه في حياته فالمنقول أنه كان من أبناء الملوك أو الرؤساء فرفض زخارف الحياة وهجر أريكة العرش إلى غابة موحشة لزمها في ريعان شبابه واعتزل الناس وترك التمتع بمزايا الحياة وأقبل على رياضة نفسه والتفكر في أسرار الخلقة، حتى قذفت المعرفة في قلبه وسنه إذ ذاك ستة وثلاثون، وعند ذاك خرج إلى الناس فدعاهم إلى ترويض النفس وتحصيل المعرفة ولم يزل على ذلك قريباً من أربع وأربعين سنة على ما في التواريخ.

وأما الصابئون ونعني بهم أصحاب الروحانيات فهم وإن أنكروا أمر النبوة غير أن لهم في طريق الوصول إلى كمال المعرفة النفسانية طرقاً لا تختلف كثيراً عن طرق البراهمة والبوذيين، قالوا: على ما في الملل والنحل، أن الواجب علينا أن نطهر نفوسنا عن دنس الشهوات الطبيعية، ونهذب أخلاقنا عن علائق القوى الشهوانية والغضبية، حتى يحصل مناسبه ما بيننا وبين الروحانيات، فنسأل حاجاتنا منهم ونعرض أحوالنا عليهم ونصبوا في جميع أمورنا إليهم، فيشفعون لنا إلى خالقنا وخالقهم ورازقنا ورازقهم.

وهذا التطهير ليس يحصل إلا باكتسابنا ورياضتنا، وفطامنا أنفسنا عن دنيئات الشهوات، استمداداً من جهة الروحانيات، والإستمداد هو التضرع والإبتهال

٢٦٣

بالدعوات وإقامة الصلوات، وبذل الزكوات، والصيام عن المطعومات والمشروبات، وتقريب القرابين والذبائح، وتبخير البخورات وتعزيم العزائم، فيحصل لنفوسنا استعداد واستمداد من غير واسطة. انتهى.

وهؤلاء وإن اختلفوا فيما بين أنفسهم بعض الإختلاف في العقائد العامة الراجعة إلى الخلق والإيجاد لكنهم متفقوا الرأي في وجوب ترويض النفس للحصول على كمال المعرفة وسعادة النشأة.

وأما المانوية من الثنوية، فاستقرار مذهبهم على كون النفس من عالم النور العلوي وهبوطها إلى هذه الشبكات المادية المظلمة المسماة بالأبدان، وأن سعادتها وكمالها التخلص من دار الظلمة إلى ساحة النور، إما اختياراً بالترويض النفساني وإما اضطراراً بالموت الطبيعي المعروف.

وأما أهل الكتاب ونعني بهم اليهود و النصارى والمجوس، فكتبهم المقدسة وهي العهد العتيق والعهد الجديد وأوستا، مشحونة بالدعوة إلى إصلاح النفس وتهذيبها ومخالفة هواها. ولا تزال كتب العهدين تذكر الزهد في الدنيا والإشتغال بتطهير السر، ولا يزال يتربى بينهم جم غفير من الزهاد وتاركي الدنيا، جيلاً بعد جيل وخاصة النصارى فإن من سننهم المتبعة الرهبانية. وقد ذكر أمر رهبانيتهم في القرآن الشريف قال تعالى:ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ . المائدة - ٨٢ وقال تعالى:وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاّ ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا . الحديد - ٢٧، كما ذكر المتعبدون من اليهود في قوله:لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ * يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ . آل عمران - ١١٤.

وأما الفرق المختلفة من أصحاب الإرتياضات والأعمال النفسية كأصحاب السحر والسيمياء، وأصحاب الطلسمات وتسخير الأرواح والجن وروحانيات

٢٦٤

الحروف والكواكب وغيرها، وأصحاب الإحضار وتسخير النفوس، فلكل منهم ارتياضات نفسية خاصة تنتج نوعاً من السلطة على أمر النفس.

وجملة الأمر على ما يتحصل من جميع ما مر: أن الوجهة الأخيرة لجميع أرباب الأديان والمذاهب والأعمال هو تهذيب النفس بترك هواها والإشتغال بتطهيرها من شوب الأخلاق والأحوال غير المناسبة للمطلوب.

لعلك ترجع وتقول إن الذي ثبت من سنن أرباب المذاهب والطرق وسيرهم هو الزهد في الدنيا وهو غير مسألة معرفة النفس أو الإشتغال بأمر النفس بالمعنى الذي تقدم البحث عنه. وبلفظ أوضح: الذي يندب إليه الأديان والمذاهب التي تدعو إلى العبودية بنحو أن يتزهد الإنسان نوع تزهد في الدنيا بإتيان الأعمال الصالحة وترك الهوى والآثام ورذائل الأخلاق ليتهيأ بذلك لأحسن الجزاء إما في الآخرة كما تصرح به الأديان النبوية كاليهودية والنصرانية والإسلام، أو في الدنيا كما استقر عليه دين الوثنية ومذهب التناسخ وغيرهما، فالمتعبد على حسب الدستور الديني يأتي بما ندب إليه من نوع التزهد من غير أن يخطر بباله أن هناك نفساً مجردة وأن لها نوعاً من المعرفة فيه سعادتها وكمال وجودها.

وكذلك الواحد من أصحاب الرياضات على اختلاف طرقها وسننها إنما يرتاض بما يرتاض من مشاق الأعمال ولا همَّ له في ذلك إلا حيازة المقام الموعود فيها والتسلط على نتيجة العمل كنفوذ الإرادة مثلاً، وهو في غفلة من أمر النفس المذكور من حين يأخذ في عمله إلى حين يختمه. على أن في هؤلاء من لا يرى في النفس إلا أنها أمر مادي طبيعي كالدم أو الروح البخار أو الأجزاء الأصلية، ومن يرى أن النفس جسم لطيف مشاكل للبدن العنصري حال فيه وهو الحامل للحياة، فكيف يسوغ القول بكون الجميع يرومون بذلك أمر معرفة النفس.

لكنه ينبغي لك أن تتذكر ما تقدم ذكره أن الإنسان في جميع هذه المواقف التي يأتي فيها بأعمال تصرف النفس عن الإشتغال بالأمور الخارجية والتمتعات المتفننة

٢٦٥

المادية إلى نفسها، للحصول على خواص وآثار لا توصل إليها الأسباب المادية والعوامل الطبيعية العادية، لا يريد إلا الإنفصال عن العلل والأسباب الخارجية والإستقلال بنفسه للحصول على نتائج خاصة لا سبيل للعوامل المادية العادية إليها. فالمتدين المتزهد في دينه يرى أن من الواجب الإنساني أن يختار لنفسه سعادته الحقيقية، وهي الحياه الطيبة الأخروية عند المنتحلين بالمعاد، والحياة السعيدة الدنيوية التي تجمع له الخير وتدفع عنه الشر عند المنكرين له كالوثنية وأصحاب التناسخ، ثم يرى أن الإسترسال في التمتعات الحيوانية لا تحوز له سعادته ولا تسلك به إلى غرضه، فلا محيص له عن رفض الهوى وترك الإنطلاق إلى كل ما تتهوسه نفسه بأسبابها العادية في الجملة، والإنجذاب إلى سبب أو اسباب فوق الأسباب المادية العادية بالتقرب إليه والإتصال به، وأن هذا التقرب والإتصال إنما يتأتى بالخضوع له والتسليم لأمره، وذلك أمر روحي نفساني لا ينحفظ إلا بأعمال وتروك بدنية وهذه هي العبادة الدينية من صلاة ونسك أو ما يرجع إلى ذلك.

فالأعمال والمجاهدات والإرتياضات الدينية ترجع جميعاً إلى نوع من الإشتغال بأمر النفس، والإنسان يرى بالفطرة أنه لا يأخذ شيئاً ولا يترك شيناً إلا لنفع نفسه، وقد تقدم أن الإنسان لا يخلو ولا لحظة من لحظات وجوده من مشاهدة نفسه وحضور ذاته، وأنه لا يخطيَ في شعوره هذا البتة، وإن أخطأ فإنما يخطيَ في تفسيره بحسب الرأي النظري والبحث الفكري.

فظهر بهذا البيان أن الأديان والمذاهب على اختلاف سننها وطرقها تروم الإشتغال بأمر النفس في الجملة، سواء علم بذلك المنتحلون بها أم لم يعلموا. وكذلك الواحد من أصحاب الرياضات والمجاهدات وإن لم يكن منتحلاً بديلاً ولا مؤمناً بأمر حقيقة النفس، لا يقصد بنوع رياضته التي يرتاض بها إلا الحصول على نتيجتها الموعودة له، وليست النتيجة الموعودة مرتبطة بالأعمال والتروك التي يأتي بها ارتباطاً طبيعياً نظير الإرتباط الواقع بين الأسباب الطبيعية ومسبباتها، بل هو

٢٦٦

ارتباط إرادي غير مادي متعلق بشعور المرتاض وإرادته المحفوظين بنوع العمل الذي يأتي به، دائر بين نفس المرتاض وبين النتيجة الموعودة.

فحقيقة الرياضة المذكورة هي تأييد النفس وتكميلها في شعورها وإرادتها للنتيجة المطلوبة. وإن شئت قلت: أثر الرياضة أن تحصل للنفس حالة العلم بأن المطلوب مقدور لها، فإذا صحت الرياضة وتمت صارت بحيث لو أرادت المطلوب مطلقاً أو أرادته على شرائط خاصة، كإحضار الروح للصبي غير المراهق في المرآة، حصل المطلوب.

وإلى هذا الباب يرجع معنى ما روي: أنه ذكر عند النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أن بعض أصحاب عيسىعليه‌السلام كان يمشي على الماء فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : لو كان يقينه أشد من ذلك لمشى على الهواء، فالحديث كما ترى يومئ إلى أن الأمر يدور مدار اليقين بالله سبحانه وإمحاء الأسباب الكونية عن الإستقلال في التأثير.

فإلى أي مبلغ بلغ ركون الإنسان إلى القدرة المطلقة الإلهية انقادت له الأشياء على قدره، فافهم ذلك.

ومن أجمع القول في هذا الشأن قول الصادقعليه‌السلام : ما ضعف بدن عما قويت عليه النية. وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله في الحديث المتواتر: إنما الأعمال بالنيات.

فقد تبين أن الآثار الدينية للأعمال والعبادات وكذلك آثار الرياضات والمجاهدات إنما تستقر الرابطة بينها وبين النفس الإنسانية بشؤونها الباطنية، فالإشتغال بشيء منها اشتغال بأمر النفس....

إياك أن يشتبه عليك الأمر فتستنتج من الأبحاث السابقة أن الدين هو العرفان والتصوف، أعني معرفة النفس كما توهمه بعض الباحثين من الماديين، فقسم المسلك الحيوي الدائر بين الناس إلى قسمين المادية والعرفان وهو الدين. وذلك أن الذي يعقد عليه الدين أن للإنسان سعادة حقيقية ليس ينالها إلا بالخضوع لما فوق الطبيعة، ورفض الإقتصار على التمتعات المادية.

٢٦٧

وقد أنتجت الأبحاث السابقة أن الأديان أياً ما كانت من حق أو باطل تستعمل تربية الناس وسوقهم إلى السعادة التي تعدهم إياها، وتدعوهم إليها إصلاح النفس وتهذيبها إصلاحاً وتهذيباً يناسب المطلوب. وأين هذا من كون عرفان النفس هو الدين.

فالدين يدعو إلى عبادة الإله سبحانه من غير واسطة أو بواسطة الشفعاء والشركاء لأن فيها السعادة الإنسانية والحياة الطيبة التي لا بغية للإنسان دونها، ولا ينالها الإنسان ولن ينالها إلا بنفس طاهرة مطهرة من ألواث التعلق بالماديات والتمتعات المرسلة الحيوانية، فمست الحاجة إلى أن يدرج في أجزاء دعوته إصلاح النفس وتطهيرها ليستعد المنتحل به المتربي في حجره للتلبس بالخير والسعادة ولا يكون كمن يتناول الشيء بإحدى يديه ويدفعه بالأخرى.

فالدين أمر وعرفان النفس أمر آخر وراءه وإن استلزم الدين العرفان نوعاً من الإستلزام.

وبنظير البيان يتبين أن طرق الرياضة والمجاهدة المسلوكة لمقاصد متنوعة غريبة عن العادة أيضاً غير عرفان النفس وإن ارتبط البعض بالبعض نحواً من الإرتباط.

نعم لنا أن نقضي بأمر وهو: إن عرفان النفس بأي طريق من الطرق فرض السلوك إليه إنما هو أمر مأخوذ من الدين، كما أن البحث البالغ الحر يعطي أن الأديان على اختلافها وتشتتها إنما انشعبت هذه الإنشعابات من دين واحد عريق تدعو إليه الفطرة الإنسانية وهو دين التوحيد.

فإنا إذا راجعنا فطرتنا الساذجة بالإغماض عن التعصبات الطارئة علينا بالوراثة من أسلافنا أو بالسراية من أمثالنا لم نرتب في أن العالم على وحدته في كثرته وارتباط أجزائه في عين تشتتها، ينتهي إلى سبب واحد فوق الأسباب وهو الحق الذي يجب الخضوع لجانبه، وترتيب السلوك الحيوي على حسب تدبيره وتربيته، وهو الدين المبني على التوحيد.

٢٦٨

والتأمل العميق في جميع الأديان والنحل يعطي أنها مشتملة نوع اشتمال على هذا الروح الحي حتى الوثنية والثنوية، وإنما وقع الإختلاف في تطبيق السنة الدينية على هذا الأصل والإصابة والخطأ فيه، فمن قائل مثلاً أنه أقرب إلينا من حبل الوريد وهو معنا أينما كنا ليس لنا من دونه من ولي ولا شفيع، فمن الواجب عبادته وحده من غير إشراك، ومن قائل أن تسفل الإنسان الأرضي وخسة جوهره لا يدع له مخلصاً إلى الإتصال بذاك الجناب، وأين التراب ورب الأرباب فمن الواجب أن نتقرب إلى بعض عباده المكرمين المتجردين عن جلباب المادة، الطاهرين المطهرين من ألواث الطبيعة، وهم روحانيات الكواكب، أو أرباب الأنواع، أو المقربون من الإنسان، وما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى. وإذ كانوا غائبين عن حواسنا متعالين عن جهاتنا كان من الواجب أن نجسدهم بالأنصاب والأصنام حتى يتم بذلك أمر التقرب العبادي. وعلى هذا القياس في سائر الأديان والملل، فلا نجد في متونها إلا ما هو بحسب الحقيقة نحو توجيه لتوحيد الإله عز اسمه.

ومن المعلوم أن السنن الدائرة بين الناس وإن انشعبت أي انشعاب واختلفت أي اختلاف شديد، فإنها تميل إلى التوحد إذا رجعنا إلى سابق عهودها القهقرى، وتنتهي بالآخرة إلى دين الفطرة الساذجة الإنسانية وهو التوحيد.

فدين التوحيد أبو الأديان وهي أبناء له صالحة أو طالحة.

ثم إن الدين الفطري إنما يعتبر أمر عرفان النفس ليتوصل به إلى السعادة الإنسانية التي يدعو إليها، وهي معرفة الإله التي هي المطلوب الأخير عنده. وبعبارة أخرى: الدين إنما يدعو إلى عرفان النفس دعوة طريقية لا غائية، فإن الذوق الديني لا يرتضي الإشتغال بأمر إلا في سبيل العبودية، وإن الدين عند الله الإسلام ولا يرضى لعباده الكفر، فكيف يرضى بعرفان النفس إذا استقل بالمطلوبية.

ومن هنا يظهر أن العرفان ينتهي إلى أصل الدين الفطري إذ ليس هو بنفسه أمراً مستقلاً تدعو إليه الفطرة الإنسانية، حتى تنتهي فروعه وأغصانه إلى أصل واحد هو العرفان الفطري.

٢٦٩

ويمكن أن يستأنس في ذلك بأمر آخر وهو: أن الإنسانية وإن اندفعت بالفطرة إلى الإجتماع والمدنية لإسعاد الحياة، وأثبت النقل والبحث أن رجالاً أو أقواماً اجتماعيين دعوا إلى طرائق قومية أو وضعوا سنناً اجتماعية وأجروها بين أممهم كسنن القبائل والسنن الملوكية والديمقراطية ونحوها، ولم يثبت بنقل أو بحث أن يدعو إلى عرفان النفس وتهذيب أخلاقها أحد من غير أهل الدين في طول التاريخ البشري.

نعم من الممكن أن يكون بعض أصحاب هذه الطرق غير الدينية كأصحاب السحر والأرواح ونحوهما إنما تنبه إلى هذا النوع من عرفان النفس من غير طريق الدين، لكن لا من جهة الفطرة، إذ الفطرة لا حكم لها في ذلك كما عرفت، بل من جهة مشاهدة بعض الآثار النفسانية الغريبة على سبيل الإتفاق، فتتوق نفسه إلى الظفر بمنزلة نفسانية يملك بها أعمالاً عجيبة وتصرفات في الكون نادرة تستغربها النفوس، فيدفعه هذا التوقان إلى البحث عنه والسلوك إليه، ثم السلوك بعد السلوك يمهد السبيل إلى المطلوب ويسهل الوعر منه.

يحكى عن كثير من صلحائنا من أهل الدين أنهم نالوا في خلال مجاهداتهم الدينية كرامات خارقة للعادة، وحوادث غريبة اختصوا بها من بين أمثالهم كتمثل أمور لأبصارهم غائبة عن أبصار غيرهم، ومشاهدة أشخاص أو وقائع لا يشاهدها حواس من دونهم من الناس، واستجابة للدعوة وشفاء المريض الذي لا مطمع لنجاح المداواة فيه، والنجاة من المخاطر والمهالك من غير طريق العادة.

وقد يتفق نظائر ذلك لغير أهل الصلاح إذا كان ذا نية صادقة ونفس منقطعة، فهؤلاء يرون ما يرون وهم على غفلة من سببه القريب، وإنما يسندون ذلك إلى الله سبحانه من غير توسيط وسط.

واستناد الأمور إليه تعالى وإن كان حقاً لا محيص عن الإعتراف به، لكن نفي الأسباب المتوسطة مما لا مطمع فيه.

٢٧٠

وربما أحضر الروحي روح أحد من الناس في مرآة أو ماء ونحوه بالتصرف في نفس صبي على ما هو المتعارف، وهو كغيره يرى أن الصبي إنما يبصره بالبصر الحسي، وأن بين أبصار سائر الناظرين وبين الروح المحضر حجاباً مضروباً، لو كشف عنه لكانوا مثل الصبي في الظفر بمشاهدته.

وربما وجدوا الأرواح المحضرة أنها تكذب في أخبارها فيكون عجباً لأن عالم الأرواح عالم الطهارة والصفاء لا سبيل للكذب والفرية والزور إليه.

وربما أحضروا روح إنسان حي فيستنطقونه بأسراره وضمائره وصاحب الروح في حالة اليقظة مشغول بأشغاله وحوائجه اليومية لا خبر عنده من أن روحه محضر مستنطق يبث من القول ما لا يرضى هو ببثه.

وربما نوم الإنسان تنويماً مغناطيسياً، ثم لقن بعمل حتى ينعم بقبوله، فإذا أوقظ ومضى لشأنه أتى بالعمل الذي لقنه على الشريطة التي أريد بها وهو غافل عما لقنوه، وعن إنعامه بقبوله.

وبعض الروحيين لما شاهدوا صوراً روحية تماثل الصور الإنسانية أو صور بعض الحيوان ظنوا أن هذه الصور في عالم المادة وظرف الطبيعة المتغيرة، وخاصة بعض من لا يرى لغير الأمر المادي وجوداً، حتى حاول بعض هؤلاء أن يخترع أدوات صناعية يصطاد بها الأرواح! كل ذلك استناداً منهم إلى فرضية افترضوها في النفس أنها مبدأ مادي أو خاصة لمبدأ مادي، يفعل بالشعور والإرادة، مع أنهم لم يحلوا مشكلة الحياة والشعور حتى اليوم.

ونظير هذه الفرضية فرضية من يرى أن الروح جسم لطيف مشاكل للبدن العنصري في هيئاته وأشكاله، لما وجدوا أن الإنسان يرى نفسه في المنام وهو على هيئته في اليقظة، وربما يمثل لأرباب المجاهدات صور أنفسهم قبالاً خارج أبدانهم وهي مشاكلة للصورة البدنية مشاكلة تامة، فحكموا أن الروح جسم لطيف حال البدن العنصري مادام الإنسان حياً فإذا فارق البدن كان هو الموت.

٢٧١

وقد فاتهم أن هذه صورة إدراكية قائمة بشعور الإنسان نظيره صورته التي يدركها من بدنه، ونظيره صور سائر الأشياء الخارجة المنفصلة عن بدنه، وربما تظهر هذه الصورة المنفصلة لبعض أرباب المجاهدة أكثر من واحدة، أو في هيئة غير هيئة نفسه، وربما يرى نفسه عين نفس غيره من أفراد الناس، فإذا لم يحكموا في هذه الصور المذكور أنها هي صورة الروح، فجدير بهم أن لا يحكموا في الصورة الواحدة المشاكلة التي تتراءى لأرباب المجاهدات أنها صورة الروح.

وحقيقة الأمر أن هؤلاء نالوا شيئاً من معارف النفس وفاتهم معرفة حقيقتها، فأخطأوا في تفسير ما نالوه، وضلوا في توجيه أمره. والحق الذي يهدي إليه البرهان والتجربة أن حقيقة النفس التي هي هذا الشعور المتعقل المحكي عنه بقولنا (أنا) أمر مغاير في جوهره لهذه الأمور المادية كما تقدم، وأن أقسام شعوره وأنواع إدراكاته من حس أو خيال أو تعقل من جهة كونها مدركات إنما هي متقررة في عالمه وظرفه غير الخواص الطبيعية الحاصلة في أعضاء الحس والإدراك من البدن، فإنها أفعال وانفعالات مادية فاقدة في نفسها للحياة والشعور، فهذه الأمور المشهودة الخاصة بالصلحاء وأرباب المجاهدات والرياضات غير خارجة عن حيطة نفوسهم، وإنما الشأن في أن هذه المعلومات والمعارف كيف استقرت في النفس وأين محلها منها، وأن للنفس سمة علية لجميع الحوادث والأمور المرتبطة بها ارتباطاً ما. فجميع هذه الأمور الغريبة المطاوعة لأهل الرياضة والمجاهدة، إنما ترتضع من إرادتهم ومشيئتهم، والإرادة ناشئة من الشعور، فللشعور الإنساني دخل في جميع الحوادث المرتبطة به والأمور المماسة له.

فمن الحري أن نقسم المشتغلين بعرفان النفس في الجملة إلى طائفتين،إحداهما : المشتغلون بالإشتغال بإحراز شيء من آثار النفس الغريبة الخارجة عن حومة المتعارف من الأسباب والمسببات المادية كأصحاب السحر والطلسمات وأصحاب تسخير روحانيات الكواكب والموكلين على الأمور والجن وأرواح

٢٧٢

الآدميين وأصحاب الدعوات والعزائم ونحو ذلك.

والثانية: المشتغلون بمعرفة النفس بالإنصراف عن الأمور الخارجة عنها والإنجذاب نحوها، للغور فيها ومشاهدة جوهرها وشؤونها كالمتصوفة على اختلاف طبقاتهم ومسالكهم.

وليس التصوف مما أبدعه المسلمون من عند أنفسهم لما (ثبت) أنه يوجد بين الأمم التي تتقدمهم في النشوء كالنصارى وغيرهم، حتى الوثنية من البرهمانية والبوذية، ففيهم من يسلك الطريقة حتى اليوم، بل هي طريقة موروثة ورثوها من أسلافهم. لكن لا بمعنى الأخذ والتقليد العادي كوراثة الناس ألوان المدنية بعضهم من بعض، وأمة منهم متأخرة من أمة منهم متقدمة، كما جرى على ذلك عدة من باحثي الأديان والمذاهب وذلك لما عرفت في الفصول السابقة من أن دين الفطرة يهدي إلى الزهد، والزهد يرشد إلى عرفان النفس.

فاستقرار الدين بين أمة وتمكنه من قلوبهم يعدهم ويهيؤهم لأن تنشأ بينهم طريقة عرفان النفس لا محالة، ويأخذ بها بعض من تمت في حقه العوامل المقتضية لذلك. فمكث الحياة الدينية في أمة من الأمم برهة معتداً بها ينشيء بينهم هذه الطريقة لا محالة صحيحة أو فاسدة، وإن انقطعوا عن غيرهم من الأمم الدينية كل الإنقطاع. وما هذا شأنه لا ينبغي أن يعد من السنن الموروثة التي يأخذها جيل عن جيل.

ثم ينبغي أن نقسم أصحاب القسم الثاني من القسمين المتقدمين وهم أهل العرفان حقيقة إلى طائفتين: فطائفة، منهم يسلكون الطريقة لنفسها فيرزقون شيئاً من معارفها من غير أن يتم لهم تمام المعرفة لها، لأنهم لما كانوا لا يريدون غير النفس فهم في غفلة عن أمر صانعها وهو الله عز اسمه الذي هو السبب الحق الآخذ بناصية النفس في وجودها وآثار وجودها. وكيف يسع الإنسان تمام معرفة شيء مع الذهول عن معرفة أسباب وجوده وخاصة السبب الذي هو سبب كل سبب، وهل هو إلا كمن يدعي معرفة السرير على جهل منه بالنجار وقدومه ومنشاره، وغرضه في

٢٧٣

صنعه، إلى غير ذلك من علل وجود السرير.

ومن الحري بهذا النوع من معرفة النفس أن يسمى كهانة بما في ذيله من الحصول على شيء من علوم النفس وآثارها.

وطائفة منهم يقصدون طريقة معرفة النفس لتكون ذريعة لهم إلى معرفة الرب تعالى، وطريقتهم هذه هي التي يرتضيها الدين في الجملة وهي أن يشتغل الإنسان بمعرفة نفسه بما أنها آية من آيات ربه وأقرب آية، وتكون النفس طريقاً مسلوكاً والله سبحانه هو الغاية التي يسلك إليها، وأن إلى ربك المنتهى.

وهؤلاء طوائف مختلفة ذووا مذاهب متشتتة في الأمم والنحل، وليس لنا كثير خبرة بمذاهب غير المسلمين منهم وطرائقهم التي يسلكونها. وأما المسلمون فطرقهم فيها كثيرة ربما انهيت بحسب الأصول إلى خمس وعشرين سلسلة، تنشعب من كل سلسلة منها سلاسل جزئية أخر، وقد استندوا فيها إلا واحدة، إلى علي عليه أفضل السلام.

وهناك رجال منهم لا ينتمون إلى واحدة من هذه السلاسل ويسمون الأويسية نسبة إلى أويس القرني، وهناك آخرون منهم لا يتسمون بإسم ولا يتظاهرون بشعار.

ولهم كتب ورسائل مسفورة ترجموا فيها عن سلاسلهم وطرقهم والنواميس والآداب التي لهم عن رجالهم، وضبطوا فيها المنقول من مكاشفاتهم، وأعربوا فيها عن حججهم ومقاصدهم التي بنوها عليها، من أراد الوقوف عليها فليراجعها.

وأما البحث عن تفصيل الطرق والمسالك وتصحيح الصحيح ونقد الفاسد، فله مقام آخر، وقد تقدم في الجزء الخامس من هذا الكتاب بحث لا يخلو عن نفع في هذا الباب، فهذه خلاصة ما أردنا إيراده من البحث المتعلق بمعنى معرفة النفس.

واعلم أن عرفان النفس بغية عملية لا يحصل تمام المعرفة بها إلا من طريق السلوك العملي دون النظري.

وأما علم النفس الذي دَوَّنه أرباب النظر من القدماء فليس يغني من ذلك شيئاً،

٢٧٤

وكذلك فن النفس العملي الذي دونه المتأخرون حديثاً، فإنما هو شعبة من فن الأخلاق على ما دونه القدماء، والله الهادي. انتهى.

الموقف الفقهي من الدعوة إلى معرفة الله تعالى عن طريق معرفة النفس

ما ذكره صاحب الميزانرحمه‌الله من الطريقين لمعرفة الله تعالى: طريق النظر في الآفاق وطريق النظر في الأنفس، مطلب شائع بين العرفانيين والمتصوفة، والظاهر أنهم أخذوه من قوله تعالى: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ) ولابد هنا من تسجيل الملاحظات التالية:

أولاً: وردت أحاديث شريفة في تفسير الآية المذكورة بأنها من علامات ظهور الإمام المهديعليه‌السلام أو من الأحداث التي تظهر على يده، وأن المقصود بالآفاق آفاق الأرض حيث (تنتقض الأطراف عليهم) أي على الجبارين قرب ظهورهعليه‌السلام . ويؤيد ذلك سين الإستقبال في الآية، التي تخبر عن حدث في المستقبل، وإلا لقال (ولقد أريناهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم) مثلاً. أو قال (أولم ينظروا في الآفاق) كما قال تعالى( أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض ) .

ثانياً: لا شك أن النظر في ملكوت السماوات والأرض، أي فيما يمكن للإنسان معرفته وفهمه وأخذ العبرة منه، أمر محبوب شرعاً وموصل إلى معرفة الله تعالى وزيادة الإيمان به. قال تعالى:أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ . الأعراف - ١٨٥، ولكن نفس الإنسان جزء من هذا الملكوت وواحدة من هذه الآفاق، وليست طريقاً في مقابل بقية الآفاق.

ثالثاً: لم أجد سنداً للحديث الذي ذكره (المعرفة بالنفس أنفع المعرفتين) ومن البعيد أن يكون حديثاً شريفاً، وعلى فرض صحته لا يصح تفسيره بما ذكرهرحمه‌الله فإن المقابل لمعرفة الله بالنفس معرفة الله بالله تعالى، أو معرفة الله بأنبيائه وأوليائه، أو

٢٧٥

معرفة الله بآياته غير النفس.. فمن أين جعلرحمه‌الله المعرفة التي تقابل معرفة النفس، معرفة الآفاق وحصره المقابلة بها. ثم إذا كانت المعرفة بالسير الآفاقي تشمل معرفة الله بالله تعالى وبأوليائه صلوات الله عليهم، فكيف يصح تفضيل معرفته عن طريق النفس على هذه المعرفة؟!

رابعاً: تقدم بحث الحد الأدنى الواجب من معرفة الله تعالى، ولم يتعرض الفقهاء والمتكلمون إلى طرقه، ولم يفضلوا بعضها على بعض. كما تقدم أن معرفة الله هي من صنعه تعالى في نفس الإنسان وألطافه به، ولا صنع للإنسان فيها.

خامساً: لا شك في صحة ما ذكرهرحمه‌الله من أن تزكية النفس وتهذيبها من الرذائل والشهوات والتعلق بحطام الدنيا ومتاعها، مقدمة لازمة لتحقيق هدف الدين الذي هو عبادة الله تعالى. قال تعالى(وما خلقت الجن والإنس إلاّ ليعبدون) وقال تعالى(هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ) ولكن الوارد في القرآن الكريم والأحاديث الشريفة هو تزكية النفس وجهاد النفس ومخالفة النفس، وهي أمور عملية غير ما يطرحه المتصوفة والعرفاء من معرفة النفس، وإن كانت تزكية النفس تتوقف على قدر من معرفتها.

سادساً: لو سلمنا أن تزكية النفس ومخالفتها وجهادها هي نفس معرفة النفس التي طرحها المتصوفة والعرفاء، ولكن الدعوة إلى معرفة الله تعالى وطاعته عن طريق معرفة النفس على إجمالها وإهمالها تتضمن مخاطر عديدة لا يمكن قبولها، لأنها تتسع للضد والنقيض في الأساليب والأهداف والقدوات.. جميعاً.

فبعض الدعوات إلى معرفة الله تعالى عن طريق معرفة النفس تتبنى العزلة والرهبانية، وبعضها يتبنى إصلاح النفس والمجتمع والحكم. وبعضها يدعو إلى التقيد بأحكام الشريعة المقررة في هذا المذهب أو ذاك.... وبعضها يدعو إلى تقليد الأستاذ شيخ الطريقة أو أستاذ الأخلاق وما شابه، دون الحاجة إلى أخذ أي مفهوم أو حكم شرعي من غيره!

٢٧٦

وبعضها يدعي أنه يتصل بالله تعالى عن طريق المعرفة فيلهم العقائد والأحكام الشرعية، ولا يحتاج عند ذلك إلى شريعة! بل ولا إلى نبوة!!

وبعض الدعوات تجعل قدوتها في المعرفة بعض الصحابة أو الأولياء الذين لم يجعلهم الله تعالى ولا رسوله قدوة. بل قد يتخذ بعضهم قدوة من العرفاء والمتصوفة غير المسلمين.. الى آخر ما هنالك من تعدد الأساليب والأهداف والقدوات.

ولهذا، فإن من المشكل جداً أن ندعو الناس إلى معرفة الله تعالى عن طريق معرفة النفس، ونقول لهم اقتدوا بأستاذكم حتى يصل أحدكم إلى الله تعالى فيصير أستاذاً مجتهداً! فما أيسر أن يجلس الشيطان في هذا الطريق وينحرف بالإنسان!

سابعاً: بما أن حب الذات أقوى غرائز الإنسان على الإطلاق، فإن دعوة العوام بل وأكثر المتعلمين إلى سلوك طريق العرفان والتصوف بدون تحديد الوسائل والأهداف والقدوة، يجعلهم في معرض الوقوع في عبادة الذات وتعظيمها، فيتخيل أحدهم أنه وصل إلى الله تعالى، وحصل على ارتباط به، وصار صاحب أسرار إلهية، ويزين له الشيطان العيش في عالم من نسيج الخيال وحب الذات، وقد تظهر منه ادعاءات باطلة واتجاهات منحرفة، أعاذنا الله وجميع المؤمنين.

لذلك فإن الإئتمام في المعرفة وتعيين وسائلها وهدفها من أول ضرورياتها، فالواجب التركيز على القدوة في معرفة النفس والسلوك، قبل الدعوة إلى سلوك طريقٍ لا إمام له.

ثامناً: ما دامت معرفة النفس عند المتصوفة طريقاً الى معرفة الله تعالى، ومعرفة الله تعالى طريقاً الى عبادته، فالهدف المتفق عليه عند الجميع هو عبادة الله سبحانه. وهذه العبادة التي هي غاية الخلق وطريق التكامل الإنساني الوحيد، إنما تحصل بإطاعته سبحانه، وإطاعة رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله وإطاعة أهل بيتهعليهم‌السلام أولي الأمر الذين أمرنا الله ورسوله بإطاعتهم والإقتداء بهم..

ولذلك فلابد في الدعوة إلى المعرفة والعرفان وتزكية النفس وتطهيرها وجهادها

٢٧٧

وغرس الفضائل فيها.. أن تتقيد بإطاعة الأحكام الشرعية كاملة، وتتخذ من النبي وآله صلّى الله عليه وعليهم قدوة وأئمة في المسلك والسلوك.. حتى تكون طريقاً صحيحاً في الحياة، موصلة إلى رضوان الله تعالى. ولذلك أجاب أحد الفقهاء شخصاً سأله ما هو العرفان، وكيف يكون الإنسان عارفاً، فقال له: هذه الأحكام الشرعية التي تطبقها يومياً فتصلي وتقوم بالواجبات وتترك المحرمات هي العرفان، وأنت بسلوكك هذا تمارس المعرفة.

ومن الطبيعي أن يكون ذلك السلوك على درجات ومراتب ومقامات، ولكنها تتحقق من هذا الطريق الذي سلكه النبي وآله وتلامذتهم، لا من غيره.

معرفة النبي والأئمّة صلّى الله عليه وعليهم

يجب على كل الناس معرفة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله

- الكافي ج ١ ص ١٦٨

علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن العباس بن عمر الفقيمي، عن هشام بن الحكم، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام أنه قال للزنديق الذي سأله من أين أثبتت الأنبياء والرسل؟ قال: أنه لما أثبتنا أن لنا خالقاً صانعاً متعالياً عنا وعن جميع ما خلق، وكان ذلك الصانع حكيماً متعالياً لم يجز أن يشاهده خلقه ولا يلامسوه، فيباشرهم ويباشروه ويحاجهم ويحاجوه، ثبت أن له سفراء في خلقه، يعبرون عنه إلى خلقه وعباده، ويدلونهم على مصالحهم ومنافعهم وما به بقاؤهم وفي تركه فناوهم، فثبت الآمرون والناهون عن الحكيم العليم في خلقه والمعبرون عنه عز وجل، وهم الأنبياءعليهم‌السلام وصفوته من خلقه، حكماء مؤدبين بالحكمة، مبعوثين بها، غير مشاركين للناس - على مشاركتهم لهم في الخلق والتركيب - في شيء من أحوالهم، مؤيدين من عند الحكيم العليم بالحكمة، ثم ثبت ذلك في كل دهر وزمان مما أتت به الرسل والأنبياء من

٢٧٨

الدلائل والبراهين، لكيلا تخلو أرض الله من حجة، يكون معه علم يدل على صدق مقالته وجواز عدالته.

- دعائم الإسلام ج ١ ص ٥

فأما ما فرض على القلب من الإيمان فالإقرار والمعرفة والعقد والرضا والتسليم بأن الله تبارك وتعالى هو الواحد، لا إله إلا هو وحده لا شريك له إلهاً واحداً أحداً صمداً لم يتخذ صاحبة ولا ولداً، وأن محمداً عبده ورسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله والإقرار بما كان من عند الله من نبي أو كتاب، وذلك ما فرض على القلب من الإقرار والمعرفة.

- الهداية للصدوق ص ٥

يجب أن يعتقد أن النبوة حق كما اعتقدنا أن التوحيد حق، والأنبياء الذين بعثهم الله مئة ألف نبي وأربعة وعشرون ألف نبي، جاؤوا بالحق من عند الحق وأن قولهم قول الله وأمرهم أمر الله وطاعتهم طاعة الله ومعصيتهم معصية الله، فإنهم لم ينطقوا إلا عن الله تبارك وتعالى وعن وحيه. وأن سادة الأنبياء خمسة الذين عليهم دارت الرحى، وهم أصحاب الشرايع وهم أولوا العزم: نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمد صلوات الله عليهم، وأن محمداًصلى‌الله‌عليه‌وآله سيدهم وأفضلهم، وأنه جاء بالحق وصدق المرسلين، وأن الذين كذبوه لذائقوا العذاب الأليم، وأن الذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون.

ويجب أن يعتقد أن الله تعالى لم يخلق خلقاً أفضل من محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله ومن بعده الأئمة صلوات الله عليهم، وأنهم أحب الخلق إلى الله عز وجل وأكرمهم عليه، وأولهم إقراراً به لما أخذ الله ميثاق النببين من الذر، وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى، وأن الله بعث نبيهصلى‌الله‌عليه‌وآله في الذر، وأن الله أعطى ما أعطى كل نبي على قدر معرفته، ونبيناصلى‌الله‌عليه‌وآله سبقهم إلى الإقرار به.

ويعتقد أن الله تبارك وتعالى خلق جميع ما خلق له ولأهل بيتهصلى‌الله‌عليه‌وآله وأنه لولاهم ما

٢٧٩

خلق السماء والأرض، ولا الجنة والنار، ولا آدم ولا حواء ولا الملائكة، ولا شيئاً مما خلق، صلوات الله عليهم أجمعين....

- رسائل الشهيد الثاني ج ٢ ص ١٤٤

الثالث، في بيان المعارف التي يحصل بها الإيمان، وهي خمسة أصول: الأصل الأول، معرفة الله تعالى وتقدس. المراد بها التصديق الجازم الثابت بأنه تعالى موجود أزلاً وأبداً، واجب الوجود لذاته....

الأصل الثاني، التصديق بعدله، أي بأنه عادل. والتصديق بحكمته....

الأصل الثالث، التصديق بنبوة محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله وبجميع ما جاء به، تفصيلاً فيما علم تفصيلاً، وإجمالاً فيما علم إجمالاً. وليس بعيداً أن يكون التصديق الإجمالي بجميع ما جاء بهعليه‌السلام كافياً في تحقق الإيمان، وإن كان المكلف قادراً على العلم بذلك تفصيلاً يجب العلم بتفاصيل ما جاء به من الشرائع للعمل به.

وأما تفصيل ما أخبر به من أحوال المبدأ والمعاد، كالتكليف بالعبادات، والسؤال في القبر وعذابه، والمعاد الجسماني، والحساب والصراط، والجنة، والنار، والميزان، وتطاير الكتب، مما ثبت مجيؤه به تواتراً، فهل التصديق بتفاصيله معتبرة في تحقق الإيمان؟ صرح باعتباره جمع من العلماء. والظاهر أن التصديق به إجمالاً كاف، بمعنى أن المكلف لو اعتقد حقية كل ما أخبر بهعليه‌السلام بحيث كلما ثبت عنده جزئي منها صدق به تفصيلاً كان مؤمناً وإن لم يطلع على تفاصيل تلك الجزئيات بعد ، ويؤيد ذلك أن أكثر الناس في الصدر الأول لم يكونوا عالمين بهذه التفاصيل في الأول، بل كانوا يطلعون عليها وقتاً فوقتاً، مع الحكم بإيمانهم في كل وقت من حين التصديق بالوحدانية والرسالة، بل هذا حال أكثر الناس في جميع الأعصار كما هو المشاهد، فلو اعتبرناه لزم خروج أكثر أهل الإيمان عنه، وهو بعيد عن حكمة العزيز الحكيم. نعم العلم بذلك لا ريب أنه من مكملات الإيمان....

٢٨٠

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371