الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٣

الميزان في تفسير القرآن17%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 443

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 443 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 111331 / تحميل: 6239
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٣

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

١

بسم الله الرحمن الرحيم

( سورة الأسري مكّيّة و هي مائة و إحدى عشرة آية)

( سورة الإسراء آية ١)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‏ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا  إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ( ١)

( بيان‏)

السورة تتعرّض لأمر توحيده تعالى عن الشريك مطلقاً و مع ذلك يغلب فيها جانب التسبيح على جانب التحميد كما بدأت به فقيل:( سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى‏ بِعَبْدِهِ ) الآية، و كرّر ذلك فيها مرّة بعد مرّة كقوله:( سُبْحانَهُ وَ تَعالى‏ عَمَّا يَقُولُونَ ) و قوله:( قُلْ سُبْحانَ رَبِّي ) الآية ٩٣، و قوله:( وَ يَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا ) الآية ١٠٨ حتّى أنّ الآية الخاتمة للسورة:( وَ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَ كَبِّرْهُ تَكْبِيراً ) تحمد الله على تنزّهه عن الشريك و الوليّ و اتّخاذ الولد.

و السورة مكّيّة لشهادة مضامين آياتها بذلك و عن بعضهم كما في روح المعاني، استثناء آيتين منها و هما قوله:( وَ إِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ ) الآية و قوله:( وَ إِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ ) الآية و عن بعضهم إلّا أربع آيات و هي الآيتان المذكورتان و قوله:( وَ إِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ ) الآية و قوله:( وَ قُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ ) الآية.

٢

و عن الحسن أنّها مكّيّة إلّا خمس آيات منها و هي قوله:( وَ لا تَقْتُلُوا النَّفْسَ ) الآية( وَ لا تَقْرَبُوا الزِّنى‏ ) الآية( أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ ) ( أَقِمِ الصَّلاةَ ) ( وَ آتِ ذَا الْقُرْبى ) ‏ الآية.

و عن مقاتل مكّيّة إلّا خمس:( وَ إِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ ) الآية( وَ إِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ ) الآية( وَ إِذْ قُلْنا لَكَ ) الآية( وَ قُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي ) الآية( إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ ) الآية.

و عن قتادة و المعدل عن ابن عبّاس مكّيّة إلّا ثماني آيات و هي قوله:( وَ إِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ ) الآية إلى قوله:( وَ قُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ ) الآية.

و لا دلالة في مضامين الآيات على كونها مدنيّة و لا الأحكام المذكورة فيها ممّا يختصّ نزولاً بالمدينة و قد نزلت نظائرها في السور المكّيّة كالأنعام و الأعراف.

و قد افتتحت السورة فيما ترومه من التسبيح بالإشارة إلى معراج النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فذكر إسراؤهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى و هو بيت المقدّس و الهيكل الّذي بناه داود و سليمانعليهما‌السلام و قدّسه الله لبني إسرائيل.

ثمّ سبق الكلام بالمناسبة إلى ما قدّره الله لمجتمع بني إسرائيل من الرقيّ و الانحطاط و العزّة و الذلّة فكلّما أطاعوا رفعهم الله و كلّما عصوا خفضهم الله و قد أنزل عليهم الكتاب و أمرهم بالتوحيد و نفي الشريك.

ثمّ عطف فيها الكلام على حال هذه الاُمّة و ما اُنزل عليهم من الكتاب بما يشاكل حال بني إسرائيل و أنّهم إن أطاعوا اُثيبوا و إن عصوا عوقبوا فإنّما هي الأعمال يعامل الإنسان بما عمل منها و على ذلك جرت السنّة الإلهيّة في الاُمم الماضين.

ثمّ ذكرت فيها حقائق جمّة من المعارف الراجعة إلى المبدإ و المعاد و الشرائع العامّة من الأوامر و النواهي و غير ذلك.

و من غرر الآيات فيها قوله تعالى( قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) الآية ١١٠ من السورة، و قوله:( كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ

٣

وَ هَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَ ما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً ) الآية ٢٠ منها، و قوله:( وَ إِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوها ) الآية ٥٨ منها و غير ذلك.

قوله تعالى: ( سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى‏ بِعَبْدِهِ لَيْلًا ) إلى آخر الآية سبحان اسم مصدر للتسبيح بمعنى التنزيه و يستعمل مضافاً و هو مفعول مطلق قائم مقام فعله فتقدير( سبحان الله) سبّحت الله تسبيحاً أي نزّهته عن كلّ ما لا يليق بساحة قدسه و كثيراً ما يستعمل للتعجّب لكنّ سياق الآيات إنّما يلائم التنزيه لكونه الغرض من البيان و إن أصرّ بعضهم على كونه للتعجّب.

و الإسراء و السري السير بالليل يقال سرى و أسرى أي سار ليلاً و سرى و أسرى به أي سار به ليلاً و السير يختصّ بالنهار أو يعمّه و اللّيل.

و قوله:( لَيْلًا ) مفعول فيه و يفيد من الفائدة أنّ هذا الإسراء تمّ له بالليل فكان الرواح و المجي‏ء في ليلة واحدة قبل أن يطلع فجرها.

و قوله:( إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى ) هو بيت المقدّس بقرينة قوله:( الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ ) . و القصا البعد و قد سمّي المسجد الأقصى لكونه أبعد مسجد بالنسبة إلى مكان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و من معه من المخاطبين و هو مكّة الّتي فيها المسجد الحرام.

و قوله:( لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا ) بيان غاية الإسراء و هي إراءة بعض الآيات الإلهيّة - لمكان من - و في السياق دلالة على عظمة هذه الآيات الّتي أراها الله سبحانه كما صرّح به في موضع آخر من كلامه يذكر فيه حديث المعراج بقوله:( لَقَدْ رَأى‏ مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى‏ ) النجم ١٨.

و قوله:( إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ) تعليل لإسرائه به لإراءة آياته أي إنّه سميع لأقوال عباده بصير بأفعالهم و قد سمع من مقال عبده و رآى من حاله ما استدعى أن يكرمه هذا الإكرام فيسري به ليلاً و يريه من آياته الكبرى.

و في الآية التفات من الغيبة إلى التكلّم مع الغير في قوله:( بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا ) ثمّ رجوع إلى الغيبة السابقة و الوجه فيه الإشارة إلى أنّ الإسراء و ما ترتّب عليه من إراءة الآيات إنّما صدر عن ساحة العظمة و الكبرياء و موطن

٤

العزّة و الجبروت فعملت فيه السلطنة العظمى و تجلّى الله له بآياته الكبرى و لو قيل: ليريه من آياته أو غير ذلك لفاتت النكتة.

و المعنى لينزّه تنزيها من أسرى بعظمته و كبريائه و بالغ قدرته و سلطانه بعبده محمّد في جوف ليلة واحدة من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى و هو بيت المقدّس الّذي بارك حوله ليريه بعظمته و كبريائه آياته الكبرى و إنّما فعل به ذلك لأنّه سميع بصير علم بما سمع من مقاله و رأى من حاله أنّه خليق أن يكرّم هذه التكرمة.

( بحث روائي‏)

في تفسير القمّيّ، عن أبيه عن ابن أبي عمير عن هشام بن سالم عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: جاء جبرئيل و ميكائيل و إسرافيل بالبراق إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأخذ واحد باللجام و واحد بالركاب و سوّى الآخر عليه ثيابه فتضعضعت البراق فلطمها جبرائيل ثمّ قال لها اسكني يا براق فما ركبك نبيّ قبله و لا يركبك بعده مثله.

قال: فرفّت به و رفعته ارتفاعاً ليس بالكثير و معه جبرئيل يريه الآيات من السماء و الأرض. قال: فبينا أنا في مسيري إذ نادى مناد عن يميني: يا محمّد فلم اُجبه و لم ألتفت إليه ثمّ نادى مناد عن يساري: يا محمّد فلم اُجبه و لم ألتفت إليه ثمّ استقبلتني امرأة كاشفة عن ذراعيها عليها من كلّ زينة الدنيا فقالت: يا محمّد أنظرني حتّى اُكلّمك فلم ألتفت إليها ثمّ سرت فسمعت صوتا أفزعني فجاوزت فنزل بي جبرئيل فقال: صلّ فصلّيت فقال: تدري أين صلّيت؟ قلت: لا، فقال: صلّيت بطور سيناء حيث كلّم الله موسى تكليما ثمّ ركبت فمضينا ما شاء الله ثمّ قال لي: انزل فصلّ فنزلت و صلّيت فقال لي: تدري أين صلّيت؟ فقلت: لا قال: صلّيت في بيت لحم، و بيت لحم بناحية بيت المقدّس حيث ولد عيسى بن مريم.

ثمّ ركبت فمضينا حتّى انتهينا إلى بيت المقدّس فربطت البراق بالحلقة الّتي

٥

كانت الأنبياء تربط بها فدخلت المسجد و معي جبرئيل إلى جنبي فوجدنا إبراهيم و موسى و عيسى فيمن شاء الله من أنبياء اللهعليه‌السلام فقد جمعوا إليّ و اُقيمت الصلاة و لا أشكّ إلّا و جبرئيل سيتقدّمنا فلمّا استووا أخذ جبرئيل بعضدي فقدّمني و أممتهم و لا فخر.

ثمّ أتاني الخازن بثلاثة أواني إناء فيه لبن و إناء فيه ماء و إناء فيه خمر و سمعت قائلا يقول: إن أخذ الماء غرق و غرقت اُمّته و إن أخذ الخمر غوى و غويت اُمّته و إن أخذ اللبن هدى و هديت اُمّته قال: فأخذت اللبن و شربت منه فقال لي جبرئيل هديت و هديت اُمّتك.

ثمّ قال لي ما ذا رأيت في مسيرك؟ فقلت ناداني مناد عن يميني فقال: أ و أجبته؟ فقلت: لا و لم ألتفت إليه فقال: داعي اليهود لو أجبته لتهوّدت اُمّتك من بعدك ثمّ قال: ما ذا رأيت؟ فقلت: ناداني مناد عن يساري فقال لي: أ و أجبته؟ فقلت: لا و لم ألتفت إليه فقال: ذاك داعي النصارى و لو أجبته لتنصّرت اُمّتك من بعدك. ثمّ قال: ما ذا استقبلك؟ فقلت: لقيت امرأة كاشفة عن ذراعيها عليها من كلّ زينة الدنيا فقالت: يا محمّد أنظرني حتّى اُكلّمك. فقال: أ و كلّمتها؟ فقلت لم اُكلّمها و لم ألتفت إليها فقال: تلك الدنيا و لو كلّمتها لاختارت اُمّتك الدنيا على الآخرة.

ثمّ سمعت صوتا أفزعني، فقال لي جبرئيل: أ تسمع يا محمّد؟ قلت نعم قال: هذه صخرة قذفتها عن شفير جهنّم منذ سبعين عامّاً فهذا حين استقرّت قالوا فما ضحك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتّى قبض.

قال فصعد جبرئيل و صعدت معه إلى السماء الدنيا و عليها ملك يقال له: إسماعيل و هو صاحب الخطفة الّتي قال الله عزّوجلّ:( إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ ) و تحته سبعون ألف ملك تحت كلّ ملك سبعون ألف ملك.

فقال: يا جبرئيل! من هذا الّذي معك؟ فقال: محمّد رسول الله قال: و قد بعث؟ قال: نعم ففتح الباب فسلّمت عليه و سلّم عليّ و استغفرت له و استغفر لي و قال:

٦

مرحباً بالأخ الصالح و النبيّ الصالح، و تلقّتني الملائكة حتّى دخلت السماء الدنيا فما لقيني ملك إلّا ضاحكاً مستبشراً حتّى لقيني ملك من الملائكة لم أر أعظم خلقاً منه كريه المنظر ظاهر الغضب فقال لي مثل ما قالوا من الدعاء إلّا أنّه لم يضحك و لم أر فيه من الاستبشار ما رأيت من ضحك الملائكة فقلت: من هذا يا جبرئيل فإنّي قد فزعت منه؟ فقال: يجوز أن يفزع منه فكلّنا نفزع منه إنّ هذا مالك خازن النار لم يضحك قطّ، و لم يزل منذ ولّاه الله جهنّم يزداد كلّ يوم غضباً و غيظاً على أعداء الله و أهل معصيته فينتقم الله به منهم، و لو ضحك إلى أحد قبلك أو كان ضاحكاً إلى أحد بعدك لضحك إليك فسلّمت عليه فردّ السلام عليّ و بشّرني بالجنّة.

فقلت لجبرئيل و جبرئيل بالمكان الّذي وصفه الله( مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ ) أ لا تأمره أن يريني النار؟ فقال له جبرئيل: يا مالك أر محمّداً النار فكشف عنها غطاءها و فتح باباً منها فخرج منها لهب ساطع في السماء و فارت و ارتفعت حتّى ظننت ليتناولني ممّا رأيت فقلت: يا جبرئيل! قل له فليردّ عليها غطاءها فأمره فقال لها: ارجعي فرجعت إلى مكانها الّذي خرجت منه.

ثمّ مضيت فرأيت رجلاً آدماً جسيماً فقلت: من هذا يا جبرئيل؟ فقال: هذا أبوك آدم فإذا هو يعرض عليه ذرّيّته فيقول: روح طيّبة و ريح طيّبة من جسد طيّب ثمّ تلا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سورة المطفّفين على رأس سبع عشرة آية:( كَلَّا إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ وَ ما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ كِتابٌ مَرْقُومٌ يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ ) إلى آخرها قال: فسلّمت على أبي آدم و سلّم عليّ و استغفرت له و استغفر لي، و قال: مرحباً بالابن الصالح و النبيّ الصالح المبعوث في الزمن الصالح.

قال: ثمّ مررت بملك من الملائكة جالس على مجلس و إذا جميع الدنيا بين ركبتيه و إذا بيده لوح من نور ينظر فيه مكتوب فيه كتاب ينظر فيه لا يلتفت يمينا و لا شمالاً، مقبلاً عليه كهيئة الحزين فقلت: من هذا يا جبرئيل؟ قال: هذا ملك الموت دائب في قبض الأرواح فقلت: يا جبرئيل أدنني منه حتّى اُكلّمه فأدناني منه فسلّمت عليه، و قال له جبرئيل: هذا محمّد نبيّ الرحمة الّذي أرسله الله إلى العباد فرحّب

٧

بي و حيّاني بالسلام و قال: أبشر يا محمّد فإنّي أرى الخير كلّه في اُمّتك فقلت: الحمد لله المنّان ذي النعم على عباده ذلك من فضل ربّي و رحمته عليّ فقال جبرئيل: هو أشدّ الملائكة عملاً فقلت: أ كلّ من مات أو هو ميّت فيما بعد هذا تقبض روحه؟ فقال: نعم. قلت: و تراهم حيث كانوا و تشهدهم بنفسك؟ فقال: نعم. فقال ملك الموت: ما الدنيا كلّها عندي فيما سخّره الله لي و مكّنني عليها إلّا كالدرهم في كفّ الرجل يقلّبه كيف يشاء، و ما من دار إلّا و أنا أتصّفحه كلّ يوم خمس مرّات، و أقول إذا بكى أهل الميّت على ميّتهم: لا تبكوا عليه فإنّ لي فيكم عودة و عودة حتّى لا يبقى منكم أحد فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : كفى بالموت طامّة يا جبرئيل فقال جبرئيل: إنّ ما بعد الموت أطمّ و أطمّ من الموت.

قال: ثمّ مضيت فإذا أنا بقوم بين أيديهم موائد من لحم طيّب و لحم خبيث يأكلون اللحم الخبيث و يدعون الطيّب فقلت: من هؤلاء يا جبرئيل؟ فقال: هؤلاء الّذين يأكلون الحرام و يدعون الحلال و هم من اُمّتك يا محمّد.

فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثمّ رأيت ملكاً من الملائكة جعل الله أمره عجيباً نصف جسده النار و النصف الآخر ثلج فلا النار تذيب الثلج و لا الثلج تطفئ النار و هو ينادي بصوت رفيع و يقول: سبحان الّذي كفّ حرّ هذه النار فلا تذيب الثلج و كفّ برد هذا الثلج فلا يطفئ حرّ هذه النار اللّهمّ يا مؤلّف بين الثلج و النار ألّف بين قلوب عبادك المؤمنين فقلت: من هذا يا جبرئيل؟ فقال: هذا ملك وكلّه الله بأكناف السماء و أطراف الأرضين و هو أنصح ملائكة الله لأهل الأرض من عباده المؤمنين يدعو لهم بما تسمع منذ خلق.

و رأيت ملكين يناديان في السماء أحدهما يقول: اللّهمّ أعط كلّ منفق خلفا و الآخر يقول: اللّهمّ أعط كلّ ممسك تلفا.

ثمّ مضيت فإذا أنا بأقوام لهم مشافر كمشافر الإبل يقرض اللحم من جنوبهم و يلقى في أفواههم فقلت: من هؤلاء يا جبرئيل؟ فقال: هؤلاء الهمّازون اللمّازون.

ثمّ مضيت فإذا أنا بأقوام ترضخ رؤسهم بالصخر فقلت: من هؤلاء يا جبرئيل؟

٨

فقال: هؤلاء الّذين ينامون عن صلاة العشاء.

ثمّ مضيت فإذا أنا بأقوام تقذف النار في أفواههم و تخرج من أدبارهم فقلت: من هؤلاء يا جبرئيل؟ قال: هؤلاء الّذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنّما يأكلون في بطونهم ناراً و سيصلون سعيراً.

ثمّ مضيت فإذا أنا بأقوام يريد أحدهم أن يقوم فلا يدر من عظم بطنه فقلت: من هؤلاء يا جبرئيل؟ قال: هؤلاء الّذين يأكلون الربا لا يقومون إلّا كما يقوم الّذي يتخبّطه الشيطان من المسّ، و إذا هم بسبيل آل فرعون يعرضون على النار غدوّاً و عشيّاً يقولون ربّنا متى تقوم الساعة؟.

قال: ثمّ مضيت فإذا أنا بنسوان معلّقات بثديهنّ فقلت: من هؤلاء يا جبرئيل فقال: هؤلاء اللواتي يورثن أموال أزواجهنّ أولاد غيرهم. ثمّ قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اشتدّ غضب الله على امرأة أدخلت على قوم في نسبهم من ليس منهم فاطّلع على عوراتهم و أكل خزائنهم.

ثمّ قال: مررنا بملائكة من ملائكة الله عزّوجلّ خلقهم الله كيف شاء و وضع وجوههم كيف شاء، ليس شي‏ء من أطباق أجسادهم إلّا و هو يسبّح الله و يحمده من كلّ ناحية بأصوات مختلفة أصواتهم مرتفعة بالتحميد و البكاء من خشية الله فسألت جبرئيل عنهم فقال: كما ترى خلقوا إنّ الملك منهم إلى جنب صاحبه ما كلّمه كلمة قطّ و لا رفعوا رؤسهم إلى ما فوقها و لا خفضوها إلى ما تحتها خوفاً من الله و خشوعاً فسلّمت عليهم فردّوا عليّ إيماء برؤسهم لا ينظرون إليّ من الخشوع فقال لهم جبرئيل: هذا محمّد نبيّ الرحمة أرسله الله إلى العباد رسولاً و نبيّاً. و هو خاتم النبيّين و سيّدهم أ فلا تكلّمونه؟ قال: فلمّا سمعوا ذلك من جبرئيل أقبلوا عليّ بالسلام و أكرموني و بشّروني بالخير لي و لاُمّتي.

قال: ثمّ صعدنا إلى السماء الثانية فإذا فيها رجلان متشابهان فقلت: من هذان يا جبرئيل؟ فقال لي: ابنا الخالة يحيى و عيسىعليهما‌السلام فسلّمت عليهما و سلّما عليّ و استغفرت لهما و استغفرا لي و قالا: مرحبا بالأخ الصالح و النبيّ الصالح

٩

و إذا فيها من الملائكة و عليهم الخشوع قد وضع الله وجوههم كيف شاء ليس منهم ملك إلّا يسبّح الله بحمده بأصوات مختلفة.

ثمّ صعدنا إلى السماء الثالثة فإذا فيها رجل فضل حسنه على سائر الخلق كفضل القمر ليلة البدر على سائر النجوم فقلت: من هذا يا جبرئيل؟ فقال: هذا أخوك يوسف فسلّمت عليه و سلّم عليّ و استغفرت له و استغفر لي، و قال: مرحبا بالنبيّ الصالح و الأخ الصالح و المبعوث في الزمن الصالح، و إذا فيها ملائكة عليهم من الخشوع مثل ما وصفت في السماء الاُولى و الثانية، و قال لهم جبرئيل في أمري ما قال للآخرين و صنعوا فيّ مثل ما صنع الآخرون.

ثمّ صعدنا إلى السماء الرابعة و إذا فيها رجل فقلت: من هذا يا جبرئيل؟ فقال: هذا إدريس رفعه الله مكاناً عليّاً فسلّمت عليه و سلّم عليّ و استغفرت له و استغفر لي، و إذا فيها من الملائكة الخشوع مثل ما في السّماوات الّتي عبرناها فبشّروني بالخير لي و لاُمّتي ثمّ رأيت ملكاً جالساً على سرير تحت يديه سبعون ألف ملك تحت كلّ ملك سبعون ألف ملك فوقع في نفس رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه هو فصاح به جبرئيل فقال: قم فهو قائم إلى يوم القيامة.

ثمّ صعدنا إلى السماء الخامسة فإذا فيها رجل كهل عظيم العين لم أر كهلا أعظم منه حوله ثلّة من اُمّته فأعجبني كثرتهم فقلت: من هذا يا جبرئيل؟ فقال: هذا المحبّب في قومه هارون بن عمران فسلّمت عليه و سلّم عليّ و استغفرت له و استغفر لي و إذا فيها من الملائكة الخشوع مثل ما في السماوات.

ثمّ صعدنا إلى السماء السادسة و إذا فيها رجل آدم طويل كأنّه من شنوة و لو أنّ له قميصين لنفذ شعره فيهما و سمعته يقول: يزعم بنو إسرائيل أنّي أكرم ولد آدم على الله و هذا رجل أكرم على الله منّي فقلت: من هذا يا جبرئيل؟ فقال: هذا أخوك موسى بن عمران فسلّمت عليه و سلّم عليّ و استغفرت له و استغفر لي، و إذا فيها من الملائكة الخشوع مثل ما في السماوات.

قال: ثمّ صعدنا إلى السماء السابعة فما مررت بملك من الملائكة إلّا قالوا:

١٠

يا محمّد احتجم و أمر اُمّتك بالحجامة، و إذا فيها رجل أشمط الرأس و اللحية جالس على كرسيّ فقلت: يا جبرئيل من هذا الّذي في السماء السابعة على باب البيت المعمور في جوار الله؟ فقال: هذا يا محمّد أبوك إبراهيم و هذا محلّك و محلّ من اتّقى من اُمّتك ثمّ قرأ رسول الله:( إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَ هذَا النَّبِيُّ وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ اللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ ) فسلّمت عليه و سلّم عليّ و قال: مرحبا بالنبيّ الصالح و الابن الصالح و المبعوث في الزمن الصالح و إذا فيها من الملائكة الخشوع مثل ما في السماوات فبشّروني بالخير لي و لاُمّتي.

قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : و رأيت في السماء السابعة بحاراً من نور تتلألأ تلألؤها يخطف بالأبصار، و فيها بحار من ظلمة و بحار من ثلج ترعد فكلّما فزعت و رأيت هولا سألت جبرئيل فقال: أبشر يا محمّد و اشكر كرامة ربّك و اشكر الله بما صنع إليك قال: فثبّتني الله بقوّته و عونه حتّى كثر قولي لجبرئيل و تعجّبي.

فقال جبرئيل: يا محمّد تعظّم ما ترى؟ إنّما هذا خلق من خلق ربّك فكيف بالخالق الّذي خلق ما ترى و ما لا ترى أعظم من هذا من خلق ربّك إنّ بين الله و بين خلقه سبعين ألف حجاب و أقرب الخلق إلى الله أنا و إسرافيل و بيننا و بينه أربعة حجب حجاب من نور و حجاب من الظلمة و حجاب من الغمامة و حجاب من الماء.

قال: و رأيت من العجائب الّتي خلق الله و سخّر على ما أراده ديكاً رجلاه في تخوم الأرضين السابعة و رأسه عند العرش و هو ملك من ملائكة الله تعالى خلقه الله كما أراد رجلاه في تخوم الأرضين السابعة ثمّ أقبل مصعداً حتّى خرج في الهواء إلى السماء السابعة و انتهى فيها مصعداً حتّى انتهى قرنه إلى قرب العرش و هو يقول: سبحان ربّي حيثما كنت لا تدري أين ربّك من عظم شأنه، و له جناحان في منكبه إذا نشرهما جاوزا المشرق و المغرب فإذا كان في السحر نشر جناحيه و خفق بهما و صرخ بالتسبيح يقول: سبحان الله الملك القدّوس، سبحان الله الكبير المتعال لا إله إلّا الله الحيّ القيّوم و إذا قال ذلك سبّحت ديوك الأرض كلّها و خفقت بأجنحتها و أخذت بالصراخ فإذا سكت ذلك الديك في السماء سكت ديوك الأرض كلّها، و

١١

لذلك الديك زغب أخضر و ريش أبيض كأشدّ بياض ما رأيته قطّ، و له زغب أخضر أيضاً تحت ريشه الأبيض كأشدّ خضرة ما رأيتها قطّ.

قال: ثمّ مضيت مع جبرئيل فدخلت البيت المعمور فصلّيت فيه ركعتين و معي اُناس من أصحابي عليهم ثياب جدد و آخرين عليهم ثياب خلقان فدخل أصحاب الجدد و جلس أصحاب الخلقان.

ثمّ خرجت فانقاد لي نهران نهر يسمّى الكوثر و نهر يسمّى الرحمة فشربت من الكوثر و اغتسلت من الرحمة ثمّ انقاداً لي جميعاً حتّى دخلت الجنّة و إذا على حافتيها بيوتي و بيوت أهلي و إذا ترابها كالمسك، و إذا جارية تنغمس في أنهار الجنّة فقلت: لمن أنت يا جارية؟ فقالت: لزيد بن حارثة فبشّرته بها حين أصبحت، و إذا بطيرها كالبخت، و إذا رمّانها مثل الدليّ العظام، و إذا شجرة لو اُرسل طائر في أصلها ما دارها سبعمائة سنة، و ليس في الجنّة منزل إلّا و فيه غصن منها فقلت: ما هذه يا جبرئيل؟ فقال: هذه شجرة طوبى قال الله( طُوبى‏ لَهُمْ وَ حُسْنُ مَآبٍ ) .

قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : فلمّا دخلت الجنّة رجعت إلى نفسي فسألت جبرئيل عن تلك البحار و هولها و أعاجيبها فقال: هي سرادقات الحجب الّتي احتجب الله تبارك و تعالى بها و لو لا تلك الحجب لهتك نور العرش كلّ شي‏ء فيه.

و انتهيت إلى سدرة المنتهى فإذا الورقة منها تظلّ اُمّة من الاُمم فكنت منها كما قال الله تعالى( قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى‏ ) فناداني( آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ ) فقلت أنا مجيبا عنّي و عن اُمّتي:( وَ الْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ (وَ مَلائِكَتِهِ) وَ كُتُبِهِ وَ رُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَ قالُوا سَمِعْنا وَ أَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَ إِلَيْكَ الْمَصِيرُ ) فقال الله:( لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها، لَها ما كَسَبَتْ وَ عَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ ) فقلت:( رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا ) فقال الله لا أؤاخذك، فقلت:( رَبَّنا وَ لا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا ) فقال الله: لا أحملك فقلت:( رَبَّنا وَ لا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَ اعْفُ عَنَّا وَ اغْفِرْ لَنا وَ ارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ ) فقال الله تبارك و تعالى: قد أعطيتك ذلك لك و لاُمّتك، فقال الصادقعليه‌السلام ما وفد

١٢

إلى الله تعالى أحد أكرم من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حين سأل لاُمّته هذه الخصال.

فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا ربّ أعطيت أنبياءك فضائل فأعطني فقال الله: قد أعطيتك فيما أعطيتك كلمتين من تحت عرشي: لا حول و لا قوّة إلّا بالله، و لا منجا منك إلّا إليك.

قال: و علّمتني الملائكة قولاً أقوله إذا أصبحت و أمسيت: اللّهمّ إنّ ظلمي أصبح مستجيراً بعفوك، و ذنبي أصبح مستجيراً بمغفرتك و ذلّي أصبح مستجيراً بعزّتك، و فقري أصبح مستجيراً بغناك و وجهي الفاني أصبح مستجيراً بوجهك الباقي الّذي لا يفنى، و أقول ذلك إذا أمسيت.

ثمّ سمعت الأذان فإذا ملك يؤذّن لم ير في السماء قبل تلك اللّيلة فقال: الله أكبر الله أكبر فقال الله: صدق عبدي أنا أكبر من كلّ شي‏ء فقال:( أشهد أن لا إله إلّا الله أشهد أن لا إله إلّا الله) فقال الله: صدق عبدي أنا الله لا إله إلّا أنا و لا إله غيري فقال:( أشهد أنّ محمّداً رسول الله أشهد أنّ محمّداً رسول الله) فقال الله: صدق عبدي إنّ محمّداً عبدي و رسولي أنا بعثته و انتجبته فقال:( حيّ على الصلاة حيّ على الصلاة) فقال: صدق عبدي دعا إلى فريضتي فمن مشى إليها راغباً فيها محتسبا كانت له كفّارة لما مضى من ذنوبه فقال:( حيّ على الفلاح حيّ على الفلاح) فقال الله: هي الصلاح و النجاح و الفلاح. ثمّ أممت الملائكة في السماء كما أممت الأنبياء في بيت المقدّس.

قال: ثمّ غشيتني ضبابة فخررت ساجداً فناداني ربّي أنّي قد فرضت على كلّ نبيّ كان قبلك خمسين صلاة و فرضتها عليك و على اُمّتك فقم بها أنت في اُمّتك قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : فانحدرت حتّى مررت على إبراهيم فلم يسألني عن شي‏ء حتّى انتهيت إلى موسى فقال: ما صنعت يا محمّد؟ فقلت: قال ربّي: فرضت على كلّ نبيّ كان قبلك خمسين صلاة و فرضتها عليك و على اُمّتك. فقال موسى: يا محمّد إنّ اُمّتك آخر الاُمم و أضعفها و إنّ ربّك لا يزيده شي‏ء و إنّ اُمّتك لا تستطيع أن تقوم بها فارجع إلى ربّك فاسأله التخفيف لاُمّتك.

١٣

فرجعت إلى ربّي حتّى انتهيت إلى سدرة المنتهى فخررت ساجداً ثمّ قلت: فرضت عليّ و على اُمّتي خمسين صلاة و لا اُطيق ذلك و لا اُمّتي فخفّف عني فوضع عنّي عشراً فرجعت إلى موسى فأخبرته فقال: ارجع لا تطيق فرجعت إلى ربّي فوضع عنّي عشراً فرجعت إلى موسى فأخبرته فقال: ارجع و في كلّ رجعة أرجع إليه أخّر ساجداً حتّى رجع إلى عشر صلوات فرجعت إلى موسى و أخبرته فقال: لا تطيق فرجعت إلى ربّي فوضع عنّي خمساً فرجعت إلى موسى و أخبرته فقال: لا تطيق فقلت: قد استحيت من ربّي و لكن أصبر عليها فناداني مناد: كما صبرت عليها فهذه الخمس بخمسين كلّ صلاة بعشر، و من همّ من اُمّتك بحسنة يعملها فعملها كتبت له عشراً و إن لم يعمل كتبت له واحدة، و من همّ من اُمّتك بسيّئة فعملها كتبت عليه واحدة و إن لم يعملها لم أكتب عليه.

فقال الصادقعليه‌السلام : جزى الله موسى عن هذه الاُمّة خيراً فهذا تفسير قول الله:( سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى‏ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ) .

أقول: و قد ورد ما يقرب ممّا قصّته هذه الرواية في روايات كثيرة جدّاً من طرق الشيعة و أهل السنّة، و قوله في الرواية( رجلاً آدماً) يقال: رجل آدم أي أسمر اللون، و الطامّة هي الأمر الشديد الّذي يغلب ما سواه، و لذلك سمّيت القيامة بالطامّة، و الأكتاف جمع كتف و المراد الأطراف و النواحي، و قوله:( فوقع في نفس رسول الله أنّه هو) أي أنّه الملك الّذي يدبّر أمر العالم و ينتهي إليه كلّ أمر.

و قوله: شنوة بالشين و النون و الواو و ربّما يهمز قبيلة كانوا معروفين بطول القامة، و قوله:( أشمط الرأس و اللحية) الشمط بياض الشعر يخالطه سواد، و الزغب أوّل ما يبدو من الشعر و الريش و صغارهما، و البخت الإبل الخراسانيّ و الدليّ بضمّ الدال و كسر اللام و تشديد الياء جمع دلو على فعول، و الصبابة بفتح الصاد المهملة و الباء الموحّدة الشوق و الهوى الرقيق و بالمعجمة مضمومة الغيم الرقيق.

١٤

و في أمالي الصدوق، عن أبيه عن عليّ عن أبيه عن ابن أبي عمير عن أبان بن عثمان عن أبي عبدالله جعفر بن محمّد الصادقعليه‌السلام قال: لمّا اُسري برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى بيت المقدّس حمله جبرئيل على البراق فأتيا بيت المقدّس و عرض عليه محاريب الأنبياء و صلّى بها و ردّه فمرّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في رجوعه بعير لقريش و إذا لهم ماء في آنية و قد أضلّوا بعيرا لهم و كانوا يطلبونه فشرب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من ذلك الماء و أهرق باقيه.

فلمّا أصبح رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لقريش: إنّ الله جلّ جلاله قد أسرى بي إلى بيت المقدّس و أراني آثار الأنبياء و منازلهم، و إنّي مررت بعير لقريش في موضع كذا و كذا و قد أضلّوا بعيراً لهم فشربت من مائهم و أهرقت باقي ذلك فقال أبو جهل: قد أمكنتكم الفرصة منه فاسألوه كم الأساطين فيها و القناديل؟ فقالوا: يا محمّد إنّ هاهنا من قد دخل بيت المقدّس فصف لنا كم أساطينه و قناديله و محاريبه؟ فجاء جبرئيل فعلّق صورة بيت المقدّس تجاه وجهه فجعل يخبرهم بما يسألونه عنه فلمّا أخبرهم، قالوا: حتّى يجي‏ء العير و نسألهم عمّا قلت، فقال لهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تصديق ذلك أنّ العير يطلع عليكم مع طلوع الشمس يقدمها جمل أورق.

فلمّا كان من الغد أقبلوا ينظرون إلى العقبة و يقولون هذه الشمس تطلع الساعة فبينما هم كذلك إذ طلعت عليهم العير حين طلع القرص يقدمها جمل أورق فسألوهم عمّا قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالوا: لقد كان هذا: ضلّ جمل لنا في موضع كذا و كذا، و وضعنا ماء فأصبحنا و قد اُهريق الماء فلم يزدهم ذلك إلّا عتوّا.

أقول: و في معناها روايات اُخرى من طرق الفريقين.

و فيه، بإسناده عن عبدالله بن عبّاس قال: إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمّا اُسري به إلى السماء انتهى به جبرئيل إلى نهر يقال له النور و هو قوله عزّوجلّ:( جَعَلَ الظُّلُماتِ وَ النُّورَ ) فلمّا انتهى به إلى ذلك قال له جبرئيل: يا محمّد اعبر على بركة الله فقد نوّر الله لك بصرك و مدّ لك أمامك فإنّ هذا نهر لم يعبره أحد لا ملك مقرّب و لا نبيّ مرسل غير أنّ لي في كلّ يوم اغتماسة فيه ثمّ أخرج منه

١٥

فأنفض أجنحتي فليس من قطرة تقطر من أجنحتي إلّا خلق الله تبارك و تعالى منها ملكاً مقرّباً له عشرون ألف وجه و أربعون ألف لسان كلّ لسان يلفظ بلغة لا يفقهها اللسان الآخر.

فعبر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتّى انتهى إلى الحجب و الحجب خمس مائة حجاب من الحجاب إلى الحجاب مسيرة خمسمائة عام ثمّ قال: تقدّم يا محمّد فقال له: يا جبرئيل و لم لا تكون معي؟ قال: ليس لي أن أجوز هذا المكان فتقدّم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما شاء الله أن يتقدّم حتّى سمع ما قال الربّ تبارك و تعالى: أنا المحمود و أنت محمّد شققت اسمك من اسمي فمن وصلك وصلته و من قطعك بتكته انزل إلى عبادي فأخبرهم بكرامتي إيّاك و أنّي لم أبعث نبيّاً إلّا جعلت له وزيراً و إنّك رسولي و إنّ عليّاً وزيرك.

و في المناقب، عن ابن عبّاس في خبر: و سمع يعني رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صوتا( آمنّا بربّ العالمين) قال يعني جبرئيل: هؤلاء سحرة فرعون، و سمع لبيّك اللّهمّ لبيّك قال: هؤلاء الحجّاج، و سمع التكبير قال: هؤلاء الغزاة، و سمع التسبيح قال: هؤلاء الأنبياء.

فلمّا بلغ إلى سدرة المنتهى و انتهى إلى الحجب، قال جبرئيل: تقدّم يا رسول الله ليس لي أن أجوز هذا المكان و لو دنوت أنملة لاحترقت.

و في الإحتجاج، عن ابن عبّاس قال: قال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيما احتجّ على اليهود: حملت على جناح جبرئيل حتّى انتهيت إلى السماء السابعة فجاوزت سدرة المنتهى عندها جنّة المأوى حتّى تعلّقت بساق العرش فنوديت من ساق العرش: إنّي أنا الله لا إله إلّا أنا السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبّار المتكبّر الرؤف الرحيم فرأيته بقلبي و ما رأيته بعيني. الخبر.

و في الكافي، بإسناده عن أبي الربيع قال: حججنا مع أبي جعفرعليه‌السلام في السنة الّتي كان حجّ فيها هشام بن عبدالملك و كان معه نافع مولى عمر بن الخطّاب فنظر نافع إلى أبي جعفرعليه‌السلام في ركن البيت و قد اجتمع إليه الناس فقال نافع:

١٦

يا أميرالمؤمنين من هذا الّذي قد تداكّ عليه الناس؟ فقال: هذا نبيّ أهل الكوفة هذا محمّد بن عليّ فقال: اشهد لآتينّه فلأسألنّه من مسائل لا يجيبني فيها إلّا نبيّ أو وصيّ نبيّ أو ابن نبيّ. قال: فاذهب إليه و اسأله لعلّك تخجله.

فجاء نافع حتّى اتّكى على الناس ثمّ أشرف على أبي جعفرعليه‌السلام و قال: يا محمّد بن عليّ إنّي قرأت التوراة و الإنجيل و الزبور و الفرقان و قد عرفت حلالها و حرامها، و قد جئت أسألك عن مسائل لا يجيب فيها إلّا نبيّ أو وصيّ نبيّ أو ابن نبيّ. قال: فرفع أبوجعفرعليه‌السلام رأسه و قال: سل عمّا بدا لك.

فقال: أخبرني كم بين عيسى و بين محمّد من سنة؟ قال: اُخبرك بقولي أو بقولك قال: أخبرني بالقولين جميعاً قال: أمّا في قولي فخمسمائة سنة، و أمّا في قولك فستّمائة سنة، قال: فأخبرني عن قول الله عزّوجلّ:( وَ سْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَ جَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ ) من الّذي سأله محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و كان بينه و بين عيسىعليه‌السلام خمسمائة سنة؟.

قال: فتلا أبوجعفرعليه‌السلام هذه الآية:( سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى‏ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا ) فكان من الآيات الّتي أراها الله تبارك و تعالى محمّداًصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث أسري به إلى البيت المقدّس أن حشر الله الأوّلين و الآخرين من النبيّين و المرسلين ثمّ أمر جبرئيل فأذّن شفعا و أقام شفعا، و قال في أذانه حيّ على خير العمل ثمّ تقدّم محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فصلّى بالقوم.

فلمّا انصرف قال لهم: على ما تشهدون؟ ما كنتم تعبدون؟ قالوا: نشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له و أنّك رسول الله اُخذ على ذلك عهودنا و مواثيقنا. فقال: نافع: صدقت يا أباجعفر.

و في العلل، بإسناد عن ثابت بن دينار قال: سألت زين العابدين عليّ بن الحسينعليه‌السلام عن الله جلّ جلاله هل يوصف بمكان؟ فقال: تعالى الله عن ذلك قلت: فلم أسرى بنبيّه محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى السماء؟ قال: ليريه ملكوت السماوات و ما فيها من عجائب صنعه و بدائع خلقه.

١٧

قلت: فقول الله عزّوجلّ:( ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى) قال: ذاك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دنا من حجب النور فرأى ملكوت السماوات ثمّ تدلّى فنظر من تحته إلى ملكوت الأرض حتّى ظنّ أنّه في القرب من الأرض كقاب قوسين أو أدنى.

و في تفسير القمّيّ، بإسناده عن إسماعيل الجعفيّ قال: كنت في المسجد الحرام قاعداً و أبوجعفرعليه‌السلام في ناحية فرفع رأسه فنظر إلى السماء مرّة و إلى الكعبة مرّة ثمّ قال:( سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى‏ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى ) و كرّر ذلك ثلاث مرّات ثمّ التفت إليّ فقال: أيّ شي‏ء يقولون أهل العراق في هذه الآية يا عراقيّ؟ قلت: يقولون: أسري به من المسجد الحرام إلى البيت المقدّس. فقال: ليس هو كما يقولون و لكنّه اُسري به من هذه إلى هذه و أشار بيده إلى السماء و قال: ما بينهما حرم.

قال: فلمّا انتهى به إلى سدرة المنتهى تخلّف عنه جبرئيل فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا جبرئيل أ في مثل هذا الموضع تخذلني؟ فقال: تقدّم أمامك فوالله لقد بلغت مبلغا لم يبلغه خلق من خلق الله قبلك فرأيت ربّي و حال بيني و بينه السبحة قال: قلت: و ما السبحة جعلت فداك؟ فأومأ بوجهه إلى الأرض و أومأ بيده إلى السماء و هو يقول: جلال ربّي جلال ربّي، ثلاث مرّات. قال: يا محمّد قلت: لبّيك يا ربّ قال: فيم اختصم الملأ الأعلى؟ قلت: سبحانك لا علم لي إلّا ما علّمتني.

قال: فوضع يده بين ثدييّ فوجدت بردها بين كتفيّ. قال: فلم يسألني عمّا مضى و لا عمّا بقي إلّا علمته فقال: يا محمّد فيم اختصم الملأ الأعلى؟ قال: قلت: في الدرجات و الكفّارات و الحسنات فقال: يا محمّد إنّه قد انقضت نبوّتك و انقطع أكلك فمن وصيّك؟ فقلت: يا ربّ إنّي قد بلوت خلقك فلم أر فيهم من خلقك أحداً أطوع لي من عليّ فقال: و لي يا محمّد فقلت: يا ربّ إنّي قد بلوت خلقك فلم أر من خلقك أحداً أشدّ حبّاً لي من عليّ بن أبي طالب قال: و لي يا محمّد فبشّره بأنّه آية الهدى و إمام أوليائي و نور لمن أطاعني و الكلمة الباقية الّتي ألزمتها المتّقين من أحبّه أحبّني

١٨

و من أبغضه أبغضني مع ما أنّي أخصّه بما لم أخصّ به أحداً فقلت: يا ربّ أخي و صاحبي و وزيري و وارثي فقال: إنّه أمر قد سبق إنّه مبتلى و مبتلى به مع ما أنّي قد نحلته و نحلته و نحلته و نحلته أربعة أشياء عقدها بيده و لا يفصح بما عقدها.

أقول: قولهعليه‌السلام :( و لكنّه اُسري به من هذه إلى هذه) أي من الكعبة إلى البيت المعمور، و ليس المراد به نفي الإسراء إلى بيت المقدّس و لا تفسير المسجد الأقصى في الآية بالبيت المعمور بل المراد نفي أن ينتهي الإسراء إلى بيت المقدّس و لا يتجاوزه فقد استفاضت الروايات بتفسير المسجد الأقصى ببيت المقدّس.

و قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( فرأيت ربّي) أي شاهدته بعين قلبي كما تقدّم في بعض الروايات السابقة و يؤيّده تفسير الرؤية بذلك في روايات اُخر.

و قوله:( و حالت بيني و بينه السبحة) أي بلغت من القرب و الزلفى مبلغا لم يبق بيني و بينه إلّا جلاله، و قوله: فوضع يده بين ثدييّ إلخ كناية عن الرحمة الإلهيّة، و محصّله نزول العلم من لدنه تعالى على قلبه بحيث يزيل كلّ ريب و شكّ.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن أبي شيبة و مسلم و ابن مردويه من طريق ثابت عن أنس أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: اُتيت بالبراق و هو دابّة أبيض طويل فوق الحمار و دون البغل يضع حافره عند منتهى طرفه فركبته حتّى أتيت بيت المقدّس فربطته بالحلقة الّتي يربط بها الأنبياء ثمّ دخلت المسجد فصلّيت فيه ركعتين.

ثمّ خرجت فجاءني جبريل بإناء من خمر و إناء من لبن فاخترت اللّبن فقال جبريل: اخترت الفطرة ثمّ عرج بنا إلى سماء الدنيا فاستفتح جبريل فقيل من أنت؟ قال: جبريل قيل: و من معك؟ قال: محمّد، قيل: و قد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه ففتح لنا فإذا أنا بآدم فرحّب بي و دعا لي بخير.

ثمّ عرج بنا إلى السماء الثانية فاستفتح جبريل فقيل: من أنت؟ قال جبريل قيل: و من معك؟ قال: محمّد، قيل: و قد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه ففتح لنا فإذا أنا بابني الخالة عيسى بن مريم و يحيى بن زكريّا فرحبّا بي و دعوا لي بخير.

١٩

ثمّ عرج بنا إلى السّماء الثالثة فاستفتح جبريل فقيل: من أنت؟ قال: جبريل قيل: و من معك؟ قال محمّد، قيل: و قد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه ففتح لنا فإذا أنا بيوسف و إذا هو قد اُعطي شطر الحسن فرحّب بي و دعا لي بخير.

ثمّ عرج بنا إلى السماء الرابعة فاستفتح جبريل. قيل: من هذا؟ قال: جبريل قيل: و من معك؟ قال: محمّد، قيل: و قد بعث إليه: قال: قد بعث إليه ففتح لنا فإذا أنا بإدريس فرحّب بي و دعا لي بخير.

ثمّ عرج بنا إلى السماء الخامسة فاستفتح جبريل. قيل: من هذا؟ قال: جبريل قيل: و من معك، قال: محمّد، قيل: و قد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه ففتح لنا فإذا أنا بهارون فرحّب بي و دعا لي بخير.

ثمّ عرج بنا إلى السماء السادسة فاستفتح جبريل. قيل: من هذا؟ قال: جبريل قيل: و من معك؟ قال: محمّد، قيل: و قد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه ففتح لنا فإذا أنا بموسى فرحّب بي و دعا لي بخير.

ثمّ عرج بنا إلى السماء السابعة فاستفتح جبريل. قيل: من هذا؟ قال: جبريل قيل: و من معك؟ قال: محمّد، قيل: و قد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه ففتح لنا فإذا أنا بإبراهيم مسند ظهره إلى البيت المعمور و إذا يدخله كلّ يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه.

ثمّ ذهب بي إلى سدرة المنتهى فإذا ورقها فيها كآذان الفيلة و إذا ثمرها كالقلال فلمّا غشيها من أمر الله ما غشي تغيّرت فما أحد من خلق الله يستطيع أن ينعتها من حسنها فأوحى إليّ ما أوحى و فرض عليّ خمسين صلاة في كلّ يوم و ليلة فنزلت حتّى انتهيت إلى موسى فقال: ما فرض ربّك على اُمّتك؟ قلت: خمسين صلاة قال: ارجع إلى ربّك فاسأله التخفيف فإنّ اُمّتك لا تطيق ذلك فإنّي قد بلوت بني إسرائيل و خبّرتهم.

فرجعت إلى ربّي فقلت: يا ربّ خفّف عن اُمّتي فحطّ عنّي خمساً فرجعت إلى موسى فقلت: حطّ عنّي خمساً فقال: إنّ اُمّتك لا يطيقون ذلك فارجع إلى

٢٠

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

في الكامل و الطبرانيّ و ابن مردويه عن ابن عبّاس: أنّ رجلاً أتى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال: يا رسول الله إنّي إذا أكلت اللحم انتشرت للنساء و أخذتني شهوتي، و إنّي حرّمت عليّ اللحم فنزلت:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ ) .

و فيه: أخرج ابن جرير و ابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم: أنّ عبدالله بن رواحة ضافه ضيف من أهله و هو عند النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثمّ رجع إلى أهله فوجدهم لم يطعموا ضيفهم انتظاراً له، فقال لامرأته: حبسّت ضيفي من أجلي هو حرام عليّ، فقالت امرأته: هو عليّ حرام، قال الضيف: هو عليّ حرام، فلمّا رأى ذلك وضع يده و قال: كلوا بسم الله، ثمّ ذهب إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأخبره، فقال النبي:صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد أصبت فأنزل الله:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ ) .

أقول: من الممكن أن يكون السببان المذكوران في الروايتين الأخيرتين من تطبيق الرواة، و هو شائع في روايات أسباب النزول، و من الممكن أن يقع لنزول الآية أسباب عديدة.

و في تفسير العيّاشيّ، عن عبدالله بن سنان قال: سألته عن رجل قال لامرأته: طالق، أو مماليكه أحرار إن شربت حراماً و لا حلالاً فقال: أمّا الحرام فلا يقربه حلف أو لم يحلف، و أمّا الحلال فلا يتركه فإنّه ليس أن يحرّم ما أحلّ الله لأنّ الله يقول:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ ) فليس عليه شي‏ء في يمينه من الحلال.

و في الكافي، بإسناده عن مسعدة بن صدقة عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: سمعته يقول في قول الله عزّوجلّ:( لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ ) قال:( اللغو) قول الرجل:( لا و الله، و بلى و الله) و لا يعقد على شي‏ء.

أقول: و روى العيّاشيّ في تفسيره عن عبدالله بن سنان مثله، و عن محمّد بن مسلم مثله و فيه: و لا يعقد عليها.

و في الدرّ المنثور: أخرج ابن جرير عن ابن عبّاس قال: لما نزلت:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ ) في القوم الّذين حرّموا النساء و اللحم على

١٢١

أنفسهم قالوا: يا رسول الله كيف نصنع بأيماننا الّتي حلفنا عليها؟ فأنزل الله:( لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ ) .

أقول: و الرواية تشاكل ذيل الرواية الاُولى الّتي أوردناها في صدر البحث غير أنّها لا تنطبق على ظاهر الآية فإنّ الحلف على ترك واجب أو مباح لا يخلو من عقد عليه، و قد قوبل في الآية قوله:( بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ ) بقوله:( بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ ) و دلّ ذلك على كون اللغو من اليمين ما لا عقد عليه، و هذا الظاهر إنّما يوافق الرواية المفسّرة للغو اليمين بقول القائل: لا و الله، و بلى و الله، من غير أن يعقد على شي‏ء، و أمّا اليمين الملغاة شرعاً ففيها عقد على ما حلف عليه فالمتعيّن أن يستند إلغاؤه إلى السنّة دون الكتاب.

على أنّ سياق الآية أدّل دليل على أنّها مسوقة لبيان كفّارة اليمين و الأمر بحفظها استقلالاً لا على نحو التطفّل كما هو لازم هذا التفسير.

١٢٢

( سورة المائدة الآيات ٩٠ - ٩٣)

يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا إِنّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلّكُمْ تُفْلِحُونَ( ٩٠) إِنّمَا يُرِيدُ الشّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصّلاَةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ( ٩١) وَأَطِيعُوا اللّهَ وَأَطِيعُوا الرّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِن تَوَلّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنّمَا عَلَى‏ رَسُولِنَا الْبَلاَغُ الْمُبِينُ( ٩٢) لَيْسَ عَلَى الّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيَما طَعِمُوا إِذَا مَا اتّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحَاتِ ثُمّ اتّقَوْا وَآمَنُوا ثُمّ اتّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللّهُ يُحِبّ الْمُحْسِنِينَ( ٩٣)

( بيان)

الآيات متلائمة سياقاً فكأنّها نزلت دفعة أو هي متقاربة نزولاً، و الآية الأخيرة بمنزلة دفع الدخل على ما سنبيّنه تفصيلاً، فهي جميعاً تتعرّض لحال الخمر، و بعضها يضيف إليها الميسر و الأنصاب و الأزلام.

و قد تقدّم في قوله تعالى:( يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَ مَنافِعُ لِلنَّاسِ وَ إِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما ) البقرة: ٢١٩، في الجزء الأوّل، و في قوله تعالى:( يا أَيُّهَا الّذينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَ أَنْتُمْ سُكارى‏ حتّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ ) النساء: ٤٣ في الجزء الرابع من هذا الكتاب أنّ هاتين الآيتين مع قوله تعالى:( قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَ ما بَطَنَ وَ الْإِثْمَ ) الأعراف: ٣٣، و هذه الآية المبحوث عنها:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ وَ الْأَنْصابُ وَ الْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ - إلى قوله -فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ ) إذا انضمّ بعضها إلى بعض دلّت سياقاتها المختلفة على تدرّج الشارع في تحريم الخمر.

لكن لا بمعنى السلوك التدريجيّ في تحريمها من تنزيه و إعافة إلى كراهية إلى

١٢٣

تحريم صريح حتّى ينتج معنى النسخ، أو من إبهام في البيان إلى إيضاح أو كناية خفيّة إلى تصريح لمصلحة السياسة الدينيّة في إجراء الأحكام الشرعيّة فإنّ قوله تعالى:( وَ الْإِثم ) آية مكّيّة في سورة الأعراف إذا انضمّ إلى قوله تعالى:( قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ ) و هي آية مدنيّة واقعة في سورة البقرة أوّل سورة مفصّلة نزلت بعد الهجرة أنتج ذلك حرمة الخمر إنتاجاً صريحاً لا يدع عذراً لمعتذر، و لا مجالاً لمتأوّل.

بل بمعنى أنّ الآيات تدرّجت في النهي عنها بالتحريم على وجه عامّ و ذلك قوله تعالى:( وَ الْإِثْمَ ) ، ثمّ بالتحريم الخاصّ في صورة النصيحة و ذلك قوله:( قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَ مَنافِعُ لِلنَّاسِ وَ إِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما ) ، و قوله:( لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَ أَنْتُمْ سُكارى‏ حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ ) إن كانت الآية ناظرة إلى سكر الخمر لا إلى سكر النوم، ثمّ بالتحريم الخاصّ بالتشديد البالغ الّذي يدلّ عليه قوله:( إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ وَ الْأَنْصابُ وَ الْأَزْلامُ رِجْسٌ إلى قوله فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ ) الآيتان.

فهذه الآيات آخر ما نزل في تحريم الخمر يدلّ على ذلك أقسام التأكيد المودعة فيها من( إِنَّما ) و التسمية بالرجس، و نسبته إلى عمل الشيطان، و الأمر الصريح بالاجتناب، و توقّع الفلاح فيه، و بيان المفاسد الّتي تترتّب على شربها، و الاستفهام عن الانتهاء، ثمّ الأمر بإطاعة الله و رسوله و التحذير عن المخالفة، و الاستغناء عنهم لو خالفوا.

و يدلّ على ذلك بعض الدلالة أيضاً قوله تعالى في ذيل الآيات:( لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ ) إلخ بما سيأتي من الإيضاح.

قوله تعالى: ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ ) إلى آخر الآية قد تقدّم الكلام في أوّل السورة في معنى الخمر و الميسر و الأنصاب و الأزلام فالخمر ما يخمر العقل من كلّ مائع مسكر عمل بالتخمير، و الميسر هو القمار مطلقاً، و الأنصاب هي الأصنام أو الحجارة الّتي كانت تنصب لذبح القرابين عليها و كانت تحترم و يتبرّك بها، و الأزلام هي الأقداح الّتي كانت يستقسم بها، و ربّما كانت تطلق على السهام الّتي كانت يتفاءل بها عند ابتداء الاُمور و العزيمة عليها كالخروج إلى سفر و نحوه

١٢٤

لكنّ اللفظ قد وقع في أوّل السورة للمعنى الأوّل لوقوعه بين محرّمات الأكل فيتأيّد بذلك كون المراد به ههنا هو ذلك.

فإن قلت: الميسر بعمومه يشمل الأزلام بالمعنى الآخر الّذي هو الاستقسام بالأقداح، و لا وجه لإيراد الخاصّ بعد العامّ من غير نكتة ظاهرة فالمتعيّن حمل اللفظ على سهام التفؤل و الخيرة الّتي كان العمل بها معروفاً عندهم في الجاهليّة قال الشاعر:

فلئن جذيمة قتلت ساداتها

فنساؤها يضربن بالأزلام

و هو - كما روي - أنّهم كانوا يتّخذون أخشاباً ثلاثة رقيقة كالسهام أحدها مكتوب عليه( افعل) و الثاني مكتوب عليه لا تفعل و الثالث غفل لا كتابة عليه فيجعلها الضارب في خريطة معه و هي متشابه فإذا أراد الشروع في أمر يهمّه كالسفر و غير ذلك أخرج واحداً منها فإن كان الّذي عليه مكتوب( افعل) عزم عليه، و إن خرج الّذي مكتوب عليه( لا تفعل) تركه، و إن خرج الثالث أعاد الضرب حتّى يخرج واحد من الأوّلين، و سميّ استقساماً لأنّ فيه طلب ما قسّم له من رزق أو خير آخر من الخيرات.

فالآية تدلّ على حرمته لأنّ فيه تعرّضاً لدعوى علم الغيب، و كذا كلّ ما يشاكله من الأعمال كأخذها الخيرة بالسبحة و نحوها.

قلت: قد عرفت أنّ الآية في أوّل السورة:( وَ أَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ) ظاهرة في الاستقسام بالأقداح الّذي هو نوح من القمار لوقوعه في ضمن محرّمات الأكل، و يتأيّد به أنّ ذلك هو المراد بالأزلام في هذه الآية.

و لو سلّم عدم تأيّد هذه بتلك عاد إلى لفظ مشترك لا قرينة عليه من الكلام تبيّن المراد فيتوقّف على ما يشرحه من السنّة، و قد وردت عدّة أخبار من أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام في جواز الأخذ بالخيرة من السبحة و غيرها عند الحيرة.

و حقيقته أنّ الإنسان إذا أراد أن يقدم على أمر كان له أن يعرف وجه المصلحة فيه بما أغرز الله فيه من موهبة الفكر أو بالاستشارة ممّن له صلاحيّة المعرفة بالصواب

١٢٥

و الخطأ، و إن لم يهده ذلك إلى معرفة وجه الصواب، و تردّد متحيّراً كان له أن يعيّن ما ينبغي أن يختاره بنوع من التوجّه إلى ربّه.

و ليس في اختيار ما يختاره الإنسان بهذا النوع من الاستخارة دعوى علم الغيب و لا تعرّض لما يختصّ بالله سبحانه من شؤون الاُلوهيّة، و لا شرك بسبب تشريك غير الله تعالى إيّاه في تدبير الاُمور و لا أيّ محذور دينيّ آخر إذ لا شأن لهذا العمل إلّا تعيّن الفعل أو الترك من غير إيجاب و لا تحريم و لا أيّ حكم تكليفيّ آخر، و لا كشف عمّا وراء حجب الغيب من خير أو شرّ إلّا أنّ خير المستخير في أن يعمل أو يترك فيخرج عن الحيرة و التذبذب.

و أمّا ما يستقبل الفعل أو الترك من الحوادث فربّما كان فيه خير و ربّما كان فيه شرّ على حدّ ما لو فعله أو تركه عن فكر أو استشارة، فهو كالتفكّر و الاستشارة طريق لقطع الحيرة و التردّد في مقام العمل، و يترتّب على الفعل الموافق له ما كان يترتّب عليه لو فعله عن فكر أو مشورة.

نعم ربّما أمكن لمتوهّم أن يتوهّم التعرّض لدعوى علم الغيب فيما ورد من التفؤّل بالقرآن و نحوه فربّما كانت النفس تتحدّث معه بيمن أو شأمة، و تتوقّع خيراً أو شرّاً أو نفعاً أو ضرّاً، لكن قد ورد في الصحيح من طرق الفريقين: أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يتفأل بالخير و يأمر به، و ينهى عن التطيّر و يأمر بالمضيّ معه و التوكّل على الله تعالى.

فلا مانع من التفؤل بالكتاب و نحوه فإن كان معه ما يتفأل به من الخير و إلّا مضى في الأمر متوكّلاً على الله تعالى، و ليس في ذلك أزيد ممّا يطيب به الإنسان نفسه في الاُمور و الأعمال الّتي يتفرّس فيها السعادة و النفع، و سنستوفي البحث المتعلّق بهذا المقام في كلام موضوع لهذا الغرض بعينه.

فتبيّن أنّ ما وقع في بعض التفاسير من حمل الأزلام على سهم التفأل و استنتاج حرمة الاستخارة بذلك ممّا لا ينبغي المصير إليه.

و أمّا قوله:( رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ ) فالرجس الشي‏ء القذر على ما ذكره الراغب

١٢٦

في مفرداته فالرجاسة بالفتح كالنجاسة و القذارة هو الوصف الّذي يبتعد و يتنزّه عن الشي‏ء بسببه لتنفّر الطبع عنه.

و كون هذه المعدودات من الخمر و الميسر و الأنصاب و الأزلام رجساً هو اشتمالها على وصف لا تستبيح الفطرة الإنسانيّة الاقتراب منها لأجله، و ليس إلّا أنّها بحيث لا تشتمل على شي‏ء ممّا فيه سعادة إنسانيّة أصلاً سعادة يمكن أن تصفو و تتخلّص في حين من الأحيان كما ربّما أومأ إليه قوله تعالى:( يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَ مَنافِعُ لِلنَّاسِ وَ إِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما ) البقرة: ٢١٩، حيث غلب الإثم على النفع و لم يستثن.

و لعلّه لذلك نسب هذه الأرجاس إلى عمل الشيطان و لم يشرك له أحداً، ثمّ قال في الآية التالية:( إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَ الْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ وَ يَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَ عَنِ الصَّلاةِ ) .

و ذلك أنّ الله سبحانه عرف الشيطان في كلامه بأنّه عدوّ للإنسان لا يريد به خيراً البتّة قال تعالى:( إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ ) يوسف: ٥، و قال:( كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ ) الحجّ: ٤، و قال:( وَ إِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطاناً مَرِيداً، لَعَنَهُ اللهُ ) النساء: ١١٨، فأثبت عليه لعنته و طرده عن كلّ خير.

و ذكر أنّ مساسه بالإنسان و عمله فيه إنّما هو بالتسويل و الوسوسة و الإغواء من جهة الإلقاء في القلب كما قال تعالى حكاية عنه:( قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ، إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ ) الحجر: ٤٢، فهدّدهم إبليس بالإغواء فقط، و نفى الله سبحانه سلطانه إلّا عن متّبعيه الغاوين، و حكى عنه فيما يخاطب بني آدم يوم القيامة قوله:( وَ ما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي ) إبراهيم: ٢٢، و قال في نعت دعوته:( يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ‏ - إلى أن قال -إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَ قَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ ) فبين أنّ دعوته لا كدعوة إنسان إنساناً إلى أمر بالمشافهة بل بحيث يرعى الداعي المدعوّ من غير عكس.

١٢٧

و قد فصل القول في جميع ذلك قوله تعالى:( مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ، الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ ) الناس: ٥، فبيّن أنّ الذي يعمل الشيطان بالتصرّف في الإنسان هو أن يلقي الوسوسة في قلبه فيدعوه بذلك إلى الضلال.

فيتبيّن بذلك كلّه أنّ كون الخمر و ما ذكر بعدها رجساً من عمل الشيطان هو أنّها منتهية إلى عمل الشيطان الخاصّ به، و لا داعي لها إلى الإلقاء و الوسوسة الشيطانيّة الّتي تدعو إلى الضلال، و لذلك سمّاها رجساً و قد سمّى الله سبحانه الضلال رجساً في قوله:( وَ مَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ كَذلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ، وَ هذا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً ) الأنعام: ١٢٦.

ثمّ بيّن معنى كونها رجساً ناشئاً من عمل الشيطان بقوله في الآية التالية:( إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَ الْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ وَ يَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَ عَنِ الصَّلاةِ ) أي إنّه لا يريد لكم في الدعوة إليها إلّا الشرّ و لذلك كانت رجساً من عمله.

فإن قلت: ملخّص هذا البيان أنّ معنى كون الخمر و أضرابها رجساً هو كون عملها أو شربها مثلاً منتهياً إلى وسوسة الشيطان و إضلاله فحسب، و الّذي تدلّ عليه عدّة من الروايات أنّ الشيطان هو الّذي ظهر للإنسان و عملها لأوّل مرّة و علّمه إيّاها.

قلت: نعم، و هذه الأخبار و إن كانت لا تتجاوز الآحاد بحيث يجب الأخذ بها إلّا أنّ هناك أخباراً كثيرة متنوّعة واردة في أبواب متفرّقة تدلّ على تمثّل الشيطان للأنبياء و الأولياء و بعض أفراد الإنسان من غيرهم كأخبار اُخر حاكية لتمثّل الملائكة، و اُخرى دالّة على تمثّل الدنيا و الأعمال و غير ذلك و الكتاب الإلهيّ يؤيّدها بعض التأييد كقوله تعالى:( فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا ) مريم: ١٧، و سنستوفي هذا البحث إن شاء الله تعالى في تفسير سورة الإسراء في الكلام على قوله تعالى:( سُبْحانَ الّذي أَسْرى‏ بِعَبْدِهِ ) الإسراء: ١، أو في محلّ آخر مناسب لذلك.

١٢٨

و الّذي يجب أن يعلم أنّ ورود قصّة مّا في خبر أو أخبار لا يوجب تبدّل آية من الآيات ممّا لها من الظهور المؤيّد بآيات اُخر، و ليس للشيطان من الإنسان إلّا التصرّف الفكريّ فيما كان له ذلك بمقتضى الآيات الشريفة، و لو أنّه تمثّل لواحد من البشر فعمل شيئاً أو علّمه إيّاه لم يزد ذلك على التمثّل و التصرّف في فكره أو مساسه علماً فانتظر ما سيوافيك من البحث.

و أمّا قوله تعالى:( فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) فتصريح بالنهي بعد بيان المفسدة ليكون أوقع في النفوس ثمّ ترجّ للفلاح على تقدير الاجتناب، و فيه أشدّ التأكيد للنهي لتثبيته أن لا رجاء لفلاح من لا يجتنب هذه الأرجاس.

قوله تعالى: ( إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَ الْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ ) إلى آخر الآية قال الراغب في المفردات: العدو التجاوز و منافاة الالتيام فتارة يعتبر بالقلب فيقال له: العداوة و المعاداة، و تارة بالمشي فيقال له: العدو، و تارة في الإخلال بالعدالة في المعاملة فيقال له: العدوان و العدو قال:( فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ ) و تارة بأجزاء المقرّ فيقال له: العدواء يقال: مكان ذو عدواء أي غير متلائم الأجزاء فمن المعاداة يقال: رجل عدوّ و قوم عدوّ قال:( بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ) و قد يجمع على عدىً (بالكسر فالفتح) و أعداء قال:( وَ يَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللهِ ) ، انتهى.

و البغض و البغضاء خلاف الحبّ و الصدّ الصرف، و الانتهاء قبول النهي و خلاف الابتداء.

ثمّ إنّ الآية - كما تقدّم - مسوقة بياناً لقوله:( مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ ) أو لقوله:( رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ ) أي إنّ حقيقة كون هذه الاُمور من عمل الشيطان أو رجساً من عمل الشيطان أنّ الشيطان لا بغية له و لا غاية في الخمر و الميسر - اللّذين قيل: إنّهما رجسان من عمله فقط - إلّا أن يوقع بينكم العداوة و البغضاء بتجاوز حدودكم و بغض بعضكم بعضاً، و أن يصرفكم عن ذكر الله و عن الصلاة في هذه الاُمور جميعاً أعني الخمر و الميسر و الأنصاب و الأزلام.

١٢٩

و قصر إيقاع العداوة و البغضاء في الخمر و الميسر لكونهما من آثارهما الظاهرة أمّا الخمر فلأنّ شربها تهيّج سلسلة الأعصاب تهيجاً يخمّر العقل و يستظهر العواطف العصبيّة فإن وقعت في طريق الغضب جوّزت للسكران أيّ جناية فرضت و إن عظمت ما عظمت، و فظعت ما فظعت ممّا لا يستبيحه حتّى السباع الضارية، و إن وقعت في طريق الشهوة و البهيميّة زيّنت للإنسان أيّ شناعة و فجور في نفسه أو ماله أو عرضه و كلّ ما يحترمه و يقدّسه من نواميس الدين و حدود المجتمع و غير ذلك من سرقة أو خيانة أو هتك محرم أو إفشاء سرّ أو ورود فيما فيه هلاك الإنسانيّة، و قد دلّ الإحصاء على أنّ للخمر السهم الأوفر من أنواع الجنايات الحادثة و في أقسام الفجورات الفظيعة في المجتمعات الّتي دار فيها شربها.

و أمّا الميسر و هو القمار فإنّه يبطل في أيسر زمان مسعاة الإنسان الّتي صرفها في اقتناء المال و الثروة و الوجاهة في أزمنة طويلة فيذهب به المال و ربّما تبعه العرض و النفس و الجاه فإن تقمّر و غلب و أحرز المال أدّاه ذلك إلى إبطال السير المعتدل في الحياة و التوسّع في الملاهي و الفجور، و الكسل و التبطّؤ عن الاشتغال بالمكسب و اقتناء موادّ الحياة من طرقها المشروعة، و إن كان هو المغلوب أدّاه فقدان المال و خيبة السعي إلى العداوة و البغضاء لقميرة الغالب، و الحسرة و الحنق.

و هذه المفاسد و إن كانت لا تظهر للأذهان الساذجة البسيطة ذاك الظهور في النادر القليل و المرّة و المرّتين لكنّ النادر يدعو إلى الغالب، و القليل يهدي إلى الكثير و المرّة تجرّ إلى المرّات و لا تلبث إن لم تمنع من رأس أن تشيع في الملأ، و تسري إلى المجتمع فتعود بلوى همجيّة لا حكومة فيها إلّا للعواطف الطاغية و الأهواء المردية.

فتبيّن من جميع ما تقدّم أنّ الحصر في قوله:( إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَ الْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ وَ يَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَ عَنِ الصَّلاةِ ) راجع إلى مجموع المعدودات من حيث المجموع غير أنّ الصدّ عن ذكر الله و عن الصلاة من شأن الجميع، و العداوة و البغضاء يختصّان بالخمر و الميسر بحسب الطبع.

١٣٠

و في إفراز الصلاة عن الذكر في قوله تعالى:( وَ يَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَ عَنِ الصَّلاةِ ) مع كون الصلاة من أفراد الذكر دلالة على مزيد الاهتمام بأمرها لكونها فرداً كاملاً من الذكر، و قد صحّ عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنّه قال: الصلاة عمود الدين‏، و دلالة القرآن الكريم في آيات كثيرة جدّاً على الاهتمام بأمر الصلاة بما لا مزيد عليه ممّا لا يتطرّق إليه شكّ و فيها مثل قوله تعالى:( قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ، الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ ) (إلى آخر الآيات) المؤمنون: ٢، و قوله تعالى:( وَ الَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ وَ أَقامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ ) الأعراف: ١٧٠، و قوله تعالى:( إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً، إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً، وَ إِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً، إِلَّا الْمُصَلِّينَ ) الآيات: المعارج: ٢٢ و قوله:( اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ وَ أَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى‏ عَنِ الْفَحْشاءِ وَ الْمُنْكَرِ وَ لَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ ) العنكبوت: ٤٥، و قال تعالى:( فَاسْعَوْا إِلى‏ ذِكْرِ اللهِ ) الجمعة: ٩، يريد به الصلاة، و قال:( وَ أَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي ) طه: ١٤، إلى غير ذلك من الآيات.

و قد ذكر سبحانه أوّلاً ذكره و قدّمه على الصلاة لأنّها هي البغية الوحيدة من الدعوة الإلهيّة، و هو الروح الحيّة في جثمان العبوديّة، و الخميرة لسعادة الدنيا و الآخرة يدلّ على ذلك قوله تعالى لآدم أوّل يوم شرع فيه الدين:( قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَ لا يَشْقى‏، وَ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً، وَ نَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى‏ ) طه: ١٢٤، و قوله تعالى:( وَ يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَ ما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَقُولُ أَ أَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ، قالُوا سُبْحانَكَ ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ وَ لكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَ آباءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَ كانُوا قَوْماً بُوراً ) الفرقان: ١٨، و قوله تعالى:( فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَ لَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ ) النجم: ٣٠.

فالذكر في الآيات إنّما هو ما يقابل نسيان جانب الربوبيّة المستتبع لنسيان العبوديّة و هو السلوك الدينيّ الّذي لا سبيل إلى إسعاد النفس بدونه قال تعالى:

١٣١

( وَ لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ ) الحشر: ١٩.

و أمّا قوله تعالى:( فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ ) فهو استفهام توبيخيّ فيه دلالة مّا على أنّ المسلمين لم يكونوا ينتهون عن المناهي السابقة على هذا النهي، و الآية أعني قوله:( إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ ) ، إلخ كالتفسير يفسّر بها قوله:( يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَ مَنافِعُ لِلنَّاسِ وَ إِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما ) أي إنّ النفع الّذي فرض فيهما مع الإثم ليس بحيث يمكن أن يفرز أحياناً من الإثم أو من الإثم الغالب عليه كالكذب الّذي فيه إثم و نفع، و ربّما اُفرز نفعه من إثمه كالكذب لمصلحة إصلاح ذات البين.

و ذلك لمكان الحصر في قوله:( إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَ الْبَغْضاءَ ) ، إلخ بعد قوله:( رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ ) فالمعنى أنّها لا تقع إلّا رجساً من عمل الشيطان، و أنّ الشيطان لا يريد بها إلّا إيقاع العداوة و البغضاء بينكم في الخمر و الميسر و صدّكم عن ذكر الله و عن الصلاة فلا يصاب لها مورد يخلص فيه النفع عن الإثم حتّى تباح فيه، فافهم ذلك.

قوله تعالى: ( أَطِيعُوا اللهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ احْذَرُوا ، إلى آخر الآية) تأكيد للأمر السابق باجتناب هذه الأرجاس أوّلاً بالأمر بطاعة الله سبحانه و بيده أمر التشريع، و ثانياً بالأمر بطاعة الرسول و إليه الإجراء، و ثالثاً بالتحذير صريحاً.

ثمّ في قوله:( فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى‏ رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ ) تأكيد فيه معنى التهديد و خاصّة لاشتماله على قوله:( فَاعْلَمُوا ) فإنّ فيه تلويحاً إلى أنّكم إن تولّيتم و اقترفتم هذه المعاصي فكأنّكم ظننتم أنّكم كابرتم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في نهيه عنها و غلبتموه، و قد جهلتم أو نسيتم أنّه رسول من قبلنا ليس له من الأمر شي‏ء إلّا بلاغ مبين لما يوحى إليه و يؤمر بتبليغه، و إنّما نازعتم ربّكم في ربوبيّته.

و قد تقدّم في أوّل الكلام أنّ الآيات تشتمل على فنون من التأكيد في تحريم هذه الاُمور، و هي الابتداء بقوله:( يا أَيُّهَا الّذينَ آمَنُوا ) ، ثمّ الإتيان بكلمة الحصر، ثمّ التوصيف بالرجس، ثمّ نسبتها إلى عمل الشيطان، ثمّ الأمر بالاجتناب صريحاً،

١٣٢

ثمّ رجاء الفلاح في الاجتناب، ثمّ ذكر مفاسدها العامّة من العداوة و البغضاء و الصرف عن ذكر الله و عن الصلاة، ثمّ التوبيخ على عدم انتهائهم، ثمّ الأمر بطاعة الله و رسوله و التحذير عن المخالفة، ثمّ التهديد على تقدير التولّي بعد البلاغ المبين.

قوله تعالى: ( لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا ) إلى آخر الآية الطعم و الطعام هو التغذّي، و يستعمل في المأكول دون المشروب، و هو في لسان المدنيّين البرّ خاصّة، و ربّما جاء بمعنى الذوق، و يستعمل حينئذ بمعنى الشرب كما يستعمل بمعنى الأكل قال تعالى:( فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَ مَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي ) البقرة: ٢٤٩، و في بعض الروايات عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال في ماء زمزم: أنّه طعام طعم و شفاء سقم.

و الآية لا تصلح بسياقها إلّا أن تتّصل بالآيات السابقة فتكون دفع دخل تتعرّض لحال المؤمنين ممّن ابتلي بشرب الخمر قبل نزول التحريم أو قبل نزول هذه الآيات، و ذلك أنّ قوله فيها:( فِيما طَعِمُوا ) مطلق غير مقيّد بشي‏ء ممّا يصلح لتقييده، و الآية مسوقة لرفع الحظر عن هذا الطعام المطلق، و قد قيّد رفع الحظر بقوله:( إِذا مَا اتَّقَوْا وَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَ آمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَ أَحْسَنُوا ) و المتيقّن من معنى هذا القيد - و قد ذكر فيه التقوى ثلاث مرّات - هو التقوى الشديد الّذي هو حقّ التقوى.

فنفي الجناح للمؤمنين المتّقين عن مطلق ما طعموا (الطعام المحلّل) إن كان لغرض إثبات المفهوم في غيرهم أي إثبات مطلق المنع لغير أهل التقوى من سائر المؤمنين و الكفّار ناقضه أمثال قوله تعالى:( قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَ الطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ ) الأعراف: ٣٢، على أنّ من المعلوم من مذاق هذا الدين أنّه لا يمنع أحداً عن الطيّبات المحلّلة الّتي تضطرّ الفطرة إلى استباحتها في الحياة.

و إن لم تكن الآية مسوقة لتحريمه على غير من ذكر عاد المعنى إلى مثل قولنا: يجوز الطعام للّذين آمنوا و عملوا الصالحات بشرط أن يتّقوا ثمّ يتّقوا ثمّ يتّقوا، و من المعلوم

١٣٣

أنّ الجواز لا يختصّ بالّذين آمنوا و عملوا الصالحات بل يعمّهم و غيرهم، و على تقدير اختصاصه بهم لا يشترط فيه هذا الشرط الشديد.

و لا يخلو عن أحد هذين الإشكالين جميع ما ذكروه في توجيه الآية بناءً على حمل قوله:( فِيما طَعِمُوا ) على مطلق الطعام المحلّل فإنّ المعنى الّذي ذكروه لا يخرج عن حدود قولنا: لا جناح على الّذين آمنوا و عملوا الصالحات إذا اتّقوا المحرّمات أن يطعموا المحلّلات، و لا يسلم هذا المعنى عن أحد الإشكالين كما هو واضح.

و ذكر بعضهم: أنّ في الآية حذفاً، و التقدير: ليس على الّذين آمنوا و عملوا الصالحات جناح فيما طعموا و غيره إذا ما اتّقوا المحارم، و فيه أنّه تقدير من غير دليل مع بقاء المحذور على حاله.

و ذكر بعضهم: أنّ الإيمان و العمل الصالح جميعاً ليس بشرط حقيقيّ بل المراد بيان وجوب اتّقاء المحارم فشرّك معه الإيمان و العمل الصالح للدلالة على وجوبه، و فيه أنّ ظاهر الآية أنّها مسوقة لنفي الجناح فيما طعموا، و لا شرط له من إيمان أو عمل صالح أو اتّقاء محارم على ما تقدّم، و ما أبعد المعنى الّذي ذكره عن ظاهر الآية.

و ذكر بعضهم: أنّ المؤمن يصحّ أن يطلق عليه أنّه لا جناح عليه، و الكافر مستحقّ للعقاب فلا يصحّ أن يطلق عليه هذا اللفظ، و فيه أنّه لا يصحّ تخصيص المؤمنين بالذكر فليكن مثل قوله تعالى:( قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَ الطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ ) الأعراف: ٣٢، و قوله:( قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى‏ طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً ) الأنعام: ١٤٥ حيث لم يذكر في الخطاب مؤمن و لا كافر، أو مثل قوله:( يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَ أُنْثى -‏ إلى قوله -إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ ) الحجرات: ١٣ حيث وجّه الخطاب إلى الناس الشامل للمؤمن و الكافر.

و ذكر بعضهم: أنّ الكافر قد سدّ على نفسه طريق معرفة التحريم و التحليل فلذلك خصّ المؤمن بالذكر، و فيه ما في سابقه من الإشكال مع أنّه لا يرفع الإشكال الناشئ

١٣٤

من قوله:( إِذا مَا اتَّقَوْا ) إلخ.

فالّذي ينبغي أن يقال: إنّ الآية في معنى الآيات السابقة عليها على ما هو ظاهر اتّصالها بها، و هي متعرّضة لحال من ابتلي من المسلمين بشرب الخمر و طعمها، أو بالطعم لشي‏ء منها أو ممّا اقتناه بالميسر أو من ذبيحة الأنصاب كأنّهم سألوا بعد نزول التحريم الصريح عن حال من ابتلي بشرب الخمر، أو بها و بغيرها ممّا ذكره الله تعالى في الآية قبل نزول التحريم من إخوانهم الماضين أو الباقين المسلمين لله سبحانه في حكمه.

فاُجيب عن سؤالهم أن ليس عليهم جناح إن كانوا من الّذين آمنوا و عملوا الصالحات إن كانوا جارين على صراط التقوى بالإيمان بالله و العمل الصالح ثمّ الإيمان بكلّ حكم نازل على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثمّ الإحسان بالعمل على طبق الحكم النازل.

و بذلك يتبيّن أنّ المراد بالموصول في قوله:( فِيما طَعِمُوا ) هو الخمر من حيث شربها أو جميع ما ذكر من الخمر و الميسر و الأنصاب و الأزلام من حيث ما يصحّ أن يتعلّق بها من معنى الطعم، و المعنى: ليس على الّذين آمنوا و عملوا الصالحات جناح فيما ذاقوه قبل نزول التحريم من خمر أو منها و من غيرها من المحرّمات المذكورة.

و أمّا قوله:( إِذا مَا اتَّقَوْا وَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَ آمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَ أَحْسَنُوا ) فظاهر قوله:( إِذا مَا اتَّقَوْا وَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ ) إنّه إعادة لنفس الموضوع المذكور في قوله:( لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ ) للدلالة على دخالة الوصف في الحكم الّذي هو نفي الجناح كقوله تعالى في خطاب المؤمنين:( ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ ) البقرة: ٢٣٢، و هو شائع في اللسان.

و ظاهر قوله:( ثُمَّ اتَّقَوْا وَ آمَنُوا ) اعتبار الإيمان بعد الإيمان، و ليس إلّا الإيمان التفصيليّ بكلّ حكم حكم ممّا جاء به الرسول من عند ربّه من غير ردّ و امتناع، و لازمه التسليم للرسول فيما يأمر به و ينهى عنه قال تعالى:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَ آمِنُوا بِرَسُولِهِ ) الحديد: ٢٨، و قال تعالى:( وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللهِ - إلى أن قال -فَلا وَ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ

١٣٥

بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَ يُسَلِّمُوا تَسْلِيماً ) النساء ٦٥، و الآيات في هذا المعنى كثيرة.

و ظاهر قوله:( ثُمَّ اتَّقَوْا وَ أَحْسَنُوا ) إضافة الإحسان إلى الإيمان بعد الإيمان اعتباراً، و الإحسان هو إتيان العمل على وجه حسنة من غير نيّة فاسدة كما قال تعالى:( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا ) الكهف: ٣٠، و قال:( الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَ الرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَ اتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ ) آل عمران: ١٧٢، أي يكون استجابتهم ابتغاءً لوجه الله و تسليماً لأمره لا لغرض آخر، و من الإحسان ما يتعدّى إلى الغير، و هو أن يوصل إلى الغير ما يستحسنه، قال تعالى:( وَ بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً ) البقرة: ٨٣، و قال:( وَ أَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ ) القصص: ٧٧.

و المناسب لمورد الآية هو المعنى الأوّل من معنيي الإحسان، و هو إتيان الفعل على جهة حسنة فإنّ التقوى الدينيّ لا يوفى حقّه بمجرّد الإيمان بالله و تصديق حقّيّة دينه ما لم يؤمن تفصيلاً بكلّ واحد واحد من الأحكام المشرّعة في الدين فإنّ ردّ الواحد منها ردّ لأصل الدين، و لا أنّ الإيمان التفصيليّ بكلّ واحد واحد يوفى به حقّ التقوى ما لم يحسن بالعمل بها و في العمل بها بأن يجري على ما يقتضيه الحكم من فعل أو ترك، و يكون هذا الجري ناشئاً من الانقياد و الاتّباع لا عن نيّة نفاقيّة فمن الواجب على المتزوّد بزاد التقوى أن يؤمن بالله و يعمل صالحاً، و أن يؤمن برسوله في جميع ما جاء به، و أن يجري في جميع ذلك على نهج الاتّباع و الإحسان.

و أمّا تكرار التقوى ثلاث مرّات، و تقييد المراتب الثلاث جميعاً به فهو لتأكيد الإشارة إلى وجوب مقارنة المراتب جميعاً للتقوى الواقعيّ من غير غرض آخر غير دينيّ، و قد مرّ في بعض المباحث السابقة أنّ التقوى ليس مقاماً خاصّاً دينيّاً بل هو حالة روحيّة تجامع جميع المقامات المعنويّة أي إنّ لكلّ مقام معنويّ تقوى خاصّاً يختصّ به.

فتلخّص من جميع ما مرّ أنّ المراد بالآية أعني قوله:( لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا

١٣٦

وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا ) إلى آخر الآية، أنّه لا جناح على الّذين آمنوا و عملوا الصالحات فيما ذاقوه من خمر أو غيره من المحرّمات المعدودة بشرط أن يكونوا ملازمين للتقوى في جميع أطوارهم و متلبّسين بالإيمان بالله و رسوله، و محسنين في أعمالهم عاملين بالواجبات و تاركين لكلّ محرّم نهوا عنه فإن اتّفق لهم أن ابتلوا بشي‏ء من الرجس الّذي هو من عمل الشيطان قبل نزول التحريم أو قبل وصوله إليهم أو قبل تفقّههم به لم يضرّهم ذلك شيئاً.

و هذا نظير قوله تعالى في آيات تحويل القبلة في جواب سؤالهم عن حال الصلوات الّتي صلّوها إلى غير الكعبة:( وَ ما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ ) البقرة: ١٤٣.

و سياق هذا الكلام شاهد آخر على كون هذه الآية:( لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ ، إلخ) متّصلة بما قبلها من الآيات و أنّها نازلة مع تلك الآيات الّتي لسانها يشهد أنّها آخر الآيات المحرّمة للخمر نزولاً، و أنّ بعض المسلمين كما يشعر به لسان الآيات - على ما استفدناه آنفاً - لم يكونوا منتهين عن شربها ما بين الآيات السابقة المحرّمة و بين هذه الآيات.

ثمّ وقع السؤال بعد نزول هذه الآيات عن حال من ابتلي بذلك و فيهم من ابتلي به قبل نزول التحريم، و من ابتلي به قبل التفقّه، و من ابتلي به لغير عذر فاُجيبوا بما يتعيّن به لكلّ طائفة حكم مسألته بحسب خصوص حاله، فمن طعمها و هو على حال الإيمان و الإحسان، و لا يكون إلّا من ذاقها من المؤمنين قبل نزول التحريم أو جهلاً به فليس عليه جناح، و من ذاقها على غير النعت فحكمه غير هذا الحكم.

و للمفسّرين في الآية أبحاث طويلة، منها ما يرجع إلى قوله:( فِيما طَعِمُوا ) و قد تقدّم خلاصة الكلام في ذلك.

و منها ما يرجع إلى ذيل الآية من حيث تكرّر التقوى فيه ثلاث مرّات، و تكرّر الإيمان و تكرّر العمل الصالح و ختمها بالإحسان.

فقيل: إنّ المراد بقوله:( إِذا مَا اتَّقَوْا وَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ ) اتّقوا المحرّم و ثبتوا على الإيمان و الأعمال الصالحة، و بقوله:( ثُمَّ اتَّقَوْا وَ آمَنُوا ) ثمّ

١٣٧

اتّقوا ما حرّم عليهم بعد كالخمر و آمنوا بتحريمه، و بقوله:( ثُمَّ اتَّقَوْا وَ أَحْسَنُوا ) ثمّ استمرّوا و ثبتوا على اتّقاء المعاصي و اشتغلوا بالأعمال الجميلة.

و قيل: إنّ هذا التكرار باعتبار الحالات الثلاث: استعمال الإنسان التقوى و الإيمان بينه و بين نفسه، و بينه و بين الناس، و بينه و بين الله تعالى، و الإحسان على هذا هو الإحسان إلى الناس ظاهراً.

و قيل: إنّ التكرار باعتبار المراتب الثلاث: المبدإ و الوسط و المنتهى، و هو حقّ التقوى.

و قيل: التكرار باعتبار ما يتّقى فإنّه ينبغي أن تترك المحرّمات توقّياً من العقاب، و الشبهات تحرّزاً عن الوقوع في الحرام، و بعض المباحات تحفّظاً للنفس عن الخسّة، و تهذيباً عن دنس الطبيعة.

و قيل: إنّ الاتّقاء الأوّل اتّقاء عن شرب الخمر و الإيمان الأوّل هو الإيمان بالله، و الاتّقاء الثاني هو إدامة الاتّقاء الأوّل و الإيمان الثاني إدامة الإيمان الأوّل، و الاتّقاء الثالث هو فعل الفرائض، و الإحسان فعل النوافل.

و قيل: إنّ الاتّقاء الأوّل اتّقاء المعاصي العقليّة، و الإيمان الأوّل هو الإيمان بالله و بقبح هذه المعاصي، و الاتّقاء الثاني اتّقاء المعاصي السمعيّة و الإيمان الثاني هو الإيمان بوجوب اجتناب هذه المعاصي، و الاتّقاء الثالث يختصّ بمظالم العباد و ما يتعلّق بالغير من الظلم و الفساد، و المراد بالإحسان الإحسان إلى الناس.

و قيل: إنّ الشرط الأوّل يختصّ بالماضي، و الشرط الثاني بالدوام على ذلك و الاستمرار على فعله، و الشرط الثالث يختصّ بمظالم العباد، إلى غير ذلك من أقوالهم.

و جميع ما ذكروه ممّا لا دليل عليه من لفظ الآية أو غيرها يوجب حمل الآية عليه، و هو ظاهر بالتأمّل في سياق القول فيها و الرجوع إلى ما قدّمناه.

١٣٨

( بحث روائي)

في تفسير العيّاشيّ، عن هشام بن سالم عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: سمعته يقول: بينا حمزة بن عبد المطّلب و أصحاب له على شراب لهم يقال له السكركة. قال: فتذاكروا الشريف فقال لهم حمزة: كيف لنا به؟ فقالوا: هذه ناقة ابن أخيك عليّ، فخرج إليها فنحرها ثمّ أخذ كبدها و سنامها فأدخل عليهم، قال: و أقبل عليّعليه‌السلام فأبصر ناقته فدخله من ذلك، فقالوا له: عمّك حمزة صنع هذا، قال: فذهب إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فشكا ذلك إليه.

قال: فأقبل معه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقيل لحمزة: هذا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالباب، قال: فخرج حمزة و هو مغضب فلمّا رأى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الغضب في وجهه انصرف قال: فقال له حمزة: لو أراد ابن أبي طالب أن يقودك بزمام فعل، فدخل حمزة منزله و انصرف النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

قال: و كان قبل اُحد، قال: فأنزل الله تحريم الخمر فأمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بآنيتهم فاُكفئت، قال: فنودي في الناس بالخروج إلى اُحد فخرج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و خرج الناس و خرج حمزة فوقف ناحية من النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال فلمّا تصافحوا حمل في الناس حتّى غيب فيهم ثمّ رجع إلى موقفه، فقال له الناس: الله الله يا عمّ رسول الله أن تذهب و في نفس رسول الله عليك شي‏ء، قال: ثمّ حمل الثانية حتّى غيب في الناس ثمّ رجع إلى موقفه فقالوا له: الله الله يا عمّ رسول الله أن تذهب و في نفس رسول الله عليك شي‏ء.

فأقبل إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلمّا رآه نحوه أقبل مقبلاً إليه فعانقه و قبّل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما بين عينيه ثمّ قال: احمل على الناس فاستشهد حمزة، و كفّنه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في تمرة.

ثمّ قال أبوعبداللهعليه‌السلام : نحو من سرياني هذا، فكان إذا غطّى وجهه انكشف رجلاًه و إذا غطّى رجلاه انكشف وجهه قال: فغطّى بها وجهه، و جعل على رجليه أذخر.

١٣٩

قال فانهزم الناس و بقي عليّعليه‌السلام فقال له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما صنعت؟ قال: يا رسول الله لزمت الأرض فقال: ذلك الظنّ بك، قال: و قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنجز لي يا ربّ ما وعدتني فإنّك إن شئت لم تعبد.

و عن الزمخشريّ في ربيع الأبرار، قال: اُنزل في الخمر ثلاث آيات:( يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ ) فكان المسلمون بين شارب و تارك إلى أن شربها رجل فدخل في صلاته فهجر فنزل:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَ أَنْتُمْ سُكارى) فشربها من شربها من المسلمين حتّى شربها عمر فأخذ لحي بعير فشّج رأس عبدالرحمن بن عوف، ثمّ قعد ينوح على قتلى بدر بشعر الأسود بن يغفر:

و كأين بالقليب قليب بدر

من القنيات و الشرب الكرام

و كأين بالقليب قليب بدر

من السري المكامل بالسنام

أ يوعدنا ابن كبشة أن نحيى

و كيف حياة أصداء و هام

أ يعجز أن يردّ الموت عنّي

و ينشرني إذا بليت عظامي

ألا من مبلغ الرحمن عنّي

بأنّي تـارك شهر الصيام

فقل لله: يمنـعني شرابـي

و قل لله: يمنعني طـعامي

فبلغ ذلك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فخرج مغضباً يجرّ رداءه فرفع شيئاً كان في يده ليضربه، فقال: أعوذ بالله من غضب الله و غضب رسوله فأنزل الله سبحانه و تعالى:( إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ إلى قوله فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ ) فقال عمر: انتهينا.

و في الدرّ المنثور،: أخرج ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و أبوالشيخ و ابن مردويه و النحّاس في ناسخه عن سعد بن أبي وقّاص قال: فيّ نزل تحريم الخمر صنع رجل من الأنصار طعاماً فدعانا فأتاه ناس فأكلوا و شربوا حتّى انتشوا من الخمر، و ذلك قبل أن تحرّم الخمر فتفاخروا فقالت الأنصار: الأنصار: خير، و قالت قريش: قريش خير فأهوى رجل بلحي جزور فضرب على أنفي ففزره - فكان سعد مفزور الأنف - قال: فأتيت النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فذكرت ذلك له فنزلت هذه الآية:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ ) ، إلى آخر الآية.

١٤٠

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443