الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٣

الميزان في تفسير القرآن8%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 443

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 443 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 114680 / تحميل: 6725
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٣

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

ثقلاً أن يسمعوه فهم لا يسمعون القرآن سمع قبول و لا يفقهونه فقه إيمان و تصديق كلّ ذلك مجازاة لهم بما كفروا و فسقوا.

و قوله:( وَ إِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ ) أي على نعت التوحيد و نفي الشريك ولّوا على أدبارهم نافرين و أعرضوا عنه مستدبرين.

قوله تعالى: ( نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ ) إلى آخر الآية، النجوى مصدر و لذا يوصف به الواحد و المثنّى و المجموع و المذكّر و المؤنّث و هو لا يتغيّر في لفظه.

و الآية بمنزلة الحجّة على ما ذكر في الآية السابقة أنّه جعل على قلوبهم أكنّة أن يفقهوه و في آذانهم وقرا فقوله:( نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ ) إلخ ناظر إلى جعل الوقر و قوله:( وَ إِذْ هُمْ نَجْوى) إلخ ناظر إلى جعل الأكنّة.

يقول تعالى: نحن أعلم بآذانهم الّتي يستمعون بها إليك و بقلوبهم الّتي ينظرون بها في أمرك - و كيف لا؟ و هو تعالى خالقها و مدبّر أمرها فإخباره أنّه جعل على قلوبهم أكنّة و في آذانهم وقرا أصدق و أحقّ بالقبول - فنحن أعلم بما يستمعون به و هو آذانهم في وقت يستمعون إليك، و نحن أعلم أي بقلوبهم إذ هم نجوى إذ يناجي بعضهم بعضاً متحرّزين عن الإجهار و رفع الصوت و هم يرون الرأي إذ يقول الظالمون أي يقول القائلون منهم و هم ظالمون في قولهم - إن تتبّعون إلّا رجلاً مسحوراً و هذا تصديق أنّهم لم يفقهوا الحقّ.

و في الآية إشعار بل دلالة على أنّهم كانوا لا يأتونهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لاستماع القرآن علناً حذراً من اللائمة و إنّما يأتونه متستّرين مستخفين حتّى إذا رأى بعضهم بعضاً على هذا الحال تلاوموا بالنجوى خوفاً أن يحسّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و المؤمنون بموقفهم فقال بعضهم لبعض: إن تتّبعون إلّا رجلاً مسحوراً، و بهذا يتأيّد ما ورد في أسباب النزول بهذا المعنى، و سنورده إن شاء الله في البحث الروائيّ الآتي.

قوله تعالى: ( انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا ) المثل بمعنى الوصف، و ضرب الأمثال التوصيف بالصفات و معنى الآية ظاهر، و هي

١٢١

تفيد أنّهم لا مطمع في إيمانهم كما قال تعالى:( وَ سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ) يس: ١٠.

قوله تعالى: ( وَ قالُوا أَ إِذا كُنَّا عِظاماً وَ رُفاتاً أَ إِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً ) قال في المجمع، الرفات ما تكسّر و بلي من كلّ شي‏ء، و يكثر بناء فعال في كلّ ما يحطم و يرضض يقال: حطام و دقاق و تراب و قال المبرّد: كلّ شي‏ء مدقوق مبالغ في دقّه حتّى انسحق فهو رفات. انتهى.

في الآية مضيّ في بيان عدم فقههم بمعارف القرآن حيث استبعدوا البعث و هو من أهمّ ما يثبته القرآن و أوضح ما قامت عليه الحجج من طريق الوحي و العقل حتّى وصفه الله في مواضع من كلامه بأنّه( لا رَيْبَ فِيهِ ) و ليس لهم حجّة على نفيه غير أنّهم استبعدوه استبعاداً.

و من أعظم ما يزين في قلوبهم هذا الاستبعاد زعمهم أنّ الموت فناء للإنسان و من المستبعد أن يتكوّن الشي‏ء عن عدم بحت كما قالوا: أ إذا كنّا عظاماً و رفاتاً بفساد أبداننا عن الموت حتّى إذا لم يبق منها إلّا العظام ثمّ رمت العظام و صارت رفاتاً أ إنّا لفي خلق جديد نعود أناسي كما كنّا؟ ذلك رجع بعيد و لذلك ردّه سبحانه إليهم بتذكيرهم القدرة المطلقة و الخلق الأوّل كما سيأتي.

قوله تعالى: ( قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ ) جواب عن استبعادهم، و قد عبّروا في كلامهم بقولهم:( أَ إِذا كُنَّا ) فأمر سبحانه نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يأمرهم أمر تسخير أن يكونوا حجارة أو حديداً إلخ ممّا تبديله إلى الإنسان أبعد و أصعب عندهم من تبديل العظام الرفات إليه.

فيكون إشارة إلى أنّ القدرة المطلقة الإلهيّة لا يشقّها شي‏ء تريد تجديد خلقه سواء أ كان عظاماً و رفاتاً أو حجارة أو حديداً أو غير ذلك.

و المعنى: قل لهم ليكونوا شيئاً أشدّ من العظام و الرفات حجارة أو حديداً أو مخلوقاً آخر من الأشياء الّتي تكبر في صدورهم و يبالغون في استبعاد أن يخلق منه الإنسان - فليكونوا ما شاءوا فإنّ الله سيعيد إليهم خلقهم الأوّل و يبعثهم.

١٢٢

قوله تعالى: ( فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ) أي فإذا أجبت عن استبعادهم بأنّهم مبعوثون أيّاماً كانوا و إلى أيّ حال و صفة تحوّلوا سيسألونك و يقولون من يعيدنا إلى ما كنّا عليه من الخلقة الإنسانيّة؟ فاذكر لهم الله سبحانه و ذكّرهم من وصفه بما لا يبقى معه لاستبعادهم محلّ و هو فطره إيّاهم أوّل مرّة و لم يكونوا شيئاً و قل: يعيدكم الّذي خلقكم أوّل مرّة.

ففي تبديل لفظ الجلالة من قوله:( الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ) إثبات الإمكان و رفع الاستبعاد بإراءة المثل.

قوله تعالى: ( فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ وَ يَقُولُونَ مَتى‏ هُوَ قُلْ عَسى‏ أَنْ يَكُونَ قَرِيباً ) قال الراغب: الإنغاض تحريك الرأس نحو الغير كالمتعجّب منه. انتهى.

و المعنى: فإذا قرعتهم بالحجّة و ذكّرتهم بقدرة الله على كلّ شي‏ء و فطرة إيّاهم أوّل مرّة وجدتهم يحرّكون إليك رؤسهم تحريك المستهزئ المستخفّ بك المستهين له و يقولون متى هو؟ قل عسى أن يكون قريباً فإنّه لا سبيل إلى العلم به و هو من الغيب الّذي لا يعلمه إلّا الله لكن وصف اليوم معلوم بإعلامه تعالى و لذا وصفه لهم واضعاً الصفة مكان الوقت فقال: يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ، الآية.

قوله تعالى: ( يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَ تَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا ) ( يَوْمَ ) منصوب بفعل مضمر أي تبعثون يوم كذا و كذا و الدعوة هي أمره تعالى لهم أن يقوموا ليوم الجزاء و استجابتهم هي قبولهم الدعوة الإلهيّة، و قوله:( بِحَمْدِهِ ) حال من فاعل تستجيبون و التقدير تستجيبون متلبّسين بحمده أي حامدين له تعدّون البعث و الإعادة منه فعلاً جميلاً يحمد فاعله و يثنى عليه لأنّ الحقائق تنكشف لكم اليوم فيتبيّن لكم أنّ من الواجب في الحكمة الإلهيّة أن يبعث الناس للجزاء و أن تكون بعد الاُولى اُخرى.

و قوله:( وَ تَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا ) أي تزعمون يوم البعث أنّكم لم تلبثوا في القبور بعد الموت إلّا زماناً قليلاً و ترون أنّ اليوم كان قريباً منكم جدّاً.

و قد صدّقهم الله في هذه المزعمة و إن خطّأهم فيما ضربوا له من المدّة قال

١٢٣

تعالى:( قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) المؤمنون، ١١٤، و قال:( وَ يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ وَ قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَ الْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللهِ إِلى‏ يَوْمِ الْبَعْثِ فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ ) الروم: ٥٦ إلى غير ذلك من الآيات.

و في التعرّض لقوله:( وَ تَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا ) تعريض لهم في استبطائهم اليوم و استهزائهم به، و تأييد لما مرّ من رجاء قربه في قوله:( قُلْ عَسى‏ أَنْ يَكُونَ قَرِيباً ) أي و إنّكم ستعدّونه قريباً، و كذا في قوله:( فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ ) تعريض لهم في استهزائهم به و تعجّبهم منه أي و إنّكم ستحمدونه يوم البعث و أنتم اليوم تستبعدونه و تستهزؤن بأمره.

قوله تعالى: ( قُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ ) إلخ يلوح من السياق أنّ المراد بعبادي هم المؤمنون فالإضافة للتشريف، و قوله:( قُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا ) إلخ أي مُرهم أن يقولوا فهو أمر و جواب أمر مجزوم، و قوله:( الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) أي الكلمة الّتي هي أحسن، و هو اشتمالها على الأدب الجميل و تعرّيها عن الخشونة و الشتم و سوء الأمر.

الآية و ما بعدها من الآيتين ذات سياق واحد، و خلاصة مضمونها الأمر بإحسان القول و لزوم الأدب الجميل في الكلام تحرّزاً عن نزغ الشيطان، و ليعلموا أنّ الأمر إلى مشيّة الله لا إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتّى يرفع القلم عن كلّ من آمن به و انتسب إليه و يتأهّل للسعادة، فله ما يقول، و له أن يحرم غيره كلّ خير و يسي‏ء القول فيه فما للإنسان إلّا حسن سريرته و كمال أدبه، و قد فضّل الله بذلك بعض الأنبياء على بعض و خصّ داود بإيتاء الزبور الّذي فيه أحسن القول و جميل الثناء على الله سبحانه.

و من هنا يظهر أنّ المؤمنين قبل الهجرة ربّما كانوا يحاورون المشركين فيغلظون لهم في القول و يخاشنونهم بالكلام و ربّما جبّهوهم بأنّهم أهل النار، و أنّهم معشر المؤمنين أهل الجنّة ببركة من النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فكان ذلك يهيّج المشركين

١٢٤

عليهم و يزيد في عداوتهم و يبعثهم إلى المبالغة في فتنتهم و تعذيبهم و إيذاء النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و العناد مع الحقّ.

فأمر الله سبحانه نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يأمرهم بقول الّتي هي أحسن و المقام مناسب لذلك فقد تقدّم آنفاً حكاية إساءة الأدب من المشركين إلى النبيّ و تسميتهم إيّاه رجلاً مسحوراً و استهزائهم بالقرآن و بما فيه من معارف المبدء و المعاد، و هذا هو وجه اتّصال الآيات الثلاث بما قبلها و اتّصال بعض الثلاث ببعض فافهم ذلك.

فقوله:( وَ قُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) أمر بالأمر و المأمور به قول الكلمة الّتي هي أحسن فهو نظير قوله:( وَ جادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) النحل: ١٢٥ و قوله:( إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ ) تعليل للأمر، و قوله:( إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً ) تعليل لنزغ الشيطان بينهم.

و ربّما قيل: إنّ المراد بقول الّتي هي أحسن الكفّ عن قتال المشركين و معاملتهم بالسلم و الخطاب للمؤمنين بمكّة قبل الهجرة فالآية نظيرة قوله:( وَ قُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً ) البقرة: ٨٣ على ما ورد في أسباب النزول، و أنت خبير بأنّ سياق التعليل في الآية لا يلائمه.

قوله تعالى: ( رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَ ما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا ) قد تقدّم أنّ الآية و ما بعدها تتمّة السياق السابق، و على ذلك فصدر الآية من تمام كلام النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الّذي اُمر بإلقائه على المؤمنين بقوله:( قُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا ) إلخ و ذيل الآية خطاب للنبيّ خاصّة فلا التفات في الكلام.

و يمكن أن يكون الخطاب في صدر الآية للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و المؤمنين جميعاً بتغليب جانب خطابه على غيبتهم، و هذا أنسب بسياق الآية السابقة و تلاحق الكلام، و الكلام لله جميعاً.

و كيف كان فقوله:( رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ ) في مقام تعليل الأمر السابق ثانياً، و يفيد أنّه يجب على المؤمنين أن يتحرّزوا من إغلاظ القول على غيرهم و القضاء بما الله أعلم به من سعادة أو شقاء كأن يقولوا:

١٢٥

فلان سعيد بمتابعة النبيّ و فلان شقيّ و فلان من أهل الجنّة و فلان من أهل النار و عليهم أن يرجعوا الأمر و يفوّضوه إلى ربّهم فربّكم - و الخطاب للنبيّ و غيره - أعلم بكم و هو يقضي فيكم على ما علم من استحقاق الرحمة أو العذاب إن يشأ يرحمكم و لا يشاء ذلك إلّا مع الإيمان و العمل الصالح على ما بيّنه في كلامه أو إن يشأ يعذّبكم و لا يشاء ذلك إلّا مع الكفر و الفسوق، و ما جعلناك أيّها النبيّ عليهم وكيلاً مفوّضاً إليه أمرهم حتّى تختار لمن تشاء ما تشاء فتعطي هذا و تحرم ذاك.

و من ذلك يظهر أنّ الترديد في قوله:( إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ ) باعتبار المشيّة المختلفة باختلاف الموارد بالإيمان و الكفر و العمل الصالح و الطالح و أنّ قوله:( وَ ما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا ) لردع المؤمنين عن أن يعتمدوا في نجاتهم على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و الانتساب إلى قبول دينه نظير قوله:( لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَ لا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ ) النساء: ١٢٣ و قوله:( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ الَّذِينَ هادُوا وَ النَّصارى‏ وَ الصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ عَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ ) البقرة: ٦٢ و آيات اُخرى في هذا المعنى.

و في الآية أقوال اُخر تركنا التعرّض لها لعدم الجدوى.

قوله تعالى: ( وَ رَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ لَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى‏ بَعْضٍ وَ آتَيْنا داوُدَ زَبُوراً ) صدر الآية توسعة في معنى التعليل السابق كأنّه قيل: و كيف لا يكون أعلم بكم و هو أعلم بكم و هو أعلم بمن في السماوات و الأرض و أنتم منهم.

و قوله:( وَ لَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى‏ بَعْضٍ ) كأنّه تمهيد لقوله:( وَ آتَيْنا داوُدَ زَبُوراً ) و الجملة تذكر فضل داودعليه‌السلام بكتابه الّذي هو زبور و فيه أحسن الكلمات في تسبيحه و حمده تعالى، و فيه تحريض للمؤمنين أن يرغبوا في أحسن القول و يتأدّبوا بالأدب الجميل في المحاورة و الكلام.

و لهم في تفسير الآية أقوال اُخرى تركنا التعرّض لها و من أرادها فليراجع المطوّلات.

١٢٦

( بحث روائي)

في تفسير القمّيّ، في قوله تعالى:( لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذاً لَابْتَغَوْا إِلى‏ ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا ) قال: قال: لو كانت الأصنام آلهة كما تزعمون لصعدوا إلى العرش‏

أقول: أي لاستولوا على ملكه تعالى و أخذوا بأزمّة الاُمور و أمّا العرش بمعنى الفلك المحدّد للجهات أو جسم نورانيّ عظيم فوق العالم الجسمانيّ كما ذكره بعضهم فلا دليل عليه من الكتاب، و على تقدير ثبوته لا ملازمة بين الربوبيّة و الصعود على هذا الجسم.

و في الدرّ المنثور، أخرج أحمد و ابن مردويه عن ابن عمر أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: إنّ نوحاً لمّا حضرته الوفاة قال لابنيه: آمركما بسبحان الله و بحمده فإنّها صلاة كلّ شي‏ء، و بها يرزق كلّ شي‏ء.

أقول: قد ظهر ممّا قدّمناه في معنى تسبيح الأشياء الارتباط المشار إليه في الرواية بين تسبيح كلّ شي‏ء و بين رزقه فإنّ الرزق يقدّر بالحاجة و السؤال و كلّ شي‏ء إنّما يسبّح الله تعالى بالإشارة بإظهار حاجته و نقصه إلى تنزّهه تعالى من ذلك.

و في تفسير العيّاشيّ، عن أبي الصباح عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: قلت له: قول الله:( وَ إِنْ مِنْ شَيْ‏ءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ) قال: كلّ شي‏ء يسبّح بحمده، و إنّا لنرى أنّ تنقّض الجدر هو تسبيحها.

أقول: و رواه أيضاً عن الحسين بن سعيد عنهعليه‌السلام .

و فيه، عن النوفليّ عن السكونيّ عن جعفر بن محمّد عن أبيهعليهما‌السلام قال: نهى رسول اللهعليه‌السلام أن يوسم البهائم و أن يضرب وجهها فإنّها تسبّح بحمد ربّها.

أقول: و روى النهي عن ضربها على وجوهها الكلينيّ في الكافي، بإسناده

١٢٧

عن محمّد بن مسلم عن أبي عبداللهعليه‌السلام عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: و في حديث آخر: لا تسمها في وجوهها.

و فيه، عن إسحاق بن عمّار عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: ما من طير يصاد في برّ أو بحر و لا شي‏ء يصاد من الوحش إلّا بتضييعه التسبيح.

أقول: و هذا المعنى رواه أهل السنّة بطرق كثيرة عن ابن مسعود و أبي الدرداء و أبي هريرة و غيرهم عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

و فيه، عن مسعدة بن صدقة عن جعفر بن محمّد عن أبيهعليهما‌السلام : أنّه دخل عليه رجل فقال: فداك أبي و اُمّي إنّي أجد الله يقول في كتابه:( وَ إِنْ مِنْ شَيْ‏ءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَ لكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ) فقال له: هو كما قال الله تبارك و تعالى.

قال: أ تسبّح الشجرة اليابسة؟ فقال: نعم أ ما سمعت خشب البيت كيف ينقصف؟ و ذلك تسبيحه فسبحان الله على كلّ حال.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن مردويه عن أبي هريرة أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: إنّ النمل يسبّحن.

و فيه، أخرج النسائيّ و أبو الشيخ و ابن مردويه عن ابن عمر قال: نهى رسول الله عن قتل الضفدع و قال: نعيقها تسبيح.

و فيه، أخرج الخطيب عن أبي حمزة قال: كنّا مع عليّ بن الحسين فمرّ بنا عصافير يصحن فقال: أ تدرون ما تقول هذه العصافير؟ فقلنا: لا فقال: أمّا إنّي ما أقول: إنّا نعلم الغيب و لكنيّ سمعت أبي يقول: سمعت عليّ بن أبي طالب أميرالمؤمنين يقول: إنّ الطير إذا أصبحت سبّحت ربّها و سألته قوت يومها و إنّ هذه تسبّح ربّها و تسأل قوت يومها.

أقول: و روي أيضاً مثله عن أبي الشيخ و أبي نعيم في الحلية عن أبي حمزة الثماليّ عن محمّد بن عليّ بن الحسينعليه‌السلام و لفظه قال محمّد بن عليّ بن الحسين و سمع عصافير يصحن قال: تدري ما يقلن؟ قلت: لا قال: يسبّحن ربّهنّ عزّوجلّ و يسألن قوت يومهنّ.

١٢٨

و فيه، أخرج الخطيب في تاريخه عن عائشة قالت: دخل علىّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال لي: يا عائشة اغسلي هذين البردين فقلت: يا رسول الله بالأمس غسلتهما فقال لي: أ ما علمت أنّ الثوب يسبّح فإذا اتّسخ انقطع تسبيحه.

و فيه، أخرج العقيليّ في الضعفاء و أبوالشيخ و الديلميّ عن أنس قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : آجال البهائم كلّها و خشاش الأرض و النمل و البراغيث و الجراد و الخيل و البغال و الدوابّ كلّها و غير ذلك آجالها في التسبيح فإذا انقضى تسبيحها قبض الله أرواحها، و ليس إلى ملك الموت منها شي‏ء.

أقول: و لعلّ المراد من قوله: و ليس إلى ملك الموت منها شي‏ء، أنّه لا يتصدّى بنفسه قبض أرواحها و إنّما يباشرها بعض الملائكة و الأعوان، و الملائكة أسباب متوسّطة على أيّ حال.

و فيه، أخرج أحمد عن معاذ بن أنس عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنّه مرّ على قوم و هم وقوف على دوابّ لهم و رواحل فقال لهم: اركبوها سالمة و دعوها سالمة، و لا تتّخذوها كراسيّ لأحاديثكم في الطرق و الأسواق فربّ مركوبة خير من راكبها و أكثر ذكراً لله منه.

و في الكافي، بإسناده عن السكونيّ عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: للدابّة على صاحبها ستّة حقوق: لا يحمّلها فوق طاقتها، و لا يتّخذ ظهرها مجلساً يتحدّث عليها، و يبدء بعلفها إذا نزل، و لا يسمها في وجهها، و لا يضربها فإنّها تسبّح، و يعرض عليها الماء إذا مرّ بها.

و في مناقب ابن شهرآشوب،: علقمة و ابن مسعود: كنّا نجلس مع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و نسمع الطعام يسبّح و رسول الله يأكل، و أتاه مكرز العامري و سأله آية فدعا بتسع حصيات فسبّحن في يده‏، و في حديث أبي ذرّ: فوضعهنّ على الأرض فلم يسبّحن و سكتن ثمّ عاد و أخذهنّ فسبّحن. ابن عبّاس قال: قدم ملوك حضرموت على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالوا كيف نعلم أنّك رسول الله؟ فأخذ كفّا من حصى فقال: هذا يشهد أنّي رسول الله فسبّح الحصا في يده و شهد أنّه رسول الله.

١٢٩

و فيه، أبو هريرة و جابر الأنصاريّ و ابن عبّاس و اُبيّ بن كعب و زين العابدين: إنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يخطب بالمدينة إلى بعض الأجذاع فلمّا كثر الناس و اتّخذوا له منبراً و تحوّل إليه حنّ كما يحنّ الناقة، فلمّا جاء إليه و أكرمه كان يئنّ أنين الصبيّ الّذي يسكت.

أقول: و الروايات في تسبيح الأشياء على اختلاف أنواعها كثيرة جدّاً، و ربّما اشتبه أمرها على بعضهم فزعم أنّ هذا التسبيح العامّ من قبيل الأصوات، و أنّ لعامّة الأشياء لغة أو لغات ذات كلمات موضوعة لمعان نظير ما للإنسان مستعملة للكشف عمّا في الضمير غير أنّ حواسّنا مصروفة عنها و هو كما ترى.

و الّذي تحصّل من البحث المتقدّم في ذيل الآية الكريمة أنّ لها تسبيحاً هو كلام بحقيقة معنى الكلام و هو إظهارها تنزّه ربّها بإظهارها نقص ذاتها و صفاتها و أفعالها عن علم منها بذلك، و هو الكلام فما روي من سماعهم تسبيح الحصى في كفّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو سماع تسبيح الجبال و الطير إذا سبّح داودعليه‌السلام أو ما يشبه ذلك إنّما كان بإدراكهم تسبيحها الواقعيّ بحقيقة معناه من طريق الباطن ثمّ محاكاة الحسّ ذلك بما يناظره و يناسبه من الألفاظ و الكلمات الموضوعة لما يفيد ما أدركوه من المعنى.

نظير ذلك ما تقدّم من ظهور المعاني المجرّدة عن الصورة في الرؤيا فيما يناسبه من الصور المألوفة كظهور حقيقة يعقوب و أهله و بنيه ليوسفعليهما‌السلام في رؤياه في صورة الشمس و القمر و الكواكب و نظير سائر الرؤى الّتي حكاها الله سبحانه في سورة يوسف و قد تقدّم البحث عنها.

فالذي يناله من ينكشف له تسبيح الأشياء أو حمدها أو شهادتها أو ما يشابه ذلك حقيقة المعنى أوّلاً ثمّ يحاكيه الحسّ الباطن في صورة ألفاظ مسموعة تؤدّي ما ناله من المعنى. و الله أعلم.

و في الدرّ المنثور،: أخرج أبو يعلى و ابن أبي حاتم و صحّحه و ابن مردويه و أبو نعيم و البيهقيّ معا في الدلائل، عن أسماء بنت أبي بكر قالت: لمّا نزلت( تبّت

١٣٠

يَدا أَبِي لَهَبٍ ) أقبلت العوراء اُمّ جميل و لها ولولة و في يدها فهر و هي تقول:

مذممّا أبينا

و دينه قلينا

و أمره عصينا

و رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جالس و أبوبكر إلى جنبه فقال أبوبكر: لقد أقبلت هذه و أنا أخاف أن تراك فقال: إنّها لن تراني و قرء قرآناً اعتصم به كما قال تعالى:( وَ إِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَ بَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً ) فجاءت حتّى قامت على أبي بكر فلم تر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالت: يا أبابكر بلغني أنّ صاحبك هجاني فقال أبوبكر: لا و ربّ هذا البيت ما هجاك فانصرفت و هي تقول: قد علمت قريش أنّي بنت سيّدها.

أقول: و روي أيضاً بطريق آخر عن أسماء و عن أبي بكر و ابن عبّاس مختصراً و رواه أيضاً في البحار، عن قرب الإسناد عن الحسن بن ظريف عن معمر عن الرضا عن أبيه عن جدّهعليهم‌السلام في حديث يذكر فيه جوامع معجزات النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

و في تفسير العيّاشيّ، عن زرارة عن أحدهماعليهما‌السلام قال: في( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) قال: هو أحقّ ما جهر به، و هي الآية الّتي قال الله:( وَ إِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ - بسم الله الرحمن الرحيم -وَلَّوْا عَلى‏ أَدْبارِهِمْ نُفُوراً ) كان المشركون يستمعون إلى قراءة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فإذا قرأ( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) نفروا و ذهبوا فإذا فرغ منه عادوا و تسمّعوا.

أقول: و روي هذا المعنى أيضاً عن منصور بن حازم عن أبي عبداللهعليه‌السلام و رواه القمّيّ في تفسيره، مضمراً.

و في الدرّ المنثور، أخرج البخاريّ في تاريخه، عن أبي جعفر محمّد بن عليّ أنّه قال: لم كتمتم( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) فنعم الاسم و الله كتموا فإنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان إذا دخل منزله اجتمعت عليه قريش فيجهر ببسم الله الرحمن الرحيم و يرفع صوته بها فتولّى قريش فراراً فأنزل الله:( وَ إِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى‏ أَدْبارِهِمْ نُفُوراً ) .

و فيه، أخرج ابن إسحاق و البيهقيّ في الدلائل، عن الزهريّ قال: حدّثت

١٣١

أنّ أباجهل و أباسفيان و الأخنس بن شريق خرجوا ليلة يستمعون من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و هو يصلّي بالليل في بيته فأخذ كلّ رجل منهم مجلساً يستمع فيه و كلّ لا يعلم بمكان صاحبه فباتوا يستمعون له حتّى إذا طلع الفجر تفرّقوا فجمعتهم الطريق فتلاوموا فقال بعضهم لبعض: لا تعودوا فلو رآكم بعض سفهائكم لأوقعتم في نفسه شيئاً.

ثمّ انصرفوا حتّى إذا كانت الليلة الثانية عاد كلّ رجل منهم إلى مجلسه فباتوا يستمعون له حتّى طلع الفجر تفرّقوا فجمعتهم الطريق فقال بعضهم لبعض مثل ما قالوا أوّل مرّة ثمّ انصرفوا حتّى إذا كانت الليلة الثالثة أخذ كلّ رجل منهم مجلسه فباتوا يستمعون له حتّى إذا طلع الفجر تفرّقوا فجمعتهم الطريق فقال بعضهم لبعض: لا نبرح حتّى نتعاهد لا نعود فتعاهدوا على ذلك ثمّ تفرّقوا.

فلمّا أصبح الأخنس أتى أباسفيان في بيته فقال: أخبرني عن رأيك فيما سمعت من محمّد قال: و الله سمعت أشياء أعرفها و أعرف ما يراد بها و سمعت أشياء ما عرفت معناها و لا ما يراد بها. قال الأخنس: و أنا و الّذي حلفت به.

ثمّ خرج من عنده حتّى أتى أباجهل فقال: ما رأيك فيما سمعت من محمّد؟ قال: ما ذا سمعت؟ تنازعنا نحن و بنو عبد مناف في الشرف أطعموا فأطعمنا و حملوا فحملنا و أعطوا فأعطينا حتّى إذا تجانبنا على الركب و كنّا كفرسي الرهان قالوا: منّا نبيّ يأتيه الوحي من السماء فمتى تدرك هذه؟ لا و الله لا نؤمن به أبداً و لا نصدّقه فقام عنه الأخنس و تركه.

و في المجمع، كان المشركون يؤذون أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمكّة فيقولون: يا رسول الله ائذن لنا في قتالهم فيقول لهم: إنّي لم أؤمر فيهم بشي‏ء فأنزل الله سبحانه:( قُلْ لِعِبادِي ) الآية: عن الكلبيّ.

أقول: قد أشرنا في تفسير الآية أنّه لا يلائم سياقها. و الله أعلم.

١٣٢

( سورة الإسراء الآيات ٥٦ - ٦٥)

قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا ( ٥٦ ) أُولَٰئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَىٰ رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ  إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا ( ٥٧ ) وَإِن مِّن قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا  كَانَ ذَٰلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا ( ٥٨ ) وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَن كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ  وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا  وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا ( ٥٩ ) وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ  وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِّلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ  وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا ( ٦٠ ) وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا ( ٦١ ) قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا ( ٦٢ ) قَالَ اذْهَبْ فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَّوْفُورًا ( ٦٣ ) وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُم بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ  وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا ( ٦٤ ) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ  وَكَفَىٰ بِرَبِّكَ وَكِيلًا ( ٦٥ )

١٣٣

( بيان‏)

احتجاج من وجه آخر على التوحيد و نفي ربوبيّة الآلهة الّذين يدعون من دون الله و أنّهم لا يستطيعون كشف الضرّ و لا تحويله عن عبّادهم بل هم أمثالهم في الحاجة إلى الله سبحانه يبتغون إليه الوسيلة يرجون رحمته و يخافون عذابه.

و أنّ الضرّ و الهلاك و العذاب بيد الله، و قد كتب في الكتاب على كلّ قرية أن يهلكها قبل يوم القيامة أو يعذّبها عذاباً شديداً و قد كانت الأوّلون يرسل إليهم الآيات الإلهيّة لكن لمّا كفروا و كذّبوا بها و تعقّب ذلك عذاب الاستئصال لم يرسلها الله إلى الآخرين فإنّه شاء أن لا يعاجلهم بالهلاك غير أنّ أصل الفساد سينمو بينهم و الشيطان سيضلّهم فيحقّ عليهم القول فيأخذهم الله و كان أمراً مفعولاً.

قوله تعالى: ( قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَ لا تَحْوِيلًا ) الزعم بتثليث الزاي مطلق الاعتقاد ثمّ غلب استعماله في الاعتقاد الباطل، و لذا نقل عن ابن عبّاس أنّ ما كان في القرآن من الزعم فهو كذب.

و الدعاء و النداء واحد غير أنّ النداء إنّما هو فيما إذا كان معه صوت و الدعاء ربّما يطلق على ما كان بإشارة أو غيرها، و ذكر بعضهم في الفرق بينهما أنّ النداء قد يقال إذا قيل: يا أو أيا أو نحوهما من غير أن يضمّ إليه الاسم، و الدعاء لا يكاد يقال إلّا إذا كان معه الاسم نحو يا فلان. انتهى.

و الآية تحتجّ على نفي اُلوهيّة آلهتهم من دون الله بأنّ الربّ المستحقّ للعباد يجب أن يكون قادراً على إيصال النفع و دفع الضرّ إذ هو لازم ربوبيّة الربّ على أنّ المشركين مسلّمون لذلك و إنّما اتّخذوا الآلهة و عبدوهم طمعاً في نفعهم و خوفاً من ضررهم لكنّ الّذين يدعونهم من دون الله لا يستطيعون ذلك فليسوا بآلهة، و الشّاهد على ذلك أن يدعوهم هؤلاء الّذين يعبدونهم لكشف ضرّ مسّهم أو تحويله عنهم إلى غيرهم فإنّهم لا يملكون كشفاً و لا تحويلاً.

و كيف يملكون من عند أنفسهم كشف ضرّ أو تحويله و يستقلّون بقضاء حاجة

١٣٤

و رفع فاقة و هم في أنفسهم مخلوقون لله يبتغون إليه الوسيلة يرجون رحمته و يخافون عذابه باعتراف من المشركين.

فقد بان أوّلاً أنّ المراد بقوله:( الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ ) هم الّذين كانوا يعبدونهم من الملائكة و الجنّ و الإنس فإنّهم إنّما يقصدون بعبادة الأصنام التقرّب إليهم و كذا بعبادة الشمس و القمر و الكواكب التقرّب إلى روحانيّتهم من الملائكة.

على أنّ الأصنام بما هي أصنام ليست بأشياء حقيقيّة كما قال تعالى:( إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَ آباؤُكُمْ ) .

و أمّا ما صنعت منه من خشب أو فلزّ فليس إلّا جماداً حاله حال الجماد في التقرّب إليه و السجود له و تسبيحه، و ليست من تلك الجهة بأصنام.

و ثانياً: أنّ المراد بنفي قدرتهم نفي استقلالهم بالقدرة من دون استعانة بالله و استمداد من إذنه و الدليل عليه قوله سبحانه في الآية التالية:( أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى‏ رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ ) إلخ.

و قال بعض المفسّرين: و كأنّ المراد من نفي ملكهم ذلك نفي قدرتهم التامّة الكاملة عليه، و كون قدرة الآلهة الباطلة مفاضة منه تعالى مسلّم عند الكفرة لأنّهم لا ينكرون أنّها مخلوقة لله تعالى بجميع صفاتها و أنّ الله سبحانه أقوى و أكمل صفة منها.

و بهذا يتمّ الدليل و يحصل الإفحام و إلّا فنفي قدرة نحو الجنّ و الملائكة الّذين عبدوا من دون الله تعالى مطلقاً على كشف الضرّ ممّا لا يظهر دليله فإنّه إن قيل هو أنّ الكفرة يتضرّعون إليهم و لا يحصل لهم الإجابة عورض بأنّا نرى أيضاً المسلمين يتضرّعون إلى الله تعالى و لا يحصل لهم الإجابة.

و قد يقال: المراد نفي قدرتهم على ذلك أصلاً و يحتجّ له بدليل الأشعريّ على استناد جميع الممكنات إليه عزّوجلّ ابتداء انتهى.

قلت: هو سبحانه يثبت في كلامه أنواعاً من القدرة للملائكة و الجنّ و الإنس في آيات كثيرة لا تقبل التأويل البتة غير أنّه يخصّ حقيقة القدرة بنفسه في مثل

١٣٥

قوله:( أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً ) البقرة: ١٦٥ و يظهر به أنّ غيره إنّما يقدر على ما يقدر بإقداره و يملك ما يملك بتمليكه تعالى إيّاه فلا أحد مستقلّاً بالقدرة و الملك إلّا هو، و ما عند غيره تعالى من القدرة و الملك مستعار منوط في تأثيره بالإذن و المشيّة.

و على هذا فلا سبيل إلى تنزيل الحجّة في الآية على نفي قدرة آلهتهم من الملائكة و الجنّ و الإنس من أصلها بل الحجّة مبتنية على أنّ اُولئك المدعوّين غير مستقلّين بالملك و القدرة، و أنّهم فيما عندهم من ذلك كالداعين محتاجون إلى الله مبتغون إليه الوسيلة و الدعاء إنّما يتعلّق بالقدرة المستقلّة بالتأثير و الدعاء و المسألة ممّن هو قادر بقدرة غيره مالك بتمليكه مع قيام القدرة و الملك بصاحبهما الأصليّ فهو في الحقيقة دعاء و مسألة ممّن قام بهما حقيقة و استقلالاً دون من هو مملك بتمليكه.

و أمّا ما ذكره أنّ نفي قدرتهم مطلقاً غير ظاهر الدليل فإنّه إن قيل: إنّ الكفرة يتضرّعون إليهم و لا يحصل لهم الإجابة، عورض بأنّا نرى أيضاً المسلمين يتضرّعون إلى الله تعالى و لا يحصل لهم الإجابة، فقد أجاب الله سبحانه في كلامه عن مثل هذه المعارضة.

توضيح ذلك: أنّه تعالى قال و قوله الحقّ:( أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ ) البقرة: ١٨٦ و قال:( ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ) المؤمن: ٦٠ فأطلق الكلام و أفاد أنّ العبد إذا جدّ بالدعاء و لم يلعب به و لم يتعلّق قلبه في دعائه الجدّيّ إلّا به تعالى بأن انقطع عن غيره و التجأ إليه فإنّه يستجاب له البتّة ثمّ ذكر هذا الانقطاع في الدعاء و السؤال في ذيل هذه الآيات الّذي كالمتمّم لما في هذه الحجّة بقوله:( وَ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ ) الآية ٦٧ من السورة فأفاد أنّكم عند مسّ الضرّ في البحر تنقطعون عن كلّ شي‏ء إليه فتدعونه بهداية من فطرتكم فيستجيب لكم و ينجيكم إلى البرّ.

و يتحصّل من الجميع أنّ الله سبحانه إذا انقطع العبد عن كلّ شي‏ء و دعاه

١٣٦

عن قلب فارغ سليم فإنّه يستجيب له و أنّ غيره إذا انقطع داعيه عن الله و سأله مخلصاً فإنّه لا يملك الاستجابة.

و على هذا فلا محلّ للمعارضة من قبل المشركين فإنّهم لا يستجاب لهم إذا دعوا آلهتهم و هم أنفسهم يرون أنّهم إذا مسّهم الضرّ في البحر و انقطعوا إلى الله و سألوه النجاة نجّاهم إلى البرّ و هم معترفون بذلك، و لئن دعاه المسلمون على هذا النمط عن جدّ في الدعاء و انقطاع إليه كان حالهم في البرّ حال غيرهم و هم في البحر و لم يخيبوا و لا ردّوا.

و لم يقابل سبحانه في كلامه بين دعائهم آلهتهم و دعاء المسلمين لإلههم حتّى يعارض باشتراك الدعاءين في الردّ و عدم الاستجابة و إنّما قابل بين دعاء المشركين لآلهتهم و بين دعائهم أنفسهم له سبحانه في البحر عند انقطاع الأسباب و ضلال كلّ مدعوّ من دون الله.

و من لطيف النكتة في الكلام إلقاؤه سبحانه الحجّة إليهم بواسطة نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذ قال:( قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ ) و لو ناقشه المشركون بمثل هذه المعارضة لدعا ربّه عن انقطاع و إخلاص فاستجيب له.

قوله تعالى: ( أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى‏ رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ ) إلى آخر الآية( أُولئِكَ ) مبتدأ و( الَّذِينَ ) صفة له و( يَدْعُونَ ) صلته و ضميره عائد إلى المشركين، و( يَبْتَغُونَ ) خبر( أُولئِكَ ) و ضميره و سائر ضمائر الجمع إلى آخر الآية راجعة إلى( أُولئِكَ ) و قوله:( أَيُّهُمْ أَقْرَبُ ) بيان لابتغاء الوسيلة لكون الابتغاء فحصا و سؤالاً في المعنى هذا ما يعطيه السياق.

و الوسيلة على ما فسّروه هي التوصّل و التقرّب، و ربّما استعملت بمعنى ما به التوصّل و التقرّب و لعلّه هو الأنسب بالسياق بالنظر إلى تعقيبه بقوله:( أَيُّهُمْ أَقْرَبُ ) .

و المعنى - و الله أعلم - اُولئك الّذين يدعوهم المشركون من الملائكة و الجنّ و الإنس يطلبون ما يتقرّبون به إلى ربّهم يستعلمون أيّهم أقرب؟ حتّى يسلكوا

١٣٧

سبيله و يقتدوا بأعماله ليتقرّبوا إليه تعالى كتقرّبه و يرجون رحمته من كلّ ما يستمدّون به في وجودهم و يخافون عذابه فيطيعونه و لا يعصونه إنّ عذاب ربّك كان محذوراً يجب التحرّز منه.

و التوسّل إلى الله ببعض المقرّبين إليه - على ما في الآية الكريمة قريب منه قوله( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَ ابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ ) المائدة: ٣٥ - غير ما يرومه المشركون من الوثنيّين فإنّهم يتوسّلون إلى الله و يتقرّبون بالملائكة الكرام و الجنّ و الأولياء من الإنس فيتركون عبادته تعالى و لا يرجونه و لا يخافونه و إنّما يعبدون الوسيلة و يرجون رحمته و يخافون سخطه ثمّ يتوسّلون إلى هؤلاء الأرباب و الآلهة بالأصنام و التماثيل فيتركونهم و يعبدون الأصنام و يتقرّبون إليهم بالقرابين و الذبائح.

و بالجملة يدّعون التقرّب إلى الله ببعض عباده أو أصنام خلقه ثمّ لا يعبدون إلّا الوسيلة مستقلّة بذلك و يرجونها و يخافونها مستقلّة بذلك من دون الله فيشركون بإعطاء الاستقلال لها في الربوبيّة و العبادة.

و المراد باُولئك الّذين يدعون إن كان هو الملائكة الكرام و الصلحاء المقرّبون من الجنّ و الأنبياء و الأولياء من الإنس كان المراد من ابتغائهم الوسيلة و رجاء الرحمة و خوف العذاب ظاهره المتبادر، و إن كان المراد بهم أعمّ من ذلك حتّى يشمل من كانوا يعبدونه من مردة الشياطين و فسقة الإنسان كفرعون و نمرود و غيرهما كان المراد بابتغائهم الوسيلة إليه تعالى ما ذكر من خضوعهم و سجودهم و تسبيحهم التكوينيّ و كذا المراد من رجائهم و خوفهم ما لذواتهم.

و ذكر بعضهم: أنّ ضمائر الجمع في الآية جميعا راجعة إلى اُولئك و المعنى اُولئك الأنبياء الّذين يعبدونهم من دون الله يدعون الناس إلى الحقّ أو يدعون الله و يتضرّعون إليه يبتغون إلى ربّهم التقرّب، و هو كما ترى.

و قال في الكشّاف، في معنى الآية: يعني أنّ آلهتهم اُولئك يبتغون الوسيلة و هي القربة إلى الله تعالى، و( أَيُّهُمْ ) بدل من واو( يَبْتَغُونَ ) و أيّ موصولة أي يبتغي من

١٣٨

هو أقرب منهم و أزلف الوسيلة إلى الله فكيف بغير الأقرب؟

أو ضمّن( يَبْتَغُونَ إِلى‏ رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ ) معنى يحرصون فكأنّه قيل: يحرصون أيّهم يكون أقرب إلى الله و ذلك بالطاعة و ازدياد الخير و الصلاح و يرجون و يخافون كما غيرهم من عباد الله فكيف يزعمون أنّهم آلهة. انتهى.

و المعنيان لا بأس بهما لو لا أنّ السياق لا يلائمهما كلّ الملاءمة و ثانيهما أقرب إليه من أوّلهما.

و قيل: إنّ معنى الآية اُولئك الّذين يدعونهم و يعبدونهم و يعتقدون أنّهم آلهة يبتغون الوسيلة و القربة إلى الله تعالى بعبادتهم و يجتهد كلّ منهم ليكون أقرب من رحمته. انتهى. و هو معنى لا ينطبق على لفظ الآية البتّة.

قوله تعالى: ( وَ إِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوها عَذاباً شَدِيداً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً ) ذكروا أنّ المراد بالعذاب الشديد عذاب الاستئصال فيبقى للإهلاك المقابل له الإماتة بحتف الأنف فالمعنى ما من قرية إلّا نحن نميت أهلها قبل يوم القيامة أو نعذّبهم عذاب الاستئصال قبل يوم القيامة إذ لا قرية بعد طيّ بساط الدنيا بقيام الساعة و قد قال تعالى:( وَ إِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً :) الكهف: ٨ و لذا قال بعضهم: إنّ الإهلاك للقرى الصالحة و التعذيب للقرى الطالحة.

و قد ذكروا في وجه اتّصال الآية أنّها موعظة، و قال بعضهم: كأنّه تعالى بعد ما ذكر من شأن البعث و التوحيد ما ذكر، ذكر بعض ما يكون قبل يوم البعث ممّا يدلّ على عظمته سبحانه و فيه تأييد لما ذكر قبله.

و الظاهر أنّ في الآية عطفا على ما تقدّم من قوله قبل آيات:( وَ إِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً ) فإنّ آيات السورة لا تزال ينعطف بعضها على بعض، و الغرض العامّ بيان سنّة الله تعالى الجارية بدعوتهم إلى الحقّ ثمّ إسعاد من سعد منهم بالسمع و الطاعة و عقوبة من خالف منهم و طغى بالاستكبار.

١٣٩

و على هذا فالمراد بالإهلاك التدمير بعذاب الاستئصال كما نقل عن أبي مسلم المفسّر و المراد بالعذاب الشديد ما دون ذلك من العذاب كقحط أو غلاء ينجرّ إلى جلاء أهلها و خراب عمارتها أو غير ذلك من البلايا و المحن.

فتكون في الآية إشارة إلى أنّ هذه القرى سيخرب كلّ منها بفساد أهلها و فسق مترفيها، و أنّ ذلك بقضاء من الله سبحانه كما يشير إليه ذيل الآية، و بذلك يتّضح اتّصال الآية التالية( وَ ما مَنَعَنا ) إلخ بهذه الآية فإنّ المعنى أنّهم مستعدّون للفساد مهيّؤن لتكذيب الآيات الإلهيّة و هي تتعقّب بالهلاك و الفناء على من يردّها و يكذّب بها و قد أرسلناها إلى الأوّلين فكذّبوا بها و استؤصلوا فلو أنّا أرسلنا إلى هؤلاء شيئاً من جنس تلك الآيات المخوّفة لحق بهم الإهلاك و التدمير و انطوى بساط الدنيا فأمهلناهم حتّى حين و سيلحق بهم و لا يتخطّاهم - كما اُشير إليه في قوله:( وَ لِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ ) الآيات: يونس: ٤٧.

و ذكر بعضهم: أنّ المراد بالقرى في الآية القرى الكافرة و أنّ تعميم القرى لا يساعد عليه السياق انتهى. و هو دعوى لا دليل عليها.

و قوله:( كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً ) أي إهلاك القرى أو تعذيبها عذاباً شديداً كان في الكتاب مسطوراً و قضاء محتوماً، و بذلك يظهر أنّ المراد بالكتاب اللوح المحفوظ الّذي يذكر القرآن أنّ الله كتب فيه كلّ شي‏ء كقوله:( وَ كُلَّ شَيْ‏ءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ :) يس: ١٢، و قوله:( وَ ما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَ لا فِي السَّماءِ وَ لا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَ لا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ ) يونس: ٦١.

و من غريب الكلام ما ذكره بعضهم: و ذكر غير واحد أنّه ما من شي‏ء إلّا بيّن فيه أي في اللوح المحفوظ و الكتاب المسطور بكيفيّاته و أسبابه الموجبة له و وقته المضروب له، و استشكل العموم بأنّه يقتضي عدم تناهي الأبعاد، و قد قامت البراهين النقليّة و العقليّة على خلاف ذلك فلا بدّ أن يقال بالتخصيص بأن يحمل الشي‏ء على ما يتعلّق بهذه النشأة أو نحو ذلك.

١٤٠

و قال بعضهم: بالعموم إلّا أنّه التزم كون البيان على نحو يجتمع مع التناهي فاللوح المحفوظ في بيانه جميع الأشياء الدنيويّة و الاُخرويّة و ما كان و ما يكون نظير الجفر الجامع في بيانه لما يبيّنه. انتهى.

و الكلام مبنيّ على كونه لوحاً جسمانيّاً موضوعاً في بعض أقطار العالم مكتوباً فيه أسماء الأشياء و أوصافها و أحوالها و ما يجري عليها في الأنظمة الخاصّة بكلّ منها و النظام العامّ الجاري عليها من جميع الجهات، و لو كان كما يقولون لوحاً مادّيّاً جسمانيّاً لم يسع كتابة أسماء أجزائه الّتي تألّف منها جسمه و تفصيل صفاتها و حالاتها فضلاً عن غيره من الموجودات الّتي لا يحصيها و لا يحيط بتفاصيل صفاتها و أحوالها و ما يحدث عليها و النسب الّتي بينها إلّا الله سبحانه، و ليس ينفع في ذلك التخصيص بما في هذه النشأة أو بما دون ذلك و هو ظاهر.

و ما التزم به البعض أنّه من قبيل انطواء غير المتناهي في المتناهي نظير اشتمال الحروف المقطّعة جميع الكلام مع عدم تناهي التأليفات الكلاميّة التزام بوجود صور الحوادث فيه بالقوّة و الإمكان أو الإجمال و كلامه سبحانه فيما يصف فيه هذا اللوح كالصريح أو هو صريح في اشتماله على الأشياء و الحوادث ممّا كان أو يكون أو هو كائن بالفعل و على نحو التفصيل و بسمة الوجوب الّذي لا سبيل للتغيّر إليه، و لو كان كذلك لكفى فيه كتابة حروف التهجّي في دائرة على لوح.

على أنّ الجمع بين جسميّة اللوح و مادّيّته الّتي من خاصّتها قبول التغيّر و بين كونه محفوظاً من أي تغيّر و تحوّل مفروض ممّا يحتاج إلى دليل أجلى من هذه التصويرات و في الكلام مواقع اُخرى للنظر.

فالحقّ أنّ الكتاب المبين هو متن(١) الأعيان بما فيه من الحوادث من جهة ضرورة ترتّب المعلولات على عللها، و هو القضاء الّذي لا يردّ و لا يبدّل لا من جهة إمكان المادّة و قوّتها، و التعبير عنه بالكتاب و اللوح لتقريب الأفهام إلى حقيقة المعنى بالتمثيل، و سنستوفي الكلام في هذا البحث إن شاء الله في موضع يناسبه.

قوله تعالى: ( وَ ما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ )

____________________

(١) بما لها من الثبوت في مرتبة عللها لا في مرتبة أنفسها منه.

١٤١

إلى آخر الآية قد تقدّم وجه اتّصال الآية بما قبلها و محصّله أنّ الآية السابقة أفادت أنّ الناس - و آخروهم كأوّليهم - مستحقّون بما فيهم من غريزة الفساد و الفسق لحلول الهلاك و سائر أنواع العذاب الشديد، و قد قضى الله على القرى أن تهلك أو تعذّب عذاباً شديداً و هذا هو الّذي منعنا أن نرسل بالآيات الّتي يقترحونها فإنّ السابقين منهم اقترحوها فأرسلناها إليهم فكذّبوا بها فأهلكناهم، و هؤلاء اللاحقون في خلق سابقيهم فلو أرسلنا بالآيات حسب اقتراحهم لكذّبوا بها فحلّ الهلاك بهم لا محالة كما حلّ بسابقيهم، و ما يريد الله سبحانه أن يعاجلهم بالعقوبة.

و بهذا يظهر أنّ للآيتين ارتباطاً بما سيحكيه من اقتراحهم الآيات بقوله:( وَ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً ) الآية ٩٠ من السورة إلى آخر الآيات، و ظاهر آيات السورة أنّها نزلت دفعة واحدة.

فقوله:( وَ ما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ ) المنع هو قسر الغير عمّا يريد أن يفعله و كفّه عنه، و الله سبحانه يحكم و لا معقّب لحكمه و هو الغالب القاهر إذا أراد شيئاً قال له كن فيكون، فكون تكذيب الأوّلين لآياته مانعاً له من إرسال الآيات المقترحة بعد ذلك كون الفعل بالنظر إلى ما ارتكز فيهم من خلق التكذيب خالياً عن المصلحة بالنسبة إلى اُمّة أراد الله أن لا يعاجلهم بالعقوبة و الهلاك أو خالياً عن المصلحة مطلقاً للعلم بأنّ عامّتهم لا يؤمنون بالآيات المقترحة.

و إن شئت فقل: إنّ المنافاة بين إرسال الآيات المقترحة مع تكذيب الأوّلين و كون الآخرين سالكين سبيلهم المستتبع للاستئصال و بين تعلّق المشيّة بإمهال هذه الاُمّة عبّر عنها في الآية بالمنع استعارة.

و كأنّه للإشعار بذلك عبّر عن إيتاء الآيات بالإرسال كأنّها تتعاضد و تتداعى للنزول لكنّ التكذيب و تعرّق الفساد في فطر الناس يمنع من ذلك.

و قوله:( إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ ) التعبير عن الاُمم الهالكة بالأوّلين المضايف للآخرين فيه إيماء إلى أنّ هؤلاء آخر اُولئك الأوّلين فهم في الحقيقة اُمّة واحدة لآخرها من الخلق و الغريزة ما لأوّلها، لذيلها من الحكم ما لصدرها

١٤٢

و لذلك كانوا يقولون:( ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ ) المؤمنون: ٢٤ و يكرّرون ذكر هذه الكلمة.

و كيف كان فمعنى الآية أنّا لم نرسل الآيات الّتي يقترحونها - و المقترحون هم قريش - لأنّا لو أرسلناها لم يؤمنوا و كذّبوا بها فيستحقّوا عذاب الاستئصال كما أنّا أرسلناها إلى الأوّلين بعد اقتراحهم إيّاها فكذّبوا بها فأهلكناهم لكنّا قضينا على هذه الاُمّة أن لا نعذّبهم إلّا بعد مهلة و نظرة كما يظهر من مواضع من كلامه تعالى.

و ذكروا في معنى الآية الكريمة وجهين آخرين:

أحدهما: أنّا لا نرسل الآيات لعلمنا بأنّهم لا يؤمنون عندها فيكون إنزالها عبثاً لا فائدة فيه كما أنّ من قبلهم لم يؤمنوا عند إنزال الآيات و هذا إنّما يتمّ في الآيات المقترحة و أمّا الآيات الّتي يتوقّف عليها ثبوت النبوّة فإنّ الله يؤتيها رسوله لا محالة، و كذا الآيات الّتي في نزولها لطف منه سبحانه فإنّ الله يظهرها أيضاً لطفاً منه، و أمّا غير هذين النوعين فلا فائدة في إنزالها.

و ثانيهما: أنّ المعنى أنّا لا نرسل الآيات لأنّ آباءكم و أسلافكم سألوا مثلها و لم يؤمنوا به عند ما نزل و أنتم على آثار أسلافكم مقتدون فكما لم يؤمنوا هم لا تؤمنون أنتم.

و المعنى الثاني منقول عن أبي مسلم و تمييزه من المعنيين السابقين من غير أن ينطبق على أحدهما لا يخلو من صعوبة.

و قوله:( وَ آتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها ) ثمود هم قوم صالح و لقد آتاهم الناقة آية، و المبصرة الظاهرة البيّنة على حدّ ما في قوله تعالى:( وَ جَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً ) إسراء ١٢، و هي صفة الناقة أو صفة لمحذوف و التقدير آية مبصرة و المعنى و آتينا قوم ثمود الناقة حالكونها ظاهرة بيّنة أو حالكونها آية ظاهرة بيّنة فظلموا أنفسهم بسببها أو ظلموا مكذّبين بها.

١٤٣

و قوله:( وَ ما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً ) أي إنّ الحكمة في الإرسال بالآيات التخويف و الإنذار فإن كانت من الآيات الّتي تستتبع عذاب الاستئصال ففيها تخويف بالهلاك في الدنيا و عذاب النار في الآخرة، و إن كانت من غيرها ففيها تخويف و إنذار بعقوبة العقبى.

و ليس من البعيد أن يكون المراد بالتخويف إيجاد الخوف و الوحشة بإرسال ما دون عذاب الاستئصال على حدّ ما في قوله تعالى:( أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى‏ تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ ) النحل: ٤٧ فيرجع محصّل معنى الآية أنّا لا نرسل بالآيات المقترحة لأنّا لا نريد أن نعذّبهم بعذاب الاستئصال و إنّما نرسل ما نرسل من الآيات تخويفاً ليحذروا بمشاهدتها عمّا هو أشدّ منها و أفظع و نسب الوجه إلى بعضهم.

قوله تعالى: ( وَ إِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ وَ ما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَ الشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَ نُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْياناً كَبِيراً ) فقرأت الآية و هي أربع واضحة المعاني لكنّها بحسب ما بينها من الاتّصال و ارتباط بعضها ببعض لا تخلو من إجمال و السبب الأصليّ في ذلك إجمال الفقرتين الوسطيين الثانية و الثالثة.

فلم يبيّن سبحانه ما هذه الرؤيا الّتي أراها نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و لم يقع في سائر كلامه ما يصلح لأن يفسّر به هذه الرؤيا، و الّذي ذكره من رؤياه في مثل قوله:( إِذْ يُرِيكَهُمُ اللهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلًا وَ لَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ ) الأنفال: ٤٣ و قوله( لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ ) الفتح: ٢٧ من الحوادث الواقعة بعد الهجرة و هذه الآية مكّيّة نازلة قبل الهجرة.

و لا يدرى ما هذه الشجرة الملعونة في القرآن الّتي جعلها فتنة للناس، و لا توجد في القرآن شجرة يذكرها الله ثمّ يلعنها نعم ذكر سبحانه شجرة الزقّوم و وصفها بأنّها فتنة كما في قوله( أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ )

١٤٤

الصافّات: ٦٣ لكنّه سبحانه لم يلعنها في شي‏ء من المواضع الّتي ذكرها، و لو كان مجرّد كونها شجرة تخرج في أصل الجحيم و سبباً من أسباب عذاب الظالمين موجباً للعنها لكانت النار و كلّ ما أعدّ الله فيها للعذاب ملعونة و لكانت ملائكة العذاب و هم الّذين قال تعالى فيهم:( وَ ما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً وَ ما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا ) المدّثّر: ٣١ ملعونين و قد أثنى الله عليهم ذاك الثناء البالغ في قوله:( عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَ يَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ ) التحريم: ٦ و قد عدّ سبحانه أيدي المؤمنين من أسباب عذاب الكفّار إذ قال:( قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ ) التوبة: ١٤ و ليست بملعونة.

و بهذا يتأيّد أنّه لم يكن المراد بالآية الكشف عن قناع الفقرتين و إيضاح قصّة الرؤيا و الشجرة الملعونة في القرآن المجعولتين فتنة للناس بل إنّما اُريدت الإشارة إلى إجمالهما و التذكير بما يقتضيانه بحكم السياق.

نعم ربّما يلوّح السياق إلى بعض شأن الأمرين: الرؤيا و الشجرة الملعونة فإنّ الآيات السابقة كانت تصف الناس أنّ أخراهم كأوّليهم و ذيلهم كصدرهم في عدم الاعتناء بآيات الله سبحانه و تكذيبها، و أنّ المجتمعات الإنسانيّة ذائقون عذاب الله قرية بعد قرية و جيلاً بعد جيل بإهلاك أو بعذاب مخوّف دون ذلك، و الآيات اللاحقة( وَ إِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ ) إلخ المشتملة على قصّة إبليس و عجيب تسلّطه على إغواء بني آدم تجري على سياق الآيات السابقة.

و بذلك يظهر أنّ الرؤيا و الشجرة المشار إليهما في الآية أمران سيظهران على الناس أو هما ظاهران يفتتن بهما الناس فيشيع بهما فيهم الفساد و يتعرّق فيهم الطغيان و الاستكبار و ذيل الآية( وَ نُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْياناً كَبِيراً ) يشير إلى ذلك و يؤيّده بل و صدر الآية:( وَ إِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ ) .

أضف إلى ذلك أنّه تعالى وصف هذه الشجرة الّتي ذكرها بأنّها ملعونة في القرآن، و بذلك يظهر أنّ القرآن مشتمل على لعنها و أنّ لعنها بين اللعنات الموجودة في القرآن كما هو ظاهر قوله:( وَ الشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ ) و قد

١٤٥

لعن في القرآن إبليس و لعن فيه اليهود و لعن فيه المشركون و لعن فيه المنافقون و لعن فيه اُناس بعناوين اُخر كالّذين يموتون و هم كفّار و الّذين يكتمون ما أنزل الله و الّذين يؤذون الله و رسوله إلى غير ذلك.

و قد جعل الموصوف بهذه اللعنة شجرة، و الشجرة كما تطلق على ذي الساق من النبات كذلك تستعمل في الأصل الّذي تطلع منه و تنشأ عليه فروع بالنسب أو بالاتّباع على أصل اعتقاديّ، قال في لسان العرب،: و يقال: فلان من شجرة مباركة أي من أصل مبارك. انتهى. و قد ورد ذلك في لسانهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كثيراً كقوله: أنا و عليّ من شجرة واحدة، و من هذا الباب‏ قوله في حديث العبّاس: عمّ الرجل صنو أبيه.(١)

و بالتأمّل في ذلك يتّضح للباحث المتدبّر أنّ هذه الشجرة الملعونة قوم من هؤلاء الملعونين في كلامه لهم صفة الشجرة في النشوء و النموّ و تفرّع الفروع على أصل له حظّ من البقاء و الإثمار و هم فتنة تفتتن بها هذه الاُمّة، و ليس يصلح لهذه الصفة إلّا طوائف ثلاث من المعدودين و هم أهل الكتاب و المشركون و المنافقون و لبثهم في الناس و بقاؤهم على الولاء إمّا بالتناسل و التوالد كأهل بيت من الطوائف المذكورة يعيشون بين الناس و يفسدون على الناس دينهم و دنياهم و يفتتن بهم الناس و إمّا بطلوع عقيدة فاسدة ثمّ اتّباعها على الولاء من خلف بعد سلف.

و لم يظهر من المشركين و أهل الكتاب في زمن الرسول قبل الهجرة و بعدها قوم بهذا النعت، و قد آمن الله الناس من شرّهم مستقلّين بذلك بمثل قوله النازل في أواخر عهد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَ اخْشَوْنِ ) المائدة: ٣ و قد استوفينا البحث عن معنى الآية فيما تقدّم.

فالذي يهدي إليه الإمعان في البحث أنّ المراد بالشجرة الملعونة قوم من المنافقين المتظاهرين بالإسلام يتعرّقون بين المسلمين إمّا بالنسل و إمّا بالعقيدة و المسلك هم فتنة للناس، و لا ينبغي أن يرتاب في أنّ في سياق الآية تلويحاً بالارتباط

____________________

(١) الصنوان: النخلتان تطلعان من عرق واحد.

١٤٦

بين الفقرتين أعني قوله:( وَ ما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَ الشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ ) و خاصّة بعد الإمعان في تقدّم قوله:( وَ إِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ ) و تذييل الفقرات جميعاً بقوله:( وَ نُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْياناً كَبِيراً ) فإنّ ارتباط الفقرات بعضها ببعض ظاهر في أنّ الآية بصدد الإشارة إلى أمر واحد هو سبحانه محيط به و لا ينفع فيه عظة و تخويف إلّا زيادة في الطغيان.

و يستفاد من ذلك أنّ الشأن هو أنّ الله سبحانه أرى نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الرؤيا هذه الشجرة الملعونة و بعض أعمالهم في الإسلام ثمّ بيّن لرسوله أنّ ذلك فتنة.

فقوله:( وَ إِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ ) مقتضى السياق أنّ المراد بالإحاطة الإحاطة العلميّة، و الظرف متعلّق بمحذوف و التقدير و اذكر إذ قلنا لك كذا و كذا و المعنى و اذكر للتثبّت فيما ذكرنا لك في هذه الآيات أنّ شيمة الناس الاستمرار في الفساد و الفسوق و اقتداء أخلافهم بأسلافهم في الإعراض عن ذكر الله و عدم الاعتناء بآيات الله، وقتاً قلنا لك إنّ ربّك أحاط بالناس علما و علم أنّ هذه السنّة ستجري بينهم كما كانت تجري.

و قوله:( وَ ما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَ الشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ ) محصّل معناه على ما تقدّم أنّه لم نجعل الشجرة الملعونة في القرآن الّتي تعرفها بتعريفنا، و ما أريناك في المنام من أمرهم إلّا فتنة للناس و امتحاناً و بلاء نمتحنهم و نبلوهم به و قد أحطنا بهم.

و قوله:( وَ نُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْياناً كَبِيراً ) ضميراً الجمع للناس ظاهراً و المراد بالتخويف إمّا التخويف بالموعظة و البيان أو بالآيات المخوّفة الّتي هي دون الآيات المهلكة المبيدة، و المعنى و نخوّف الناس فما يزيدهم التخويف إلّا طغياناً و لا أيّ طغيان كان بل طغياناً كبيراً أي إنّهم لا يخافون من تخويفنا حتّى ينتهوا عمّا هم عليه بل يجيبوننا بالطغيان الكبير فهم يبالغون في طغيانهم و يفرطون في عنادهم مع الحقّ.

و سياق الآية سياق التسلية فالله سبحانه يعزّي نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيها بأنّ الّذي

١٤٧

أراه من الأمر، و عرّفه من الفتن، و قد جرت سنّته تعالى على امتحان عباده بالمحن و الفتن، و قد اعترف بذلك غير واحد من المفسّرين.

و يؤيّد جميع ما تقدّم ما ورد من طرق أهل السنّة و اتّفقت عليه أحاديث أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام أنّ المراد بالرؤيا في الآية هي رؤيا رآها النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في بني اُميّة و الشجرة شجرتهم و سيوافيك الروايات في البحث الروائيّ الآتي إن شاء الله تعالى.

و قد ذكر جمع من المفسّرين استناداً إلى ما نقل عن ابن عبّاس أنّ المراد بالرؤيا الّتي أراها الله نبيّه هو الإسراء، و المراد بالشجرة الملعونة في القرآن شجرة الزقّوم، و ذكروا أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمّا رجع من الإسراء و أصبح أخبر المشركين بذلك فكذّبوه و استهزؤا به، و كذلك لمّا سمع المشركون آيات ذكر الله فيها الزقّوم كذّبوه و سخروا منه فأنزل الله في هذه الآية أنّ الرؤيا الّتي أريناك و هي الإسراء و شجرة الزقّوم ما جعلناهما إلّا فتنة للناس.

ثمّ لمّا ورد عليهم أنّ الرؤيا على ما صرّح به أهل اللغة هي ما يراه النائم في منامه و الإسراء كان في اليقظة اعتذروا عنه تارة بأنّ الرؤيا كالرؤية مصدر رأى و لا اختصاص لها بالمنام، و تارة بأنّ الرؤيا ما يراه الإنسان بالليل سواء فيه النوم و اليقظة، و تارة بأنّها مشاكلة لتسمية المشركين له رؤيا، و تارة بأنّه جار على زعمهم كما سمّوا أصنامهم آلهة فقد روي أنّ بعضهم قال للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمّا قصّ عليهم إسراءه: لعلّه شي‏ء رأيته في منامك فسمّاه الله رؤيا على زعمهم كما قال في الأصنام( آلِهَتُهُمُ ) ، و تارة بأنّه سمّي رؤيا تشبيها له بالمنام لما فيها من العجائب أو لوقوعه ليلاً أو لسرعته.

و قد أجاب عن ذلك بعضهم أنّ الإسراء كان في المنام كما روي عن عائشة و معاوية.

و لمّا ورد عليهم أيضاً أن لا معنى لتسمية الزقّوم شجرة ملعونة و لا ذنب للشجرة اعتذروا عنه تارة بأنّ المراد من لعنها لعن طاعميها على نحو المجاز في الإسناد للدلالة

١٤٨

على المبالغة في لعنهم كما قيل و تارة بأنّ اللعنة بمعنى البعد و هي في أبعد مكان من الرحمة لكونها تنبت في أصل الجحيم، و تارة بأنّها جعلت ملعونة لأنّ طلعها يشبه رؤس الشياطين و الشياطين ملعونون، و تارة بأنّ العرب تسمّي كلّ غذاء مكروه ضارّ ملعونا.

أمّا ما ذكروه في معنى الرؤيا فما قيل: إنّ الرؤيا مصدر مرادف للرؤية أو إنّها بمعنى الرؤية ليلاً يردّه عدم الثبوت لغة و لم يستندوا في ذلك إلى شي‏ء من كلامهم من نظم أو نثر إلّا إلى مجرّد الدعوى.

و أمّا قولهم: إنّ ذلك مشاكلة لتسمية المشركين الإسراء رؤيا أو جرى على زعمهم أنّه رؤيا فيجب تنزيه كلامه سبحانه من ذلك البتّة فما هي القرينة الدالّة على هذه العناية و أنّه ليس فيه اعتراف بكونها رؤيا حقيقة؟ و لم يطلق تعالى على أصنامهم( آلهة ) و( شركاء ) و إنّما أطلق( آلِهَتُهُمُ ) و( لِشُرَكائِهِمْ ) فأضافها إليهم و الإضافة نعمت القرينة على عدم التسليم، و نظير الكلام جار في اعتذارهم بأنّه من تشبيه الإسراء بالرؤيا فالاستعارة كسائر المجازات لا تصحّ إلّا مع قرينة، و لو كانت هناك قرينة لم يستدلّ كلّ من قال بكون الإسراء مناميّا بوقوع لفظة الرؤيا في الآية بناء على كون الآية ناظرة إلى الإسراء.

و أمّا قول القائل: إنّ الإسراء كان في المنام فقد اتّضح بطلانه في أوّل السورة في تفسير آية الإسراء.

و أمّا المعاذير الّتي ذكروها تفصّيا عن جعل الشجرة ملعونة في القرآن فقولهم: إنّ حقيقة لعنها لعن طاعميها على طريق المجاز في الإسناد للمبالغة في لعنهم فهو و إن كان كثير النظير في محاورات العامّة لكنّه ممّا يجب أن ينزّه عنه ساحة كلامه تعالى و إنّما هو من دأب جهلة الناس و سفلتهم تراهم إذا أرادوا أن يسبّوا أحداً لعنوه بلعن أبيه و اُمّه و عشيرته مبالغة في سبّه، و إذا شتموا رجلاً أساؤا ذكر زوجته و بنته و سبّوا السماء الّتي تظلّه و الأرض الّتي تقلّه و الدار الّتي يسكنها و القوم الّذين

١٤٩

يعاشرهم و أدب القرآن يمنعه أن يبالغ في لعن أصحاب النار بلعن الشجرة الّتي يعذّبهم الله بأكل ثمارها.

و قولهم: إنّ اللعن مطلق الإبعاد ممّا لم يثبت لغة و الّذي ذكروه و يشهد به ما ورد من استعماله في القرآن أنّ معناه الإبعاد من الرحمة و الكرامة و ما قيل: إنّها كما قال الله( شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ ) فهي في أبعد مكان من الرحمة إن أريدت بالرحمة الجنّة

فهو قول من غير دليل و إن اُريدت به الرحمة المقابلة للعذاب كان لازمه كون الشجرة ملعونة بمعنى الإبعاد من الرحمة و الكرامة و مقتضاه كون جهنّم و ما أعدّ الله فيها من العذاب و ملائكة النار و خزنتها ملعونين مغضوبين مبعّدين من الرحمة، و ليس شي‏ء منها ملعونا و إنّما اللعن و الغضب و البعد للمعذّبين فيها من الإنس و الجنّ.

و قولهم: إنّها جعلت ملعونة لأنّ طلعها يشبه رؤس الشياطين و الشياطين ملعونون فهو مجاز في الإسناد بعيد من الفهم يرد عليه ما أوردناه على الوجه الأوّل.

و قولهم: إنّ العرب تسمّي كلّ غذاء مكروه ضارّ ملعونا فيه استعمال الشجرة و إرادة الثمرة مجازاً ثمّ جعلها ملعونة لكونها مكروهة ضارّة أو نسبة اللعن و هو وصف الثمرة إلى الشجرة مجازاً و على أيّ حال كونها معنى من معاني اللعن غير ثابت بل الظاهر أنّهم يصفونه باللعن بمعناه المعروف و العامّة يلعنون كلّ ما لا يرتضونه من طعام و شراب و غيرهما.

و أمّا انتساب القول إلى ابن عبّاس فعلى تقدير ثبوته لا حجّيّة فيه و خاصّة مع معارضته لما في حديث عائشة الآتية و غيرها و هو يتضمّن تفسير النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و لا يعارضه قول غيره.

و قال في الكشّاف، في قوله تعالى:( وَ إِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ ) و اذكر إذ أوحينا إليك أنّ ربّك أحاط بقريش يعني بشّرناك بوقعة بدر و بالنصرة عليهم و ذلك قوله:( سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَ يُوَلُّونَ الدُّبُرَ ) ( قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَ

١٥٠

تُحْشَرُونَ ) و غير ذلك فجعله كأن قد كان و وجد فقال:( أَحاطَ بِالنَّاسِ ) على عادته في إخباره.

و حين تزاحف الفريقان يوم بدر و النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في العريش مع أبي بكر كان يدعو و يقول: اللّهمّ إنّي أسألك عهدك و وعدك ثمّ خرج و عليه الدرع يحرّض الناس و يقول:( سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَ يُوَلُّونَ الدُّبُرَ ) .

و لعلّ الله تعالى أراه مصارعهم في منامه فقد كان يقول حين ورد ماء بدر: و الله لكأنّي أنظر إلى مصارع القوم و هو يومئ إلى الأرض و يقول: هذا مصرع فلان هذا مصرع فلان فتسامعت قريش بما اُوحي إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أمر يوم بدر و ما اُرى في منامه من مصارعهم فكانوا يضحكون و يستسخرون و يستعجلون به استهزاء.

و حين سمعوا بقوله:( إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ ) جعلوها سخريّة و قالوا: إنّ محمّداً يزعم أنّ الجحيم تحرق الحجارة ثمّ يقول: ينبت فيها الشجر - إلى أن قال - و المعنى أنّ الآيات إنّما يرسل بها تخويفا للعباد، و هؤلاء قد خوّفوا بعذاب الدنيا و هو القتل يوم بدر. انتهى ثمّ ذكر تفسير الرؤيا في الآية بالإسراء ناسباً له إلى قيل.

و هو ظاهر في أنّه لم يرتض تفسير الرؤيا في الآية بالإسراء و إن نسب إلى الرواية فعدل عنه إلى تفسيرها برؤيا النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقعة بدر قبل وقوعها و تسامع قريش بذلك و استهزاءهم به.

و هو و إن تفصّى به عمّا يلزم تفسيرهم الرؤيا بالإسراء من المحذور لكنّه وقع فيما ليس بأهون منه إن لم يكن أشدّ و هو تفسير الرؤيا بما رجى أن يكون النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يرى في منامه وقعة بدر و مصارع القوم فيها قبل وقوعها و يسخر قريش منه فيجعل فتنة لهم فلا حجّة له على ما فسّر إلّا قوله:( و لعلّ الله أراه مصارعهم في منامه) و كيف يجترئ على تفسير كلامه تعالى بتوهّم أمر لا مستند له و لا حجّة عليه من أثر يعوّل عليه أو دليل من خلال الآيات يرجع إليه.

١٥١

و ذكر بعضهم: أنّ المراد بالرؤيا رؤيا النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه يدخل مكّة و المسجد الحرام و هي الّتي ذكرها الله سبحانه بقوله:( لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا ) الآية.

و فيه أنّ هذه الرؤيا إنّما رآها النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد الهجرة قبل صلح الحديبيّة و الآية مكّيّة و سنستوفي البحث عن هذه الرؤيا إن شاء الله تعالى.

و ذكر بعضهم: أنّ المراد بالشجرة الملعونة في القرآن هم اليهود و نسب إلى أبي مسلم المفسّر.

و قد تقدّم ما يمكن أن يوجّه به هذا القول مع ما يرد عليه.

قوله تعالى: ( وَ إِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قالَ أَ أَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً ) قال في المجمع، قال الزجّاج: طينا منصوب على الحال بمعنى أنّك أنشأته في حال كونه من طين، و يجوز أن يكون تقديره من طين فحذف( من ) فوصل الفعل، و مثله قوله:( أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ ) أي لأولادكم و قيل: إنّه منصوب على التميز. انتهى.

و جوّز في الكشّاف، كونه حالاً من الموصول لا من المفعول( خَلَقْتَ ) كما قاله الزجّاج، و قيل: إنّ الحالية على أيّ حال خلاف الظاهر لكون( طِيناً ) جامداً.

و في الآية تذكير آخر للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقصّة إبليس و ما جرى بينه و بين الله سبحانه من المحاورة عند ما عصى أمر السجدة ليتثبّت فيما أخبره الله من حال الناس أنّهم لم يزالوا على الاستهانة بأمر الله و الاستكبار عن الحقّ و عدم الاعتناء بآيات الله و لن يزالوا على ذلك فليذكر قصّة إبليس و ما عقد عليه أن يحتنك ذرّيّة آدم و سلّطه الله يومئذ على من أطاعه من بني آدم و اتّبع دعوته و دعوة خيله و رجله و لم يستثن في عقده إلّا عباده المخلصين.

فالمعنى: و اذكر إذ قال ربّك للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلّا إبليس فكأنّه قيل: فما ذا صنع؟ أو فما ذا قال؟ إذ لم يسجد؟ فقيل: إنّه أنكر الأمر بالسجدة و قال أ أسجد - و الاستفهام للإنكار - لمن خلقته من طين و قد خلقتني من

١٥٢

نار و هي أشرف من الطين.

و في القصّة اختصار بحذف بعض فقراتها، و الوجه فيه أنّ السياق اقتضى ذلك فإنّ الغرض بيان العلل و العوامل المقتضية لاستمرار بني آدم على الظلم و الفسوق فقد ذكر أوّلاً أنّ الأوّلين منهم لم يؤمنوا بالآيات المقترحة و الآخرون بانون على الاقتداء بهم ثمّ ذكّرهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّ هناك من الفتن ما سيفتنون به ثمّ ذكّره بما قصّه عليه من قصّة آدم و إبليس و فيها عقد إبليس أن يغوي ذرّيّة آدم و سؤاله أن يسلّطه الله عليهم و إجابته تعالى إيّاه على ذلك في الغاوين فليس بمستبعد أن يميل أكثر الناس إلى سبيل الضلال و ينكبّوا على الظلم و الطغيان و الإعراض عن آيات الله و قد أحاطت بهم الفتنة الإلهيّة من جانب و الشيطان بخيله و رجله من جانب.

قوله تعالى: ( قالَ أَ رَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى‏ يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا ) الكاف في( أَ رَأَيْتَكَ ) زائدة لا محلّ لها من الإعراب و إنّما تفيد معنى الخطاب كما في أسماء الإشارة، و المراد بقوله:( هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ ) آدمعليه‌السلام و تكريمه على إبليس تفضيله عليه بأمره بالسجدة و رجمه حيث أبى.

و من هنا يظهر أنّه فهم التفضيل من أمر السجدة كما أنّه اجترى على إرادة إغواء ذرّيّته ممّا جرى في محاورته تعالى الملائكة من قولهم:( أَ تَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَ يَسْفِكُ الدِّماءَ ) البقرة: ٣٠، و قد تقدّم في تفسير الآية ما ينفع ههنا.

و الاحتناك - على ما في المجمع - الاقتطاع من الأصل، يقال: احتنك فلان ما عند فلان من مال أو علم إذا استقصاه فأخذه كلّه، و احتنك الجراد المزرع إذا أكله كلّه و قيل: إنّه من قولهم: حنك الدابّة بحبلها إذا جعل في حنكها الأسفل حبلا يقودها به، و الظاهر أنّ المعنى الأخير هو الأصل في الباب، و الاحتناك الإلجام.

و المعنى: قال إبليس بعد ما عصى و أخذه الغضب الإلهيّ ربّ أ رأيت هذا الّذي فضّلته بأمري بسجدته و رجمي بمعصيته اُقسم لئن أخّرتني إلى يوم القيامة و هو مدّة

١٥٣

مكث بني آدم في الأرض لاُلجمنّ ذرّيّته إلّا قليلاً منهم و هم المخلصون.

قوله تعالى: ( قالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً ) قيل: الأمر بالذهاب ليس على حقيقته و إنّما هو كناية عن تخليته و نفسه كما تقول لمن يخالفك: افعل ما تريد، و قيل: الأمر على حقيقته و هو تعبير آخر لقوله في موضع آخر:( فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ ) و الموفور المكمّل فالجزاء الموفور الجزاء الّذي يوفّى كلّه و لا يدّخر منه شي‏ء، و معنى الآية واضح.

قوله تعالى: ( وَ اسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَ أَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَ رَجِلِكَ ) إلى آخر الآية الاستفزاز الإزعاج و الاستنهاض بخفّة و إسراع، و الإجلاب كما في المجمع، السوق بجلبة من السائق و الجلبة شدّة الصوت، و في المفردات،: أصل الجلب سوق الشي‏ء يقال: جلبت جلباً قال الشاعر:( و قد يجلب الشي‏ء البعيد الجواب) و أجلبت عليه صحّت عليه بقهر، قال الله عزّوجلّ:( وَ أَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَ رَجِلِكَ ) انتهى.

و الخيل - على ما قيل - الأفراس حقيقة و لا واحد له من لفظه و يطلق على الفرسان مجازاً، و الرجل بالفتح فالكسر هو الراجل كحذر و حاذر و كمل و كامل و هو خلاف الراكب، و ظاهر مقابلته بالخيل أن يكون المراد به الرجّالة و هم غير الفرسان من الجيش.

فقوله:( وَ اسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ ) أي استنهض للمعصية من استطعت أن تستنهضه من ذرّيّة آدم - و هم الّذين يتولّونه منهم و يتّبعونه كما ذكره في سورة الحجر - بصوتك، و كأنّ الاستفزاز بالصوت كناية عن استخفافهم بالوسوسة الباطلة من غير حقيقة، و تمثيل بما يساق الغنم و غيره بالنعيق و الزجر و هو صوت لا معنى له.

و قوله:( وَ أَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَ رَجِلِكَ ) أي و صح عليهم لسوقهم إلى معصية الله بأعوانك و جيوشك فرسانهم و رجّالتهم و كأنّه إشارة إلى أنّ قبيله و أعوانه منهم من يعمل ما يعمل بسرعة كما هو شأن الفرسان في معركة الحرب و

١٥٤

منهم من يستعمل في غير موارد الحملات السريعة كالرجّالة، فالخيل و الرجل كناية عن المسرعين في العمل و المبطئين فيه و فيه تمثيل نحو عملهم.

و قوله:( وَ شارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَ الْأَوْلادِ ) الشركة إنّما يتصوّر في الملك و الاختصاص و لازمه كون الشريك سهيماً لشريكه في الانتفاع الّذي هو الغرض من اتّخاذ المال و الولد فإنّ المال عين خارجيّ منفصل من الإنسان و كذا الولد شخص إنسانيّ مستقلّ عن والديه، و لو لا غرض الانتفاع لم يعتبر الإنسان ماليّة لمال و لا اختصاصاً بولد.

فمشاركة الشيطان للإنسان في ماله أو ولده مساهمته له في الاختصاص و الانتفاع كأن يحصّل المال الّذي جعله الله رافعاً لحاجة الإنسان الطبيعيّة من غير حلّه فينتفع به الشيطان لغرضه و الإنسان لغرضه الطبيعيّ، أو يحصّله من طريق الحلّ لكن يستعمله في غير طاعة الله فينتفعان به معا و هو صفر الكفّ من رحمة الله و كأن يولد الإنسان من غير طريق حلّه أو يولد من طريق حلّه ثمّ يربّيه تربية غير صالحة و يؤدّبه بغير أدب الله فيجعل للشيطان سهماً و لنفسه سهماً، و على هذا القياس.

و هذا وجه مستقيم لمعنى الآية و جامع لما ذكره المفسّرون في معنى الآية من الوجوه المختلفة كقول بعضهم: الأموال و الأولاد الّتي يشارك فيها الشيطان كلّ مال اُصيب من حرام و أخذ من غير حقّه و كلّ ولد زنا كما عن ابن عبّاس و غيره.

و قول آخر: إنّ مشاركته في الأموال أنّه أمرهم أن يجعلوها سائبة و بحيرة و غير ذلك و في الأولاد أنّهم هوّدوهم و نصّروهم و مجّسوهم كما عن قتادة.

و قول آخر: إنّ كلّ مال حرام و فرج حرام فله فيه شرك كما عن الكلبيّ، و قول آخر: إنّ المراد بالأولاد تسميتهم عبد شمس و عبد الحارث و نحوهما، و قول آخر: هو قتل الموؤدة من أولادهم كما عن ابن عبّاس أيضاً، و قول

١٥٥

آخر: إنّ المشاركة في الأموال الذبح للآلهة كما عن الضحّاك إلى غير ذلك ممّا روي عن قدماء المفسّرين.

و قوله:( وَ عِدْهُمْ وَ ما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً ) أي ما يعدّهم إلّا وعداً غارّاً بإظهار الخطأ في صورة الصواب و الباطل على هيئة الحقّ فالغرور مصدر بمعنى اسم الفاعل للمبالغة.

قوله تعالى: ( إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ وَ كَفى‏ بِرَبِّكَ وَكِيلًا ) المراد بعبادي أعمّ من المخلصين الّذين استثناهم إبليس بقوله:( إِلَّا قَلِيلًا ) بل غير الغاوين من اتباع إبليس كما قال في موضع آخر:( إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ ) الحجر: ٤٢ و الإضافة للتشريف.

و قوله:( وَ كَفى‏ بِرَبِّكَ وَكِيلًا ) أي قائماً على نفوسهم و أعمالهم حافظاً لمنافعهم متولّياً لاُمورهم فإنّ الوكيل هو الكافل لاُمور الغير القائم مقامه في تدبيرها و إدارة رحاها، و بذلك يظهر أنّ المراد به وكالته الخاصّة لغير الغاوين من عباده كما مرّ في سورة الحجر.

و قد تقدّمت أبحاث مختلفة حول قصّة سجدة آدم نافعة في هذا المقام في مواضع متفرّقة من كلامه تعالى كسورة البقرة و سورة الأعراف و سورة الحجر.

( بحث روائي)

في تفسير العيّاشيّ، عن ابن سنان عن أبي عبداللهعليه‌السلام :في قوله:( وَ إِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ ) قال: هو الفناء بالموت أو غيره‏، و في رواية اُخرى عنهعليه‌السلام :( وَ إِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ ) قال: بالقتل و الموت أو غيره.

أقول: و لعلّه تفسير لجميع الآية.

و في تفسير القمّيّ، في قوله تعالى:( وَ ما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ ) الآية قال نزلت في قريش. قال: و في رواية أبي الجارود عن أبي جعفرعليه‌السلام :في الآية: و

١٥٦

ذلك أنّ محمّداً سأل قومه أن يأتيهم فنزل جبرئيل فقال: إنّ الله عزّوجلّ يقول:( وَ ما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إلّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ ) ، و كنّا إذا أرسلنا إلى قريش آية فلم يؤمنوا بها أهلكناهم فلذلك أخّرنا عن قومك الآيات.

و في الدرّ المنثور، أخرج أحمد و النسائيّ و البزّاز و ابن جرير و ابن المنذر و الطبرانيّ و الحاكم و صحّحه و ابن مردويه و البيهقيّ في الدلائل، و الضياء في المختارة، عن ابن عبّاس قال: سأل أهل مكّة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يجعل لهم الصفا ذهبا و أن ينحّي عنهم الجبال فيزرعون فقيل له: إن شئت أن نتأنّى بهم و إن شئت أن نؤتيهم الّذي سألوا فإن كفروا اُهلكوا كما اُهلكت من قبلهم من الاُمم قال: لا بل أستأني بهم فأنزل الله:( وَ ما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ ) .

أقول: و روي ما يقرب منه بغير واحد من الطرق.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن جرير عن سهل بن سعد قال: رأى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بني فلان ينزون على منبره نزو القردة فساءه ذلك فما استجمع ضاحكاً حتّى مات فأنزل الله:( وَ ما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ ) .

و فيه، أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عمر أنّ النبيّ قال: رأيت ولد الحكم بن أبي العاص على المنابر كأنّهم القردة و أنزل الله في ذلك:( وَ ما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَ الشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ ) يعني الحكم و ولده.

و فيه، أخرج ابن أبي حاتم عن يعلى بن مرّة قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اُريت بني اُميّة على منابر الأرض و سيتملّكونكم فتجدونهم أرباب سوء، و اهتمّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لذلك فأنزل الله:( وَ ما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ ) .

و فيه، أخرج ابن مردويه عن الحسين بن عليّ: أنّ رسول الله أصبح و هو مهموم فقيل: ما لك يا رسول الله؟ فقال: إنّي اُريت في المنام كان بني اُميّة يتعاورون منبري هذا فقيل: يا رسول الله لا تهتمّ فإنّها دنيا تنالهم فأنزل الله:( وَ ما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ ) .

و فيه، أخرج ابن أبي حاتم و ابن مردويه و البيهقيّ في الدلائل، و ابن عساكر

١٥٧

عن سعيد بن المسيّب قال: رأى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بني اُميّة على المنابر فساءه ذلك فأوحى الله إليه إنّما هي دنيا اُعطوها فقرّت عينه، و هي قوله:( وَ ما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ ) يعني بلاء للناس.

أقول: و رواه في تفسير البرهان، عن الثعلبيّ في تفسيره، يرفعه إلى سعيد بن المسيّب.

و في تفسير البرهان، عن كتاب فضيلة الحسين يرفعه إلى أبي هريرة قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : رأيت في النوم بني الحكم أو بني العاص ينزون على منبري كما تنزو القردة فأصبح كالمتغيّظ فما رؤي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مستجمعاً ضاحكاً بعد ذلك حتّى مات.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن مردويه عن عائشة: أنّها قالت لمروان بن الحكم سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول لأبيك و جدّك: إنّكم الشجرة الملعونة في القرآن.

و في مجمع البيان،: رؤيا رآها النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّ قرودا تصعد منبره و تنزل و ساءه ذلك و اغتمّ رواه سهل بن سعيد عن أبيه. ثمّ قال: و هو المرويّ عن أبي جعفر و أبي عبداللهعليهما‌السلام ،‏ و قالوا: على هذا التأويل الشجرة الملعونة في القرآن هو بنو اُميّة.

أقول: و ليس من التأويل في شي‏ء بل هو تنزيل كما تقدّم بيانه، إلّا أنّ التأويل ربّما اُطلق في كلامهم على مطلق توجيه المقصود.

و روى هذا المعنى العيّاشيّ في تفسيره، عن عدّة من الثقات كزرارة و حمران و محمّد بن مسلم و معروف بن خرّبوذ و سلام الجعفيّ و القاسم بن سليمان و يونس بن عبد الرحمن الأشلّ و عبد الرحيم القصير عن أبي جعفر و أبي عبداللهعليهما‌السلام و رواه القمّيّ في تفسيره، مضمراً، و رواه العيّاشيّ أيضاً عن أبي الطفيل عن عليّعليه‌السلام .

و في بعض هذه الروايات أنّ مع بني اُميّة غيرهم و قد تقدّم ما يهدي إليه البحث في معنى الآية، و قد مرّ أيضاً الروايات في ذيل قوله تعالى:( وَ مَثَلُ كَلِمَةٍ

١٥٨

خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ ) الآية: إبراهيم: ٢٦ أنّ الشجرة الخبيثة هي الأفجران من قريش.

و في الدرّ المنثور، أخرج عبدالرزّاق و سعيد بن منصور و أحمد و البخاريّ و الترمذيّ و النسائيّ و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و الطبرانيّ و الحاكم و ابن مردويه و البيهقيّ في الدلائل، عن ابن عبّاس: في قوله:( وَ ما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ ) قال: هي رؤيا عين اُريها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليلة اُسري به إلى بيت المقدّس و ليست برؤيا منام( و الشجرة الملعونة في القرآن) قال: هي شجرة الزقّوم.

أقول: و روي هذا المعنى أيضاً عن ابن سعد و أبي يعلى و ابن عساكر عن اُمّ هاني، و قد عرفت حال الرواية في الكلام على تفسير الآية.

و فيه، أخرج ابن جرير و ابن مردويه عن ابن عبّاس: في قوله:( وَ ما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ ) الآية قال: إنّ رسول الله اُرى أنّه دخل مكّة هو و أصحابه و هو يومئذ بالمدينة فسار إلى مكّة قبل الأجل فردّه المشركون فقال اُناس: قد ردّ و قد كان حدّثنا أنّه سيدخلها فكانت رجعته فتنتهم.

أقول: و قد تقدم ما على الرواية في تفسير الآية على أنّها تعارض ما تقدّمها.

و في تفسير البرهان، عن الحسين بن سعيد في كتاب الزهد، عن عثمان بن عيسى عن عمر بن اُذينة عن سليمان بن قيس قال: سمعت أميرالمؤمنينعليه‌السلام يقول: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ الله حرّم الجنّة على كلّ فحّاش بذيّ قليل الحياء لا يبالي ما قال و ما قيل له فإنّك إن فتّشته لم تجده إلّا لغيّة أو شرك شيطان.

فقال رجل: يا رسول الله و في الناس شرك شيطان؟ فقال: أ و ما تقرأ قول الله عزّوجلّ:( وَ شارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَ الْأَوْلادِ ) ؟

فقال: من لا يبالي ما قال و ما قيل له؟ فقال: نعم من تعرّض للناس فقال فيهم و هو يعلم أنّهم لا يتركونه فذلك الّذي لا يبالي ما قال و ما قيل له.

و في تفسير العيّاشيّ، عن محمّد بن مسلم عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: سألته عن شرك

١٥٩

الشيطان: قوله:( وَ شارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَ الْأَوْلادِ ) قال: ما كان من مال حرام فهو شرك الشيطان. قال: و يكون مع الرجل حتّى يجامع فيكون من نطفته و نطفة الرجل إذا كان حراماً.

أقول: و الروايات في هذه المعاني كثيرة، و هي من قبيل ذكر المصاديق، و قد تقدّم المعنى الجامع لها.

و ما ذكر فيها على مشاركته الرجل في الوقاع و النطفة و غير ذلك كناية عن أن له نصيباً في جميع ذلك فهو من التمثيل بما يتبيّن به المعنى المقصود، و نظائره كثيرة في الروايات.

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443