الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٣

الميزان في تفسير القرآن13%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 443

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 443 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 111397 / تحميل: 6251
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٣

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

فكذلك في هذه الحالة يعتبر الشيك حوالةً من المَدين لدائنه على البنك، غير أنّ المحوّل عليه ليس مَديناً للمُحيل، ولهذا يصطلح الفقهاء على ذلك بالحوالة على البريء، وهي عندي حوالة صحيحة تنفذ بالقبول من البنك، فإذا قبل البنك الشيك أعتبر ذلك قبولاً منه للحوالة، فتشتغل ذمّته للمُحال في ذمّة المحوِّل، ويصبح المحوِّل مَديناً للبنك - المحوِّل عليه - بقيمة الحوالة.

فمَديونيّة محرّر الشيك للبنك لا تقوم هنا على أساس الاقتراض لكي يتوقّف على القبض، بل على أساس قبول البنك للحوالة، ولمّا كان البنك بريئاً فبقوله للحوالة وانتقال دَين المحوِّل إلى ذمّته يصبح دائناً للمحوِّل بنفس المقدار(١) .

وهكذا يتّضح أنّه يصحّ استعمال الشيكات على البنك كأداة وفاءٍ على أساس الحوالة، سواء كان لمحرّر الشيك رصيد دائن في حسابه الجاري، أو كان حسابه الجاري على المكشوف.

وهناك قيود مَدينة يجريها البنك دون تفويضٍ من العميل، كالعمولات المختلفة، وأجرة البريد، والرسم الدوري لكشوف الحسابات البيانية.

وكلّ هذا صحيح ؛ لأنّ العميل تشتغل ذّمته بأُجرة المثل للبنك لقاءَ الخدمات المصرفية، بما فيها كشوف الحسابات البيانية، وأجرة البريد التي يتكلّفها البنك بأمرٍ صريحٍ أو ضمنيّ موجبٍ للضمان من العميل. وبموجب المقاصّة القهرية بين الدَينين يقوم البنك بخصم قيمة هذه الأجور من الرصيد الدائن لعميله.

____________________

(١) بناءً على أنّ المحوِّل يضمن للمحوّل عليه البريء بسبب إشغاله لذمّته الذي يحصل بمجرّد قبول البريء للحوالة. وأمّا إذا كان الضمان بسبب تسبيب المحوّل لتلف المال على البريء خارجاً فلا يكون الضمان فعلياً إلاّ بعد الدفع.(المؤلّف قدس‌سره ).

١٠١

اندماج أكثر من صفتين في شخصٍ واحد:

وهناك حالات في سحب الشيك على البنك تندمج فيها صفتان في جهةٍ واحدة، ومن هذا القبيل حالة سحب العميل على البنك شيكاً لأمره، أي لأمر العميل نفسه، فهو في هذه الحالة يمثّل مركزَي الساحب والمستفيد، والمدلول الفقهيّ لهذه العملية هو أنّ الساحب يحاول استيفاء قيمة الشيك المسحوب من دَينه على البنك، وليس تحريره للشيك إلاّ لكي يستخدم كوثيقةٍ على الوفاء عند تقديمه لدى البنك وسحب قيمته منه.

ومن هذا القبيل أيضاً حالة سحب العميل شيكاً لأمر البنك، وبهذا يمثّل البنك مركزَي المسحوب عليه والمستفيد، والمدلول الفقهيّ لهذه العملية هو أنّ الساحب كان قد أصبح مَديناً للبنك بأيِّ سببٍ من الأسباب، فوقعت المقاصّة في حدود ذلك الدَين بين دائنية البنك هذه ودائنية العميل المتمثِّلة في رصيده الدائن في الحساب الجاري، وليس الشيك في هذه الحالة إلاّ وثيقةً على وقوع هذه المقاصّة بين ذمّتي البنك والعميل، وكلّ ذلك جائز شرعاً.

الودائع لأجَل (الثابتة):

وهي مبالغ يستهدف أصحابها من وضعها في البنك الحصول على فوائدها ما داموا ليسوا بحاجةٍ ماسّةٍ إليها في الوقت القريب، ولا يجوز سحبها من البنك إلاّ بعد مدّةٍ يتّفق عليها العميل مع البنك، ويجدّد عقد إيداعها في نهاية المدّة إذا رغب المودِع في إبقاء الوديعة، كما يتّفق في أكثر الأحيان.

وهذه الودائع تمثِّل في الحقيقة قروضاً ربويةً محرَّمة، ولهذا يتمنع عنها البنك اللاربوي، ويحوّلها إلى ودائع بالمعنى الفقهيّ الكامل لوديعةٍ قد أودعها

١٠٢

أصحابها في البنك ريثما يجدون مجالاً لتوظيفها واستثمارها على أساس المضاربة. وقد مرّ تفصيل ذلك في الأطروحة التي قدّمناها.

ودائع التوفير:

يقصد بها كلّ حسابٍ في دفترٍ واجب التقديم عنه كلّ سحبٍ أو إيداع. وهي قسم من الودائع الادّخارية، غير أنّ العادة جرت على تمكين الموفِّرين من السحب عليها متى شاءوا، أو ضمن شروطٍ خاصّة.

والبنك اللاربوي لا يرفض قبول ودائع التوفير هذه، ولا يختلف عن البنوك الربوية في إعطاء فرصة السحب للموفِّرين متى أرادوا ذلك، ويقوم باستثمار هذه الودائع عن طريق المضاربة، كما يستثمِر الودائع الثابتة.

ولكنّ موقف البنك اللاربوي من ودائع التوفير يختلف عن موقفه من الودائع الثابتة في أمرين، كما أوضحنا ذلك في الفصل الأوّل:

أحدهما : تمكينه من السحب على ودائع التوفير متى أراد الموفِّر، خلافاً للودائع الثابتة التي يشترط فيها على المودِع أن تظلّ في حوزته مدّةً لا تقلّ عن ستّة أشهر.

والآخر : أنّ البنك اللاربوي يقتطع من كلّ وديعة توفيرٍ نسبةً معيّنةً يعتبرها قرضاً، ويحتفظ بها كسائلٍ نقدي، ولا يدخلها في مجال المضاربة والاستثمار، كما مرّ بنا في الأطروحة.

الودائع الحقيقية:

وهي عبارة عن أشياء معيّنةٍ يَوَدّ أصحابها أن يحتفظوا بها، ويتجنّبوا مخاطر السرقة والضياع والحريق ونحو ذلك، فيودعونها لدى البنك على أن يستردّوها

١٠٣

بعد ذلك بنفس مظهرها المادّي، وقد يقوم البنك لهذا الغرض بإعداد خزائنٍ خاصّةٍ ويؤجرها لعملائه، ويتقاضى لقاء ذلك أجراً منهم.

وهذه الودائع هي ودائع بالمعنى الفقهيّ الكامل، وعلى هذا الأساس يجوز للبنك أن يأخذ أجرةً لإنجاز العملية، سواء كانت لقاءَ منفعة الخزينة الحديدية التي تحفظ فيها وديعة العميل، أو لقاءَ نفس عمل البنك في تحصينها والحفاظ عليها.

الأهمّية الاقتصادية للودائع المصرفية

تتلخّص الأهميّة الاقتصادية للودائع المصرفية في البنوك القائمة في النقاط الثلاث التالية:

١ - إنّ الودائع المصرفية بالرغم من أنّها مجرّد قيدٍ في سجّلات البنك يتضمّن حساباً لأحد العملاء تعتبر وسيلةً هامّةً من وسائل الدفع، لِمَا تحيط بها من الضمانات القوية المشتقّة من عنصر الثقة في البنوك وإن لم يعترف لها القانون بصفة النقد في التداول، ولهذا ليس هناك إجبار على قبول الوفاء بها، كما هو الحال في النقود الأخرى، ولكنّ عدم اعترافه هذا لم يمنع عن اتّساع نطاق التعامل بالودائع المصرفية، وذلك بنقل ملكيّتها من شخصٍ لآخر عن طريق استعمال الشيكات، وبذلك تزداد وسائل الدفع في المجال التجاري والاقتصادي.

٢ - إنّ الودائع المصرفية تمثِّل على الأغلب أموالاً كانت عاطلةً قبل إيداعها إلى البنك، وأتيح لها عن طريق إيداعها في البنك دخول مجال الإنتاج والاستثمار على شكل قروضٍ مصرفيةٍ لرجال الأعمال، وبذلك أصبح بإمكانها أن تساهم بدور كبيرٍ في إنعاش اقتصاد البلاد ونموّه الصناعي والتجاري.

٣ - إنّ الودائع المصرفية تمنح البنك القدرة على خلق الائتمان بدرجةٍ أكبر

١٠٤

من كمّية تلك الودائع، والائتمان يخلق بدوره الوديعة المصرفية أيضاً، وهكذا تزداد بهذا الشكل كميّة الودائع المصرفية، وبالتالي تكثر وسائل الدفع التي تعوَّض عن النقود، وكلّما كثرت وسائل الدفع اتّسعت الحركة التجارية ونمت.

ويجب أن نحدِّد موقف الشريعة الإسلامية، وبالتالي وضع البنك اللاربوي تجاه هذه النقاط الثلاث.

الودائع المصرفية وسائل دفع:

أمّاالنقطة الأولى فبالإمكان أن تعتبر الودائع المصرفية وسائل دفعٍ عن طريق استعمال الشيكات. ونظراً إلى أنّ وسيلة الدفع هي نفس الوديعة المصرفية لا الشيك، وإنّما الشيك مجرّد أمرٍ بالسحب على الرصيد المودَع، والوديعة ليست إلاّ ديناً في ذمّة البنك للمودِع فاتّخاذها وسيلةَ دفع يعني اتّخاذ الدَين وسيلةَ دفع ن ولهذا يصبح استعمال الودائع بدلاً عن النقود جائزاً في الحدود التي يجوز التعامل ضمنها بالدَين. ولكي نعرف هذه الحدود نقسّم التعامل بالدَين إلى قسمين:

أحدهما : التعامل به كأسلوب لوفاء دَينٍ آخر عن طريق الحوالة، فالمَدين يمكنه أن يُحيل دائنه على مدينه، وبذلك يكون قد استخدم الدَين الذي يملكه في وفاء دائنه وإبراء ذمّته من ناحيته، وهذا صحيح شرعاً كما تقدّم، وبذلك يجوز استعمال الشيك كأداة وفاء.

والآخر : التعامل به كوسيلة دفعٍ ينصّب عليها العقد مباشرة، كأن يشتري الدائن بالدَين الذي يملكه في ذمّة مَدينه بضاعةً، أو يهب ذلك الدين لشخصٍ آخر، وهذا التعامل يُحكم بصحّته أحياناً ويُحكم ببطلانه أحياناً من الناحية الشرعية.

فمثلاً: شراء الدائن بضاعةً بما يملكه من دَينٍ في ذمّة مَدينه صحيح شرعاً

١٠٥

إذا لم تكن البضاعة المشتراة مؤجّلة، وإلاّ بطل الشراء ؛ لأنّه يكون من بيع الدَين وهو باطل.

ومثال آخر: هبة الدائن للدَين الذي يملكه في ذمّة شخصٍ آخر صحيحةٌ شرعاً إذا كان الموهوب له نفس المَدين، وأمّا إذا كان شخصاً آخر فالهبة باطلة عند من يرى من الفقهاء أنّ قبض الموهوب له للمال الموهوب شرط في صحة الهبة، فلا يجوز للموهوب له، على هذا، التصرّف في الدَين الذي وهبه له الدائن قبل الوفاء وقبض الدائن له، أو قبض الموهوب له بالوكالة عن الدائن.

وعلى هذا الأساس نعرف أنّ التعامل بالشيك كأداة وفاءٍ لدَينٍ سابقٍ صحيح شرعاً. وأمّا التعامل به كموضوعٍ ينصبّ عليه العقد مباشرةً لكي تكون الوديعة المصرفية نفسها هي موضع التعامل، فهذا يصحّ أحياناً، ولا يصحّ أحياناً.

ولكنّ التعامل بالشيك كموضوعٍ ينصبّ عليه العقد مباشرةً يعتبر باطلاً دائماً إذا كان السحب بالشيك من دون رصيدٍ دائنٍ للساحب ؛ إذ لا يوجد عندئذٍ للساحب شيء حقيقيّ يملكه ممّا يعبّر عنه الشيك لكي به بضاعةً مثلاً أو يهبه. ورصيد المدين في حسابه الجاري ليس إلاّ مجرّد قرضٍ من البنك، والقرض لا يملكه المقترض إلاّ بالقبض، فلا معنى للتعامل به وهبته وشراء بضاعةٍ به مثلاً قبل أن يقبض مباشرةً أو توكيلاً.

والغالب من التعامل بالشيكات في الحياة الاعتيادية هو التعامل بالشيكات كأداة فاء، وهو صحيح لِمَا عرفت.

دور البنك اللاربوي في توظيف الأموال العاطلة:

وأمّاالنقطة الثانية ، وهي أنّ البنك يؤدّي بنشاطه إلى تجميع الأموال العاطلة وتوظيفها، فسوف تظلّ صادقةً على البنك اللاربوي كما صدقت على البنوك

١٠٦

الربوية. وإنّما الفارق بينهما في أسلوب التوظيف، فبينما يتمّ التوظيف في البنوك الربوية على أساس إقراض المستثمِرين يتمّ في البنك اللاربوي على أساس المشاركة معهم عن طريق المضاربة.

خلق الائتمان بدرجةٍ أكبرَ من كمّية الودائع:

وبالنسبة إلىالنقطة الثالثة ، وهي قدرة البنك على خلق الائتمان بدرجةٍ أكبر من كمّية الودائع، يجب أن نتساءل: هل يتاح للبنك اللاربوي أن يخلق الائتمان، وبالتالي الدائنية، بدرجةٍ أكبر من كمّية الودائع الموجودة لديه فعلاً ؟

والجواب بالإيجاب، ولكن على شرط أن تكون الدائنية التي يخلقها البنك مستندةً إلى سببٍ شرعيّ، لا إلى سببٍ غير مشروع. ولتمييز السبب المشروع من غيره نقارن بين الحالات الثلاث التالية:

١ - نفترض أنّ كمّية الودائع الموجودة لدى البنك هي (١٠٠٠) دينار، فيتقدّم إليه شخصان يطلب كلّ واحدٍ منهما قرضاً قدره (١٠٠٠) دينار، وحيث إنّ البنك يعلم أنّهما سوف يودِعان ما يقترضانه لديه مرّةً أخرى وسوف لن يسحبا ودائعهما معاً في وقتٍ واحدٍ، فهو يرى أنّه بإمكانه أن يلتزم لكلّ واحدٍ منهما بقرضٍ قدره (١٠٠٠) دينار، وبذلك يعتبر نفسه دائناً ب- (٢٠٠٠) دينار بينما ليس لديه في خزائن ودائعه إلاّ (١٠٠٠) دينار.

٢ - نفترض أنّ كمّية الودائع الموجودة لدى البنك (١٠٠٠) دينار، فيتقدّم شخص طالباً قرضاً قدره (١٠٠٠) دينار، فيقرضه البنك المبلغ المطلوب ويتسلّفه المقترِض ويدفعه إلى دائنه وفاءً لدينه، فيتسلّمه الدائن ويودِعه بدوره في البنك، فيتقدّم شخص آخر طالباً اقتراض (١٠٠٠) دينارٍ من البنك فيقرضه ويدفع إليه المبلغ، وبذلك يصبح البنك دائناً ب- (٢٠٠٠) دينار، بينما لم يكن لديه في خزانة

١٠٧

ودائعه إلاّ (١٠٠٠) دينار.

٣ - نفترض أنّ كمّية الودائع الموجودة لدى البنك (١٠٠٠) دينار، فتتقدّم إليه حوالتان من شخصين ليس لهما أيّ رصيدٍ لديه، كلّ منهما يحوِّل دائنه على البنك ب- (١٠٠٠) دينارٍ، والبنك يعرف أنّه إذا قبل الحوالتين معاً فسوف لن يتعرّض لخطر المطالبة ب- (٢٠٠٠) دينار ؛ لأنّ الدائَنين سوف لن يسحبا دَينَهما في وقتٍ واحد، وعلى هذا الأساس يتقبّل البنك كلتا الحوالتين، فيصبح بذلك دائناً لكلٍّ من المحوِّلَين ب- (١٠٠٠) دينار، ويتقاضى فوائد (٢٠٠٠) دينارٍ من القرض، بينما لم يكن لديه إلاّ (١٠٠٠) دينارٍ من الودائع.

ونحن إذا فحصنا هذه الحالات الثلاث وجدنا أنّ دائنية البنك ب- (٢٠٠٠) دينارٍ في الحالة الأولى نشأت من قرضين التزم بهما لشخصين، ولكنّ القرضين لم يتوفّر فيهما القبض اللازم شرعاً في كلّ قرض ؛ لأنّ كلّ واحدٍ من المقترِضَين لم يحصل من البنك إلاّ على مجرّد الالتزام له ب- (١٠٠٠) دينار، أي على قيدٍ في رصيده المَدين فيعتبر القرض باطلاً، وبالتالي لا يعتبر البنك دائناً للشخصين ب- (٢٠٠٠) دينار، وإنّما يعتبر دائناً بالقدر الذي يتمّ تسليمه لهما من المبلغ.

وفي الحالة الثانية نشأت دائنية البنك ب- (٢٠٠٠) دينارٍ من قرضَين أيضاً، غير أنّ القرضَين هنا يتوفّر فيهما القبض ؛ لأنّ كلّ واحدٍ من المقترِضَين قد قبض المبلغ الذي اقترضه كاملاً، فيعتبر القرضان صحيحين، ويكون البنك دائناً شرعاً ب- (٢٠٠٠) دينار.

وفي الحالة الثالثة نشأت دائنية البنك ب- (٢٠٠٠) دينارٍ للمحوِّلَين من قبوله بحوالتيهما، لا من عقد القرض، والحوالة صحيحة شرعاً، فيعتبر البنك دائناً ب- (٢٠٠٠) دينارٍ للمحوِّلَين ومديناً في نفس الوقت ب- (٢٠٠٠) دينارٍ لدائني المحوِّلَين.

١٠٨

ويتّضح ممّا سبق أنّ دائنية البنك بأكبرَ من الكمّية الموجودة من الودائع لديه فعلاً أمر جائز شرعاً إذا وجد السبب الشرعيّ للدائنية، وهو الإقراض الذي يتوفّر فيه قبض المقرِض المبلغ كما في الحالة الثانية، أو قبول الحوالة كما في الحالة الثالثة. وأمّا إذا لم يتحقّق السبب الشرعيّ للدائنية من إقراضٍ مع القبض، أو قبول الحوالة، أو غيرهما من الأسباب الشرعية فلا مبرِّر للدائنية كما في الحالة الأولى، فإنّ مجرّد التزام البنك ب- (٢٠٠٠) دينارٍ لكلٍّ من الشخصَين وتقييد المبلغ في الرصيد المَدين لحسابه الجاري في سجلاّته الخاصّة لا يخلق دَيناً ودائناً ومَديناً.

ويجب أن يعلم بهذا الصدد أنّنا حين نؤكِّد على بطلان القرض في الحالة الأولى لعدم توفّر القبض، ونربط صحة القرض بقبض المبلغ المقترَض، لا نريد بالقبض فصله نهائياً عن البنك المقرِض، بل بإمكان العميل الذي يطلب قرضاً قدره ألف دينارٍ مثلاً أن يقبض هذا المبلغ ثمّ يودِعه في حسابه الجاري في البنك، ويكون القرض في هذه الحالة صحيحاً ؛ لأنّه قرض مقبوض.

وقد يقال: إنّ العميل بإيداعه المبلغ مرّةً أخرى في البنك يكون قد أقرضه للبنك ؛ لأنّ الإيداع إقراض من الناحية الفقهية، فيصبح العميل دائناً للبنك بألف، أي بنفس قيمة المبلغ الذي اقترضه منه، وبذلك تحصل المقاصّة الجبرية بين الدَينيَن وتتلاشى دائنية البنك، وهذا يعني أنّ البنك لا يمكنه أن يحتفظ بدائنّيته لعميله ما لم ينفصل المبلغ المقترَض نهائياً عن البنك.

والجواب على هذا القول: أنّ العميل بقبضه للمبلغ مباشرةً أو توكيلاً يصبح مديناً للبنك بألف دينارٍ مثلاً، وبإيداعه المبلغ مرّةً أخرى في حسابه الجاري في البنك وإن خلق ديناً جديداً له من البنك إلاّ أنّ الدَينَين لا يسقطان بالمقاصّة ؛ لأنَّ العادة في القرض الذي تسلّمه العميل من البنك أن يكون مؤجّلاً إلى مدّةٍ محدّدة، بينهما لا يكون القرض المتمثِّل في إيداع العميل للمبلغ في حسابه الجاري مؤجّلاً.

١٠٩

ولهذا لا يتمكّن العميل من سحبه متى شاء. وما دام أحد الدَينَين مؤجّلاً دون الآخر فلا تحصل المقاصّة بينهما، ولا يسقطان بالتهاتر ؛ لأنّ من شروط التهاتر اتّفاق الدَينَين في ذلك. وعلى هذا الأساس تكون دائنية البنك بألف دينارٍ شرعية، وتظلّ على شرعيّتها إذا قبض العميل المبلغ المقترَض ثم أودعه في البنك مرّةً أخرى في حسابه الجاري، ويظلّ البنك دائناً حتّى يحلّ الأجل، فتحصل المقاصّة ويسقط الدَينان بالتهاتر.

التحصيل

إنّ قيام البنوك بقبول ودائع العلاء جعلها تتصدّى لإتمام جميع التسويات التي تترتّب على ذلك بعمولةٍ أو بدون عمولة، وعلى هذا الأساس تمارس البنوك تسوية الديون عن طريق المقاصّة، أو الترحيل في الحساب دون حاجةٍ إلى تداول كمّياتٍ كبيرةٍ من العملة، وما يترتّب على ذلك من نقل وتكاليف وتعرّضٍ لمخاطر السرقة والضياع. وتتمثّل التسويات التي تقوم بها البنوك في: تحصيل الشيكات، وتحصيل الكمبيالات، والتحصيلات المستندية، وقبول الشيكات والكمبيالات.

تحصيل الشيكات:

تقدّم منّا في الحديث عن الحساب الجاري أنّ أحد أساليب الإيداع هو: أن يتقدّم أحد العملاء إلى البنك بشيكٍ مسحوبٍ لمصلحته على حساب محرّر الشيك في البنك، فيقوم البنك بخصم قيمته من حساب المسحوب عليه وترحيلها إلى حساب المستفيد بالشيك ؛ بعد التأكّد من صحة الشيك من الناحية الشكلية ،

١١٠

وتصديق قسم مراكز العملاء على وجود رصيدٍ للمحرّر يسمح بخصم قيمة الشيك منه.

والشيك قد يكون مسحوباً على نفس المركز أو الفرع الذي يقوم بتحصيله لحساب المستفيد، وقد يكون مسحوباً على فرعٍ آخر من فروع البنك، وقد يكون مسحوباً على بنكٍ آخر.

ففي الحالة الأولى نواجه في علمية تحصيل الشيك حوالةً واحدةً من محرّر الشيك لدائنه، أي المستفيد من الشيك على البنك المدَين للمحرّر.

وفي الحالة الثانية لا توجد إلاّ حوالة واحدة أيضاً ؛ لأنّ مركز البنك وكلّ فروعه لها ذمّة واحدة شرعاً لوحدة المالك والمَدين.

وأمّا في الحالة الثالثة فهناك حوالة من صاحب الشيك على البنك المسحوب عليه، والمفروض أنّ الذي يقوم بتحصيل الشيك هو بنك آخر، فإذا فرضنا أنّ البنك الآخر حصّل قيمة الشيك من البنك الأوّل بتسجيل قيمة الشيك في الرصيد المَدين للبنك الأوّل في سجلاّته لكي يستوفي بعد ذلك بالمقاصّة، فإنّ معنى ذلك أنّ البنك الأول الذي أصبح بتحرير الشيك عليه مَديناً للمستفيد من الشيك بقيمته قد أحال المستفيد من الشيك - ضمناً أو إجازةً - على البنك الآخر، مديناً كان البنك الآخر للأول أو بريئاً، وهذه حوالة ثانية، فعملية التحصيل حينئذٍ تتمّ خلال حوالتين.

ويمكن تكييف العملية نفسها على أساس حوالةٍ وبيع. أمّا الحوالة فهي حوالة صاحب الشيك للمستفيد على البنك المسحوب عليه، وبموجب هذه الحوالة يصبح المستفيد مالكاً لقيمتها في ذمّة البنك المحوَّل عليه.

وأمّا البيع، فيمارسه المستفيد نفسه بعد أن أصبح مالكاً لقيمة الشيك في ذمّة البنك المسحوب عليه، إذ يبيع ما يملكه في ذمّة ذلك البنك بإزاء مبلغِ نقديّ

١١١

يتسلّمه من البنك الذي دفع إليه الشيك لتحصيله، ويكون هذا من بيع الدين. وسواء كيَّفنا العملية فقهياً على أساس أنّها حوالتان أو حوالة بدَينٍ ثمّ بيع الدَين، فإنّ كلّ ذلك صحيح وجائز شرعاً.

وهل بإمكان البنك من الناحية الشرعية أن يتقاضى عمولةً - أجرة - على تحصيل الشيك ؟

وللجواب على هذا السؤال يجب أن نميِّز بين الحالات المتقدّمة: ففي الحالة الثالثة التي كيّفنا فيها العملية على أساس حوالتين متعاقبتين يجوز للبنك المحصّل أن يأخذ من المستفيد أُجرةً على قيامه بتحصيل قيمة الشيك له عن طريق اتّصاله بالبنك المسحوب عليه وطلب تحويل قيمة الشيك عليه(١) .

وأمّا في الحالة الأولى فساحب الشيك على البنك إمّا أن يكون قد سحبه على رصيده الدائن، أو سحبه لحسابه الجاري على المكشوف مع البنك. فإن كان قد سحبه على رصيده الدائن فالحوالة تصبح من الحوالة على مَدين، والحوالة على مَدينٍ ليست بحاجةٍ إلى قبول المَدين للحوالة، بل تنفذ بمجرّد سحب الشيك عليه، ويكون البنك مَديناً للمستفيد ويجب عليه وفاء دينه أو إضافته إلى رصيده الدائن، ولا يمكن للمَدين أخذ أجرة على وفاء دائنه. ويستثنى حالة ما إذا شرط البنك على كلّ دائن حين تولّد دينه أن لا ينقل ملكية الدَين عن طريق الحوالة إلاّ

____________________

(١) نقصد هنا دراسة إمكان أخذ العمولة من وجهة نظر الفقه الإسلامي. وأمّا ما هو واقع في البنوك الربوية، فهو عدم أخذ عمولةٍ على تحصيل الشيك إلاّ إذا كان مسحوباً على بنكٍ أو جهةٍ في بلدٍ آخر غير البلد الذي يوجد فيه البنك المحصِّل للشيك. وعلى هذا الأساس، فإنّ أيّ بنكٍ آخر يقوم كالبنك اللاربوي لا يمكن له من الناحية الواقعية أن يفرض أجرة على تحصيل الشيك إلاّ في الحدود المتّبعة في الواقع المعاش. (المؤلّف قدس‌سره ).

١١٢

بإذنه، وحينئذٍ يكون بإمكان البنك أن يأخذ أجرة وعمولةً في مقابل قبوله بالحوالة وإسقاطه الشرط.

وأمّا إذا كان الساحب قد سحب قيمة الشيك من حسابه الجاري على المكشوف فالشيك في هذه الحالة يعني الحوالة على بريء الذمّة، والبريء يمكنه أن لا يقبل الحوالة إلاّ بأجرٍ من المحوِّل، أي المستفيد من الشيك، وليس ذلك من الفائدة التي يتقاضاها الدائن من المَدين ؛ لأنّ الأجر هنا يتقاضاه المَدين من الدائن في مقابل قبوله للحوالة وبأن يصبح مَديناً.

وهكذا يتلخّص: أنّ العمولة على تحصيل الشيك جائز إذا كان الشيك مسحوباً على بنكٍ آخر غير البنك المحصّل، أو على البنك المحصّل دون رصيدٍ دائنٍ للساحب. وأمّا إذا كان مسحوباً على البنك المحصّل مع رصيدٍ دائنٍ للساحب، فلا يجوز للبنك أخذ العمولة على تحصيل قيمة الشيك من المستفيد إلاّ في حالة ارتباط البنك مع عملائه الدائِنين منذ البدء بقرارٍ يقضي بعدم التحويل عليه بدون إذنه.

وقد درسنا حتّى الآن حكم العمولة في الحالة الثالثة والأولى، أي في حالة كون البنك المسحوب عليه غير البنك المحصّل (وهذه هي الحالة الثالثة)، وفي حالة كون الشيك مسحوباً على نفس البنك ونفس الفرع الطالب من قبل المستفيد بتحصيل قيمة الشيك (وهذه هي الحالة الأولى).

وبقي علينا أن نعرف حكم العمولة في الحالة الثانية، وهي: ما إذا كان المسحوب عليه الشيك فرع البنك في البصرة مثلاً، والمطالب بتحصيل قيمة ذلك الشيك هو فرع نفس البنك في الموصل، فهل بإمكان الفرع في الموصل أن يتقاضى عمولةً على تحصيل قيمة الشيك ؟

إنّ الفروع تمثّل وكلاء متعدّدين لجهةٍ واحدةٍ وهي أصحاب البنك، فكلّ

١١٣

فرعٍ هو وكيل للجهة العامة التي تملك البنك، وكل رصيدٍ دائنٍ في فرعٍ من فروع البنك هو في الحقيقة دَين على تلك الجهة العامة، فصاحب الشيك على فرع البنك في البصرة هو دائن لتلك الجهة بحكم إيداعه مبلغاً معيّناً من النقود لدى فرع البصرة وفتحه حساباً جارياً عنده، فإذا سحب شيكاً على فرع البصرة لصالح دائنه فقد حوّل في الحقيقة دائنه على الجهة العامة التي تمثّلها الفروع جميعاً، وهو من الحوالة على مَدين، ولكنّ تلك الجهة العامة غير ملزمةٍ بدفع الدَين إلى المستفيد إلاّ في نفس المكان الذي وقع فيه عقد القرض بين الساحب وبينها، أي البصرة ؛ لأنّ المفروض أنّ الحساب الجاري للساحب مفتوح مع فرع البصرة، فلا يلزم على الجهة التي تمثّلها كلّ فروع البنك أن تسدِّد الدَين المحوَّل عليها إلاّ في نفس مكان الفرع الذي وقع قيه القرض، أي الإيداع وفتح الحساب الجاري.

وعلى هذا الأساس يصبح بإمكان البنك - إذا طولب فرعه في الموصل بخصم قيمة الشيك المسحوب من عمليه على فرعه في البصرة - أن يطالب بعمولة وأجرة لقاءَ تسديد الدَين في غير المكان الذي وقع فيه عقد القرض - الإيداع - بينه وبين العميل الساحب للشيك.

التحصيل المستند:

قد يستغني المصدَّر للبضاعة عن الاعتماد الذي يطلب المستورِد فتحه لصالح المصدِّر عادةً ثقةً منه بالمستورد، وتعويلاً على وعده الشخصي بتسليم الثمن عند تسليم مستَندَات البضاعة. وفي هذه الحالة يقدِّم المصدِّر إلى مصرفه المستندات المتّفق عليها بينه وبين المستورد، ويتولّى البنك إرسال هذه المستندات إلى مراسله في بلد المستورد، ويطلب منه تسليم مستندات الشحن

١١٤

إلى المستورد مقابل دفع ثمن البضاعة، وعندما يسدّد المستورد يُخطر البنك المراسل بنكَ المصدِّر بما يفيد تحصيل القيمة وقيدها في الحساب الجاري له.

وهذه خدمة جائزة يقوم بها البنك بقصد تسهيل التبادل التجاري، ومؤدّاها توسّط البنك في إيصال مستندات الشحن إلى المستورد عن طريق مراسله في بلد ذلك المستورد وتسلّم الثمن عن طريق المراسل، ونظراً إلى أنّ الثمن الذي يتسلّمه المراسَل يدخل في الحساب الجاري لبنك المصدِّر لدى البنك المراسَل فهذا يعني أنّ بنك المصدّر يقرض هذا المبلغ ويودعه في حسابه الجاري لدى المراسَل، أي يقرضه للبنك المراسَل ثمّ يقوم بتسديد دَينه للمصدِّر بدفع قيمة الثمن إليه نقداً، أو إن شاءَ اكتفى بتقييده في حسابه الجاري باعتباره دَيناً للمصدِّر على البنك ؛ لأنّ كلّ دَينٍ للعميل على البنك يمكن أن ينشئ إيداعاً جديداً في الحساب الجاري.

وللبنك أن يأخذ عمولةً من المصدِّر لقاءَ قيامه بخدمة التوسّط في إيصال المستندات وتسلّم الثمن عن طريق مراسَله في الخارج، كما أنّ له أن يقيّد على المصدِّر ما تحمّله من نفقات، كأجرة البريد ونحوها ممّا يتطلّبه من التوسّط المذكور ؛ لأنّ هذا التوسط تمّ بأمر المصدِّر فيتحمّل ضمان ما أنفق لأجله.

كما أنّ البنك الذي يقوم بالتحصيل يتحمّل عادةً فائدةً من قبل البنك في بلد المصدِّر خلال الفترة من شحن البضاعة حتى تسليمها للمستورد، وهو يقوم بتحميلها بدوره على المستورد، وهذا جائز أيضاً ؛ لأنّ الفائدة التي يحمِلها بنك المصدِّر على البنك الذي يقوم بتحصيل الثمن، مهما كانت أسبابها غيرُ مشروعة، إنّما تفرض على البنك المحصّل لقيامه بالوساطة بين المصدّر والمستورد، فبإمكان البنك المحصّل أن يمتنع عن القيام بالتحصيل ما لم يلتزم المستورد بتحمّل تلك الفائدة ويتعهّد بتدارك ما تكبّده من خسارة.

١١٥

عمليات التحويل الداخلي:

إذا اتّفق أنّ شخصاً في بلدٍ أصبح مَديناً لشخصٍ في بلدٍ آخر فبإمكانه بدلاً عن إرسال شيكٍ إليه بالبريد مثلاً أن يستعمل طريقة الحوالة المصرفية، وهي عبارة عن أمرٍ كتابيٍّ يصدِّره العميل المَدين إلى البنك لدفع مبلغٍ من النقود إلى شخصٍ آخر في جهةٍ أخرى، فيتولّى البنك المأمور الاتّصال بفرعه أو مراسله في الجهة المحدّدة لتنفيذ أمر عمليه، ويتّصل الفرع أو البنك المحوَّل إليه حينئذٍ بالمستفيد طالباً منه الحضور إلى البنك لتسلّم قيمة الحوالة، أو يقوم البنك بنفسه بتقييد المبلغ في الحساب الجاري للمستفيد إذا كان هذا الحساب موجوداً وإرسال إشعارٍ بذلك إلى المستفيد.

ويمكن تكييف هذا التحويل من الناحية الفقهية على عدّة أوجه:

فأولاً: يمكن أن نفسِّر العملية بأنّها محاولة من العميل المحوِّل لاستيفاء دَينه الذي له ذمّة البنك، فبدلاً عن أن يطالبه بدفع قيمة الدَين إليه فوراً يطلب منه تسديد الدَين عن طريق دفع قيمته إلى المحوِّل إليه الدائن للمحوِّل ؛ لكي تبرأ بهذا الدفع ذمّة البنك تجاه المحوِّل وذمّة المحوِّل تجاه المحوَّل إليه.

وثانياً: يمكن أن نفسِّر العملية بأنّها محاولة من البنك المأمور بالتحويل لتسديد الدين الثابت للمحوَّل إليه على المحوِّل ؛ وذلك عن طريق الاتّصال بفرعه أو مراسله وأمره بدفع قيمة ذلك الدين، ونظراً إلى أنّ ذلك وقع بطلبٍ من الآمر بالتحويل المَدين فيصبح هذا الآمر ضامناً للبنك قيمة الدَين الذي سدّده عنه، وتحصل المقاصّة بين دَائنيّة البنك الآمر بالتحويل نتيجةً لتسديد دَينه ودائنيّة الآمر للبنك المتمثّلة في رصيده الدائن.

١١٦

وثالثاً: يمكن أن نفسِّر العملية بأنّها حوالة بالمعنى الفقهي(١) . فالآمر بالتحويل مَدين، والمستفيد من الحوالة دائن، فذاك يحيل هذا على البنك المأمور بالتحويل، فيصبح البنك بموجب هذه الحوالة مَديناً للمستفيد، وهو بدوره قد يحيل المستفيد على بنكٍ آخر مراسلٍ له في البلد الذي يقيم فيه المستفيد، فتتمّ بذلك حوالة ثانية يصبح بموجبها البنك المراسل مَديناً للمستفيد. وقد يكون للبنك الأوّل فرع يمثّله في بلد إقامة المستفيد فيتّصل به ويأمره بالدفع، ولا يكون هذا حوالةً ثانية ؛ لأنّ الفرع ممثّل للبنك المَدين، وليس له ذمّة أخرى ليحال عليها الدَين من جديد.

ورابعاً: يمكن أن نفسِّر العملية بأنّها حوالة بالمعنى الفقهي، ولكنّ المحوِّل ليس هو الآمر بالتحويل كما فرضنا في التفسير السابق، بل البنك المأمور بالتحويل نفسه بوصفه مَديناً للآمر بما له من رصيدٍ دائنٍ في ذلك البنك، فيحيله على مراسله في بلد إقامة المستفيد، فيصبح البنك المراسل هو المدين للآمر بالتحويل، فيقوم الآمر بالتحويل بدوره بإحالة دائنه المقيم في بلد البنك المراسل على ذلك البنك، ويكلِّف البنك الذي يتعامل معه بتبليغه ذلك.

والأكثر انسجاماً مع واقع العملية كما تجري فعلاً هو التفسير الثالث دون التفاسير الثلاثة الأخرى ؛ لأنّ التفسيرين الأوَّلَين لا يجعلان المستفيد من الآمر بالتحويل دائناً بالفعل للبنك المراسل، وإنّما هو مخوَّل في أخذ قيمة دينه منه، فلا يتاح له أن يأمره بترحيل القيمة إلى حسابه دون قبض، خلافاً للتفسير الثالث الذي تتمّ فيه دائنيّة المستفيد بمجرّد قبوله للتحويل.

____________________

(١) راجع الملحق (٦) للتوسّع من الناحية الفقهية في تبرير أخذ العمولة على تحصيل الشيك في هذه الحالة. (المؤلّف قدس‌سره ).

١١٧

كما أنّ التفسير الرابع لا ينطبق على حالة ما إذا كان المراسل للبنك المأمور بالتحويل فرعاً له؛ إذ في هذه الحالة لا معنى لأنْ يحوِّل البنك المأمور دائنه عليه. وعلى أيّ حالٍ فالعملية صحيحة وجائزة شرعاً.

أخذ العمولة على التحويل:

عرفنا سابقاً أنّ البنك يجوز له أن يتقاضى عمولةً على تحصيل قيمة الشيك المسحوب على بنكٍ آخر أو فرعٍ آخر، ولا يجوز أن يتقاضى عمولةً على تحصيل قيمة الشيك المسحوب على الرصيد الدائن للساحب في نفس البنك والفرع الذي يقوم بالتحصيل إلاّ في حالات اشتراطٍ معيّنة. ونريد أن نعرف الآن حكم العمولة على التحويل، فهل يجوز للبنك أن يتقاضى عمولةً من المحوِّل على التحويل ؟

والجواب بالإيجاب مهما كان التخريج الفقهي لعميلة التحويل.

وتفصيل ذلك : أنّ عملية التحويل إذا كانت تعني أنّ البنك يريد أن يسدّد الدَين الذي عليه للآمر بالتحويل عن طريق دفعه إلى دائنه - كما تقدّم في الوجه الأوّل من أوجه التكييف الفقهي للعملية - فهو يأخذ عمولةً لقاءَ تسديده للدَين في مكانٍ آخر غير مكان القرض الذي نشأ بينه وبين الآمر بالتحويل، فالبنك وإن كان مَديناً للآمر بالتحويل، والمَدين وإن كان ملزماً بتسديد دينه دون عوض، ولكنّه غير ملزم بالدفع في أيّ مكانٍ يقترحه الدائن، فإذا أراد الدائن منه أن يسدِّد دَينه في مكانٍ معيّنٍ غير المكان الطبيعي للوفاء كان من حقّ البنك أن يتقاضى عمولةً على ذلك.

وإذا كانت عملية التحويل تعني محاولة البنك المأمور لتسديد دين المستفيد على الآمر - كما مرّ في الوجه الثاني لتكييفها الفقهي - فمن الواضح أنّ هذه الخدمة

١١٨

يؤدّيها البنك لعميله ويتقاضى عليها عمولة، وقيمة هذه الخدمة هي عبارة عن قيمة المبلغ المدفوع وفاءً عن ذمّة الآمر بالتحويل زائداً قيمة دفعه في مكانٍ آخر لم يكن ليتيسّر للآمر بالتحويل الدفع فيه إلاّ بنفقات.

وإذا كانت عملية التحويل تقوم على أساس الحوالة، بأن يُحيل الآمر بالتحويل دائنَه الموجود في بلدٍ آخر على البنك كما مرَّ في الوجه الثالث للتكييف الفقهي، فالآمر بالتحويل:

إمّا أن يكون حسابه مع البنك على المكشوف.

وإمّا أن يكون له رصيد دائن يتمثّل في حسابٍ جارٍ مع البنك.

وإمّا أن يكون قد تقدّم الآن حين أراد التحويل بمبلغٍ من النقود ليسلّمها إلى البنك ويكلّفه بالتحويل.فإن كان حسابه على المكشوف، فالبنك بريء، والحوالة حوالة على بريء.

وإن كان له رصيد دائن سابق، فالبنك مَدين والحوالة على مَدين، وفي كلتا الحالتين يجوز للبنك أن يأخذ عمولةً حتى لو كان مَديناً ؛ لأنّه غير ملزمٍ بقبول الدفع في مكانٍ آخر، والحوالة على المدين لا تعني إلزامه بالدفع في مكانٍ معيّنٍ لم يفرضه عقد القرض الذي نشأت مَدينيّته على أساسه، فيأخذ البنك عمولةً لقاءَ الدفع في مكانٍ معيّن.

وأمّا إذا تقدّم الآمر بالتحويل بالمبلغ فعلاً إلى البنك، فهذا يعني أنّ عقد القرض سوف ينشأ فعلاً، ويصبح البنك بموجبه مديناً والآمر بالتحويل دائناً ؛ لكي يُتاح له توجيه الآمر إلى البنك، وفي هذه الحالة يمكن للبنك أن يشترط في عقد القرض على الآمر بالتحويل أن لا يحيل الآمر دائنه عليه إلاّ بإذنه، أو إلاّ إذا دفع إليه عمولةً معيّنة، وهو شرط سائغ ؛ لأنّه لمصلحة المَدين على الدائن، لا العكس.

١١٩

وأخيراً، إذا كانت عملية التحويل قائمةً على أساس الوجه الرابع في تكييفها، وهو أن البنك المأمور هو المحوّل لعملية الآمر باعتباره دائناً له على بنكٍ مراسلٍ له في بلدٍ آخر، فيجوز للبنك أن يأخذ العمولة وإن كان مديناً ؛ لأنّ المدين غير ملزمٍ بهذا النوع من الوفاء، بل يمكنه تسديد الدَين بدفعه نقداً، فإذا أراد الدائن منه هذا النوع الخاصّ من الوفاء أمكنه الامتناع ما لم تدفع إليه عمولة خاصّة(١) .

التحويل المقترن بدفع مبلغٍ من النقود:

تقدّم أنّ الآمر بالتحويل قد يكون له رصيد سابق لدى البنك المأمور بالتحويل، وقد ينشأ القرض بينهما فعلاً تمهيداً لإنجاز عملية التحويل ؛ بأن يدفع الآمر بالتحويل فعلاً قيمة التحويل نقداً إلى البنك ويأمره بالتحويل، فينشأ عقد القرض في هذه الحالة، وهو جائز كما تقدّم، ويجوز للبنك أن يأخذ عمولةً لقاءَ قبوله بالدفع في مكانٍ آخر، أو بحكم شرطٍ يدرجه في نفس عقد القرض يفرض فيه على الدائن أن لا يوجّه إليه تحويلاً إلاّ بإذنه.

التحويل لأمره:

قد يريد شخص أن يحصل على مبلغٍ من النقود في بلدةٍ أخرى، فيدفع إلى البنك في البلدة الأُولى قيمة المبلغ نقداً، ثمّ يتسلّمه في البلدة الأخرى من أحد فروع البنك أو من بنكٍ آخر مراسل.

____________________

(١) راجع للتوسّع في المناقشة الفقهية الملحق (٧) في آخر الكتاب. (المؤلّف قدس‌سره ).

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

و ظاهر بعض المفسّرين أنّ الأعمى الثاني في الآية تفيد معنى التفضيل حيث فسّره أنّه في الآخرة أشدّ عمى و أضلّ سبيلاً و السياق يساعده على ذلك.

( بحث روائي)

في أمالي الشيخ، بإسناده عن زيد بن عليّ عن أبيهعليه‌السلام : في قوله:( وَ لَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ‏ ) يقول: فضّلنا بني آدم على سائر الخلق( وَ حَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ ) يقول: على الرطب و اليابس( وَ رَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ ) يقول: من طيّبات الثمار كلّها( وَ فَضَّلْناهُمْ ) يقول: ليس من دابّة و لا طائر إلّا هي تأكل و تشرب بفيها لا ترفع يدها إلى فيها طعاماً و لا شراباً غير ابن آدم فإنّه يرفع إلى فيه بيده طعامه فهذا من التفضيل.

و في تفسير العيّاشيّ، عن جابر عن أبي جعفرعليه‌السلام :( وَ فَضَّلْناهُمْ عَلى‏ كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلًا ) قال: خلق كلّ شي‏ء منكبّاً غير الإنسان خلق منتصباً.

أقول: و ما في الروايتين من قبيل ذكر بعض المصاديق و الدليل عليه قوله في آخر الرواية الاُولى: فهذا من التفضيل.

و فيه، عن الفضيل قال: سألت أبا جعفرعليه‌السلام عن قول الله:( يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ ) قال: يجي‏ء رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في قومه، و عليّعليه‌السلام في قومه و الحسن في قومه و الحسين في قومه و كلّ من مات بين ظهرانيّ إمام جاء معه.

و في تفسير البرهان، عن ابن شهرآشوب عن الصادقعليه‌السلام : أ لا تحمدون الله؟ إنّه إذا كان يوم القيامة يدعى كلّ قوم إلى من يتولّونه، و فزعنا إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و فزعتم أنتم إلينا.

أقول: و رواه في المجمع، عنهعليه‌السلام ‏ و فيه دلالة على أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إمام الأئمّة كما أنّه شهيد الشهداء و أنّ حكم الدعوة بالإمام جار بين الأئمّة أنفسهم.

و في مجمع البيان، روى الخاصّ و العام عن عليّ بن موسى الرضاعليه‌السلام بالأسانيد الصحيحة أنّه روى عن آبائه عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال فيه: يدعى كلّ

١٨١

اُناس بإمام زمانهم و كتاب ربّهم و سنّة نبيّهم.

أقول: و رواه في تفسير البرهان، عن ابن شهرآشوب عنه عن آبائه عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بلفظه و قد أسنده أيضاً إلى رواية الخاصّ و العامّ.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن مردويه عن عليّ قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ ) قال: يدعى كلّ قوم بإمام زمانهم و كتاب ربّهم و سنّة نبيّهم.

و في تفسير العيّاشيّ، عن عمّار الساباطيّ عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: لا يترك الأرض بغير إمام يحلّ حلال الله و يحرّم حرامه، و هو قول الله:( يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ ) ثمّ قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من مات بغير إمام مات ميتة جاهليّة. الحديث.

أقول: و وجه الاحتجاج بالآية عموم الدعوة فيها لجميع الناس.

و فيه، عن إسماعيل بن همّام عن أبي عبداللهعليه‌السلام : في قول الله:( يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ ) قال: إذا كان يوم القيامة قال الله: أ ليس العدل من ربّكم أن يولّوا كلّ قوم من تولّوا؟ قالوا: بلى قال: فيقول: تميّزوا فيتميّزون.

أقول: و فيه تأييد لما قدّمنا أنّ المراد بالدعوة بالإمام إحضارهم معه دون النداء بالاسم، و الروايات في المعاني السابقة كثيرة.

و في تفسير القمّيّ: في قوله تعالى:( وَ لا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا ) قال: قال: الجلدة الّتي في ظهر النواة.

و في تفسير العيّاشيّ، عن المثنّى عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: سأله أبوبصير و أنا أسمع فقال له: رجل له مائة ألف فقال: العامّ أحجّ العامّ أحجّ حتّى يجيئه الموت فحجبه البلاء و لم يحجّ حجّ الإسلام فقال: يا با بصير أ و ما سمعت قول الله:( مَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى‏ فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى‏ وَ أَضَلُّ سَبِيلًا ) ؟ عمي عن فريضة من فرائض الله.

١٨٢

( سورة الإسراء الآيات ٧٣ - ٨١)

وَإِن كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ  وَإِذًا لَّاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا ( ٧٣ ) وَلَوْلَا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا ( ٧٤ ) إِذًا لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا ( ٧٥ ) وَإِن كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا  وَإِذًا لَّا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا ( ٧٦ ) سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا  وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا ( ٧٧ ) أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَىٰ غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ  إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا ( ٧٨ ) وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَىٰ أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا ( ٧٩ ) وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَل لِّي مِن لَّدُنكَ سُلْطَانًا نَّصِيرًا ( ٨٠ ) وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ  إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا ( ٨١ )

( بيان‏)

تذكر الآيات بعض مكر المشركين بالقرآن و بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - بعد ما ذمّتهم على تماديهم في إنكار التوحيد و المعاد و احتجّت عليهم في ذلك - حيث أرادوا أن يفتنوا النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن بعض ما اُوحي إليه ليداهنهم فيه بعض المداهنة، و أرادوا أن يخرجوه من مكّة.

و قد أوعد الله النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أشدّ الوعيد إن مال إلى الركون إليهم بعض

١٨٣

الميل، و أوعدهم أن أخرجوا النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالهلاك.

و في الآيات إيصاء النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالصلوات و الالتجاء بربّه في مدخله و مخرجه و إعلام ظهور الحقّ.

قوله تعالى: ( وَ إِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَ إِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا ) إن مخفّفة بدليل اللّام في( لَيَفْتِنُونَكَ ) و الفتنة الإزلال و الصرف، و الخليل من الخلّة بمعنى الصداقة و ربّما قيل: هو من الخلّة بمعنى الحاجة و هو بعيد.

و ظاهر السياق أنّ المراد بالذي أوحينا إليك القرآن بما يشتمل عليه من التوحيد و نفي الشريك و السيرة الصالحة و هذا يؤيّد ما ورد في بعض أسباب النزول أنّ المشركين سألوا النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يكفّ عن ذكر آلهتهم بسوء و يبعّد عن نفسه عبيدهم المؤمنين به و السقاط حتّى يجالسوه و يسمعوا منه فنزلت الآيات.

و المعنى: و إنّ المشركين اقتربوا أن يزلّوك و يصرفوك عمّا أوحينا إليك لتتّخذ من السيرة و العمل ما يخالفه فيكون في ذلك افتراء علينا لانتسابه بعملك إلينا و إذا لاتّخذوك صديقاً.

قوله تعالى: ( وَ لَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا ) التثبيت - كما يفيده السياق - هو العصمة الإلهيّة و جعل جواب لو لا قوله:( لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ ) دون نفس الركون و الركون هو الميل أو أدنى الميل كما قيل دليل على أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يركن و لم يكد، و يؤكّده إضافة الركون إليهم دون إجابتهم إلى ما سألوه.

و المعنى: و لو لا أن ثبّتناك بعصمتنا دنوت من أن تميل إليهم قليلاً لكنّا ثبّتناك فلم تدن من أدنى الميل إليهم فضلاً من أن تجيبهم إلى ما سألوا فهوصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يجبهم إلى ما سألوا و لا مال إليهم شيئاً قليلاً و لا كاد أن يميل.

قوله تعالى: ( إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَ ضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً ) سياق الآية سياق توعّد فالمراد بضعف الحياة و الممات المضاعف من عذاب

١٨٤

الحياة و الممات، و المعنى لو قارنت أن تميل إليهم بعض الميل لأذقناك الضعف من العذاب الّذي نعذّب به المجرمين في حياتهم و الضعف ممّا نعذّبهم به في مماتهم أي ضعف عذاب الدنيا و الآخرة.

و نقل في المجمع، عن أبان بن تغلب أنّ المراد بالضعف العذاب المضاعف ألمه و المعنى لأذقناك عذاب الدنيا و عذاب الآخرة، و أنشد قول الشاعر:

لمقتل مالك إذ بان منّي

أبيت الليل في ضعف أليم

أي في عذاب أليم.

و ما في ذيل الآية من قوله:( ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً ) تشديد في الإيعاد أي إنّ العذاب واقع حينئذ لا مخلص منه.

قوله تعالى: ( وَ إِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها وَ إِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلَّا قَلِيلًا ) الاستفزاز الإزعاج و التحريك بخفّة و سهولة، و اللّام في( الْأَرْضِ ) للعهد و المراد بها مكّة، و الخلاف بمعنى بعد، و المراد بالقليل اليسير من الزمان.

و المعنى و إنّ المشركين قاربوا أن يزعجوك من أرض مكّة لإخراجك منها و لو كان منهم و خرجت منها لم يمكثوا بعدك فيها إلّا قليلاً فهم هالكون لا محالة.

و قيل: هؤلاء الّذين كادوا يستفزّونه هم اليهود أرادوا أن يخرجوه من المدينة و قيل: المراد المشركون و اليهود أرادوا جميعاً أن يخرجوه من أرض العرب.

و يبعّد ذلك أنّ السورة مكّيّة و الآيات ذات سياق واحد و ابتلاء النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم باليهود إنّما كان بالمدينة بعد الهجرة.

قوله تعالى: ( سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا وَ لا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلًا ) التحويل نقل الشي‏ء من حال، إلى حال، و قوله:( سُنَّةَ ) أي كسنّة من قد أرسلنا و هو متعلّق بقوله:( لا يَلْبَثُونَ ) أي لا يلبثون بعدك إلّا قليلاً كسنّة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا.

و هذه السنّة و هي إهلاك المشركين الّذين أخرجوا رسولهم من بلادهم و

١٨٥

طردوه من بينهم سنّة لله سبحانه، و إنّما نسبها إلى رسله لأنّها مسنونة لأجلهم بدليل قوله بعد:( وَ لا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلًا ) و قد قال تعالى:( وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا فَأَوْحى‏ إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ ) إبراهيم: ١٣.

و المعنى: و إذا نهلكهم لسنّتنا الّتي سننّاها لأجل من قد أرسلنا قبلك من رسلنا و أجريناها و لست تجد لسنّتنا تحويلاً و تبديلاً.

قوله تعالى: ( أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى‏ غَسَقِ اللَّيْلِ وَ قُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً ) قال في مجمع البيان: الدلوك الزوال، و قال المبرّد: دلوك الشمس من لدن زوالها إلى غروبها، و قيل: هو الغروب و أصله من الدلك فسمّي الزوال دلوكاً لأنّ الناظر إليها يدلك عينيه لشدّة شعاعها، و سمّي الغروب دلوكاً لأنّ الناظر يدلك عينيه ليثبتها. انتهى.

و قال فيه: غسق الليل ظهور ظلامه يقال: غسقت القرحة إذا انفجرت فظهر ما فيها. انتهى، و في المفردات،: غسق الليل شدّة ظلمته. انتهى.

و قد اختلف المفسّرون في تفسير صدر الآية و المرويّ عن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام من طرق الشيعة تفسير دلوك الشمس بزوالها و غسق الليل بمنتصفه، و سيجي‏ء الإشارة إلى الروايات في البحث الروائيّ الآتي إن شاء الله.

و عليه فالآية تشمل من الوقت ما بين زوال الشمس و منتصف الليل، و الواقع في هذا المقدار من الوقت من الفرائض اليوميّة أربع صلاة الظهر و العصر و المغرب و العشاء الآخرة. و بانضمام صلاة الصبح المدلول عليها بقوله:( وَ قُرْآنَ الْفَجْرِ ) إلخ إليها تتمّ الصلوات الخمس اليوميّة.

و قوله:( وَ قُرْآنَ الْفَجْرِ ) معطوف على الصلاة أي و أقم قرآن الفجر و المراد به صلاة الصبح لما تشتمل عليه من القرائة و قد اتّفقت الروايات على أنّ صلاة الصبح هي المراد بقرآن الفجر.

و كذا اتّفقت الروايات من طرق الفريقين على تفسير قوله ذيلاً:( إِنَّ

١٨٦

قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً ) بأنّه يشهده ملائكة الليل و ملائكة النهار، و سنشير إلى بعض هذه الروايات عن قريب إن شاء الله.

قوله تعالى: ( وَ مِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى‏ أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً ) التهجّد من الهجود و هو النوم في الأصل و معنى التهجّد التيقّظ و السهر بعد النوم على ما ذكره غير واحد منهم، و الضمير في( بِهِ ) للقرآن أو للبعض المفهوم من قوله:( وَ مِنَ اللَّيْلِ ) و النافلة من النفل و هو الزيادة، و ربّما قيل: إنّ قوله:( وَ مِنَ اللَّيْلِ ) من قبيل الإغراء نظير قولنا: عليك بالليل، و الفاء في قوله:( فَتَهَجَّدْ بِهِ ) نظير قوله:( فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ ) النحل: ٥١.

و المعنى: و أسهر بعض الليل بعد نومتك بالقرآن - و هو الصلاة - حال كونها صلاة زائدة لك على الفريضة.

و قوله:( عَسى‏ أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً ) من الممكن أن يكون المقام مصدراً ميميّاً و هو البعث فيكون مفعولاً مطلقاً ليبعثك من غير لفظه، و المعنى عسى أن يبعثك ربّك بعثاً محموداً، و من الممكن أن يكون اسم مكان و البعث بمعنى الإقامة أو مضمّنا معنى الإعطاء و نحوه، و المعنى عسى أن يقيمك ربّك في مقام محمود أو يبعثك معطياً لك مقاماً محموداً أو يعطيك باعثاً مقاماً محموداً.

و قد وصف سبحانه مقامه بأنّه محمود و أطلق القول من غير تقييد و هو يفيد أنّه مقام يحمده الكلّ و لا يثني عليه الكلّ إلّا إذا استحسنه الكلّ و انتفع به الجميع و لذا فسّروا المقام المحمود بأنّه المقام الّذي يحمده عليه جميع الخلائق و هو مقام الشفاعة الكبرى لهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم القيامة و قد اتّفقت على هذا التفسير الروايات من طرق الفريقين عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام .

قوله تعالى: ( وَ قُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَ أَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَ اجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً ) المدخل بضمّ الميم و فتح الخاء مصدر ميميّ بمعنى الإدخال و نظيره المخرج بمعنى الإخراج، و العناية في إضافة الإدخال و الإخراج إلى الصدق أن يكون الدخول و الخروج في كلّ أمر منعوتا بالصدق

١٨٧

جاريا على الحقيقة من غير أن يخالف ظاهره باطنه أو يضادّ بعض أجزائه بعضاً كأن يدعو الإنسان بلسانه إلى الله و هو يريد بقلبه أن يسود الناس أو يخلص في بعض دعوته لله و يشرك في بعضها غيره.

و بالجملة هو أن يرى الصدق في كلّ مدخل منه و مخرج و يستوعب وجوده فيقول ما يفعل و يفعل ما يقول و لا يقول و لا يفعل إلّا ما يراه و يعتقد به، و هذا مقام الصدّيقين. و يرجع المعنى إلى نحو قولنا: اللّهمّ تولّ أمري كما تتولّى أمر الصدّيقين.

و قوله:( وَ اجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً ) أي سلطنة بنصرتي على ما أهمّ به من الاُمور و أشتغل به من الأعمال فلا اُغلب في دعوتي بحجّة باطلة، و لا أفتتن بفتنة أو مكر يمكرني به أعداؤك و لا أضلّ بنزغ شيطان و وسوسته.

و الآية - كما ترى - مطلقة تأمر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يسأل ربّه أن يتولّى أمره في كلّ مدخل و مخرج بالصدق و يجعل له سلطاناً من عنده ينصره فلا يزيغ في حقّ و لا يظهر بباطل فلا وجه لما ذكره بعض المفسّرين أنّ المراد بالدخول و الخروج دخول المدينة بالهجرة و الخروج منها إلى مكّة للفتح أو أنّ المراد بهما دخول القبر بالموت و الخروج منه بالبعث.

نعم لمّا كانت الآية بعد قوله:( وَ إِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ ) ( وَ إِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ ) و في سياقهما، لوّحت إلى أمرهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يلتجئ إلى ربّه في كلّ أمر يهمّ به أو يشتغل به من اُمور الدعوة، و في الدخول و الخروج في كلّ مكان يسكنه أو يدخله أو يخرج منه و هو ظاهر.

قوله تعالى: ( وَ قُلْ جاءَ الْحَقُّ وَ زَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً ) قال في المجمع: الزهوق هو الهلاك و البطلان يقال: زهقت نفسه إذا خرجت فكأنّها قد خرجت إلى الهلاك. انتهى و المعنى ظاهر.

و في الآية أمرهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بإعلام ظهور الحقّ و هو لوقوع الآية في سياق ما مرّ من قوله:( و إن كادوا ليفتنونك) إلى آخر الآيات أمر بإياس المشركين من نفسه و تنبيههم أن يوقنوا أن لا مطمع لهم فيهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

١٨٨

و في الآية دلالة على أنّ الباطل لا دوام له كما قال تعالى في موضع آخر:( وَ مَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ ) إبراهيم: ٢٦.

( بحث روائي‏)

في المجمع: في سبب نزول قوله تعالى:( وَ إِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ) الآيات أنّهم قالوا له: كفّ عن شتم آلهتنا و تسفيه أحلامنا و اطرد هؤلاء العبيد و السقاط الّذين رائحتهم رائحة الصنان حتّى نجالسك و نسمع منك فطمع في إسلامهم فنزلت الآية.

أقول: و روي في الدرّ المنثور، عن ابن أبي حاتم عن سعيد بن نفير ما يقرب منه.

و أمّا ما روي عن ابن عبّاس: أنّ اُميّة بن خلف و أباجهل بن هشام و رجالاً من قريش أتوا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالوا: تعال فاستلم آلهتنا و ندخل معك في دينك و كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يشتدّ عليه فراق قومه و يحبّ إسلامهم فرقّ لهم فأنزل الله:( وَ إِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ - إلى قوله -نَصِيراً ) فلا يلائم ظاهر الآيات حيث تنفي عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يقارب الركون فضلاً عن الركون.

و كذا ما رواه الطبريّ و ابن مردويه عن ابن عبّاس: أنّ ثقيفاً قالوا للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أجّلنا سنة حتّى يهدي لآلهتنا فإذا قبضنا الّذي يهدي للآلهة أحرزناه ثمّ أسلمنا و كسرنا الآلهة فهمّ أن يؤجّلهم فنزلت:( وَ إِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ ) الآية.

و كذا ما في تفسير العيّاشيّ، عن أبي يعقوب عن أبي عبداللهعليه‌السلام :في الآية قال: لمّا كان يوم الفتح أخرج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أصناماً من المسجد و كان منها صنم على المروة فطلبت إليه قريش أن يتركه و كان مستحيا ثمّ أمر بكسره فنزلت هذه الآية.

و نظيرهما أخبار اُخر تقرب منها معنى فهذه روايات لا تلائم ظاهر الكتاب و حاشا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يهمّ بمثل هذه البدع و الله سبحانه ينفي عنه المقارنة من

١٨٩

الركون و الميل اليسير فضلا أن يهمّ بالعمل.

على أنّ هذه القضايا من الحوادث الواقعة بعد الهجرة و السورة مكّيّة.

و في العيون، بإسناده عن عليّ بن محمّد بن الجهم عن أبي الحسن الرضاعليه‌السلام : ممّا سأله المأمون فقال له: أخبرني عن قول الله:( عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ ) قال الرضاعليه‌السلام هذا ممّا نزل بإيّاك أعني و اسمعي يا جارة خاطب الله بذلك نبيّه و أراد به اُمّته، و كذلك قوله:( لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ ) و قوله تعالى:( وَ لَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا ) قال: صدقت يا بن رسول الله.

و في المجمع، عن ابن عبّاس: في قوله تعالى:( إِذاً لَأَذَقْناكَ ) الآية قال: إنّه لمّا نزلت هذه الآية قال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اللّهمّ لا تكلني إلى نفسي طرفة عين أبداً.

و في تفسير العيّاشيّ، عن سعيد بن المسيّب عن عليّ بن الحسينعليه‌السلام قال: قلت له: متى فرضت الصلاة على المسلمين على ما هم اليوم عليه؟ قال: بالمدينة حين ظهرت الدعوة و قوي الإسلام فكتب الله على المسلمين الجهاد، و زاد في الصلاة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سبع ركعات في الظهر ركعتين، و في العصر ركعتين، و في المغرب ركعة، و في العشاء ركعتين، و أقرّ الفجر على ما فرضت عليه بمكّة لتعجيل نزول ملائكة النهار إلى الأرض و تعجيل عروج ملائكة الليل إلى السماء فكان ملائكة الليل و ملائكة النهار يشهدون مع رسول الله الفجر فلذلك قال الله:( وَ قُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً ) يشهد المسلمون و يشهد ملائكة الليل و النهار.

و في المجمع: في قوله تعالى:( أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى‏ غَسَقِ اللَّيْلِ وَ قُرْآنَ الْفَجْرِ ) قال: ففي الآية بيان وجوب الصلوات الخمس و بيان أوقاتها و يؤيّد ذلك ما رواه العيّاشيّ بالإسناد عن عبيدة بن زرارة عن أبي عبداللهعليه‌السلام في هذه الآية.

قال: إنّ الله افترض أربع صلوات أوّل وقتها من زوال الشمس إلى انتصاف الليل منها صلاتان أوّل وقتهما من عند زوال الشمس إلى غروبها إلّا أنّ هذه قبل

١٩٠

هذه، و منها صلاتان أوّل وقتهما من غروب الشمس إلى انتصاف الليل إلّا أنّ هذه قبل هذه.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن جرير عن ابن مسعود قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أتاني جبريل لدلوك الشمس حين زالت فصلّى بي الظهر.

و فيه، أخرج الحكيم الترمذيّ في نوادر الاُصول و ابن جرير و الطبرانيّ و ابن مردويه عن أبي الدرداء قال: قرأ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ( إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً ) قال: يشهده الله و ملائكة الليل و ملائكة النهار.

أقول: تفسير كون قرآن الفجر مشهوداً في روايات الفريقين بشهادة ملائكة الليل و ملائكة النهار يكاد يبلغ حدّ التواتر، و قد اُضيف إلى ذلك في بعضها شهادة الله كما في هذه الرواية، و في بعضها شهادة المسلمين كما فيما تقدّم.

و في تفسير العيّاشيّ، عن عبيد بن زرارة قال: سئل أبوعبداللهعليه‌السلام عن المؤمن هل له شفاعة؟ قال: نعم فقال له رجل من القوم: هل يحتاج المؤمن إلى شفاعة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟ قال: نعم للمؤمنين خطايا و ذنوب و ما من أحد إلّا و يحتاج إلى شفاعة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يومئذ.

قال: و سأله رجل عن قول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنا سيّد ولد آدم و لا فخر قال: نعم يأخذ حلقة من باب الجنّة فيفتحها فيخرّ ساجداً فيقول: الله: ارفع رأسك اشفع تشفّع اطلب تعط فيرفع رأسه ثمّ يخرّ ساجداً فيقول الله: ارفع رأسك اشفع تشفّع و اطلب تعط ثمّ يرفع رأسه فيشفع يشفّع (فيشفّع) و يطلب فيعطى.

و فيه، عن سماعة بن مهران عن أبي إبراهيمعليه‌السلام : في قول الله:( عَسى‏ أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً ) قال: يقوم الناس يوم القيامة مقدار أربعين يوماً و تؤمر الشمس فنزلت على رؤس العباد و يلجم العرق و تؤمر الأرض لا تقبل من عرقهم شيئاً فيأتون آدم فيشفعون له فيدلّهم على نوح و يدلّهم نوح على إبراهيم، و يدلّهم إبراهيم على موسى و يدلّهم موسى على عيسى، و يدلّهم عيسى على محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيقول: عليكم بمحمّد خاتم النبيّين، فيقول محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنا لها.

١٩١

فينطلق حتّى يأتي باب الجنّة فيدقّ فيقال له: من هذا؟ و الله أعلم فيقول محمّد: افتحوا فإذا فتح الباب استقبل ربّه فخرّ ساجداً فلا يرفع رأسه حتّى يقال له تكلّم و سل تعط و اشفع تشفّع فيرفع رأسه فيستقبل ربّه فيخرّ ساجداً فيقال له مثلها فيرفع رأسه حتّى أنّه ليشفع من قد اُحرق بالنار فما أحد من الناس يوم القيامة في جميع الاُمم أوجه من محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و هو قول الله تعالى:( عَسى‏ أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً ) .

أقول: و قوله:( حتى أنّه ليشفع من قد اُحرق بالنار) أي بعض من اُدخل النار، و في معنى هذه الرواية عدّة روايات من طرق أهل السنّة عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

و في الدرّ المنثور، أخرج البخاريّ و ابن جرير و ابن مردويه عن ابن عمر قال: سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول: إنّ الشمس لتدنو حتّى يبلغ العرق نصف الاُذن فبينما هم كذلك استغاثوا بآدمعليه‌السلام فيقول: لست بصاحب ذلك ثمّ موسىعليه‌السلام فيقول مثل ذلك ثمّ محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيشفع فيقضي الله بين الخلائق فيمشي حتّى يأخذ بحلقة باب الجنّة فيومئذ يبعثه الله مقاماً.

و فيه، أخرج ابن جرير و البيهقيّ في شعب الإيمان عن أبي هريرة أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: المقام المحمود الشفاعة.

و فيه، أخرج ابن مردويه عن سعد بن أبي الوقّاص قال: سئل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن المقام المحمود فقال: هو الشفاعة.

أقول: و الروايات في المضامين السابقة كثيرة.

١٩٢

( سورة الإسراء الآيات ٨٢ - ١٠٠)

وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ  وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا ( ٨٢ ) وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَىٰ بِجَانِبِهِ  وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا ( ٨٣ ) قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَىٰ شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَىٰ سَبِيلًا ( ٨٤ ) وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ  قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا ( ٨٥ ) وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا ( ٨٦ ) إِلَّا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ  إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا ( ٨٧ ) قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَىٰ أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَٰذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ( ٨٨ ) وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَٰذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَىٰ أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا ( ٨٩ ) وَقَالُوا لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنبُوعًا ( ٩٠ ) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا ( ٩١ ) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا ( ٩٢ ) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَىٰ فِي السَّمَاءِ وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّىٰ تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَؤُهُ  قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلَّا بَشَرًا رَّسُولًا ( ٩٣ ) وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَىٰ إِلَّا أَن قَالُوا أَبَعَثَ اللهُ بَشَرًا رَّسُولًا ( ٩٤ ) قُل لَّوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ

١٩٣

لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَّسُولًا( ٩٥) قُلْ كَفَىٰ بِاللهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ  إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا( ٩٦) وَمَن يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ  وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِهِ  وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَىٰ وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا  مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ  كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا( ٩٧) ذَٰلِكَ جَزَاؤُهُم بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا( ٩٨) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَىٰ أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لَّا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُورًا( ٩٩) قُل لَّوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَّأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنفَاقِ وَكَانَ الْإِنسَانُ قَتُورًا( ١٠٠)

( بيان‏)

رجوع بعد رجوع إلى حديث القرآن و كونه آية للنبوّة و ما يصحبه من الرحمة و البركة، و قد افتتح الكلام فيه بقوله فيما تقدّم:( إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ) ثمّ رجع إليه بقوله:( وَ لَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا ) إلخ و قوله:( وَ إِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ ) إلخ و قوله:( وَ ما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ ) إلخ.

فبيّن في هذه الآيات أنّ القرآن شفاء و رحمة و بعبارة اُخرى مصلح لمن صلحت نفسه و مخسر للظالمين و أنّه آية معجزة للنبوّة ثمّ ذكر ما كانوا يقترحونه على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الآيات و الجواب عنه و ما يلحق بذلك من الكلام.

١٩٤

و في الآيات ذكر سؤالهم عن الروح و الجواب عنه.

قوله تعالى: ( وَ نُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَ رَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ لا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً ) من بيانيّة تبيّن الموصول أعني قوله:( ما هُوَ شِفاءٌ ) إلخ أي و ننزّل ما هو شفاء و رحمة و هو القرآن.

و عدّ القرآن شفاء و الشفاء إنّما يكون عن مرض دليل على أنّ للقلوب أحوالاً نسبة القرآن إليها نسبة الدواء الشافي إلى المرض، و هو المستفاد من كلامه سبحانه حيث ذكر أنّ الدين الحقّ فطريّ للإنسان فكما أنّ للبنية الإنسانيّة الّتي سوّيت على الخلقة الأصليّة قبل أن يلحق بها أحوال منافية و آثار مغايرة للتسوية الأوّليّة استقامة طبيعيّة تجري عليها في أطوار الحياة كذلك لها بحسب الخلقة الأصليّة عقائد حقّة في المبدإ و المعاد و ما يتفرّع عليهما من اُصول المعارف، و أخلاق فاضلة زاكية تلائمها و يترتّب عليها من الأحوال و الأعمال ما يناسبها.

فللإنسان صحّة و استقامة روحيّة معنويّة كما أنّ له صحّة و استقامة جسميّة صوريّة، و له أمراض و أدواء روحيّة باختلال أمر الصحّة الروحيّة كما أنّ له أمراضاً و أدواء جسميّة باختلال أمر الصحّة الجسميّة و لكلّ داء دواء و لكلّ مرض شفاء.

و قد ذكر الله سبحانه في اُناس من المؤمنين أنّ في قلوبهم مرضا و هو غير الكفر و النفاق الصريحين كما يدلّ عليه قوله:( لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَ الْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ) الأحزاب: ٦٠ و قوله:( وَ لِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَ الْكافِرُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلًا ) المدّثّر: ٣١.

و ليس هذا المسمّى مرضاً إلّا ما يختلّ به ثبات القلب و استقامة النفس من أنواع الشكّ و الريب الموجبة لاضطراب الباطن و تزلزل السرّ و الميل إلى الباطل و اتّباع الهوى ممّا يجامع إيمان عامّة المؤمنين من أهل أدنى مراتب الإيمان و ممّا هو معدود نقصاً و شركاً بالإضافة إلى مراتب الإيمان العالية، و قد قال تعالى:( وَ ما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَ هُمْ مُشْرِكُونَ ) يوسف: ١٠٦ و قال:( فَلا وَ رَبِّكَ

١٩٥

لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَ يُسَلِّمُوا تَسْلِيماً ) النساء: ٦٥.

و القرآن الكريم يزيل بحججه القاطعة و براهينه الساطعة أنواع الشكوك و الشبهات المعترضة في طريق العقائد الحقّة و المعارف الحقيقيّة و يدفع بمواعظه الشافية و ما فيه من القصص و العبر و الأمثال و الوعد و الوعيد و الإنذار و التبشير و الأحكام و الشرائع عاهات الأفئدة و آفاتها فالقرآن شفاء للمؤمنين.

و أمّا كونه رحمة للمؤمنين - و الرحمة إفاضة ما يتمّ به النقص و يرتفع به الحاجة - فلأنّ القرآن ينوّر القلوب بنور العلم و اليقين بعد ما يزيل عنها ظلمات الجهل و العمى و الشكّ و الريب و يحلّيها بالملكات الفاضلة و الحالات الشريفة الزاكية بعد ما يغسل عنها أوساخ الهيآت الرديّة و الصفات الخسيسة.

فهو بما أنّه شفاء يزيل عنها أنواع الأمراض و الأدواء، و بما أنّه رحمة يعيد إليها ما افتقدته من الصحّة و الاستقامة الأصليّة الفطريّة فهو بكونه شفاء يطهر المحلّ من الموانع المضادّة للسعادة و يهيّئها لقبولها، و بكونه رحمة يلبسه لباس السعادة و ينعم عليه بنعمة الاستقامة.

فالقرآن شفاء و رحمة للقلوب المريضة كما أنّه هدى و رحمة للنفوس غير الأمنة من الضلال، و بذلك يظهر النكتة في ترتّب الرحمة على الشفاء في قوله:( ما هُوَ شِفاءٌ وَ رَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ) فهو كقوله:( هُدىً وَ رَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) يوسف: ١١١ و قوله:( وَ مَغْفِرَةً وَ رَحْمَةً ) النساء: ٩٦.

فمعنى قوله:( وَ نُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَ رَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ) و ننزّل إليك أمراً يشفي أمراض القلوب و يزيلها و يعيد إليها حالة الصحّة و الاستقامة فتتمتّع من نعمة السعادة و الكرامة.

و قوله:( وَ لا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً ) السياق دالّ على أنّ المراد به بيان ما للقرآن من الأثر في غير المؤمنين قبال ما له من الأثر الجميل في المؤمنين فالمراد بالظالمين غير المؤمنين و هم الكفار دون المشركين خاصّة كما يظهر من بعض المفسّرين

١٩٦

و إنّما علّق الحكم بالوصف أعني الظلم ليشعر بالتعليل أي إنّ القرآن إنّما يزيدهم خساراً لمكان ظلمهم بالكفر.

و الخسار هو النقص في رأس المال فللكفّار رأس مال بحسب الأصل و هو الدين الفطريّ تلهم به نفوسهم الساذجة ثمّ إنّهم بكفرهم بالله و آياته خسروا فيه و نقصوا. ثمّ إنّ كفرهم بالقرآن و إعراضهم عنه بظلمهم يزيدهم خساراً على خسار و نقصا على نقص إن كانت عندهم بقيّة من موهبة الفطرة، و إلى هذه النكتة يشير سياق النفي و الاستثناء حيث قيل:( وَ لا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً ) و لم يقل: و يزيد الظالمين خسارا.

و به يظهر أنّ محصّل معنى الآية أنّ القرآن يزيد المؤمنين صحّة و استقامة على صحّتهم و استقامتهم بالإيمان و سعادة على سعادتهم و إن زاد الكافرين شيئاً فإنّما يزيدهم نقصاً و خساراً.

و للمفسّرين في معنى صدر الآية و ذيلها وجوه اُخر أغمضنا عنها من أراد الوقوف عليها فليراجع مسفوراتهم.

و ممّا ذكروه فيها أنّ المراد بالشفاء في الآية أعمّ من شفاء الأمراض الروحيّة من الجهل و الشبهة و الريب و الملكات النفسانيّة الرذيلة و شفاء الأمراض الجسميّة بالتبرّك بآياته الكريمة قراءة و كتابة هذا.

و لا بأس به لكن لو صحّ التعميم فليصحّ في الصدر و الذيل جميعاً فإنّه كما يستعان به على دفع الأمراض و العاهات بقراءة أو كتابة كذلك يستعان به على دفع الأعداء و رفع ظلم الظالمين و إبطال كيد الكافرين فيزيد بذلك الظالمين خساراً كما يفيد المؤمنين شفاء هذا، و نسبة زيادة خسارهم إلى القرآن مع أنّها مستندة بالحقيقة إلى سوء اختيارهم و شقاء أنفسهم إنّما هي بنوع من المجاز.

قوله تعالى: ( وَ إِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَ نَأى‏ بِجانِبِهِ وَ إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ كانَ يَؤُساً ) قال في المفردات: العرض خلاف الطول و أصله أن يقال في الأجسام ثمّ يستعمل في غيرها - إلى أن قال - و أعرض أظهر عرضه أي ناحيته فإذا قيل: أعرض

١٩٧

لي كذا أي بدا عرضه فأمكن تناوله، و إذا قيل: أعرض عنّي فمعناه ولّى مبدياً عرضه. انتهى موضع الحاجة.

و النأي البعد و نأى بجانبه أي اتّخذ لنفسه جهة بعيدة منّا، و مجموع قوله:( أَعْرَضَ وَ نَأى‏ بِجانِبِهِ ) يمثّل حال الإنسان في تباعده و انقطاعه من ربّه عند ما ينعم عليه. كمن يحوّل وجهه عن صاحبه و يتّخذ لنفسه موقفاً بعيداً منه، و ربّما ذكر بعض المفسّرين أنّ قوله:( نَأى‏ بِجانِبِهِ ) كناية عن الاستكبار و الاستعلاء.

و قوله:( وَ إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ كانَ يَؤُساً ) أي و إذا أصابه الشرّ أصابة خفيفة كالمسّ كان آيسا منقطع الرجاء عن الخير و هو النعمة، و لم ينسب الشرّ إليه تعالى كما نسب النعمة تنزيها له تعالى من أن يسند إليه الشرّ، و لأنّ وجود الشرّ أمر نسبيّ لا نفسيّ فما يتحقّق من الشرّ في العالم كالموت و المرض و الفقر و النقص و غير ذلك إنّما هو شرّ بالنسبة إلى مورده، و أمّا بالنسبة إلى غيره و خاصّة النظام العامّ الجاري في الكون فهو من الخير الّذي لا مناص عنه في التدبير الكلّيّ فما كان من الخير فهو ممّا تعلّقت به بعينه العناية الإلهيّة و هو مراد بالذات، و ما كان من الشرّ فهو ممّا تعلّقت به العناية لغيره و هو مقضيّ بالعرض.

فالمعنى إنّا إذا أنعمنا على الإنسان هذا الموجود الواقع في مجرى الأسباب اشتغل بظواهر الأسباب و أخلد إليها فنسينا فلم يذكرنا و لم يشكرنا، و إذا ناله شي‏ء يسير من الشرّ فسلب منه الخير و زالت عنه أسبابه و رأى ذلك كان شديد اليأس من الخير لكونه متعلّقاً بأسبابه و هو يرى بطلان أسبابه و لا يرى لربّه في ذلك صنعاً.

و الآية تصف حال الإنسان العاديّ الواقع في المجتمع الحيويّ الّذي يحكم فيه العرف و العادة فهو إذا توالت عليه النعم الإلهيّة من المال و الجاه و البنين و غيرها و وافقته على ذلك الأسباب الظاهريّة اشتغل بها و تعلّق قلبه بها فلم تدع له فراغاً يشتغل فيه بذكر ربّه و شكره بما أنعم عليه، و إذا مسّه الشرّ و سلب عنه بعض النعم الموهوبة أيس من الخير و لم يتسلّ بالرجاء لأنّه لا يرى للخير إلّا الأسباب الظاهرية الّتي لا يجد وقتئذ شيئاً منها في الوجود.

١٩٨

و هذه الحال غير حال الإنسان الفطريّ غير المشوب ذهنه بالرسوم و الآداب و لا الحاكم فيه العرف و العادة إمّا بتأييد إلهيّ يلازمه و يسدّده و إمّا بعروض اضطرار ينسيه الأسباب الظاهريّة فيرجع إلى سذاجة فطرته و يدعو ربّه و يسأله كشف ضرّه فللإنسان حالان حال فطريّة تهديه إلى الرجوع إلى ربّه عند مسّ الضرّ و نزول الشرّ و حال عاديّة تحوّل فيها الأسباب بينه و بين ربّه فتشغله و تصرفه عن الرجوع إليه بالذكر و الشكر، و الآية تصف حاله الثانية دون الاُولى.

و من هنا يظهر أن لا منافاة بين هذه الآية و الآيات الدالّة على أنّ الإنسان إذا مسّه الضرّ رجع إلى ربّه كقوله تعالى فيما تقدّم:( وَ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ ) الآية و قوله:( وَ إِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً ) الآية: يونس: ١٢ إلى غير ذلك.

و يظهر أيضاً وجه اتّصال الآية بما قبلها و أنّها متّصلة بالآية السابقة من جهة ذيلها أعني قوله:( وَ لا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً ) و المحصّل أنّ هذا الخسار غير بعيد منهم فإنّ من حال الإنسان أن يشغله الأسباب الظاهريّة عند نزول النعم الإلهيّة فينصرف عن ربّه و يعرض و ينأى بجانبه، و ييأس عند مسّ الشرّ.

( بحث فلسفي)

( في تعلّق القضاء بالشرور)

ذكروا أنّ الشرور داخلة في القضاء الإلهيّ بالعرض، و قد أوردوا في بيانه ما يأتي:

نقل عن أفلاطون أنّ الشرّ عدم و قد بيّن ذلك بالأمثلة فإنّ في القتل بالسيف مثلاً شرّاً و ليس هو في قدرة الضارب على مباشرة الضرب و لا في شجاعته و لا في قوّة عضلات يده فإنّ ذلك كلّه كمال له، ليس من الشرّ في شي‏ء، و ليس هو في حدّة السيف و دقّة ذبابه و كونه قطّاعاً فإنّ ذلك من كماله و حسنه، و ليس هو في انفعال رقبة المقتول عن الآلة القطّاعة فإنّ من كماله أن يكون كذلك فلا يبقى

١٩٩

للشرّ إلّا زهاق روح المقتول و بطلان حياته و هو عدميّ، و على هذا سائر الأمثلة فالشرّ عدم.

ثمّ إنّ الشرور الّتي في العالم لما كانت مرتبطة بالحوادث الواقعة مكتنفة بها كانت أعداماً مضافة لا عدماً مطلقاً فلها حظّ من الوجود و الوقوع كأنواع الفقد و النقص و الموت و الفساد الواقعة في الخارج الداخلة في النظام العامّ الكونيّ، و لذلك كان لها مساس بالقضاء الإلهيّ الحاكم في الكون لكنّها داخلة في القضاء بالعرض لا بالذات.

و ذلك أنّ الّذي تتصوّره من العدم إمّا عدم مطلق و هو عدم النقيض للوجود و إمّا مضاف إلى ملكة و هو عدم كمال الوجود عمّا من شأنه ذلك كالعمى الّذي هو عدم البصر ممّا من شأنه أن يكون بصيراً.

و القسم الأوّل إمّا عدم شي‏ء مأخوذ بالنسبة إلى ماهيّته كعدم زيد مثلاً مأخوذاً بالنسبة إلى ماهيّة نفسه، و هذا اعتبار عقليّ ليس من وقوع الشرّ في شي‏ء إذ لا موضوع مشترك بين النقيضين نعم ربّما يقيّد العدم فيقاس إلى الشي‏ء فيكون من الشرّ كعدم زيد بعد وجوده، و هو راجع في الحقيقة إلى العدم المضاف إلى الملكة الآتي حكمه.

و إمّا عدم شي‏ء مأخوذ بالنسبة إلى شي‏ء آخر كفقدان الماهيّات الإمكانيّة كمال الوجود الواجبيّ و كفقدان كلّ ماهيّة وجود الماهيّة الاُخرى الخاصّ بها مثل فقدان النبات وجود الحيوان و فقدان البقر وجود الفرس، و هذا النوع من العدم من لوازم الماهيّات و هي اعتباريّة غير مجعولة.

و القسم الثاني و هو العدم المضاف إلى الملكة فقدان أمر ما شيئاً من كمال وجوده الّذي من شأنه أن يوجد له و يتّصف به كأنواع الفساد العارضة للأشياء و النواقص و العيوب و العاهات و الأمراض و الأسقام و الآلام الطارئة عليها، و هذا القسم من الشرور إنّما يتحقّق في الاُمور المادّيّة و يستند إلى قصور الاستعدادات

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443