الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٣

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 443

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 443
المشاهدات: 107040
تحميل: 5630


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 443 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 107040 / تحميل: 5630
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 13

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

على اختلاف مراتبها لا إلى إفاضة مبدإ الوجود فإنّ علّة العدم عدم كما أنّ علّة الوجود وجود.

فالذي تعلّقت به كلمة الإيجاد و الإرادة الإلهيّة و شمله القضاء بالذات في الاُمور الّتي يقارنها شي‏ء من الشرّ إنّما هو القدر الّذي تلبّس به من الوجود حسب استعداده و مقدار قابليّته و أمّا العدم الّذي يقارنه فليس إلّا مستنداً إلى عدم قابليّته و قصور استعداده نعم ينسب إليه الجعل و الإفاضة بالعرض لمكان نوع من الاتّحاد بينه و بين الوجود الّذي يقارنه هذا.

و ببيان آخر الاُمور على خمسة أقسام: ما هو خير محض، و ما خيره أكثر من شرّه، و ما يتساوى خيره و شرّه، و ما شرّه أكثر من خيره، و ما هو شرّ محض، و لا يوجد شي‏ء من الثلاثة الأخيرة لاستلزامه الترجيح من غير مرجّح أو ترجيح المرجوح على الراجح، و من الواجب بالنظر إلى الحكمة الإلهيّة المنبعثة عن القدرة و العلم الواجبيّين و الجود الّذي لا يخالطه بخل أن يفيض ما هو الأصلح في النظام الأتمّ و أن يوجد ما هو خير محض و ما خيره أكثر من شرّه لأنّ في ترك الأوّل شرّاً محضاً و في ترك الثاني شرّاً كثيراً.

فما يوجد من الشرّ نادر قليل بالنسبة إلى ما يوجد من الخير و إنّما وجد الشرّ القليل بتبع الخير الكثير.

و عن الإمام الرازيّ أنّه لا محلّ لهذا البحث منهم بناء على ما ذهبوا إليه من كونه تعالى علّة تامّة للعالم و استحالة انفكاك العلّة التامّة عن معلولها فهو موجب في فعله لا مختار، فعليه أن يوجد ما هو علّة له من خير أو شرّ من غير خيرة في الترجيح.

و قد خفي عليه أنّ هذا الوجوب إنّما هو قائم بالمعلول تلقّاه من قبل العلّة مثل ما يتلقّى وجوده من قبله، و من المحال أن يعود ما يفيضه العلّة فيقهر العلّة فيضطرّها على الفعل و يغلبها بتحديده.

و لقد أنصف صاحب روح المعاني حيث أشار أوّلاً إلى نظير ما تقدّم من البحث فقال: و لا يخفى أنّ هذا إنّما يتمّ على القول بأنّه تعالى لا يمكن أن تكون إرادته

٢٠١

متساويّة النسبة إلى الشي‏ء و مقابله بلا داع و مصلحة كما هو مذهب الأشاعرة و إلّا فقد يقال: إنّ الفاعل للكلّ إذا كان مختاراً فله أن يختار أيّما شاء من الخيرات و الشرور لكنّ الحكماء و أساطين الإسلام قالوا: إنّ اختياره تعالى أرفع من هذا النمط، و اُمور العالم منوطة بقوانين كلّيّة، و أفعاله تعالى مربوطة بحكم و مصالح جليّة و خفيّة.

ثمّ قال: و قول الإمام:( إن الفلاسفة لمّا قالوا بالإيجاب و الجبر في الأفعال فخوضهم في هذا المبحث من جملة الفضول و الضلال لأنّ السؤال بلم عن صدورها غير وارد كصدور الإحراق من النار لأنّه يصدر عنها لذاتها) .

ناش من التعصّب لأنّ محقّقيهم يثبتون الاختيار، و ليس صدور الأفعال من الله تعالى عندهم صدور الإحراق من النار، و بعد فرض التسليم بحثهم عن كيفيّة وقوع الشرّ في هذا العالم لأجل أنّ الباري تبارك اسمه خير محض بسيط عندهم و لا يجوّزون الشرّ عمّا لا جهة شرّيّة فيه أصلاً فيلزم عليهم في بادئ النظر ما افترته الثنويّة من مبدءين خيريّ و شرّيّ فتخلّصوا عن ذلك البحث فهو فضل لا فضول. انتهى.

قوله تعالى: ( قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى‏ شاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى‏ سَبِيلًا ) المشاكلة - على ما في المفردات - من الشكل و هو تقييد الدابّة، و يسمّى ما يقيّد به شكالاً بكسر الشين، و الشاكلة هي السجيّة سمّي بها لتقييدها الإنسان أن يجري على ما يناسبها و تقتضيه.

و في المجمع: الشاكلة الطريقة و المذهب يقال: هذا طريق ذو شواكل أي ينشعب منه طرق جماعة انتهى. و كأنّ تسميتهما بها لما فيها من تقييد العابرين و المنتحلين بالتزامهما و عدم التخلّف عنهما و قيل: الشاكلة من الشكل بفتح الشين بمعنى المثل و قيل: إنّها من الشكل بكسر الشين بمعنى الهيئة.

و كيف كان فالآية الكريمة ترتّب عمل الإنسان على شاكلته بمعنى أنّ العمل يناسبها و يوافقها فهي بالنسبة إلى العمل كالروح السارية في البدن الّذي يمثّل

٢٠٢

بأعضائه و أعماله هيأت الروح المعنويّة و قد تحقّق بالتجارب و البحث العلميّ أنّ بين الملكات و الأحوال النفسانيّة و بين الأعمال رابطة خاصّة فليس يتساوى عمل الشجاع الباسل و الجبان إذا حضراً موقفاً هائلاً، و لا عمل الجواد الكريم و البخيل اللئيم في موارد الإنفاق و هكذا، و أنّ بين الصفات النفسانيّة و نوع تركيب البنية الإنسانيّة رابطة خاصّة فمن الأمزجة ما يسرع إليه الغضب و حبّ الانتقام بالطبع و منها ما تغلي و تفور فيه شهوة الطعام أو النكاح أو غير ذلك بحيث تتوق نفسه بأدنى سبب يدعوه و يحرّكه، و منها غير ذلك فيختلف انعقاد الملكات بحسب ما يناسب المورد سرعة و بطءا.

و مع ذلك كلّه فليس يخرج دعوة المزاج المناسب لملكة من الملكات أو عمل من الأعمال من حدّ الاقتضاء إلى حدّ العلّيّة التامّة بحيث يخرج الفعل المخالف لمقتضى الطبع عن الإمكان إلى الاستحالة و يبطل الاختيار فالفعل باق على اختياريّته و إن كان في بعض الموارد صعبا غاية الصعوبة.

و كلامه سبحانه يؤيّد ما تقدّم على ما يعطيه التدبّر فهو سبحانه القائل:( وَ الْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَ الَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً ) الأعراف: ٥٨ و انضمام الآية إلى الآيات الدالّة على عموم الدعوة كقوله:( لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَ مَنْ بَلَغَ ) الأنعام: ١٩ يفيد أنّ تأثير البنى الإنسانيّة في الصفات و الأعمال على نحو الاقتضاء دون العلّيّة التامّة كما هو ظاهر.

كيف و هو تعالى يعدّ الدين فطريّاً تهتف به الخلقة الّتي لا تبديل لها و لا تغيير قال:( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ) الروم: ٣٠ و قال:( ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ ) عبس: ٢٠ و لا تجامع دعوة الفطرة إلى الدين الحقّ و السنّة المعتدلة دعوة الخلقة إلى الشرّ و الفساد و الانحراف عن الاعتدال بنحو العلّيّة التامّة.

و قول القائل: إنّ السعادة و الشقاوة ذاتيّتان لا تتخلّفان عن ملزومهما كزوجيّة الأربعة و فرديّة الثلاثة أو مقضيّتان بقضاء أزليّ لازم و إنّ الدعوة

٢٠٣

لإتمام الحجّة لا لإمكان التغيير و رجاء التحوّل من حال إلى حال فالأمر مفروغ عنه قال تعالى:( لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَ يَحْيى‏ مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ ) .

مدفوع بأنّ صحّة إقامة الحجّة بعينها حجّة على عدم كون سعادة السعيد و شقاوة الشقيّ لازمة ضروريّة فإنّ السعادة و الشقاوة لو كانتا من لوازم الذوات لم تحتاجا في لحوقهما إلى حجّة إذ لا حجّة في الذاتيّات فتلغو الحجّة، و كذا لو كانتا لازمتين للذوات بقضاء لازم أزليّ لا لاقتضاء ذاتي من الذوات كانت الحجّة للناس على الله سبحانه فتلغو الحجّة منه تعالى فصحّة إقامة الحجّة من قبله سبحانه تكشف عن عدم ضروريّة شي‏ء من السعادة و الشقاوة بالنظر إلى ذات الإنسان مع قطع النظر عن أعماله الحسنة و السيّئة و اعتقاداته الحقّة و الباطلة.

على أنّ توسّل الإنسان بالفطرة إلى مقاصد الحياة بمثل التعليم و التربية و الإنذار و التبشير و الوعد و الوعيد و الأمر و النهي و غير ذلك أوضح دليل على أنّ الإنسان في نفسه على ملتقى خطّين و منشعب طريقين: السعادة و الشقاوة و في إمكانه أن يختار أيّا منهما شاء و أن يسلك أيّا منهما أراد و لكلّ سعي جزاء يناسبه قال تعالى:( وَ أَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى‏ وَ أَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى‏ ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى) النجم: ٤١.

فهذا نوع من الارتباط مستقرّ بين الأعمال و الملكات و بين الذوات، و هناك نوع آخر من الارتباط مستقرّ بين الأعمال و الملكات و بين الأوضاع و الأحوال و العوامل الخارجة عن الذات الإنسانيّة المستقرّة في ظرف الحياة و جوّ العيش كالآداب و السنن و الرسوم و العادات التقليديّة فإنّها تدعو الإنسان إلى ما يوافقها و تزجره عن مخالفتها و لا تلبث دون أن تصوّره صورة جديدة ثانية تنطبق أعماله على الأوضاع و الأحوال المحيطة به المجتمعة المؤتلفة في ظرف حياته.

و هذه الرابطة على نحو الاقتضاء غالباً غير أنّها ربّما يستقرّ استقراراً لا مطمع في زوالها من جهة رسوخ الملكات الرذيلة أو الفاضلة في نفس الإنسان، و في كلامه تعالى ما يشير إلى ذلك كقوله:( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ

٢٠٤

لا يُؤْمِنُونَ خَتَمَ اللهُ عَلى‏ قُلُوبِهِمْ وَ عَلى‏ سَمْعِهِمْ وَ عَلى‏ أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ ) البقرة: ٧ إلى غير ذلك.

و لا يضرّ ذلك صحّة إقامة الحجّة عليهم بالدعوة و الإنذار و التبشير لأنّ امتناع تأثير الدعوة فيهم مستند إلى سوء اختيارهم و الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار.

فقد تبيّن بما قدّمناه على طوله أنّ للإنسان شاكلة بعد شاكلة فشاكلة يهيّؤها نوع خلقته و خصوصيّة تركيب بنيته، و هي شخصيّة خلقيّة متحصّلة من تفاعل جهازاته البدنيّة بعضها مع بعض كالمزاج الّذي هو كيفيّة متوسّطة حاصلة من تفاعل الكيفيّات المتضادّة بعضها في بعض.

و شاكلة اُخرى ثانية و هي شخصيّة خلقيّة متحصّلة من وجوه تأثير العوامل الخارجيّة في النفس الإنسانيّة على ما فيها من الشاكلة الاُولى إن كانت.

و الإنسان على أيّ شاكلة متحصّلة و على أيّ نعت نفسانيّ و فعليّة داخليّة روحيّة كان فإنّ عمله يجري عليها و أفعاله تمثّلها و تحكيها كما أنّ المتكبّر المختال يلوح حاله في تكلّمه و سكوته و قيامه و قعوده و حركته و سكونه، و الذليل المسكين ظاهر الذلّة و المسكنة في جميع أعماله و كذا الشجاع و الجبان و السخيّ و البخيل و الصبور و الوقور و العجول و هكذا: و كيف لا و الفعل يمثّل فاعله و الظاهر عنوان الباطن و الصورة دليل المعنى.

و كلامه سبحانه يصدّق ذلك و يبني عليه حججه في موارد كثيرة كقوله تعالى:( وَ ما يَسْتَوِي الْأَعْمى‏ وَ الْبَصِيرُ وَ لَا الظُّلُماتُ وَ لَا النُّورُ وَ لَا الظِّلُّ وَ لَا الْحَرُورُ وَ ما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَ لَا الْأَمْواتُ ) فاطر: ٢٢ و قوله:( الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَ الْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ وَ الطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَ الطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ ) النور: ٣٦ إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة.

و قوله تعالى:( كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى‏ شاكِلَتِهِ ) محكم في معناه على أيّ معنى حملنا الشاكلة غير أنّ اتّصال الآية بقوله:( وَ نُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَ رَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ لا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً ) و وقوعها في سياق أنّ الله سبحانه يربح

٢٠٥

المؤمنين و يشفيهم بالقرآن الكريم و الدعوة الحقّة و يخسر به الظالمين لظلمهم يقرب كون المراد بالشاكلة الشاكلة بالمعنى الثاني و هي الشخصيّة الخلقيّة الحاصلة للإنسان من مجموع غرائزه و العوامل الخارجيّة الفاعلة فيه.

كأنّه تعالى لمّا ذكر استفادة المؤمنين من كلامه الشفاء و الرحمة و حرمان الظالمين من ذلك و زيادتهم في خسارهم اعترضه معترض في هذه التفرقة و أنّه لو سوى بين الفريقين في الشفاء و الرحمة كان ذلك أوفى لغرض الرسالة و أنفع لحال الدعوة فأمر رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يجيبهم في ذلك.

فقال: قُلْ: كلّ يَعْمَلُ عَلى‏ شاكِلَتِهِ أي إنّ أعمالكم تصدر على طبق ما عندكم من الشاكلة و الفعليّة الموجودة فمن كانت عنده شاكلة عادلة سهل اهتداؤه إلى كلمة الحقّ و العمل الصالح و انتفع بالدعوة الحقّة، و من كانت عنده شاكلة ظالمة صعب عليه التلبّس بالقول الحقّ و العمل الصالح و لم يزد من استماع الدعوة الحقّة إلّا خساراً، و الله الّذي هو ربّكم العليم بسرائركم المدبّر لأمركم أعلم بمن عنده شاكلة عادلة و هو أهدى سبيلاً و أقرب إلى الانتفاع بكلمة الحقّ، و الّذي علمه و أخبر به أنّ المؤمنين أهدى سبيلاً فيختصّ بهم الشفاء و الرحمة بالقرآن الّذي ينزّله، و لا يبقى للكافرين أهل الظلم إلّا مزيد الخسار إلّا أن ينتزعوا عن ظلمهم فينتفعوا به.

و من هنا يظهر النكتة في التعبير بصيغة التفضيل في قوله:( أَهْدى‏ سَبِيلًا ) و ذلك لما تقدّم أنّ الشاكلة غير ملزمة في الدعوة إلى ما يلائمها فالشاكلة الظالمة و إن كانت مضلّة داعية إلى العمل الطالح غير أنّها لا تحتم الضلال ففيها أثر من الهدى و إن كان ضعيفاً، و الشاكلة العادلة أهدى منها فافهم.

و ذكر الإمام الرازيّ في تفسيره، ما ملخّصه: أنّ الآية تدلّ على كون النفوس الناطقة الإنسانيّة مختلفة بالماهيّة و ذلك أنّه تعالى بيّن في الآية المتقدّمة أنّ القرآن بالنسبة إلى بعض النفوس يفيد الشفاء و الرحمة و بالنسبة إلى بعض آخر يفيد الخسار و الخزي ثمّ أتبعه بقوله:( قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى‏ شاكِلَتِهِ ) و معناه أنّ اللائق بتلك النفوس الطاهرة أن يظهر فيها من القرآن آثار الذكاء و الكمال، و

٢٠٦

بتلك النفوس الكدرة أن يظهر فيها منه آثار الخزي و الضلال كما أنّ الشمس تعقد الملح و تليّن الدهن و تبيّض ثوب القصّار و تسوّد وجهه.

و هذا إنّما يتمّ إذا كانت الأرواح و النفوس مختلفة بماهيّاتها فبعضها مشرقة صافية يظهر فيها من القرآن نور على نور، و بعضها كدرة ظلمانيّة يظهر فيها منه ضلال على ضلال و نكال على نكال. انتهى.

و فيه أنّه لو أقام الحجّة على اختلاف ماهيّات النفوس بعد رسوخ ملكاتها و تصوّرها بصورها لكان له وجه، و أمّا النفوس الساذجة قبل رسوخ الملكات فلا تختلف بالآثار اختلافاً ضروريّاً حتّى تجري فيها الحجّة، و قد عرفت أنّ الآية إنّما تتعرّض لحال الإنسان بعد حصول شاكلته و شخصيّته الخلقيّة الحاصلة من مجموع غرائزه و العوامل الخارجيّة الفاعلة فيه الداعية إلى نوع من العمل دعوة على نحو الاقتضاء فتبصّر.

( بحث فلسفي)

( كلام في سنخيّة الفعل و فاعله ‏)

ذكر الحكماء أنّ بين الفعل و فاعله و يعنون به المعلول و علّته الفاعلة سنخيّة وجوديّة و رابطة ذاتيّة يصير بها وجود الفعل كأنّه مرتبة نازلة من وجود فاعله و وجود الفاعل كأنّه مرتبة عالية من وجود فعله بل الأمر على ذلك بناء على أصالة الوجود و تشكيكه.

و بيّنوا ذلك بأنّه لو لم يكن بين الفعل المعلول و علّته الفاعلة له مناسبة ذاتيّة و خصوصيّة واقعيّة بها يختصّ أحدهما بالآخر كانت نسبة الفاعل إلى فعله كنسبته إلى غيره كما كانت نسبة الفعل إلى فاعله كنسبته إلى غيره فلم يكن لاستناد صدور الفعل إلى فاعله معنى، و نظير البرهان يجري في المعلول بالنسبة إلى سائر العلل و يثبت الرابطة بينه و بينها غير أنّ العلّة الفاعلة لمّا كانت هي المقتضية لوجود المعلول و معطي الشي‏ء غير فاقده كانت العلّة الفاعلة واجدة لكمال وجود المعلول و المعلول ممثّلاً لوجودها في مرتبة نازلة.

٢٠٧

و قد بيّن ذلك صدر المتألّهين بوجه أدقّ و ألطف و هو أنّ المعلول مفتقر في وجوده إلى العلّة الفاعلة متعلّق الذات بها، و ليس من الجائز أن يتأخّر هذا الفقر و التعلّق عن مرتبة ذاته و يكون هناك ذات ثمّ فقر و تعلّق و إلّا استغنى بحسب ذاته عن العلّة و استقلّ بنفسه عنها فلم يكن معلولاً هف فذاته عين الفقر و التعلّق فليس له من الوجود إلّا الرابط غير المستقلّ و ما يتراآى فيه من استقلال الوجود المفروض معه أوّلاً إنّما هو استقلال علّته فوجود المعلول يحاكي وجود علّته و يمثّله في مرتبته الّتي له من الوجود.

( تعقيب البحث السابق من جهة القرآن‏)

التدبّر في الآيات القرآنيّة لا يدع ريباً في أنّ القرآن الكريم يعدّ الأشياء على اختلاف وجوهها و تشتّت أنواعها آيات له تعالى دالّة على أسمائه و صفاته فما من شي‏ء إلّا و هو آية في وجوده و في أيّ جهة مفروضة في وجوده له تعالى مشيرة إلى ساحة عظمته و كبريائه، و الآية و هي العلامة الدالّة من حيث إنّها آية وجودها مرآتي فإنّ في ذي الآية الّذي هو مدلولها غير مستقلّة دونه إذ لو استقلّت في وجوده أو في جهة من جهات وجوده لم تكن من تلك الجهة مشيرة إليه دالّة عليه آية له هف.

فالأشياء بما هي مخلوقة له تعالى أفعاله، و هي تحاكي بوجودها و صفات وجودها وجوده سبحانه و كرائم صفاته و هو المراد بمسانخة الفعل لفاعله لا أنّ الفعل واجد لهويّة الفاعل مماثل لحقيقة ذاته فإنّ الضرورة تدفعه.

قوله تعالى: ( وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَ ما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا ) الروح على ما يعرّف في اللغة هو مبدأ الحياة الّذي به يقوى الحيوان على الإحساس و الحركة الإراديّة و لفظه يذكّر و يؤنّث، و ربّما يتجوّز فيطلق على الاُمور الّتي يظهر بها آثار حسنة مطلوبة كما يعد العلم حياة للنفوس قال تعالى:( أَ وَ مَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ ) الأنعام: ١٢٢ أي بالهداية إلى الإيمان و على هذا المعنى حمل جماعة مثل قوله:( يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ ) النحل: ٢ أي بالوحي و قوله:( وَ كَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ) الشورى: ٥٢ أي القرآن

٢٠٨

الّذي هو وحي فذكروا أنّه تعالى سمّى الوحي أو القرآن روحاً لأنّ به حياة النفوس الميّتة كما أنّ الروح المعروف به حياة الأجساد الميّتة.

و كيف كان فقد تكرّر في كلامه تعالى ذكر الروح في آيات كثيرة مكّيّة و مدنيّة، و لم يرد في جميعها المعنى الّذي نجده في الحيوان و هو مبدأ الحياة الّذي يتفرّع عليه الإحساس و الحركة الإراديّة كما في قوله:( يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَ الْمَلائِكَةُ صَفًّا ) النبأ: ٣٨، و قوله:( تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَ الرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ ) القدر: ٤ و لا ريب أنّ المراد به في الآية غير الروح الحيوانيّ و غير الملائكة و قد تقدّم الحديث عن عليّعليه‌السلام أنّه احتجّ بقوله تعالى:( يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى‏ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ ) النحل: ٢ على أنّ الروح غير الملائكة، و قد وصفه تارة بالقدس و تارة بالأمانة كما سيأتي لطهارته عن الخيانة و سائر القذارات المعنويّة و العيوب و العاهات الّتي لا تخلو عنها الأرواح الإنسيّة.

و هو و إن كان غير الملائكة غير أنّه يصاحبهم في الوحي و التبليغ كما يظهر من قوله:( يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى‏ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ ) الآية فقد قال تعالى:( مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى‏ قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ ) البقرة: ٩٧ فنسب تنزيل القرآن على قلبهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى جبريل ثمّ قال:( نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى‏ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ ) الشعراء: ١٩٥ و قال:( قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ ) النحل: ١٠٢ فوضع الروح و هو غير الملائكة بوجه مكان جبريل و هو من الملائكة فجبريل ينزل بالروح و الروح يحمل هذا القرآن المقروّ المتلوّ.

و بذلك تنحلّ العقدة في قوله تعالى:( وَ كَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ) الشورى: ٥٢ و يظهر أنّ المراد من وحي الروح في الآية هو إنزال روح القدس إليهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و إنزاله إليه هو الوحي القرآن إليه لكونه يحمله على ما تبيّن فلا موجب لما ذكره بعضهم على ما نقلناه آنفاً أنّ المراد بالروح في الآية هو القرآن.

و أمّا نسبة الوحي و هو الكلام الخفيّ إلى الروح بهذا المعنى و هو من

٢٠٩

الموجودات العينيّة و الأعيان الخارجيّة فلا ضير فيه فإنّ هذه الموجودات الطاهرة كما أنّها موجودات مقدّسة من خلقه تعالى كذلك هي كلمات منه تعالى كما قال في عيسى بن مريمعليه‌السلام :( وَ كَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى‏ مَرْيَمَ وَ رُوحٌ مِنْهُ ) النساء: ١٧١ فعد الروح كلمة دالّة على المراد فمن الجائز أن يعدّ الروح وحيا كما عدّ كلمة و إنّما سمّاه كلمة منه لأنّه إنّما كان عن كلمة الإيجاد من غير أن يتوسّط فيه السبب العاديّ في كينونة الناس بدليل قوله:( إِنَّ مَثَلَ عِيسى‏ عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) آل عمران: ٥٩.

و قد زاد سبحانه في إيضاح حقيقة الروح حيث قال:( قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي ) و ظاهر( مِنْ ) أنّها لتبيين الجنس كما في نظائرها من الآيات:( يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ ) المؤمن: ١٥( يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ ) ( أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ) ( تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَ الرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ ) فالروح من سنخ الأمر.

ثمّ عرّف أمره في قوله:( إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْ‏ءٍ ) يس: ٨٤ فبيّن أوّلاً أنّ أمره هو قوله للشي‏ء:( كن ) و هو كلمة الإيجاد الّتي هي الإيجاد و الإيجاد هو وجود الشي‏ء لكن لا من كلّ جهة بل من جهة استناده إليه تعالى و قيامه به فقوله فعله.

و من الدليل على أنّ وجود الأشياء قول له تعالى من جهة نسبته إليه مع إلغاء الأسباب الوجوديّة الاُخر قوله تعالى:( وَ ما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ ) القمر: ٥٠ حيث شبه أمره بعد عدّه واحدة بلمح بالبصر و هذا النوع من التشبيه لنفي التدريج و به يعلم أنّ في الأشياء المكوّنة تدريجاً الحاصلة بتوسّط الأسباب الكونيّة المنطبقة على الزمان و المكان جهة معرّاة عن التدريج خارجة عن حيطة الزمان و المكان هي من تلك الجهة أمره و قوله و كلمته، و أمّا الجهة الّتي هي بها تدريجيّة مرتبطة بالأسباب الكونيّة منطبقة على الزمان و المكان فهي بها من الخلق قال تعالى:( أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَ الْأَمْرُ ) الأعراف: ٥٤ فالأمر هو وجود الشي‏ء من

٢١٠

جهة استناده إليه تعالى وحده و الخلق هو ذلك من جهة استناده إليه مع توسّط الأسباب الكونيّة فيه.

و يستفاد ذلك أيضاً من قوله:( إِنَّ مَثَلَ عِيسى‏ عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) الآية حيث ذكر أوّلاً خلق آدم و ذكر تعلّقه بالتراب و هو من الأسباب ثمّ ذكر وجوده و لم يعلّقه بشي‏ء إلّا بقوله:( كُنْ ) فافهم ذلك و نظيره قوله:( ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً إلى أن قال ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ ) المؤمنون: ١٤ فعدّ إيجاده المنسوب إلى نفسه من غير تخلّل الأسباب الكونيّة إنشاء خلق آخر.

فظهر بذلك كلّه أنّ الأمر هو كلمة الإيجاد السماويّة و فعله تعالى المختصّ به الّذي لا تتوسّط فيه الأسباب، و لا يتقدّر بزمان أو مكان و غير ذلك.

ثمّ بين ثانياً أنّ أمره في كلّ شي‏ء هو ملكوت ذلك الشي‏ء - و الملكوت أبلغ من الملك - فلكلّ شي‏ء ملكوت كما أنّ له أمراً قال تعالى:( أَ وَ لَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ) الأعراف: ١٨٥ و قال:( وَ كَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ) الأنعام: ٧٥ و قال:( تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَ الرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ ) الآية: القدر: ٤.

فقد بان بما مرّ أنّ الأمر هو كلمة الإيجاد و هو فعله تعالى الخاصّ به الّذي لا يتوسّط فيه الأسباب الكونيّة بتأثيراتها التدريجيّة و هو الوجود الأرفع من نشأة المادّة و ظرف الزمان، و أنّ الروح بحسب وجوده من سنخ الأمر من الملكوت.

و قد وصف تعالى أمر الروح في كلامه وصفاً مختلفاً فأفرده بالذكر في مثل قوله:( يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَ الْمَلائِكَةُ صَفًّا ) النبأ: ٣٨، و قوله:( تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَ الرُّوحُ إِلَيْهِ ) الآية: المعارج: ٤.

و يظهر من كلامه أنّ منه ما هو مع الملائكة كقوله في الآيات المنقولة آنفاً:( مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى‏ قَلْبِكَ ) ( نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى‏ قَلْبِكَ )

٢١١

( قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ ) و قوله:( فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا ) مريم: ١٧.

و منه ما هو منفوخ في الإنسان عامّة قال تعالى:( ثُمَّ سَوَّاهُ وَ نَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ ) الم السجدة: ٩ و قال:( فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي ) الحجر: ٢٩ ص: ٧٢.

و منه ما هو مع المؤمنين كما يدلّ عليه قوله تعالى:( أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَ أَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ ) المجادلة: ٢٢ و يشعر به بل يدلّ عليه أيضاً قوله:( أَ وَ مَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَ جَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ ) الأنعام: ١٢٢ فإنّ المذكور في الآية حياة جديدة و الحياة فرع الروح.

و منه ما نزّل إلى الأنبياءعليه‌السلام كما يدلّ عليه قوله:( يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى‏ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا ) الآية: النحل: ٢ و قوله:( وَ آتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَ أَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ ) البقرة: ٨٧ و قوله:( وَ كَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ) الشورى: ٥٢ إلى غير ذلك.

و من الروح ما تشعر به الآيات الّتي تذكر أنّ في غير الإنسان من الحيوان حياة و أنّ في النبات حياة، و الحياة متفرّعة على الروح ظاهراً.

فقد تبيّن بما قدّمناه على طوله معنى قوله تعالى:( يَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي ) و أنّ السؤال إنّما هو عن حقيقة مطلق الروح الوارد في كلامه سبحانه، و أنّ الجواب مشتمل على بيان حقيقة الروح و أنّه من سنخ الأمر بالمعنى الّذي تقدّم و أمّا قوله:( وَ ما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا ) أي ما عندكم من العلم بالروح الّذي آتاكم الله ذلك قليل من كثير فإنّ له موقعاً من الوجود و خواصّ و آثاراً في الكون عجيبة بديعة أنتم عنها في حجاب.

و للمفسّرين في المراد من الروح المسؤل عنه و المجاب عنه أقوال:

فقال بعضهم: إنّ المراد بالروح المسؤل عنه هو الروح الّذي يذكره الله في قوله:( يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَ الْمَلائِكَةُ صَفًّا ) و قوله:( تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَ الرُّوحُ إِلَيْهِ )

٢١٢

الآية، و لا دليل لهم على ذلك.

و قال بعضهم: إنّ المراد به جبريل فإنّ الله سمّاه روحاً في قوله:( نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى‏ قَلْبِكَ ) و فيه أنّ مجرد تسميته روحاً في بعض كلامه لا يستلزم كونه هو المراد بعينه أينما ذكر على أنّ لهذه التسمية معنى خاصّاً أومأنا إليه في سابق الكلام، و لو لا ذلك لكان عيسى و جبريل واحدا لأنّ الله سمّى كلّاً منهما روحاً.

و قال بعضهم: إنّ المراد به القرآن لأنّ الله سمّاه روحاً في قوله:( وَ كَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ) الآية فيكون محصّل السؤال و الجواب أنّهم يسألونك عن القرآن أ هو من الله أو من عندك؟ فأجبهم أنّه من أمر ربّي لا يقدر على الإتيان بمثله غيره فهو آية معجزة دالّة على صحّة رسالتي و ما اُوتيتم من العلم به إلّا قليلاً من غير أن تحيطوا به فتقدروا على الإتيان بمثله قالوا: و الآية التالية:( وَ لَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ) يؤيّد هذا المعنى.

و فيه أنّ تسميته في بعض كلامه روحاً لا تستلزم كونه هو المراد كلّما اُطلق كما تقدم آنفاً. على أنّك قد عرفت ما في دعوى هذه التسمية. على أنّ الآية التالية لا تتعيّن تأييداً لهذا الوجه بل تلائم بعض الوجوه الآخر أيضاً.

و قال بعضهم: إنّ المراد به الروح الإنسانيّ فهو المتبادر من إطلاقه و قوله:( قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي ) ترك للبيان و نهي عن التوغّل في فهم حقيقة الروح فإنّه من أمر الله الّذي استأثر بعلمه و لم يطلع على حقيقته أحداً ثمّ اختلفوا في حقيقته بين قائل بأنّه جسم هوائيّ متردّد في مخارق البدن، و قائل بأنّه جسم هوائيّ في هيئة البدن حالّ فيه و خروجه موته، و قائل بأنّه أجزاء أصليّة في القلب و قائل بأنّه عرض في البدن، و قائل بأنّه نفس البدن إلى غير ذلك.

و فيه أنّ التبادر في كلامه تعالى ممنوع، و التدبّر في الآيات المتعرّضة لأمر الروح كما قدّمناه يدفع جميع ما ذكروه.

و قال بعضهم: إنّ المراد به مطلق الروح الواقع في كلامه و السؤال إنّما

٢١٣

هو عن كونه قديماً أو محدثاً فاُجيب بأنّه يحدث عن أمره و فعله تعالى، و فعله محدث لا قديم.

و فيه أنّ تعميم الروح لجميع ما وقع منه في كلامه تعالى و إن كان في محلّه لكن إرجاع السؤال إلى حدوث الروح و قدمه و توجيه الجواب بما يناسبه دعوى لا دليل عليها من جهة اللفظ.

ثمّ إنّ لهم اختلافاً في معنى قوله:( الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي ) أ هو جواب مثبت أو ترك للجواب و صرف عن السؤال على قولين، و الوجوه المتقدّمة في معنى الروح مختلفة في المناسبة مع هذين القولين فالمتعيّن في بعضها القول الأوّل و في بعضها الثاني، و قد أشرنا إلى مفي ضمن الأقوال.

ثمّ إنّ لهم اختلافاً آخر في المخاطبين بقوله:( وَ ما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا ) أ هم اليهود أو قريش لو كانوا هم السائلين بتعليم من اليهود أو هم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و غير النبيّ من الناس؟ و الأنسب بالسياق أن يكون الخطاب متوجّها إلى السائلين و الكلام من تمام قول النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و أنّ السائلين هم اليهود لأنّهم كانوا معروفين يومئذ بالعلم و في الكلام إثبات علم مّا لهم دون قريش و كفّار العرب و قد عبّر تعالى عنهم في بعض كلامه(١) بالّذين لا يعلمون.

قوله تعالى: ( وَ لَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلًا ) الكلام متّصل بما قبله فإنّ الآية السابقة و إن كانت متعرّضة لأمر مطلق الروح و هو ذو مراتب مختلفة إلّا أنّ الذي ينطبق عليه منه بحسب سياق الآيات السابقة المسوقة في أمر القرآن هو الروح السماويّ النازل على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الملقي إليه القرآن.

فالمعنى - و الله أعلم - الروح النازل عليك الملقي بالقرآن إليك من أمرنا غير خارج من قدرتنا، و اُقسم لئن شئنا لنذهبنّ بهذا الروح الّذي هو كلمتنا الملقاة

____________________

(١) سورة البقرة الآية ١١٨.

٢١٤

إليك ثمّ لا تجد أحداً يكون وكيلاً به لك علينا يدافع عنك و يطالبنا به و يجبرنا على ردّ ما أذهبنا به.

و بذلك يظهر أوّلاً: أنّ المراد بالّذي أوحينا إليك الروح الإلهيّ الّذي هي كلمة ملقاة من الله إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على حدّ قوله:( وَ كَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ) الشورى: ٥٤.

و ثانياً: أنّ المراد بالوكيل للمطالبة و الردّ لما أذهبه الله دون الوكيل في حفظ القرآن و تلاوته على ما فسّره بعض المفسّرين و هو مبنيّ على تفسير قوله:( بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ) بالقرآن دون الروح النازل به كما قدّمنا.

قوله تعالى: ( إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً ) استثناء من محذوف يدلّ عليه السياق، و التقدير فما اختصصت بما اختصصت به و لا اُعطيت ما اُعطيت من نزول الروح و ملازمته إيّاك إلّا رحمة من ربّك، ثمّ علّله بقوله:( إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً ) و هو وارد مورد الامتنان.

قوله تعالى: ( قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَ الْجِنُّ عَلى‏ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَ لَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً ) الظهير هو المعين مأخوذ من الظهر كالرئيس من الرأس، و قوله:( بِمِثْلِهِ ) من وضع الظاهر موضع المضمر و ضميره عائد إلى القرآن.

و في الآية تحدّ ظاهر، و هي ظاهرة في أنّ التحدّي بجميع ما للقرآن من صفات الكمال الراجعة إلى لفظه و معناه لا بفصاحته و بلاغته وحدها فإنّ انضمام غير أهل اللسان إليهم لا ينفع في معارضة البلاغة شيئاً و قد اعتنت الآية باجتماع الثقلين و إعانة بعضهم لبعض.

على أنّ الآية ظاهرة في دوام التحدّي و قد انقرضت العرب العرباء أعلام الفصاحة و البلاغة اليوم فلا أثر منهم، و القرآن باق على إعجازه متحدّ بنفسه كما كان.

قوله تعالى: ( وَ لَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبى‏ أَكْثَرُ

٢١٥

النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً ) تصريف الأمثال ردّها و تكرارها و تحويلها من بيان إلى بيان و من اُسلوب إلى اُسلوب، و المثل هو وصف المقصود بما يمثّله و يقرّبه من ذهن السامع، و( مِنْ ) في قوله:( مِنْ كُلِّ مَثَلٍ ) لابتداء الغاية، و المراد من كلّ مثل يوضح لهم سبيل الحقّ و يمهّد لهم طريق الإيمان و الشكر بقرينة قوله:( فَأَبى‏ أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً ) و الكلام مسوق للتوبيخ و الملامة.

و في قوله:( أَكْثَرُ النَّاسِ ) وضع الظاهر موضع المضمر و الأصل أكثرهم و لعلّ الوجه فيه الإشارة إلى أنّ ذلك مقتضى كونهم ناسا كما مرّ في قوله:( وَ كانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً ) أسرى: ٦٧.

و المعنى: و اُقسم لقد كرّرنا للناس في هذا القرآن من كلّ مثل يوضح لهم الحقّ و يدعوهم إلى الإيمان بنا و الشكر لنعمنا فأبى أكثر الناس إلّا أن يكفروا و لا يشكروا.

قوله تعالى: ( وَ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً - إلى قوله -كِتاباً نَقْرَؤُهُ ) الفجر الفتح و الشقّ و كذلك التفجير إلّا أنّه يفيد المبالغة و التكثير، و الينبوع العين الّتي لا ينضب ماؤها، و خلال الشي‏ء وسطه و أثناؤه، و الكسف جمع كسفة كقطع جمع قطعة وزنا و معنى، و القبيل هو المقابل كالعشير و المعاشر، و الزخرف الذهب، و الرقيّ الصعود و الارتقاء.

و الآيات تحكي الآيات المعجزة الّتي اقترحتها قريش على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و علّقوا إيمانهم به عليها مستهينة بالقرآن الّذي هو معجزة خالدة.

و المعنى( وَ قالُوا ) أي قالت قريش( لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ ) يا محمّد( حَتَّى تَفْجُرَ ) و تشقّ( لَنا مِنَ الْأَرْضِ ) أرض مكّة لقلّة مائها( يَنْبُوعاً ) عينا لا ينضب ماؤها( أَوْ تَكُونَ ) بالإعجاز( لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَ عِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ ) أي تشقّها أو تجريها( خِلالَها ) أي وسط تلك الجنّة و أثناءها( تَفْجِيراً ) ( أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ ) أي مماثلاً لما زعمت يشيرون(١) به إلى قوله تعالى:( أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ )

____________________

(١) فالآية لا تخلو من دلالة على تقدم سورة سبأ على هذه السورة نزولاً.

٢١٦

السبا: ٩( عَلَيْنا كِسَفاً ) و قطعاً( أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَ الْمَلائِكَةِ قَبِيلًا ) مقابلاً نعاينهم و نشاهدهم‏( أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ ) و ذهب( أَوْ تَرْقى‏ ) و تصعد( فِي السَّماءِ وَ لَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ ) و صعودك( حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا ) منها( كِتاباً نَقْرَؤُهُ ) و نتلوه.

قوله تعالى: ( قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا ) فيه أمرهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يجيب عمّا اقترحوه عليه و ينبّههم على جهلهم و مكابرتهم فيما لا يخفى على ذي نظر فإنّهم سألوه اُموراً عظاماً لا يقوى على أكثرها إلّا القدرة الغيبيّة الإلهيّة و فيها ما هو مستحيل بالذات كالإتيان بالله و الملائكة قبيلاً، و لم يرضوا بهذا المقدار و لم يقنعوا به دون أن جعلوه هو المسؤل المتصدّي لذلك المجيب لما سألوه فلم يقولوا لن نؤمن لك حتّى تسأل ربّك أن يفعل كذا و كذا بل قالوا:( لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ ) إلخ( أَوْ تَكُونَ لَكَ ) إلخ( أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ ) إلخ( أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ ) إلخ( أَوْ يَكُونَ لَكَ ) إلخ( أَوْ تَرْقى‏ فِي السَّماءِ وَ لَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ ) .

فإن أرادوا منه ذلك بما أنّه بشر فأين البشر من هذه القدرة المطلقة غير المتناهية المحيطة حتّى بالمحال الذاتيّ، و إن أرادوا منه ذلك بما أنّه يدّعي الرسالة فالرسالة لا تقتضي إلّا حمل ما حمّله الله من أمره و بعثه لتبليغه بالإنذار و التبشير لا تفويض القدرة الغيبيّة إليه و إقداره أن يخلق كلّ ما يريد، و يوجد كلّ ما شاؤا، و هوصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يدّعي لنفسه ذلك فاقتراحهم ما اقترحوه مع ظهور الأمر من عجيب الاقتراح.

و لذلك أمرهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يبادر في جوابهم أوّلاً إلى تنزيه ربّه ممّا يلوّح إليه اقتراحهم هذا من المجازفة و تفويض القدرة إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و لا يبعد أن يستفاد منه التعجّب فالمقام صالح لذلك.

و ثانياً: إلى الجواب بقوله في صورة الاستفهام:( هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا ) و هو يؤيّد كون قوله:( سُبْحانَ رَبِّي ) واقعاً موقع التعجّب أي إن كنتم اقترحتم علىّ هذه الاُمور و طلبتموها منّي بما أنا محمّد فإنّما أنا بشر و لا قدرة للبشر على

٢١٧

شي‏ء من هذه الاُمور، و إن كنتم اقترحتموها لأنّي رسول أدّعي الرسالة فلا شأن للرسول إلّا حمل الرسالة و تبليغها لا تقلّد القدرة الغيبيّة المطلقة.

و قد ظهر بهذا البيان أنّ كلّا من قوله:( بَشَراً ) و( رَسُولًا ) دخيل في استقامة الجواب عن اقتراحهم أمّا قوله:( بَشَراً ) فليردّ به اقتراحهم عليه أن يأتي بهذه الآيات عن قدرته في نفسه، و أمّا قوله:( رَسُولًا ) فليردّ به اقتراح إيتائها عن قدرة مكتسبة من ربّه.

و ذكر بعضهم ما محصّله أنّ معتمد الكلام هو قوله:( رَسُولًا ) و قوله:( بَشَراً ) توطئة له ردّاً لما أنكروه من جواز كون الرسول بشراً، و دلالة على أنّ من قبله من الرسل كانوا كذلك، و المعنى على هذا هل كنت إلّا بشراً رسولاً كسائر الرسل و كانوا لا يأتون إلّا بما أجراه على أيديهم من غير أن يفوّض إليهم أو يتحكّموا على ربّهم بشي‏ء.

قال: و جعل( بَشَراً ) و( رَسُولًا ) كليهما معتمدين مخالف لما يظهر من الآثار أوّلاً فإنّ الّذي ورد في الآثار أنّهم سألوا النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يسأل ربّه أن يفعل كذا و كذا، و لم يسألوه أن يأتيهم بشي‏ء من قبل نفسه حتّى يشار إلى ردّه بإثبات بشريّته، و مستلزم لكون رسولاً خبراً بعد خبر و كونهما خبرين لكان يأباه الذوق السليم. انتهى محصّلاً.

و فيه أوّلاً: أنّ أخذ قوله:( بَشَراً ) ردّا على زعمهم عدم جواز كون الرسول بشراً مع عدم اشتمال الآيات على مزعمتهم هذه لا تصريحاً و لا تلويحاً تحميل من غير دليل.

و ثانياً: أنّ الذي ذكره في معنى الآية( هل كنت إلّا بشراً رسولاً كسائر الرسل و كانوا لا يأتون إلّا كذا و كذا) معتمد الكلام فيه هو التشبيه الّذي في قوله:( كسائر الرسل) لا قوله:( رَسُولًا ) و في حذف معتمد الكلام إفساد السياق فافهم ذلك.

و ثالثاً: أنّ اشتمال الآثار على أنّهم إنّما سألوا النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يسأل ربّه

٢١٨

الإتيان بتلك الآيات من غير أن يسألوه نفسه أن يأتي بها، لا يعارض نصّ الكتاب بخلافه، و الّذي حكاه الله عنهم أنّهم قالوا:( لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حتّى تَفْجُرَ لَنا ) إلخ( فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ ) إلخ( أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ ) إلخ و هذا من عجيب المغالاة في حق الآثار و تحكيمها على كتاب الله و تقديمها عليه حتّى في صورة المخالفة.

و رابعاً: أنّ إباء الذوق السليم عن تجويز كون( رَسُولًا ) خبراً بعد خبر لا يظهر له وجه.

قوله تعالى: ( وَ ما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى‏ إِلَّا أَنْ قالُوا أَ بَعَثَ اللهُ بَشَراً رَسُولًا ) الاستفهام في قوله:( أَ بَعَثَ اللهُ بَشَراً رَسُولًا ) للإنكار، و جملة( قالُوا أَ بَعَثَ اللهُ ) إلخ حكاية حالهم بحسب الاعتقاد و إن لم يتكلّموا بهذه الكلمة بعينها.

و إنكار النبوّة و الرسالة مع إثبات الإله من عقائد الوثنيّة، و هذه قرينة على أنّ المراد بالناس الوثنيّون، و المراد بالإيمان الّذي منعوه هو الإيمان بالرسول.

فمعنى الآية و ما منع الوثنيّين - و كانت قريش و عامّة العرب يومئذ منهم - أن يؤمنوا بالرسالة - أو برسالتك - إلّا إنكارهم لرسالة البشر، و لذلك كانوا يردّون على رسلهم دعوتهم - كما حكاه الله - بمثل قولهم:( لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ ) حم السجدة: ١٤.

قوله تعالى: ( قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولًا ) أمر سبحانه رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يردّ عليهم قولهم و إنكارهم لرسالة البشر و نزول الوحي بأنّ العناية الإلهيّة قد تعلّقت بهداية أهل الأرض و لا يكون ذلك إلّا بوحي سماويّ لا من عند أنفسهم فالبشر القاطنون في الأرض لا غنى لهم عن وحي سماويّ بنزول ملك رسول إليهم و يختصّ بذلك نبيّهم.

و هذه خاصّة الحياة الأرضيّة و العيشة المادّيّة المفتقرة إلى هداية إلهيّة لا سبيل إليها إلّا بنزول الوحي من السماء حتّى لو أنّ طائفة من الملائكة سكنوا الأرض و أخذوا يعيشون عيشة أرضيّة مادّيّة لنزّلنا عليهم من السماء ملكاً رسولاً

٢١٩

كما ننزّل على البشر ملكاً رسولاً.

و العناية في الآية الكريمة - كما ترى - متعلّقة بجهتين إحداهما كون الحياة أرضيّة مادّيّة، و الاُخرى كون الهداية الواجبة بالعناية الإلهيّة بوحي نازل من السماء برسالة ملك من الملائكة.

و الأمر على ذلك فهاتان الجهتان أعني كون حياة النوع أرضيّة مادّيّة و وجوب هدايتهم بواسطة سماويّة و ملك علويّ هما المقدّمتان الأصليّتان في البرهان على وجود الرسالة و لزومها.

و أمّا ما أصرّ عليه المفسّرون من تقييد معنى الآية بوجوب كون الرسول من جنس المرسل إليهم و من أنفسهم كالإنسان للإنسان و الملك للملك فليس بتلك الأهميّة، و لذلك لم يصرّح به في الآية الكريمة.

و ذلك أنّ كون الرسول إلى البشر و هو الّذي يعلّمهم و يربّيهم من أنفسهم من لوازم كون حياتهم أرضيّة، و كون الوحي النازل عليهم بواسطة الملك السماوي فإنّ اختلاف أفراد النوع المادّيّة بالسعادة و الشقاء و الكمال و النقص و طهارة الباطن و قذارته ضروريّ و الملك الملقي للوحي و ما تحمّله منه طاهر زكيّ لا يمسّه إلّا المطهّرون، فالملك النازل بالوحي و إن نزل على النوع لكن لا يمسّه إلّا آحاد منهم مطهّرون من قذارات المادّة و ألواثها مقدّسون من مسّ الشيطان و هم الرسلعليهم‌السلام .

و توضيح المقام: أنّ مقتضى العناية الإلهيّة هداية كلّ نوع من أنواع الخليقة إلى كماله و سعادته، و الإنسان الّذي هو أحد هذه الأنواع غير مستثنى من هذه الكلّيّة، و لا تتمّ سعادته في الحياة إلّا بأن يعيش عيشة اجتماعيّة تحكم فيها قوانين و سنن تضمن سعادة حياته في الدنيا و بعدها، و ترفع الاختلافات الضروريّة الناشئة بين الأفراد، و إذ كانت حياته حياة شعوريّة فلا بدّ أن يجهّز بما يتلقّى به هذه القوانين و السنن و لا يكفي في ذلك ما جهّز به من العقل المميّز بين خيره و شرّه فإنّ العقل بعينه يهديه إلى الاختلاف فلا بدّ أن يجهّز بشعور آخر يتلقّى به ما

٢٢٠