الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٣

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 443

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 443
المشاهدات: 107041
تحميل: 5630


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 443 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 107041 / تحميل: 5630
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 13

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

يفيضه الله من المعارف و القوانين الرافعة للاختلاف الضامنة لسعادته و كماله و هو شعور الوحي و الإنسان المتلبّس به هو النبيّ.

و هذا برهان عقليّ تامّ مأخوذ من كلامه و قد أوردناه و فصّلنا القول فيه في مباحث النبوّة من الجزء الثاني و في ضمن قصص نوح في الجزء العاشر من الكتاب.

و أمّا الآية الّتي نحن فيها أعني قوله:( قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ ) إلخ فإنّها تزيد على ما مرّ من معنى البرهان بشي‏ء و هو أنّ إلقاء الوحي إلى البشر يجب أن يكون بنزول ملك من السماء إليهم.

و ذلك أنّ محصّل مضمون الآية و ما قبلها هو أنّ الذي يمنع الناس أن يؤمنوا برسالتك أنّهم يحيلون رسالة البشر من جانب الله سبحانه. و قد أخطؤا في ذلك فإنّ مقتضى الحياة الأرضيّة و عناية الله بهداية عباده أن ينزّل إلى بعضهم ملكاً من السماء رسولاً حتّى أنّ الملائكة لو كانوا كالإنسان عائشين في الأرض لنزّل الله إلى بعضهم و هو رسولهم ملكاً من السماء رسولاً حاملاً لوحيه.

و هذا كما ترى يعطي أوّلاً: معنى الرسالة البشريّة و هو أنّ الرسول إنسان ينزّل عليه ملك من السماء بدين الله ثمّ هو يبلّغه الناس بأمر الله.

و يشير ثانياً: إلى برهان الرسالة أنّ حياة الإنسان الأرضيّة و العناية الربّانيّة متعلّقة بهداية عباده و إيصالهم إلى غاياتهم لا غنى لها عن نزول دين سماويّ عليهم، و الملائكة وسائط نزول البركات السماويّة إلى الأرض فلا محالة ينزّل الدين على الناس بوساطة الملك و هو رسالته، و الّذي يشاهده و يتلقّى ما ينزل به - و لا يكون إلّا بعض الناس لا جميعهم لحاجته إلى طهارة باطنيّة و روح من أمر الله - هو الرسول البشريّ.

و كان المترقّب من السياق أن يقال:( لبعث الله فيهم ملكاً رسولاً) بحذاء قولهم المحكي في الآية السابقة:( أَ بَعَثَ اللهُ بَشَراً رَسُولًا ) لكنّه عدل إلى مثل قوله:( لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولًا ) ليكون أوّلاً أحسم للشبهة و أقطع للتوهّم فإنّ عامّة الوثنيّين من البرهمانيّة و البوذيّة و الصابئة كما يشهد به ما في كتبهم المقدّسة لا يتحاشون ذاك التحاشي عن النبوّة بمعنى انبعاث بشر كامل لتكميل الناس

٢٢١

و يعبّرون عنه بظهور المنجي أو المصلح و نزول الإله إلى الأرض و ظهوره على أهلها في صورة موجود أرضيّ و كان بوذه و يوذاسف - على ما يقال - منهم و المعبود عندهم على أيّ حال هو الملك أو الجنّ أو الإنسان المستغرق فيه دون الله سبحانه.

و إنّما يمتنعون كلّ الامتناع عن رسالة الملك و هو من الآلهة المعبودين عندهم إلى البشر بدين يعبد فيه الله وحده و هو إله غير معبود عندهم ففي التصريح برسالة الملك السماويّ إلى البشر الأرضيّ من عند الله النصّ على كمال المخالفة لهم.

و ليكون ثانياً إشارة إلى أنّ رسالة الملك بالحقيقة إلى عامّة الإنسان غير أنّ الّذي يصلح لتلقّي الوحي منه هو الرسول منهم، و أمّا غيره فهم محرومون عن ذلك لعدم استعدادهم لذلك فالفيض عامّ و إن كان المستفيض خاصّاً قال تعالى:( وَ ما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً ) أسرى: ٢٠، و قال:( قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى‏ مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ ) الأنعام: ١٢٤.

و الآية بما تعطي من معنى الرسالة يؤيّد ما ورد عن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام في الفرق بين الرسول و النبيّ أنّ الرسول هو الّذي يرى الملك و يسمع منه و النبيّ يرى المنام و لا يعاين، و قد أوردنا بعض هذه الأخبار في خلال أبحاث النبوّة في الجزء الثاني من الكتاب.

و من ألطف التعبير في الآية و أوجزه تعبيره عن الحياة الأرضيّة بقوله:( فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ ) فإنّ الانتقال المكانيّ على الأرض مع الوقوع تحت الجاذبة الأرضيّة من أوضح خواصّ الحياة المادّيّة الأرضيّة.

قوله تعالى: ( قُلْ كَفى‏ بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً ) لمّا احتجّ عليهم بما احتجّ و بيّن لهم ما بيّن في أمر معجزة رسالته و هي القرآن الّذي تحدّى به و هم على عنادهم و جحودهم و عنتهم لا يعتنون به و يقترحون عليه باُمور جزافيّة اُخرى و لا يحترمون لحقّ و لا ينقطعون عن باطل أمر أن يرجع الأمر إلى شهادة الله فهو شهيد بما وقع منه و منهم فقد بلّغ ما اُرسل به و دعا و احتجّ و أعذر و قد سمعوا و تمّت عليهم الحجّة و استكبروا و عتوا فالكلام في معنى إعلام قطع

٢٢٢

المحاجّة و ترك المخاصمة و ردّ الأمر إلى مالك الأمر فليقض ما هو قاض.

و قيل المراد بالآية الاستشهاد بالله سبحانه على حقّيّة الدعوة و صحّة الرسالة كأنّه يقول: كفاني حجّة أنّ الله شهيد على رسالتي فهذا كلامه يصرّح بذلك فإن قلتم: ليس بكلامه بل ممّا افتريته فأتوا بمثله و لن تأتوا بمثله و لو كان الثقلان أعواناً لكم و أعضاداً يمدّونكم.

و هذا في نفسه جيّد غير أنّ ذيل الآية كما قيل لا يلائمه أعني قوله:( بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ ) و قوله:( إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً ) بل كان الأقرب أن يقال: شهيداً لي عليكم أو على رسالتي أو نحو ذلك.

و هذه الآية و الآيتان قبلها مسجّعة بقوله:( رَسُولًا ) و هو المورد الوحيد في القرآن الّذي اتّفقت فيه ثلاث آيات متوالية في سجع واحد على ما نذكر.

قوله تعالى: ( وَ مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَ مَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِهِ ) إلخ هو - على ما يشعر به السياق - من تتمّة الخطاب الأخير للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقوله:( قُلْ كَفى‏ بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ ) فهو كناية عن أنّه تمّت عليهم الحجّة و حقّت عليهم الضلالة فلا مطمع في هدايتهم.

و محصّل المعنى: خاطبهم بإعلام قطع المحاجّة فإنّ الهداية لله تعالى لا يشاركه فيها أحد فمن هداه فهو المهتدي لا غير و من أضلّه و لم يهده فلن تجد يا محمّد له أولياء من دونه يهدونه و الله لا يهدي هؤلاء فانقطع عنهم و لا تكلّف نفسك في دعوتهم رجاء أن يؤمنوا.

و من هنا يظهر أنّ قول بعضهم: إنّ الآية كلام مبتدء غير داخل في حيّز( قل ) في غير محلّه.

و إنّما أتى بأولياء بصيغة الجمع مع كون المفرد أبلغ و أشمل إشارة إلى أنّه لو كان له وليّ من دون الله لكان ذلك إمّا آلهتهم و هي كثيرة و إمّا سائر الأسباب الكونيّة و هي أيضاً كثيرة.

و في قوله:( وَ مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ ) إلخ التفات من التكلّم بالغير إلى

٢٢٣

الغيبة فقد كان السياق سياق التكلّم بالغير و لعلّ الوجه فيه أنّه لو قيل: و من نهد و من نضلل على التكلّم بالغير أوهم تشريك الملائكة في أمر الهداية و الإضلال فأوهم التناقض في قوله:( فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِهِ ) فإنّ الأولياء عندهم الملائكة و هم يتّخذونهم آلهة و يعبدونهم.

قوله:( وَ نَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى‏ وُجُوهِهِمْ ) إلى آخر الآيتين العمى و البكم و الصمّ جمع أعمى و أبكم و أصمّ، و خبو النار و خبوّها سكون لهبها، و السعير لهب النار، و المعنى ظاهر.

قوله تعالى: ( أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ قادِرٌ عَلى‏ أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ ) إلى آخر الآية، الكفور الجحود، احتجاج منه تعالى على البعث بعد الموت فقد كان قولهم:( أَ إِذا كُنَّا عِظاماً وَ رُفاتاً أَ إِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً ) استبعاداً مبنيّاً على إحالة أن يعود هذا البدن الدنيويّ بعد تلاشيه و صيرورته عظاماً و رفاتاً إلى ما كان عليه بخلق جديد فاحتجّ عليهم بأنّ خلق البدن أوّلاً يثبت القدرة عليه و على مثله الّذي هو الخلق الجديد للبعث فحكم الأمثال واحد.

فالمماثلة إنّما هي من جهة مقايسة البدن الجديد من البدن الأوّل مع قطع النظر عن النفس الّتي هي الحافظة لوحدة الإنسان و شخصيّته، و لا ينافي ذلك كون الإنسان الاُخروي عين الإنسان الدنيويّ لا مثله لأنّ ملاك الوحدة و الشخصيّة هي النفس الإنسانيّة و هي محفوظة عند الله سبحانه غير باطلة و لا معدومة، و إذا تعلّقت بالبدن المخلوق جديداً كان هو الإنسان الدنيويّ كما أنّ الإنسان في الدنيا واحد شخصيّ باق على وحدته الشخصيّة مع تغيّر البدن بجميع أجزائه حيناً بعد حين.

و الدليل على أنّ النفس الّتي هي حقيقة الإنسان محفوظة عند الله مع تفرّق أجزاء البدن و فساد صورته قوله تعالى:( وَ قالُوا أَ إِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَ إِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ) الم السجدة: ١١ حيث استشكلوا في المعاد بأنّه تجديد للخلق بعد فناء الإنسان

٢٢٤

بتفرّق أجزاء بدنه فاُجيب عنه بأنّ ملك الموت يتوفّى الإنسان و يأخذه تامّاً كاملاً فلا يضلّ و لا يتلاشى، و إنّما الضالّ بدنه و لا ضير في ذلك فإنّ الله يجدّده.

و الدليل على أنّ الإنسان المبعوث هو عين الإنسان الدنيويّ لا مثله جميع آيات القيامة الدالّة على رجوع الإنسان إليه تعالى و بعثه و سؤاله و حسابه و مجازاته بما عمل.

فهذا كلّه يشهد على أنّ المراد بالمماثلة ما ذكرناه، و إنّما تعرّض لأمر البدن حتّى ينجرّ إلى ذكر المماثلة محاذاة لمتن ما استشكلوا به من قولهم:( أَ إِذا كُنَّا عِظاماً وَ رُفاتاً أَ إِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً ) فلم يضمّنوا قولهم إلّا شؤون البدن لا النفس المتوفّاة منه، و إذا قطع النظر عن النفس كان البدن مماثلاً للبدن، و إن كان مع اعتبارها عينا.

و ذكر بعضهم: أنّ المراد بمثلهم نفسهم فهو من قبيل قولهم: مثلك لا يفعل هذا أي أنت لا تفعله. و للمناقشة إليه سبيل و الظاهر أنّ العناية في هذا التركيب أنّ مثلك لاشتماله على مثل ما فيك من الصفة لا يفعل هذا فأنت لا تفعله لمكان صفتك ففيه نفي الفعل بنفي سببه على سبيل الكناية، و هو آكد من قولنا: أنت لا تفعله.

و قوله:( وَ جَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لا رَيْبَ فِيهِ ) الظاهر أنّ المراد بالأجل هو زمان الموت فإنّ الأجل إمّا مجموع مدّة الحياة الدنيا و هي محدودة بالموت و إمّا آخر زمان الحياة و يقارنه الموت و كيف كان فالتذكير بالموت الّذي لا ريب فيه ليعتبروا به و يكفّوا عن الجرأة على الله و تكذيب آياته فهو قادر على بعثهم و الانتقام منهم بما صنعوا.

فقوله:( وَ جَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لا رَيْبَ فِيهِ ) ناظر إلى قوله في صدر الآية السابقة:( ذلِكَ جَزاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآياتِنا ) فهو نظير قوله:( وَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ - إلى أن قال -أَ وَ لَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ - إلى أن قال -وَ أَنْ عَسى‏ أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ ) الأعراف: ١٨٥.

٢٢٥

و جوّز بعضهم أن يكون المراد بالأجل هو يوم القيامة، و هو لا يلائم السياق فإنّ سابق الكلام يحكي إنكارهم للبعث ثمّ يحتجّ عليهم بالقدرة فلا يناسبه أخذ البعث مسلّماً لا ريب فيه.

و نظيره تقرير بعضهم قوله:( وَ جَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لا رَيْبَ فِيهِ ) حجّة اُخرى مسوقة لإثبات يوم القيامة على كلّ من تقديري كون المراد بالأجل هو يوم الموت أو يوم القيامة، و هو تكلّف لا يعود إلى جدوى البتّة فلا موجب للاشتغال به.

قوله تعالى: ( قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ وَ كانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً ) فسّر القتور بالبخيل المبالغ في الإمساك و قال في المجمع،: القتر التضييق و القتور فعول منه للمبالغة، و يقال: قتر يقتر و تقتّر و أقتر و قتّر إذا قدّر في النفقة انتهى.

و هذا توبيخ لهم على منعهم رسالة البشر المنقول عنهم سابقاً بقوله:( وَ ما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى‏ إِلَّا أَنْ قالُوا أَ بَعَثَ اللهُ بَشَراً رَسُولًا ) و معنى الآية ظاهر.

( بحث روائي‏)

في تفسير العيّاشيّ، عن مسعدة بن صدقة عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: إنّما الشفاء في علم القرآن لقوله:( ما هُوَ شِفاءٌ وَ رَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ) الحديث.

و في الكافي، بإسناده عن سفيان بن عيينة عن أبي عبداللهعليه‌السلام : قال: قال: النيّة أفضل من العمل ألا و إنّ النيّة هي العمل ثمّ قرء قوله عزّوجلّ:( قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى‏ شاكِلَتِهِ ) يعني على نيّته.

أقول: و قوله: إنّ النيّة هي العمل يشير إلى اتّحادهما اتّحاد العنوان و معنونه.

و فيه، بإسناده عن أبي هاشم قال: قال أبوعبداللهعليه‌السلام : إنّما خلّد أهل النار في النار لأنّ نيّاتهم كانت في الدنيا أن لو خلّدوا فيها أن يعصوا الله أبداً و إنّما

٢٢٦

خلّد أهل الجنّة في الجنّة لأنّ نيّاتهم كانت في الدنيا أن لو بقوا فيها أن يطيعوا الله أبداً فبالنيّات خلّد هؤلاء و هؤلاء. ثمّ تلا قوله تعالى:( قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى‏ شاكِلَتِهِ ) قال: على نيّته.

أقول: إشارة إلى رسوخ الملكات بحيث يبطل في النفس استعداد ما يقابلها و روى الرواية العيّاشيّ أيضاً في تفسيره، عن أبي هاشم عنهعليه‌السلام .

و في الدرّ المنثور: في قوله تعالى:( يَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ) الآية: أخرج أحمد و الترمذيّ و صحّحه و النسائيّ و ابن المنذر و ابن حبّان و أبوالشيخ في العظمة، و الحاكم و صحّحه و ابن مردويه و أبو نعيم و البيهقيّ كلاهما في الدلائل، عن ابن عبّاس قال: قالت قريش لليهود: أعطونا شيئاً نسأل هذا الرجل فقالوا: سلوه عن الروح فسألوه فنزلت:( يَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَ ما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا ) .

قالوا: اُوتينا علماً كثيراً اُوتينا التوراة و من اُوتي التوراة فقد اُوتي خيراً كثيراً فأنزل الله:( قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَ لَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً ) .

أقول: و روي بطرق اُخرى عن عبدالله بن مسعود و عن عبد الرحمن بن عبدالله بن اُمّ الحكم: أنّ السؤال إنّما كان من اليهود بالمدينة و بها نزلت الآية و كون السورة مكّيّة و اتّحاد سياق آياتها لا يلائم ذلك.

و فيه، أخرج ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و ابن الأنباريّ في كتاب الأضداد، و أبوالشيخ في العظمة، و البيهقيّ في الأسماء و الصفات، عن عليّ بن أبي طالب: في قوله:( وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ) قال: هو ملك من الملائكة له سبعون ألف وجه لكلّ وجه منها سبعون ألف لسان لكلّ لسان منها سبعون ألف لغة يسبّح الله تعالى بتلك اللغات كلّها يخلق الله تعالى من كلّ تسبيحة ملكاً يطير مع الملائكة إلى يوم القيامة.

أقول: كون الروح من الملائكة لا يوافق ظاهر عدّة من آيات الكتاب

٢٢٧

كقوله:( يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ ) النحل: ٢ و غيره من الآيات، و قد تقدّم في ذيل قوله تعالى:( يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ ) من سورة النحل حديث عليّعليه‌السلام و فيه إنكاره أن يكون الروح ملكاً و احتجاجه على ذلك بالآية فالعبرة في أمر الروح بما يأتي.

و في الكافي، بإسناده عن أبي بصير قال: سألت أباعبداللهعليه‌السلام عن قول الله عزّوجلّ:( يَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي ) قال: خلق أعظم من جبرائيل و ميكائيل كان مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و هو مع الأئمّة و هو من الملكوت.

أقول: و في معناه روايات اُخر، و الرواية توافق ما تقدّم توضيحه من مدلول الآيات.

و في تفسير العيّاشيّ، عن زرارة و حمران عن أبي جعفر و أبي عبداللهعليه‌السلام : عن قوله:( يَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ) قال: إنّ الله تبارك و تعالى أحد صمد و الصمد الشي‏ء الّذي ليس له جوف فإنّما الروح خلق من خلقه له بصر و قوّة و تأييد يجعله في قلوب الرسل و المؤمنين.

أقول: و إنّما تعرّض في صدر الرواية بما تعرّض دفعاً لما يتوهّم من مثل قوله تعالى:( وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي ) أنّ هناك جوفاً و نفساً منفوخاً.

و فيه، عن أبي بصير عن أحدهماعليهما‌السلام قال: سألته عن قوله:( وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي ) ما الروح؟ قال: الّتي في الدوابّ و الناس قلت: و ما هي؟ قال: من الملكوت من القدرة.

أقول: و هذه الروايات تؤيّد ما تقدّم في بيان الآية أنّ الروح المسؤل عنه حقيقة وسيعة ذات مراتب مختلفة و أيضاً ظاهر هذه الرواية كون الروح الحيوانيّ مجرّداً من الملكوت.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن جرير و ابن إسحاق و ابن المنذر و ابن أبي حاتم عن ابن عبّاس: أنّ عتبة و شيبة ابني ربيعة و أبا سفيان بن حرب و رجلاً من بني عبد الدار و أبا البختري أخا بني أسد و الأسود بن المطّلب و ربيعة بن الأسود

٢٢٨

و الوليد بن المغيرة و أباجهل بن هشام و عبدالله بن أبي اُميّة و اُميّة بن خلف و العاص بن وائل و نبيهاً و منبّهاً ابني الحجّاج السهميّين اجتمعوا بعد غروب الشمس عند ظهر الكعبة فقال بعضهم لبعض: ابعثوا إلى محمّد و كلّموه و خاصّموه حتّى تعذروا فيه.

فبعثوا إليه أنّ أشراف قومك قد اجتمعوا إليك ليكلّموك فجاءهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سريعاً و هو يظنّ أنّهم قد بدا لهم في أمره بدء، و كان عليهم حريصاً يحبّ رشدهم و يعزّ عليه عنتهم حتّى جلس إليهم.

فقالوا: يا محمّد إنّا قد بعثنا إليك لنعذرك، و إنّا و الله ما نعلم رجلاً من العرب أدخل على قومه ما أدخلت على قومك لقد شتمت الآباء، و عبت الدين، و سفّهت الأحلام و شتمت الآلهة و فرّقت الجماعة فما بقي من قبيح إلّا و قد جئت فيما بيننا و بينك فإن كنت إنّما جئت بهذا الحديث تطلب مالا جمعنا لك من أموالنا حتّى تكون أكثرنا مالا و إن كنت تطلب الشرف فينا سوّدناك علينا، و إن كنت تريد ملكاً ملّكناك علينا و إن كان هذا الّذي يأتيك بما يأتيك رئيّاً تراه قد غلب عليك - و كانوا يسمّون التابع من الجنّ الرئيّ - فربّما كان ذلك بذلنا أموالنا في طلب الطبّ حتّى نبرئك منه و نعذر فيك.

فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما بي ما تقولون ما جئتكم بما جئتكم به أطلب أموالكم و لا فيئكم و لا الملك عليكم و لكنّ الله بعثني إليكم رسولاً، و أنزل عليّ كتاباً، و أمرني أن أكون لكم بشيراً و نذيراً فبلّغتكم رسالة ربّي و نصحت لكم فإن تقبلوا منّي ما جئتكم به فهو حظّكم في الدنيا و الآخرة و إن تردّوه عليّ أصبر لأمر الله حتّى يحكم الله بيني و بينكم.

فقالوا: يا محمّد فإن كنت غير قابل منّا ما عرضنا عليك فقد علمت أنّه ليس أحد من الناس أضيق بلاداً و لا أقلّ مالاً و لا أشدّ عيشاً منّا فاسأل ربّك الّذي بعثك بما بعثك به فليسيّر عنّا هذه الجبال الّتي قد ضيّقت علينا و ليبسط لنا بلادنا و ليجر فيها أنهاراً كأنهار الشام و العراق، و ليبعث لنا من قد مضى من آبائنا و ليكن فيمن يبعث لنا منهم قصيّ بن كلاب فإنّه كان شيخاً صدوقاً فنسألهم عمّا تقول حقّ

٢٢٩

هو أم باطل؟ فإن صنعت ما سألناك و صدّقوك صدّقناك و عرفنا به منزلتك عندالله و أنّه بعثك رسولاً.

فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما بهذا بعثت إنّما جئتكم من عندالله بما بعثني به فقد بلّغتكم ما اُرسلت به إليكم فإن تقبلوه فهو حظّكم في الدنيا و الآخرة، و إن تردّوه عليّ أصبر لأمر الله حتّى يحكم الله بيني و بينكم.

قالوا: فإن لم تفعل لنا هذا فخر لنفسك فاسأل ربّك أن يبعث ملكاً يصدّقك بما تقول و يراجعنا عنك، و تسأله أن يجعل لك جناناً و كنوزاً و قصوراً من ذهب و فضّة و يغنيك بها عمّا نراك تبتغي فإنّك تقوم بالأسواق و تلتمس المعاش كما نلتمس حتّى نعرف منزلتك من ربّك إن كنت رسولاً كما تزعم.

فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما أنا بفاعل ما أنا بالذي يسأل ربّه هذا، و ما بعثت إليكم بهذا و لكنّ الله بعثني بشيراً و نذيراً فإن تقبلوا ما جئتكم به فهو حظّكم في الدنيا و الآخرة و إن تردّوه عليّ أصبر لأمر الله حتّى يحكم الله بيني و بينكم.

قالوا: فأسقط السماء كما زعمت أنّ ربّك إن شاء فعل فإنّا لن نؤمن لك إلّا أن تفعل فقال رسول الله ذلك إلى الله إن شاء فعل بكم ذلك.

قالوا: يا محمّد قد علم ربّك أنّا سنجلس معك و نسألك عمّا سألناك عنه و نطلب منك ما نطلب فيتقدّم إليك و يعلّمك ما تراجعنا به و يخبرك بما هو صانع في ذلك بنا إذا لم نقبل منك ما جئتنا به فقد بلغنا أنّه إنّما يعلّمك هذا رجل باليمامة يقال له الرحمن و إنّا و الله لن نؤمن بالرحمن أبداً فقد أعذرنا إليك يا محمّد أ ما و الله لا نتركك و ما فعلت بنا حتّى نهلكك أو تهلكنا، و قال قائلهم: لن نؤمن لك حتّى تأتي بالله و الملائكة قبيلاً.

فلمّا قالوا ذلك قام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عنهم و قام معهم عبدالله بن أبي اُميّة فقال: يا محمّد عرض عليك قومك ما عرضوا فلم تقبله منهم ثمّ سألوك لأنفسهم اُموراً ليعرفوا بها منزلتك عند الله فلم تفعل ذلك ثمّ سألوك أن تعجل ما

٢٣٠

تخوّفهم به من العذاب فوالله ما اُؤمن بك أبداً حتّى تتّخذ إلى السماء سلّما ثمّ ترقى فيه و أنا أنظر حتّى تأتيها و تأتي معك بنسخة منشورة معك أربعة من الملائكة يشهدون لك أنّك كما تقول و أيم الله لو فعلت ذلك لظننت أنّي لا اُصدّقك.

ثمّ انصرف عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و انصرف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى أهله حزيناً أسفاً لما فاته ممّا كان طمع فيه من قومه حين دعوه و لما رآى من متابعتهم إيّاه و أنزل عليه فيما قال له عبدالله بن أبي اُميّة:( وَ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ إلى قوله بَشَراً رَسُولًا ) الحديث.

أقول: و الّذي ذكر في الرواية من محاورتهم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و سؤالاتهم لا ينطبق على ظاهر الآيات و لا ما فيها من الجواب على ظاهر ما فيها من الجواب. و قد تقدّمت الإشارة إلى ذلك في بيان الآيات.

و قد تكرّرت الرواية من طرق الشيعة و أهل السنّة أنّ الذي ألقى إليهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم القول من بين القوم و سأله هذه المسائل هو عبدالله بن أبي اُميّة المخزوميّ أخو اُمّ سلمة زوج النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

و في الدرّ المنثور: في قوله تعالى:( وَ نَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى‏ وُجُوهِهِمْ ) أخرج أحمد و البخاريّ و مسلم و النسائيّ و ابن جرير و ابن أبي حاتم و الحاكم و أبونعيم في المعرفة، و ابن مردويه و البيهقيّ في الأسماء و الصفات، عن أنس قال: قيل: يا رسول الله كيف يحشر الناس على وجوههم؟ قال: الّذي أمشاهم على أرجلهم قادر أن يمشيهم على وجوههم.

أقول: و في معناه روايات اُخر.

٢٣١

( سورة الإسراء الآيات ١٠١ - ١١١)

وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَىٰ تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ  فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَىٰ مَسْحُورًا ( ١٠١ ) قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَٰؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا ( ١٠٢ ) فَأَرَادَ أَن يَسْتَفِزَّهُم مِّنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ جَمِيعًا ( ١٠٣ ) وَقُلْنَا مِن بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا ( ١٠٤ ) وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ  وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا ( ١٠٥ ) وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَىٰ مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلًا ( ١٠٦ ) قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا  إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا ( ١٠٧ ) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا ( ١٠٨ ) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا  ( ١٠٩ ) قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ  أَيًّا مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ  وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَٰلِكَ سَبِيلًا ( ١١٠ ) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُن لَّهُ وَلِيٌّ مِّنَ الذُّلِّ  وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا ( ١١١ )

٢٣٢

( بيان‏)

في الآيات تنظير ما جاء به النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من معجزة النبوّة و هو القرآن و إعراض المشركين عنه و اقتراحهم آيات اُخرى جزافيّة بما جاء به موسىعليه‌السلام من آيات النبوّة و إعراض فرعون عنها و رميه إيّاه بأنّه مسحور ثمّ عود إلى وصف القرآن و السبب في نزوله مفرّقة أجزاؤه و ما يلحق بها من المعارف.

قوله تعالى: ( وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسى‏ تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ إِذْ جاءَهُمْ فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى‏ مَسْحُوراً ) الّذي اُوتي موسىعليه‌السلام من الآيات على ما يقصّه القرآن أكثر من تسع غير أنّ الآيات الّتي أتى بها لدعوة فرعون فيما يذكره القرآن تسع و هي: العصا و اليد و الطوفان و الجراد و القمل و الضفدع و الدم و السنون و نقص من الثمرات فالظاهر أنّها هي المرادة بالآيات التسع المذكورة في الآية و خاصّة مع ما فيها من محكي قول موسى لفرعون:( لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ بَصائِرَ ) و أمّا غير هذه الآيات كالبحر و الحجر و إحياء المقتول بالبقرة و إحياء من أخذته الصاعقة من قومه و نتق الجبل فوقهم و غير ذلك فهي خارجة عن هذه التسع المذكورة في الآية.

و لا ينافي ذلك كون الآيات إنّما ظهرت تدريجاً فإنّ هذه المحاورة مستخرجة من مجموع ما تخاصم به موسى و فرعون طول دعوته.

فلا عبرة بما ذكره بعض المفسّرين مخالفاً لما عددناه لعدم شاهد عليه و في التوراة أنّ التسع هي العصا و الدم و الضفادع و القمل و موت البهائم و برد كنار اُنزل مع نار مضطرمة أهلكت ما مرّت به من نبات و حيوان و الجراد و الظلمة و موت عمّ كبار الآدميّين و جميع الحيوانات.

و لعلّ مخالفة التوراة لظاهر القرآن في الآيات التسع هي الموجبة لترك تفصيل الآيات التسع في الآية ليستقيم الأمر بالسؤال من اليهود لأنّهم مع صريح المخالفة لم يكونوا ليصدّقوا القرآن بل كانوا يبادرون إلى التكذيب قبل التصديق.

٢٣٣

و قوله:( إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى‏ مَسْحُوراً ) أي سحرت فاختلّ عقلك و هذا في معنى قوله المنقول في موضع آخر:( إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ ) الشعراء: ٢٧ و قيل: المراد بالمسحور الساحر نظير الميمون و المشؤم بمعنى اليامن و الشائم و أصله استعمال وزن الفاعل في النسبة و معنى الآية ظاهر.

قوله تعالى: ( قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ بَصائِرَ وَ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً ) المثبور الهالك و هو من الثبور بمعنى الهلاك، و المعنى قال موسى مخاطباً لفرعون: لقد علمت يا فرعون ما أنزل هؤلاء الآيات البيّنات إلّا ربّ السماوات و الأرض أنزلها بصائر يتبصّر بها لتمييز الحقّ من الباطل و إنّي لأظنّك يا فرعون هالكاً بالآخرة لعنادك و جحودك.

و إنّما أخذ الظنّ دون اليقين لأنّ الحكم لله و ليوافق ما في كلام فرعون:( إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى‏ ) إلخ و من الظنّ ما يستعمل في مورد اليقين.

قوله تعالى: ( فَأَرادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْناهُ وَ مَنْ مَعَهُ جَمِيعاً ) الاستفزاز الإزعاج و الإخراج بعنف، و معنى الآية ظاهر.

قوله تعالى: ( وَ قُلْنا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً ) المراد بالأرض الّتي اُمروا أن يسكنوها هي الأرض المقدّسة الّتي كتبها الله لهم بشهادة قوله:( ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ ) المائدة: ٢١، و غير ذلك كما أنّ المراد بالأرض في الآية السابقة مطلق الأرض أو أرض مصر بشهادة السياق.

و قوله:( فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ ) أي وعد الكرّة الآخرة أو الحياة الآخرة و المراد به على ما ذكره المفسّرون يوم القيامة، و قوله:( جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً ) أي مجموعاً ملفوفاً بعضكم ببعض.

و المعنى: و قلنا من بعد غرق فرعون لبني إسرائيل اسكنوا الأرض المقدّسة - و كان فرعون يريد أن يستفزّهم من الأرض - فإذا كان يوم القيامة جئنا بكم ملتفّين مجتمعين للحساب و فصل القضاء.

٢٣٤

و ليس ببعيد أن يكون المراد بوعد الآخرة ما ذكره الله سبحانه في أوّل السورة فيما قضى إلى بني إسرائيل بقوله:( فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَ لِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَ لِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً ) و إن لم يذكره جمهور المفسّرين فينعطف بذلك ذيل الكلام في السورة إلى صدره، و يكون المراد أنّا أمرناهم بعد غرق فرعون أن اسكنوا الأرض المقدّسة الّتي كان يمنعكم منها فرعون و البثوا فيها حتّى إذا جاء وعد الآخرة الّتي يلتفّ بكم فيها البلاء بالقتل و الأسر و الجلاء جمعناكم منها و جئنا بكم لفيفا، و ذلك إسارتهم و إجلاؤهم إلى بابل.

و يتّضح على هذا الوجه نكتة تفرّع قوله:( فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ ) إلخ على قوله:( وَ قُلْنا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ ) على خلاف الوجه السابق الّذي لا يترتّب فيه على التفريع نكتة ظاهرة.

قوله تعالى: ( وَ بِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَ بِالْحَقِّ نَزَلَ وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَ نَذِيراً ) لمّا فرغ من التنظير رجع إلى ما كان عليه من بيان حال القرآن و ذكر أوصافه فذكر أنّه أنزله إنزالاً مصاحباً للحقّ و قد نزل هو من عنده نزولاً مصاحباً للحقّ فهو مصون من الباطل من جهة من أنزله فليس من لغو القول و هذره و لا داخله شي‏ء يمكن أن يفسده يوماً و لا شاركه فيه أحد حتّى ينسخه في وقت من الأوقات و ليس النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلّا رسولاً منه تعالى يبشّر به و ينذر و ليس له أن يتصرّف فيه بزيادة أو نقيصة أو يتركه كلّا أو بعضاً باقتراح من الناس أو هوى من نفسه أو يعرض عنه فيسأل الله آية اُخرى فيها هواه أو هوى الناس أو يداهنهم فيه أو يسامحهم في شي‏ء من معارفه و أحكامه كلّ ذلك لأنّه حقّ صادر عن مصدر حقّ، و ما ذا بعد الحقّ إلّا الضلال.

فقوله:( وَ ما أَرْسَلْناكَ ) إلخ متمّم للكلام السابق، و محصّله أنّ القرآن آية حقّة ليس لأحد أن يتصرّف فيه شيئاً من التصرّف و النبيّ و غيره في ذلك سواء.

قوله تعالى: ( وَ قُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى‏ مُكْثٍ وَ نَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا ) معطوف على ما قبله أي أنزلناه بالحقّ و فرقناه قرآناً، قال في المجمع: معنى فرقناه

٢٣٥

فصّلناه و نزّلناه آية آية و سورة سورة و يدلّ عليه قوله:( عَلى‏ مُكْثٍ ) و المكث - بضمّ الميم - و المكث - بفتحها - لغتان. انتهى.

فاللفظ بحسب نفسه يعمّ نزول المعارف القرآنيّة الّتي هي عندالله في قالب الألفاظ و العبارات الّتي لا تتلقّى إلّا بالتدريج و لا تتعاطى إلّا بالمكث و التؤدة ليسهل على الناس تعقّله و حفظه على حدّ قوله:( إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَ إِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ ) الزخرف: ٤.

و نزول الآيات القرآنيّة نجوماً مفرّقة سورة سورة و آية آية بحسب بلوغ الناس في استعداد تلقّي المعارف الأصليّة للاعتقاد و الأحكام الفرعيّة للعمل و اقتضاء المصالح ذلك ليقارن العلم العمل و لا يجمح عنه طباع الناس بأخذ معارفه و أحكامه واحداً بعد واحد كما لو نزل دفعة و قد نزلت التوراة دفعة فلم يتلقّها اليهود بالقبول إلّا بعد نتق الجبل فوقهم كأنّه ظلّة.

لكنّ الأوفق بسياق الآيات السابقة و فيها مثل قولهم المحكيّ:( حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ ) الظاهر في اقتراح نزول القرآن دفعة هو أن يكون المراد بتفريق القرآن إنزاله سورة سورة و آية آية حسب تحقّق أسباب النزول تدريجاً و قد تكرّر من الناس اقتراح أن ينزّل القرآن جملة واحدة كما في:( وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً ) الفرقان: ٣٢، و قوله حكاية عن أهل الكتاب:( يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ ) النساء: ١٥٣.

و يؤيّده تذييل الآية بقوله:( وَ نَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا ) فإنّ التنزيل و هو إنزال الشي‏ء تدريجاً أمسّ بالاعتبار الثاني منه بالأوّل.

و مع ذلك فالاعتبار الثاني و هو تفصيل القرآن و تفريقه بحسب النزول بإنزال بعضه بعد بعض من دون أن ينزل جملة واحدة يستلزم الاعتبار الأوّل و هو تفصيله و تفريقه إلى معارف و أحكام متبوعة مختلفة بعد ما كان الجميع مندمجة في حقيقة واحدة منطوية مجتمعة الأعراق في أصل واحد فارد.

و لذلك فصّل الله سبحانه كتابه سورا و آيات بعد ما ألبسه لباس اللفظ العربي

٢٣٦

ليسهل على الناس فهمه كما قال:( لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ) ثمّ نوّعها أنواعاً و رتّبها ترتيباً فنزّلها واحدة بعد واحدة عند قيام الحاجة إلى ذلك و على حسب حصول استعدادات الناس المختلفة و تمام قابليّتهم بكلّ واحد منها و ذلك في تمام ثلاث و عشرين سنة ليشفع التعليم بالتربية و يقرن العلم بالعمل.

و سنعود إلى البحث عن بعض ما يتعلّق بالآية و السورة في كلام مستقلّ إن شاء الله تعالى.

قوله تعالى: ( قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا ) إلى آخر الآيات الثلاث المراد بالذين اُوتوا العلم من قبله هم الّذين تحقّقوا بالعلم بالله و آياته من قبل نزول القرآن سواء كانوا من اليهود أو النصارى أو غيرهم فلا موجب للتخصيص اللّهمّ إلّا أن يقال: إنّ السياق يفيد كون هؤلاء من أهل الحقّ و الدين غير المنسوخ يومئذ هو دين المسيحعليه‌السلام فهم أهل الحقّ من علماء النصرانيّة الّذين لم يزيغوا و لم يبدّلوا.

و على أيّ حال المراد من كونهم اُوتوا العلم من قبله أنّهم استعدّوا لفهم كلمة الحقّ و قبولها لتجهّزهم بالعلم بحقيقة معناه و إيراثه إيّاهم وصف الخشوع فيزيدهم القرآن المتلوّ عليهم خشوعاً.

و قوله:( يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً ) الأذقان جمع ذقن و هو مجمع اللحيين من الوجه، و الخرور للأذقان السقوط على الأرض على أذقانهم للسجدة كما يبيّنه قوله:( سُجَّداً ) و إنّما اعتبرت الأذقان لأنّ الذقن أقرب أجزاء الوجه من الأرض عند الخرور عليها للسجدة، و ربّما قيل: المراد بالأذقان الوجوه إطلاقاً للجزء على الكلّ مجازاً.

و قوله:( وَ يَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولًا ) أي ينزّهونه تعالى عن كلّ نقص و عن خلف الوعد خاصّة و يعطي سياق الآيات السابقة أنّ المراد بالوعد وعده سبحانه بالبعث و هذا في قبال إصرار المشركين على نفي البعث و إنكار المعاد كما تكرّر في الآيات السابقة.

٢٣٧

و قوله:( وَ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَ يَزِيدُهُمْ خُشُوعاً ) تكرار الخرور للأذقان و إضافته إلى البكاء لإفادة معنى الخضوع و هو التذلّل الّذي يكون بالبدن كما أنّ الجملة الثانية لإفادة معنى الخشوع و هو التذلّل الّذي يكون بالقلب فمحصّل الآية أنّهم يخضعون و يخشعون.

و في الآية إثبات خاصّة المؤمنين لهم و هي الّتي اُشير إليها بقوله سابقاً:( وَ نُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَ رَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ) كما أنّ في الآية نفي خاصّة المشركين عنهم و هي إنكار البعث.

و في هذه الآيات الثلاث بيان أنّ القرآن في غنى عن إيمانهم لا لأنّ إيمان الّذين اُوتوا العلم من قبله يرفع حاجة له إلى إيمان غيرهم بل لأنّ إيمانهم به يكشف عن أنّه كتاب حقّ اُنزل بالحقّ لا حاجة له في حقّيّته و لا افتقار في كماله إلى إيمان مؤمن و تصديق مصدّق فإن آمنوا به فلأنفسهم و إن كفروا به فعليها لا له و لا عليه.

فقد ذكر سبحانه إعراضهم عن القرآن و كفرهم به و عدم اعتنائهم بكونه آية و اقتراحهم آيات اُخرى ثمّ بيّن له من نعوت الكمال و دلائل الإعجاز في لفظه و معناه و غزارة الأثر في النفوس و كيفيّة نزوله ما استبان به أنّه حقّ لا يعتريه بطلان و لا فساد أصلاً ثمّ بين في هذه الآيات أنّه في غنى عن إيمانهم فهم و ما يختارونه من الإيمان و الكفر.

قوله تعالى: ( قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى‏ ) لفظة أو للتسوية و الإباحة فالمراد بقوله( اللهَ ) و( الرَّحْمنَ ) الاسمان الدالّان على المسمّى دون المسمّى، و المعنى ادعوا باسم الله أو باسم الرحمن فالدعاء دعاؤه.

و قوله:( أَيًّا ما تَدْعُوا ) شرط و( ما ) صلة للتأكيد نظير قوله:( فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ ) آل عمران: ١٥٩. و قوله:( عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ ) المؤمنون: ٤٠ و( أَيًّا ) شرطيّة و هي مفعول( تَدْعُوا ) .

و قوله:( فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى‏) جواب الشرط، و هو من وضع السبب موضع

٢٣٨

المسبّب و المعنى أيّ اسم من الاسمين تدعوه فهو اسم أحسن له لأنّ الأسماء الحسنى كلّها له فالأسماء الدالّة على المسمّيات منها حسنة تدلّ على ما فيه حسن و منها قبيحة بخلافها و لا سبيل للقبيح إليه تعالى، و الأسماء الحسنة منها ما هو أحسن لا شوب نقص و قبح فيه كالغنى الّذي لا فقر معه و الحياة الّتي لا موت معها و العزّة الّتي لا ذلّة دونها و منها ما هو حسن يغلب عليه الحسن من غير محوضة و لله سبحانه الأسماء الحسنى، و هي كلّ اسم هو أحسن الأسماء في معناه كما يدلّ عليه قول أئمّة الدين: إنّ الله تعالى غنيّ لا كالأغنياء، حيّ لا كالأحياء، عزيز لا كالأعزّة عليم لا كالعلماء و هكذا أي له من كلّ كمال صرفه و محضه الّذي لا يشوبه خلافه.

و الضمير في قوله:( أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) عائد إلى الذات المتعالية من كلّ اسم و رسم، و ليس براجع إلى شي‏ء من الاسمين: الله و الرحمن لأنّ المراد بهما - كما تقدّم - الاسمان دون الذات المتعالية الّتي هي مسمّاة بهما و لا معنى لأنّ يقال: أيّا من الاسمين تدعوا فإنّ لذلك الاسم جميع الأسماء الحسنى أو باقي الأسماء الحسنى بل المعنى أيّا من أسمائه تدعوا فلا مانع منه لأنّها جميعاً أسماؤه لأنّها أسماء حسنى و له الأسماء الحسنى فهي طرق دعوته و دعوتها دعوته فإنّها أسماؤه و الاسم مرآة المسمّى و عنوانه فافهم ذلك.

و الآية من غرر الآيات القرآنيّة تنير حقيقة ما يراه القرآن الكريم من توحيد الذات و توحيد العبادة قبال ما يراه الوثنيّة من توحيد الذات و تشريك العبادة.

فإنّ الوثنيّة - على ما تقدّم جملة من آرائهم في الجزء العاشر من الكتاب - ترى أنّه سبحانه ذات متعالية من كلّ حدّ و نعت ثمّ تعيّنت بأسماء اسما بعد اسم و تسمّي ذلك تولّدا، و ترى الملائكة و الجنّ مظاهر عالية لأسمائه فهم أبناؤه المتصرّفون في الكون، و ترى أنّ عبادة العابدين و توجّه المتوجّهين لا يتعدّى طور الأسماء و لا يتجاوز مرتبة الأبناء الّذين هم مظاهر أسمائه فإنّا إنّما نعبد فيما نعبد الإله أو الخالق أو الرازق أو المحيي أو المميت إلى غير ذلك، و هذه كلّها

٢٣٩

أسماء مظاهرها الأبناء من الملائكة و الجنّ، و أمّا الذات المتعالية فهي أرفع من أن يناله حسّ أو وهم أو عقل، و أعلى من أن يتعلّق به توجّه أو طلب أو عبادة أو نسك.

فعندهم دعوة كلّ اسم هي عبادة ذلك الاسم أي الملك أو الجنّ الّذي هو مظهر ذلك الاسم، و هو الإله المعبود بتلك العبادة فيتكثّر الآلهة بتكثّر أنواع الدعوات بأنواع الحاجات و لذلك لمّا سمع بعض المشركين دعاءهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في صلاته: يا الله يا رحمن قال: انظروا إلى هذا الصابئ ينهانا أن نعبد إلهيّن و هو يدعو إلهيّن.

و الآية الكريمة تردّ عليهم ذلك و تكشف عن وجه الخطإ في رأيهم بأنّ هذه الأسماء أسماء حسنى له تعالى فهي مملوكة له محضاً لا تستقلّ دونه بنعت و لا تنحاز عنه في ذات أو صفة تملكه و تقوم به فليس لها إلّا الطريقيّة المحضة، و يكون دعاؤها دعاءه و التوجّه بها توجّها إليه، و كيف يستقيم أن يحجب الاسم المسمّى و ليس إلّا طريقاً دالاً عليه هادياً إليه و وجها له يتجلّى به لغيره، فدعاء الأسماء الكثيرة لا ينافي توحيد عبادة الذات كما يمتنع أن تقف العبادة على الاسم و لا يتعدّاه.

و يتفرّع على هذا البيان ظهور الخطإ في عدّ الأسماء أو مظاهرها من الملائكة و الجنّ أبناء له تعالى فإنّ إطلاق الولد و الابن سواء كان على وجه الحقيقة أو التشريف يقتضي نوع مسانخة و اشتراك بين الولد و الوالد - أو الابن و الأب - في حقيقة الذات أو كمال من كمالاته و ساحة كبريائه منزّهة من أن يشاركه شي‏ء غيره في ذات أو كمال فإنّ الّذي له هو لنفسه، و الّذي لغيره هو له لا لأنفسهم.

و كذا ظهور الخطإ في نسبة التصرّف في الكون بأنواعه إليهم فإنّ هؤلاء الملائكة و كذا الأسماء الّتي هم مظاهر لها عندهم لا يملكون لأنفسهم شيئاً و لا يستقلّون دونه بشي‏ء بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول و هم بأمره يعملون، و كذا الجنّ فيما يعملون و بالجملة ما من سبب من الأسباب الفعّالة في الكون إلّا و هو تعالى الّذي ملّكه القدرة على ما يعمله، و هو المالك لما ملّكه و القادر على ما عليه أقدره.

و هذا هو الّذي تفيده الآية التالية:( وَ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ ) و سنكرّر الإشارة إليه إن شاء الله.

٢٤٠