الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٣

الميزان في تفسير القرآن8%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 443

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 443 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 111396 / تحميل: 6251
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٣

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

و في الآية دلالة على أنّ لفظة الجلالة من الأسماء الحسنى فهو في أصله - الإله - وصف يفيد معنى المعبوديّة و إن عرضت عليه العلميّة بكثرة الاستعمال كما يدلّ عليه صحّة إجراء الصفات عليه يقال: الله الرحمن الرحيم و لا يقال: الرحمن الله الرحيم و في كلامه تعالى:( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) .

قوله تعالى: ( وَ لا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَ لا تُخافِتْ بِها وَ ابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا ) الجهر و الإخفات وصفان متضائفان، يتّصف بهما الأصوات، و ربّما يعتبر بينهما خصلة ثالثة هي بالنسبة إلى الجهر إخفات و بالنسبة إلى الإخفات جهر فيكون الجهر هو المبالغة في رفع الصوت، و الإخفات هو المبالغة في خفضه و ما بينهما هو الاعتدال فيكون معنى الآية لا تبالغ في صلاتك في الجهر و لا في الإخفات بل اسلك فيما بينهما سبيلاً و هو الاعتدال و تسميته سبيلاً لأنّه سنّة يستنّ بها هو و من يقتدي به من اُمّته المؤمنين به.

هذا لو كان المراد بالصلاة في قوله:( بِصَلاتِكَ ) للاستغراق و المراد به كلّ صلاة صلاة و أمّا لو أريد المجموع و لعلّه الأظهر كان المعنى لا تجهر في صلواتك كلّها و لا تخافت فيها كلّها بل اتّخذ سبيلاً وسطاً تجهر في بعض و تخافت في بعض، و هذا المعنى أنسب بالنظر إلى ما ثبت في السنّة من الجهر في بعض الفرائض اليوميّة كالصبح و المغرب و العشاء و الإخفات في غيرها.

و لعلّ هذا الوجه أوفق بالنظر إلى اتّصال ذيل الآية بصدرها فالجهر بالصلاة يناسب كونه تعالى عليّاً متعالياً و الإخفات يناسب كونه قريباً أقرب من حبل الوريد فاتّخاذ الخصلتين جميعاً في الصلوات أداء لحقّ أسمائه جميعاً.

قوله تعالى: ( وَ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَ كَبِّرْهُ تَكْبِيراً ) معطوف على قوله في الآية السابقة:( قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ ) و يرجع محصّل الكلام إلى أن قل لهم إنّ ما تدعونها من الأسماء و تزعمون أنّها آلهة معبودون غيره إنّما هي أسماؤه و هي مملوكة له لا تملك أنفسها و لا شيئاً لأنفسها فدعاؤها دعاؤه فهو المعبود على كلّ حال.

٢٤١

ثمّ أحمده و أثن عليه بما يتفرّع على إطلاق ملكه فإنّه لا يماثله شي‏ء في ذات و لا صفة حتّى يكون ولداً له إن اشتقّ عنه في ذات أو صفة كما تقوله الوثنيّة و أهل الكتاب من النصارى و اليهود و قدماء المجوس في الملائكة أو الجنّ أو المسيح أو عزير و الأحبار، أو يكون شريكاً إن شاركه في الملك من غير اشتقاق كما تقوله الوثنيّون و الثنويّون و غيرهم من عبدة الشيطان أو يكون وليّاً له إن شاركه في الملك و فاق عليه فأصلح من ملكه بعض ما لم يقدر هو على إصلاحه.

و بوجه آخر لا يجانسه شي‏ء حتّى يكون ولدا إن كان دونه أو شريكاً له إن كان مساوياً له في مرتبته أو وليّاً له إن كان فائقا عليه في الملك.

و الآية في الحقيقة ثناء عليه تعالى بما له من إطلاق الملك الّذي يتفرّع عليه نفي الولد و الشريك و الوليّ، و لذلك أمرهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالتحميد دون التسبيح مع أنّ المذكور فيها من نفي الولد و الشريك و الوليّ صفات سلبيّة و الّذي يناسبها التسبيح دون التحميد فافهم ذلك.

و ختم سبحانه الآية بقوله:( وَ كَبِّرْهُ تَكْبِيراً ) و قد اُطلق إطلاقاً بعد التوصيف و التنزيه فهو تكبير من كلّ وصف، و لذا فسّر( الله أكبر) بأنّه أكبر من أن يوصف على ما ورد عن الصادقعليه‌السلام ، و لو كان المعنى أنّه أكبر من كلّ شي‏ء لم يخل من إشراك الأشياء به تعالى في معنى الكبر و هو أعزّ ساحة أن يشاركه شي‏ء في أمر.

و من لطيف الصنعة في السورة افتتاح أوّل آية منها بالتسبيح و اختتام آخر آية منها بالتكبير مع افتتاحها بالتحميد.

( بحث روائي‏)

في الدرّ المنثور، أخرج سعيد بن منصور و ابن المنذر و ابن أبي حاتم عن عليّ أنّه كان يقرء: لقد علمت يعني بالرفع قال عليّ: و الله ما علم عدوّ الله و لكن موسى هو الّذي علم.

٢٤٢

أقول: و هي قراءة منسوبة إليهعليه‌السلام .

و في الكافي، عن عليّ بن محمّد بإسناده قال: سئل أبوعبداللهعليه‌السلام عمّن بجبهته علّة لا يقدر على السجود عليها قال: يضع ذقنه على الأرض إنّ الله عزّوجلّ يقول:( يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً ) .

أقول: و في معناه غيره.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن جرير و ابن مردويه عن ابن عبّاس قال: صلّى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمكّة ذات يوم فدعا الله فقال في دعائه: يا الله يا رحمان فقال المشركون: انظروا إلى هذا الصابئ ينهانا أن ندعو إلهين و هو يدعو إلهين فأنزل الله:( قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ ) الآية.

أقول: و في سبب نزول الآية روايات اُخر تخالف هذه الرواية و تذكر أشياء غير ما ذكرته غير أنّ هذه الرواية أقربها انطباقاً على مفاد الآية.

و في التوحيد، مسنداً و في الاحتجاج، مرسلاً عن هشام بن الحكم قال: سألت أباعبداللهعليه‌السلام عن أسماء الله عزّ ذكره و اشتقاقها فقلت: الله ممّا هو مشتقّ؟ قال يا هشام: الله مشتقّ من أله و إله يقتضي مألوها، و الاسم غير المسمّى فمن عبد الاسم دون المعنى فقد كفر و لم يعبد شيئاً، و من عبد الاسم و المعنى فقد كفر و عبد اثنين، و من عبد المعنى دون الاسم فذلك التوحيد أ فهمت يا هشام؟

قال: فقلت: زدني فقال: إنّ لله تبارك و تعالى تسعة و تسعين اسما فلو كان الاسم هو المسمّى لكان كلّ اسم منها إلهاً و لكنّ الله معنى يدلّ عليه بهذه الأسماء و كلّها غيره يا هشام الخبز اسم المأكول و الماء اسم المشروب و الثوب اسم الملبوس و النار اسم المحرق. الحديث.

و في التوحيد، بإسناده عن ابن رئاب عن غير واحد عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: من عبدالله بالتوهّم فقد كفر، و من عبد الاسم و لم يعبد المعنى فقد كفر، و من عبد الاسم و المعنى فقد أشرك، و من عبد المعنى بإيقاع الأسماء عليه بصفاته الّتي يصف بها نفسه فعقد عليه قلبه و نطق به لسانه في سرائره و علانيته فاُولئك أصحاب

٢٤٣

أميرالمؤمنين‏ و في حديث آخر: اُولئك هم المؤمنون حقّاً.

و في توحيد البحار، في باب المغايرة بين الاسم و المعنى عن التوحيد بإسناده عن إبراهيم بن عمر عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: إنّ الله تبارك و تعالى خلق اسماً بالحروف غير منعوت، و باللفظ غير منطق، و بالشخص غير مجسّد، و بالتشبيه غير موصوف و باللون غير مصبوغ منفيّ عنه الأقطار، مبعّد عنه الحدود، محجوب عنه حسّ كلّ متوهّم، مستتر غير مستور فجعله كلمة تامّة على أربعة أجزاء معا ليس منها واحد قبل الآخر فأظهر منها ثلاثة أشياء لفاقة الخلق إليها، و حجب واحداً منها و هو الاسم المكنون المخزون بهذه الأسماء الثلاثة الّتي اُظهرت.

فالظاهر هو الله و تبارك و سبحان لكلّ اسم من هذه أربعة أركان فذلك اثنا عشر ركنا ثمّ خلق لكلّ ركن منها ثلاثين اسماً و فعلاً منسوباً إليها فهو الرحمن الرحيم الملك القدّوس الخالق البارئ المصوّر الحيّ القيّوم لا تأخذه سنة و لا نوم العليم الخبير السميع البصير الحكيم العزيز الجبّار المتكبّر العليّ العظيم المقتدر القادر السلام المؤمن المهيمن البارئ المنشئ البديع الرفيع الجليل الكريم الرازق المحيي المميت الباعث الوارث.

فهذه الأسماء و ما كان من الأسماء الحسنى حتّى تتمّ ثلاث مائة و ستّين اسما فهي نسبة لهذه الأسماء الثلاثة و هذه الأسماء الثلاثة أركان و حجب للاسم الواحد المكنون المخزون بهذه الأسماء الثلاثة، و ذلك قوله عزّوجلّ:( قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى)

أقول: و الحديث مرويّ في الكافي، أيضاً عنهعليه‌السلام .

و قد تقدّم في بحث الأسماء الحسنى في الجزء الثامن من الكتاب أنّ هذه الألفاظ المسمّاة بأسماء الله إنّما هي أسماء الأسماء و أنّ ما تدلّ عليه و تشير إليه من المصداق أعني الذات مأخوذة بوصف ما هو الاسم بحسب الحقيقة، و على هذا فبعض الأسماء الحسنى عين الذات و هو المشتمل على صفة ثبوتيّة كماليّة كالحيّ و العليم و القدير، و بعضها زائد على الذات خارج منها و هو المشتمل على صفة سلبيّة أو

٢٤٤

فعليّة كالخالق و الرازق لا تأخذه سنة و لا نوم، هذا في الأسماء و أمّا أسماء الأسماء و هي الألفاظ الدالّة على الذات المأخوذة مع وصف من أوصافها فلا ريب في كونها غير الذات، و أنّها ألفاظ حادثة قائمة بمن يتلفّظ بها.

إلّا أنّ ههنا خلافاً من جهتين:

إحداهما: أنّ بعض الجهلة من متكلّمي السلف خلطوا بين الأسماء و أسماء الأسماء فحسبوا أنّ المراد من عينيّة الأسماء مع الذات عينيّة أسماء الأسماء معها فذهبوا إلى أنّ الاسم هو المسمّى و يكون على هذا عبادة الاسم و دعوته هو عين عبادة المسمّى، و قد كان هذا القول سائغاً في أوائل عصر العبّاسيّين، و الروايتان السابقتان أعني روايتي التوحيد في الردّ عليه.

و الثانية: ما عليه الوثنيّة و هو أنّ الله سبحانه لا يتعلّق به التوجّه العباديّ و إنّما يتعلّق بالأسماء فالأسماء أو مظاهرها من الملائكة و الجنّ و الكمّل من الإنس هم المدعوّون و هم الآلهة المعبودون دون الله، و قد عرفت في البيان المتقدّم أنّ قوله تعالى:( قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ ) إلخ ردّ عليه.

و الرواية الأخيرة أيضاً تكشف عن وجه انتشاء الأسماء عن الذات المتعالية الّتي هي أرفع من أن يحيط به علم أو يقيّده وصف و نعت أو يحدّه اسم أو رسم، و هي بما في صدره و ذيله من البيان صريح في أنّ المراد بالأسماء فيها هي الأسماء دون أسماء الأسماء و قد شرحناها بعض الشرح في ذيل البحث عن الأسماء الحسنى في الجزء الثامن من الكتاب فراجعه إن شئت.

و في تفسير العيّاشيّ، عن زرارة و حمران و محمّد بن مسلم عن أبي جعفر و أبي عبداللهعليه‌السلام : في قوله تعالى:( وَ لا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَ لا تُخافِتْ بِها وَ ابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا ) قال: كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا كان بمكّة جهر بصوته فيعلم بمكانه المشركون فكانوا يؤذونه فاُنزلت هذه الآية عند ذلك.

أقول: و روي هذا المعنى في الدرّ المنثور، عن ابن مردويه عن ابن عبّاس، و روي أيضاً عن عائشة: أنّها نزلت في الدعاء، و لا بأس به لعدم معارضته، و روي عنها

٢٤٥

أيضاً أنّها نزلت في التشهّد.

و في الكافي، بإسناده عن سماعة قال: سألته عن قول الله تعالى:( وَ لا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَ لا تُخافِتْ بِها ) قال: المخافتة ما دون سمعك و الجهر أن ترفع صوتك شديداً.

أقول: فيه تأييد المعنى الأوّل المتقدّم في تفسير الآية.

و فيه، بإسناده عن عبدالله بن سنان قال: قلت لأبي عبداللهعليه‌السلام : على الإمام أن يسمع من خلفه و إن كثروا؟ فقال: ليقرأ وسطاً يقول الله تبارك و تعالى:( وَ لا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَ لا تُخافِتْ بِها ) .

و في الدرّ المنثور، أخرج أحمد و الطبرانيّ عن معاذ بن أنس قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : آية العزّ( وَ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً ) الآية كلّها.

و في تفسير القمّيّ: في قوله تعالى:( وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ ) قال: قال: لم يذلّ فيحتاج إلى وليّ ينصره.

( بحث آخر روائي و قرآني)

( في نزول القرآن نجوماً في فصول ‏)

متعلّق بقوله تعالى:( وَ قُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى‏ مُكْثٍ ) ثلاثة فصول:

١- في انقسامات القرآن: إنّ للقرآن الكريم أجزاء يعرف بها كالجزء و الحزب و العشر و غير ذلك و الّذي ينتهي اعتباره إلى عناية من نفس الكتاب العزيز اثنان منها و هما السورة و الآية فقد كرّر الله سبحانه ذكرهما في كلامه كقوله:( سُورَةٌ أَنْزَلْناها ) النور: ١ و قوله:( قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ ) يونس: ٣٨ و غير ذلك.

و قد كثر استعماله في لسان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و الصحابة و الأئمّة كثرة لا تدع ريبا في أنّ لها حقيقة في القرآن الكريم و هي مجموعة من الكلام الإلهيّ مبدوّة بالبسملة مسوقة لبيان غرض، و هو معرّف للسورة مطّرد غير منقوض إلّا ببراءة و قد ورد(١)

____________________

(١) تقدّم بعض ما يدلّ ما يدلّ عليه من الرواية في ذيل قوله: ( إِنّا نَحْنُ نَزّلْنَا الذّكْرَ ) الآية الحجر: ٩ في الجزء الثاني عشر من الكتاب.

٢٤٦

عن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام أنّها آيات من سورة الأنفال، و إلّا بما ورد(١) عنهمعليهم‌السلام أنّ الضحى و أ لم نشرح سورة واحدة و أنّ الفيل و الإيلاف سورة واحدة.

و نظيره القول في الآية فقد تكرّر في كلامه تعالى إطلاق الآية على قطعة من الكلام كقوله:( وَ إِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً ) الأنفال: ٢، و قوله:( كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا ) حم السجدة: ٣، و قد روي عن اُمّ سلمة: أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يقف على رؤس الآي و صحّ أنّ سورة الحمد سبع آيات‏، و روي عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنّ سورة الملك ثلاثون آية إلى غير ذلك ممّا يدلّ على وقوع العدد على الآيات في كلام النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و آله.

و الّذي يعطيه التأمّل في انقسام الكلام العربيّ إلى قطع و فصول بالطبع و خاصّة فيما كان من الكلام مسجّعا ثمّ التدبّر فيما ورد عن النبيّ و آلهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أعداد الآيات أنّ الآية من القرآن هي قطعة من الكلام من حقّها أن تعتمد عليها التلاوة بفصلها عمّا قبلها و عمّا بعدها.

و يختلف ذلك باختلاف السياقات و خاصّة في السياقات المسجّعة فربّما كانت كلمة واحدة كقوله:( مُدْهامَّتانِ ) الرحمن: ٦٤ و ربّما كانت كلمتين فصاعداً كلاماً أو غير كلام كقوله:( الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الْإِنْسانَ عَلَّمَهُ الْبَيانَ ) الرحمن ١ - ٤ و قوله:( الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ وَ ما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ ) الحاقة ١ - ٣ و ربّما طالت كآية الدّين من سورة البقرة آية: ٢٨٢.

٢- في عدد السور: أمّا عدد السور القرآنيّة فهي مائة و أربع عشرة سورة على ما جرى عليه الرسم في المصحف الدائر بيننا و هو مطابق للمصحف العثمانيّ، و قد تقدّم كلام أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام فيه، و أنّهم لا يعدّون براءة سورة مستقلّة و يعدّون الضحى و أ لم نشرح سورة واحدة و يعدّون الفيل و الإيلاف سورة واحدة.

____________________

(١) رواه الشيخ في التهذيب بإسناده عن الشحام عن الصادقعليه‌السلام و نسبه المحقّق في الشرائع و الطبرسيّ في مجمع البيان الى رواية أصحابنا.

٢٤٧

و أمّا عدد الآي فلم يرد فيه نصّ متواتر يعرّف الآي و يميّز كلّ آية من غيرها و لا شي‏ء من الآحاد يعتمد عليه، و من أوضح الدليل على ذلك اختلاف أهل العدد فيما بينهم و هم المكّيّون و المدنيّون و الشاميّون و البصريّون و الكوفيّون.

فقد قال بعضهم: إنّ مجموع القرآن ستّة آلاف آية، و قال بعضهم: ستّة آلاف و مائتان و أربع آيات، و قيل: و أربع عشرة، و قيل: و تسع عشرة، و قيل: و خمس و عشرون، و قيل: و ستّ و ثلاثون.

و قد روى المكّيّون عددهم عن عبدالله بن كثير عن مجاهد عن ابن عبّاس عن اُبيّ بن كعب، و للمدنيّين عددان ينتهي أحدهما إلى أبي جعفر مرثد بن القعقاع و شيبة بن نصاح، و الآخر إلى إسماعيل بن جعفر بن أبي كثير الأنصاريّ و روى أهل الشام عددهم عن أبي الدرداء، و ينتهي عدد أهل البصرة إلى عاصم بن العجّاج الجحدريّ، و يضاف عدد أهل الكوفة إلى حمزة و الكسائيّ و خلف قال حمزة أخبرنا بهذا العدد ابن أبي ليلى عن أبي عبد الرحمن السلميّ عن عليّ بن أبي طالب.

و بالجملة لمّا كانت الأعداد لا تنتهي إلى نصّ متواتر أو واحد يعبؤ به و يجوز الركون إليه و يتميّز به كلّ آية عن اُختها لا ملزم للأخذ بشي‏ء منها فما كان منها بيّنا ظاهر الأمر فهو و إلّا فللباحث المتدبّر أن يختار ما أدّى إليه نظره.

و الّذي روي عن عليّعليه‌السلام من عدد الكوفيّين معارض بأنّ البسملة غير معدودة في شي‏ء من السور ما خلا فاتحة الكتاب من آياتها مع أنّ المرويّ عنهعليه‌السلام و عن غيره من أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام أنّ البسملة آية من القرآن و هي جزء من كلّ سورة افتتحت بها و لازم ذلك زيادة العدد بعدد البسملات.

و هذا هو الّذي صرفنا عن إيراد تفاصيل ما ذكروه من العدد ههنا، و ذكر ما اتّفقوا على عدده من السور القرآنيّة و هي أربعون سورة و ما اختلفوه في عدده أو في رؤس آية من السور و هي أربع و سبعون سورة و كذا ما اتّفقوا على كونه آية تامّة أو على عدم كونه آية مثل( الر ) أينما وقع من القرآن و ما اختلف فيه، و على من أراد الاطّلاع على تفصيل ذلك أن يراجع مظانّه.

٢٤٨

٣- في ترتيب السور نزولا: نقل في الإتقان عن ابن الضريس في فضائل القرآن قال: حدّثنا محمّد بن عبدالله بن أبي جعفر الرازيّ أنبأنا عمرو بن هارون، حدّثنا عثمان بن عطاء الخراسانيّ عن أبيه عن ابن عبّاس قال: كانت إذا نزلت فاتحة سورة بمكّة كتبت بمكّة ثمّ يزيد الله فيها ما شاء.

و كان أوّل ما اُنزل من القرآن اقرء باسم ربّك، ثمّ ن، ثمّ يا أيّها المزّمّل، ثمّ يا أيّها المدّثّر، ثمّ تبّت يدا أبي لهب، ثمّ إذا الشمس كوّرت، ثمّ سبّح اسم ربّك الأعلى، ثمّ و اللّيل إذا يغشى، ثمّ و الفجر، ثمّ و الضحى، ثمّ أ لم نشرح، ثمّ و العصر، ثمّ و العاديات ثمّ إنّا أعطيناك، ثمّ ألهيكم التكاثر، ثمّ أ رأيت الّذي يكذّب، ثمّ قل يا أيّها الكافرون، ثمّ أ لم تر كيف فعل ربك، ثمّ قل أعوذ بربّ الفلق، ثمّ قل أعوذ بربّ الناس، ثمّ قل هو الله أحد، ثمّ و النجم، ثمّ عبس، ثمّ إنّا أنزلناه في ليلة القدر، ثمّ و الشمس و ضحاها، ثمّ و السماء ذات البروج، ثمّ التين، ثمّ لإيلاف قريش، ثمّ القارعة، ثمّ لا اُقسم بيوم القيامة، ثمّ ويل لكلّ همزة، ثمّ و المرسلات، ثمّ ق، ثمّ لا اُقسم بهذا البلد، ثمّ و السماء و الطارق، ثمّ اقتربت الساعة، ثمّ ص، ثمّ الأعراف، ثمّ قل اُوحي ثمّ يس، ثمّ الفرقان، ثمّ الملائكة، ثمّ كهيعص، ثمّ طه، ثمّ الواقعة، ثمّ طسم الشعراء، ثمّ طس، ثمّ القصص، ثمّ بني إسرائيل، ثمّ يونس، ثمّ هود، ثمّ يوسف، ثمّ الحجر، ثمّ الأنعام، ثمّ الصافّات، ثمّ لقمان، ثمّ سبأ، ثمّ الزمر، ثمّ حم المؤمن، ثمّ حم السجدة. ثمّ حمعسق، ثمّ حم الزخرف، ثمّ الدخان، ثمّ الجاثية، ثمّ الأحقاف ثمّ الذاريات، ثمّ الغاشية، ثمّ الكهف، ثمّ النحل، ثمّ إنا أرسلنا نوحاً، ثمّ سورة إبراهيم، ثمّ الأنبياء، ثمّ المؤمنين، ثمّ تنزيل السجدة، ثمّ الطور، ثمّ تبارك الملك، ثمّ الحاقّة، ثمّ سأل، ثمّ عمّ يتساءلون، ثمّ النازعات، ثمّ إذا السماء انفطرت، ثمّ إذا السماء انشقّت، ثمّ الروم، ثمّ العنكبوت، ثمّ ويل للمطفّفين فهذا ما أنزل الله بمكّة.

ثمّ أنزل الله بالمدينة سورة البقرة، ثمّ الأنفال، ثمّ آل عمران، ثمّ الأحزاب،

٢٤٩

ثمّ الممتحنة، ثمّ النساء، ثمّ إذا زلزلت، ثمّ الحديد، ثمّ القتال، ثمّ الرعد، ثمّ الرحمن، ثمّ الإنسان، ثمّ الطلاق، ثمّ لم يكن، ثمّ الحشر، ثمّ إذا جاء نصر الله، ثمّ النور، ثمّ الحجّ، ثمّ المنافقون، ثمّ المجادلة، ثمّ الحجرات، ثمّ التحريم، ثمّ الجمعة ثمّ التغابن، ثمّ الصفّ، ثمّ الفتح، ثمّ المائدة، ثمّ براءة.

و قد سقطت من الرواية سورة فاتحة الكتاب و ربّما قيل: إنّها نزلت مرّتين مرّة بمكّة و مرّة بالمدينة.

و نقل فيه، عن البيهقيّ في دلائل النبوّة، أنّه روى بإسناده عن عكرمة و الحسين بن أبي الحسن قالا: أنزل الله من القرآن بمكّة اقرأ باسم ربّك‏ و ساقا الحديث نحو حديث عطاء السابق عن ابن عبّاس إلّا أنّه قد سقط منه الفاتحة و الأعراف و كهيعص ممّا نزل بمكّة.

و أيضاً ذكر فيه حم الدخان قبل حم السجدة ثمّ إذا السماء انشقّت قبل إذا السماء انفطرت ثمّ ويل للمطفّفين قبل البقرة ممّا نزل بالمدينة ثمّ آل عمران قبل الأنفال ثمّ المائدة قبل الممتحنة.

ثم‏ روى البيهقيّ بإسناده عن مجاهد عن ابن عبّاس أنّه قال: إنّ أوّل ما أنزل الله على نبيّه من القرآن اقرأ باسم ربّك‏ الحديث و هو مطابق لحديث عكرمة في الترتيب و قد ذكرت فيه السور الّتي سقطت من حديث عكرمة فيما نزل بمكّة.

و فيه، عن كتاب الناسخ و المنسوخ، لابن حصار: أنّ المدنيّ باتّفاق عشرون سورة، و المختلف فيه اثنا عشرة سورة و ما عدا ذلك مكّيّ باتّفاق انتهى.

و الّذي اتّفقوا عليه من المدنيّات البقرة و آل عمران و النساء و المائدة و الأنفال و التوبة و النور و الأحزاب و سورة محمّد و الفتح و الحجرات و الحديد و المجادلة و الحشر و الممتحنة و المنافقون و الجمعة و الطلاق و التحريم و النصر.

و ما اختلفوا في مكّيّته و مدنيّته سورة الرعد و الرحمن و الجنّ و الصفّ و التغابن و المطفّفين و القدر و البيّنة و الزلزال و التوحيد و المعوّذتان.

و للعلم بمكّيّة السور و مدنيّتها ثمّ ترتيب نزولها أثر هامّ في الأبحاث

٢٥٠

المتعلّقة بالدعوة النبويّة و سيرها الروحيّ و السياسيّ و المدنيّ في زمنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و تحليل سيرته الشريفة، و الروايات - كما ترى - لا تصلح أن تنهض حجّة معتمداً عليها في إثبات شي‏ء من ذلك على أنّ فيما بينها من التعارض ما يسقطها عن الاعتبار.

فالطريق المتعيّن لهذا الغرض هو التدبّر في سياق الآيات و الاستمداد بما يتحصّل من القرائن و الأمارات الداخليّة و الخارجيّة، و على ذلك نجري في هذا الكتاب و الله المستعان.

٢٥١

( سورة الكهف مكّيّة و هي مائة و عشر آيات)

( سورة الكهف الآيات ١ - ٨)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‏ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَىٰ عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجًا  ( ١ ) قَيِّمًا لِّيُنذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِّن لَّدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا ( ٢ ) مَّاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا ( ٣ ) وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَدًا ( ٤ ) مَّا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ  كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ  إِن يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا ( ٥ ) فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَىٰ آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَٰذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا ( ٦ ) إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ( ٧ ) وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا ( ٨ )

( بيان‏)

السورة تتضمّن الدعوة إلى الاعتقاد الحقّ و العمل الصالح بالإنذار و التبشير كما يلوّح إليه ما افتتحت به من الآيتين و ما اختتمت به من قوله تعالى:( فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً وَ لا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً ) .

و فيها مع ذلك عناية بالغة بنفي الولد كما يدلّ على ذلك تخصيص إنذار القائلين بالولد بالذكر ثانياً بعد ذكر مطلق الإنذار أوّلاً أعني وقوع قوله:( وَ يُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً ) بعد قوله:( لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ ) .

فوجه الكلام فيها إلى الوثنيّين القائلين ببنوّة الملائكة و الجنّ و المصلحين من البشر و النصارى القائلين ببنوّة المسيحعليه‌السلام و لعلّ اليهود يشاركونهم فيه حيث يذكر القرآن عنهم أنّهم قالوا: عزير ابن الله.

٢٥٢

و غير بعيد أن يقال إنّ الغرض من نزول السورة ذكر القصص الثلاث العجيبة الّتي لم تذكر في القرآن الكريم إلّا في هذه السورة و هي قصّة أصحاب الكهف و قصّة موسى و فتاه في مسيرهما إلى مجمع البحرين و قصّة ذي القرنين ثمّ استفيد منها ما استفرغ في السورة من الكلام في نفي الشريك و الحثّ على تقوى الله سبحانه.

و السورة مكّيّة على ما يستفاد من سياق آياتها و قد استثني منها قوله:( وَ اصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ ) الآية و سيجي‏ء ما فيه من الكلام.

قوله تعالى: ( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى‏ عَبْدِهِ الْكِتابَ وَ لَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً قَيِّماً ) العوج بفتح العين و كسرها الانحراف، قال في المجمع: العوج بالفتح فيما يرى كالقناة و الخشبة و بالكسر فيما لا يرى شخصاً قائماً كالدين و الكلام. انتهى.

و لعلّ المراد بما يرى و ما لا يرى ما يسهل رؤيته و ما يشكل كما ذكره الراغب في المفردات، بقوله: العوج - بالفتح - يقال فيما يدرك بالبصر سهلا كالخشب المنتصب و نحوه و العوج - بالكسر - يقال فيما يدرك بالفكر و البصيرة كما يكون في أرض بسيط يعرف تفاوته بالبصيرة و كالدين و المعاش انتهى. فلا يرد عليه ما في قوله تعالى:( لا تَرى‏ فِيها عِوَجاً - بكسر العين -وَ لا أَمْتاً ) طه: ١٠٧ فافهم.

و قد افتتح تعالى الكلام في السورة بالثناء على نفسه بما نزّل على عبده قرآناً لا انحراف فيه عن الحقّ بوجه و هو قيّم على مصالح عباده في حياتهم الدنيا و الآخرة فله كلّ الحمد فيما يترتّب على نزوله من الخيرات و البركات من يوم نزل إلى يوم القيامة فلا ينبغي أن يرتاب الباحث الناقد أنّ ما في المجتمع البشريّ من الصلاح و السداد من بركات ما بثّه الأنبياء الكرام من الدعوة إلى القول الحقّ و الخلق الحسن و العمل الصالح و أنّ ما يمتاز به عصر القرآن في قرونه الأربعة عشر عمّا تقدّمه من الأعصار من رقيّ المجتمع البشريّ و تقدّمه في علم نافع أو عمل صالح للقرآن فيه أثره الخاصّ و للدعوة النبويّة فيه أياديها الجميلة فللّه في ذلك الحمد كلّه.

و من هنا يظهر أنّ قول بعضهم في تفسير الآية: يعني قولوا الحمد لله الّذي

٢٥٣

نزّل إلخ ليس على ما ينبغي.

و قوله:( وَ لَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً ) الضمير للكتاب و الجملة حال عن الكتاب و قوله:( قَيِّماً ) حال بعد حال على ما يفيده السياق فإنّه تعالى في مقام حمد نفسه من جهة تنزيله كتاباً موصوفاً بأنّه لا عوج له و أنّه قيّم على مصالح المجتمع البشري فالعناية متعلّقة بالوصفين موزّعة بينهما على السواء و هو مفاد كونهما حالين من الكتاب.

و قيل: إنّ جملة( وَ لَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً ) معطوفة على الصلة و( قَيِّماً ) حال من ضمير( لِلَّهِ ) و المعنى و الّذي لم يجعل للكتاب حال كونه قيّماً عوجاً أو أنّ( قَيِّماً ) منصوب بمقدّر، و المعنى: و الّذي لم يجعل له عوجاً و جعله قيّماً، و لازم الوجهين انقسام العناية بين أصل النزول و بين كون الكتاب قيّماً لا عوج له. و قد عرفت أنّه خلاف ما يستفاد من السياق.

و قيل: إنّ في الآية تقديماً و تأخيراً، و التقدير نزل الكتاب قيّماً و لم يجعل له عوجاً و هو أردء الوجوه.

و قد قدّم نفي العوج على إثبات القيمومة لأنّ الأوّل كمال الكتاب في نفسه و الثاني تكميله لغيره و الكمال مقدّم طبعاً على التكميل.

و وقوع( عِوَجاً ) و هو نكرة في سياق النفي يفيد العموم فالقرآن مستقيم في جميع جهاته فصيح في لفظه، بليغ في معناه، مصيب في هدايته، حيّ في حججه و براهينه، ناصح في أمره و نهيه، صادق فيما يقصّه من قصصه و أخباره، فاصل فيما يقضي به محفوظ من مخالطة الشياطين، لا اختلاف فيه، و لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه.

و القيّم هو الّذي يقوم بمصلحة الشي‏ء و تدبير أمره كقيّم الدار و هو القائم بمصالحها و يرجع إليه في اُمورها، و الكتاب إنّما يكون قيّماً بما يشتمل عليه من المعاني، و الّذي يتضمّنه القرآن هو الاعتقاد الحقّ و العمل الصالح كما قال تعالى:( يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَ إِلى‏ طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ ) الأحقاف: ٣٠، و هذا هو الدين

٢٥٤

و قد وصف تعالى دينه في مواضع من كتابه بأنّه قيّم قال:( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ ) الروم: ٤٣ و على هذا فتوصيف الكتاب بالقيّم لما يتضمّنه من الدين القيّم على مصالح العالم الإنسانيّ في دنياهم و اُخراهم.

و ربّما عكس الأمر فاُخذ القيمومة وصفاً للكتاب ثمّ للدين من جهته كما في قوله تعالى:( وَ ذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ ) البينة: ٥ فالظاهر أنّ معناه دين الكتب القيّمة و هو نوع تجوّز.

و قيل: المراد بالقيّم المستقيم المعتدل الّذي لا إفراط فيه و لا تفريط، و قيل: القيّم المدبّر لسائر الكتب السماويّة يصدّقها و يحفظها و ينسخ شرائعها و تعقيب الكلمة بقوله:( لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَ يُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ ) إلخ يؤيّد ما قدّمناه.

قوله تعالى: ( لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَ يُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ ) الآية أي لينذر الكافرين عذاباً شديداً صادراً من عند الله كذا قيل و الظاهر بقرينة تقييد المؤمنين المبشّرين بقوله:( الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ ) أنّ التقدير لينذر الّذين لا يعملون الصالحات أعمّ ممّن لا يؤمن أصلاً أو يؤمن و يفسق في عمله.

و الجملة على أيّ حال بيان لتنزيله الكتاب على عبده مستقيماً قيّماً إذ لو لا استقامته في نفسه و قيمومته على غيره لم يستقم إنذار و لا تبشير و هو ظاهر.

و المراد بالأجر الحسن الجنّة بقرينة قوله في الآية التالية:( ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً ) و المعنى ظاهر.

قوله تعالى: ( وَ يُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً ) و هم عامّة الوثنيّين القائلين بأنّ الملائكة أبناء أو بنات له و ربّما قالوا بذلك في الجنّ و المصلحين من البشر و النصارى القائلين بأنّ المسيح ابن الله و قد نسب القرآن إلى اليهود أنّهم قالوا: عزير ابن الله.

و ذكر إنذارهم خاصّة ثانياً بعد ذكره على وجه العموم أوّلاً بقوله:( لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ ) لمزيد الاهتمام بشأنهم.

٢٥٥

قوله تعالى: ( ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَ لا لِآبائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ ) كانت عامّتهم يريدون بقولهم: اتّخذ الله ولداً حقيقة التوليد كما يدلّ عليه قوله:( أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَ لَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ وَ خَلَقَ كلّ شَيْ‏ءٍ ) الأنعام: ١٠١.

و قد ردّ سبحانه قولهم عليهم أوّلاً بأنّه قول منهم جهلاً بغير علم و ثانياً بقوله في آخر الآية:( إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً ) .

و كان قوله:( ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ ) شاملاً لهم جميعاً من آباء و أبناء لكنّهم لمّا كانوا يحيلون العلم به إلى آبائهم قائلين إنّ هذه ملّة آبائنا و هم أعلم منّا و ليس لنا إلّا أن نتّبعهم و نقتدي بهم فرّق تعالى بينهم و بين آبائهم فنفى العلم عنهم أوّلاً و عن آبائهم الّذين كانوا يركنون إليهم ثانياً ليكون إبطالاً لقولهم و لحجّتهم جميعاً.

و قوله:( كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ ) ذمّ لهم و إعظام لقولهم: اتّخذ الله ولداً لما فيه من عظيم الاجتراء على الله سبحانه بنسبة الشريك و التجسّم و التركّب و الحاجة إلى المعين و الخليفة إليه، تعالى عن ذلك علوّاً كبيراً.

و ربّما وقع في كلام أوائلهم إطلاق الابن على بعض خلقه بعناية التشريف للدلالة على قربه منه و اختصاصه به نظير قول اليهود فيما حكاه القرآن: عزير ابن الله، و قولهم: نحن أبناء الله و أحبّاؤه، و كذا وقع في كلام عدّة من قدمائهم إطلاق الابن على بعض الخلق الأوّل بعناية صدوره منه كما يصدر الابن عن الأب و إطلاق الزوج و الصاحبة على وسائط الصدور و الإيجاد كما أنّ زوج الرجل واسطة لصدور الولد منه فاُطلق على بعض الملائكة من الخلق الأوّل الزوج و على بعض آخر منهم الابن أو البنت.

و هذان الإطلاقان و إن لم يشتملاً على مثل ما اشتمل عليه الإطلاق الأوّل لكونهما من التجوّز بعناية التشريف و نحوه لكنّهما ممنوعان شرعاً و كفى ملاكاً لحرمتهما سوقهما و سوق أمثالهما عامّة الناس إلى الشقاء الدائم و الهلاك الخالد.

قوله تعالى: ( فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى‏ آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً ) البخوع و البخع القتل و الإهلاك و الآثار علائم أقدام المارّة على الأرض،

٢٥٦

و الأسف شدّة الحزن و المراد بهذا الحديث القرآن.

و الآية و اللّتان بعدها في مقام تعزية النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و تسليته و تطييب نفسه و الفاء لتفريع الكلام على كفرهم و جحدهم بآيات الله المفهوم من الآيات السابقة و المعنى يرجى منك أن تهلك نفسك بعد إعراضهم عن القرآن و انصرافهم عنك من شدّة الحزن، و قد دلّ على إعراضهم و تولّيهم بقوله: عَلى‏ آثارِهِمْ و هو من الاستعارة.

قوله تعالى: ( إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ) إلى آخر الآيتين الزينة الأمر الجميل الّذي ينضمّ إلى الشي‏ء فيفيده جمالاً يرغب إليه لأجله و الصعيد ظهر الأرض و الجرز على ما في المجمع، الأرض الّتي لا تنبت كأنّها تأكل النبت أكلا.

و لقد أتى في الآيتين ببيان عجيب في حقيقة حياة الإنسان الأرضيّة و هو أنّ النفوس الإنسانيّة - و هي في أصل جوهرها علويّة شريفة - ما كانت لتميل إلى الأرض و الحياة عليها و قد قدّر الله أن يكون كمالها و سعادتها الخالدة بالاعتقاد الحقّ و العمل الصالح فاحتالت العناية الإلهيّة إلى توقيفها موقف الاعتقاد و العمل و إيصالها إلى محكّ التصفية و التطهير و إسكانها الأرض إلى أجل معلوم بإلقاء التعلّق و الارتباط بينها و بين ما على الأرض من أمتعة الحياة من مال و ولد و جاه و تحبيبه إلى قلوبهم فكان ما على الأرض و هو جميل عندهم محبوب في أنفسهم زينة للأرض و حلية تتحلّى بها لكونه عليها فتعلّقت نفوسهم على الأرض بسببه و اطمأنّت إليها.

فإذا انقضى الأجل الّذي أجّله الله تعالى لمكثهم في الأرض بتحقّق ما أراده من البلاء و الامتحان سلب الله ما بينهم و بين ما على الأرض من التعلّق و محى ما له من الجمال و الزينة و صار كالصعيد الجرز الّذي لا نبت فيه و لا نضارة عليه و نودي فيهم بالرحيل و هم فرادى كما خلقهم الله تعالى أوّل مرّة.

و هذه سنّة الله تعالى في خلق الإنسان و إسكانه الأرض و تزيينه ما عليها له ليمتحنه بذلك و يتميّز به أهل السعادة من غيرهم فيأتي سبحانه بالجيل بعد الجيل و الفرد بعد الفرد فيزيّن له ما على وجه الأرض من أمتعة الحياة ثمّ يخلّيه و اختياره

٢٥٧

ليختبرهم بذلك ثمّ إذا تمّ الاختبار قطع ما بينه و بين زخارف الدنيا المزيّنة و نقله من دار العمل إلى دار الجزاء قال تعالى:( وَ لَوْ تَرى‏ إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَ الْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ - إلى أن قال -وَ لَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى‏ كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَ تَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ وَ ما نَرى‏ مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَ ضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ) الأنعام: ٩٤.

فمحصّل معنى الآية لا تتحرّج و لا تأسّف عليهم إذ أعرضوا عن دعوتك بالإنذار و التبشير و اشتغلوا بالتمتّع من أمتعة الحياة فما هم بسابقين و لا معجزين و إنّما حقيقة حياتهم هذه نوع تسخير إلهيّ أسكنّاهم الأرض ثمّ جعلنا ما على الأرض زينة يفتتن الناظر إليها لتتعلّق به نفوسهم فنبلوهم أيّهم أحسن عملاً و إنّا لجاعلون هذا الّذي زيّن لهم بعينه كالصعيد الجرز الّذي ليس فيه نبت و لا شي‏ء ممّا يرغب فيه النفس فالله سبحانه لم يشأ منهم الإيمان جميعاً حتّى يكون مغلوباً بكفرهم بالكتاب و تماديهم في الضلال و تبخع أنت نفسك على آثارهم أسفا و إنّما أراد بهم الابتلاء و الامتحان و هو سبحانه الغالب فيما شاء و أراد.

و قد ظهر بما تقدّم أنّ قوله:( وَ إِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً ) من الاستعارة بالكناية، و المراد به قطع رابطة التعلّق بين الإنسان و بين أمتعة الحياة الدنيا ممّا على الأرض.

و ربّما قيل: إنّ المراد به حقيقة معنى الصعيد الجرز، و المعنى أنّا سنعيد ما على الأرض من زينة تراباً مستوياً بالأرض، و نجعله صعيداً أملس لا نبات فيه و لا شي‏ء عليه.

و قوله:( ما عَلَيْها ) من قبيل وضع الظاهر موضع المضمر و كان من طبع الكلام أن يقال: و إنّا لجاعلوه، و لعلّ النكتة مزيد العناية بوصف كونه على الأرض.

٢٥٨

( بحث روائي)

في تفسير العيّاشيّ، عن البرقيّ رفعه عن أبي بصير عن أبي جعفرعليه‌السلام :( لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ ) قال: البأس الشديد عليّعليه‌السلام و هو من لدن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قاتل معه عدوّه فذلك قوله:( لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ )

أقول: و رواه ابن شهرآشوب عن الباقر و الصادقعليهما‌السلام : و هو من التطبيق و ليس بتفسير.

و في تفسير القمّيّ، في حديث أبي الجارود عن أبي جعفرعليه‌السلام : في قوله:( فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ ) يقول: قاتلٌ نفسك على آثارهم، و أمّا أسفاً يقول حزناً.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن جرير و ابن أبي حاتم و ابن مردويه و الحاكم في التاريخ، عن ابن عمر قال: تلا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذه الآية:( لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ) فقلت ما معنى ذلك يا رسول الله؟ قال: ليبلوكم أيّكم أحسن عقلاً و أورع عن محارم الله و أسرعكم في طاعة الله.

و في تفسير القمّيّ، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفرعليه‌السلام : في قوله:( صَعِيداً جُرُزاً ) قال: لا نبات فيها.

٢٥٩

( سورة الكهف الآيات ٩ - ٢٦)

أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا ( ٩ ) إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا ( ١٠ ) فَضَرَبْنَا عَلَىٰ آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا ( ١١ ) ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَىٰ لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا ( ١٢ ) نَّحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُم بِالْحَقِّ  إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى ( ١٣ ) وَرَبَطْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَن نَّدْعُوَ مِن دُونِهِ إِلَٰهًا  لَّقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا ( ١٤ ) هَٰؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً  لَّوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِم بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ  فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللهِ كَذِبًا ( ١٥ ) وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقًا ( ١٦ ) وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِّنْهُ  ذَٰلِكَ مِنْ آيَاتِ اللهِ مَن يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ  وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُّرْشِدًا ( ١٧ ) وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ  وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ  وَكَلْبُهُم بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ  لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا ( ١٨ ) وَكَذَٰلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ  قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ  قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ  قَالُوا

٢٦٠

قلبه إنّما هو شرّ ير كلّ يوم. فحزن الربّ أنّه عمل الإنسان في الأرض. وتأسّف في قلبه. فقال الربّ: أمحو عن وجه الأرض الإنسان الّذى خلقته. الإنسان مع بهائم ودبّابات وطيور السماء. لأنّى حزنت أنّى عملتهم. وأمّا نوح فوجد نعمة في عين الربّ.

هذه مواليد نوح. كان نوح رجلاً بارّاً كاملاً في أجياله - وسار نوح مع الله. وولد نوح ثلاثة بنين ساما وحاما ويافث. وفسدت الأرض أمام الله وامتلأت الأرض ظلما. ورأى الله الأرض فإذا هي قد فسدت. إذ كان كلّ بشر قد أفسد طريقه على الأرض.

فقال الله لنوح نهاية كلّ بشر قد أتت أمامى. لأنّ الأرض امتلأت ظلما منهم. فها أنا مهلكهم مع الأرض. اصنع لنفسك فلكا من خشب جفر، تجعل الفلك مساكن. وتطليه من داخل ومن خارج بالقار. وهكذا تصنعه. ثلاث مائة ذراع يكون طول الفلك وخمسين ذراعاً عرضه وثلاثين ذراعاً ارتفاعه. وتصنع كوّاً للفلك وتكمّله إلى حدّ ذراع من فوق. وتضع باب الفلك في جانبه. مساكن سفليّة ومتوسّطة وعلويّة تجعله. فها أنا آت بطوفان الماء على الأرض لاُهلك كلّ جسد فيه روح حياة من تحت السماء. كلّ ما في الأرض يموت. ولكن اُقيم عهدي معك. فتدخل الفلك أنت وبنوك امرأتك ونساء بنيك معك. ومن كلّ حىّ من كلّ ذى جسد اثنين من كلّ تدخل إلى الفلك لاستبقائها معك. تكون ذكرا واُنثى. من الطيور كأجناسها. ومن البهائم كأجناسها ومن كلّ دبّابات الأرض كأجناسها. اثنين من كلّ تدخل إليك لاستبقائها. وأنت فخذ لنفسك من كلّ طعام يؤكل واجمعه عندك. فيكون لك ولها طعاماً. ففعل نوح حسب كلّ ما أمره به الله. هكذا فعل.

وقال(١) الربّ لنوح: ادخل أنت وجميع بنيك إلى الفلك. لأنّى إيّاك

____________________

(١) الاصحاح السابع من سفر التكوين.

٢٦١

رأيت بارّا لدىّ في هذا الجيل. من جميع البهائم الطاهرة تأخذ معك سبعة سبعة ذكرا واُنثى. ومن البهائم الّتى ليست بطاهرة اثنين ذكر واُنثى. ومن طيور السماء أيضاً سبعة سبعة ذكرا واُنثى. لاستبقاء نسل على وجه كلّ الأرض. لأنّى بعد سبعة أيّام أيضاً أمطر على الأرض أربعين يوماً وأربعين ليلة. وأمحو عن وجه الأرض كلّ قائم عملته. ففعل نوح حسب كلّ ما أمره به الربّ.

ولمّا كان نوح ابن ستّمائة سنة صار طوفان الماء على الأرض. فدخل نوح وبنوه وامرأته ونساء بنيه معه إلى الفلك من وجه مياه الطوفان. ومن البهائم الطاهرة والبهائم الّتى ليست بطاهرة ومن الطيور وكلّ ما يدبّ على الأرض. دخل اثنان اثنان إلى نوح إلى الفلك ذكر واُنثى. كما أمر الله نوحاً.

وحدث بعد السبعة الأيّام أنّ مياه الطوفان صارت على الأرض. في سنة ستّمائة من حياة نوح في الشهر الثاني في اليوم السابع عشر من الشهر في ذلك اليوم انفجرت كلّ ينابيع الغمر العظيم وانفتحت طاقات السماء. وكان المطر على الأرض أربعين يوماً وأبعين ليلة. في ذلك اليوم عينه دخل نوح وسام وحام ويافث بنو نوح وامرأة نوح وثلاث نساء بنيه معهم إلى الفلك. هم وكلّ الوحوش كأجناسها وكلّ الدبّابات الّتى تدبّ على الأرض كأجناسها وكلّ الطيور كأجناسها كلّ عصفور ذى جناح. ودخل إلى نوح إلى الفلك اثنين اثنين من كلّ جسد فيه روح حياة. والداخلات دخلت ذكرا واُنثى من كلّ ذى جسد كما أمره الله. وأغلق الربّ عليه.

وكان الطوفان أربعين يوماً على الأرض. وتكاثرت المياه ورفعت الفلك فارتفع عن الأرض. وتعاظمت المياه كثيراً جدّاً على الأرض فكان الفلك يسير على وجه المياه. وتعاظمت المياه كثيراً جدّاً على الأرض فتغطّت جميع الجبال الشامخة الّتى تحت كلّ السماء. خمسة عشرة ذراعاً في الارتفاع تعاظمت المياه فتغطّت الجبال. فمات كلّ ذى جسد كان يدبّ على الأرض من الطيور والبهائم والوحوش وكلّ الزحّافات الّتى كانت تزحف على الأرض وجميع الناس. كلّ ما في أنفه نسمة روح حياة من كلّ ما في اليابسة مات. فمحا الله كلّ قائم كان على وجه الأرض. الناس

٢٦٢

والبهائم والدبّابات وطيور السماء فانمحت من الأرض. وتبقّى نوح والّذين معه في الفلك فقطّ. وتعاظمت المياه على الأرض مائة وخمسين يوماً.

ثم(١) ذكر الله نوحاً وكلّ الوحوش وكلّ البهائم الّتى معه في الفلك وأجاز الله ريحاً على الأرض فهدأت المياه. وانسدّت ينابيع الغمر وطاقات السماء فامتنع المطر من السماء. ورجعت المياه عن الأرض رجوعاً متوالياً وبعد مائة وخمسين يوماً نقصت المياه. واستقرّ الفلك في الشهر السابع في اليوم السابع عشر من الشهر على جبال أراراط. وكانت المياه تنقص نقصا متوالياً إلى الشهر العاشر وفي العاشر في أوّل الشهر ظهرت رؤس الجبال.

وحدث من بعد أربعين يوماً أنّ نوحاً فتح طاقة الفلك الّتى كان قد عملها. وأرسل الغراب فخرج متردّدا حتّى نشفت المياه عن الأرض. ثمّ أرسل الحمامة من عنده ليرى هل قلّت المياه عن وجه الأرض. فلم يجد الحمامة مقرّا لرجلها فرجعت إليه إلى الفلك لأنّ مياها كانت على وجه كلّ الأرض فمدّ يده وأخذها وأدخلها عنده إلى الفلك. فلبث أيضاً سبعة أيّام اُخر وعاد فأرسل الحمامة من الفلك. فأتت إليه الحمامة عند المساء وإذا ورقة زيتون خضراء في فمها فعلم نوح أنّ المياه قد قلّت عن الأرض. فلبث أيضاً سبعة أيّام اُخر فأرسل الحمامة فلم يعد يرجع إليه أيضاً.

وكان في السنة الواحدة والستّمائة في الشهر الأوّل في أوّل الشهر أنّ المياه نشفت عن الأرض فكشف نوح الغطاء عن الفلك ونظر فإذا وجه الأرض قد نشف. وفي الشهر الثاني في اليوم السابع والعشرين من الشهر جفّت الأرض.

وكلّم الله نوحاً قائلا. اخرج من الفلك أنت وامرأتك وبنوك ونساء بنيك معك. وكلّ الحيوانات الّتى معك من كلّ ذى جسد الطيور والبهائم وكلّ الدبّابات الّتى تدبّ على الأرض أخرجها معك ولتتوالد في الأرض وتثمر وتكثر على الأرض. فخرج نوح وبنوه وامرأته ونساء بنيه معه، وكلّ الحيوانات وكلّ

____________________

(١) الاصحاح الثامن من سفر التكوين.

٢٦٣

الدبّابات وكلّ الطيور كلّ ما يدبّ على الأرض كأنواعها خرجت من الفلك.

وبنى نوح مذبحا للربّ. وأخذ من كلّ البهائم الطاهرة ومن كلّ الطيور الطاهرة وأصعد محرّقات على المذبح. فتنسّم الربّ رائحة الرضا وقال الربّ في قلبه: لا أعود ألعن الأرض أيضاً من أجل الإنسان لأنّ تصوّر قلب الإنسان شرّير منذ حداثته ولا أعود أيضاً اُميت كلّ حىّ كما فعلت. مدّة كلّ أيّام الأرض زرع وحصاد وبرد وحرّ وصيف وشتاء ونهار وليل لا يزال.

وبارك الله(١) نوحاً وبنيه وقال لهم أثمروا واكثروا واملأوا الأرض ولتكن خشيتكم ورهبتكم على كلّ حيوانات الأرض وكلّ طيور السماء مع كلّ ما يدبّ على الأرض وكلّ أسماك البحر قد دفعت إلى أيديكم. كلّ دابّة حيّة تكون لكم طعاماً كالعشب الأخضر دفعت إليكم الجميع. غير أنّ لحما بجنابة دمه لا تأكلوه. وأطلب أنا دمكم لأنفسكم فقطّ من يد كلّ حيوان أطلبه ومن يد الإنسان أطلب نفس الإنسان من يد الإنسان أخيه. سافك دم الإنسان بالإنسان يسفك دمه لأنّ الله على صورته عمل الإنسان. فأثمروا أنتم واكثروا وتوالدوا في الأرض وتكاثروا فيها.

وكلّم الله نوحاً وبنيه معه قائلا. وها أنا مقيم ميثاقي معكم ومع نسلكم من بعدكم. ومع كلّ ذوات الأنفس الحيّة الّتى معكم الطيور والبهائم وكلّ وحوش الأرض الّتى معكم من جميع الخارجين من الفلك حتّى كلّ حيوان الأرض. اُقيم ميثاقي معكم فلا ينقرض كلّ ذى جسد أيضاً بمياه الطوفان ولا يكون أيضاً طوفان ليخرّب الأرض. وقال الله هذه علامة الميثاق الّذى أنا واضعه بينى وبينكم وبين كلّ ذوات الأنفس الحيّة الّتى معكم إلى أجيال الدهر. وضعت قوسى في السحاب فتكون علامة ميثاق بينى وبين الأرض.فيكون متى أنشر سحابا على الأرض وتظهر القوس في السحاب. أنّى أذكر ميثاقي الّذى بينى وبينكم وبين كلّ نفس حيّة في كلّ جسد فلا يكون أيضاً المياه طوفانا لتهلك كلّ ذى جسد. فمتى كانت القوس في السحاب أبصرها لاذكر ميثاقاً أبديّاً بين الله وبين كلّ نفس حيّة في كلّ جسد على

____________________

(١) الاصحاح التاسع من سفر التكوين.

٢٦٤

الأرض. وقال الله لنوح: هذه علامة الميثاق الّذى أنا أقمته بينى وبين كلّ ذى جسد على الأرض.

وكان بنو نوح الّذين خرجوا من الفلك ساما وحاما ويافث وحام هو ابوكنعان هؤلاء الثلاثة هم بنو نوح ومن هؤلاء تشعّبت كلّ الأرض.

وابتدأ نوح يكون فلّاحا وغرس كرما. وشرب من الخمر فسكر وتعرّى داخل خبائه. فأبصر حام أبوكنعان عورة أبيه وأخبر أخويه خارجا. فأخذ سام ويافث الرداء ووضعاه على أكتافهما ومشيا إلى الوراء وسترا عورة أبيهما ووجهاهما إلى الوراء فلم يبصرا عورة أبيهما.

فلمّا استيقظ نوح من خمره علم ما فعل به ابنه الصغير. فقال: ملعون كنعان عبد العبيد يكون لإخوته. وقال: مبارك الربّ إله سام وليكن كنعان عبداً لهم. ليفتح الله ليافث فيسكن في مساكن سام وليكن كنعان عبداً لهم.

وعاش نوح بعد الطوفان ثلاثماوة وخمسين سنة. فكانت كلّ أيّام نوح تسع ماءة وخمسين سنة ومات. انتهى ما قصدنا إيراده.

وهو - كما ترى - يخالف ما جاء في القرآن الكريم من وجوه:

منها: أنّه لم يذكر فيه حديث استثناء امرأة نوح بل صرّح بدخولها الفلك ونجاتها مع بعلها، وقد اعتذر عنه بعض: أنّ من الجائز أن يكون لنوح زوجان اُغرقت إحداهما ونجت الاُخرى.

ومنها: أنّه لم يذكر فيه ابن نوح الغريق وقد قصّه القرآن.

ومنها: أنّه لم يذكر فيه المؤمنون غير نوح وأهله بل اقتصر عليه وعلى بنيه وامرأته ونساء بنيه.

ومنها: أنّه ذكر فيه جملة عمر نوح تسعمائة وخمسين سنة، وظاهر الكتاب العزيز أنّها المدّة الّتى لبث فيها بين قومه يدعوهم إلى الله قبل الطوفان. قال تعالى:( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ ) العنكبوت: ١٤.

٢٦٥

ومنها: ما ذكر فيه من حديث قوس قزح وقصّة إرسال الغراب والحمامة للاستخبار وخصوصيّات السفينة من عرضها وطولها وارتفاعها وطبقاتها الثلاث ومدّة الطوفان وارتفاع الماء وغير ذلك فهى خصوصيّات لم تذكر في القرآن الكريم وبعضها بعيد مستبعد كالميثاق بالقوس، وقد كثر الاقتصاص بمثل هذه المعاني في قصّة نوحعليه‌السلام في لسان الصحابة والتابعين، وأكثرها بالاسرائيليّات أشبه.

٥ - ما جاء في أمر الطوفان في أخبار الاُمم وأساطيرهم:

قال صاحب المنار في تفسيره: قد ورد في تواريخ الاُمم القديمة ذكر للطوفان منها الموافق لخبر سفر التكوين إلّا قليلا ومنها المخالف له إلّا قليلا.

وأقرب الروايات إليه رواية الكلدانيّين، وهم الّذين وقع الطوفان في بلادهم فقد نقل عنهم (برهوشع) و (يوسيفوس) أنّ (زيزستروس) رأى في الحلم بعد موت والده (اُوتيرت) أنّ المياه ستطغى وتغرق جميع البشر، وأمره ببناء سفينة يعتصم فيها هو وأهل بيته وخاصّة أصدقائه ففعل. وهو يوافق سفر التكوين في أنّه كان في الأرض جيل من الجبّارين طغوا فيها وأكثروا الفساد فعاقبهم الله بالطوفان.

وقد عثر بعض الإنجليز على ألواح من الآجر نقشت فيها هذه الرواية بالحروف المسماريّة في عصر آشور بانيبال من نحو ستّمائة وستّين سنة قبل ميلاد المسيح، وأنّها منقولة من كتابة قديمة من القرن السابع عشر قبل المسيح أو قبله فهى أقدم من سفر التكوين.

وروى اليونان خبرا عن الطوفان أورده أفلاطون وهو أنّ كهنة المصريّين قالوا لسولون - الحكيم اليونانىّ - أنّ السماء أرسلت طوفانا غيّر وجه الأرض فهلك البشر مراراً بطرق مختلفة فلم يبق للجيل الجديد شئ من آثار من قبله ومعارفهم.

وأورد (مانيتون) خبر طوفان حدث بعد هرمس الأوّل الّذى كان بعد ميناس الأوّل، وهذا أقدم من تاريخ التوراة أيضاً، وروى عن قدماء اليونان خبر طوفان عمّ الأرض كلّها إلّا (دوكاليون) وامرأته (بيرا) فقد نجوا منه.

وروى عن قدماء الفرس طوفان أغرق الله به الأرض بما انتشر فيها من الفساد و

٢٦٦

الشرور بفعل أهريمان إله الشرّ، وقالوا: إنّ هذا الطوفان فار أوّلا من تنّور العجوز (زول كوفه) إذ كانت تخبز خبزها فيه، ولكنّ المجوس أنكروا عموم الطوفان وقالوا: إنّه كان خاصّاً بإقليم العراق وانتهى إلى حدود كردستان.

وكذا قدماء الهنود يثبتون وقوع الطوفان سبع مرّات في شكل خرافيّ آخرها أنّ ملكهم نجا هو وامرأته في سفينة عظيمة أمره بصنعها إلهه فشنو وسدّها بالدسر حتّى استوت على جبل جيمافات - هملايا - ولكنّ البراهمة كالمجوس ينكرون وقوع طوفان عامّ أغرق الهند كلّها، وروى تعدّد الطوفان عن اليابان والصين وعن البرازيل والمكسيك وغيرهما، وكلّ هذه الروايات تتّفق في أنّ سبب ذلك عقاب الله للبشر بظلمهم وشرورهم. انتهى.

وقد(١) وقع في (أوستا) وهو كتاب المجوس المقدّس أنّ (أهورامزدا) أوحى إلى (إيما) (وتعتقد المجوس أنّه جمشيد الملك) أنّه سيقع طوفان يغرق الأرض، وأمره أن يبنى حائطا مرتفعا غايته يحفظ من في داخله من الغرق، وأن يجمع في داخله جماعة من الرجال والنساء صالحة للنسل، ويدخل فيه من كلّ جنس من أجناس الحيوان زوجين اثنين، ويبنى في داخل السور بيوتا وقبابا في طبقات مختلفة يسكنها الناس المجتمعون هناك ويأوى إليها الدوابّ والطيور، وأن يغرس في داخله ما ينفع في حياة الناس من الأشجار المثمرة، ويحرث ما يرتزق به الناس من الحبوب الكريمة فيحتفظ بذلك ما به حياة الدنيا وعمارتها.

وفي تاريخ الأدب الهندي(٢) في قصّة الطوفان: أنّه بينما كان (مانو) (هو ابن الإله عند الوثنيّين) يغسل يديه إذ جاءت في يده سمكة، وممّا اندهش به أنّ السمكة كلّمته وطلبت إنقاذها من الهلاك ووعدته جزاء عليه أنّها ستنقذ (مانو) في المستقبل من خطر عظيم، والخطر العظيم المحدق الّذى أنبأت به السمكة كان طوفاناً سيجرف جميع المخلوقات، وعلى ذلك حفظ (مانو) السمكة في المرتبان.

____________________

(١) ترجمة كتاب أوستا بالفرنسية المطبوعة بباريس.

(٢) على ما في قصص الأنبياء لعبد الوهاب النجار.

٢٦٧

فلمّا كبرت أخبرت (مانو) عن السنة الّتى سيأتي فيها الطوفان ثمّ أشارت على مانو أن يصنع سفينة كبيرة ويدخل فيها عند طوفان الماء قائلة: أنا اُنقذك من الطوفان، فمانو صنع السفينة والسمكة كبرت أكثر من سعة المرتبان لذلك ألقاها في البحر.

ثم جاء الطوفان كما أنبأت السمكة، وحين دخل (مانو) السفينة عامت السمكة إليه فربط السفينة بقرن على رأسها فجرّتها إلى الجبال الشماليّة، وهنا ربط مانو السفينة بشجرة، وعند ما تراجع الماء وجفّ بقى مانو وحده. انتهى.

٦ - هل كانت نبوّتهعليه‌السلام عامّة للبشر؟

مسألة اختلفت فيها آراء العلماء. فالمعروف عند الشيعة عموم رسالته، وقد ورد من طرق أهل البيتعليهم‌السلام ما يدلّ عليه، وعلى أنّ اُولى العزم من الأنبياء وهم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمّد (صلّى الله عليه وآله وعليهم) كانوا مبعوثين إلى الناس كافّة.

وأمّا أهل السنّة فمنهم من قال بعموم رسالته مستندا إلى ظاهر الآيات الناطقة بشمول الطوفان لأهل الأرض كلّهم كقوله:( رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا ) نوح: ٢٦ وقوله:( لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِلَّا مَن رَّحِمَ ) هود: ٤٣، وقوله:( وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ ) الصافّات: ٧٧، وما ورد في الصحيح من حديث الشفاعة أنّ نوحاً أوّل رسول أرسله الله إلى أهل الأرض ولازمه كونه مبعوثاً إليهم كافّة.

ومنهم من أنكر ذلك مستنداً إلى ما ورد في الصحيح عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( وكان كلّ نبىّ يبعث إلى قومه خاصّة وبعثت إلى الناس كافّة) وأجابوا عن الآيات أنّها قابلة للتأويل فمن الجائز أن يكون المراد بالأرض هي الّتى كانوا يسكنونها وهى وطنهم كقول فرعون لموسى وهارون:( وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ ) يونس: ٧٨.

فمعنى الآية الاُولى: لا تذر على هذه الأرض من كافرى قومي ديارا، وكذا المراد بالثانية: لا عاصم اليوم لقومي من أمر الله، والمراد بالثالثة: وجعلنا ذرّيّته هم الباقين من قومه.

والحقّ أنّ البحث لم يستوف حقّه في كلامهم، والّذى ينبغى أن يقال: أنّ النبوّة إنّما ظهرت في المجتمع الإنسانيّ عن حاجة واقعيّة إليها ورابطة حقيقيّة بين

٢٦٨

الناس وبين ربّهم وهى تعتمد على حقيقة تكوينيّة لا اعتباريّة جزافيّة فإنّ من القوانين الحقيقيّة الحاكمة في نظام الكون ناموس تكميل الأنواع وهدايتها إلى غاياتها الوجوديّة، وقد قال تعالى:( الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّىٰ وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَىٰ ) الأعلى: ٣، وقال:( الَّذِي أَعْطَىٰ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ ) طه: ٥١.

فكلّ نوع من أنواع الكون متوجّه منذ أوّل تكوّنه إلى كمال وجوده وغاية خلقه الّذى فيه خيره وسعادته، والنوع الإنسانيّ أحد هذه الأنواع غير مستثنى من بينها فله كمال وسعادة يسير إليها ويتوجّه نحوها أفراده فرادى ومجتمعين.

ومن الضرورىّ عندنا أنّ هذا الكمال لا يتمّ للإنسان وحده لوفور حوائجه الحيويّة وكثرة الأعمال الّتى يجب أن يقوم بها لأجل رفعها فالعقل العمليّ الّذى يبعثه إلى الاستفادة من كلّ ما يمكنه الاستفادة منه واستخدام الجماد وأصناف النبات والحيوان في سبيل منافعه يبعثه إلى الانتفاع بأعمال غيره من بنى نوعه.

غير أنّ الأفراد أمثال وفي كلّ واحد منهم من العقل العمليّ والشعور الخاصّ الإنسانيّ ما في الآخر ويبعثه من الانتفاع إلى مثل ما يبعث إليه الآخر ما عنده من العقل العمليّ، واضطرّهم ذلك إلى الاجتماع التعاونيّ بأن يعمل الكلّ للكلّ وينتفع من عمل الغير بمثل ما ينتفع الغير من عمله فيتسخّر كلّ لغيره بمقدار ما يسخّره كما قال تعالى:( نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا ) الزخرف: ٣٢.

وهذا الّذى ذكرناه من بناء الإنسان على الاجتماع التعاونيّ اضطرارىّ له ألزمه عليه حاجة الحياة وقوّة الرقباء فهو في الحقيقة مدنىّ تعاونيّ بالطبع الثانيّ وإلّا فطبعه الأوّلىّ أن ينتفع بكلّ ما يتيسّر له الانتفاع حتّى أعمال أبناء نوعه، ولذلك مهما قوى الإنسان واستغنى واستضعف غيره عدا عليه واُخذ يسترقّ الناس ويستثمرهم من غير عوض قال تعالى:( إِنَّ الْإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ ) إبراهيم: ٣٤ وقال:( إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ أَن رَّآهُ اسْتَغْنَىٰ إِنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ الرُّجْعَىٰ ) العلق: ٨.

ومن الضرورىّ أنّ الاجتماع التعاونيّ بين الأفراد لا يتمّ إلّا بقوانين يحكم

٢٦٩

فيها وحفّاظ تقوم بها، وهذا ممّا استمرّت سيرة النوع عليه فما من مجتمع من المجتمعات الإنسانيّة كاملاً كان أو ناقصاً، راقياً كان أو منحطّاً إلّا ويجرى فيه رسوم وسنن جرياناً كليّاً أو أكثريّاً ، التاريخ والتجربة والمشاهدة أعدل شاهد في تصديقه وهذه الرسوم والسنن وإن شئت فسمّها القوانين هي موادّ وقضايا فكريّة تطبّق عليها أعمال الناس تطبيقاً كلّيّاً أو أكثريّاً في المجتمع فينتج سعادتهم حقيقة أو ظنّاً فهى اُمور متخلّلة بين كمال الإنسان ونقصه، وأشياء متوسّطة بين الإنسان وهو في أوّل نشأته وبينه وهو مستكمل في حياته عائش في مجتمعه تهدى الإنسان إلى غاية وجوده فافهم ذلك.

وقد علم أنّ من الواجب في عناية الله أن يهدى الإنسان إلى سعادة حياته وكمال وجوده على حدّ ما يهدى سائر الأنواع إليه فكما هداه بواجب عنايته من طريق الخلقة والفطرة إلى ما فيه خيره وسعادته وهو الّذى يبعثها إليه نظام الكون والجهازات الّتى جهّز بها إلى أن يشعر بما فيه نفعه ويميّز خيره من شرّه وسعادته من شقائه كما قال تعالى:( وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا ) الشمس: ١٠.

يهديه بواجب عنايته إلى اُصول وقوانين اعتقاديّة وعمليّة يتمّ له بتطبيق شؤون حياته عليها كماله وسعاته فإنّ العناية الإلهيّة بتكميل الأنواع بما يناسب نوع وجودها توجب هذا النوع من الهداية كما توجب الهداية التكوينيّة المحضة.

ولا يكفى في ذلك ما جهّز به الإنسان من العقل - وهو ههنا العمليّ منه - فإنّ العقل كما سمعت يبعث نحو الاستخدام ويدعو إلى الاختلاف، ومن المحال أن يفعل شئ من القوى الفعّالة فعلين متقابلين ويفيد أثرين متناقضين، على أنّ المتخلّفين من هذه القوانين والمجرمين بأنواع الجرائم المفسدة للمجتمع كلّهم عقلاء ممتّعون بمتاع العقل مجهّزون به.

فظهر أنّ هناك طريقا آخر لتعليم الإنسان شريعة الحقّ ومنهج الكمال والسعادة غير طريق التفكّر والتعقّل وهو طريق الوحى، وهو نوع تكليم إلهىّ يعلّم

٢٧٠

الإنسان مايفوز بالعمل به والاعتقاد له في حياته الدنيويّة والاُخرويّة.

فإن قلت: الأمر سواء فإنّ شرع النبوّة لم يأت بأزيد ممّا لو كان العقل لأتى به فإنّ العالم الإنسانيّ لم يخضع لشرائع الأنبياء كما لم يصغ إلى نداء العقل، ولم يقدر الوحى أن يدير المجتمع الإنسانيّ ويركّبه صراط الحقّ فما هي الحاجة إليه؟

قلت: لهذا البحث جهتان: جهة أنّ العناية الإلهيّة من واجبها أن تهدى المجتمع الإنسانيّ إلى تعاليم تسعده وتكمّله لو عمل بها وهى الهداية بالوحى ولا يكفى فيها العقل، وجهة أنّ الواقع في الخارج والمتحقّق بالفعل ما هو؟ وإنّما نبحث في المقام من الجهة الاُولى دون الثانية، ولا يضرّ بها أنّ هذه الطريقة لم تجر بين الناس إلى هذه الغاية إلّا قليلا. وذلك كما أنّ العناية الإلهيّة تهدى انواع النبات والحيوان إلى كمال خلقها وغاية وجودها ومع ذلك يسقط أكثر أفراد كلّ نوع دون الوصول إلى غايته النوعيّة ويفسد ويموت قبل البلوغ إلى عمره الطبيعيّ.

وبالجملة فطريق النبوّة ممّا لا مناص منه في تربية النوع بالنظر إلى العناية الإلهيّة وإلّا لم تتمّ الحجّة بمجرّد العقل لأنّ له شغلاً غير الشغل وهو دعوة الإنسان إلى ما فيه صلاح نفسه، ولو دعاه إلى شئ من صلاح النوع فإنّما يدعوه إليه بما فيه صلاح نفسه فأفهم ذلك وأحسن التدبّر في قوله تعالى:( إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَىٰ نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَىٰ وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلًا لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَىٰ تَكْلِيمًا رُّسُلًا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ) النساء: ١٦٥.

فمن الواجب في العناية أن ينزّل الله على المجتمع الإنسانيّ دينا يدينون به وشريعة يأخذون بها في حياتهم الاجتماعيّة دون أن يخصّ بها قوماً ويترك الآخرين سدى لا عناية بهم، ولازمه الضرورىّ أن يكون أوّل شريعة نزلت عليهم شريعة عامّة.

وقد أخبر الله سبحانه عن هذه الشريعة بقوله عزّ من قائل:( كَانَ النَّاسُ أُمَّةً

٢٧١

وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ ) البقرة: ٢١٣، فبيّن أنّ الناس كانوا أوّل ما نشأوا وتكاثروا على فطرة ساذجة لا يظهر فيهم أثر الاختلافات والمنازعات الحيويّة ثمّ ظهر فيهم الاختلافات فبعث الله الأنبياء بشريعة وكتاب يحكم بينهم بالحقّ فيما اختلفوا فيه، ويحسم مادّة الخصومة والنزاع.

ثمّ قال تعالى فيما امتنّ به على محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ ) الشورى: ١٣. ومقام الامتنان يقضى بأنّ الشرائع الإلهيّة المنزلة على البشر هي هذه الّتى ذكرت لا غير، وأوّل ما ذكر من الشريعة هي شريعة نوح، ولو لم يكن عامّة للبشر كلّهم وخاصّة في زمنهعليه‌السلام لكان هناك إمّا نبىّ آخر ذو شريعة اُخرى لغير قوم نوح ولم يذكر في الآية ولا في موضع آخر من كلامه تعالى، وإمّا إهمال سائر الناس غير قومهعليه‌السلام في زمنه وبعده إلى حين.

فقد بان أنّ نبوّة نوحعليه‌السلام كانت عامّة، وأنّ له كتاباً وهو المشتمل على شريعته الرافعة للاختلاف، وأنّ كتابه أوّل الكتب السماويّة المشتملة على الشريعة، وأنّ قوله تعالى في الآية السابقة( وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ ) هو كتابه أو كتابه وكتاب غيره من اُولى العزم: إبراهيم وموسى وعيسى ومحمّد (صلّى الله عليه وآله وعليهم).

وظهر أيضاً أنّ ما يدلّ من الروايات على عدم عموم دعوتهعليه‌السلام مخالف للكتاب وفي حديث الرضاعليه‌السلام أنّ اُولى العزم من الأنبياء خمسة لكلّ منهم شريعة وكتاب ونبوّتهم عامّة لجميع من سواهم نبيّا أو غير نبىّ، وقد تقدّم الحديث في ذيل قوله تعالى:( كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً ) البقرة ٢١٣، في الجزء الثاني من الكتاب.

٧ - هل الطوفان كانت عامّة لجميع الأرض؟ تبيّن الجواب عن هذا السؤال في الفصل السابق فإنّ عموم دعوتهعليه‌السلام يقضى بعموم العذاب ، وهو نعم القرينة على أنّ المراد بسائر الآيات الدالّة بظاهرها على العموم ذلك كقوله تعالى حكاية عن نوح

٢٧٢

عليه‌السلام :( رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا ) نوح: ٢٦، وقوله حكاية عنه:( لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِلَّا مَن رَّحِمَ ) هود: ٤٣، وقوله: و( وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ ) الصافّات: ٧٧.

ومن الشواهد من كلامه تعالى على عموم الطوفان ما ذكر في موضعين من كلامه تعالى أنّه أمر نوحاً أن يحمل من كلّ زوجين اثنين فمن الواضح أنّه لو كان الطوفان خاصّاً بصقع من أصقاع الأرض وناحية من نواحيها كالعراق - كما قيل - لم يكن أيّ حاجة إلى أن يحمل في السفينة من كلّ جنس من أجناس الحيوان زوجين اثنين. وهو ظاهر.

واختار بعضهم كون الطوفان خاصّاً بأرض قوم نوحعليه‌السلام قال صاحب المنار في تفسيره: أمّا قوله في نوحعليه‌السلام بعد ذكر تنجيته وأهله:( وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ ) فالحصر فيهم يجوز أن يكون إضافيّاً أي الباقين دون غيرهم من قومه، وأمّا قوله:( وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا ) فليس نصّاً في أنّ المراد بالأرض هذه الكرة كلّها فإنّ المعروف من كلام الأنبياء والأقوام وفي أخبارهم أن تذكر الأرض ويراد بها أرضهم ووطنهم كقوله تعالى حكاية عن خطاب فرعون لموسى وهارون:( وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ ) يعنى أرض مصر، وقوله:( وَإِن كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا ) فالمراد بها مكّة، وقوله:( وَقَضَيْنَا إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ ) والمراد بها الأرض الّتى كانت وطنهم، والشواهد عليه كثيرة.

ولكن ظواهر الآيات تدلّ بمعونة القرائن والتقاليد الموروثة عن أهل الكتاب على أنّه لم يكن في الأرض كلّها في زمن نوح إلّا قومه وأنّهم هلكوا كلّهم بالطوفان ولم يبق بعده فيها غير ذرّيّته، وهذا يقتضى أن يكون الطوفان في البقعة الّتى كانوا فيها من الأرض سهلها وجبلها لا في الأرض كلّها إلّا إذا كانت اليابسة منها في ذلك الزمن صغيرة لقرب العهد بالتكوين وبوجود البشر عليها فإنّ علماء التكوين وطبقات الأرض - الجيولوجيّة - يقولون إنّ الأرض كانت عند انفصالها من الشمس

٢٧٣

كرة ناريّة ملتهبة ثمّ صارت كرة مائيّة ثمّ ظهرت فيها اليابسة بالتدريج.

ثمّ أشار إلى ما استدلّ به بعض أهل النظر على عموم الطوفان لجميع الأرض من أنّا نجد بعض الأصداف والأسماك المتحجّرة في أعالي الجبال وهذه الأشياء ممّا لا تتكوّن إلّا في البحر فظهورها في رؤس الجبال دليل على أنّ الماء قد صعد إليها مرّة من المرّات، ولن يكون ذلك حتّى يكون قد عمّ الأرض هذا.

وردّ عليه بأنّ وجود الأصداف والحيوانات البحريّة في قلل الجبال لا يدلّ على أنّه من أثر ذلك الطوفان بل الأقرب أنّه من أثر تكون الجبال وغيرها من اليابسة في الماء كما قلنا آنفاً فإنّ صعود الماء إلى الجبال أيّاماً معدودة لا يكفى لحدوث ما ذكر فيها.

ثمّ قال ما ملخّصه: أنّ هذه المسائل التاريخيّة ليست من مقاصد القرآن ولذلك لم يبيّنها بنصّ قطعيّ فنحن نقول بما تقدّم إنّه ظاهر النصوص ولا نتّخذه عقيده دينيّة قطعيّة فإن أثبت علم الجيولوجيّة خلافه لا يضرّنا لأنّه لا ينقض نصّاً قطعيّاً عندنا. انتهى.

أقول: أمّا ما ذكره من تأويل الآيات فهو من تقييد الكلام من غير دليل، وأمّا قوله في ردّ قولهم بوجود الأصداف والأسماك في قلل الجبال: إنّ صعود الماء إليها في أيّام معدودة لا يكفى في حدوثها ! ففيه أنّ من الجائز أن تحملها أمواج الطوفان العظيمة إليها ثمّ تبقى عليها بعد النشف فإنّ ذلك من طوفان يغمر الجبال الشامخة في أيّام معدودة غير عزيز.

وبعد ذلك كلّه قد فاته ما ينصّ عليه الآيات أنّهعليه‌السلام اُمر أن يحمل من كلّ جنس من أجناس الحيوان زوجين اثنين فإنّ ذلك كالنصّ في أنّ الطوفان عمّ البقاع اليابسة من الأرض جميعاً أو معظمها الّذى هو بمنزلة الجميع.

فالحقّ أنّ ظاهر القرآن الكريم - ظهوراً لا ينكر - أنّ الطوفان كان عامّا للأرض، وأنّ من كان عليها من البشر اُغرقوا جميعاً، ولم يقم لهذا الحين حجّة قطعيّة تصرّفها عن هذا الظهور.

٢٧٤

وقد كنت سألت صديقى الفاضل الدكتور سحابيّ المحترم اُستاذ الجيولوجيا بكلّيّة طهران أن يفيدني بما يرشد إليه الأبحاث الجيولوجيّة في أمر هذا الطوفان العامّ إن كان فيها ما يؤيّد ذلك على وجه كلّىّ فأجابني بإيفاد مقال محصّله ما يأتي مفصّلا في فصول:

١ - الأراضي الرسوبيّة: تطلق الأراضي الرسوبيّة في الجيولوجيا على الطبقات الأرضيّة الّتى كوّنتها رسوبات المياه الجارية على سطح الأرض كالبطائح والمسيلات الّتى غطّتها الرمال ودقاق الحصى.

نعرف الأراضي الرسوبيّة بما تراكم فيها من الرمال ودقاق الحصى الكرويّة المدوّرة فإنّها كانت في الأصل قطعات من الحجارة حادّة الأطراف والزوايا حوّلتها إلى هذه الحالة الاصطكاكات الواقعة بينها في المياه الجارية والسيول العظيمة ثمّ إنّ الماء حملها وبسطها على الأرض في غايات قريبة أو بعيدة بالرسوب.

وليست تنحصر الأراضي الرسوبيّة في البطائح فغالب الأراضي الترابيّة من هذا القبيل تخالطها أو تكوّنها رمال بالغة في الدقّة، وقد حملها لدقّتها وخفّتها إليها جريان المياه والسيول.

نجد الأراضي الرسوبيّة وقد غطّتها طبقات مختلفة من الرمل والتراب بعضها فوق بعض من غير ترتيب ونظم، وذلك - أوّلا - أمارة أنّ تلك الطبقات لم تتكوّن في زمان واحد بعينه - وثانياً - أنّ مسير المياه والسيول أو شدّة جريانها قد تغيّر بحسب اختلاف الأزمنة.

ويتّضح بذلك أنّ الأراضي الرسوبيّة كانت مجارى ومسايل في الأزمنة السابقة لمياه وسيول هامّة وإن كانت اليوم في معزل من ذلك.

وهذه الأراضي الّتى تحكى عن جريان مياه كثيرة جدّاً وسيلان سيول هائلة عظيمة توجد في أغلب مناطق الأرض منها أغلب نقاط إيران كأراضي طهران وقزوين وسمنان وسبزوار ويزد وتبريز وكرمان وشيراز وغيرها، ومنها مركز بين النهرين وجنوبه، وما وراء النهر، وصحراء الشام، والهند، وجنوب فرنسا، وشرقيّ

٢٧٥

الصين، ومصر، وأكثر قطعات إمريكا، وتبلغ صخامة الطبقة الرسوبيّة في بعض الأماكن إلى مآت الأمتار كما أنّها في أرض طهران تجاوز أربعمائة مترا.

وينتج ممّا مرّ أوّلا: أنّ سطح الأرض في عهد ليس بذاك البعيد (على ما سيأتي توضيحه) كان مجرى سيول هائلة عظيمة ربّما غطّت معظم بقاعها.

وثانياً: أنّ الطغيان والطوفان - بالنظر إلى ضخامة القشر الرسوبيّ في بعض الأماكن - لم يحدث مرّة واحدة ولا في سنة أو سنين معدودة بل دام أو تكرّر في مآت من السنين كلّما حدث مرّة كون طبقة رسوبيّة ثمّ إذا انقطع غطّتها طبقة ترابيّة ثمّ إذا عاد كوّن اُخرى وهكذا وكذلك اختلاف الطبقات الرسوبيّة في دقّة رمالها وعدمها يدلّ على اختلاف السيلان بالشدّة والضعف.

٢ - الطبقات الرسوبيّة أحدث القشور والطبقات الجيولوجيّة: ترسب الطبقات الرسوبيّة عادة رسوباً اُفقيّاً ولكن ربّما وقعت أجزاؤها المتراكمة تحت ضغطات جانبيّة قويّة شديدة على ما بها من الدفع من فوق ومن تحت فتخرج بذلك تدريجاً عن الاُفقيّة إلى التدوير والالتواء، وهذا غير ظاهر الأثر في الأزمنة القصيرة المحدودة لكن إذا تمادى الزمان بطوله كمرور الملايين من السنين ظهر الأثر وتكوّنت بذلك الجبال بسلاسلها الملتوية بعض تلالها في بعض وترتفع بقللها من سطوح البحار.

ويستنتج من ذلك أنّ الطبقات الرسوبيّة والقشور الاُفقيّة الباقية على حالها من أحدث الطبقات المتكوّنة على البسيط، والدلائل الفنّيّة الموجودة تدلّ على أنّ عمرها لا يجاوز عشرة آلاف إلى خمس عشرة ألف سنة من زماننا هذا(١) .

٣ - انبساط البحار واتساعها بانحدار المياه إليها . كان تكوّن القشور الرسوبيّة الجديدة عاملاً في انبساط أكثر بحار الكرة واتّساعها بأطرافها فارتفعت

____________________

(١) ويستثنى من ذلك بعض ما في أطراف بالّتيك وسائر المناطق الشماليّة من طبقات رسوبيّة اُفقيّة باقية على حالها من أقدم العهود الجيولوجيّة لجهات مذكورة في محلّها.

٢٧٦

مياهها وغطّت أكثر سواحلها، وعملت جزائر في السواحل أحاطت بها من معظم جوانبها.

فمن ذلك جزيرة بريطانيّة انقطعت في هذا الحين من فرنسا وانفصلت من اُوربه بالكلّيّة، وكانت اُوربه من ناحية جنوبها وإفريقا من ناحية شمالها مرتبطتين برابط برّىّ إلى هذا الحين فانفصلتا باتّساع البحر المتوسّط (مديترانه) وتكوّن بذلك شبه جزيرة إيطاليا وشبه جزيرة تونس من شمالها الشرقيّ وجزائر صقلية وسردينيا وغيرها وكانت جزائر أندنيسيا من ناحية جاوا وسوماترا إلى جنوبىّ جزيرة اليابان متّصلة بآسيا من جهة الجنوب الشرقيّ إلى هذا الحين فانفصلت وتحوّلت إلى صورتها الفعليّة، وكذا انقطاع إمريكا الشماليّة من جهة شمالها عن شمال اُوربه أحد الآثار الباقية من هذا العهد عهد الطوفان.

وللحركات والتحوّلات الأرضيّة الداخليّة آثار قويّة في سير هذه المياه واستقرارها في البقاع الخافضة المنحدرة ولذلك كان ينكشف الماء عن بعض البقاع الساحليّة المغمورة بماء البحار في حين كان الطوفان مستوليا على أكثر البسيط يكوّن بحيرات ويوسّع بحارا، ومن هذا الباب سواحل خوزستان الجنوبيّة انكشف عنها ماء الخليج(١) .

٤ - العوامل المؤثّرة في إزدياد المياه وغزارة عملها في عهد الطوفان . الشواهد الجيولوجيّة الّتى أشرنا إلى بعضها تؤيّد أنّ النزولات الجوّيّة كانت غير عاديّة في أوائل الدور الحاضر من أدوار الحياة الإنسانيّة وهو عهد الطوفان، وقد كان ذلك عن تغيّرات جوّيّة هامّة خارقة للعادة قطعاً.

فكان الهواء حارّاً في هذه الدورة نسبة لكن كان ذلك مسبوقا ببرد شديد وقد غطّى معظم النصف الشماليّ من الكرة الثلج والجمد والجليد فمن المحتمل قويّاً أنّ المتراكم من جمد الدورة السابقة عليه كان باقيا لم يذب بعد في النجود في أكثر بقاع المنطقة المعتدلة الشماليّة.

____________________

(١) وقد كانت مدينة شوش وقصر الكرخة في زمن الملوك الهخامنشيّة بإيران على ساحل البحر وكانت السفن الشرعيّة الجارية في خليج فارس تلقى مراسيها امام القصر.

٢٧٧

فعمل الحرارة في سطح الأرض في دورتين متواليتين على ما به من متراكم الجمد والجليد يوجب تغيّراً شديداً في الجوّ وانقلاباً عظيماً مؤثّراً في ارتفاع بخار الماء إليه وتراكمه فيه تراكماً هائلاً غير عادىّ وتعقّبه نزولات شديدة وأمطار غزيرة غير معهودة.

نزول هذه الأمطار الغزيرة الهاطلة ثمّ استدامتها النزول على الارتفاعات والنجود وخاصّة على سلاسل الجبال الجديدة الحدوث في جنوب آسيا ومغربها وجنوب اُوربه وشمال إفريقا كجبال(١) ألبرز وهيماليا وآلب وفي مغرب إمريكا عقّب جريان سيول عظيمة هائلة عليها تنحت الصخور وتحفر الأرض وتقلع أحجاراً وتحملها إلى الأراضي والبقاع المنحدرة وتحدث أودية جديدة وتعمّق اُخرى قديمة وتوسّعها ثمّ تبسط ما تحمله من الحجارة والحصى والرمل تجاهها قشورا رسوبيّة جديدة.

وممّا كان يمدّ الطوفان السماويّ في شدّة عمله يزيد حجم السيول الجارية أنّ حفر الأودية الجديدة كان يكشف عن ذخائر مائيّة في بطن الأرض هي منابع الآبار والعيون الجارية فيزيل القشور الحافظة لها المانعة من سيلانها فيفجّر العيون ويجريها مع السيول المطريّة، ويزيد في قوّة تخريبها ويعينها في إغراق ما على الأرض من سهل وجبل وغمره.

غير أنّ الذخائر الأرضيّة متناهية محدودة تنفد بالسيلان وبنفادها وإمساك السماء عن الإمطار ينقضى الطوفان وتنحدر المياه إلى البحار والأرضي المنخفضة وإلى بعض الخلاء والسرب الموجود في داخل الأرض الّذى أفرغته السيول بالتفجير والمصّ.

٥ - نتيجة البحث . وعلى ما قدّمناه من البحث الكلّىّ يمكن أن ينطبق ما قصّه الله تعالى من خصوصيّات الطوفان الواقع في زمن نوحعليه‌السلام كقوله تعالى:

____________________

(١) فهى أقل عمرا من سائر جبال الأرض لم تعمر أكثر من مليونى سنة ولذلك كانت أشهق جبال الأرض وأعلى قللا من غيرها لقلة ما ورد عليها من أسباب النحت كالا مطار والرياح.

٢٧٨

( ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر وفجّرنا الأرض عيونا فالتقى الماء على أمر قد قدر) القمر: ١٢، وقوله:( حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ ) هود: ٤٠، وقوله:( وقيل يا أرض ابلعى ماءك ويا سماء أقلعي وغيض الماء وقضى الأمر) هود: ٤٤. انتهى.

وممّا يناسب هذا المقام ما نشره بعض جرائد(١) طهران في هذه الأيّام وملخّصه: أنّ جماعة من رجال العلم من إمريكا بهداية من بعض رجال الجند التركيّ عثروا في بعض قلل جبل آراراط في شرقيّ تركيا في مرتفع ١٤٠٠ قدم على قطعات أخشاب يعطى القياس أنّها قطعات متلاشية من سفينة قديمة وقعت هناك تبلغ بعض هذه القطعات من القدمة ٢٥٠٠ قبل الميلاد.

والقياس يعطى أنّها قطعات من سفينة يعادل حجمه ثلثى حجم مركب (كوئين مارى) الإنجليزيّة الّتى طولها ١٠١٩ قدما وعرضها ١١٨ قدما، وقد حملت الأخشاب إلى سانفرانسيسكو لتحقيق أمرها وأنّها هل تقبل الانطباق على ما تعتقده أرباب النحل من سفينة نوح؟عليه‌السلام .

٦ - عمره عليه‌السلام الطويل : القرآن الكريم يدلّ على أنّهعليه‌السلام عمّر طويلا، وأنّه دعا قومه ألف سنة إلّا خمسين عاما يدعوهم إلى الله سبحانه، وقد استبعده بعض الباحثين لما أنّ الأعمار الإنسانيّة لا تتجاوز في الأغلب المائة أو المائة والعشرين سنة حتّى ذكر بعضهم أنّ القدماء كانوا يعدّون كلّ شهر من الشهور سنة فالألف سنة إلّا خمسين عاما يعدل ثمانين سنة إلّا عشرة شهور. وهو بعيد غايته.

وذكر بعضهم أنّ طول عمرهعليه‌السلام كان كرامة له خارقة للعادة، قال الثعلبيّ في قصص الأنبياء في خصائصهعليه‌السلام : وكان أطول الأنبياء عمرا وقيل له أكبر الأنبياء وشيخ المرسلين، وجعل معجزته في نفسه لأنّه عمّر ألف سنة ولم ينقص له سنّ ولم تنقص له قوّة. انتهى.

____________________

(١) جريدة كيهان المنتشرة أوّل سبتامبر ١٩٦٢ المطابق لغرة ربيع الاول ١٣٨٢ الهجرية القمرية عن لندن. آسوشتيدبرس.

٢٧٩

والحقّ أنّه لم يقم حتّى الآن دليل على امتناع أن يعمّر الإنسان مثل هذه الأعمار بل الأقرب في الاعتبار أن يعمّر البشر الأوّلىّ بأزيد من الأعمار الطبيعيّة اليوم بكثير لما كان لهم من بساطة العيش وقلّة الهموم وقلّة الأمراض المسلّطة علينا اليوم وغير ذلك من الأسباب الهادمة للحياة، ونحن كلّما وجدنا معمّرا عمّر مائة وعشرين إلى مائة وستّين وجدناه بسيط العيش قليل الهمّ ساذج الفهم فليس من البعيد أن يرتقى بعض الأعمار في السابقين إلى مآت من السنين.

على أنّ الاعتراض على كتاب الله في مثل عمر نوحعليه‌السلام وهو يذكر من معجزات الأنبياء الخارقة للعادة شيئاً كثيراً لعجيب. وقد تقدّم كلام في المعجزة في الجزء الأوّل من الكتاب.

٧ - أين هو جبل الجودى : ذكروا أنّه بديار بكر من موصل في جبال تتّصل بجبال أرمينيّة، وقد سمّاه في التوراة أراراط. قال قى القاموس: و الجودىّ جبل بالجزيرة استوت عليه سفينة نوحعليه‌السلام ، ويسمّى في التوراة (أراراط) انتهى، وقال في مراصد الاطّلاع: الجودىّ مشدّدة جبل مطلّ على جزيرة ابن عمر في شرقيّ دجلة من أعمال الموصل استوت عليه سفينة نوح لمّا نضب الماء.

٨ - ربّما قيل : هب إنّه أغرق قوم نوح بذنبهم فما هو ذنب سائر الحيوان الّذى على الأرض حيث هلكت بطاغية المياه؟ وهذا من أسقط الاعتراض فما كلّ هلاك ولو كان عامّا عقوبة وانتقاماً، والحوادث العامّة الّتى تهلك الاُلوف ثمّ الاُلوف مثل الزلازل والطوفانات والوباء والطاعون كثير الوقوع في الدهر، ولله فيما يقضى حكم.

( كلام في عبادة الأصنام في فصول)

١ - الإنسان واطمئنانه إلى الحسّ : الإنسان يجرى في حياته الاجتماعيّة على اعتبار قانون العلّيّة والمعلوليّة الكلّىّ وسائر القوانين الكلّيّة الّتى أخذها من هذا النظام العامّ المشهود، وهو على خلاف ما نشاهده من أعمال سائر الحيوان و

٢٨٠

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443