الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٣

الميزان في تفسير القرآن8%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 443

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 443 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 114707 / تحميل: 6729
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٣

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُم بِوَرِقِكُمْ هَٰذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَىٰ طَعَامًا فَلْيَأْتِكُم بِرِزْقٍ مِّنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا( ١٩) إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَن تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا( ٢٠) وَكَذَٰلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ  فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِم بُنْيَانًا  رَّبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ  قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَىٰ أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِدًا( ٢١) سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ  وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ  قُل رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ  فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِم مِّنْهُمْ أَحَدًا( ٢٢) وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَٰلِكَ غَدًا( ٢٣) إِلَّا أَن يَشَاءَ اللهُ  وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَىٰ أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا( ٢٤) وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا( ٢٥) قُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا  لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ  أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ  مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا( ٢٦)

٢٦١

( بيان‏)

الآيات تذكر قصّة أصحاب الكهف و هي أحد الاُمور الثلاثة الّتي أشارت اليهود على قريش أن تسأل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عنها و تختبر بها صدقه في دعوى النبوّة: قصّة أصحاب الكهف و قصّة موسى و فتاه و قصّة ذي القرنين على ما وردت به الرواية غير أنّ هذه القصّة لم تصدّر بما يدلّ على تعلّق السؤال بها كما صدّرت به قصّة ذي القرنين:( يَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ ) الآية و إن كان في آخرها بعض ما يشعر بذلك كقوله:( وَ لا تَقُولَنَّ لِشَيْ‏ءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً ) على ما سيجي‏ء.

و سياق الآيات الثلاث الّتي افتتحت بها القصّة مشعر بأنّ قصّة الكهف كانت معلومة إجمالاً قبل نزول الوحي بذكر القصّة و خاصّة سياق قوله:( أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَ الرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً ) و أنّ الّذي كشف عنه الوحي تفصيل قصّتهم الآخذ من قوله:( نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ ) إلى آخر الآيات.

و وجه اتّصال آيات القصّة بما تقدّم أنّه يشير بذكر قصّتهم و نفي كونهم عجباً من آيات الله أنّ أمر جعله تعالى ما على الأرض زينة لها يتعلّق بها الإنسان و يطمئنّ إليها مكبّاً عليها منصرفاً غافلاً عن غيرها لغرض البلاء و الامتحان ثمّ جعل ما عليها بعد أيّام قلائل صعيداً جرزاً لا يظهر للإنسان إلّا سدى و سراباً ليس ذلك كلّه إلّا آية إلهيّة هي نظيرة ما جرى على أصحاب الكهف حين سلّط الله عليهم النوم في فجوة من الكهف ثلاث مائة سنين شمسيّة ثمّ لمّا بعثهم لم يحسبوا مكثهم ذلك إلّا مكث يوم أو بعض يوم.

فمكث كلّ إنسان في الدنيا و اشتغاله بزخارفها و زيناتها و تولّهه إليها ذاهلا عمّا سواها آية تضاهي في معناها آية أصحاب الكهف و سيبعث الله الناس من هذه الرقدة فيسألهم( كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ) المؤمنون: ١١٣( كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ ) الأحقاف: ٣٥ فما آية أصحاب الكهف ببدع عجيب من بين الآيات بل هي متكرّرة

٢٦٢

جارية ما جرت الأيّام و الليالي على الإنسان.

فكأنّه تعالى لمّا قال:( فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى‏ آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً ) إلى تمام ثلاث آيات قال مخاطباً لنبيّه: فكأنّك ما تنبّهت أنّ اشتغالهم بالدنيا و عدم إيمانهم بهذا الحديث عن تعلّقهم بزينة الأرض آية إلهيّة تشابه آية مكث أصحاب الكهف في كهفهم ثمّ انبعاثهم و لذلك حزنت و كدت تقتل نفسك أسفا بل حسبت أنّ أصحاب الكهف كانوا من آياتنا بدعاً عجباً من النوادر في هذا الباب.

و إنّما لم يصرّح بهذا المعنى صونا لمقام النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن نسبة الغفلة و الذهول إليه و لأنّ الكناية أبلغ من التصريح.

هذا ما يعطيه التدبّر في وجه اتّصال القصّة و على هذا النمط يجري السياق في اتّصال ما يتلو هذه القصّة من مثل رجلين لأحدهما جنّتان و قصّة موسى و فتاه و سيجي‏ء بيانه و قد ذكر في اتّصال القصّة وجوه اُخر غير وجيهة لا جدوى في نقلها.

قوله تعالى: ( أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَ الرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً ) الحسبان هو الظنّ، و الكهف هو المغارة في الجبل إلّا أنّه أوسع منها فإذا صغر سمّي غارا و الرقيم من الرقم و هو الكتابة و الخطّ فهو في الأصل فعيل بمعنى المفعول كالجريح و القتيل بمعنى المجروح و المقتول، و العجب مصدر بمعنى التعجّب اُريد به معنى الوصف مبالغة.

و ظاهر سياق القصّة أنّ أصحاب الكهف و الرقيم جماعة بأعيانهم و القصّة قصّتهم جميعاً فهم المسمّون أصحاب الكهف و أصحاب الرقيم أمّا تسميتهم أصحاب الكهف فلدخولهم الكهف و وقوع ما جرى عليهم فيه.

و أمّا تسميتهم أصحاب الرقيم فقد قيل: إنّ قصّتهم كانت منقوشة في لوح منصوب هناك أو محفوظ في خزانة الملوك فبذلك سمّوا أصحاب الرقيم: و قيل: إنّ الرقيم اسم الجبل الّذي فيه الكهف، أو الوادي الّذي فيه الجبل أو البلد الّذي خرجوا منه إلى الكهف أو الكلب الّذي كان معهم أقوال خمسة، و سيأتي في الكلام

٢٦٣

على قصّتهم ما يؤيّد القول الأوّل.

و قيل: إنّ أصحاب الرقيم غير أصحاب الكهف و قصّتهم غير قصّتهم ذكرهم الله مع أصحاب الكهف و لم يذكر قصّتهم و قد رووا لهم قصّة سنشير إليها في البحث الروائيّ الآتي.

و هو بعيد جدّاً فما كان الله ليشير في بليغ كلامه إلى قصّة طائفتين ثمّ يفصّل القول في إحدى القصّتين و لا يتعرّض للاُخرى لا إجمالاً و لا تفصيلاً على أنّ ما أوردوه من قصّة أصحاب الرقيم لا يلائم السياق السابق المستدعي لذكر قصّة أصحاب الكهف.

و قد تبيّن ممّا تقدّم في وجه اتّصال القصّة أنّ معنى الآية: بل ظننت أنّ أصحاب الكهف و الرقيم - و قد أنامهم الله مئات من السنين ثمّ أيقظهم فحسبوا أنّهم لبثوا يوماً أو بعض يوم - كانوا من آياتنا آية عجيبة كلّ العجب؟ لا و ليسوا بعجب و ما يجري على عامّة الإنسان من افتتانه بزينة الأرض و غفلته عن أمر المعاد ثمّ بعثه و هو يستقلّ اللبث في الدنيا آية جارية تضاهي آية الكهف.

و ظاهر السياق - كما تقدّمت الإشارة إليه - أنّ القصّة كانت معلومة للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إجمالاً عند نزول القصّة و إنّما العناية متعلّقة بالإخبار عن تفصيلها، و يؤيّد ذلك تعقيب الآية بالآيات الثلاث المتضمّنة لإجمال القصّة حيث إنّها تذكر إجمال القصّة المؤدّي إلى عدّهم آية عجيبة نادرة في بابها.

قوله تعالى: ( إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ ) إلى آخر الآية الاُويّ الرجوع و لا كلّ رجوع بل رجوع الإنسان أو الحيوان إلى محلّ يستقرّ فيه أو ليستقرّ فيه و الفتية جمع سماعيّ لفتى و الفتى الشابّ و لا تخلو الكلمة من شائبة مدح.

و التهيئة الإعداد قال البيضاويّ: و أصل التهيئة إحداث هيأة الشي‏ء انتهى و الرشد بفتحتين أو الضمّ فالسكون الاهتداء إلى المطلوب، قال الراغب: الرشد و الرشد خلاف الغيّ يستعمل استعمال الهداية. انتهى.

٢٦٤

و قوله:( فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً ) تفريع لدعائهم على اُويّهم كأنّهم اضطرّوا لفقد القوّة و انقطاع الحيلة إلى المبادرة إلى المسألة، و يؤيّده قولهم:( مِنْ لَدُنْكَ ) فلو لا أنّ المذاهب أعيتهم و الأسباب تقطّعت بهم و اليأس أحاط بهم ما قيّدوا الرحمة المسؤولة أن تكون من لدنه تعالى بل قالوا: آتنا رحمة كقول غيرهم( رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً ) البقرة: ٢٠١( رَبَّنا وَ آتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى‏ رُسُلِكَ ) آل عمران: ١٩٤ فالمراد بالرحمة المسؤولة التأييد الإلهيّ إذ لا مؤيّد غيره.

و يمكن أن يكون المراد بالرحمة المسؤولة من لدنه بعض المواهب و النعم المختصّة به تعالى كالهداية الّتي يصرّح في مواضع من كلامه بأنّها منه خاصّة، و يشعر به التقييد بقوله( مِنْ لَدُنْكَ ) ، و يؤيّده ورود نظيره في دعاء الراسخين في العلم المنقول في قوله:( رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَ هَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً ) آل عمران: ٨ فما سألوا إلّا الهداية.

و قوله:( وَ هَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً ) المراد من أمرهم الشأن الّذي يخصّهم و هم عليه و قد هربوا من قوم يتتبّعون المؤمنين و يسفكون دماءهم و يكرهونهم على عبادة غير الله، و التجأوا إلى كهف و هم لا يدرون ما ذا سيجري عليهم؟ و لا يهتدون أيّ سبيل للنجاة يسلكون؟ و من هنا يظهر أنّ المراد بالرشد الاهتداء إلى ما فيه نجاتهم.

فالجملة أعني قوله:( وَ هَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً ) على أوّل الاحتمالين السابقين في معنى الرحمة عطف تفسير على قوله:( آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً ) و على ثانيهما مسألة بعد مسألة.

قوله تعالى: ( فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً ) قال في الكشّاف، أي ضربنا عليها حجابا من أن تسمع يعني أنمناهم إنامة ثقيلة لا تنبّههم فيها الأصوات كما ترى المستثقل في نومه يصاح به فلا يسمع و لا يستنبه فحذف المفعول الّذي هو الحجاب كما يقال: بنى على امرأته يريدون بنى عليها القبّة. انتهى.

و قال في المجمع،: و معنى ضربنا على آذانهم سلّطنا عليهم النوم، و هو من

٢٦٥

الكلام البالغ في الفصاحة يقال: ضربه الله بالفالج إذا ابتلاه الله به، قال قطرب: هو كقول العرب: ضرب الأمير على يد فلان إذا منعه من التصرّف، قال الأسود بن يعفر و قد كان ضريرا:

و من الحوادث لا أبالك أنني

ضربت علي الأرض بالأسداد

و قال: هذا من فصيح لغات القرآن الّتي لا يمكن أن يترجم بمعنى يوافق اللفظ انتهى، و ما ذكره من المعنى أبلغ ممّا ذكره الزمخشريّ.

و هنا معنى ثالث و إن لم يذكروه: و هو أن يكون إشارة إلى ما تصنعه النساء عند إنامة الصبيّ غالباً من الضرب على اُذنه بدقّ الأكفّ أو الأنامل عليها دقّاً نعيماً لتتجمّع حاسته عليه فيأخذه النوم بذلك فالجملة كناية عن إنامتهم سنين معدودة بشفقة و حنان كما تفعل الاُمّ المرضع بطفلها الرضيع.

و قوله:( سِنِينَ عَدَداً ) ظرف للضرب، و العدد مصدر كالعدّ بمعنى المعدود فالمعنى سنين معدودة، و قيل بحذف المضاف و التقدير ذوات عدد.

و قد قال في الكشّاف، إنّ توصيف السنين بالعدد يحتمل أن يراد به التكثير أو التقليل لأنّ الكثير قليل عنده كقوله: لم يلبثوا إلّا ساعة من نهار، و قال الزجّاج إنّ الشي‏ء إذا قلّ فهم مقدار عدده فلم يحتج أن يعدّ و إذا كثر احتاج إلى أن يعدّ. انتهى ملخّصاً.

و ربّما كانت العناية في التوصيف بالعدد هي أنّ الشي‏ء إذا بلغ في الكثرة عسر عدّه فلم يعدّ عادة و كان التوصيف بالعدد أمارة كونه قليلاً يقبل العدّ بسهولة، قال تعالى:( وَ شَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ ) يوسف: ٢٠ أي قليلة.

و كون الغرض من التوصيف بالعدد هو التقليل هو الملائم للسياق على ما مرّ فإنّ الكلام مسرود لنفي كون قصّتهم عجباً و إنّما يناسبه تقليل سني لبثهم لا تكثيرها - و معنى الآية ظاهر و قد دلّ فيها على كونهم نائمين في الكهف طول المدّة لا ميّتين.

قوله تعالى: ( ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى‏ لِما لَبِثُوا أَمَداً ) المراد

٢٦٦

بالبعث هو الإيقاظ دون الإحياء بقرينة الآية السابقة، و قال الراغب: الحزب جماعة فيها غلظ انتهى.

و قال: الأمد و الأبد يتقاربان لكنّ الأبد عبارة عن مدّة الزمان الّتي ليس لها حدّ محدود و لا يتقيّد لا يقال: أبد كذا، و الأمد مدّة لها حدّ مجهول إذا اُطلق، و قد ينحصر نحو أن يقال: أمد كذا كما يقال: زمان كذا. و الفرق بين الأمد و الزمان أنّ الأمد يقال باعتبار الغاية و الزمان عامّ في المبدء و الغاية، و لذلك قال بعضهم: المدى و الأمد يتقاربان. انتهى.

و المراد بالعلم العلم الفعليّ و هو ظهور الشي‏ء و حضوره بوجوده الخاصّ عند الله، و قد كثر ورود العلم بهذا المعنى في القرآن كقوله:( لِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَ رُسُلَهُ بِالْغَيْبِ ) الحديد: ٢٥، و قوله:( لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ ) الجنّ: ٢٨ و إليه يرجع قول بعضهم في تفسيره: أنّ المعنى ليظهر معلومنا على ما علمناه.

و قوله:( لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى) إلخ تعليل للبعث و اللام للغاية و المراد بالحزبين الطائفتان من أصحاب الكهف حين سأل بعضهم بعضاً بعد البعث: قائلا كم لبثتم قالوا لبثناً يوماً أو بعض يوم قالوا ربّكم أعلم بما لبثتم على ما يفيده قوله تعالى في الآيات التالية:( وَ كَذلِكَ بَعَثْناهُمْ لِيَتَسائَلُوا بَيْنَهُمْ ) إلخ.

و أمّا قول القائل: إنّ المراد بالحزبين الطائفتان من قومهم المؤمنون و الكافرون كأنّهم اختلفوا في أمد لبثهم في الكهف بين مصيب في إحصائه و مخطئ فبعثهم الله تعالى ليبيّن ذلك و يظهر، و المعنى أيقظناهم ليظهر أيّ الطائفتين المختلفتين من المؤمنين و الكافرين في أمد لبثهم مصيبة في قولها، فبعيد.

و قوله:( أَحْصى‏ لِما لَبِثُوا أَمَداً ) فعل ماض من الإحصاء، و( أمدا ) مفعوله و الظاهر أنّ( لِما لَبِثُوا ) قيد لقوله:( أَمَداً ) و ما مصدريّة أي أيّ الحزبين عدّ أمد لبثهم و قيل: أحصى اسم تفضيل من الإحصاء بحذف الزوائد كقولهم: هو أحصى للمال و أفلس من ابن المذلق(١) ، و أمدا منصوب بفعل يدلّ عليه( أَحْصى) و لا يخلو

____________________

(١) مثل.

٢٦٧

من تكلّف، و قيل غير ذلك.

و معنى الآيات الثلاث أعني قوله:( إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ - إلى قوله -أَمَداً ) إذ رجع الشبّان إلى الكهف فسألوا عند ذلك ربّهم قائلين: ربّنا هب لنا من لدنك ما ننجو به ممّا يهدّدنا بالتخيير بين عبادة غيرك و بين القتل و أعدّ لنا من أمرنا هدى نهتدي به إلى النجاة فأنمناهم في الكهف سنين معدودة ثمّ أيقظناهم ليتبيّن أيّ الحزبين عدّ أمداً للبثهم.

و الآيات الثلاث - كما ترى - تذكر إجمال قصّتهم تشير بذلك إلى جهة كونهم من آيات الله و غرابة أمرهم، تشير الآية الاُولى إلى دخولهم الكهف و مسألتهم للنجاة، و الثانية إلى نومهم فيه سنين عدداً، و الثالثة إلى تيقّظهم و انتباههم و اختلافهم في تقدير زمان لبثهم.

فلإجمال القصّة أركان ثلاثة تتضمّن كلّ واحدة من الآيات الثلاث واحداً منها و على هذا النمط تجري الآيات التالية المتضمّنة لتفصيل القصّة غير أنّها تضيف إلى ذلك بعض ما جرى بعد ظهور أمرهم و تبيّن حالهم للناس، و هو الّذي يشير إليه قوله:( وَ كَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ ) إلى آخر آيات القصّة.

قوله تعالى: ( نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ ) إلى آخر الآية. شروع في ذكر ما يهمّ من خصوصيّات قصّتهم تفصيلاً، و قوله:( إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ ) أي آمنوا إيماناً مرضيّاً لربّهم و لو لا ذلك لم ينسبه إليهم قطعاً.

و قوله:( وَ زِدْناهُمْ هُدىً ) الهدى بعد أصل الإيمان ملازم لارتقاء درجة الإيمان الّذي فيه اهتداء الإنسان إلى كلّ ما ينتهي إلى رضوان الله قال تعالى:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَ آمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَ يَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ ) الحديد: ٢٨.

قوله تعالى: ( وَ رَبَطْنا عَلى‏ قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا ) إلى آخر الآيات الثلاث الربط هو الشدّ، و الربط على القلوب كناية عن سلب القلق و الاضطراب عنها، و الشطط الخروج عن الحدّ و التجاوز عن الحقّ، و السلطان الحجّة و البرهان.

٢٦٨

و الآيات الثلاث تحكي الشطر الأوّل من محاورتهم حين انتهضوا لمخالفة الوثنيّة و مخاصمتهم( إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْ لا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى‏ عَلَى اللهِ كَذِباً ) .

و قد أتوا بكلام مملوء حكمة و فهما راموا به إبطال ربوبيّة أرباب الأصنام من الملائكة و الجنّ و المصلحين من البشر الّذين رامت الفلسفة الوثنيّة إثبات اُلوهيّتهم و ربوبيّتهم دون نفس الأصنام الّتي هي تماثيل و صور لاُولئك الأرباب تدعوها عامّتهم آلهة و أرباباً، و من الشّاهد على ذلك قوله:( عَلَيْهِمْ ) حيث أرجع إليهم ضمير( عَلَيْهِمْ ) المختصّ باُولى العقل.

فبدؤوا بإثبات توحيده بقولهم:( رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ) فأسندوا ربوبيّة الكلّ إلى واحد لا شريك له، و الوثنيّة تثبت لكلّ نوع من أنواع الخلقية إلها و ربّا كربّ السماء و ربّ الأرض و ربّ الإنسان.

ثمّ أكّدوا ذلك بقولهم:( لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً ) و من فائدته نفي الآلهة الّذين تثبتهم الوثنيّة فوق أرباب الأنواع كالعقول الكلّيّة الّتي تعبده الصابئة و برهما و سيوا و وشنو الّذين تعبدهم البراهمة و البوذيّة و أكّدوه ثانياً بقولهم:( لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً ) فدلّوا على أنّ دعوة غيره من التجاوز عن الحدّ بالغلوّ في حقّ المخلوق برفعه إلى درجة الخالق.

ثمّ كرّوا على القوم في عبادتهم غير الله سبحانه باتّخاذهم آلهة فقالوا:( هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْ لا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ ) فردّوا قولهم بأنّهم لا برهان لهم على ما يدّعونه يدلّ عليه دلالة بيّنة.

و ما استدلّوا به من قولهم: إنّ الله سبحانه أجلّ من أن يحيط به إدراك خلقه فلا يمكن التوجّه إليه بالعبادة و لا التقرّب إليه بالعبوديّة فلا يبقى لنا إلّا أن نعبد بعض الموجودات الشريفة من عباده المقرّبين ليقرّبونا إليه زلفى مردود إليهم أمّا عدم إحاطة الإدراك به تعالى فهو مشترك بيننا معاشر البشر و بين من يعبدونه من

٢٦٩

العباد المقرّبين، و الجميع منّا و منهم يعرفونه بأسمائه و صفاته و آثاره كلّ على قدر طاقته فله أن يتوجّه إليه بالعبادة على قدر معرفته.

على أنّ جميع الصفات الموجبة لاستحقاق العبادة من الخلق و الرزق و الملك و التدبير له وحده و لا يملك غيره شيئاً من ذلك فله أن يعبد و ليس لغيره ذلك.

ثمّ أردفوا قولهم:( لَوْ لا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ ) بقولهم:( فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى‏ عَلَى اللهِ كَذِباً ) و هو من تمام الحجّة الرادّة لقولهم، و معناه أنّ عليهم أن يقيموا برهاناً قاطعاً على قولهم فلو لم يقيموه كان قولهم من القول بغير علم في الله و هو افتراء الكذب عليه تعالى، و الافتراء ظلم و الظلم على الله أعظم الظلم. هذا فقد دلّوا بكلامهم هذا أنّهم كانوا علماء بالله اُولي بصيرة في دينهم، و صدّقوا قوله تعالى( وَ زِدْناهُمْ هُدىً ) .

و في الكلام على ما به من الإيجاز قيود تكشف عن تفصيل نهضتهم في بادئها فقوله تعالى:( وَ رَبَطْنا عَلى‏ قُلُوبِهِمْ ) يدلّ على أنّ قولهم:( رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ) إلخ لم يكن بإسرار النجوى و في خلإ من عبدة الأوثان بل كان بإعلان القول و الإجهار به في ظرف تذوب منه القلوب و ترتاع النفوس و تقشعرّ الجلود في ملإ معاند يسفك الدماء و يعذّب و يفتن.

و قوله:( لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً ) بعد قوله:( رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ) - و هو جحد و إنكار - فيه إشعار و تلويح إلى أنّه كان هناك تكليف إجباريّ بعبادة الأوثان و دعاء غير الله.

و قوله:( إِذْ قامُوا فَقالُوا ) إلخ يشير إلى أنّهم في بادئ قولهم كانوا في مجلس يصدر عنه الأمر بعبادة الأوثان و الإجبار عليها و النهي عن عبادة الله و السياسة المنتحلية بالقتل و العذاب كمجلس الملك أو ملأه أو ملإ عامّ كذلك فقاموا و أعلنوا مخالفتهم و خرجوا و اعتزلوا القوم و هم في خطر عظيم يهدّدهم و يهجم عليهم من كلّ جانب كما يدلّ عليه قولهم:( وَ إِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَ ما يَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ ) .

٢٧٠

و هذا يؤيّد ما وردت به الرواية - و سيجي‏ء الخبر - أنّ ستّة منهم كانوا من خواصّ الملك يستشيرهم في اُموره فقاموا من مجلس و أعلنوا التوحيد و نفي الشريك عنه تعالى.

و لا ينافي ذلك ما سيأتي من الروايات أنّهم كانوا يسرّون إيمانهم و يعملون بالتقيّة لجواز أن يكونوا سائرين عليها ثمّ يفاجؤوا القوم بإعلان الإيمان ثمّ يعتزلوهم من غير مهل فلم تكن تسعهم إدامة التظاهر بالإيمان و إلّا قتلوا بلا شكّ.

و ربّما احتمل أن يكون المراد بقيامهم قيامهم لله نصرة منهم للحقّ و قولهم:( رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ) إلخ قولاً منهم في أنفسهم و قولهم:( وَ إِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ ) إلخ قولاً منهم بعد ما خرجوا من المدينة، أو يكون المراد قيامهم لله، و جميع ما نقل من أقوالهم إنّما قالوها فيما بين أنفسهم بعد ما خرجوا من المدينة و تنحوا عن القوم و على الوجهين يكون المراد بالربط على قلوبهم أنّهم لم يخافوا عاقبة الخروج و الهرب من المدينة و هجرة القوم لكن الأظهر هو الوجه الأوّل.

قوله تعالى: ( وَ إِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَ ما يَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ ) إلى آخر الآية الاعتزال و التعزّل التنحي عن أمر، و النشر البسط، و المرفق بكسر الميم و فتح الفاء و بالعكس و بفتحهما المعاملة بلطف.

هذا هو الشطر الثاني من محاورتهم جرت بينهم بعد خروجهم من بين الناس و اعتزالهم إيّاهم و ما يعبدون من دون الله و تنحّيهم عن الجميع يشير به بعضهم عليهم أن يدخلوا الكهف و يتستّروا فيه من أعداء الدين.

و قد تفرّسوا بهدى إلهيّ أنّهم لو فعلوا ذلك عاملهم الله من لطفه و رحمته بما فيه نجاتهم من تحكّم القوم و ظلمهم و الدليل على ذلك قولهم بالجزم:( فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ ) إلخ و لم يقولوا: عسى أن ينشر أو لعلّ.

و هذان اللّذان تفرّسوا بهما من نشر الرحمة و تهيئة المرفق هما اللّذان سألوهما بعد دخول الكهف إذ قالوا - كما حكى الله -( رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَ هَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً ) .

٢٧١

و الاستثناء في قوله:( وَ ما يَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ ) استثناء منقطع فإنّ الوثنيّين لم يكونوا يعبدون الله مع سائر آلهتهم حتّى يفيد الاستثناء إخراج بعض ما دخل أوّلاً في المستثنى منه فيكون متّصلاً فقول بعضهم: إنّهم كانوا يعبدون الله و يعبدون الأصنام كسائر المشركين. و كذا قول بعض آخر: يجوز أنّه كان فيهم من يعبدالله مع عبادة الأصنام فيكون الاستثناء متّصلاً في غير محلّه، إذ لم يعهد من الوثنيّين عبادة الله سبحانه مع عبادة الأصنام، و فلسفتهم لا تجيز ذلك، و قد أشرنا إلى حجّتهم في ذلك آنفاً.

قوله تعالى: ( وَ تَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَتَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَ إِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ ) إلى آخر الآيتين التزاور هو التمايل مأخوذ من الزور بمعنى الميل و القرض القطع، و الفجوة المتّسع من الأرض و ساحة الدار و المراد بذات اليمين و ذات الشمال الجهة الّتي تلي اليمين أو الشمال أو الجهة ذات اسم اليمين أو الشمال و هما جهتا اليمين و الشمال.

و هاتان الآيتان تمثّلان الكهف و مستقرّهم منه و منظرهم و ما يتقلّب عليهم من الحال أيّام لبثهم فيه و هم رقود و الخطاب للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بما أنّه سامع لا بما أنّه هو، و هذا شائع في الكلام، و الخطاب على هذا النمط يعمّ كلّ سامع من غير أن يختصّ بمخاطب خاصّ.

فقوله:( وَ تَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَتَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَ إِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ وَ هُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ) يصف موقع الكهف و موقعهم فيه و هم نائمون و أمّا إنامتهم فيه بعد الاُويّ إليه و مدّة لبثهم فيه فقد اكتفي في ذلك بما اُشير إليه في الآيات السابقة من إنامتهم و لبثهم و ما سيأتي من قوله:( وَ لَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ) ( إلخ) إيثاراً للإيجاز.

و المعنى: و ترى أنت و كلّ راء يفرض اطّلاعه عليهم و هم في الكهف يرى الشمس إذا طلعت تتزاور و تتمايل عن كهفهم جانب اليمين فيقع نورها عليه، و إذا غربت تقطع جانب الشمال فيقع شعاعها عليه و هم في متّسع من الكهف لا تناله الشمس.

٢٧٢

و قد أشار سبحانه بذلك إلى أنّ الكهف لم يكن شرقيّاً و لا غربيّاً لا يقع عليه شعاع الشمس إلّا في أحد الوقتين بل كان قطبيّاً يحاذي ببابه القطب فيقع شعاع الشمس على أحد جانبيه من داخل طلوعاً و غروباً، و لا يقع عليهم لأنّهم كانوا في متّسع منه فوقاهم الله بذلك من أن يؤذيهم حرّ الشمس أو يغيّر ألوانهم أو يبلي ثيابهم بل كانوا مرتاحين في نومتهم مستفيدين من روح الهواء المتحوّل عليهم بالشروق و الغروب و هم في فجوة منه، و لعلّ تنكير فجوة للدلالة على وصف محذوف و التقدير و هم في فجوة منه لا يصيبهم فيه شعاعها.

و قد ذكر المفسّرون أنّ الكهف كان بابه مقابلاً للقطب الشماليّ يسامت بنات النعش، و الجانب الأيمن منه ما يلي المغرب و يقع عليه شعاع الشمس عند طلوعها و الجانب الأيسر منه ما يلي المشرق و تناله الشمس عند غروبها، و هذا مبنيّ على أخذ جهتي اليمين و الشمال للكهف باعتبار الداخل فيه، و كأنّ ذلك منهم تعويلاً على ما هو المشهور أنّ هذا الكهف واقع في بلدة أفسوس من بلاد الروم الشرقيّ فإنّ الكهف الّذي هناك قطبيّ يقابل بابه القطب الشماليّ متمايلاً قليلاً إلى المشرق على ما يقال.

و المعمول في اعتبار اليمين و اليسار لمثل الكهف و البيت و الفسطاط و كلّ ما له باب أن يؤخذاً باعتبار الخارج منه دون الداخل فيه فإنّ الإنسان أوّل ما أحسّ الحاجة إلى اعتبار الجهات أخذها لنفسه فسمّى ما يلي رأسه و قدمه علوا و سفلا و فوق و تحت، و سمّى ما يلي وجهه قدّام و ما يقابله خلف، و سمّى الجانب القويّ منه و هو الّذي فيه يده القويّة يميناً، و الّذي يخالفه شمالاً و يساراً ثمّ إذا مسّت الحاجة إلى اعتبار الجهات في شي‏ء فرض الإنسان نفسه مكانه فما كان من أطراف ذلك الشي‏ء ينطبق عليه الوجه و هو الطرف الّذي يستقبل به الشي‏ء غيره تعيّن به قدّامه و بما يقاطره خلفه، و بما ينطبق عليه يمين الإنسان من أطرافه يمينه و كذا بيسار الإنسان يساره.

و إذ كان الوجه في مثل البيت و الدار و الفسطاط و كلّ ما له باب طرفه الّذي

٢٧٣

فيه الباب كان تعيّن يمينه و يساره باعتبار الخارج من الباب دون الداخل منه، و على هذا يكون الكهف الّذي وصفته الآية بما وصفت جنوبيّاً يقابل بابه القطب الجنوبيّ لا كما ذكروه، و للكلام تتمّة ستوافيك إن شاء الله.

و على أيّ حال كان وضعهم هذا من عناية الله و لطفه بهم ليستبقيهم بذلك حتّى يبلغ الكتاب أجله، و إليه الإشارة بقوله عقيبه:( ذلِكَ مِنْ آياتِ اللهِ مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَ مَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً ) .

و قوله:( وَ تَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَ هُمْ رُقُودٌ ) الأيقاظ جمع يقظ و يقظان و الرقود جمع راقد و هو النائم، و في الكلام تلويح إلى أنّهم كانوا مفتوحي الأعين حال نومهم كالأيقاظ.

و قوله:( وَ نُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَ ذاتَ الشِّمالِ ) أي و نقلّبهم جهة اليمين و جهة الشمال، و المراد نقلّبهم تارة من اليمين إلى الشمال و تارة من الشمال إلى اليمين لئلّا تأكلهم الأرض، و لا تبلى ثيابهم، و لا تبطل قواهم البدنيّة بالركود و الخمود طول المكث.

و قوله:( وَ كَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ ) الوصيد فناء البيت و قيل: عتبة الدار و المعنى كانوا على ما وصف من الحال و الحال أنّ كلبهم مفترش بذراعيه باسط لهما بفناء الكهف و فيه إخبار بأنّهم كان لهم كلب يلازمهم و كان ماكثاً معهم طول مكثهم في الكهف.

و قوله:( لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً وَ لَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً ) بيان أنّهم و حالهم هذا الحال كان لهم منظر موحش هائل لو أشرف عليهم الإنسان فرّ منهم خوفاً من خطرهم تبعّدا من المكروه المتوقّع من ناحيتهم و ملأ قلبه الروع و الفزع رعبا و سرى إلى جميع الجوارح فملأ الجميع رعباً، و الكلام في الخطاب الّذي في قوله:( لَوَلَّيْتَ ) و قوله:( وَ لَمُلِئْتَ ) كالكلام في الخطاب الّذي في قوله:( وَ تَرَى الشَّمْسَ ) .

و قد بان بما تقدّم من التوضيح أوّلاً: الوجه في قوله:( وَ لَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً ) و لم يقل: و لملي‏ء قلبك رعبا.

٢٧٤

و ثانياً: الوجه في ترتيب الجملتين:( لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً وَ لَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً ) و ذلك أنّ الفرار و هو التبعّد من المكروه معلول لتوقّع وصول المكروه تحذّراً منه، و ليس بمعلول للرعب الّذي هو الخشية و تأثّر القلب، و المكروه المترقّب يجب أن يتحذّر منه سواء كان هناك رعب أو لم يكن.

فتقديم الفرار على الرعب ليس من قبيل تقديم المسبّب على سببه بل من تقديم حكم الخوف على الرعب و هما حالان متغايران قلبيّان، و لو كان بدل الخوف من الرعب لكان من حقّ الكلام تقديم الجملة الثانية و تأخير الاُولى و أمّا بناء على ما ذكرناه فتقديم حكم الخوف على حصول الرعب و هما جميعاً أثران للاطّلاع على منظرهم الهائل الموحش أحسن و أبلغ لأنّ الفرار أظهر دلالة على ذلك من الامتلاء بالرعب.

قوله تعالى: ( وَ كَذلِكَ بَعَثْناهُمْ لِيَتَسائَلُوا بَيْنَهُمْ ) إلى آخر الآيتين التساؤل سؤال بعض القوم بعضاً، و الورق بالفتح فالكسر: الدراهم، و قيل هو الفضّة مضروبة كانت أو غيرها، و قوله: إن يظهروا عليكم أي إن يطّلعوا عليكم أو إن يظفروا بكم.

و الإشارة بقوله:( وَ كَذلِكَ بَعَثْناهُمْ ) إلى إنامتهم بالصورة الّتي مثّلتها الآيات السابقة أي كما أنمناهم في الكهف دهراً طويلاً على هذا الوضع العجيب المدهش الّذي كان آية من آياتنا كذلك بعثناهم و أيقظناهم ليتساءلوا بينهم.

و هذا التشبيه و جعل التساؤل غاية للبعث مع ما تقدّم من دعائهم لدى ورود الكهف و إنامتهم إثر ذلك يدلّ على أنّهم إنّما بعثوا من نومتهم ليتساءلوا فيظهر لهم حقيقة الأمر، و إنّما اُنيموا و لبثوا في نومتهم دهراً ليبعثوا، و قد نوّمهم الله إثر دعائهم و مسألتهم رحمة من عند الله و اهتداء مهيّأ من أمرهم فقد كان أزعجهم استيلاء الكفر على مجتمعهم و ظهور الباطل و إحاطة القهر و الجبر و هجم عليهم اليأس و القنوط من ظهور كلمة الحقّ و حرّية أهل الدين في دينهم فاستطالوا لبث الباطل في الأرض و ظهوره على الحقّ كالّذي مرّ على قرية و هي خاوية على عروشها

٢٧٥

قال أنّى يحيي هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام ثمّ بعثه.

و بالجملة لمّا غلبت عليهم هذه المزعمة و استيأسوا من زوال غلبة الباطل أنامهم الله سنين عدداً ثمّ بعثهم ليتساءلوا فيجيبوا بيوم أو بعض يوم ثمّ ينكشف لهم تحوّل الأحوال و مرور مآت من السنين عند غيرهم و هي بنظرة اُخرى كيوم أو بعض يوم فيعلموا أنّ طول الزمان و قصره ليس بذاك الّذي يميت حقّاً أو يحيي باطلاً و إنّما هو الله سبحانه جعل ما على الأرض زينة لها و جذب إليها الإنسان و أجرى فيها الدهور و الأيّام ليبلوهم أيّهم أحسن عملاً، و ليس للدنيا إلّا أن تغرّ بزينتها طالبيها ممّن أخلد إلى الأرض و اتّبع هواه.

و هذه حقيقة لا تزال لائحة للإنسان كلّما انعطف على ما مرّت عليه من أيّامه السالفة و ما جرت عليه من الحوادث حلوها و مرّها و جدّها كطائف في نومة أو سنة في مثل يوم غير أنّ سكر الهوى و التلهّي بلهو الدنيا لا يدعه أن ينتبه للحقّ فيتّبعه لكن لله سبحانه على الإنسان يوم لا يشغله عن مشاهدة هذه الحقيقة شاغل من زينة الدنيا و زخرفها و هو يوم الموت كما عن عليّعليه‌السلام :الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا و يوم آخر و هو يوم يطوي فيه بساط الدنيا و زينتها و يقضي على العالم الإنسانيّ بالبيد و الانقراض.

و قد ظهر بما تقدّم أنّ قوله تعالى:( لِيَتَسائَلُوا بَيْنَهُمْ ) غاية لبعثهم و اللّام لتعليل الغاية، و تنطبق على ما مرّ من الغاية في قوله:( ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى‏ لِما لَبِثُوا أَمَداً ) .

و ذكر بعضهم: أنّه بعض الغاية وضع موضعها لاستتباعه لسائر آثار البعث كأنّه قيل ليتساءلوا بينهم و ينجرّ ذلك إلى ظهور أمرهم و انكشاف الآية و ظهور القدرة و هذا مع عدم شاهد عليه من جهة اللفظ تكلّف ظاهر.

و ذكر آخرون: أنّ اللّام في قوله:( لِيَتَسائَلُوا ) للعاقبة دون الغاية استبعاداً لأن يكون التساؤل و هو أمر هيّن غاية للبعث و هو آية عظيمة، و فيه أنّ جعل اللّام للعاقبة لا يجدي نفعا في دفع ما استبعده إذ كما لا ينبغي أن يجعل أمر هيّن غاية

٢٧٦

مطلوبة لأمر خطير و آية عظيمة كذلك لا يحسن ذكر شي‏ء يسير عاقبة لأمر ذي بال و آية عجيبة مدهشة على أنّك عرفت صحّة كون التساؤل علّة غائيّة للبعث آنفاً.

و قوله:( قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ ) دليل على أنّ السائل عن لبثهم كان واحدا منهم خاطب الباقين و سألهم عن مدّة لبثهم في الكهف نائمين و كأنّ السائل استشعر طولاً في لبثهم ممّا وجده من لوثة النوم الثقيل بعد التيقّظ فقال: كم لبثتم؟.

و قوله:( قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ) تردّدوا في جوابهم بين اليوم و بعض اليوم و كأنّهم بنوا الجواب على ما شاهدوا من تغيّر محلّ وقوع الشمس كأن أخذوا في النوم أوائل النهار و انتبهوا في أواسطه أو أواخره ثمّ شكّوا في مرور الليل عليهم فيكون مكثهم يوماً و عدم مروره فيكون بعض يوم فأجابوا بالترديد بين يوم و بعض يوم و هو على أيّ حال جواب واحد.

و قول بعضهم: إنّ الترديد على هذا يجب أن يكون بين بعض يوم و يوم و بعض لا بين يوم و بعض يوم فالوجه أن يكون( أَوْ ) للتفصيل لا للترديد و المعنى قال بعضهم: لبثنا يوماً و قال بعض آخر: لبثنا بعض يوم.

لا يلتفت إليه أمّا أوّلاً فلأنّ هذا المعنى لا يتلقّى من سياق مثل قوله:( لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ) البتّة و قد أجاب بمثله شخص واحد بعينه قال تعالى:( قالَ كَمْ لَبِثْتَ قالَ: لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ) البقرة: ٢٥٩.

و أمّا ثانياً فلأنّ قولهم:( لَبِثْنا يَوْماً ) إنّما أخذوه عمّا استدلّوا به من الاُمور المشهودة لهم لجلالة قدرهم عن التحكّم و التهوّس و المجازفة و الاُمور الخارجيّة الّتي يستدلّ بها الإنسان و خاصّة من نام ثمّ انتبه من شمس و ظلّ و نور و ظلمة و نحو ذلك لا تشخّص مقدار اليوم التامّ من غير زيادة و نقيصة سواء في ذلك الترديد و التفصيل فالمراد باليوم على أيّ حال ما يزيد على ليلة بنهارها بعض الزيادة و هو استعمال شائع.

و قوله تعالى:( قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ ) أي قال بعض آخر منهم ردّاً على القائلين:( لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ) ( رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ ) و لو لم يكن ردّاً لقالوا

٢٧٧

ربّنا أعلم بما لبثنا.

و بذلك يظهر أنّ إحالة العلم إلى الله تعالى في قولهم:( رَبُّكُمْ أَعْلَمُ ) ليس لمجرّد مراعاة حسن الأدب كما قيل بل لبيان حقيقة من حقائق معارف التوحيد و هي أنّ العلم بحقيقة معنى الكلمة ليس إلّا لله سبحانه فإنّ الإنسان محجوب عمّا وراء نفسه لا يملك بإذن الله إلّا نفسه و لا يحيط إلّا بها و إنّما يحصل له من العلم بما هو خارج عن نفسه ما دلّت عليه الأمارات الخارجيّة و بمقدار ما ينكشف بها و أمّا الإحاطة بعين الأشياء و نفس الحوادث و هو العلم حقيقة فإنّما هو لله سبحانه المحيط بكلّ شي‏ء الشهيد على كلّ شي‏ء و الآيات الدالّة على هذه الحقيقة لا تحصى.

فليس للموحّد العارف بمقام ربّه إلّا أن يسلّم الأمر له و ينسب العلم إليه و لا يسند إلى نفسه شيئاً من الكمال كالعلم و القدرة إلّا ما اضطرّ إليه فيبدء بربّه فينسب إليه حقيقة الكمال ثمّ لنفسه ما ملّكه الله إيّاه و أذن له فيه كما قال:( عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ ) العلق: ٥ و قال:( قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا ) البقرة: ٣٢ إلى آيات اُخرى كثيرة.

و يظهر بذلك أنّ القائلين منهم:( رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ ) كانوا أعلى كعبا في مقام المعرفة من القائلين:( لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ) و لم يريدوا بقولهم هذا مجرّد إظهار الأدب و إلّا لقالوا: ربّنا أعلم بما لبثنا و لم يكونوا أحد الحزبين اللذين أشار سبحانه إليهما بقوله فيما سبق:( ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى‏ لِما لَبِثُوا أَمَداً ) فإنّ إظهار الأدب لا يسمّى قولاً و إحصاء و لا الآتي به ذا قول و إحصاء.

و الظاهر أنّ القائلين منهم:( رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ ) غير القائلين:( لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ) فإنّ السياق سياق المحاورة و المجاوبة كما قيل و لازمه كون المتكلّمين ثانياً غير المتكلّمين أوّلاً و لو كانوا هم الأوّلين بأعيانهم لكان من حقّ الكلام أن يقال: ثمّ قالوا ربّنا أعلم بما لبثنا بدل قوله:( رَبُّكُمْ أَعْلَمُ ) إلخ.

و من هنا يستفاد أنّ القوم كانوا سبعة أو أزيد إذ قد وقع في حكاية محاورتهم( قالَ ) مرّة و( قالُوا ) مرّتين و أقلّ الجمع ثلاثة فقد كانوا لا يقلّ عددهم من سبعة.

٢٧٨

و قوله تعالى: ( فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى‏ طَعاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ ) من تتمّة المحاورة و فيه أمر أو عرض لهم أن يرسلوا رسولاً منهم إلى المدينة ليشتري لهم طعاماً يتغذّون به و الضمير في( أَيُّها ) راجع إلى المدينة و المراد بها أهلها من الكسبة استخداماً.

و زكاء الطعام كونه طيّباً و قيل: كونه حلالاً و قيل: كونه طاهراً و وروده بصيغة أفعل التفضيل( أَزْكى‏ طَعاماً ) لا يخلو من إشعار بالمعنى الأوّل.

و الضمير في( مِنْهُ ) للطعام المفهوم من الكلام و قيل: للأزكى طعاماً و( من ) للابتداء أو التبعيض أي ليأتكم من ذلك الطعام الأزكى برزق ترتزقون به، و قيل: الضمير للورق و( من ) للبدليّة و هو بعيد لإحواجه إلى تقدير ضمير آخر يرجع إلى الجملة السابقة و كونه ضمير التذكير و قد اُشير إلى الورق بلفظ التأنيث من قبل.

و قوله تعالى: ( وَ لْيَتَلَطَّفْ وَ لا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً ) التلطّف إعمال اللطف و الرفق و إظهاره فقوله:( وَ لا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً ) عطف تفسيري له و المراد على ما يعطيه السياق: ليتكلّف اللطف مع أهل المدينة في ذهابه و مجيئه و معاملته لهم كي لا يقع خصومة أو منازعة لتؤدّي إلى معرفتهم بحالكم و إشعارهم بكم، و قيل المعنى ليتكلّف اللطف في المعاملة و إطلاق الكلام يدفعه.

و قوله تعالى: ( إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَ لَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً ) تعليل للأمر بالتلطّف و بيان لمصلحته.

ظهر على الشي‏ء بمعنى اطّلع عليه و علم به و بمعنى ظفر به و قد فسّرت الآية بكلّ من المعنيين و الكلمة على ما ذكره الراغب مأخوذة من الظهر بمعنى الجارحة مقابل البطن فكان هو الأصل ثمّ أستعير للأرض فقيل: ظهر الأرض مقابل بطنها ثمّ اُخذ منه الظهور بمعنى الانكشاف مقابل البطون للملازمة بين الكون على وجه الأرض و بين الرؤية و الاطّلاع و كذا بينه و بين الظفر و كذا بينه و بين الغلبة عادة فقيل: ظهر عليه أي اطّلع عليه و علم بمكانه أو ظفر به أو غلبه ثمّ اتّسعوا

٢٧٩

في الاشتقاق فقالوا: أظهر و ظاهر و تظاهر و استظهر إلى غير ذلك.

و ظاهر السياق أن يكون( يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ ) بمعنى يطّلعوا عليكم و يعلموا بمكانكم فإنّه أجمع المعاني لأنّ القوم كانوا ذوي أيد و قوّة و قد هربوا و استخفوا منهم فلو اطّلعوا عليهم ظفروا بهم و غلبوهم على ما أرادوا.

و قوله:( يَرْجُمُوكُمْ ) أي يقتلوكم بالحجارة و هو شرّ القتل و يتضمّن معنى النفرة و الطرد، و في اختيار الرجم على غيره من أصناف القتل إشعار بأنّ أهل المدينة عامّة كانوا يعادونهم لدينهم فلو ظهروا عليهم بادروا إليهم و تشاركوا في قتلهم و القتل الّذي هذا شأنه يكون بالرجم عادة.

و قوله:( أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ ) الظاهر أنّ الإعادة مضمّن معنى الإدخال و لذا عدّي بفي دون إلى.

و كان لازم دخولهم في ملّتهم عادة - و قد تجاهروا برفضها و سمّوها شططاً من القول و افتراء على الله بالكذب - أن لا يقنع القوم بمجرّد اعترافهم بحقيّة الملّة صورة دون أن يثقوا بصدقهم في الاعتراف و يراقبوهم في أعمالهم فيشاركوا الناس في عبادة الأوثان و الإتيان بجميع الوظائف الدينيّة الّتي لهم و الحرمان عن العمل بشي‏ء من شرائع الدين الإلهيّ و التفوّه بكلمة الحقّ.

و هذا كلّه لا بأس به على من اضطرّ على الإقامة في بلاد الكفر و الانحصار بين أهله كالأسير المستضعف بحكم العقل و النقل و قد قال تعالى:( إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ ) النحل: ١٠٦ و قال تعالى:( إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً ) آل عمران: ٢٨ فله أن يؤمن بقلبه و ينكره بلسانه و أمّا من كان بنجوة منهم و هو حرّ في اعتقاده و عمله ثمّ ألقى بنفسه في مهلكة الضلال و تسبّب إلى الانحصار في مجتمع الكفر فلم يستطع التفوّه بكلمة الحقّ و حرم التلبّس بالوظائف الدينيّة الإنسانيّة فقد حرّم على نفسه السعادة و لن يفلح أبداً قال تعالى:( إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَ لَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَ ساءَتْ مَصِيراً ) النساء: ٩٧.

٢٨٠

و بهذا يظهر وجه ترتّب قوله:( وَ لَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً ) على قوله:( أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ ) و يندفع ما قيل: إنّ إظهار الكفر بالإكراه مع إبطان الإيمان معفوّ عنه في جميع الأزمان فكيف رتّب على العود في ملّتهم عدم الفلاح أبداً مع أنّ الظاهر من حالهم الكره هذا فإنّهم لو عرضوا بأنفسهم عليهم أو دلّوهم بوجه على مكانهم فأعادوهم في ملّتهم و لو على كره كان ذلك منهم تسبّباً اختياريّاً إلى ذلك و لم يعذروا البتّة.

و قد أجابوا عن الإشكال بوجوه اُخر غير مقنعة:

منها: أنّ الإكراه على الكفر قد يكون سبباً لاستدراج الشيطان إلى استحسانه و الاستمرار عليه و فيه أنّ لازم هذا الوجه أن يقال: و يخاف عليكم أن لا تفلحوا أبداً إلّا أن يقضى بعدم الفلاح قطعاً.

و منها: أنّه يجوز أن يكون أراد يعيدوكم إلى دينهم بالاستدعاء دون الإكراه و أنت خبير بأنّ سياق القصّة لا يساعد عليه.

و منها: أنّه يجوز أن يكون في ذلك الوقت كان لا يجوز التقيّة بإظهار الكفر مطلقاً و فيه عدم الدليل على ذلك.

و سياق ما حكى من محاورتهم أعني قوله:( لَبِثْتُمْ ) إلى تمام الآيتين سياق عجيب دالّ على كمال تحابّهم في الله و مواخاتهم في الدين و أخذهم بالمساواة بين أنفسهم و نصح بعضهم لبعض و إشفاق بعضهم على بعض فقد تقدّم أنّ قول القائلين:( رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ ) تنبيه و دلالة على موقع من التوحيد أعلى و أرفع درجة ممّا يدلّ عليه قول الآخرين( لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ) .

ثمّ قول القائل:( فَابْعَثُوا ) حيث عرض بعث الرسول على الجميع و لم يستبدّ بقول: ليذهب أحدكم و قوله:( أَحَدَكُمْ ) و لم يقل اذهب يا فلان أو ابعثوا فلاناً و قوله:( بِوَرِقِكُمْ هذِهِ ) فأضاف الورق إلى الجميع كلّ ذلك دليل المواخاة و المساواة.

ثمّ قوله:( فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى‏ طَعاماً ) إلخ و قوله:( وَ لْيَتَلَطَّفْ ) إلخ نصح

٢٨١

و قوله:( إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ ) إلخ نصح لهم و إشفاق على نفوسهم بما هم مؤمنون على دينهم.

و قوله تعالى:( بِوَرِقِكُمْ هذِهِ ) على ما فيه من الإضافة و الإشارة المعنيّة لشخص الورق مشعر بعناية خاصّة بذكرها فإنّ سياق استدعاء أن يبعثوا أحداً لاشتراء طعام لهم لا يستوجب بالطبع ذكر الورق الّتي يشتري بها الطعام و الإشارة إليها بشخصها و لعلّها إنّما ذكرت في الآية مع خصوصيّة الإشارة لأنّها كانت هي السبب لظهور أمرهم و انكشاف حالهم لأنّها حين أخرجها رسولهم ليدفعها ثمنا للطعام كانت من مسكوكات عهد مرّت عليها ثلاثة قرون و ليس في آيات القصّة ما يشعر بسبب ظهور أمرهم و انكشاف حالهم إلّا هذه اللّفظة.

قوله تعالى: ( وَ كَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَ أَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ ) قال في المفردات، عثر الرجل يعثر عثرا و عثورا إذا سقط و يتجوّز به فيمن يطّلع على أمر من غير طلبه قال تعالى:( فإن عُثِرَ عَلى‏ أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً ) يقال عثرت على كذا قال:( وَ كَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ ) أي وقفناهم عليهم من غير أن طلبوا. انتهى.

و التشبيه في قوله:( وَ كَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ ) كنظيره في قوله:( وَ كَذلِكَ بَعَثْناهُمْ ) أي و كما أنساهم دهرا ثمّ بعثناهم لكذا و كذا كذلك أعثرنا عليهم و مفعول أعثرنا هو الناس المدلول عليه بالسياق كما يشهد به ذيل الآية و قوله:( لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ ) ضمير الجمع للناس و المراد بوعد الله على ما يعطيه السياق البعث و يكون قوله:( وَ أَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها ) عطفاً تفسيريّاً لسابقه.

و قوله:( إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ ) ظرف لقوله:( أَعْثَرْنا ) أو لقوله( لِيَعْلَمُوا ) و التنازع التخاصم قيل: أصل التنازع التجاذب و يعبّر به عن التخاصم و هو باعتبار أصل معناه يتعدّى بنفسه، و باعتبار التخاصم يتعدّى بفي كقوله تعالى:( فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْ‏ءٍ ) انتهى.

و المراد بتنازع الناس بينهم أمرهم تنازعهم في أمر البعث و إنّما أضيف إليهم

٢٨٢

إشعاراً باهتمامهم و اعتنائهم بشأنه فهذه حال الآية من جهة مفرداتها بشهادة بعضها على بعض.

و المعنى على ما مرّ: و كما أنمناهم ثمّ بعثناهم لكذا و كذا أطلعنا الناس عليهم في زمان يتنازعون أي الناس بينهم في أمر البعث ليعلموا أنّ وعد الله بالبعث حقّ و أنّ الساعة لا ريب فيها.

أو المعنى أعثرنا عليهم ليعلم الناس مقارنا لزمان يتنازعون فيه بينهم في أمر البعث أنّ وعد الله بالبعث حقّ.

و أمّا دلالة بعثهم عن النوم على أنّ البعث يوم القيامة حقّ فإنّما هو من جهة أنّ انتزاع أرواحهم عن أجسادهم ذاك الدهر الطويل و تعطيل شعورهم و ركود حواسهم عن أعمالها و سقوط آثار القوى البدنيّة كالنشو و النماء و نبات الشعر و الظفر و تغيّر الشكل و ظهور الشيب و غير ذلك و سلامة ظاهر أبدانهم و ثيابهم عن الدثور و البلى ثمّ رجوعهم إلى حالهم يوم دخلوا الكهف بعينها يماثل انتزاع الأرواح عن الأجساد بالموت ثمّ رجوعها إلى ما كانت عليها، و هما معا من خوارق العادة لا يدفعهما إلّا الاستبعاد من غير دليل.

و قد حدث هذا الأمر في زمان ظهر التنازع بين طائفتين من الناس موحّد يرى مفارقة الأرواح الأجساد عند الموت ثمّ رجوعها إليها في البعث و مشرك(١) يرى‏ مغايرة الروح البدن و مفارقتها له عند الموت لكنّه لا يرى البعث و ربّما رأى التناسخ.

فحدوث مثل هذه الحادثة في مثل تلك الحال لا يدع ريبا لاُولئك الناس أنّها آية إلهيّة قصد بها إزالة الشكّ عن قلوبهم في أمر البعث بالدلالة بالمماثل على المماثل و رفع الاستبعاد بالوقوع.

و يقوى هذا الحدس منهم و يشتدّ بموتهم بعيد الانبعاث فلم يعيشوا بعده إلّا

____________________

(١) و هذا مذهب عامّة الوثنيّين فهم لا يرون بطلان الإنسان بالموت و إنّما يرون نفي البعث و إثبات التناسخ.

٢٨٣

سويعات لم تسع أزيد من اطّلاع الناس على حالهم و اجتماعهم عليهم و استخبارهم عن قصّتهم و إخبارهم بها.

و من هنا يظهر وجه آخر لقوله تعالى:( إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ ) و هو رجوع الضميرين الأوّلين إلى الناس و الثالث إلى أصحاب الكهف و كون( إِذْ ) ظرفاً لقوله:( لِيَعْلَمُوا ) و يؤيّده قوله بعده:( رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ ) على ما سيجي‏ء.

و الاعتراض على هذا الوجه أوّلاً: بأنّه يستدعي كون التنازع بعد الإعثار و ليس كذلك و ثانياً بأنّ التنازع كان قبل العلم و ارتفع به فكيف يكون وقته وقته، مدفوع بأنّ التنازع على هذا الوجه في الآية هو تنازع الناس في أمر أصحاب الكهف و قد كان بعد الإعثار و مقارناً للعلم زماناً، و الّذي كان قبل الإعثار و قبل العلم هو تنازعهم في أمر البعث و ليس بمراد على هذا الوجه.

و قوله تعالى:( فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ ) القائلون هم المشركون من القوم بدليل قوله بعده:( قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى‏ أَمْرِهِمْ ) و المراد ببناء البنيان عليهم على ما قيل أن يضرب عليهم ما يجعلون به وراءه و يسترون عن الناس فلا يطّلع عليهم مطّلع منهم كما يقال: بنى عليه جدارا إذا حوّطه و جعله وراءه.

و هذا الشطر من الكلام بانضمامه إلى ما قبله من قوله:( وَ كَذلِكَ بَعَثْناهُمْ ) ( وَ كَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ ) يلوّح إلى تمام القصّة كأنّه قيل: و لمّا أن جاء رسولهم إلى المدينة و قد تغيّرت الأحوال و تبدّلت الأوضاع بمرور ثلاثة قرون على دخولهم في الكهف و انقضت سلطة الشرك و اُلقي زمام المجتمع إلى التوحيد و هو لا يدري لم يلبث دون أن ظهر أمره و شاع خبره فاجتمع عليه الناس ثمّ هجموا و ازدحموا على باب الكهف فاستنبؤوهم قصّتهم و حصلت الدلالة الإلهيّة ثمّ إنّ الله قبضهم إليه فلم يلبثوا أحياء بعد انبعاثهم إلّا سويعات ارتفعت بها عن الناس شبهتهم في أمر البعث و عندئذ قال المشركون ابنوا عليهم بنياناً ربّهم أعلم بهم.

و في قوله:( رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ ) إشارة إلى وقوع خلاف بين الناس المجتمعين عليهم أمرهم، فإنّه كلام آيس من العلم بهم و استكشاف حقيقة أمرهم يلوح منه

٢٨٤

أنّ القوم تنازعوا في شي‏ء ممّا يرجع إليهم فتبصّر فيه بعضهم و لم يسكن الآخرون إلى شي‏ء و لم يرتضوا رأي مخالفيهم فقالوا: ابنوا لهم بنياناً ربّهم أعلم بهم.

فمعنى الجملة أعني قوله:( رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ ) يتفاوت بالنظر إلى الوجهين المتقدّمين في قوله:( إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ ) إذ للجملة على أيّ حال نوع تفرّع على تنازع بينهم كما عرفت آنفاً فإن كان التنازع المدلول عليه بقوله:( إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ ) هو التنازع في أمر البعث بالإقرار و الإنكار لكون ضمير( أَمْرَهُمْ ) للناس كان المعنى أنّهم تنازعوا في أمر البعث فأعثرناهم عليهم ليعلموا أنّ وعد الله حقّ و أنّ الساعة لا ريب فيها لكنّ المشركين لم ينتهوا بما ظهرت لهم من الآية فقالوا ابنوا على أصحاب الكهف بنياناً و اتركوهم على حالهم ينقطع عنهم الناس فلم يظهر لنا من أمرهم شي‏ء و لم نظفر فيهم على يقين ربّهم أعلم بهم، و قال الموحّدون أمرهم ظاهر و آيتهم بيّنة و لنتّخذنّ عليهم مسجداً يعبد فيه الله و يبقى ببقائه ذكرهم.

و إن كان التنازع هو التنازع في أصحاب الكهف و ضمير( أَمْرَهُمْ ) راجعاً إليهم كان المعنى أنّا أعثرنا الناس عليهم بعد بعثهم عن نومتهم ليعلم الناس أنّ وعد الله حقّ و أنّ الساعة لا ريب فيها عند ما توفّاهم الله بعد إعثار الناس عليهم و حصول الغرض و هم أي الناس يتنازعون بينهم في أمرهم أي أمر أصحاب الكهف كأنّهم اختلفوا: أ نيام القوم أم أموات؟ و هل من الواجب أن يدفنوا و يقبروا أو يتركوا على هيئتهم في فجوة الكهف فقال المشركون: ابنوا عليهم بنياناً و اتركوهم على حالهم ربّهم أعلم بهم أ نيام أم أموات؟ قال الموحّدون:( لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً ) .

لكنّ السياق يؤيّد المعنى الأوّل لأنّ ظاهره كون قول الموحّدين:( لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً ) ردّاً منهم لقول المشركين:( ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً ) إلخ و القولان من الطائفتين إنّما يتنافيان على المعنى الأوّل، و كذا قولهم:( رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ ) و خاصّة حيث قالوا:( رَبُّهُمْ ) و لم يقولوا: ربّنا أنسب بالمعنى الأوّل.

و قوله:( قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى‏ أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً ) هؤلاء القائلون هم الموحّدون و من الشاهد عليه التعبير عمّا اتّخذوه بالمسجد دون المعبد فإنّ

٢٨٥

المسجد في عرف القرآن هو المحلّ المتّخذ لذكر الله و السجود له قال تعالى:( وَ مَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ ) الحجّ: ٤٠.

و قد جاء الكلام بالفصل من غير عطف لكونه بمنزلة جواب عن سؤال مقدّر كأنّ قائلاً يقول فما ذا قال غير المشركين؟ فقيل: قال الّذين غلبوا إلخ، و أمّا المراد بغلبتهم على أمرهم فإن كان المراد بأمرهم هو الأمر المذكور في قوله:( إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ ) و الضمير للناس فالمراد بالغلبة غلبة الموحّدين بنجاحهم بالآية الّتي قامت على حقيّة البعث، و إن كان الضمير للفتية فالغلبة من حيث التصدّي لأمرهم و الغالبون هم الموحّدون و قيل: الملك و أعوانه، و قيل: أولياؤهم من أقاربهم و هو أسخف الأقوال.

و إن كان المراد بأمرهم غير الأمر السابق و الضمير للناس فالغلبة أخذ زمام اُمور المجتمع بالملك و ولاية الاُمور، و الغالبون هم الموحّدون أو الملك و أعوانه و إن كان الضمير عائداً إلى الموصول فالغالبون هم الولاة و المراد بغلبتهم على اُمورهم أنّهم غالبون على ما أرادوه من الاُمور قادرون هذا، و أحسن الوجوه أوّلها.

و الآية من معارك آراء المفسّرين و لهم في مفرداتها و في ضمائر الجمع الّتي فيها و في جملها اختلاف عجيب و الاحتمالات الّتي أبدوها في معاني مفرداتها و مراجع ضمائرها و أحوال جملها إذا ضربت بعضها في بعض بلغت الاُلوف، و قد أشرنا منها إلى ما يلائم السياق و على الطالب لأزيد من ذلك أن يراجع المطوّلات.

قوله تعالى: ( سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ - إلى قوله -وَ ثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ ) يذكر تعالى اختلاف الناس في عدد أصحاب الكهف و أقوالهم فيه، و هي على ما ذكره تعالى - و قوله الحقّ - ثلاثة مترتّبة متصاعدة أحدها أنّهم ثلاثة رابعهم كلبهم و الثاني أنّهم خمسة و سادسهم كلبهم و قد عقّبه بقوله:( رَجْماً بِالْغَيْبِ ) أي قولاً بغير علم.

و هذا التوصيف راجع إلى القولين جميعاً: و لو اختصّ بالثاني فقط كان من حقّ الكلام أن يقدّم القول الثاني و يؤخّر الأوّل و يذكر مع الثالث الّذي لم

٢٨٦

يذكر معه ما يدلّ على عدم ارتضائه.

و القول الثالث أنّهم سبعة و ثامنهم كلبهم، و قد ذكره الله سبحانه و لم يعقّبه بشي‏ء يدلّ على تزييفه، و لا يخلو ذلك من إشعار بأنّه القول الحقّ، و قد تقدّم في الكلام على محاورتهم المحكيّة بقوله تعالى:( قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ ) أنّه مشعر بل دالّ على أنّ عددهم لم يكن بأقلّ من سبعة.

و من لطيف صنع الآية في عد الأقوال نظمها العدد من ثلاثة إلى ثمانية نظما متوالياً ففيها ثلاثة رابعها خمسة سادسها سبعة و ثامنها.

و أمّا قوله:( رَجْماً بِالْغَيْبِ ) تمييز يصف القولين بأنّهما من القول بغير علم و الرجم هو الرمي بالحجارة و كأنّ المراد بالغيب الغائب و هو القول الّذي معناه غائب عن العلم لا يدري قائله أ هو صدق أم كذب؟ فشبّه الّذي يلقي كلاماً ما هذا شأنه بمن يريد الرجم بالحجارة فيرمي ما لا يدري أ حجر هو يصيب غرضه أم لا؟ و لعلّه المراد بقول بعضهم: رجماً بالغيب أي قذفاً بالظنّ لأنّ المظنون غائب عن الظانّ لا علم له به.

و قيل: معنى( رَجْماً بِالْغَيْبِ ) ظنّاً بالغيب و هو بعيد.

و قد قال تعالى:( ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ ) و قال:( خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ ) فلم يأت بواو ثمّ قال:( سَبْعَةٌ وَ ثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ ) فأتى بواو قال في الكشّاف: و ثلاثة خبر مبتدء محذوف أي هم ثلاثة، و كذلك خمسة و سبعة، رابعهم كلبهم جملة من مبتدء و خبر واقعة صفة لثلاثة، و كذلك سادسهم كلبهم و ثامنهم كلبهم.

فإن قلت: فما هذه الواو الداخلة على الجملة الثالثة؟ و لم دخلت عليها دون الاُوليين؟

قلت: هي الواو الّتي تدخل على الجملة الواقعة صفة للنكرة كما تدخل على الواقعة حالاً عن المعرفة في نحو قولك: جاءني رجل و معه آخر و مررت بزيد و بيده سيف، و منه قوله تعالى:( وَ ما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَ لَها كِتابٌ مَعْلُومٌ ) و

٢٨٧

فائدتها تأكيد لصوق الصفة بالموصوف و الدلالة على أنّ اتّصافه بها أمر ثابت مستقرّ.

و هذه الواو هي الّتي آذنت بأنّ الّذين قالوا: سبعة و ثامنهم كلبهم قالوه عن ثبات علم و طمأنينة نفس و لم يرجموا بالظنّ كما غيرهم، و الدليل عليه أنّ الله سبحانه أتبع القولين الأوّلين قوله:( رَجْماً بِالْغَيْبِ ) ، و اتبع القول الثالث قوله:( ما يَعْلَمُهُمْ إلّا قَلِيلٌ ) ، و قال ابن عبّاس: حين وقعت الواو انقطعت العدّة أي لم يبق بعدها عدّة عادّ يلتفت إليها و ثبت أنّهم سبعة و ثامنهم كلبهم على القطع و الثبات انتهى.

و قال في المجمع، في ذيل ما لخّص به كلام أبي عليّ الفارسيّ: و أمّا من قال: هذه الواو واو الثمانية و استدلّ بقوله:( حَتَّى إِذا جاؤُها وَ فُتِحَتْ أَبْوابُها ) لأنّ للجنّة ثمانية أبواب فشي‏ء لا يعرفه النحويّون انتهى.

قوله تعالى: ( قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ما يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ ) إلى آخر الآية أمر للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يقضي في عدّتهم حقّ القضاء و هو أنّ الله أعلم بها و قد لوّح في كلامه السابق إلى القول و هذا نظير ما حكى عن الفتية في محاورتهم و ارتضاء إذ قال قائل منهم كم لبثتم؟ قالوا: لبثنا يوماً أو بعض يوم. قالوا: ربّكم أعلم بما لبثتم.

و مع ذلك ففي الكلام دلالة على أنّ بعض المخاطبين بخطاب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ) إلخ كان على علم من ذلك فإنّ قوله:( ما يَعْلَمُهُمْ ) و لم يقل: لا يعلمهم يفيد نفي الحال فالاستثناء منه بقوله:( إِلَّا قَلِيلٌ ) يفيد الإثبات في الحال و اللائح منه على الذهن أنّهم من أهل الكتاب.

و بالجملة مفاد الكلام أنّ الأقوال الثلاثة كانت محقّقة في عهد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و على هذا فقوله:( سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ ) إلخ المفيد للاستقبال، و كذا قوله:( وَ يَقُولُونَ خَمْسَةٌ ) إلخ، و قوله:( وَ يَقُولُونَ سَبْعَةٌ ) إلخ إن كانا معطوفين على مدخول السين في( سَيَقُولُونَ ) تفيد الاستقبال القريب بالنسبة إلى زمن نزول الآيات أو زمن وقوع الحادثة فافهم ذلك.

و قوله تعالى:( فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلَّا مِراءً ظاهِراً ) قال الراغب: المرية التردّد

٢٨٨

في الأمر و هو أخصّ من الشكّ، قال: و الامتراء و المماراة المحاجّة فيما فيه مرية قال: و أصله من مريت الناقة إذا مسحت ضرعها للحلب. انتهى. فتسمية الجدال مماراة لما فيه من إصرار المماري بالبحث ليفرغ خصمه كلّ ما عنده من الكلام فينتهي عنه.

و المراد بكون المراء ظاهرا أن لا يتعمّق فيه بالاقتصار على ما قصّه القرآن من غير تجهيل لهم و لا ردّ كما قيل، و قيل: المراء الظاهر ما يذهب بحجّة الخصم يقال: ظهر إذا ذهب، قال الشاعر:

و تلك شكاة ظاهر عنك عارها

و المعنى: و إذا كان ربّك أعلم و قد أنبأك نبأهم فلا تحاجّهم في الفتية إلّا محاجّة ظاهرة غير متعمّق فيها - أو محاجّة ذاهبة لحجّتهم - و لا تطلب الفتيا في الفتية من أحد منهم فربّك حسبك.

قوله تعالى: ( وَ لا تَقُولَنَّ لِشَيْ‏ءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ ) الآية الكريمة سواء كان الخطاب فيها للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خاصّة أو له و لغيره متعرّضة للأمر الّذي يراه الإنسان فعلا لنفسه و يخبر بوقوعه منه في مستقبل الزمان.

و الّذي يراه القرآن في تعليمه الإلهيّ أنّ ما في الوجود من شي‏ء ذاتاً كان أو فعلاً و أثراً فإنّما هو مملوك لله وحده له أن يفعل فيه ما يشاء و يحكم فيه ما يريد لا معقّب لحكمه، و ليس لغيره أن يملك شيئاً إلّا ما ملّكه الله تعالى منه و أقدره عليه و هو المالك لما ملّكه و القادر على ما عليه أقدره و الآيات القرآنيّة الدالّة على هذه الحقيقة كثيرة جدّاً لا حاجة إلى إيرادها.

فما في الكون من شي‏ء له فعل أو أثر - و هذه هي الّتي نسمّيها فواعل و أسباباً و عللا فعّالة - غير مستقلّ في سببيّته و لا مستغن عنه تعالى في فعله و تأثيره لا يفعل و لا يؤثّر إلّا ما شاء الله أن يفعله و يؤثّره أي أقدره عليه و لم يسلب عنه القدرة عليه بإرادة خلافه.

و بتعبير آخر كلّ سبب من الأسباب الكونيّة ليس سبباً من تلقاء نفسه و

٢٨٩

باقتضاء من ذاته بل بإقداره تعالى على الفعل و التأثير و عدم إرادته خلافه، و إن شئت فقل: بتسهيله تعالى له سبيل الوصول إليه، و إن شئت فقل بإذنه تعالى فالإذن هو الإقدار و رفع المانع و قد تكاثرت الآيات الدالّة على أنّ كلّ عمل من كلّ عامل موقوف على إذنه تعالى قال تعالى:( ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى‏ أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللهِ ) الحشر: ٥ و قال:( ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ ) التغابن: ١١ و قال:( وَ الْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ ) الأعراف: ٥٨ و قال:( وَ ما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ ) آل عمران: ١٤٥ و قال:( وَ ما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ ) يونس: ١٠٠ و قال:( وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللهِ ) النساء: ٦٤ إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة.

فعلى الإنسان العارف بمقام ربّه المسلم له أن لا يرى نفسه سبباً مستقلّاً لفعله مستغنياً فيه عن غيره بل مالكاً له بتمليك الله قادراً عليه بإقداره و أنّ القوّة لله جميعاً و إذا عزم على فعل أن يعزم متوكّلاً على الله قال تعالى:( فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ ) و إذا وعد بشي‏ء أو أخبر عمّا سيفعله أن يقيّده بإذن الله أو بعدم مشيّته خلافه.

و هذا المعنى هو الّذي يسبق إلى الذهن المسبوق بهذه الحقيقة القرآنيّة إذا قرع بابه قوله تعالى:( وَ لا تَقُولَنَّ لِشَيْ‏ءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ ) و خاصّة بعد ما تقدّم في آيات القصّة من بيان توحّده تعالى في اُلوهيّته و ربوبيّته و ما تقدّم قبل آيات القصّة من كون ما على الأرض زينة لها سيجعله الله صعيداً جرزاً. و من جملة ما على الأرض أفعال الإنسان الّتي هي زينة جالبة للإنسان يمتحن بها و هو يراها مملوكة لنفسه.

و ذلك أنّ قوله:( وَ لا تَقُولَنَّ لِشَيْ‏ءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً ) نهي عن نسبته فعله إلى نفسه، و لا بأس بهذه النسبة قطعاً فإنّه سبحانه كثيراً مّا ينسب في كلامه الأفعال إلى نبيّه و إلى غيره من الناس و ربّما يأمره أن ينسب أفعالاً إلى نفسه قال تعالى:( فَقُلْ لِي عَمَلِي وَ لَكُمْ عَمَلُكُمْ ) يونس: ٤١، و قال:( لَنا أَعْمالُنا وَ لَكُمْ أَعْمالُكُمْ ) الشورى: ١٥.

٢٩٠

فأصل نسبة الفعل إلى فاعله ممّا لا ينكره القرآن الكريم و إنّما ينكر دعوى الاستقلال في الفعل و الاستغناء عن مشيّته و إذنه تعالى فهو الّذي يصلحه الاستثناء أعني قوله:( إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ ) .

و من هنا يظهر أنّ الكلام على تقدير باء الملابسة و هو استثناء مفرّغ عن جميع الأحوال أو جميع الأزمان، و تقديره:( وَ لا تَقُولَنَّ لِشَيْ‏ءٍ ) أي لأجل شي‏ء تعزم عليه إنّي فاعل ذلك غدا في حال من الأحوال أو زمان من الأزمنة إلّا في حال أو في زمان يلابس قولك المشيّة بأن تقول: إنّي فاعل ذلك غدا إن شاء الله أن أفعله أو إلّا أن يشاء الله أن لا أفعله و المعنى على أيّ حال: إن أذن الله في فعله.

هذا ما يعطيه التدبّر في معنى الآية و يؤيّده ذيلها و للمفسّرين فيها توجيهات اُخرى.

منها أنّ المعنى هو المعنى السابق إلّا أنّ الكلام بتقدير القول في الاستثناء و تقدير الكلام: إلّا أن تقول إن شاء الله، و لمّا حذف( تقول ) نقل( إن شاء الله ) إلى لفظ الاستقبال، فيكون هذا تأديباً من الله للعباد و تعليما لهم أن يعلّقوا ما يخبرون به بهذه اللفظة حتّى يخرج عن حدّ القطع فلا يلزمهم كذب أو حنث إذا لم يفعلوه لمانع و الوجه منسوب إلى الأخفش.

و فيه أنّه تكلّف من غير موجب. على أنّ التبديل المذكور يغيّر المعنى و هو ظاهر.

و منها أنّ الكلام على ظاهره غير أنّ المصدر المؤوّل إليه( أَنْ يَشاءَ اللهُ ) بمعنى المفعول، و المعنى لا تقولنّ لشي‏ء إنّي فاعل ذلك غدا إلّا ما يشاؤه الله و يريده، و إذ كان الله لا يشاء إلّا الطاعات فكأنّه قيل: و لا تقولنّ في شي‏ء أنّي سأفعله إلّا الطاعات، و النهي للتنزيه لا للتحريم حتّى يعترض عليه بجواز العزم على المباحات و الإخبار عنه.

و فيه أنّه مبنيّ على حمل المشيّة على الإرادة التشريعيّة و لا دليل عليه و لم يستعمل المشيّة في كلامه تعالى بهذا المعنى قطّ و قد استعمل استثناء المشيّة التكوينيّة

٢٩١

في مواضع من كلامه كما حكى من قول موسى لخضر:( سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ صابِراً ) الكهف: ٦٩، و قول شعيب لموسى:( سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّالِحِينَ ) القصص: ٢٧ و قول إسماعيل لأبيه:( سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ ) الصافّات: ١٠٢ و قوله تعالى:( لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ ) الفتح: ٢٧ إلى غير ذلك من الآيات.

و الوجه مبنيّ على اُصول الاعتزال و عند المعتزلة أن لا مشيّة لله سبحانه في أعمال العباد إلّا الإرادة التشريعيّة المتعلّقة بالطاعات، و هو مدفوع بالعقل و النقل.

و منها أنّ الاستثناء من الفعل دون القول من غير حاجة إلى تقدير، و المعنى و لا تقولنّ لشي‏ء هكذا و هو أن تقول: إنّي فاعل ذلك غداً باستقلالي إلّا أن يشاء الله خلافه بإبداء مانع على ما تقوله المعتزلة إنّ العبد فاعل مستقلّ للفعل إلّا أن يبدئ الله مانعاً دونه أقوى منه، و مآل المعنى أن لا تقل في الفعل بقول المعتزلة.

و فيه أنّ تعلّق الاستثناء بالفعل دون القول بما مرّ من البيان أتمّ فلا وجه للنهي عن تعليق الاستثناء على الفعل، و قد وقع تعليقه على الفعل في مواضع من كلامه من غير أن يردّه كقوله حكاية عن إبراهيم:( وَ لا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً ) الأنعام: ٨٠ و قوله حكاية عن شعيب:( وَ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ ) الأعراف: ٨٩، و قوله:( ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ ) الأنعام: ١١١ إلى غير ذلك من الآيات. فلتحمل الآية الّتي نحن فيها على ما يوافقها.

و منها: أنّ الاستثناء من أعمّ الأوقات إلّا أنّ مفعول( يَشاءَ ) هو القول و المعنى و لا تقولنّ ذلك إلّا أن يشاء الله أن تقوله، و المراد بالمشيّة الإذن أي لا تقل ذلك إلّا أن يؤذن لك فيه بالإعلام.

و فيه أنّه مبنيّ على تقدير شي‏ء لا دليل عليه من جهة اللفظ و هو الاعلام و لو لم يقدّر لكان تكليفاً بالمجهول.

و منها: أنّ الاستثناء للتأبيد نظير قوله:( خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ

٢٩٢

وَ الْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ ) هود: ١٠٨ و المعنى: لا تقولنّ ذلك أبداً.

و فيه أنّه مناف للآيات الكثيرة المنقولة آنفاً الّتي تنسب إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و إلى سائر الناس أعمالهم ماضية و مستقبلة بل تأمر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن ينسب أعماله إلى نفسه كقوله:( فَقُلْ لِي عَمَلِي وَ لَكُمْ عَمَلُكُمْ ) يونس: ٤١، و قوله:( قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً ) الكهف: ٨٣.

قوله تعالى: ( وَ اذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ وَ قُلْ عَسى‏ أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً ) اتّصال الآية و اشتراكها مع ما قبلها في سياق التكليف يقضي أن يكون المراد من النسيان نسيان الاستثناء، و عليه يكون المراد من ذكر ربّه ذكره بمقامه الّذي كان الالتفات إليه هو الموجب للاستثناء و هو أنّه القائم على كلّ نفس بما كسبت الّذي ملّكه الفعل و أقدره عليه و هو المالك لما ملّكه و القادر على ما عليه أقدره.

و المعنى: إذا نسيت الاستثناء ثمّ ذكرت أنّك نسيته فاذكر ربّك متى كان ذلك بما لو كنت ذاكراً لذكرته به و هو تسليم الملك و القدرة إليه و تقييد الأفعال بإذنه و مشيّته.

و إذ كان الأمر بالذكر مطلقاً لم يتعيّن في لفظ خاصّ فالمندوب إليه هو ذكره تعالى بشأنه الخاصّ سواء كان بلفظ الاستثناء بأن يلحقه بالكلام، إن ذكره و لما يتمّ الكلام أو يعيد الكلام و يستثني أو يضمر الكلام ثمّ يستثني إن كان فصل قصير أو طويل كما ورد في بعض(١) الروايات أنّه لما نزلت الآيات قال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إن شاء الله أو كان الذكر باستغفار و نحوه.

و يظهر ممّا مرّ أنّ ما ذكره بعضهم أنّ الآية مستقلّة عمّا قبلها و أنّ المراد بالنسيان نسيانه تعالى أو مطلق النسيان، و المعنى: و اذكر ربّك إذا نسيته ثمّ ذكرته أو و اذكر ربّك إذا نسيت شيئاً من الأشياء، و كذا ما ذكره بعضهم بناء على الوجه

____________________

(١) رواه السيوطي في الدرّ المنثور عن ابن المنذر عن مجاهد.

٢٩٣

السابق أنّ المراد بذكره تعالى خصوص الاستثناء و إن طال الفصل أو خصوص الاستغفار أو الندم على التفريط، كلّ ذلك وجوه غير سديدة.

و قوله:( وَ قُلْ عَسى‏ أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً ) حديث الاتّصال و الاشتراك في سياق التكليف بين جمل الآية يقضي هنا أيضاً أن تكون الإشارة بقوله:( هذا ) إلى الذكر بعد النسيان، و المعنى و ارج أن يهديك ربّك إلى أمر هو أقرب رشداً من النسيان ثمّ الذكر و هو الذكر الدائم من غير نسيان فيكون من قبيل الآيات الداعية لهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى دوام الذكر كقوله تعالى:( وَ اذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَ خِيفَةً وَ دُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَ الْآصالِ وَ لا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ ) الأعراف: ٢٠٥ و ذكر الشي‏ء كلّما نسي ثمّ ذكر و التحفّظ عليه كرّة بعد كرّة من أسباب دوام ذكره.

و من العجيب أنّ المفسّرين أخذوا قوله:( هذا ) في الآية إشارة إلى نبإ أصحاب الكهف و ذكروا أنّ معنى الآية: قل عسى أن يعطيني ربّي من الآيات الدالّة على نبوّتي ما هو أقرب إرشاداً للناس من نبإ أصحاب الكهف، و هو كما ترى.

و أعجب منه ما عن بعض أنّ هذا إشارة إلى المنسيّ و أنّ معنى الآية: ادع الله إذا نسيت شيئاً أن يذكّرك إيّاه و قل إن لم يذكّرك ما نسيته: عسى أن يهديني ربّي لشي‏ء هو أقرب خيراً و منفعة من المنسيّ.

و أعجب منه ما عن بعض آخر أنّ قوله:( وَ قُلْ عَسى‏ أَنْ يَهْدِيَنِ ) إلخ عطف تفسيري لقوله:( وَ اذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ ) و المعنى إذا وقع منك النسيان فتب إلى ربّك و توبتك أن تقول: عسى أن يهدين ربّي لأقرب من هذا رشداً، و يمكن أن يجعل الوجهان الثاني و الثالث وجهاً واحداً و بناؤهما على أيّ حال على كون المراد بقوله:( إِذا نَسِيتَ ) مطلق النسيان، و قد عرفت ما فيه.

قوله تعالى: ( وَ لَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَ ازْدَادُوا تِسْعاً ) بيان لمدّة لبثهم في الكهف على حال النوم فإنّ هذا اللبث هو متعلّق العناية في آيات القصّة

٢٩٤

و قد اُشير إلى إجمال مدّة اللبث بقوله في أوّل الآيات:( فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً ) .

و يؤيّده تعقيبه بقوله في الآية التالية:( قُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا ) ثمّ قوله:( وَ اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ ) إلخ ثمّ قوله:( وَ قُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ ) و لم يذكر عدداً غير هذا فقوله:( قُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا ) بعد ذكر مدّة اللبث كقوله:( قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ) يلوّح إلى صحّة العدد المذكور.

فلا يصغي إلى قول القائل إنّ قوله:( وَ لَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ) إلخ محكيّ قول أهل الكتاب و قوله:( قُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا ) ردّ له، و كذا قول القائل إنّ قوله:( وَ لَبِثُوا ) إلخ قول الله تعالى و قوله:( وَ ازْدَادُوا تِسْعاً ) إشارة إلى قول أهل الكتاب و الضمير لهم و المعنى أنّ أهل الكتاب زادوا على العدد الواقعيّ تسع سنين ثمّ قوله:( قُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا ) ردّ له. على أنّ المنقول عنهم أنّهم قالوا بلبثهم مائتي سنة أو أقلّ لا ثلاثمائة و تسعة و لا ثلاثمائة.

و قوله:( سِنِينَ ) ليس بمميّز للعدد و إلّا لقيل: ثلاثمائة سنة بل هو بدل من ثلاثمائة كما قالوا، و في الكلام مضاهاة لقوله فيما أجمل في صدر الآيات:( سِنِينَ عَدَداً ) .

و لعلّ النكتة في تبديل( سنة ) من( سِنِينَ ) استكثار مدّة اللبث، و على هذا فقوله:( وَ ازْدَادُوا تِسْعاً ) لا يخلو من معنى الإضراب كأنّه قيل: و لبثوا في كهفهم ثلاثمائة سنة هذه السنين المتمادية و الدهر الطويل بل ازدادوا تسعاً، و لا ينافي هذا ما تقدّم في قوله:( سِنِينَ عَدَداً ) إنّ هذا لاستقلال عدد السنين و استحقاره لأنّ المقامين مختلفان بحسب الغرض فإنّ الغرض هناك كان متعلّقاً بنفي العجب من آية الكهف بقياسها إلى آية جعل ما على الأرض زينة لها فالأنسب به استحقار المدّة، و الغرض ههنا بيان كون اللبث آية من آياته و حجّة على منكري البعث و الأنسب به استكثار المدّة، و المدّة بالنسبتين تحتمل الوصفين فهي بالنسبة إليه تعالى شي‏ء هيّن و بالنسبة إلينا دهر طويل.

٢٩٥

و إضافة تسع سنين إلى ثلاثمائة سنة مدّة اللبث تعطي أنّهم لبثوا في كهفهم ثلاثمائة سنة شمسيّة فإنّ التفاوت في ثلاثمائة سنة إذا اُخذت تارة شمسيّة و اُخرى قمريّة بالغ هذا المقدار تقريباً و لا ينبغي الارتياب في أنّ المراد بالسنين في الآية السنون القمريّة لأنّ السنة في عرف القرآن هي القمريّة المؤلّفة من الشهور الهلاليّة و هي المعتبرة في الشريعة الإسلاميّة.

و في التفسير الكبير، شدّد النكير على ذلك لعدم تطابق العددين تحقيقاً و ناقش في ما روي عن عليّعليه‌السلام في هذا المعنى مع أنّ الفرق بين العددين الثلاثمائة شمسيّة و الثلاثمائة و تسع سنين قمريّة أقلّ من ثلاثة أشهر و التقريب في أمثال هذه النسب ذائع في الكلام بلا كلام.

قوله تعالى: ( قُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ) إلى آخر الآية مضيّ في حديث أصحاب الكهف بالإشارة إلى خلاف الناس في ذلك و أنّ ما قصّه الله تعالى من قصّتهم هو الحقّ الّذي لا ريب فيه.

فقوله:( قُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا ) مشعر بأنّ مدّة لبثهم المذكورة في الآية السابقة لم تكن مسلّمة عند الناس فاُمر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يحتجّ في ذلك بعلم الله و أنّه أعلم بهم من غيره.

و قوله:( لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ) تعليل لكونه تعالى أعلم بما لبثوا، و اللام للاختصاص الملكيّ و المراد أنّه تعالى وحده يملك ما في السماوات و الأرض من غيب غير مشهود فلا يفوته شي‏ء و إن فات السماوات و الأرض، و إذ كان مالكاً للغيب بحقيقة معنى الملك و له كمال البصر و السمع فهو أعلم بلبثهم الّذي هو من الغيب.

و على هذا فقوله:( أَبْصِرْ بِهِ وَ أَسْمِعْ ) - و هما من صيغ التعجّب معناهما كمال بصره و سمعه - لتتميم التعليل كأنّه قيل: و كيف لا يكون أعلم بلبثهم و هو يملكهم على كونهم من الغيب و قد رأى حالهم و سمع مقالهم.

و من هنا يظهر أنّ قول بعضهم: إنّ اللّام في( لَهُ غَيْبُ ) إلخ للاختصاص العلميّ أي له تعالى ذلك علماً، و يلزم منه ثبوت علمه لسائر المخلوقات لأنّ من

٢٩٦

علم الخفيّ علم غيره بطريق أولى. انتهى، غير سديد لأنّ ظاهر قوله:( أَبْصِرْ بِهِ وَ أَسْمِعْ ) أنّه للتأسيس دون التأكيد، و كذا ظاهر اللّام مطلق الملك دون الملك العلميّ.

و قوله:( ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ ) إلخ المراد بالجملة الاُولى منه نفي ولاية غير الله لهم مستقلّاً بالولاية دون الله، و بالثانية نفي ولاية غيره بمشاركته إيّاه فيها أي ليس لهم وليّ غير الله لا مستقلّاً بالولاية و لا غير مستقلّ.

و لا يبعد أن يستفاد من النظم - بالنظر إلى التعبير في الجملة الثانية( وَ لا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً ) بالفعل دون الوصف و تعليق نفي الإشراك بالحكم دون الولاية - أنّ الجملة الاُولى تنفي ولاية غيره تعالى لهم سواء كانت بالاستقلال فيستقلّ بتدبير أمرهم دون الله أو بالشركة بأن يلي بعض اُمورهم دون الله، و الجملة الثانية تنفي شركة غيره تعالى في الحكم و القضاء في الحكم بأن تكون ولايتهم لله تعالى لكنّه وكّل عليهم غيره و فوّض إليه أمرهم و الحكم فيهم كما يفعله الولاة في نصب الحكّام و العمّال في الشعب المختلفة من اُمورهم فيباشر الحكّام و العمّال من الأحكام ما لا علم به من الولاة.

و يؤول المعنى إلى أنّه كيف لا يكون تعالى أعلم بلبثهم و هو تعالى وحده وليّهم المباشر للحكم الجاري فيهم و عليهم.

و الضمير في قوله:( لَهُمْ ) لأصحاب الكهف أو لجميع ما في السماوات و الأرض المفهوم من الجملة السابقة بتغليب جانب اُولي العقل أو لمن في السماوات و الأرض و الوجوه الثلاثة مترتّبة جودة و أجودها أوّلها.

و عليه فالآية تتضمّن حجّتين على أنّ الله أعلم بما لبثوا إحداهما حجّة عامّة لهم و لغيرهم و هي قوله:( لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَ أَسْمِعْ ) فهو أعلم بجميع الأشياء و منها لبث أصحاب الكهف، و ثانيتهما حجّة خاصّة بهم و هي قوله:( ما لَهُمْ ) إلى آخر الآية فهو تعالى وليّهم المباشر للقضاء الجاري عليهم فكيف لا يكون أعلم بهم من غيره؟ و لمكان العلّيّة في الجملتين جي‏ء بهما مفصولتين من غير عطف.

٢٩٧

( بحث روائي‏)

في تفسير القمّيّ، في قوله تعالى:( أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ ) الآية قال: يقول: قد آتيناك من الآيات ما هو أعجب منه، و هم فتية كانوا في الفترة بين عيسى بن مريم و محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و أمّا الرقيم فهما لوحان من نحاس مرقوم أي مكتوب فيهما أمر الفتية و أمر إسلامهم و ما أراد منهم دقيانوس الملك و كيف كان أمرهم و حالهم.

و فيه، حدّثنا أبي عن ابن أبي عمير عن أبي بصير عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: كان سبب نزول سورة الكهف أنّ قريشاً بعثوا ثلاثة نفر إلى نجران: النضر بن الحارث بن كلدة و عقبة بن أبي معيط و العاص بن وائل السهميّ ليتعلّموا من اليهود مسائل يسألونها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

فخرجوا إلى نجران إلى علماء اليهود فسألوهم فقالوا: اسألوه عن ثلاث مسائل فإنّ أجابكم فيها على ما عندنا فهو صادق ثمّ اسألوه عن مسألة واحدة فإن ادّعى علمها فهو كاذب.

قالوا: و ما هذه المسائل؟ قالوا: سلوه عن فتية كانوا في الزمن الأوّل فخرجوا و غابوا و ناموا، كم بقوا في نومهم حتّى انتبهوا؟ و كم كان عددهم؟ و أيّ شي‏ء كان معهم من غيرهم؟ و ما كان قصّتهم؟ و سلوه عن موسى حين أمره الله أن يتّبع العالم و يتعلّم منه من هو؟ و كيف تبعه؟ و ما كان قصّته معه؟ و سلوه عن طائف طاف مغرب الشمس و مطلعها حتّى بلغ سدّ يأجوج و مأجوج من هو؟ و كيف كان قصّته؟ ثمّ أملؤوا عليهم أخبار هذه المسائل الثلاث و قالوا لهم: إن أجابكم بما قد أملينا عليكم فهو صادق، و إن أخبركم بخلاف ذلك فلا تصدّقوه.

قالوا: فما المسألة الرابعة؟ قالوا: سلوه متى تقوم الساعة! فإن ادّعى علمها فهو كاذب فإنّ قيام الساعة لا يعلمه إلّا الله تبارك و تعالى.

فرجعوا إلى مكّة و اجتمعوا إلى أبي طالب فقالوا: يا أبا طالب إنّ ابن أخيك يزعم أنّ خبر السماء يأتيه و نحن نسأله عن مسائل فإن أجابنا عنها علمنا أنّه صادق

٢٩٨

و إن لم يخبرنا علمنا أنّه كاذب فقال أبوطالب: سلوه عمّا بدا لكم فسألوه عن الثلاث المسائل.

فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم غدا اُخبركم و لم يستثن، فاحتبس الوحي عنه أربعين يوماً حتّى اغتمّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و شكّ أصحابه الّذين كانوا آمنوا به، و فرحت قريش و استهزؤا و آذوا، و حزن أبوطالب.

فلمّا كان بعد أربعين يوماً نزل عليه سورة الكهف فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا جبرئيل لقد أبطأت فقال: إنّا لا نقدر أن ننزل إلّا بإذن الله فأنزل الله تعالى: أم حسبت يا محمّد أنّ أصحاب الكهف و الرقيم كانوا من آياتنا عجباً ثمّ قصّ قصّتهم فقال: إذ أوى الفتية إلى الكهف فقالوا ربّنا آتنا من لدنك رحمة و هيّئ لنا من أمرنا رشداً.

قال: فقال الصادقعليه‌السلام : إنّ أصحاب الكهف و الرقيم كانوا في زمن ملك جبّار عات، و كان يدعو أهل مملكته إلى عبادة الأصنام فمن لم يجبه قتله، و كان هؤلاء قوماً مؤمنين يعبدون الله عزّوجلّ، و وكّل الملك بباب المدينة و لم يدع أحداً يخرج حتّى يسجد للأصنام فخرجوا هؤلاء بعلّة الصيد و ذلك أنّهم مرّوا براع في طريقهم فدعوه إلى أمرهم فلم يجبهم و كان مع الراعي كلب فأجابهم الكلب و خرج معهم.

قالعليه‌السلام : فخرج أصحاب الكهف من المدينة بعلّة الصيد هربا من دين ذلك الملك فلمّا أمسوا دخلوا إلى ذلك الكهف و الكلب معهم فألقى الله عليهم النعاس كما قال الله:( فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً ) فناموا حتّى أهلك الله ذلك الملك و أهل المدينة و ذهب ذلك الزمان و جاء زمان آخر و قوم آخرون.

ثمّ انتبهوا فقال بعضهم لبعض: كم نمنا هاهنا؟ فنظروا إلى الشمس قد ارتفعت فقالوا: نمنا يوماً أو بعض يوم ثمّ قالوا لواحد منهم: خذ هذه الورق و أدخل المدينة متنكّراً لا يعرفونك فاشتر لنا طعاماً فإنّهم إن علموا بنا و عرفونا قتلونا أو ردّونا في دينهم.

٢٩٩

فجاء ذلك الرجل فرأى مدينة بخلاف الّتي عهدها و رأى قوماً بخلاف اُولئك لم يعرفهم و لم يعرفوا لغته و لم يعرف لغتهم فقالوا له: من أنت؟ و من أين جئت؟ فأخبرهم فخرج ملك تلك المدينة مع أصحابه و الرجل معهم حتّى وقفوا على باب الكهف و أقبلوا يتطلّعون فيه فقال بعضهم: هؤلاء ثلاثة رابعهم كلبهم، و قال بعضهم: خمسة سادسهم كلبهم، و قال بعضهم: سبعة و ثامنهم كلبهم.

و حجبهم الله بحجاب من الرعب فلم يكن يقدم بالدخول عليهم غير صاحبهم فإنّه لمّا دخل عليهم وجدهم خائفين أن يكونوا أصحاب دقيانوس شعروا بهم فأخبرهم صاحبهم أنّهم كانوا نائمين هذا الزمن الطويل، و أنّهم آية للناس فبكوا و سألوا الله أن يعيدهم إلى مضاجعهم نائمين كما كانوا.

ثمّ قال الملك: ينبغي أن نبني هاهنا مسجداً نزوره فإنّ هؤلاء قوم مؤمنون. فلهم في كلّ سنة تقلّبان ينامون ستّة أشهر على جنوبهم(١) اليمنى و ستّة أشهر على جنوبهم(٢) اليسرى و الكلب معهم باسط ذراعيه بفناء الكهف و ذلك قوله تعالى:( نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ ) إلى آخر الآيات.

أقول: و الرواية من أوضح روايات القصّة متنا و أسلمها من التشوّش و هي مع ذلك تتضمّن أنّ الذين اختلفوا في عددهم فقالوا: ثلاثة أو خمسة أو سبعة هم أهل المدينة الّذين اجتمعوا على باب الكهف بعد انتباه الفتية و هو خلاف ظاهر الآية، و تتضمّن أنّ أصحاب الكهف لم يموتوا ثانياً بل عادوا إلى نومتهم و كذلك كلبهم باسطا ذراعيه بالوصيد و أنّ لهم في كلّ سنة تقلّبين من اليمين إلى اليسار و بالعكس و أنّهم بعد على هيئتهم. و لا كهف معهوداً على وجه الأرض و فيه قوم نيام على هذه الصفة.

على أنّ في ذيل هذه الرواية - و قد تركنا نقله ههنا لاحتمال أن يكون من كلام القمّيّ أو رواية اُخرى - أنّ قوله تعالى:( وَ لَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَ ازْدَادُوا تِسْعاً ) من كلام أهل الكتاب، و أنّ قوله بعده:( قُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا )

____________________

(١) جنبهم الأيمن خ‏

(٢) جنبهم الأيسر خ.

٣٠٠

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443