الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٣

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 443

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 443
المشاهدات: 107075
تحميل: 5630


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 443 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 107075 / تحميل: 5630
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 13

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

ربّك فاسأله التخفيف قال: فلم أزل أرجع بين ربّي و موسى حتّى قال: يا محمّد إنّهنّ خمس صلوات لكلّ يوم و ليلة لكلّ صلاة عشر فتلك خمسون صلاة و من همّ بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة فإن عملها كتبت له عشراً، و من همّ بسيّئة فلم يعملها لم يكتب شيئاً فإنّ عملها كتبت سيّئة واحدة فنزلت حتّى انتهيت إلى موسى فأخبرته فقال: ارجع إلى ربّك فاسأله التخفيف فقلت: قد رجعت إلى ربّي حتّى استحيت منه.

أقول: و قد روي الخبر عن أنس بطرق مختلفة منها ما عن البخاريّ و مسلم و ابن جرير و ابن مردويه من طريق شريك بن عبدالله بن أبي نمر عن أنس قال: ليلة اُسري برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من مسجد الكعبة جاءه ثلاثة نفر قبل أن يوحى إليه و هو نائم في المسجد الحرام فقال أوّلهم: أيّهم هو؟ فقال أوسطهم: هو خيرهم فقال أحدهم خذوا خيرهم فكانت تلك الليلة فلم يرهم حتّى أتوه ليلة اُخرى فيما يرى قلبه و تنام عيناه و لا ينام قلبه و كذلك الأنبياء تنام أعينهم و لا ينام قلوبهم فلم يكلّموه حتّى احتملوه فوضعوه عند بئر زمزم فتولّاه منهم جبريل فشقّ جبريل ما بين نحره إلى لبّته حتّى فرغ من صدره و جوفه فغسله من ماء زمزم بيده حتّى أنقى جوفه ثمّ أتى بطست من ذهب محشوّاً إيماناً و حكمة فحشا به صدره و لغاديده يعني عروق حلقه ثمّ أطبقه ثمّ عرج به إلى سماء الدنيا ثمّ ساق الحديث نحوا ممّا تقدّم.

و الّذي وقع فيه من شقّ بطن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و غسله و إنقائه ثمّ حشوه إيماناً و حكمة حال مثاليّة شاهدها و ليس بالأمر المادّيّ كما ربّما يزعم، و يشهد به حشوه إيماناً و حكمة و أخبار المعراج مملوءة من المشاهدات المثاليّة و التمثّلات الروحيّة، و قد ورد هذا المعنى في عدّة من أخبار المعراج المرويّة من طرق القوم و لا ضير فيه كما لا يخفى.

و ظاهر الرواية أنّ معراجهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان قبل البعثة و أنّه كان في المنام أمّا كونه قبل البعثة فيدفعه معظم الروايات الواردة في الإسراء و هي أكثر من أن تحصى و قد اتّفق على ذلك علماء هذا الشأن.

٢١

على أنّ الحديث نفسه يدفع كون الإسراء قبل البعثة و قد اشتمل على فرض الصلوات و كونها أوّلاً خمسين ثمّ سؤال التخفيف بإشارة من موسىعليه‌السلام و لا معنى للفرض قبل النبوّة فمن الحريّ أن يحمل صدر الحديث على أنّ الملائكة أتوه أوّلاً قبل أن يوحى إليه ثمّ تركوه ثمّ جاؤه ليلة اُخرى بعد بعثته و قد ورد في بعض رواياتنا أنّ الّذين كانوا نائمين معه في المسجد ليلة اُسري به هم حمزة بن عبدالمطّلب و جعفر و عليّ ابنا أبي طالب.

و أمّا ما وقع فيه من كون ذلك في المنام فيمكن - على بعد - أن يكون ناظراً إلى ما ذكر فيه من حديث الشقّ و الغسل لكنّ الأظهر أنّ المراد به وقوع الإسراء بجملته في المنام كما يدلّ عليه ما يأتي من الروايات.

و في الدرّ المنثور، أيضاً أخرج ابن إسحاق و ابن جرير عن معاوية بن أبي سفيان: أنّه كان إذا سئل عن مسرى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: كانت رؤيا من الله صادقة.

أقول: و ظاهر الآية الكريمة( سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى‏ بِعَبْدِهِ - إلى قوله -لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا ) يردّه، و كذا آيات صدر سورة النجم و فيها مثل قوله:( ما زاغَ الْبَصَرُ وَ ما طَغى‏ لَقَدْ رَأى‏ مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى) على أنّ الآيات في سياق الامتنان و فيها ثناء على الله سبحانه بذكر بديع رحمته و عجيب قدرته، و من الضروريّ أنّ ذلك لا يتمّ برؤيا يراها النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و الرؤيا يراها الصالح و الطالح و ربّما يرى الفاسق الفاجر ما هو أبدع ممّا يراه المؤمن المتّقي و الرؤيا لا تعدّ عند عامّة الناس إلّا نوعاً من التخيّل لا يستدلّ به على شي‏ء من القدرة و السلطنة بل غاية ما فيها أن يتفأل بها فيرجى خيرها أو يتطيّر بها فيخاف شرّها.

و فيه، أخرج ابن إسحاق و ابن جرير عن عائشة قالت: ما فقدت جسد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و لكنّ الله أسرى بروحه.

أقول: و يرد عليه ما ورد على سابقه على أنّه يكفي في سقوط الرواية اتّفاق كلمة الرواة و أرباب السير على أنّ الإسراء كان قبل الهجرة بزمان و أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بنى بعائشة في المدينة بعد الهجرة بزمان لم يختلف في ذلك اثنان و الآية أيضاً صريحة

٢٢

في إسرائهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من المسجد الحرام.

و فيه، أخرج الترمذيّ و حسّنه و الطبرانيّ و ابن مردويه عن ابن مسعود: قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لقيت إبراهيم ليلة اُسري بي فقال: يا محمّد اقرء اُمّتك منّي السلام و أخبرهم أنّ الجنّة طيّبة التربة عذبة الماء و أنّها قيعان و أنّ غراسها سبحان الله و الحمد لله و لا إله إلّا الله و الله أكبر و لا حول و لا قوّة إلّا بالله.

و فيه، أخرج الطبرانيّ عن عائشة قالت: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لمّا اُسري بي إلى السماء اُدخلت الجنّة فوقعت على شجرة من أشجار الجنّة لم أر في الجنّة أحسن منها و لا أبيض ورقا و لا أطيب ثمرة فتناولت ثمرة من ثمرها فأكلتها فصارت نطفة في صلبي فلمّا هبطت إلى الأرض واقعت خديجة فحملت بفاطمة فإذا أنا اشتقت إلى ريح الجنّة شممت ريح فاطمة.

و في تفسير القمّيّ، عن أبيه عن ابن محبوب عن ابن رئاب عن أبي عبيدة عن الصادقعليه‌السلام قال: كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يكثر تقبيل فاطمة فأنكرت ذلك عائشة فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا عائشة إنّي لما اُسري بي إلى السماء دخلت الجنّة فأدناني جبرئيل من شجرة طوبى و ناولني من ثمارها فأكلته فحوّل الله ذلك ماء في ظهري فلمّا هبطت إلى الأرض واقعت خديجة فحملت بفاطمة فما قبّلتها قطّ إلّا وجدت رائحة شجرة طوبى منها.

و في الدرّ المنثور، أخرج الطبرانيّ في الأوسط، عن ابن عمر: أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمّا اُسري به إلى السماء اُوحي إليه بالأذان فنزل به فعلّمه جبريل.

و فيه، أخرج ابن مردويه عن عليّ: أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم علّم الأذان ليلة اُسري به و فرضت عليه الصلاة.

و في العلل، بإسناده عن إسحاق بن عمّار قال: سألت أباالحسن موسى بن جعفرعليه‌السلام كيف صارت الصلاة ركعة و سجدتين؟ و كيف إذا صارت سجدتين لم تكن ركعتين؟ فقال: إذا سألت عن شي‏ء ففرّغ قلبك لتفهم. إنّ أوّل صلاة صلّاها

٢٣

رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنّما صلّاها في السماء بين يدي الله تبارك و تعالى قدّام عرشه جلّ جلاله.

و ذلك أنّه لمّا اُسري به و صار عند عرشه تبارك و تعالى قال: يا محمّد ادن من صاد فاغسل مساجدك و طهّرها و صلّ لربّك فدنا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى حيث أمره الله تبارك و تعالى فتوضّأ فأسبغ وضوءه ثمّ استقبل الجبّار تبارك و تعالى قائماً فأمره بافتتاح الصلاة ففعل.

فقال: يا محمّد اقرء بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله ربّ العالمين إلى آخرها ففعل ذلك ثمّ أمره أن يقرء نسبة ربّه تبارك و تعالى بسم الله الرّحمن الرّحيم قل هو الله أحد الله الصمد ثمّ أمسك عنه القول فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : قل هو الله أحد الله الصمد فقال: قل: لم يلد و لم يولد و لم يكن له كفوا أحد فأمسك عنه القول فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : كذلك الله ربّي كذلك الله ربّي.

فلمّا قال ذلك قال: اركع يا محمّد لربّك فركع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال له و هو راكع: قل سبحان ربّي العظيم و بحمده ففعل ذلك ثلاثاً، ثمّ قال: ارفع رأسك يا محمّد ففعل ذلك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقام منتصبا بين يدي الله فقال: اسجد يا محمّد لربّك فخرّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ساجداً فقال: قل: سبحان ربّي الأعلى و بحمده ففعل ذلك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثلاثاً فقال: استو جالساً يا محمّد ففعل فلمّا استوى جالساً ذكر جلال ربّه جلّ جلاله فخرّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ساجداً من تلقاء نفسه لا لأمر أمره ربّه عزّوجلّ فسبّح أيضاً ثلاثاً فقال: انتصب قائماً ففعل فلم ير ما كان رأى من عظمة ربّه جلّ جلاله.

فقال له: اقرء يا محمّد و افعل كما فعلت في الركعة الاُولى ففعل ذلك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثمّ سجد سجدة واحدة فلمّا رفع رأسه ذكر جلال ربّه تبارك و تعالى فخرّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ساجداً من تلقاء نفسه لا لأمر أمره ربّه عزّوجلّ فسبّح أيضاً ثمّ قال له: ارفع رأسك ثبّتك الله و اشهد أن لا إله إلّا الله و أنّ محمّداً رسول الله و أنّ الساعة آتية لا ريب فيها و أنّ الله يبعث من في القبور اللّهمّ صلّ على محمّد و آل محمّد

٢٤

كما صلّيت و باركت و ترحمّت على إبراهيم و آل إبراهيم إنّك حميد مجيد اللّهمّ تقبل شفاعته في اُمّته و ارفع درجته ففعل.

فقال: يا محمّد و استقبل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ربّه تبارك و تعالى وجهه مطرقا فقال: السلام عليك فأجابه الجبّار جلّ جلاله فقال: و عليك السلام يا محمّد بنعمتي قوّيتك على طاعتي و بعصمتي اتّخذتك نبيّاً و حبيباً.

ثمّ قال أبوالحسن:عليه‌السلام و إنّما كانت الصلاة الّتي أمر بها ركعتين و سجدتين و هوصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنّما سجد سجدتين في كلّ ركعة كما أخبرتك من تذكّره لعظمة ربّه تبارك و تعالى فجعله الله عزّوجلّ فرضا.

قلت: جعلت فداك و ما صاد الّذي اُمر أن يغتسل منه؟ فقال: عين تنفجر من ركن من أركان العرش يقال له: ماء الحياة و هو ما قال الله عزّوجلّ:( ص وَ الْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ ) إنّما أمره أن يتوضّأ و يقرأ و يصلّي.

أقول: و في معناه روايات اُخر.

و في الكافي، بإسناده عن عليّ بن أبي حمزة قال: سأل أبو بصير أباعبداللهعليه‌السلام و أنا حاضر فقال: جعلت فداك كم عرج برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟ فقال: مرّتين فأوقفه جبرئيل موقفاً فقال له: مكانك يا محمّد فلقد وقفت موقفاً ما وقفه ملك قطّ و لا نبيّ إنّ ربّك يصلّي فقال: يا جبرئيل و كيف يصلّي؟ فقال: يقول: سبّوح قدّوس أنا ربّ الملائكة و الروح سبقت رحمتي غضبي فقال: اللّهمّ عفوك عفوك.

قال: و كان كما قال الله: قاب قوسين أو أدنى فقال له أبوبصير: جعلت فداك و ما قاب قوسين أو أدنى؟ قال: ما بين سيتها إلى رأسها فقال. بينهما حجاب يتلألأ و لا أعلمه إلّا و قد قال: من زبرجد فنظر في مثل سمّ الإبرة إلى ما شاء الله من نور العظمة الحديث.

أقول: و آيات صدر سورة النجم تؤيّد ما في الرواية من وقوع المعراج مرّتين ثمّ الاعتبار يساعد على ما في الرواية من صلاته تعالى فإنّ الأصل في معنى الصلاة الميل و الانعطاف، و هو من الله سبحانه الرحمة و من العبد الدعاء كما قيل، و اشتمال

٢٥

ما أخبر به جبرئيل من صلاته تعالى على قوله:( سبقت رحمتي غضبي) يؤيّده ما ذكرناه و لذلك أيضاً أوقفه جبرئيل في الموقف الّذي أوقفه و ذكر له أنّه موطأ ما وطئه أحد قبله و ذلك أنّ لازم ما وصفه بهذا الوصف أن يكون الموقف هو الحدّ الفاصل بين الخلق و الخالق و آخر ما ينتهي إليه الإنسان من الكمال فهو الحد الّذي يظهر فيه الرحمة الإلهيّة و تفاض على ما دونه و لهذا اُوقفصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمشاهدته.

و في المجمع - و هو ملخّص من الروايات - أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: أتاني جبرائيل و أنا بمكّة فقال: قم يا محمّد فقمت معه و خرجت إلى الباب فإذا جبرائيل و معه ميكائيل و إسرافيل فأتى جبرائيل بالبراق و كان فوق الحمار و دون البغل خدّه كخدّ الإنسان و ذنبه كذنب البقر و عرفه كعرف الفرس و قوائمه كقوائم الإبل عليه رحل من الجنّة و له جناحان من فخذيه خطوه منتهى طرفه فقال: اركب فركبت و مضيت حتّى انتهيت إلى بيت المقدّس.

ثمّ ساق الحديث إلى أن قال: فلمّا انتهيت إلى بيت المقدّس إذا ملائكة نزلت من السماء بالبشارة و الكرامة من عند ربّ العزّة و صلّيت في بيت المقدّس - و في بعضها - بشّر لي إبراهيم - في رهط من الأنبياء ثمّ وصف موسى و عيسى ثمّ أخذ جبرائيل بيدي إلى الصخرة فأقعدني عليها فإذا معراج إلى السماء لم أر مثلها حسناً و جمالاً.

فصعدت إلى السماء الدنيا و رأيت عجائبها و ملكوتها و ملائكتها يسلّمون علي ثمّ صعد بي جبرائيل إلى السماء الثانية فرأيت فيها عيسى بن مريم و يحيى بن زكريّا ثمّ صعد بي إلى السماء الثالثة فرأيت فيها يوسف. ثمّ صعد بي إلى السماء الرابعة فرأيت فيها إدريس. ثمّ صعد بي إلى السماء الخامسة فرأيت فيها هارون ثمّ صعد بي إلى السماء السادسة فإذا فيها خلق كثير يموج بعضهم في بعض و فيها الكرّوبيّون ثمّ صعد بي إلى السماء السابعة فأبصرت فيها خلقا و ملائكة - و في حديث أبي هريرة رأيت في السماء السادسة موسى، و رأيت في السماء السابعة إبراهيم.

قال: ثمّ جاوزناها متصاعدين إلى أعلى علّيّين - و وصف ذلك إلى أن قال -

٢٦

ثمّ كلّمني ربّي و كلّمته و رأيت الجنّة و النار، و رأيت العرش و سدرة المنتهى ثمّ رجعت إلى مكّة فلمّا أصبحت حدّثت به الناس فكذّبني أبوجهل و المشركون و قال مطعم بن عديّ: أ تزعم أنّك سرت مسيرة شهرين في ساعة؟ أشهد أنّك كاذب.

قالوا: ثمّ قالت قريش، أخبرنا عمّا رأيت فقال: مررت بعير بني فلان و قد أضلّوا بعيراً لهم و هم في طلبه و في رحلهم قعب(١) مملوء من ماء فشربت الماء ثمّ غطّيته فاسألوهم هل وجدوا الماء في القدح؟ قالوا: هذه آية واحدة.

قال: و مررت بعير بني فلان فنفرت بكرة فلان فانكسرت يدها فاسألوهم عن ذلك فقالوا: هذه آية اُخرى قالوا: فأخبرنا عن عيرنا قال: مررت بها بالتنعيم و بيّن لهم أحمالها و هيئاتها و قال: يقدمها جمل أورق عليه فزارتان محيطتان و تطلع عليكم عند طلوع الشمس قالوا: هذه آية اُخرى.

ثمّ خرجوا يشتدّون نحو التيه و هم يقولون: لقد قضى محمّد بيننا و بينه قضاء بيّنا، و جلسوا ينتظرون متى تطلع الشمس فيكذّبوه؟ فقال قائل: و الله إنّ الشمس قد طلعت. و قال آخر: و الله هذه الإبل قد طلعت يقدمها بعير أورق فبهتوا و لم يؤمنوا.

و في تفسير العياشي، عن هشام بن الحكم عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صلّى العشاء الآخرة و صلّى الفجر في الليلة الّتي اُسري به بمكّة.

أقول: و في بعض الأخبار أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صلّى المغرب بالمسجد الحرام ثمّ اُسري به‏ و لا منافاة بين الروايتين و كذا لا منافاة بين كونه صلّى المغرب أو العشاء الآخرة و الفجر بمكّة و بين كون الصلوات الخمس فرضت عليه في السماء ليلة الإسراء فإنّ فرض أصل الصلاة كان قبل ذلك، و أمّا أنّها كم ركعة كانت فغير معلوم غير أنّ الآثار تدلّ على أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يقيم الصلاة منذ بعثه الله نبيّاً و في سورة العلق:( أَ رَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى‏ عَبْداً إِذا صَلَّى ) و قد روي أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يصلّي بعليّ و خديجةعليهما‌السلام بالمسجد الحرام قبل أن يعلن دعوته بمدّة.

____________________

(١) القعب: القدح الضخم الغليظ.

٢٧

و في الكافي، عن العامريّ عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: لمّا عرج برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نزل بالصلاة عشر ركعات ركعتين ركعتين فلمّا ولد الحسن و الحسينعليهما‌السلام زاد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سبع ركعات شكراً لله فأجاز الله له ذلك و ترك الفجر لم يزد فيها لأنّه يحضرها ملائكة الليل و ملائكة النهار فلمّا أمره الله بالتقصير في السفر وضع عن اُمّته ستّ ركعات و ترك المغرب لم ينقص منه شيئا، و إنّما يجب السهو فيما زاد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فمن شكّ في أصل الفرض في الركعتين الاُوليين استقبل صلاته.

و روى الصدوق في الفقيه، بإسناده عن سعيد بن المسيّب: أنّه سأل عليّ بن الحسينعليه‌السلام فقال: متى فرضت الصلاة على المسلمين على ما هي اليوم عليه؟ فقال: بالمدينة حين ظهرت الدعوة و قوي الإسلام و كتب الله على المسلمين الجهاد زاد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الصلاة سبع ركعات في الظهر ركعتين و في العصر ركعتين و في المغرب ركعة و في العشاء الآخرة ركعتين، و أقرّ الفجر على ما فرضت بمكّة. الحديث.

و في الدرّ المنثور، أخرج أحمد و النسائيّ و البزّاز و الطبرانيّ و ابن مردويه و البيهقيّ في الدلائل، بسند صحيح عن ابن عبّاس قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لمّا اُسري بي مرّت بي رائحة طيّبة فقلت: يا جبرئيل ما هذه الرائحة الطيّبة؟ قال: ماشطة بيت فرعون و أولادها كانت تمشطها فسقط المشط من يدها فقالت: بسم الله فقالت ابنة فرعون: أبي؟ قالت: بلى ربّي و ربّك و ربّ أبيك قالت: أ و لك ربّ غير أبي؟ قالت نعم قالت: فاُخبر بذلك أبي؟ قالت: نعم.

فأخبرته فدعاها فقال: أ لك ربّ غيري؟ قالت: نعم ربّي و ربّك الله الّذي في السماء فأمر ببقرة من نحاس فاُحميت ثمّ أمر بها لتلقى فيها و أولادها. قالت: إنّ لي إليك حاجة قال: و ما هي؟ قالت: تجمع عظامي و عظام ولدي فتدفنه جميعاً. قال: ذلك لك لما لك علينا من حقّ فألقوا واحداً واحداً حتّى بلغ رضيعا فيهم قال: نعي يا اُمّه و لا تقاعسي فإنّك على الحقّ فاُلقيت هي و ولدها.

قال ابن عبّاس: و تكلّم أربعة و هم صغار: هذا و شاهد يوسف و صاحب جريح و عيسى بن مريم.

٢٨

أقول: و روي من وجه آخر عن ابن عبّاس عن اُبيّ بن كعب عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

و فيه، أخرج ابن مردويه عن أنس أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: ليلة اُسري بي مررت بناس يقرض شفاههم بمقاريض من نار كلّما قرضت عادت كما كانت فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء خطباء اُمّتك الّذين يقولون ما لا يفعلون.

أقول: و هذا النوع من التمثّلات البرزخيّة الّتي تصوّر الأعمال بنتائجها و العذابات المعدّة لها كثيرة الورود في أخبار الإسراء و قد تقدّم شطر منها في ضمن الروايات.

و اعلم أنّ ما أوردناه من أخبار الإسراء نبذة يسيرة منها و هي كثيرة بالغة حدّ التواتر رواها جمّ غفير من الصحابة كأنس بن مالك و شدّاد بن الأوس و عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام و أبو سعيد الخدريّ و أبو هريرة و عبدالله بن مسعود و عمر بن الخطّاب و عبدالله بن عمر و عبدالله بن عبّاس و اُبيّ بن كعب و سمرة بن جندب و بريدة و صهيب بن سنان و حذيفة بن اليمان و سهل بن سعد و أبو أيّوب الأنصاريّ و جابر بن عبدالله و أبو الحمراء و أبو الدرداء و عروة و اُمّ هاني و اُمّ سلمة و عائشة و أسماء بنت أبي بكر كلّهم عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و روتها جماعة كثيرة من رواة الشيعة عن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام .

و قد اتّفقت أقوال من يعتنى بقوله من علماء الإسلام على أنّ الإسراء كان بمكّة قبل الهجرة كما يستفاد من قوله تعالى:( سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى‏ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ ) الآية، و يدلّ عليه ما اشتملت عليه كثير من الروايات من إخبارهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قريشاً بذلك صبيحة ليلته و إنكارهم ذلك عليه و إخباره إيّاهم بأساطين المسجد الأقصى و ما لقيه في الطريق من العير و غير ذلك.

ثمّ اختلفوا في السنة الّتي اُسري بهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيها فقيل: في السنة الثانية من البعثة كما عن ابن عبّاس، و قيل في السنة الثالثة منها كما في الخرائج، عن عليّعليه‌السلام . و قيل في السنة الخامسة، أو السادسة، و قيل بعد البعثة بعشر سنين و ثلاثة

٢٩

أشهر، و قيل: في السنة الثانية عشرة منها، و قيل: قبل الهجرة بسنة و خمسة أشهر، و قيل: قبلها بسنة و ثلاثة أشهر، و قيل: قبلها بستّة أشهر.

و لا يهمّنا الغور في البحث عن ذلك و لا عن الشهر و اليوم الّذي وقع فيه الإسراء و لا مستند يصحّ التعويل عليه لكن ينبغي أن يتنبّه أن من الروايات المأثورة عن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام ما يصرّح بوقوع الإسراء مرّتين، و هو المستفاد من آيات سورة النجم حيث يقول سبحانه:( وَ لَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى‏ ) الآيات على ما سيوافيك إن شاء الله من تفسيره.

و على هذا فمن الجائز أن يكون ما وصفهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في بعض الروايات من عجيب ما شاهده راجعاً إلى ما شاهده في الإسراء الأوّل و بعض ما وصفه في بعض آخر راجعاً إلى الإسراء الثاني، و بعضه ممّا شاهده في الإسراءين معاً.

ثمّ اختلفوا في المكان الّذي اُسري بهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منه فقيل: اُسري به من شعب أبي طالب و قيل: اُسري به من بيت اُمّ هاني و في بعض الروايات دلالة على ذلك و قد أوّلوا قوله تعالى:( أَسْرى‏ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ ) إلى أنّ المراد بالمسجد الحرام الحرم كلّه مجازاً فيشمل مكّة، و قيل: اُسري به من نفس المسجد الحرام لظهور الآية الكريمة فيه و لا دليل على التأويل.

و من الجائز بالنظر إلى ما نبّهنا به من كون الإسراء مرّتين أن يكون أحد الإسراءين من المسجد الحرام و الآخر من بيت اُمّ هاني، و أمّا كونه من الشعب فما ذكر فيما ذكر فيه من الروايات أنّ أباطالب كان يطلبه طول ليلته و أنّه اجتمع هو و بنو هاشم في المسجد الحرام ثمّ سلّ سيفه و هدّد قريشاً إن لم يحصل على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثمّ نزوله من السماء و مجيئه إليهم و إخباره قريشاً بما رأى كلّ ذلك لا يلائم ما كان هوصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و بنو هاشم جميعاً عليه من الشدّة و البليّة أيّام كانوا في الشعب.

و على أيّ حال فالإسراء الّذي تعطيه الآية:( سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى‏ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى ) و هو الإسراء الّذي كان إلى بيت المقدّس

٣٠

كان مبدؤه المسجد الحرام لكمال ظهور الآية و لا موجب للتأويل.

ثمّ اختلفوا في كيفيّة الإسراء فقيل: كان إسراؤهعليه‌السلام بروحه و جسده من المسجد الحرام إلى بيت المقدّس ثمّ منه إلى السماوات و عليه الأكثر و قيل: كان بروحه و جسده من مكّة إلى بيت المقدّس ثمّ بروحه من بيت المقدّس إلى السماوات و عليه جمع، و قيل: كان بروحهعليه‌السلام و هو رؤيا صادقة أراها الله نبيّه و نسب إلى بعضهم.

قال في المناقب،: اختلف الناس في المعراج فالخوارج ينكرونه، و قالت الجهميّة: عرج بروحه دون جسمه على طريق الرؤيا، و قالت الإماميّة و الزيديّة و المعتزلة: بل عرج بروحه و بجسمه إلى البيت المقدّس لقوله تعالى:( إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى ) و قال آخرون: بل عرج بروحه و بجسمه إلى السماوات: روي ذلك عن ابن عبّاس و ابن مسعود و جابر و حذيفة و أنس و عائشة و اُمّ هاني.

و نحن لا ننكر ذلك إذا قامت الدلالة، و قد جعل الله معراج موسى إلى الطور( وَ ما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ ) و لإبراهيم إلى السماء الدنيا( وَ كَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ ) و لعيسى إلى الرابعة( بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ ) و لإدريس إلى الجنّة( وَ رَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا ) و لمحمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ( فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ ) و ذلك لعلوّ همّته. انتهى.

و الّذي ينبغي أن يقال أنّ أصل الإسراء ممّا لا سبيل إلى إنكاره فقد نصّ عليه القرآن و تواترت عليه الأخبار عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و الأئمّة من أهل بيتهعليهم‌السلام .

و أمّا كيفيّة الإسراء فظاهر الآية و الروايات بما يحتفّ بها من القرائن ظهوراً لا يقبل الدفع أنّه اُسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى بروحه و جسده جميعاً، و أمّا العروج إلى السماوات فظاهر آيات سورة النجم كما سيأتي إن شاء الله في تفسيرها و صريح الروايات على كثرتها البالغة وقوعه، و لا سبيل إلى إنكاره من أصله غير أنّه من الجائز أن يقال بكونه بروحه لكن لا على النحو الّذي يراه القائلون به من كون ذلك من قبيل الأحلام و من نوع ما يراه النائم من الرؤى، و لو كان كذلك لم يكن لما يدلّ عليه الآيات بسياقها من إظهار المقدرة و

٣١

الكرامة معنى، و لا لذاك الإنكار الشديد الّذي أظهرته قريش عند ما قصّعليه‌السلام لهم القصّة وجه، و لا لما أخبرهم به من حوادث الطريق مفهوم معقول.

بل ذلك - إن كان - بعروجهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بروحه الشريفة إلى ما وراء هذا العالم المادّيّ ممّا يسكنه الملائكة المكرمون و ينتهي إليه الأعمال و يصدر منه الأقدار و رأى عند ذلك من آيات ربّه الكبرى و تمثّلت له حقائق الأشياء و نتائج الأعمال و شاهد أرواح الأنبياء العظام و فاوضهم و لقي الملائكة الكرام و سامرهم، و رآى من الآيات الإلهيّة ما لا يوصف إلّا بالأمثال كالعرش و الحجب و السرادقات.

و القوم لذهابهم إلى أصالة الوجود المادّيّ و قصر الوجود غير المادّيّ فيه تعالى لمّا وجدوا الكتاب و السنّة يصفان أموراً غير محسوسة بتمثيلها في خواصّ الأجسام المحسوسة كالملائكة الكرام و العرش و الكرسيّ و اللوح و القلم و الحجب و السرادقات حملوا ذلك على كونها أجساماً مادّيّة لا يتعلّق بها الحسّ و لا يجري فيها أحكام المادّة، و حملوا أيضاً ما ورد من التمثيلات في مقامات الصالحين و معارج القرب و بواطن صور المعاصي و نتائج الأعمال و ما يناظر ذلك إلى نوع من التشبيه و الاستعارة فوقعوا في ورطة السفسطة بتغليط الحسّ و إثبات الروابط الجزافيّة بين الأعمال و نتائجها و غير ذلك من المحاذير.

و لذلك أيضاً لمّا نفى النافون منهم كون عروجهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى السماوات بجسمه المادّيّ اضطرّوا إلى القول بكونه في المنام و هو عندهم خاصّة مادّيّة للروح المادّيّ و اضطرّوا لذلك إلى تأويل الآيات و الروايات بما لا تلائمه و لا واحدة منها.

بحث آخر:

قال في مجمع البيان: فأمّا الموضع الّذي اُسري إليه أين كان؟ فإنّ الإسراء إلى بيت المقدّس، و قد نصّ به القرآن و لا يدفعه مسلم، و ما قاله بعضهم: إنّ ذلك كان في النوم فظاهر البطلان إذ لا معجز يكون فيه و لا برهان.

و قد وردت روايات كثيرة في قصّة المعراج في عروج نبيّناصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى السماء

٣٢

و رواها كثير من الصحابة مثل ابن عبّاس و ابن مسعود و أنس و جابر بن عبدالله و حذيفة و عائشة و اُمّ هاني و غيرهم عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و زاد بعضهم و نقص بعض و تنقسم جملتها إلى أربعة أوجه:

أحدها: ما يقطع على صحّتها لتواتر الأخبار به و إحاطة العلم بصحّته.

و ثانيها: ما ورد في ذلك ممّا يجوّزه العقول و لا يأباه الاُصول فنحن نجوّزه ثمّ نقطع على أنّ ذلك كان في يقظته دون منامه.

و ثالثها: ما يكون ظاهره مخالفاً لبعض الاُصول إلّا أنّه يمكن تأويلها على وجه يوافق المعقول فالأولى تأويله على وجه يوافق الحقّ و الدليل.

و رابعها: ما لا يصحّ ظاهره و لا يمكن تأويله إلّا على التعسّف البعيد فالأولى أن لا نقبله.

فأمّا الأوّل المقطوع به فهو أنّه اُسري به على الجملة، و أمّا الثاني فمنه ما روي أنّه طاف في السماوات و رأى الأنبياء و العرش و سدرة المنتهى و الجنّة و النار و نحو ذلك. و أمّا الثالث فنحو ما روي أنّه رأى قوماً في الجنّة يتنعّمون فيها و قوماً في النار يعذّبون فيها فيحمل على أنّه رأى صفتهم أو أسماءهم، و أمّا الرّابع فنحو ما روي أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كلّم الله جهرة و رآه و قعد معه على سريره و نحو ذلك ممّا يوجب ظاهره التشبيه، و الله سبحانه متقدّس عن ذلك و كذلك، ما روي أنّه شقّ بطنه و غسله لأنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان طاهراً مطهّراً من كلّ سوء و عيب و كيف يطهّر القلب و ما فيه من الاعتقاد بالماء. انتهى.

و ما ذكره من التقسيم في محلّه غير أنّ غالب ما أورده من الأمثلة للأقسام منظور فيه فما ذكره من الطواف و رؤية الأنبياء و نحو ذلك تمثّلات برزخيّة أو روحيّة و كذا ما ذكره من حديث شقّ البطن و الغسل تمثّل برزخيّ لا ضير فيه و أحاديث الإسراء مملوءة من ذكر هذا النوع من التمثّل كتمثّل الدنيا في هيئة مرأة عليها من كلّ زينة الدنيا، و تمثّل دعوة اليهوديّة و النصرانيّة و ما شاهده من أنواع النعيم و العذاب لأهل الجنّة و النار و غير ذلك.

٣٣

و ممّا يؤيّد هذا الّذي ذكرناه ما في ألسنة هذه الأخبار من الاختلاف في بيان حقيقة واحدة كما في بعضها من صعودهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى السماء بالبراق و في آخر على جناح جبريل و في آخر بمعراج منصوب على صخرة بيت المقدّس إلى السماء إلى غير ذلك ممّا يعثر عليه الباحث المتدبّر في خلال هذه الروايات.

فهذه و أمثالها ترشد إلى أنّ هذه البيانات موضوعة على التمثيل أو التمثّل الروحيّ، و وقوع هذه التمثيلات في ظواهر الكتاب و السنّة ممّا لا سبيل إلى إنكاره البتّة.

٣٤

( سورة الإسراء الآيات ٢ - ٨)

وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِن دُونِي وَكِيلًا ( ٢ ) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ  إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا ( ٣ ) وَقَضَيْنَا إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا ( ٤ ) فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ  وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولًا ( ٥ ) ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا ( ٦ ) إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ  وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا  فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا ( ٧ ) عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ  وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا  وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا ( ٨ )

( بيان)

الظاهر من سياق آيات صدر السورة أنّها مسوقة لبيان أنّ السنّة الإلهيّة في الاُمم الإنسانيّة جرت على هدايتهم إلى طريق العبوديّة و سبيل التوحيد و أمكنهم من الوصول إلى ذلك باختيارهم فآتاهم من نعم الدنيا و الآخرة، و أمدّهم بأسباب الطاعة و المعصية فإن أطاعوا و أحسنوا أثابهم بسعادة الدنيا و الآخرة، و إن أساؤا و عصوا جازاهم بنكال الدنيا و عذاب الآخرة.

و على هذا فهذه الآيات السبع كالمثال يمثّل به ما جرى من هذه السنّة العامّة في بني إسرائيل أنزل الله على نبيّهم الكتاب و جعله لهم هدى يهتدون به و قضى

٣٥

إليهم فيه أنّهم سيعلون و يطغون و يفسقون فينتقم الله منهم باستيلاء عدوّهم عليهم بالإذلال و القتل و الأسر ثمّ يعودون إلى الطاعة فيعود تعالى إلى النعمة و الرحمة ثمّ يستعلون و يطغون ثانيا فينتقم الله منهم ثانياً بأشدّ ممّا في المرّة الاُولى ثمّ من المرجوّ أن يرحمهم ربّهم و إن يعودوا يعد.

و من ذلك يستنتج أنّ الآيات السبع كالتوطئة لما سيذكر بعدها من جريان هذه السنة العامّة في هذه الاُمّة، و الآيات السبع كالمعترضة بين الآية الاُولى و التاسعة.

قوله تعالى: ( وَ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَ جَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا ) الكتاب كثيراً ما يطلق في كلامه تعالى على مجموع الشرائع المكتوبة على الناس القاضية بينهم فيما اختلفوا فيه من الاعتقاد و العمل ففيه دلالة على اشتماله على الوظائف الاعتقاديّة و العمليّة الّتي عليهم أن يأخذوها و يتلبّسوا بها، و لعلّه لذلك قيل:( وَ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ ) و لم يقل التوراة ليدلّ به على اشتماله على شرائع مفترضة عليهم.

و بذلك يظهر أنّ قوله:( وَ جَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ ) بمنزلة التفسير لإيتائه الكتاب. و كونه هدى أي هاديا لهم هو بيانه لهم شرائع ربّهم الّتي لو أخذوها و عملوا بها لاهتدوا إلى الحقّ و نالوا سعادة الدارين.

و قوله:( أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا ) أن: فيه للتفسير و مدخولها محصّل ما يشتمل عليه الكتاب الّذي جعل هدى لهم فيؤل المعنى إلى أنّ محصّل ما كان الكتاب يبيّنه لهم و يهديهم إليه هو نهيه إيّاهم أن يشركوا بالله شيئاً و يتّخذوا من دونه وكيلاً فقوله:( أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا ) تفسيراً لقوله:( وَ جَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ ) إن كان ضمير( أَلَّا تَتَّخِذُوا ) عائدا إليهم كما هو الظاهر، و تفسير لجميع ما تقدّمه إن احتمل رجوعه إلى موسى و بني إسرائيل جميعاً.

و في الجملة التفات من التكلّم مع الغير إلى التكلّم وحده و وجهه بيان كون التكلّم مع الغير لغرض التعظيم و جريان السياق على ما كان عليه من التكلّم مع الغير كأن يقال:( أن لا تتخذوا من دوننا وكلاء) لا يناسب معنى التوحيد الّذي

٣٦

سيقت له الجملة، و لذلك عدل فيها إلى سياق التكلّم وحده ثمّ لمّا ارتفعت الحاجة رجع الكلام إلى سياقه السابق فقيل:( ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ ) .

و رجوع اتّخاذ الوكيل من دون الله إلى الشرك إنّما هو من جهة أنّ الوكيل هو الذي يكفلُ إصلاح الشؤون الضروريّة لموكّله و يقدم على رفع حوائجه و هو الله سبحانه فاتّخاذ غيره ربّا هو اتّخاذ وكيل من دونه.

قوله تعالى: ( ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً ) تطلق الذرّيّة على الأولاد بعناية كونهم صغارا ملحقين بآبائهم، و هي - على ما يهدي إليه السياق - منصوبة على الاختصاص و يفيد الاختصاص عناية خاصّة من المتكلّم به في حكمه فهو بمنزلة التعليل كقوله تعالى:( إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ :) الأحزاب ٣٣ أي ليفعل بكم ذلك لأنّكم أهل بيت النبوّة.

فقوله:( ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ ) يفيد فائدة التعليل بالنسبة إلى ما تقدّمه كما أنّ قوله:( إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً ) يفيد فائدة التعليل بالنسبة إليه.

أمّا الأوّل فلأنّ الظاهر أنّ تعلّق العناية بهم إنّما هو من جهة ما سبق من الله سبحانه لأهل سفينة نوح من الوعد الجميل حين نجّاهم من الطوفان و أمر نوحاً بالهبوط بقوله:( يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَ بَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَ عَلى‏ أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَ أُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ :) هود: ٤٨ ففي إنزاله الكتاب لموسى و جعله هدى لبني إسرائيل إنجاز للوعد الحسن الّذي سبق لآبائهم من أهل السفينة و جرى على السنّة الإلهيّة الجارية في الاُمم فكأنّه قيل: أنزلنا على موسى الكتاب و جعلناه هدى لبني إسرائيل لأنّهم ذرّيّة من حملنا مع نوح و قد وعدناهم السلام و البركات و التمتيع.

و أمّا الثاني فلأنّ هذه السنّة أعني سنّة الهداية و الإرشاد و طريقة الدعوة إلى التوحيد هي بعينها السنّة الّتي كان نوحعليه‌السلام أوّل من قام بها في العالم البشريّ فشكر بذلك نعمة الله و أخلص له في العبوديّة - و قد تقدّم مراراً أنّ الشكر بحقيقته يلازم الإخلاص في العبوديّة - فشكر الله له، و جعل سنّته باقية ببقاء الدنيا، و سلّم

٣٧

عليه في العالمين، و أثابه بكلّ كلمة طيّبة و عمل صالح إلى يوم القيامة كما قال تعالى:( وَ جَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ وَ تَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلامٌ عَلى‏ نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ) الصافّات: ٨٠.

فيتلخّص معنى الآيتين في مثل قولنا: إنّا جزينا نوحاً بما كان عبداً شكوراً لنا أنّا أبقينا دعوته و أجرينا سنّته و طريقته في ذرّيّة من حملناهم معه في السفينة و من ذلك أنّا أنزلنا على موسى الكتاب و جعلناه هدى لبني إسرائيل.

و يظهر من قوله في الآية:( ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ ) و من قوله:( وَ جَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ ) أنّ الناس ذرّيّة نوحعليه‌السلام من جهة الابن و البنت معا، و لو كانت الذرّيّة منتهية إلى أبنائه فقط و كان المراد بقوله:( مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ ) أبناؤه فقط كان الأحسن بل المتعيّن أن يقال: ذرّيّة نوح و هو ظاهر.

و للقوم في إعراب الآية وجوه اُخرى كثيرة كقول من قال: إنّ( ذُرِّيَّةَ ) منصوب على النداء بحذف حرفه، و التقدير يا ذرّيّة من حملنا، و قيل: مفعول أوّل لقوله: تتّخذوا و مفعوله الثاني قوله:( وَكِيلًا ) و التقدير أن لا تتّخذوا ذرّيّة من حملنا مع نوح وكيلاً من دوني، و قيل: بدل من موسى في الآية السابقة و هي وجوه ظاهرة السخافة.

و يتلوها في ذلك قول من قال: إنّ ضمير( إِنَّهُ ) عائد إلى موسى دون نوح و الجملة تعليل لإيتائه الكتاب أو لجعلهعليه‌السلام هدى لبني إسرائيل بناء على رجوع ضمير( وَ جَعَلْناهُ ) إلى موسى دون الكتاب.

قوله تعالى: ( وَ قَضَيْنا إِلى‏ بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَ لَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً ) قال الراغب في المفردات،: القضاء فصل الأمر قولاً كان ذلك أو فعلاً، و كلّ واحد منهما على وجهين: إلهيّ و بشريّ فمن القول الإلهيّ قوله:( وَ قَضى‏ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ) أي أمر بذلك، و قال:( وَ قَضَيْنا إِلى‏ بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ ) فهذا قضاء بالإعلام و الفصل في الحكم أي أعلمناهم و أوحينا إليهم وحياً جزماً و على هذا( وَ قَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ ) .

٣٨

و من الفعل الإلهيّ قوله:( وَ اللهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْ‏ءٍ ) و قوله:( فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ ) إشارة إلى إيجاده الإبداعيّ و الفراغ منه نحو:( بَدِيعُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ) .

قال: و من القول البشريّ نحو قضى الحاكم بكذا فإنّ حكم الحاكم يكون بالقول، و من الفعل البشريّ( فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ ) ( ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَ لْيُوفُوا نُذُورَهُمْ ) انتهى موضع الحاجة.

و العلوّ هو الارتفاع و هو في الآية كناية عن الطغيان بالظلم و التعدّي و يشهد بذلك عطفه على الإفساد عطف التفسير، و في هذا المعنى قوله:( إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَ جَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً ) .

و معنى الآية و أخبرنا و أعلمنا بني إسرائيل إخباراً قاطعاً في الكتاب و هو التوراة: اُقسم و اُحقّ هذا القول أنّكم شعب إسرائيل ستفسدون في الأرض و هي أرض فلسطين و ما يتبعها مرّتين مرّة بعد مرّة و تعلون علوّاً كبيراً و تطغون طغياناً عظيماً.

قوله تعالى: ( فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا ) إلخ، قال الراغب: البؤس و البأس و البأساء الشدّة و المكروه إلّا أنّ البؤس في الفقر و الحرب أكثر و البأس و البأساء في النكاية نحو وَ اللهُ أشدّ بَأْساً وَ أشدّ تَنْكِيلًا. انتهى موضع الحاجة.

و في المجمع: الجوس التخلّل في الديار يقال: تركت فلان يجوس بني فلان و يجوسهم و يدوسهم أي يطؤهم، قال أبوعبيد: كلّ موضع خالطته و وطأته فقد حسته و جسته قال: و قيل: الجوس طلب الشي‏ء باستقصاء. انتهى.

و قوله:( فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما ) تفريع على قوله:( لَتُفْسِدُنَّ ) إلخ، و ضمير التثنية راجع إلى المرّتين و هما الإفسادتان فالمراد بها الإفسادة الأولى، و المراد بوعد اُولاهما ما وعدهم الله من النكال و النقمة على إفسادهم فالوعد بمعنى الموعود، و مجي‏ء الوعد كناية عن وقت إنجازه، و يدلّ ذلك على أنّه وعدهم على إفسادهم مرّتين وعدين و لم يذكراً إنجازاً فكأنّه قيل: لتفسدنّ في الأرض مرّتين

٣٩

و نحن نعدكم الانتقام على كلّ منهما فإذا جاء وعد المرّة الاُولى إلخ كلّ ذلك معونة السياق.

و قوله:( بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ ) أي أنهضناهم و أرسلناهم إليكم ليذلّوكم و ينتقموا منكم، و الدليل على كون البعث للانتقام و الإذلال قوله:( أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ ) إلخ.

و لا ضير في عدّ مجيئهم إلى بني إسرائيل مع ما كان فيه من القتل الذريع و الأسر و السبي و النهب و التخريب بعثاً إلهيّاً لأنّه كان على سبيل المجازاة على إفسادهم في الأرض و علوّهم و بغيهم بغير الحقّ، فما ظلمهم الله ببعث أعدائهم و تأييدهم عليهم و لكن كانوا هم الظالمين لأنفسهم.

و بذلك يظهر أن لا دليل من الكلام يدلّ على قول من قال: إنّ المراد بقوله:( بَعَثْنا عَلَيْكُمْ ) إلخ أمرنا قوماً مؤمنين بقتالكم و جهادكم لاقتضاء ظاهر قوله:( بَعَثْنا ) و قوله( عِباداً ) ذلك و ذلك لما عرفت أنّ عدّ ذلك بعثاً إلهيّاً لا مانع فيه بعد ما كان على سبيل المجازاة، و كذا لا مانع من عدّ الكفّار عباداً لله مع ما تعقّبه من قوله:( أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ ) .

و نظيره قول من قال: يجوز أن يكون هؤلاء المبعوثون مؤمنين أمرهم الله بجهاد هؤلاء، و يجوز أن يكونوا كفّاراً فتألّفهم نبيّ من الأنبياء لحرب هؤلاء، و سلطهم على أمثالهم من الكفّار و الفسّاق، و يرد عليه نظير ما يرد على سابقه.

و قوله:( وَ كانَ وَعْداً مَفْعُولًا ) تأكيد لكون القضاء حتماً لازماً و المعنى فإذا جاء وقت الوعد الّذي وعدناه على المرّة الاُولى من إفسادكم مرّتين بعثنا و أنهضنا عليكم من الناس عبادا لنا اُولي بأس و شدّة شديدة فدخلوا بالقهر و الغلبة أرضكم و توسّطوا في دياركم فأذلّوكم و أذهبوا استقلالكم و علوّكم و سؤددكم و كان وعداً مفعولاً لا محيص عنه.

قوله تعالى: ( ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَ أَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَ بَنِينَ وَ جَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً ) قال في المجمع،: الكرّة معناه الرجعة و الدولة، و النفير

٤٠