الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٣

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 443

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 443
المشاهدات: 107085
تحميل: 5630


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 443 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 107085 / تحميل: 5630
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 13

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

من الاُوربة الشماليّة عثروا فيه على سبع جثث غير بالية على هيئة الرومانيّين يظنّ أنّهم الفتية أصحاب الكهف.

و ربّما يذكر بعض كهوف اُخر منسوب إلى أصحاب الكهف كما يذكر أنّ بالقرب من بلدة نخجوان من بلاد قفقاز كهفاً يعتقد أهل تلك النواحي أنّه كهف أصحاب الكهف و كان الناس يقصدونه و يزورونه.

و لا شاهد يشهد على كون شي‏ء من هذه الكهوف هو الكهف المذكور في القرآن الكريم. على أنّ المصادر التاريخيّة تكذّب الأخيرين إذ القصّة على أيّ حال قصّة رومانيّة، و سلطتهم حتّى في أيّام مجدهم و سؤددهم لم تبلغ هذه النواحي نواحي اُوربة الشماليّة و قفقاز.

٣٢١

( سورة الكهف الآيات ٢٧ - ٣١)

وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ  لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا ( ٢٧ ) وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ  وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا  وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا ( ٢٨ ) وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ  فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ  إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا  وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ  بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا ( ٢٩ ) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا ( ٣٠ ) أُولَٰئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِّن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ  نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا ( ٣١ )

( بيان‏)

رجوع و انعطاف على ما انتهى إليه الكلام قبل القصّة من بلوغ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حزناً و أسفاً على عدم إيمانهم بالكتاب النازل عليه و ردّهم دعوته الحقّة ثمّ تسليته بأنّ الدار دار البلاء و الامتحان و ما عليها زينة لها سيجعله الله صعيدا جرزاً فليس ينبغي لهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يتحرّج لأجلهم إن لم يستجيبوا دعوته و لم يؤمنوا بكتابه.

بل الّذي عليه أن يصبر نفسه مع اُولئك الفقراء من المؤمنين الّذين لا

٣٢٢

يزالون يدعون ربّهم و لا يلتفت إلى هؤلاء الكفّار المترفين الّذين يباهون بما عندهم من زينة الحياة الدنيا الّتي ستعود صعيداً جرزاً بل يدعوهم إلى ربّهم و لا يزيد على ذلك فمن شاء منهم آمن به و من شاء كفر و لا عليه شي‏ء، و أمّا الّذي يجب أن يواجهوا به إن كفروا أو آمنوا فليس هو أن يتأسّف أو يسرّ، بل ما أعدّه الله للفريقين من عقاب أو ثواب.

قوله تعالى: ( وَ اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ ) إلى آخر الآية في المجمع: لحد إليه و التحد أي مال انتهى فالملتحد اسم مكان من الالتحاد بمعنى الميل و المراد بكتاب ربّك القرآن أو اللوح المحفوظ، و كأنّ الثاني أنسب بقوله:( لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ ) .

و في الكلام على ما عرفت آنفاً رجوع إلى ما قبل القصّة و عليه فالأنسب أن يكون قوله:( وَ اتْلُ ) إلخ عطفاً على قوله:( إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ ) إلخ و المعنى لا تهلك نفسك على آثارهم أسفا و اتل ما اُوحي إليك من كتاب ربّك لأنّه لا مغيّر لكلماته فهي حقّة ثابتة و لأنّك لا تجد من دونه ملتحداً تميل إليه.

و بذلك ظهر أنّ كلّاً من قوله:( لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ ) و قوله:( لَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً ) في مقام التعليل فهما حجّتان على الأمر في قوله:( وَ اتْلُ ) و لعلّه لذلك خصّ الخطاب في قوله:( وَ لَنْ تَجِدَ ) إلخ بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع أنّ الحكم عام و لن يوجد من دونه ملتحد لأحد.

و يمكن أن يكون المراد: و لن تجد أنت ملتحداً من دونه لأنّك رسول و لا ملجأ للرسول من حيث إنّه رسول إلّا مرسلة، و الأنسب على هذا أن يكون قوله:( لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ ) حجّة واحدة مفادها: و اتل عليهم هذه الآيات المشتملة على الأمر الإلهيّ بالتبليغ لأنّه كلمة إلهيّة و لا تتغيّر كلماته و أنت رسول ليس لك إلّا أن تميل إلى مرسلك و تؤدّي رسالته، و يؤيّد هذا المعنى قوله في موضع آخر:( قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللهِ أَحَدٌ وَ لَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً إِلَّا بَلاغاً مِنَ اللهِ وَ رِسالاتِهِ ) الجنّ: ٢٣.

٣٢٣

قوله تعالى: ( وَ اصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَ الْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ) إلى آخر الآية قال الراغب: الصبر الإمساك في ضيق يقال: صبرت الدابة حبستها بلا علف، و صبرت فلانا خلفته خلفة لا خروج له منها، و الصبر حبس النفس على ما يقتضيه العقل و الشرع أو عمّا يقتضيان حبسها عنه. انتهى مورد الحاجة.

و وجه الشي‏ء ما يواجهك و يستقبلك به، و الأصل في معناه الوجه بمعنى الجارحة، و وجهه تعالى أسماؤه الحسنى و صفاته العليا الّتي بها يتوجّه إليه المتوجّهون و يدعوه الداعون و يعبده العابدون قال تعالى:( وَ لِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى‏ فَادْعُوهُ بِها ) الأعراف: ١٨٠، و أمّا الذات المتعالية فلا سبيل إليها، و إنّما يقصده القاصدون و يريده المريدون لأنّه إله ربّ عليّ عظيم ذو رحمة و رضوان إلى غير ذلك من أسمائه و صفاته.

و الداعي لله المريد وجهه إن أراد صفاته تعالى الفعليّة كرحمته و رضاه و إنعامه و فضله فإنّما يريد أن تشمله و تغمره فيتلبّس بها نوع تلبّس فيكون مرحوماً و مرضيّاً عنه و منعّماًَ بنعمته، و إن أراد صفاته غير الفعليّة كعلمه و قدرته و كبريائه و عظمته فإنّما يريد أن يتقرّب إليه تعالى بهذه الصفات العليا، و إن شئت فقل: يريد أن يضع نفسه موضعاً تقتضيه الصفة الإلهيّة كأن يقف موقف الذلّة و الحقارة قبال عزّته و كبريائه و عظمته تعالى، و يقف موقف الجاهل العاجز الضعيف تجاه علمه و قدرته و قوّته تعالى و هكذا فافهم ذلك.

و بذلك يظهر ما في قول بعضهم: إنّ المراد بالوجه هو الرضى و الطاعة المرضيّة مجازاً لأنّ من رضي عن شخص أقبل عليه و من غضب يعرض عنه، و كذا قول بعضهم: المراد بالوجه الذات و الكلام على حذف مضاف، و كذا قول بعضهم: المراد بالوجه التوجّه و المعنى يريدون التوجّه إليه و الزلفى لديه هذا.

و المراد بدعائهم ربّهم بالغداة و العشيّ الاستمرار على الدعاء و الجري عليه دائماً لأنّ الدوام يتحقّق بتكرّر غداة بعد عشيّ و عشيّ بعد غداة على الحسّ فالكلام جار على الكناية. و قيل: المراد بدعاء الغداة و العشيّ صلاة طرفي النهار

٣٢٤

و قيل: الفرائض اليوميّة و هو كما ترى.

و قوله تعالى:( وَ لا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا ) أصل معنى العدو كما صرّح به الراغب التجاوز و هو المعنى الساري في جميع مشتقّاته و موارد استعمالاته قال في القاموس،: يقال: عدا الأمر و عنه جاوزه و تركه انتهى فمعنى( لا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ ) لا تجاوزهم و لا تتركهم عيناك و الحال أنّك تريد زينة الحياة الدنيا.

لكن ذكر بعضهم أنّ المجاوزة لا تتعدّى بعن إلّا إذا كان بمعنى العفو، و لذا قال الزمخشريّ في الكشّاف: إنّ قوله:( لا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ ) بتضمين عدا معنى نبا و علا في قولك: نبت عنه عينه و علت عنه عينه إذا اقتحمته و لم تعلّق به، و لو لا ذلك لكان من الواجب أن يقال: و لا تعدهم عيناك.

و قوله تعالى:( وَ لا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا ) المراد بإغفال قلبه تسليط الغفلة عليه و إنسائه ذكر الله سبحانه على سبيل المجازاة حيث إنّهم عاندوا الحقّ فأضلّهم الله بإغفالهم عن ذكره فإنّ كلامه تعالى في قوم هذه حالهم نظير ما سيأتي في ذيل الآيات من قوله:( إِنَّا جَعَلْنا عَلى‏ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَ فِي آذانِهِمْ وَقْراً وَ إِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى‏ فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً ) .

فلا مساغ لقول من قال: إنّ الآية من أدلّة جبره تعالى على الكفر و المعصية و ذلك لأنّ الإلجاء مجازاةً لا ينافي الاختيار و الّذي ينافيه هو الإلجاء ابتداء و مورد الآية من القبيل الأوّل.

و لا حاجة إلى تكلّف التأويل كقول من قال: إنّ المراد بقوله:( أَغْفَلْنا قَلْبَهُ ) عرضناه للغفلة أو أنّ المعنى صادفناه غافلاً أو اُريد به نسبناه إلى الغفلة أو أنّ الإغفال بمعنى جعله غفلا لا سمة له و لا علامة و المراد جعلنا قلبه غفلا لم نسمه بسمة قلوب المؤمنين و لم نعلم فيه علامة المؤمنين لتعرفه الملائكة بتلك السمة. فالجميع كما ترى.

و قوله تعالى:( وَ اتَّبَعَ هَواهُ وَ كانَ أَمْرُهُ فُرُطاً ) قال في المجمع: الفرط

٣٢٥

التجاوز للحقّ و الخروج عنه من قولهم: أفرط إفراطاً إذا أسرف انتهى، و اتّباع الهوى و الإفراط من آثار غفلة القلب، و لذلك كان عطف الجملتين على قوله:( أَغْفَلْنا ) بمنزلة عطف التفسير.

قوله تعالى: ( وَ قُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَ مَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ ) عطف على ما عطف عليه قوله:( وَ اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ ) و قوله:( وَ اصْبِرْ نَفْسَكَ ) فالسياق سياق تعداد وظائف النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبال كفرهم بما اُنزل إليه و إصرارهم عليه و المعنى لا تأسّف عليهم و اتل ما اُوحي إليك و اصبر نفسك مع هؤلاء المؤمنين من الفقراء، و قل للكفّار: الحقّ من ربّكم و لا تزد على ذلك فمن شاء منهم أن يؤمن فليؤمن و من شاء منهم أن يكفر فليكفر فليس بنفعنا إيمانهم و لا يضرّنا كفرهم بل ما في ذلك من نفع أو ضرر و ثواب أو تبعة عذاب عائد إليهم أنفسهم فليختاروا ما شاؤا فقد أعتدنا للظالمين كذا و كذا و للصالحين من المؤمنين كذا.

و من هنا يظهر أنّ قوله:( فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَ مَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ ) من كلامه تعالى يخاطب به نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و ليس داخلاً في مقول القول فلا يعبأ بما ذكر بعضهم أنّ الجملة من تمام القول المأمور به.

و يظهر أيضاً أنّ قول:( إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً ) إلخ في مقام التعليل لتخييرهم بين الإيمان و الكفر الّذي هو تخيير صورة و تهديد معنى، و المعنى أنّا إنّما نهيناك عن الأسف و أمرناك أن تكتفي بالتبليغ فقط و تقنع بقولك:( الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ ) فحسب و لم نتوسّل إلى إصرار و إلحاح لأنّا هيّأنا لهم تبعات هذه الدعوة ردّاً و قبولاً و كفى بما هيّأناه محرّضاً و رادعاً و لا حاجة إلى أزيد من ذلك و عليهم أن يختاروا لأنفسهم أيّ المنزلتين شاؤا.

قوله تعالى: ( إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً ) إلى آخر الآية قال في المجمع: السرادق الفسطاط المحيط بما فيه، و يقال: السرادق ثوب يدار حول الفسطاط، و قال: المهل خثارة الزيت، و قيل: هو النحاس الذائب، و قال: المرتفق المتّكأ

٣٢٦

من المرفق يقال: ارتفق إذا اتّكأ على مرفقه انتهى و الشيّ النضج يقال: شوى يشوي وشيّا إذا نضج.

و في تبديل الكفر من الظلم في قوله:( إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ) دون أن يقول: للكافرين دلالة على أنّ التبعة المذكورة إنّما هي للظالمين بما هم ظالمون: و قد عرّفهم في قوله:( الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَ يَبْغُونَها عِوَجاً وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ ) الأعراف: ٤٥ و الباقي ظاهر.

قوله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا ) بيان لجزاء المؤمنين على إيمانهم و عملهم الصالح و إنّما قال:( إِنَّا لا نُضِيعُ ) إلخ و لم يقل: و أعتدنا لهؤلاء كذا و كذا ليكون دالّاً على العناية بهم و الشكر لهم.

و قوله:( إِنَّا لا نُضِيعُ ) إلخ في موضع خبر إنّ، و هو في الحقيقة من وضع السبب موضع المسبّب و التقدير إنّ الذين آمنوا و عملوا الصالحات سنوفّيهم أجرهم فإنّهم محسنون و إنّا لا نضيع أجر من أحسن عملاً.

و إذ عدّ في الآية العقاب أثراً للظلم ثمّ عدّ الثواب في مقابله أجراً للإيمان و العمل الصالح استفدنا منه أن لا ثواب للإيمان المجرّد من صالح العمل بل ربّما أشعرت الآية بأنّه من الظلم.

قوله تعالى: ( أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ ) إلى آخر الآية. العدن هو الإقامة و جنّات عدن جنّات إقامة و الأساور قيل: جمع أسورة و هي جمع سوار بكسر السين و هي حلية المعصم، و ذكر الراغب أنّه فارسيّ معرّب و أصله دستواره و السندس ما رقّ من الديباج، و الإستبرق ما غلظ منه، و الأرائك جمع أريكة و هي السرير، و معنى الآية ظاهر.

٣٢٧

( بحث روائي)

في الدرّ المنثور، أخرج ابن مردويه من طريق جويبر عن الضحّاك عن ابن عبّاس: في قوله:( وَ لا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا ) قال: نزلت في اُميّة بن خلف و ذلك أنّه دعا النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى أمر كرهه الله من طرد الفقراء عنه و تقريب صناديد أهل مكّة فأنزل الله:( وَ لا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ ) يعني من ختمنا على قلبه( عَنْ ذِكْرِنا ) يعني التوحيد( وَ اتَّبَعَ هَواهُ ) يعني الشرك( وَ كانَ أَمْرُهُ فُرُطاً ) يعني فرطاً في أمر الله و جهالة بالله.

و فيه، أخرج ابن مردويه و أبونعيم في الحلية، و البيهقيّ في شعب الإيمان عن سلمان قال: جاءت المؤلّفة قلوبهم إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عيينة بن بدر و الأقرع بن حابس فقالوا: يا رسول الله لو جلست في صدر المجلس و تغيّبت عن هؤلاء و أرواح جبابهم - يعنون سلمان و أباذرّ و فقراء المسلمين و كانت عليهم جباب الصوف - جالسناك أو حادثناك و أخذنا عنك فأنزل الله:( وَ اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ - إلى قوله -أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً ) يهدّدهم بالنار.

أقول: و روى مثله القمّيّ في تفسيره‏ لكنّه ذكر عيينة بن الحصين بن الحذيفة بن بدر الفزاريّ فقط، و لازم الرواية كون الآيتين مدنيّتين و عليه روايات اُخر تتضمّن نظيرة القصّة لكنّ سياق الآيات لا يساعد عليه.

و في تفسير العيّاشيّ، عن أبي جعفر و أبي عبداللهعليه‌السلام : في قوله:( وَ اصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَ الْعَشِيِّ ) قالا: إنّما عنى بها الصلاة.

و فيه، عن عاصم الكوزيّ عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: سمعته يقول في قول الله:( فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَ مَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ ) قال: وعيد.

و في الكافي، و تفسير العيّاشيّ، و غيره عن أبي حمزة عن أبي جعفرعليه‌السلام :في قوله:( وَ قُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَ مَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ ) في ولاية عليّعليه‌السلام .

٣٢٨

أقول: و هو من الجري.

و في الدرّ المنثور، أخرج أحمد و عبد بن حميد و الترمذيّ و أبويعلى و ابن جرير و ابن أبي حاتم و ابن حبّان و الحاكم و صحّحه و ابن مردويه و البيهقيّ في الشعب، عن أبي سعيد الخدريّ عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : في قوله:( بِماءٍ كَالْمُهْلِ ) قال: كعكر الزيت فإذا قرّب إليه سقطت فروة وجهه فيه.

و في تفسير القمّيّ: في قوله:( بِماءٍ كَالْمُهْلِ ) قال: قالعليه‌السلام : المهل الّذي يبقى في أصل الزيت.

و في تفسير العيّاشيّ، عن عبدالله بن سنان عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: ابن آدم خلق أجوف لا بدّ له من الطعام و الشراب قال تعالى:( وَ إِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ ) .

٣٢٩

( سورة الكهف الآيات ٣٢ - ٤٦)

وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلًا رَّجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا ( ٣٢ ) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِم مِّنْهُ شَيْئًا  وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا ( ٣٣ ) وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا ( ٣٤ ) وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَٰذِهِ أَبَدًا ( ٣٥ ) وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَىٰ رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِّنْهَا مُنقَلَبًا ( ٣٦ ) قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا ( ٣٧ ) لَّٰكِنَّا هُوَ اللهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا ( ٣٨ ) وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ  إِن تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنكَ مَالًا وَوَلَدًا ( ٣٩ ) فَعَسَىٰ رَبِّي أَن يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِّن جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِّنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا ( ٤٠ ) أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَن تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا ( ٤١ ) وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَىٰ مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا ( ٤٢ ) وَلَمْ تَكُن لَّهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللهِ وَمَا كَانَ مُنتَصِرًا ( ٤٣ ) هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ  هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا ( ٤٤ ) وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ  وَكَانَ اللهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِرًا ( ٤٥ ) الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا ( ٤٦ )

٣٣٠

( بيان‏)

الآيات تتضمّن مثلين يبيّنان حقيقة ما يملكه الإنسان في حياته الدنيا من الأموال و الأولاد و هي زخارف الحياة و زيناتها الغارّة السريعة الزوال و الفناء الّتي تتزيّن بها للإنسان فتلهيه عن ذكر ربّه و تجذب وهمه إلى أن يخلد إليها و يعتمد عليها فيخيّل إليه أنّه يملكها و يقدر عليها حتّى إذا طاف عليها طائف من الله سبحانه فنت و بادت و لم يبق للإنسان منها إلّا كحلمة نائم و اُمنيّة كاذبة.

فالآيات ترجع الكلام إلى توضيح ما أشار سبحانه إليه في قوله:( إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها - إلى قوله -صَعِيداً جُرُزاً ) من الحقيقة.

قوله تعالى: ( وَ اضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ ) إلخ أي و اضرب لهؤلاء المتولّهين بزينة الحياة الدنيا المعرضين عن ذكر الله مثلاً ليتبيّن لهم أنّهم لم يتعلّقوا في ذلك إلّا بسراب وهميّ لا واقع له.

و قد ذكر بعض المفسّرين أنّ الذي يتضمّنه المثل قصّة مقدّرة مفروضة فليس من الواجب أن يتحقّق مضمون المثل خارجاً، و ذكر آخرون أنّه قصّة واقعة، و قد رووا في ذلك قصصاً كثيرة مختلفة لا معوّل عليها غير أنّ التدبّر في سياق القصّة بما فيها من كونهما جنّتين اثنتين و انحصار أشجارهما في الكرم و النخل و وقوع الزرع بينهما و غير ذلك يؤيّد كونها قصّة واقعة.

و قوله:( جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ ) أي من كروم فالثمرة كثيراً ما يطلق على شجرتها و قوله:( وَ حَفَفْناهُما بِنَخْلٍ ) أي جعلنا النخل محيطة بهما حافّة من حولهما و قوله:( وَ جَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً ) أي بين الجنّتين و وسطهما، و بذلك تواصلت العمارة و تمّت و اجتمعت له الأقوات و الفواكه.

قوله تعالى: ( كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها ) الآية الأكل بضمّتين المأكول و المراد بإيتائهما الأكل إثمار أشجارهما من الأعناب و النخيل.

و قوله:( وَ لَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً ) الظلم النقص، و الضمير للاُكل أي و لم تنقص

٣٣١

من اُكله شيئاً بل أثمرت ما في وسعها من ذلك، و قوله:( وَ فَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً ) أي شققنا وسطهما نهراً من الماء يسقيهما و يرفع حاجتهما إلى الشرب بأقرب وسيلة من غير كلفة.

قوله تعالى: ( وَ كانَ لَهُ ثَمَرٌ ) الضمير للرجل و الثمر أنواع المال كما في الصحاح، و عن القاموس، و قيل: الضمير للنخل و الثّمر ثمره، و قيل: المراد كان للرجل ثمر ملكه من غير جنّته. و أوّل الوجوه أوجهها ثمّ الثاني و يمكن أن يكون المراد من إيتاء الجنّتين اُكلها من غير ظلم بلوغ أشجارهما في الرشد مبلغ الاثمار و أوانه، و من قوله:( وَ كانَ لَهُ ثَمَرٌ ) وجود الثمر على أشجارهما بالفعل كما في الصيف و هو وجه خال عن التكلّف.

قوله تعالى: ( فَقالَ لِصاحِبِهِ وَ هُوَ يُحاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالًا وَ أَعَزُّ نَفَراً ) المحاورة المخاطبة و المراجعة في الكلام، و النفر الأشخاص يلازمون الإنسان نوع ملازمة سمّوا نفرا لأنّهم ينفرون معه و لذلك فسّره بعضهم بالخدم و الولد، و آخرون بالرهط و العشيرة و الأوّل أوفق بما سيحكيه الله تعالى من قول صاحبه له:( إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالًا وَ وَلَداً ) حيث بدّل النفر من الولد، و المعنى فقال الّذي جعلنا له الجنّتين لصاحبه و الحال أنّه يحاوره:( أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالًا وَ أَعَزُّ نَفَراً ) أي ولداً و خدماً.

و هذا الّذي قاله لصاحبه يحكي عن مزعمة خاصّة عنده منحرفة عن الحقّ فإنّه نظر إلى نفسه و هو مطلق التصرّف فيما خوّله الله من مال و ولد لا يزاحم فيما يريده في ذلك فاعتقد أنّه مالكه و هذا حقّ لكنّه نسي أنّ الله سبحانه هو الّذي ملّكه و هو المالك لما ملّكه و الّذي سخّره الله له و سلطه عليه من زينة الحياة الدنيا الّتي هي فتنة و بلاء يمتحن بها الإنسان ليميز الله الخبيث من الطيّب بل اجتذبت الزينة نفسه إليها فحسب أنّه منقطع عن ربّه مستقلّ بنفسه فيما يملكه، و أنّ التأثير كلّه عند الأسباب الظاهريّة الّتي سخّرت له.

فنسي الله سبحانه و ركن إلى الأسباب و هذا هو الشرك ثمّ التفت إلى نفسه

٣٣٢

فرآى أنّه يتصرّف في الأسباب مهيمنا عليها فظنّ ذلك كرامة لنفسه و أخذه الكبر فاستكبر على صاحبه، و إلى ذلك يرجع اختلاف الوصفين أعني وصفه تعالى لملكه إذ قال:( جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ ) إلخ و لم يقل: كان لأحدهما جنّتان، و وصف الرجل نفسه إذ قال لصاحبه:( أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالًا وَ أَعَزُّ نَفَراً ) فلم ير إلّا نفسه و نسي أنّ ربّه هو الّذي سلطه على ما عنده من المال و أعزّه بمن عنده من النفر فجرى قوله لصاحبه( أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالًا وَ أَعَزُّ نَفَراً ) مجرى قول قارون لمن نصحه أن لا يفرح و يحسن بما آتاه الله من المال:( إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى‏ عِلْمٍ ) القصص: ٧٨.

و هذا الّذي يكشف عنه قوله:( أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالًا ) إلخ أعني دعوى الكرامة النفسيّة و الاستحقاق الذاتيّ ثمّ الشرك بالله بالغفلة عنه و الركون إلى الأسباب الظاهريّة هو الّذي أظهره حين دخل جنّته فقال كما حكاه الله:( ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً وَ ما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً ) إلخ.

قوله تعالى: ( وَ دَخَلَ جَنَّتَهُ وَ هُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قالَ ) إلى آخر الآيتين. الضمائر الأربع راجعة إلى الرجل، و المراد بالجنّة جنسها و لذا لم تثنّ، و قيل: لأنّ الدخول لا يتحقّق في الجنّتين معاً في وقت واحد، و إنّما يكون في الواحدة بعد الواحدة.

و قال في الكشّاف: فإن قلت: فلم أفرد الجنّة بعد التثنية؟ قلت: معناه و دخل ما هو جنّته ما له جنّة غيرها يعني أنّه لا نصيب له في الجنّة الّتي وعد المؤمنون فما ملكه في الدنيا هو جنّته لا غير، و لم يقصد الجنّتين و لا واحدة منهما. انتهى و هو وجه لطيف.

و قوله:( وَ هُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ ) و إنّما كان ظالماً لأنّه تكبّر على صاحبه إذ قال:( أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالًا ) إلخ و هو يكشف عن إعجابه بنفسه و شركه بالله بنسيانه و الركون إلى الأسباب الظاهريّة، و كلّ ذلك من الرذائل المهلكة.

و قوله:( قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً ) البيد و البيدودة الهلاك و الفناء و الإشارة بهذه إلى الجنّة، و فصل الجملة لكونها في معنى جواب سؤال مقدّر

٣٣٣

كأنّه لمّا قيل: و دخل جنّته قيل: فما فعل؟ فقيل: قال: ما أظنّ أن تبيد إلخ.

و قد عبّر عن بقاء جنّته بقوله:( ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ ) إلخ و نفي الظنّ بأمر كناية عن كونه فرضاً و تقديراً لا يلتفت إليه حتّى يظنّ به و يمال إليه فمعنى ما أظنّ أن تبيد هذه أنّ بقاءه و دوامه ممّا تطمئنّ إليه النفس و لا تتردّد فيه حتّى تتفكّر في بيده و تظنّ أنّه سيفنى.

و هذا حال الإنسان فإنّ نفسه لا تتعلّق بالشي‏ء الفاني من جهة أنّه متغيّر يسرع إليه الزوال، و إنّما يتعلّق القلب عليه بما يشاهد فيه من سمة البقاء كيفما كان فينجذب إليه و لا يلوي عنه إلى شي‏ء من تقادير فنائه، فتراه إذا أقبلت عليه الدنيا اطمأنّ إليها و أخذ في التمتّع بزينتها و الانقطاع إليها، و اعتورته أهواؤه و طالت آماله كأنّه لا يرى لنفسه فناء، و لا لما بيده من النعمة زوالاً و لا لما ساعدته عليه من الأسباب انقطاعاً، و تراه إذا أدبرت عنه الدنيا أخذه اليأس و القنوط فأنساه كلّ رجاء للفرج و سجل عليه أنّه سيدوم و يدوم عليه الشقاء و سوء الحال.

و السبب في ذلك كلّه ما أودعه الله في فطرته من التعلّق بهذه الزينة الفانية فتنة و امتحاناً فإذا أعرض عن ذكر ربّه انقطع إلى نفسه و الزينة الدنيويّة الّتي بين يديه و الأسباب الظاهريّة الّتي أحاطت به و تعلّق على حاضر الوضع الّذي يشاهده، و دعته جاذبة الزينات و الزخارف أن يجمد عليها و لا يلتفت إلى فنائها و هو القول بالبقاء، و كلّما قرعته قارعة العقل الفطريّ أنّ الدهر سيغدر به، و الأسباب ستخذله، و اُمتعة الحياة ستودّعه، و حياته المؤجّلة ستبلغ أجلها، منعه اتّباع الأهواء و طول الآمال الإصغاء لها و الالتفات إليها.

و هذا شأن أهل الدنيا لا يزالون على تناقض من الرأي يعملون ما يصدّقونه بأهوائهم و يكذّبونه بعقولهم لكنّهم يطمئنّون إلى رأي الهوى فيمنعهم عن الالتفات إلى قضاء العقل.

و هذا معنى قولهم بدوام الأسباب الظاهريّة و بقاء زينة الحياة الدنيا و لهذا قال فيما حكاه الله:( ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً ) و لم يقل: هذه لا تبيد أبداً.

٣٣٤

و قوله:( وَ ما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً ) هو مبنيّ على ما مرّ من التأبيد في قوله:( ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً ) فإنّه يورث استبعاد تغيّر الوضع الحاضر بقيام الساعة، و كلّ ما حكاه الله سبحانه من حجج المشركين على نفي المعاد مبنيّ على الاستبعاد كقولهم:( مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَ هِيَ رَمِيمٌ ) يس: ٧٨ و قولهم:( أَ إِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَ إِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ) الم السجدة: ١٠.

و قوله:( وَ لَئِنْ رُدِدْتُ إِلى‏ رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً ) مبنيّ على ما تقدّم من دعوى كرامة النفس و استحقاق الخير، و يورث ذلك في الإنسان رجاء كاذباً بكلّ خير و سعادة من غير عمل يستدعيه يقول: من المستبعد أن تقوم الساعة و لئن قامت و رددت إلى ربّي لأجدنّ بكرامة نفسي - و لا يقول: يؤتيني ربّي - خيراً من هذه الجنّة منقلباً أنقلب إليه.

و قد خدعت هذا القائل نفسه فيما ادّعت من الكرامة حتّى أقسم على ما قال كما يدلّ عليه لام القسم في قوله:( وَ لَئِنْ رُدِدْتُ ) و لام التأكيد و نونها في قوله:( لَأَجِدَنَّ ) و قال:( رُدِدْتُ ) و لم يقل: ردّني ربّي إليه، و قال:( لَأَجِدَنَّ ) و لم يقل: آتاني الله.

و الآيتان كقوله تعالى:( وَ لَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذا لِي وَ ما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَ لَئِنْ رُجِعْتُ إِلى‏ رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى) حم السجدة: ٥٠.

قوله تعالى: ( قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَ هُوَ يُحاوِرُهُ أَ كَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا ) الآية و ما بعدها إلى تمام أربع آيات ردّ من صاحب الرجل يردّ به قوله:( أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالًا وَ أَعَزُّ نَفَراً ) ثمّ قوله إذ دخل جنّته( ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً ) و قد حلّل الكلام من حيث غرض المتكلّم إلى جهتين: إحداهما استعلاؤه على الله سبحانه بدعوى استقلاله في نفسه و فيما يملكه من مال و نفر و استثنائه بما عنده من القدرة و القوّة و الثانية استعلاؤه على صاحبه و استهانته به بالقلّة و الذلّة ثمّ ردّ كلّاً من الدعويين بما يحسم مادّتها و يقطعها من أصلها

٣٣٥

فقوله:( أَ كَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ - إلى قوله -إِلَّا بِاللهِ ) ردّ لاُولى الدعويين، و قوله( إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ - إلى قوله -طَلَباً ) ردّ للثانية.

فقوله:( قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَ هُوَ يُحاوِرُهُ ) في إعادة جملة( وَ هُوَ يُحاوِرُهُ ) إشارة إلى أنّه لم ينقلب عمّا كان عليه من سكينة الإيمان و وقاره باستماع ما استمعه من الرجل بل جرى على محاورته حافظاً آدابه و من أدبه إرفاقه به في الكلام و عدم خشونته بذكر ما يعدّ دعاء عليه يسوؤه عادة فلم يذكر ولده بسوء كما ذكر جنّته بل اكتفى فيه بما يرمز إليه ما ذكره في جنّته من إمكان صيرورتها صعيداً زلقاً و غور مائها.

و قوله:( أَ كَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ ) إلخ الاستفهام للإنكار ينكر عليه ما اشتمل عليه كلامه من الشرك بالله سبحانه بدعوى الاستقلال لنفسه و للأسباب و المسبّبات كما تقدّمت الإشارة إليه و من فروع شركه استبعاده قيام الساعة و تردّده فيه.

و أمّا ما ذكره في الكشّاف، أنّه جعله كافراً بالله جاحداً لأنعمه لشكّه في البعث كما يكون المكذّب بالرسول كافراً فغير سديد كيف؟ و هو يذكر في استدراكه نفي الشرك عن نفسه، و لو كان كما قال لذكر فيه الإيمان بالمعاد.

فإن قلت: الآيات صريحة في شرك الرجل، و المشركون ينكرون المعاد. قلت لم يكن الرجل من المشركين بمعنى عبدة الأصنام و قد اعترف في خلال كلامه بما لا تجيزه اُصول الوثنيّة فقد عبّر عنه سبحانه بقوله:( رَبِّي ) و لا يراه الوثنيّون ربّاً للإنسان و لا إلها معبوداً و إنّما هو عندهم ربّ الأرباب و إله الآلهة، و لم ينف المعاد من أصله كما تقدّمت الإشارة إليه بل تردّد فيه و استبعده بالإعراض عن التفكّر فيه و لو نفاه لقال: و لو رددت و لم يقل: و لئن رددت إلى ربّي.

فما يذكر لأمره من الأثر السيّئ في الآية إنّما هو لشركه بمعنى نسيانه ربّه و دعواه الاستقلال لنفسه و للأسباب الظاهريّة ففيه عزله تعالى عن الربوبيّة و إلقاء زمام الملك و التدبير إلى غيره فهذا هو أصل الفساد الّذي عليه ينشأ كلّ فرع فاسد سواء اعترف معه بلسانه بالتوحيد أو أنكره و أثبت الآلهة، قال الزمخشريّ

٣٣٦

في قوله تعالى:( قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً ) و نعم ما قال: و ترى أكثر الأغنياء من المسلمين و إن لم يطلقوا بنحو هذا ألسنتهم فإنّ ألسنة أحوالهم ناطقة به منادية عليه. انتهى.

و قد أبطل هذا المؤمن دعوى صاحبه الكافر بقوله:( أَ كَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا ) بإلفات نظره إلى أصله و هو التراب ثمّ النطفة فإنّ ذلك هو أصل الإنسان فما زاد على ذلك حتّى يصير الإنسان إنساناً سويّاً ذا صفات و آثار من موهبة الله محضاً لا يملك أصله شيئاً من ذلك، و لا غيره من الأسباب الظاهريّة الكونيّة فإنّها أمثال الإنسان لا تملك شيئاً من نفسها و آثار نفسها إلّا بموهبة من الله سبحانه.

فما عند الإنسان و هو رجل سويّ من الإنسانيّة و آثارها من علم و حياة و قدرة و تدبير يسخّر بها الأسباب الكونيّة في سبيل الوصول إلى مقاصده و مآربه كلّ ذلك مملوكة لله محضاً، آتاها الإنسان و ملّكه إيّاها و لم يخرج بذلك عن ملك الله و لا انقطع عنه بل تلبّس الإنسان منها بما تلبّس فانتسب إليه بمشيّته و لو لم يشأ لم يملك الإنسان شيئاً من ذلك فليس للإنسان أن يستقلّ عنه تعالى في شي‏ء من نفسه و آثار نفسه و لا لشي‏ء من الأسباب الكونيّة ذلك.

يقول: إنّك ذاك التراب ثمّ المنيّ الّذي ما كان يملك من الإنسانيّة و الرجوليّة و آثار ذلك شيئاً و الله سبحانه هو الّذي آتاكها بمشيّته و ملكها إيّاك و هو المالك لما ملّكك فما لك تكفر به و تستر ربوبيّته؟ و أين أنت و الاستقلال؟.

قوله تعالى: ( لكِنَّا هُوَ اللهُ رَبِّي وَ لا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً ) القراءة المشهورة( لكن ) بفتح النون المشدّدة من غير ألف في الوصل و إثباتها وقفاً. و أصله على ما ذكروه( لكن أنا ) حذفت الهمزة بعد نقل فتحتها إلى النون و اُدغمت النون في النون فالوصل بنون مشدّدة مفتوحة من غير ألف و الوقف بالألف كما في( أنا ) ضمير التكلّم.

و قد كرّر في الآية لفظ( رَبِّي ) و الثاني من وضع الظاهر موضع المضمر

٣٣٧

و حقّ السياق( و لا اُشرك به أحداً ) و ذلك للإشارة إلى علّة الحكم بتعليقه بالوصف كأنّه قال: و لا اُشرك به أحداُ لأنّه ربّي و لا يجوز الإشراك به لربوبيّته. و هذا بيان حال من المؤمن قبال ما ادّعاه الكافر لنفسه و المعنى ظاهر.

قوله تعالى: ( وَ لَوْ لا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ ) من تتمّة قول المؤمن لصاحبه الكافر، و هو تحضيض و توبيخ لصاحبه إذ قال لمّا دخل جنّته:( ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً ) و كان عليه أن يبدّله من قوله:( ما شاءَ اللهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ ) فينسب الأمر كلّه إلى مشيّة الله و يقصر القوّة فيه تعالى مبنيّاً على ما بيّنه له أنّ كلّ نعمة بمشيّة الله و لا قوّة إلّا به.

و قوله:( ما شاءَ اللهُ ) إمّا على تقدير: الأمر ما شاءه الله، أو على تقدير: ما شاءه الله كائن، و ما على التقديرين موصولة و يمكن أن تكون شرطيّة و التقدير ما شاءه الله كان، و الأوفق بسياق الكلام هو أوّل التقادير لأنّ الغرض بيان رجوع الاُمور إلى مشيّة الله تعالى قبال من يدعيّ الاستقلال و الاستغناء.

و قوله:( لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ ) يفيد قيام القوّة بالله و حصر كلّ قوّة فيه بمعنى أنّ ما ظهر في مخلوقاته تعالى من القوّة القائمة بها فهو بعينه قائم به من غير أن ينقطع ما أعطاه منه فيستقلّ به الخلق قال تعالى:( أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً ) البقرة: ١٦٥.

و قد تمّ بذلك الجواب عمّا قاله الكافر لصاحبه و ما قاله عند ما دخل جنّته.

قوله تعالى: ( إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالًا وَ وَلَداً فَعَسى‏ ) إلى آخر الآيتين قال في المجمع: أصل الحسبان السهام الّتي ترمى لتجري في طلق واحد و كان ذلك من رمي الأساورة، و أصل الباب الحساب، و إنّما يقال لما يرمى به: حسبان لأنّه يكثر كثرة الحساب. قال: و الزلق الأرض الملساء المستوية لا نبات فيها و لا شي‏ء و أصل الزلق ما تزلق عنه الأقدام فلا تثبت عليه. انتهى.

و قد تقدّم أنّ الصعيد هو سطح الأرض مستويا لا نبات عليه، و المراد بصيرورة الماء غورا صيرورته غائراً ذاهباً في باطن الأرض.

و الآيتان كما تقدّمت الإشارة إليه ردّ من المؤمن لصاحبه الكافر من جهة

٣٣٨

ما استعلى عليه بأنّه أكثر منه مالاً و أعزّ نفراً، و ما أورده من الردّ مستخرج من بيانه السابق و محصّله أنّه لمّا كانت الاُمور بمشيّة الله و قوّته و قد جعلك أكثر منّي مالاً و أعزّ نفراً فالأمر في ذلك إليه لا إليك حتّى تتبجّح و تستعلي عليّ فمن الممكن المرجوّ أن يعطيني خيراً من جنّتك و يخرّب جنّتك فيديرني إلى حال أحسن من حالك اليوم و يديرك إلى حال أسوأ من حالي اليوم فيجعلني أغنى منك بالنسبة إليّ و يجعلك أفقر منّي بالنسبة إليك.

و الظاهر أن تكون( ترن ) في قوله:( إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ ) إلخ من الرأي بمعنى الاعتقاد فيكون من أفعال القلوب، و( أَنَا ) ضمير فصل متخلّل بين مفعوليه الّذين هما في الأصل مبتدأ و خبر، و يمكن أن يكون من الرؤية بمعنى الإبصار فأنا ضمير رفع اُكّد به مفعول ترن المحذوف من اللفظ.

و معنى الآية إن ترني أنا أقلّ منك مالاً و ولداً فلا بأس و الأمر في ذلك إلى ربّي فعسى ربّي أن يؤتيني خيراً من جنّتك و يرسل عليها أي على جنّتك مرامي من عذابه السماويّ كبرد أو ريح سموم أو صاعقة أو نحو ذلك فتصبح أرضا خالية ملساء لا شجر عليها و لا زرع، أو يصبح ماؤها غائرا فلن تستطيع أن تطلبه لإمعانه في الغور.

قوله تعالى: ( وَ أُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ ) إلى آخر الآية الإحاطة بالشي‏ء كناية عن هلاكه، و هي مأخوذة من إحاطة العدوّ و استدارته به من جميع جوانبه بحيث ينقطع عن كلّ معين و ناصر و هو الهلاك، قال تعالى:( وَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ ) يونس: ٢٢.

و قوله:( فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ ) كناية عن الندامة فإنّ النادم كثيراً ما يقلّب كفيّه ظهراً لبطن، و قوله:( وَ هِيَ خاوِيَةٌ عَلى‏ عُرُوشِها ) كناية عن كمال الخراب كما قيل فإنّ البيوت الخربة المنهدمة تسقط أوّلاً عروشها و هي سقوفها على الأرض ثمّ تسقط جدرانها على عروشها الساقطة و الخويّ السقوط و قيل: الأصل في معنى الخلوّ.

٣٣٩

و قوله:( وَ يَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً ) أي يا ليتني لم أتعلّق بما تعلّقت به و لم أركن و لم أطمئنّ إلى هذه الأسباب الّتي كنت أحسب أنّ لها استقلالاً في التأثير و كنت اُرجع الأمر كلّه إلى ربّي فقد ضلّ سعيي و هلكت نفسي.

و المعنى: و أهلكت أنواع ماله أو فسد ثمر جنّته فأصبح نادماً على المال الّذي أنفق و الجنّة خربة و يقول يا ليتني لم اُشرك بربّي أحداً و لم أسكن إلى ما سكنت إليه و اغتررت به من نفسي و سائر الأسباب الّتي لم تنفعني شيئاً.

قوله تعالى: ( وَ لَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَ ما كانَ مُنْتَصِراً ) الفئة الجماعة، و المنتصر الممتنع.

و كما كانت الآيات الخمس الاُولى أعني قوله:( قالَ لَهُ صاحِبُهُ - إلى قوله -طَلَباً ) بياناً قوليّاً لخطاء الرجل في كفره و شركه كذلك هاتان الآيتان أعني قوله:( وَ أُحِيطَ بِثَمَرِهِ - إلى قوله -وَ ما كانَ مُنْتَصِراً ) بيان فعليّ له أمّا تعلّقه بدوام الدنيا و استمرار زينتها في قوله:( ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً ) فقد جلى له الخطأ فيه حين اُحيط بثمره فأصبحت جنّته خاوية على عروشها، و أمّا سكونه إلى الأسباب و ركونه إليها و قد قال لصاحبه:( أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالًا وَ أَعَزُّ نَفَراً ) فبيّن خطاؤه فيه بقوله تعالى:( وَ لَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ ) و أمّا دعوى استقلاله بنفسه و تبجّحه بها فقد اُشير إلى جهة بطلانها بقوله تعالى:( وَ ما كانَ مُنْتَصِراً ) .

قوله تعالى: ( هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَ خَيْرٌ عُقْباً ) القراءة المشهورة( الولاية ) بفتح الواو و قرئ بكسرها و المعنى واحد، و ذكر بعضهم أنّها بفتح الواو بمعنى النصرة و بكسرها بمعنى السلطان، و لم يثبت و كذا( الْحَقِّ ) بالجرّ، و الثواب مطلق التبعة و الأجر و غلب في الأجر الحسن الجميل، و العقب بالضمّ فالسكون و بضمّتين: العاقبة.

ذكر المفسّرون أنّ الإشارة بقوله:( هُنالِكَ ) إلى معنى قوله:( أُحِيطَ بِثَمَرِهِ ) أي في ذلك الموضع أو في ذلك الوقت و هو موضع الإهلاك و وقته الولاية

٣٤٠