الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٣

الميزان في تفسير القرآن8%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 443

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 443 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 111425 / تحميل: 6253
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٣

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

لله، و أنّ الولاية بمعنى النصرة أي إنّ الله سبحانه هو الناصر للإنسان حين يحيط به البلاء و ينقطع عن كافّة الأسباب لا ناصر غيره.

و هذا معنى حقّ في نفسه لكنّه لا يناسب الغرض المسوق له الآيات و هو بيان أنّ الأمر كلّه لله سبحانه و هو الخالق لكلّ شي‏ء المدبّر لكلّ أمر، و ليس لغيره إلّا سراب الوهم و تزيين الحياة لغرض الابتلاء و الامتحان، و لو كان كما ذكروه لكان الأنسب توصيفه تعالى في قوله:( لِلَّهِ الْحَقِّ ) بالقوّة و العزّة و القدرة و الغلبة و نحوها لا بمثل الحقّ الّذي يقابل الباطل، و أيضاً لم يكن لقوله:( هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَ خَيْرٌ عُقْباً ) وجه ظاهر و موقع جميل.

و الحقّ و الله أعلم أنّ الولاية بمعنى مالكيّة التدبير و هو المعنى الساري في جميع اشتقاقاتها كما مرّ في الكلام على قوله تعالى:( إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَ رَسُولُهُ ) المائدة: ٥٥ أي عند إحاطة الهلاك و سقوط الأسباب عن التأثير و تبيّن عجز الإنسان الّذي كان يرى لنفسه الاستقلال و الاستغناء ولاية أمر الإنسان و كلّ شي‏ء و ملك تدبيره لله لأنّه إله حقّ له التدبير و التأثير بحسب واقع الأمر و غيره من الأسباب الظاهريّة المدعوّة شركاء له في التدبير و التأثير باطل في نفسه لا يملك شيئاً من الأثر إلّا ما أذن الله له و ملّكه إيّاه و ليس له من الاستقلال إلّا اسمه بحسب ما توهّمه الإنسان فهو باطل في نفسه حقّ بالله سبحانه و الله هو الحقّ بذاته المستقلّ الغنيّ في نفسه.

و إذا اُخذ بالقياس بينه - تعالى عن القياس - و بين غيره من الأسباب المدعوّة شركاء في التأثير كان الله سبحانه خيراً منها ثواباً فإنّه يثيب من دان له ثواباً حقّاً و هي تثيب من دان لها و تعلّق بها ثواباً باطلاً زائلاً لا يدوم و هو مع ذلك من الله و بإذنه، و كان الله سبحانه خيراً منها عاقبة لأنّه سبحانه هو الحقّ الثابت الّذي لا يفنى و لا يزول و لا يتغيّر عمّا هو عليه من الجلال و الإكرام، و هي اُمور فانية متغيّرة جعلها الله زينة للحياة الدنيا يتولّه إليها الإنسان و تتعلّق بها قلبه حتّى يبلغ الكتاب أجله و إنّ الله لجاعلها صعيداً جرزاً.

٣٦١

و إذا كان الإنسان لا غنى له عن التعلّق بشي‏ء ينسب إليه التدبير و يتوقّع منه إصلاح شأنه فربّه خير له من غيره لأنّه خير ثواباً و خير عقباً.

و ذكر بعضهم أنّ الإشارة بقوله:( هُنالِكَ ) إلى يوم القيامة فيكون المراد بالثواب و العقب ما في ذلك اليوم. و السياق كما تعلم لا يساعد على شي‏ء من ذلك.

قوله تعالى: ( وَ اضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ ) إلخ هذا هو المثل الثاني ضرب لتمثيل الحياة الدنيا بما يقارنها من الزينة السريعة الزوال.

و الهشيم فعيل بمعنى مفعول من الهشم، و هو على ما قال الراغب كسر الشي‏ء الرخو كالنبات، و ذرا يذرو ذروا أي فرّق، و قيل: أي جاء به و ذهب، و قوله:( فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ ) و لم يقل: اختلط بنبات الأرض إشارة إلى غلبته في تكوين النبات على سائر أجزائه، و لم يذكر مع ماء السماء غيره من مياه العيون و الأنهار لأنّ مبدأ الجميع ماء المطر، و قوله:( فَأَصْبَحَ هَشِيماً ) أصبح فيه - كما قيل - بمعنى صار فلا يفيد تقييد الخبر بالصباح.

و المعنى: و اضرب لهؤلاء المتولّهين بزينة الدنيا المعرضين عن ذكر ربّهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء و هو المطر فاختلط به نبات الأرض فرفّ نضارة و بهجة و ظهر بأجمل حليّة فصار بعد ذلك هشيماً مكسّراً متقطّعاً تعبث به الرياح تفرّقة و تجي‏ء به و تذهب و كان الله على كلّ شي‏ء مقتدراً.

قوله تعالى: ( الْمالُ وَ الْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا ) إلى آخر الآية. الآية بمنزلة النتيجة للمثل السابق و هي أنّ المال و البنين و إن تعلّقت بها القلوب و تاقت إليها النفوس تتوقّع منها الانتفاع و تحفّ بها الآمال لكنّها زينة سريعة الزوال غارّة لا يسعها أن تثيبه و تنفعه في كلّ ما أراده منها و لا أن تصدقه في جميع ما يأمله و يتمنّاه بل و لا في أكثره ففي الآية - كما ترى - انعطاف إلى بدء الكلام أعني قوله:( إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها ) الآيتين.

و قوله:( وَ الْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَ خَيْرٌ أَمَلًا ) المراد

٣٦٢

بالباقيات الصالحات الأعمال الصالحة فإنّ أعمال الإنسان محفوظة له عندالله بنصّ القرآن فهي باقية و إذا كانت صالحة فهي باقيات صالحات، و هي عند الله خير ثواباً لأنّ الله يجازي الإنسان الجائي بها خير الجزاء، و خير أملا لأنّ ما يؤمل بها من رحمة الله و كرامته ميسور للإنسان فهي أصدق أملا من زينات الدنيا و زخارفها الّتي لا تفي للإنسان في أكثر ما تعدّ، و الآمال المتعلّقة بها كاذبة على الأغلب و ما صدق منها غارّ خدوع.

و قد ورد من طرق الشيعة و أهل السنّة عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و من طرق الشيعة عن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام عدّة من الروايات: أنّ الباقيات الصالحات التسبيحات الأربع: سبحان الله و الحمد لله و لا إله إلّا الله و الله أكبر، و في اُخرى أنّها الصلاة و في اُخرى مودّة أهل البيت و هي جميعاً من قبيل الجري و الانطباق على المصداق.

٣٦٣

( سورة الكهف الآيات ٤٧ - ٥٩)

وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا ( ٤٧ ) وَعُرِضُوا عَلَىٰ رَبِّكَ صَفًّا لَّقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ  بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّن نَّجْعَلَ لَكُم مَّوْعِدًا ( ٤٨ ) وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَٰذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا  وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا  وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا ( ٤٩ ) وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ  أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ  بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا ( ٥٠ ) مَّا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا ( ٥١ ) وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُم مَّوْبِقًا ( ٥٢ ) وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُم مُّوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا ( ٥٣ ) وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَٰذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٍ  وَكَانَ الْإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا ( ٥٤ ) وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَىٰ وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَن تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا ( ٥٥ ) وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ  وَيُجَادِلُ الَّذِينَ

٣٦٤

كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ  وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنذِرُوا هُزُوًا( ٥٦) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ  إِنَّا جَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا  وَإِن تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَىٰ فَلَن يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا( ٥٧) وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ  لَوْ يُؤَاخِذُهُم بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ  بَل لَّهُم مَّوْعِدٌ لَّن يَجِدُوا مِن دُونِهِ مَوْئِلًا( ٥٨) وَتِلْكَ الْقُرَىٰ أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا( ٥٩)

( بيان)

الآيات متّصلة بما قبلها تسير مسيرها في تعقيب بيان أنّ هذه الأسباب الظاهريّة و زخارف الدنيا الغارّة زينة الحياة سيسرع إليها الزوال و يتبيّن للإنسان أنّها لا تملك له نفعاً و لا ضرّاً و إنّما يبقى للإنسان أو عليه عمله فيجازى به.

و قد ذكرت الآيات أوّلاً قيام الساعة و مجي‏ء الإنسان فردا ليس معه إلّا عمله ثمّ تذكّر إبليس و إباءه عن السجدة لآدم و فسقه عن أمر ربّه و هم يتّخذونه و ذرّيّته أولياء من دون الله و هم لهم عدوّ ثمّ تذكّر يوم القيامة و إحضارهم و شركاءهم و ظهور انقطاع الرابطة بينهم و تعقّب ذلك آيات اُخر في الوعد و الوعيد، و الجميع بحسب الغرض متّصل بما تقدّم.

قوله تعالى: ( يَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَ تَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً وَ حَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً ) الظرف متعلّق بمقدّر و التقدير( و اذكر يوم نسير) و تسيير الجبال بزوالها عن مستقرّها و قد عبّر سبحانه عنه بتعبيرات مختلفة كقوله:( وَ كانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلًا ) المزّمّل: ١٤، و قوله:( وَ تَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ ) القارعة: ٥

٣٦٥

و قوله:( فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا ) الواقعة: ٦، و قوله:( وَ سُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً ) النبأ: ٢٠.

و المستفاد من السياق أنّ بروز الأرض مترتّب على تسيير الجبال فإذا زالت الجبال و التلال ترى الأرض بارزة لا تغيب ناحية منها عن اُخرى بحائل حاجز و لا يستتر صقع منها عن صقع بساتر، و ربّما احتمل أن تشير إلى ما في قوله:( وَ أَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها ) الزمر: ٦٩.

و قوله:( وَ حَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً ) أي لم نترك منهم أحداً فالحشر عامّ للجميع.

قوله تعالى: ( عُرِضُوا عَلى‏ رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ) إلخ السياق يشهد على أنّ ضمير الجمع في قوله:( عرِضُوا ) و كذا ضميرا الجمع في الآية السابقة للمشركين و هم الّذين اطمأنّوا إلى أنفسهم و الأسباب الظاهريّة الّتي ترتبط بها حياتهم، و تعلّقوا بزينة الحياة كالمتعلّق بأمر دائم باق فكان ذلك انقطاعاً منهم عن ربّهم، و إنكاراً للرجوع إليه، و عدم مبالاة بما يأتون به من الأعمال أرضى الله أم أسخطه.

و هذه حالهم ما دام أساس الامتحان الإلهيّ و الزينة المعجّلة بين أيديهم و الأسباب الظاهريّة حولهم و لمّا يقض الأمر أجله ثمّ إذا حان الحين و تقطّعت الأسباب و طاحت الآمال و جعل الله ما عليها من زينة صعيداً جرزاً لم يبق إذ ذاك لهم إلّا ربّهم و أنفسهم و صحيفة أعمالهم المحفوظة عليهم، و عرضوا على ربّهم - و ليسوا يرونه ربّا لهم و إلّا لعبدوه - صفّاً واحداً لا تفاضل بينهم بنسب أو مال أو جاه دنيوي لفصل القضاء تبيّن لهم عند ذلك أنّ الله هو الحقّ المبين و أنّ ما يدعونه من دونه و تعلّقت به قلوبهم من زينة الحياة و استقلال أنفسهم و الأسباب المسخّرة لهم ما كانت إلّا أوهاماً لا تغني عنهم من الله شيئاً و قد أخطأوا إذ تعلّقوا بها و أعرضوا عن سبيل ربّهم و لم يجروا على ما أراده منهم بل كان ذلك منهم لأنّهم توهّموا أن لا موقف هناك يوقفون فيه فيحاسبون عليه.

٣٦٦

و بهذا البيان يظهر أنّ هذا الجمل الأربع:( و عُرِضُوا ) إلخ( لقَدْ جِئْتُمُونا ) إلخ( بَل زَعَمْتُمْ‏ ) إلخ( وَ وُضِعَ الْكِتابُ ) إلخ نكت أساسيّة مختارة من تفصيل ما يجري يومئذ بينهم و بين ربّهم من حين يحشرون إلى أن يحاسبوا، و اكتفي بها إيجازاً في الكلام لحصول الغرض بها.

فقوله:( و عُرِضُوا عَلى‏ رَبِّكَ صَفًّا ) إشارة أوّلاً إلى أنّهم ملجؤون إلى الرجوع إلى ربّهم و لقائه فيعرضون عليه عرضاً من غير أن يختاروه لأنفسهم، و ثانياً أن لا كرامة لهم في هذا اللقاء، و يشعر به قوله( على‏ رَبِّكَ) و لو اُكرموا لقيل: ربّهم كما قال:( جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ ) البيّنة: ٨ و قال:( إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ ) هود: ٢٩، أو قيل: عرضوا علينا جريا على سياق التكلّم السابق، و ثالثاً أنّ أنواع التفاضل و الكرامات الدنيويّة الّتي اختلقتها لهم الأوهام الدنيويّة من نسب و مال و جاه قد طاحت عنهم فصفّوا صفّاً واحداً لا تميّز فيه لعال من دان و لا لغنيّ من فقير و لا لمولى من عبد، و إنّما الميز اليوم بالعمل و عند ذلك يتبيّن لهم أنّهم أخطأوا الصواب في حياتهم الدنيا و ضلّوا السبيل فيخاطبون بمثل قوله:( لقَدْ جِئْتُمُونا ) إلخ.

و قوله( لقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ) مقول القول و التقدير و قال لهم أو قلنا لهم: لقد جئتمونا إلخ، و في هذا بيان خطإهم و ضلالهم في الدنيا إذ تعلّقوا بزينتها و زخرفها فشغلهم ذلك عن سلوك سبيل الله و الأخذ بدينه.

و قوله:( بل زَعَمْتُمْ أَن لَنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً ) في معنى قوله:( أَ فَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَ أَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ ) المؤمنون: ١١٥ و الجملة إن كانت إضراباً عن الجملة السابقة على ظاهر السياق فالتقدير ما في معنى قولنا: شغلتكم زينة الدنيا و تعلّقكم بأنفسكم و بظاهر الأسباب عن عبادتنا و سلوك سبيلنا بل ظننتم أن لن نجعل لكم موعداً تلقوننا فيه فتحاسبوا و بتعبير آخر: إنّ اشتغالكم بالدنيا و تعلّقكم بزينتها و إن كان سببا في الإعراض عن ذكرنا و اقتراف الخطيئات لكن كان هناك سبب هو أقدم منه و هو الأصل و هو أنّكم ظننتم أن لن نجعل لكم موعداً

٣٦٧

فنسيان المعاد هو الأصل في ترك الطريق و فساد العمل قال تعالى:( إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ ) ص: ٢٦.

و الوجه في نسبة الظنّ بنفي المعاد إليهم أنّ انقطاعهم إلى الدنيا و تعلّقهم بزينتها و من يدعونه من دون الله فعل من ظنّ أنّها دائمة باقية لهم و أنّهم لا يرجعون إلى الله فهو ظنّ حاليّ عمليّ منهم و يمكن أن يكون كناية عن عدم اعتنائهم بأمر الله و استهانتهم بما اُنذروا به نظير قوله تعالى:( وَ لكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ ) حم السجدة: ٢٢.

و من الجائز أن يكون قوله:( بل زَعَمْتُمْ أَن لَنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً ) إضراباً عن اعتذار لهم مقدّر بالجهل و نحوه و الله أعلم.

قوله تعالى: ( وَ وُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَ يَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا ) إلى آخر الآية وضع الكتاب نصبه ليحكم عليه، و مشفقين من الشفقة و أصلها الرقّة، قال الراغب في المفردات: الإشفاق عناية مختلطة بخوف لأنّ المشفق يحبّ المشفق عليه و يخاف ما يلحقه قال تعالى:( وَ هُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ ) فإذا عدّي بمن فمعنى الخوف فيه أظهر، و إذا عدّي بفي فمعنى العناية فيه أظهر، قال تعالى:( إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ ) ( مُشْفِقُونَ مِنْها ) انتهى.

و الويل الهلاك، و نداؤه عند المصيبة - كما قيل - كناية عن كون المصيبة أشدّ من الهلاك فيستغاث بالهلاك لينجى من المصيبة كما ربّما يتمنّى الموت عند المصيبة قال تعالى:( يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا ) مريم: ٢٣.

و قوله:( وَ وُضِعَ الْكِتابُ ) ظاهر السياق أنّه كتاب واحد يوضع لحساب أعمال الجميع و لا ينافي ذلك وضع كتاب خاصّ بكلّ إنسان و الآيات القرآنيّة دالّة على أنّ لكلّ إنسان كتاباً و لكلّ اُمّة كتاباً و للكلّ كتاباً قال تعالى:( وَ كُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَ نُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً ) الآية: إسراء: ١٣ و قد تقدّم الكلام فيها، و قال:( كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى‏ إِلى‏ كِتابِهَا ) الجاثية: ٢٨ و قال:( هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ ) الجاثية: ٢٩ و سيجي‏ء

٣٦٨

الكلام في الآيتين إن شاء الله تعالى.

و قيل: المراد بالكتاب كتب الأعمال و اللام للاستغراق، و السياق لا يساعد عليه.

و قوله:( فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ ) تفريع الجملة على وضع الكتاب و ذكر إشفاقهم ممّا فيه دليل على كونه كتاب الأعمال أو كتاباً فيه الأعمال، و ذكرهم بوصف الاجرام للإشارة إلى علّة الحكم و أنّ إشفاقهم ممّا فيه لكونهم مجرمين فالحكم يعمّ كلّ مجرم و إن لم يكن مشركاً.

و قوله:( وَ يَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَ لا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها ) الصغيرة و الكبيرة وصفان قامتا مقام موصوفهما و هو الخطيئة أو المعصية أو الهنة و نحوها.

و قولهم هذا إظهار للدهشة و الفزع من سلطة الكتاب في إحصائه للذنوب أو لمطلق الحوادث و منها الذنوب في صورة الاستفهام التعجيبيّ، و منه يعلم وجه تقديم الصغيرة على الكبيرة في قوله:( صَغِيرَةً وَ لا كَبِيرَةً ) مع أنّ الظاهر أن يقال: لا يغادر كبيرة و لا صغيرة إلّا أحصاها بناء على أنّ الكلام في معنى الإثبات و حقّ الترقّي فيه أن يتدرّج من الكبير إلى الصغير هذا، و ذلك لأنّ المراد - و الله أعلم - لا يغادر صغيرة لصغرها و دقّتها و لا كبيرة لكبرها و وضوحها، و المقام مقام الاستفزاع في صورة التعجيب و إحصاء الصغيرة على صغرها و دقّتها أقرب إليه من غيرها.

و قوله:( وَ وَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً ) ظاهر السياق كون الجملة تأسيساً لا عطف تفسير لقوله:( لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَ لا كَبِيرَةً ) إلخ و عليه فالحاضر عندهم نفس الأعمال بصورها المناسبة لها لا كتابتها كما هو ظاهر أمثال قوله:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) التحريم: ٧، و يؤيّده قوله بعده:( وَ لا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً ) فإنّ انتفاء الظلم بناء على تجسّم الأعمال

٣٦٩

أوضح لأنّ ما يجزون به إنّما هو عملهم يردّ إليهم و يلحق بهم لا صنع في ذلك لأحد فافهم ذلك.

قوله تعالى: ( وَ إِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ ) تذكير ثان لهم بما جرى بينه تعالى و بين إبليس حين أمر الملائكة بالسجود لأبيهم آدم فسجدوا إلّا إبليس كان من الجنّ فتمرّد عن أمر ربّه.

أي و اذكر هذه الواقعة حتّى يظهر لهم أنّ إبليس - و هو من الجنّ - و ذرّيّته عدوّ لهم لا يريدون لهم الخير فلا ينبغي لهم أن يفتتنوا بما يزيّنه لهم هو و ذرّيّته من ملاذّ الدنيا و شهواتها و الإعراض عن ذكر الله و لا أن يطيعوهم فيما يدعونهم إليه من الباطل.

و قوله:( أَ فَتَتَّخِذُونَهُ وَ ذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَ هُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ ) تفريع على محصّل الواقعة و الاستفهام للإنكار أي و يتفرّع على الواقعة أن لا تتّخذوه و ذرّيّته أولياء و الحال أنّهم أعداء لكم معشر البشر، و على هذا فالمراد بالولاية ولاية الطاعة حيث يطيعونه و ذرّيّته فيما يدعونهم فقد اتّخذوهم مطاعين من دون الله، و هكذا فسّرها المفسّرون.

و ليس من البعيد أن يكون المراد بالولاية ولاية الملك و التدبير و هو الربوبيّة فإنّ الوثنيّة كما يعبدون الملائكة طمعاً في خيرهم كذلك يعبدون الجنّ اتّقاء من شرّهم، و هو سبحانه يصرّح بأنّ إبليس من الجنّ و له ذرّيّة و أنّ ضلال الإنسان في صراط سعادته و ما يلجمه من أنواع الشقاء إنّما هو بإغواء الشيطان فالمعنى أ فتتّخذونه و ذرّيّته آلهة و أرباباً من دوني تعبدونهم و تتقرّبون إليهم و هم لكم عدوّ؟.

و يؤيّده الآية التالية فإنّ عدم إشهادهم الخلقة إنّما يناسب انتفاء ولاية التدبير عنهم لا انتفاء ولاية الطاعة و هو ظاهر.

و قد ختم الآية بتقبيح اتّخاذهم إيّاهم أولياء من دون الله الّذي معناه اتّخاذهم

٣٧٠

إبليس بدلاً منه سبحانه فقال:( بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا ) و ما أقبح ذلك فلا يقدم عليه ذو مسكة، و هو السرّ في الالتفات الّذي في قوله:( مِنْ دُونِي ) فلم يقل: من دوننا على سياق قوله:( وَ إِذْ قُلْنا ) ليزيد في وضوح القبح كما أنّه السرّ أيضاً في الالتفات السابق في قوله:( عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ ) و لم يقل: عن أمرنا.

و للمفسّرين ههنا أبحاث في معنى شمول أمر الملائكة لإبليس، و في معنى كونه من الجنّ و في معنى، و قد قدّمنا بعض القول في ذلك في تفسير سورة الأعراف.

قوله تعالى: ( ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ لا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَ ما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً ) ظاهر السياق كون ضميري الجمع لإبليس و ذرّيّته و المراد بالإشهاد الإحضار و الاعلام عيانا كما أنّ الشهود هو المعاينة حضوراً، و العضد ما بين المرفق و الكتف من الإنسان و يستعار للمعين كاليد و هو المراد ههنا.

و قد اشتملت الآية في نفي ولاية التدبير عن إبليس و ذرّيّته على حجّتين إحداهما: أنّ ولاية تدبير اُمور شي‏ء من الأشياء تتوقّف على الإحاطة العلميّة - بتمام معنى الكلمة - بتلك الاُمور من الجهة الّتي تدبّر فيها و بما لذلك الشي‏ء و تلك الاُمور من الروابط الداخليّة و الخارجيّة بما يبتدئ منه و ما يقارنه و ما ينتهي إليه و الارتباط الوجودي سار بين أجزاء الكون و هؤلاء و هم إبليس و ذرّيّته لم يشهدهم الله سبحانه خلق السماوات و الأرض و لا خلق أنفسهم فلا كانوا شاهدين إذ قال للسماوات و الأرض: كن فكانت و لا إذ قال لهم: كونوا فكانوا فهم جاهلون بحقيقة السماوات و الأرض و ما في أوعية وجوداتها من أسرار الخلقة حتّى بحقيقة صنع أنفسهم فكيف يسعهم أن يلوا تدبير أمرها أو تدبير أمر شطر منها فيكونوا آلهة و أرباباً من دون الله و هم جاهلون بحقيقة خلقتها و خلقة أنفسهم.

و أمّا أنّهم لم يشهدوا خلقها فلأنّ كلّاً منهم شي‏ء محدود لا سبيل له إلى ما وراء نفسه فغيره في غيب منه مضروب عليه الحجاب، و هذا بيّن و قد أنبأ الله سبحانه عنه في مواضع من كلامه و كذا كلّ منهم مستور عنه شأن الأسباب الّتي تسبق

٣٧١

وجوده و اللواحق الّتي ستلحق وجوده.

و هذه حجّة برهانيّة غير جدليّة عند من أجاد النظر و أمعن في التدبّر حتّى لا يختلط عنده هذه الاُلعوبة الكاذبة الّتي نسمّيها تدبيراً بالتدبير الكونيّ الّذي لا يلحقه خطأ و لا ضلال، و كذا الظنون و المزاعم الواهية الّتي نتداولها و نركن إليها بالعلم العيانيّ الّذي هو حقيقة العلم و كذا العلم بالاُمور الغائبة بالظفر على أماراتها الأغلبيّة بالعلم بالغيب الّذي يتبدّل به الغيب شهادة.

و الثانية أنّ كلّ نوع من أنواع المخلوقات متوجّه بفطرته نحو كماله المختصّ بنوعه و هذا ضروريّ عند من تتبّعها و أمعن النظر في حالها فالهداية الإلهيّة عامّة للجميع كما قال:( الَّذِي أَعْطى‏ كُلَّ شَيْ‏ءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى) طه: ٥٠ و الشياطين أشرار مفسدون مضلّون فتصدّيهم تدبير شي‏ء من السماوات و الأرض أو الإنسان - و لن يكون إلّا بإذن من الله سبحانه - مؤدّ إلى نقضه السنّة الإلهيّة من الهداية العامّة أي توسّله تعالى إلى الإصلاح بما ليس شأنه إلّا الإفساد و إلى الهداية بما خاصّته الإضلال و هو محال.

و هذا معنى قوله سبحانه:( وَ ما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً ) الظاهر في أنّ سنّته تعالى أن لا يتّخذ المضلّين عضداً فافهم.

و في قوله:( ما أَشْهَدْتُهُمْ ) و قوله:( وَ ما كُنْتُ ) و لم يقل: ما شهدوا و ما كانوا دلالة على أنّه سبحانه هو القاهر المهيمن عليهم على كلّ حال، و القائلون بإشراك الشياطين أو الملائكة أو غيرهم بالله في أمر التدبير لم يقولوا باستقلالهم في ذلك بل بأنّ أمر التدبير مملوك لهم بتمليك من الله تعالى مفوّض إليهم بتفويض منه و أنّهم أرباب و آلهة و الله ربّ الأرباب و إله الآلهة.

و ما تقدّم من معنى الآية مبنيّ على حمل الإشهاد على معناه الحقيقي و إرجاع الضميرين في( ما أَشْهَدْتُهُمْ ) و( أَنْفُسِهِمْ ) إلى إبليس و ذرّيّته كما هو الظاهر المتبادر من السياق، و للمفسّرين أقوال اُخر:

منها قول بعضهم: إنّ المراد من الإشهاد في خلقها المشاورة مجازاً فإنّ أدنى

٣٧٢

مراتب الولاية على شي‏ء أن يشاوره في أمره، و المراد بنفي الاعتضاد نفي سائر مراتب الاستعانة المؤدّية إلى الولاية و السلطة على المولّى عليه بوجه مّا فكأنّه قيل: ما شاورتهم في أمر خلقها و لا استعنت بهم بشي‏ء من أنواع الاستعانة فمن أين يكونون أولياء لهم؟.

و فيه أنّه لا قرينة على هذا المجاز و لا مانع من الحمل على المعنى الحقيقيّ على أنّه لا رابطة بين الإشارة بالشي‏ء و الولاية عليه حتّى تعدّ المشاورة من مراتب التولية أو الإشارة من درجات الولاية.

و قد وجّه بعضهم هذا المعنى بأنّ المراد بالإشهاد المشاورة كناية و لازم المشاورة أن يخلق كما شاؤا أي أن يخلقهم كما أحبّوا أي أن يخلقهم كاملين فالمراد بنفي إشهاد الشياطين خلق أنفسهم نفي أن يكونوا كاملين في الخلقة حتّى يسع لهم ولاية تدبير الاُمور.

و فيه مضافاً إلى أنّه يرد عليه ما اُورد على سابقه أوّلاً أنّ ذلك يرجع إلى إطلاق الشي‏ء و إرادة لازمه بخمس مراتب من اللزوم فالمشاورة لازم الإشهاد على ما يدّعيه و خلق ما يشاؤه المشير لازم المشاورة و خلق ما يحبّه لازم خلق ما يشاؤه، و كمال الخلقة لازم خلق ما يحبّه، و صحّة الولاية لازم كمال الخلقة فإطلاق الإشهاد و إرادة كمال الخلقة أو صحّة الولاية من قبيل التكنية عن لازم المعنى من وراء لزومات أربع أو خمس، و الكتاب المبين يجلّ عن أمثال هذه الإلغازات.

و ثانياً: أنّه لو صحّ فإنّما يصحّ في إشهادهم خلق أنفسهم دون إشهادهم خلق السماوات و الأرض فلازمه التفكيك بين الإشهادين.

و ثالثاً: أنّ لازمه صحّة ولاية من كان كاملاً في خلقه كالملائكة المقرّبين ففيه اعتراف بإمكان ولايتهم و جواز ربوبيّتهم و القرآن يدفع ذلك بأصرح البيان فأين الممكن المفتقر لذاته إلى الله سبحانه من الاستقلال في تدبير نفسه أو تدبير غيره؟ و أمّا نحو قوله تعالى:( فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً ) النازعات: ٥ فسيجي‏ء توضيح معناه إن شاء الله.

٣٧٣

و منها قول بعضهم: إنّ المراد بالإشهاد حقيقة معناه و الضميران للشياطين لكنّ المراد من إشهادهم خلق أنفسهم إشهاد بعضهم خلق بعض لا إشهاد كلّ خلق نفسه.

و فيه أنّ المراد بنفي الإشهاد استنتاج انتفاء الولاية، و لم يقل أحد من المشركين بولاية بعض الشياطين لبعض و لا تعلّق الغرض بنفيها حتّى يحمل لفظ الآية على إشهاد بعضهم خلق بعض.

و منها قول بعضهم: إنّ أوّل الضميرين للشياطين و الثاني للكفّار أو لهم و لغيرهم من الناس. و المعنى ما أشهدت الشياطين خلق السماوات و الأرض و لا خلق الكفّار أو الناس حتّى يكونوا أولياء لهم.

و فيه أنّ فيه تفكيك الضميرين.

و منها قول بعضهم: برجوع الضميرين إلى الكفّار قال الإمام الرازي في تفسيره، و الأقرب عندي عودهما يعني الضميرين على الكفّار الّذين قالوا للرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إن لم تطرد عن مجلسك هؤلاء الفقراء لم نؤمن بك فكأنّه تعالى قال: إنّ هؤلاء الّذين أتوا بهذا الاقتراح الفاسد و التعنّت الباطل ما كانوا شركائي في تدبير العالم بدليل أنّي ما أشهدتهم خلق السماوات و الأرض و لا خلق أنفسهم و لا اعتضدت بهم في تدبير الدنيا و الآخرة بل هم كسائر الخلق فلم أقدموا على هذا الاقتراح الفاسد؟ و نظيره أنّ من اقترح عليك اقتراحات عظيمة فإنّك تقول له: لست بسلطان البلد حتّى نقبل منك هذه الاقتراحات الهائلة فلم تقدم عليها؟.

و يؤكّده أنّ الضمير يجب عوده على أقرب المذكورات و هو في الآية اُولئك الكفّار لأنّهم المراد بالظالمين في قوله تعالى:( بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا ) انتهى.

و فيه أنّ فيه خرق السياق بتعليق مضمون الآية بما تعرّض به في قوله:( وَ لا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا ) بنحو الإشارة قبل ثلاث و عشرين آية و قد تحوّل وجه الكلام بالانعطاف على أوّل السورة مرّة بعد مرّة بالتمثيل بعد التمثيل و التذكير بعد التذكير فما احتمله من المعنى في غاية البعد.

٣٧٤

على أنّ ما ذكره من اقتراحهم على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( إن لم تطرد هؤلاء الفقراء من مجلسك لم نؤمن بك) ليس باقتراح فيه مداخلة في تدبير أمر العالم حتّى يردّ عليهم بمثل قوله:( ما أَشْهَدْتُهُمْ ) إلخ بل اشتراط لإيمانهم بطرد اُولئك من غير أن يبتني على دعوى تردّ بمثل ذلك، نعم لو قيل: اطرد عن مجلسك هؤلاء الفقراء و اكتفي به لكان لما قاله بعض الوجه.

و كأنّ التنبّه لهذه النكتة دعا بعضهم إلى توجيه معنى الآية على تقدير رجوع الضميرين إلى الكفّار بأنّ المراد أنّهم جاهلون بما جرى عليه القلم في الأزل من أمر السعادة و الشقاء إذ لم يشهدوا الخلقة فكيف يقترحون عليك أن تقرّبهم إليك و تطرد الفقراء؟

و مثله قول آخرين: إنّ المراد أنّي ما أطلعتهم على أسرار الخلقة و لم يختصّوا منّي بما يمتازون به من غيرهم حتّى يكونوا قدوة يقتدي بهم الناس في الإيمان بك فلا تطمع في نصرتهم فلا ينبغي لي أن أعتضد لديني بالمضلّين.

و كلا الوجهين أبعد ممّا ذكره الإمام من الوجه فأين الآية من الدلالة على ما اختلقاه من المعنى؟.

و منها أنّ الضميرين للملائكة و المعنى ما أشهدت الملائكة خلق العالم و لا خلق أنفسهم حتّى يعبدوا من دوني، و ينبغي أن يضاف إليه أنّ قوله:( وَ ما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً ) أيضاً متعرّض لنفي ولاية الشياطين فتدلّ الآية حينئذ بصدرها و ذيلها على نفي ولاية الفريقين جميعاً و إلّا دفعه ذيل الآية.

و فيه أنّ الآية السابقة إنّما خاطبت الكفّار في قولهم بولاية الشياطين ثمّ ذكرتهم بضمير الجمع في قولها:( وَ هُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ ) و لم يتعرّض لشي‏ء من أمر الملائكة فإرجاع الضميرين إلى الملائكة دون الشياطين تفكيك، و الاشتغال بنفي ولاية الملائكة تعرّض لما لم يحوج إليه السياق و لا اقتضاه المقام.

قوله تعالى: ( وَ يَوْمَ يَقُولُ نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ ) إلى آخر الآية هذا تذكير ثالث يذكر فيه ظهور بطلان الرابطة بين المشركين و بين شركائهم يوم القيامة

٣٧٥

و يتأكّد بذلك أنّهم ليسوا على شي‏ء ممّا يدّعيه لهم المشركون.

فقوله:( وَ يَوْمَ يَقُولُ ) إلخ الضمير له تعالى بشهادة السياق، و المعنى و اذكر لهم يوم يقول الله لهم نادوا شركائي الّذين زعمتم أنّهم لي شركاء فدعوهم فلم يستجيبوا لهم و بان أنّهم ليسوا لي شركاء و لو كانوا لاستجابوا.

و قوله:( وَ جَعَلْنا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً ) الموبق بكسر الباء اسم مكان من وبق وبوقا بمعنى هلك، و المعنى جعلنا بين المشركين و شركائهم محلّ هلاك و قد فسّر القوم هذا الموبق و المهلك بالنار أو بمحلّ من النار يهلك فيه الفريقان المشركون و شركاؤهم لكنّ التدبّر في كلامه تعالى لا يساعد عليه فإنّ الآية قد أطلقت الشركاء و فيهم - و لعلّهم الأكثر - الملائكة و بعض الأنبياء و الأولياء، و أرجع إليهم ضمير اُولي العقل مرّة بعد مرّة، و لا دليل على اختصاصهم بمردة الجنّ و الإنس و كون جعل الموبق بينهم دليلا على الاختصاص أوّل الكلام.

فلعلّ المراد من جعل موبق بينهم إبطال الرابطة و رفعها من بينهم و قد كانوا يرون في الدنيا أنّ بينهم و بين شركائهم رابطة الربوبيّة و المربوبيّة أو السببيّة و المسبّبيّة فكنّي عن ذلك بجعل موبق بينهم يهلك فيه الرابطة و العلقة من غير أن يهلك الطرفان، و يومئ إلى ذلك بلطيف الإشارة تعبيره عن دعوتهم أوّلاً بالنداء حيث قال:( نادُوا شُرَكائِيَ ) و النداء إنّما يكون في البعيد فهو دليل على بعد ما بينهما.

و إلى مثل هذا المعنى يشير قوله تعالى في موضع آخر من كلامه:( وَ ما نَرى‏ مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَ ضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ) الأنعام: ٩٤، و قوله تعالى:( ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَ شُرَكاؤُكُمْ فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ وَ قالَ شُرَكاؤُهُمْ ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ ) يونس: ٢٨.

قوله تعالى: ( وَ رَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها وَ لَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً ) في أخذ المجرمين مكان المشركين دلالة على أنّ الحكم عامّ لجميع أهل الاجرام، و المراد بالظنّ هو العلم - على ما قيل - و يشهد به قوله:( وَ لَمْ

٣٧٦

يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً ) .

و المراد بمواقعة النار الوقوع فيها - على ما قيل - و لا يبعد أن يكون المراد حصول الوقوع من الجانبين فهم واقعون في النار بدخولهم فيها و النار واقعة فيهم باشتعالهم بها. و قوله:( وَ لَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً ) المصرف بكسر الراء اسم مكان من الصرف أي لم يجدوا محلّا ينصرفون إليه و يعدلون عن النار و لا مناص.

قوله تعالى: ( وَ لَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَ كانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْ‏ءٍ جَدَلًا ) قد مرّ الكلام في نظير صدر الآية في سورة أسرى آية ٨٩ و الجدل الكلام على سبيل المنازعة و المشاجرة و الآية إلى تمام ستّ آيات مسوقة للتهديد بالعذاب بعد التذكيرات السابقة.

قوله تعالى: ( وَ ما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى‏ وَ يَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ ) و( يَسْتَغْفِرُوا ) عطف على قوله:( يُؤْمِنُوا ) أي و ما منعهم من الإيمان و الاستغفار حين مجي‏ء الهدى.

و قوله:( إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ ) أي إلّا طلب أن تأتيهم السنّة الجارية في الاُمم الأوّلين و هي عذاب الاستئصال، و قوله:( أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلًا ) عطف على سابقه أي أو طلب أن يأتيهم العذاب مقابلة و عيانا و لا ينفعهم الإيمان حينئذ لأنّه إيمان بعد مشاهدة البأس الإلهيّ قال تعالى:( فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ ) المؤمن: ٨٥.

فمحصّل المعنى أنّ الناس لا يطلبون إيماناً ينفعهم و الّذي يريدونه أن يأخذهم عذاب الاستئصال على سنّة الأوّلين فيهلكوا و لا يؤمنوا أو يقابلهم العذاب عيانا فيؤمنوا اضطراراً فلا ينفعهم الإيمان.

و هذا المنع و الاقتضاء في الآية أمر ادّعائيّ يراد به أنّهم معرضون عن الحقّ لسوء سريرتهم فلا جدوى للإطناب الّذي وقع في التفاسير في صحّة ما مرّ من التوجيه و التقدير إشكالاً و دفعاً.

قوله تعالى: ( وَ ما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ ) إلخ تعزية

٣٧٧

للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن لا يضيق صدره من إنكار المنكرين و إعراضهم عن ذكر الله فما كانت وظيفة المرسلين إلّا التبشير و الإنذار و ليس عليهم وراء ذلك من بأس ففيه انعطاف إلى مثل ما مرّ في قوله في أوّل السورة:( فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى‏ آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً ) و في الآية أيضاً نوع تهديد للكفّار المستهزءين.

و الدحض الهلاك و الإدحاض الإهلاك و الإبطال، و الهزؤ: الاستهزاء و المصدر بمعنى اسم المفعول و معنى الآية ظاهر.

قوله تعالى: ( وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْها وَ نَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ ) إعظام و تكبير لظلمهم و الظلم يعظم و يكبر بحسب متعلّقه و إذا كان هو الله سبحانه بآياته فهو أكبر من كلّ ظلم.

و المراد بنسيان ما قدّمت يداه عدم مبالاته بما يأتيه من الإعراض عن الحقّ و الاستهزاء به و هو يعلم أنّه حقّ، و قوله:( إِنَّا جَعَلْنا عَلى‏ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَ فِي آذانِهِمْ وَقْراً ) كأنّه تعليل لإعراضهم عن آيات الله أو له و لنسيانهم ما قدّمت أيديهم، و قد تقدّم الكلام في معنى جعل الأكنة على قلوبهم و الوقر في آذانهم في الكتاب مراراً.

و قوله:( وَ إِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى‏ فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً ) إياس من إيمانهم بعد ما ضرب الله الحجاب على قلوبهم و آذانهم فلا يسعهم بعد ذلك أن يهتدوا بأنفسهم بتعقّل الحقّ و لا أن يسترشدوا بهداية غيرهم بالسمع و الاتّباع، و الدليل على هذا المعنى قوله:( وَ إِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى‏ فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً ) حيث دلّ على تأييد النفي و قيّده بقوله:( إِذاً ) و هو جزاء و جواب.

قال في روح المعاني: و استدلّت الجبريّة بهذه الآية على مذهبهم و القدريّة بالآية الّتي قبلها. قال الإمام: و قلّ ما تجد في القرآن آية لأحد هذين الفريقين إلّا و معها آية للفريق الآخر، و ما ذاك إلّا امتحان شديد من الله تعالى ألقاه الله على عباده ليتميّز العلماء الراسخون من المقلّدين. انتهى.

أقول: و كلتا الآيتين حقّ و لازم ذلك ثبوت الاختيار للعباد في أعمالهم و

٣٧٨

انبساط سلطنته تعالى في ملكه حتّى على أعمال العباد و هو مذهب أئمّة أهل لبيتعليهم‌السلام .

قوله تعالى: ( وَ رَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ ) إلى آخر الآية، الآيات - كما سمعت - مسرودة لتهديدهم بالعذاب و هم فاسدون في أعمالهم فساداً لا يرجى منهم صلاح و هذا مقتض لنزول العذاب و أن يكون معجّلاً لا يمهلهم إذ لا أثر لبقائهم إلّا الفساد لكنّ الله سبحانه لم يعجّل لهم العذاب و إن قضى به قضاء حتم بل أخّره إلى أجل مسمّى عيّنه بعلمه.

فقوله:( وَ رَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ ) صدّرت به الآية المتضمّنة لصريح القضاء في تهديدهم ليعدّل به بواسطة اشتماله على الوصفين: الغفور ذي الرحمة ما يقتضي العذاب المعجّل فيقضي و يمضي أصل العذاب أداء لحقّ مقتضيه و هو عملهم، و يؤخّر وقوعه لأنّ الله غفور ذو رحمة.

فالجملة أعني قوله:( الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ ) مع قوله:( لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ ) بمنزلة متخاصمين متنازعين يحضران عند القاضي، و قوله:( بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا ) أي ملجأ يلجؤون منه إليه بمنزلة الحكم الصادر عنه بما فيه إرضاء الجانبين و مراعاة الحقّين فاُعطي وصف الانتقام الإلهيّ باستدعاء ممّا كسبوا أصل العذاب، و اُعطيت صفة المغفرة و الرحمة أن يؤجّل العذاب و لا يعجّل و عند ذلك أخذت المغفرة الإلهيّة تمحو أثر العمل الّذي هو استعجال العذاب، و الرحمة تفيض عليهم حياة معجّلة.

و محصّل المعنى: لو يؤاخذهم ربّك لعجّل لهم العذاب لكن لم يعجّل لأنّه الغفور ذو الرحمة بل حتم عليهم العذاب بجعله لهم موعداً لا ملجأ لهم يلجؤون منه إليه. فقوله:( بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ ) إلخ كلمة قضاء و ليس بحكاية محضة و إلّا قيل: بل جعل لهم موعداً إلخ فافهم ذلك.

و الغفور صيغة مبالغة تدلّ على كثرة المغفرة، و ذو الرحمة - و لامه للجنس - صفة تدلّ على شمول الرحمة لكلّ شي‏ء فهي أشمل معنى من الرحمن و الرحيم

٣٧٩

الدالّين على الكثرة أو الثبوت و الاستمرار فالغفور بمنزلة الخادم لذي الرحمة فإنّه يصلح المورد لذي الرحمة بإمحاء ما عليه من وصمة الموانع فإذا صلح شمله ذوالرحمة، فللغفور السعي و كثرة العمل و لذي الرحمة الانبساط و الشمول على ما لا مانع عنده، و لهذه النكتة جي‏ء في المغفرة بالغفور و هو صيغة مبالغة و في الرحمة بذي الرحمة الحاوي لجنس الرحمة فافهم ذلك و دع عنك ما أطنبوا فيه من الكلام في الاسمين.

قوله تعالى: ( وَ تِلْكَ الْقُرى‏ أَهْلَكْناهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَ جَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً ) المراد بالقرى أهلها مجازاً بدليل الضمائر الراجعة إليها، و المهلك بكسر اللام اسم زمان.

و معنى الآية ظاهر و هي مسوقة لبيان أنّ تأخير مهلكهم و تأجيله ليس ببدع منّا بل السنّة الإلهيّة في الاُمم الماضين الّذين أهلكهم الله لمّا ظلموا كانت جارية على ذلك فكان الله يهلكهم و يجعل لمهلكهم موعدا.

و من هنا يظهر أنّ العذاب و الهلاك الّذي تتضمّنه الآيات ليس بعذاب يوم القيامة بل عذاب دنيويّ و هو عذاب يوم بدر إن كان المراد تهديد صناديد قريش أو عذاب آخر الزمان إن كان المراد تهديد الاُمّة كما مرّ في تفسير سورة يونس.

( بحث روائي)

في تفسير العيّاشيّ في قوله تعالى:( يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ ) الآية: عن خالد بن نجيح عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: إذا كان يوم القيامة دفع للإنسان كتابه ثمّ قيل له: اقرأ. قلت: فيعرف ما فيه؟ فقال: إنّه يذكره فما من لحظة و لا كلمة و لا نقل قدم و لا شي‏ء فعله إلّا ذكره كأنّه فعله تلك الساعة. و لذلك قالوا:( يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَ لا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها ) .

أقول: و الرواية كما ترى تجعل ما يذكره الإنسان هو ما عرفه من ذلك الكتاب فمذكوره هو المكتوب فيه، و لو لا حضور ما عمله لم تتمّ عليه الحجّة و لأمكنه أن ينكره.

٣٨٠

( بحث روائي)

في تفسير البرهان، عن ابن بابويه بإسناده عن جعفر بن محمّد بن عمارة عن أبيه عن جعفر بن محمّدعليه‌السلام في حديث: إنّ موسى لمّا كلّمه الله تكليماً، و أنزل عليه التوراة، و كتب له في الألواح من كلّ شي‏ء موعظة و تفصيلاً لكلّ شي‏ء، و جعل آية في يده و عصاه، و في الطوفان و الجراد و القمّل و الضفادع و الدم و فلق البحر و غرق الله فرعون و جنوده عملت البشريّة فيه حتّى قال في نفسه: ما أرى الله عزّوجلّ خلق خلقاً أعلم منّي فأوحى الله إلى جبرئيل: أدرك عبدي قبل أن يهلك، و قل له: إنّ عند ملتقى البحرين رجلاً عابداً فاتّبعه و تعلّم منه.

فهبط جبرئيل على موسى بما أمره به ربّه عزّوجلّ فعلم موسى أنّ ذلك لما حدّثته به نفسه فمضى هو و فتاه يوشع بن نون حتّى انتهيا إلى ملتقى البحرين فوجداً هناك الخضر يعبدالله عزّوجلّ كما قال الله في كتابه:( فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَ عَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً ) الحديث.

أقول: و الحديث طويل يذكر فيه صحبته للخضر و ما جرى بينهما ممّا ذكره الله في كتابه في القصّة.

و روى القصّة العيّاشيّ في تفسيره، بطريقين و القمّيّ في تفسيره، بطريقين مسنداً و مرسلاً، و رواه في الدرّ المنثور، بطرق كثيرة من أرباب الجوامع كالبخاريّ و مسلم و النسائيّ و الترمذيّ و غيرهم عن ابن عبّاس عن اُبيّ بن كعب عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

و الأحاديث متّفقة في معنى ما نقلناه من صدر حديث محمّد بن عمارة، و في أنّ الحوت الّذي حملاه حيّ عند الصخرة و اتّخذ سبيله في البحر سربا لكنّها تختلف في اُمور كثيرة إضافتها إلى ما في القرآن من أصل القصّة.

منها ما يتحصّل من‏ رواية ابن بابويه و القمّيّ: أنّ مجمع البحرين من أرض الشامات و فلسطين بقرينة ذكرهما أنّ القرية الّتي ورداها هي الناصرة الّتي تنسب إليها النصارى، و في بعضها أنّ الأرض كانت آذربيجان: و هو يوافق ما في الدرّ المنثور

٣٨١

عن السدّي: أنّ البحرين هما الكرّ و الرسّ حيث يصبّان في البحر و أنّ القرية كانت تسمّى باجروان و كان أهلها لئاما و روي عن اُبيّ: أنّه إفريقيّة، و عن القرظيّ أنّه طنجة، و عن قتادة أنّه ملتقى بحر الروم و فارس.

و منها ما في بعض الروايات أنّ الحوت كان مشويّا و في أكثرها أنّه كان مملوحا.

و منها ما في مرسلة القمّيّ و روايات الشيخين و النسائيّ و الترمذيّ و غيرهم: أنّه كانت عند الصخرة عين الحياة حتّى في رواية مسلم و غيره أنّ الماء كان ماء الحياة من شرب منه خلد و لا يقاربه شي‏ء ميّت إلّا حيّ فلمّا نزلاً و مسّ الحوت الماء حيّ.

الحديث و في غيرها أنّ فتى موسى توضّأ من الماء فقطرت منه قطرة على الحوت فحيّ، و في غيرها أنّه شرب منه و لم يكن له ذلك فأخذه الخضر و طابقه في سفينة و تركها في البحر فهو بين أمواجها حتّى تقوم الساعة و في بعضها أنّه كانت عند الصخرة عين الحياة الّتي كان يشرب منها الخضر و بقيّة الروايات خالية عن ذكرها.

و منها ما في رواية الصحاح الأربع و غيرها: أنّ الحوت سقط في البحر فاتّخذ سبيله في البحر سربا فأمسك الله عن الحوت جرية الماء فصار عليه مثل الطاق‏ الحديث، و في بعض هذه الروايات أنّ موسى بعد ما رجع أبصر أثر الحوت فأخذ أثر الحوت يمشيان على الماء حتّى انتهيا إلى جزيرة من جزائر العرب، و في حديث الطبريّ عن ابن عبّاس في القصّة: فرجع يعني موسى حتّى أتى الصخرة فوجد الحوت فجعل الحوت يضرب في البحر و يتبعه موسى يقدّم عصاه يفرج بها عنه الماء و يتبع الحوت و جعل الحوت لا يمسّ شيئاً من البحر إلّا يبس حتّى يكون صخرة، الحديث و بعضها خال عن ذلك.

و منها ما في أكثرها أنّ موسى لقي الخضر عند الصخرة، و في بعضها أنّه ذهب من سرب الحوت أو على الماء حتّى وجده في جزيرة من جزائر البحر، و في بعضها وجده على سطح الماء جالساً أو متّكئا.

و منها اختلافها في أنّ الفتى هل صحبهما أو تركاه و ذهبا.

و منها اختلافها في كيفيّة خرق السفينة و في كيفيّة قتل الغلام و في كيفيّة

٣٨٢

إقامة الجدار و في الكنز الّذي تحته لكنّ أكثر الروايات أنّه كان لوحاً من ذهب مكتوباً فيه مواعظ، و في الأب الصالح فظاهر أكثرها أنّه أبوهما الأقرب، و في بعضها أنّه أبوهما العاشر و في بعضها السابع، و في بعضها بينهما و بينه سبعون أبا و في بعضها كان بينهما و بينه سبعمائة سنة، إلى غير ذلك من جهات الاختلاف.

و في تفسير القمّيّ، عن محمّد بن عليّ بن بلال عن يونس في كتاب كتبوه إلى الرضاعليه‌السلام يسألونه عن العالم الّذي أتاه موسى أيّهما كان أعلم؟ و هل يجوز أن يكون على موسى حجّة في وقته؟ فكتب في الجواب: أتى موسى العالم فأصابه في جزيرة من جزائر البحر إمّا جالساً و إمّا متّكئاً فسلّم عليه موسى فأنكر السلام إذ كان الأرض ليس بها سلام.

قال: من أنت؟ قال: أنا موسى بن عمران. قال: أنت موسى بن عمران الّذي كلّمه الله تكليماً؟ قال: نعم. قال: فما حاجتك؟ قال: جئت لتعلّمني ممّا علّمت رشداً. قال: إنّي وكّلت بأمر لا تطيقه، و وكّلت بأمر لا اُطيقه‏ الحديث.

أقول: و هذا المعنى مرويّ في أخبار اُخر من طرق الفريقين.

و في الدرّ المنثور، أخرج الحاكم و صحّحه عن اُبيّ أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: لمّا لقي موسى الخضر جاء طير فألقى منقاره في الماء فقال الخضر لموسى: تدري ما يقول هذا الطائر؟ قال: و ما يقول؟ قال: يقول: ما علمك و علم موسى في علم الله إلّا كما أخذ منقاري من الماء.

أقول: و قصّة هذا الطائر وارد في أغلب روايات القصّة.

و في تفسير العيّاشيّ، عن هشام بن سالم عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: كان موسى أعلم من الخضر.

و فيه، عن أبي حمزة عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: كان وصيّ موسى يوشع بن نون، و هو فتاه الّذي ذكره في كتابه.

و فيه، عن عبدالله بن ميمون القدّاح عن أبي عبدالله عن أبيهعليهما‌السلام قال: بينما موسى قاعد في ملإ من بني إسرائيل إذ قال له رجل: ما أرى أحداً أعلم بالله منك

٣٨٣

قال موسى: ما أرى فأوحى الله إليه بلى عبدي الخضر فسأل السبيل إليه و كان له الحوت آية إن افتقده، و كان من شأنه ما قصّ الله.

أقول: و ينبغي أن يحمل اختلاف الروايات في علمهما على اختلاف نوع العلم.

و فيه، عن أبي بصير عن أبي عبداللهعليه‌السلام : في قوله:( فَخَشِينا ) خشي إن أدرك الغلام أن يدعو أبويه إلى الكفر فيجيبانه من فرط حبّهما له.

و فيه، عن عثمان عن رجل عن أبي عبداللهعليه‌السلام :في قول الله:( فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً وَ أَقْرَبَ رُحْماً ) قال: إنّه ولدت لهما جارية فولدت غلاماً فكان نبيّاً.

أقول: و في أكثر الروايات أنّها ولد منها سبعون نبيّاً و المراد ثبوت الواسطة.

و فيه، عن إسحاق بن عمّار قال: سمعت أباعبداللهعليه‌السلام يقول: إنّ الله ليصلح بصلاح الرجل المؤمن ولده و ولد ولده و يحفظه في دويرته و دويرات حوله فلا يزالون في حفظ الله لكرامته على الله. ثمّ ذكر الغلامين فقال:( وَ كانَ أَبُوهُما صالِحاً ) أ لم تر أنّ الله شكر صلاح أبويهما لهما؟.

و فيه، عن مسعدة بن صدقة عن جعفر بن محمّد عن آبائهعليه‌السلام أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: إنّ الله ليخلف العبد الصالح بعد موته في أهله و ماله و إن كان أهله أهل سوء ثمّ قرأ هذه الآية إلى آخرها( وَ كانَ أَبُوهُما صالِحاً ) .

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن مردويه عن جابر قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ الله يصلح بصلاح الرجل الصالح ولده و ولد ولده و أهل دويرات حوله فما يزالون في حفظ الله ما دام فيهم.

أقول: و الروايات في هذا المعنى كثيرة مستفيضة.

و في الكافي، بإسناده عن صفوان الجمّال قال: سألت أباعبداللهعليه‌السلام عن قول الله عزّوجلّ( وَ أَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَ كانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما ) فقال: أمّا إنّه ما كان ذهباً و لا فضّة، و إنّما كان أربع كلمات: لا إله إلّا الله، من

٣٨٤

أيقن بالموت لم يضحك، و من أيقن بالحساب لم يفرح قلبه، و من أيقن بالقدر لم يخش إلّا الله.

أقول: و قد تكاثرت الروايات من طرق الشيعة و أهل السنّة أنّ الكنز الّذي كان تحت الجدار كان لوحاً مكتوباً فيه الكلمات، و في أكثرها أنّه كان لوحاً من ذهب، و لا ينافيه قوله في هذه الرواية:( ما كان ذهباً و لا فضّة) لأنّ المراد به نفي الدينار و الدرهم كما هو المتبادر. و الروايات مختلفة في تعيين الكلمات الّتي كانت مكتوبة على اللوح لكن أكثرها متّفقة في كلمة التوحيد و مسألتي الموت و القدر.

و قد جمع في بعضها بين الشهادتين كما رواه في الدرّ المنثور، عن البيهقيّ في شعب الإيمان عن عليّ بن أبي طالب: في قول الله عزّوجلّ:( وَ كانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما ) قال: كان لوحاً من ذهب مكتوب فيه: لا إله إلّا الله محمّد رسول الله عجباً لمن يذكر أنّ الموت حقّ كيف يفرح؟ و عجباً لمن يذكر أنّ النار حقّ كيف يضحك؟ و عجباً لمن يذكر أنّ القدر حقّ كيف يحزن؟ و عجباً لمن يرى الدنيا و تصرّفها بأهلها حالاً بعد حال كيف يطمئنّ إليها؟.

٣٨٥

( سورة الكهف الآيات ٨٣ - ١٠٢)

وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي الْقَرْنَيْنِ  قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْرًا ( ٨٣ ) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا ( ٨٤ ) فَأَتْبَعَ سَبَبًا ( ٨٥ ) حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْمًا  قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا ( ٨٦ ) قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَىٰ رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُّكْرًا ( ٨٧ ) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَىٰ  وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا ( ٨٨ ) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا ( ٨٩ ) حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَىٰ قَوْمٍ لَّمْ نَجْعَل لَّهُم مِّن دُونِهَا سِتْرًا ( ٩٠ ) كَذَٰلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا ( ٩١ ) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا ( ٩٢ ) حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوْمًا لَّا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا ( ٩٣ ) قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَىٰ أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا ( ٩٤ ) قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا ( ٩٥ ) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ  حَتَّىٰ إِذَا سَاوَىٰ بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُوا  حَتَّىٰ إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا ( ٩٦ ) فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا ( ٩٧ ) قَالَ هَٰذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي  فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ  وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا ( ٩٨ )

٣٨٦

وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ  وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا( ٩٩) وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِّلْكَافِرِينَ عَرْضًا( ١٠٠) الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَن ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا( ١٠١) أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِن دُونِي أَوْلِيَاءَ  إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا( ١٠٢)

( بيان‏)

الآيات تشتمل على قصّة ذي القرنين، و فيها شي‏ء من ملاحم القرآن.

قوله تعالى: ( وَ يَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً ) أي يسألونك عن شأن ذي القرنين. و الدليل على ذلك جوابه عن السؤال بذكر شأنه لا تعريف شخصه حتّى اكتفى بلقبه فلم يتعدّ منه إلى ذكر اسمه.

و الذكر إمّا مصدر بمعنى المفعول و المعنى قل سأتلو عليكم منه أي من ذي القرنين شيئاً مذكوراً، و إمّا المراد بالذكر القرآن - و قد سمّاه الله في مواضع من كلامه بالذكر - و المعنى قل سأتلو عليكم منه أي من ذي القرنين أو من الله قرآناً و هو ما يتلو هذه الآية من قوله:( إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ ) إلى آخر القصّة، و المعنى الثاني أظهر.

قوله تعالى: ( إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَ آتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْ‏ءٍ سَبَباً ) التمكين الإقدار يقال: مكّنّته و مكّنت له أي أقدرته فالتمكّن في الأرض القدرة على التصرّف فيه بالملك كيفما شاء و أراد. و ربّما يقال: إنّه مصدر مصوغ من المكان بتوهّم أصالة الميم فالتمكين إعطاء الاستقرار و الثبات بحيث لا يزيله عن مكانه أيّ مانع مزاحم.

و السبب الوصلة و الوسيلة فمعنى إيتائه سبباً من كلّ شي‏ء أن يؤتى من كلّ شي‏ء يتوصّل به إلى المقاصد الهامّة الحيويّة ما يستعمله و يستفيد منه كالعقل و العلم

٣٨٧

و الدين و قوّة الجسم و كثرة المال و الجند و سعة الملك و حسن التدبير و غير ذلك و هذا امتنان منه تعالى على ذي القرنين و إعظام لأمره بأبلغ بيان، و ما حكاه تعالى من سيرته و فعله و قوله المملوءة حكمة و قدرة يشهد بذلك.

قوله تعالى: ( فَأَتْبَعَ سَبَباً ) الإتباع اللحوق أي لحق سبباً و اتّخذ وصلة وسيلة يسير بها نحو مغرب الشمس.

قوله تعالى: ( حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَ وَجَدَ عِنْدَها قَوْماً ) تدلّ( حَتَّى ) على فعل مقدّر و تقديره( فسار حتى إذا بلغ) و المراد بمغرب الشمس آخر المعمورة يومئذ من جانب الغرب بدليل قوله:( وَ وَجَدَ عِنْدَها قَوْماً ) .

و ذكروا أنّ المراد بالعين الحمئة العين ذات الحمأة و هي الطين الأسود و أنّ المراد بالعين البحر فربّما تطلق عليه، و أنّ المراد بوجدان الشمس تغرب في عين حمئة أنّه وقف على ساحل بحر لا مطمع في وجود برّ وراءه فرأى الشمس كأنّها تغرب في البحر لمكان انطباق الاُفق عليه قيل: و ينطبق هذه العين الحمئة على المحيط الغربيّ و فيه الجزائر الخالدات الّتي كانت مبدأ الطول سابقاً ثمّ غرقت.

و قرئ( في عين حامية) أي حارّة، و ينطبق على النقاط القريبة من خطّ الاستواء من المحيط الغربي المجاورة لإفريقيّة و لعلّ ذا القرنين في رحلته الغربيّة بلغ سواحل إفريقيّة.

قوله تعالى: ( قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَ إِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً ) القول المنسوب إليه تعالى في القرآن يستعمل في الوحي النبويّ و في الإبلاغ بواسطة الوحي كقوله تعالى:( وَ قُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ ) البقرة: ٣٥ و قوله:( وَ إِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ ) البقرة: ٥٨، و يستعمل في الإلهام الّذي ليس من النبوّة كقوله:( وَ أَوْحَيْنا إِلى‏ أُمِّ مُوسى‏ أَنْ أَرْضِعِيهِ ) القصص: ٧.

و به يظهر أنّ قوله:( قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ ) إلخ لا يدلّ على كونه نبيّاً يوحى إليه لكون قوله تعالى أعمّ من الوحي المختصّ بالنبوّة و لا يخلو قوله:

٣٨٨

( ثُمَّ يُرَدُّ إِلى‏ رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ ) إلخ حيث اُورد في سياق الغيبة بالنسبة إليه تعالى من إشعار بأنّ مكالمته كانت بتوسّط نبيّ كان معه فملكه نظير ملك طالوت في بني إسرائيل بإشارة من نبيّهم و هدايته.

و قوله:( إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَ إِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً ) أي إمّا أن تعذّب هؤلاء القوم و إمّا أن تتّخذ فيهم أمراً ذا حسن، فحسنا مصدر بمعنى الفاعل قائم مقام موصوفه أو هو وصف للمبالغة، و قد قيل: إنّ في مقابلة العذاب باتّخاذ الحسن إيماء إلى ترجيحه و الكلام ترديد خبريّ بداعي الإباحة فهو إنشاء في صورة الإخبار، و المعنى لك أن تعذّبهم و لك أن تعفو عنهم كما قيل، لكنّ الظاهر أنّه استخبار عمّا سيفعله بهم من سياسة أو عفو، و هو الأوفق بسياق الجواب المشتمل على التفصيل بالتعذيب و الإحسان( أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ) إلخ إذ لو كان قوله:( إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ ) إلخ حكماً تخييريّاً لكان قوله:( أَمَّا مَنْ ظَلَمَ ) إلخ تقريراً له و إيذاناً بالقبول و لا كثير فائدة فيه.

و محصّل المعنى: استخبرناه ما ذا تريد أن تفعل بهم من العذاب و الإحسان و قد غلبتهم و استوليت عليهم؟ فقال: نعذّب الظالم منهم ثمّ يردّ إلى ربّه فيعذّبه العذاب النكر، و نحسن إلى المؤمن الصالح و نكلّفه بما فيه يسر.

و لم يذكر المفعول في قوله:( إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ ) بخلاف قوله:( إِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً ) لأنّ جميعهم لم يكونوا ظالمين، و ليس من الجائز تعميم العذاب لقوم هذا شأنهم بخلاف تعميم الإحسان لقوم فيهم الصالح و الطالح.

قوله تعالى: ( أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلى‏ رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً ) النكر و المنكر غير المعهود أي يعذّبه عذاباً لا عهد له به، و لا يحتسبه و يترقّبه.

و قد فسّر الظلم بالإشراك. و التعذيب بالقتل فمعنى( أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ) أمّا من أشرك و لم يرجع عن شركه فسوف نقتله، و كأنّه مأخوذ من مقابلة( مَنْ ظَلَمَ ) بقوله:( مَنْ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً ) لكنّ الظاهر من المقابلة أن يكون المراد بالظالم أعمّ ممّن أشرك و لم يؤمن بالله أو آمن و لم يشرك لكنّه لم يعمل

٣٨٩

صالحاً بل أفسد في الأرض، و لو لا تقييد مقابله بالإيمان لكان ظاهر الظلم هو الإفساد من غير نظر إلى الشرك لأنّ المعهود من سيرة الملوك إذا عدلوا أن يطهّروا أرضهم من فساد المفسدين، و كذا لا دليل على تخصيص التعذيب بالقتل.

قوله تعالى: ( وَ أَمَّا مَنْ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى) إلخ( صالِحاً ) وصف اُقيم مقام موصوفه و كذا الحسنى، و( جَزاءً ) حال أو تمييز أو مفعول مطلق و التقدير: و أمّا من آمن و عمل عملاً صالحاً فله المثوبة الحسنى حال كونه مجزيّاً أو من حيث الجزاء أو نجزيه جزاء.

و قوله:( وَ سَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً ) اليسر بمعنى الميسور وصف اُقيم مقام موصوفه و الظاهر أنّ المراد بالأمر الأمر التكليفيّ و تقدير الكلام و سنقول له قولا ميسوراً من أمرنا أي نكلّفه بما يتيسّر له و لا يشقّ عليه.

قوله تعالى: ( ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ ) إلخ أي ثمّ هيّأ سبباً للسير فسار نحو المشرق حتّى إذا بلغ الصحراء من الجانب الشرقيّ فوجد الشمس تطلع على قوم بدويّين لم نجعل لهم من دونها ستراً.

و المراد بالستر ما يستتر به من الشمس، و هو البناء و اللباس أو خصوص البناء أي كانوا يعيشون على الصعيد من غير أن يكون لهم بيوت يأوون إليها و يستترون بها من الشمس و عراة لا لباس عليهم، و إسناد ذلك إلى الله سبحانه في قوله:( لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ ) إلخ إشارة إلى أنّهم لم يتنبّهوا بعد لذلك و لم يتعلّموا بناء البيوت و اتّخاذ الخيام و نسج الأثواب و خياطتها.

قوله تعالى: ( كَذلِكَ وَ قَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً ) الظاهر أنّ قوله:( كَذلِكَ ) إشارة إلى وصفهم المذكور في الكلام، و تشبيه الشي‏ء بنفسه مبنيّاً على دعوى المغايرة يفيد نوعاً من التأكيد، و قد قيل في المشار إليه بذلك وجوه اُخر بعيدة عن الفهم.

و قوله:( وَ قَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً ) الضمير لذي القرنين، و الجملة حالية و المعنى أنّه اتّخذ وسيلة السير و بلغ مطلع الشمس و وجد قوماً كذا و كذا في حال أحاط فيها علمنا و خبرنا بما عنده من عدّة و عدّة و ما يجريه أو يجري عليه، و

٣٩٠

الظاهر أنّ إحاطة علمه تعالى بما عنده كناية عن كون ما اختاره و أتى به بهداية من الله و أمر، فما كان يرد و لا يصدر إلّا عن هداية يهتدي بها و أمر يأتمره كما أشار إلى مثل هذا المعنى عند ذكر مسيره إلى المغرب بقوله:( قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ ) إلخ.

فالآية أعني قوله:( وَ قَدْ أَحَطْنا ) إلخ في معناها الكنائي نظيرة قوله:( وَ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَ وَحْيِنا ) هود: ٣٧، و قوله:( أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ ) النساء: ١٦٦، و قوله:( وَ أَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ ) الجنّ: ٢٨.

و قيل: إنّ الآية لإفادة تعظيم أمره و أنّه لا يحيط بدقائقه و جزئيّاته إلّا الله أو لتهويل ما قاساه ذو القرنين في هذا المسير و أنّ ما تحمّله من المصائب و الشدائد في علم الله لم يكن ليخفى عليه، أو لتعظيم السبب الّذي أتبعه، و ما قدّمناه أوجه.

قوله تعالى: ( ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ ) إلى آخر الآية. السدّ الجبل و كلّ حاجز يسدّ طريق العبور و كأنّ المراد بهما الجبلان، و قوله:( وَجَدَ مِنْ دُونِهِما قَوْماً ) أي قريباً منهما، و قوله:( لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا ) كناية عن بساطتهم و سذاجة فهمهم، و ربّما قيل: كناية عن غرابة لغتهم و بعدها عن اللغات المعروفة عندهم، و لا يخلو عن بعد.

قوله تعالى: ( قالُوا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَ مَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ ) إلخ الظاهر أنّ القائلين هم القوم الّذين وجدهم من دون الجبلين، و يأجوج و مأجوج جيلان من الناس كانوا يأتونهم من وراء الجبلين فيغيرون عليهم و يعمّونهم قتلاً و سبباً و نهباً و الدليل عليه السياق بما فيه من ضمائر اُولي العقل و عمل السدّ بين الجبلين و غير ذلك.

و قوله:( فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً ) الخرج ما يخرج من المال ليصرف في شي‏ء من الحوائج عرضوا عليه أن يعطوه مالا على أن يجعل بينهم و بين يأجوج و مأجوج سدّاً يمنع من تجاوزهم و تعدّيهم عليهم.

قوله تعالى: ( قالَ ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَ

٣٩١

بَيْنَهُمْ رَدْماً ) أصل( مَكَّنِّي ) مكّنني ثمّ أدغمت إحدى النونين في الاُخرى، و الرّدم السدّ و قيل السدّ القويّ، و على هذا فالتعبير بالردم في الجواب و قد سألوه سدّاً إجابة و وعد بما هو فوق ما استدعوه و أملوه.

و قوله:( قالَ ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ ) استغناء من ذي القرنين عن خرجهم الّذي عرضوه عليه على أن يجعل لهم سدّاً يقول: ما مكّنني فيه و أقرّني عليه ربّي من السعة و القدرة خير من المال الّذي تعدونني به فلا حاجة لي إليه.

و قوله:( فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ ) إلخ القوّة ما يتقوىّ به على الشي‏ء و الجملة تفريع على ما يتحصّل من عرضهم و هو طلبهم منه أن يجعل لهم سدّاً، و محصّل المعنى أمّا الخرج فلا حاجة لي إليه، و أمّا السدّ فإن أردتموه فأعينوني بما أتقوّى به على بنائه كالرجال و ما يستعمل في بنائه - و قد ذكر منها زبر الحديد و القطر و النفخ بالمنافخ - أجعل لكم سدّاً قويّاً.

و بهذا المعنى يظهر أنّ مرادهم بما عرضوا عليه من الخرج الأجر على عمل السدّ.

قوله تعالى: ( آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ ) إلى آخر الآية، الزبر بالضمّ فالفتح جمع زبرة كغرف و غرفة و هي القطعة، و ساوى‏ بمعنى سوّى على ما قيل و قرئ( سوّى ) و الصَّدَفَيْنِ تثنية الصدف و هو أحد جانبي الجبل ذكر بعضهم أنّه لا يقال إلّا إذا كان هناك جبل آخر يوازيه بجانبه فهو من الأسماء المتضائفة كالزوج و الضعف و غيرهما و القطر النحاس أو الصفر المذاب و إفراغه صبّه على الثقب و الخلل و الفرج.

و قوله:( آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ ) أي أعطوني إيّاها لأستعملها في السدّ و هي من القوّة الّتي استعانهم فيها، و لعلّه خصّها بالذكر و لم يذكر الحجارة و غيرها من لوازم البناء لأنّها الركن في استحكام بناء السدّ فجملة( آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ ) بدل البعض من الكلّ من جملة( فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ ) أو الكلام بتقدير قال، و هو كثير في القرآن.

و قوله:( حَتَّى إِذا ساوى‏ بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قالَ انْفُخُوا ) في الكلام إيجاز بالحذف

٣٩٢

و التقدير فأعانوه بقوّة و آتوه ما طلبه منهم فبنى لهم السدّ و رفعه حتّى إذا سوّى بين الصدفين قال: انفخوا.

و قوله:( قالَ انْفُخُوا ) الظاهر أنّه من الإعراض عن متعلّق الفعل للدلالة على نفس الفعل و المراد نصب المنافخ على السدّ لإحماء ما وضع فيه من الحديد و إفراغ القطر على خلله و فرجه.

و قوله:( حَتَّى إِذا جَعَلَهُ ناراً قالَ ) إلخ في الكلام حذف و إيجاز، و التقدير فنفخ حتّى إذا جعله أي المنفوخ فيه أو الحديد ناراً أي كالنار في هيئته و حرارته فهو من الاستعارة.

و قوله:( قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً ) أي آتوني قطراً اُفرغه و أصبّه عليه ليسدّ بذلك خلله و يصير السدّ به مصمتا لا ينفذ فيه نافذ.

قوله تعالى: ( فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَ مَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً ) اسطاع و استطاع واحد، و الظهور العلوّ و الاستعلاء، و النقب الثقب، قال الراغب في المفردات،: النقب في الحائط و الجلد كالثقب في الخشب انتهى و ضمائر الجمع ليأجوج و مأجوج. و في الكلام حذف و إيجاز، و التقدير فبنى السدّ فما استطاع يأجوج و مأجوج أن يعلوه لارتفاعه و ما استطاعوا أن ينقبوه لاستحكامه.

قوله تعالى: ( قالَ هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَ كانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا ) الدكّاء الدكّ و هو أشدّ الدقّ مصدر بمعنى اسم المفعول، و قيل: المراد الناقة الدكّاء و هي الّتي لا سنام لها و هو على هذا من الاستعارة و المراد به خراب السدّ كما قالوا.

و قوله:( قالَ هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي ) أي قال ذو القرنين - بعد ما بنى السدّ - هذا أي السدّ رحمة من ربّي أي نعمة و وقاية يدفع به شرّ يأجوج و مأجوج عن اُمم من الناس.

و قوله:( فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ ) في الكلام حذف و إيجاز و التقدير

٣٩٣

و تبقى هذه الرحمة إلى مجي‏ء وعد ربّي فإذا جاء وعد ربّي جعله مدكوكاً و سوّى به الأرض.

و المراد بالوعد إمّا وعد منه تعالى خاصّ بالسدّ أنّه سيندكّ عند اقتراب الساعة فيكون هذا ملحمة أخبر بها ذو القرنين، و إمّا وعده تعالى العامّ بقيام الساعة الّذي يدكّ الجبال و يخرّب الدنيا، و قد أكدّ القول بجملة( وَ كانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا ) .

قوله تعالى: ( وَ تَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ ) إلخ ظاهر السياق أنّ ضمير الجمع للناس و يؤيّده رجوع ضمير( فَجَمَعْناهُمْ ) إلى الناس قطعاً لأنّ حكم الجمع عامّ.

و في قوله:( بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ ) استعارة، و المراد أنّهم يضطربون يومئذ من شدّة الهول اضطراب البحر باندفاع بعضه إلى بعض فيرتفع من بينهم النظم و يحكم فيهم الهرج و المرج و يعرض عنهم ربّهم فلا يشملهم برحمته، و لا يصلح شأنهم بعنايته.

فالآية بمنزلة التفصيل للإجمال الّذي في قول ذي القرنين:( فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ ) و نظيره قوله تعالى في موضع آخر:( حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَ مَأْجُوجُ وَ هُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ وَ اقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ ) الأنبياء: ٩٧. و هي على أيّ حال من الملاحم.

و قد بان ممّا مرّ أنّ الترك في الآية بمعناه المتبادر منه و هو خلاف الأخذ و لا موجب لما ذكره بعضهم: أنّ الترك بمعنى الجعل و هو من الأضداد انتهى.

و الآية من كلام الله سبحانه و ليست من تمام كلام ذي القرنين و الدليل عليه تغيير السياق من الغيبة إلى التكلّم مع الغير الّذي هو سياق كلامه السابق( إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ ) ( قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ ) ، و لو كان من تمام كلام ذي القرنين لقيل: و ترك بعضهم على حذاء قوله:( جَعَلَهُ دَكَّاءَ ) .

و قوله:( وَ نُفِخَ فِي الصُّورِ ) إلخ هي النفخة الثانية الّتي فيها الإحياء بدليل

٣٩٤

قوله( فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً وَ عَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً ) .

قوله تعالى: ( الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَ كانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً ) تفسير للكافرين و هؤلاء هم الّذين ضرب الله بينهم و بين ذكره سدّاً حاجزاً - و بهذه المناسبة تعرّض لحالهم بعد ذكر سدّ يأجوج و مأجوج - فجعل أعينهم في غطاء عن ذكره و أخذ استطاعة السمع عن آذانهم فانقطع الطريق بينهم و بين الحقّ و هو ذكر الله.

فإنّ الحق إنّما ينال إمّا من طريق البصر بالنظر إلى آيات الله سبحانه و الاهتداء إلى ما تدلّ عليه و تهدي إليه، و إمّا من طريق السمع باستماع الحكمة و الموعظة و القصص و العبر، و لا بصر لهؤلاء و لا سمع.

قوله تعالى: ( أَ فَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي مِنْ دُونِي أَوْلِياءَ ) إلخ الاستفهام للإنكار قال في المجمع: معناه أ فحسب الّذين جحدوا توحيد الله أن يتّخذوا من دوني أرباباً ينصرونهم و يدفعون عقابي عنهم قال: و يدلّ على هذا المحذوف قوله:( إِنَّا أَعْتَدْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ نُزُلًا ) انتهى.

و هناك وجه ثان منقول عن ابن عبّاس و هو أنّ المعنى أ فحسب الّذين كفروا أن يتّخذوا من دوني آلهة و أنا لا أغضب لنفسي عليهم و لا اُعاقبهم.

و وجه ثالث: و هو أنّ( أَنْ يَتَّخِذُوا ) إلخ مفعول أوّل لحسب بمعنى ظنّ و مفعوله الثاني محذوف، و التقدير أ فحسب الّذين كفروا اتّخاذهم عبادي من دوني أولياء نافعاً لهم أو دافعاً للعقاب عنهم، و الفرق بين هذا الوجه و الوجهين السابقين أنّ( أَنْ ) و صلته قائمة مقام المفعولين فيهما و المحذوف بعض الصلة فيهما بخلاف الوجه الثالث فأن و صلته فيه مفعول أوّل لحسب، و المفعول الثاني محذوف.

و وجه رابع: و هو أن يكون أن و صلته سادّة مسدّ المفعولين و عناية الكلام متوجّهة إلى إنكار كون الاتّخاذا اتّخاذاً حقيقة على معنى أنّ ذلك ليس من الاتّخاذ في شي‏ء إذ الاتّخاذ إنّما يكون من الجانبين و المتّخذون متبرّؤن منهم لقولهم:( سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ ) .

٣٩٥

و الوجوه الأربعة مترتّبة في الوجاهة و أوجهها أوّلها و سياق هذه الآيات يساعد عليه فإنّ هذه الآيات بل عامّة آيات السورة مسوقة لبيان أنّهم فتنوا بزينة الحياة الدنيا و اشتبه عليهم الأمر فاطمأنّوا إلى ظاهر الأسباب فاتّخذوا غيره تعالى أولياء من دونه فهم يظنّون أنّ ولايتهم تكفيهم و تنفعهم و تدفع عنهم الضرّ و الحال أنّ ما سيلقونه بعد النفخ و الجمع يناقض ذلك فالآية تنكر عليهم هذا الظنّ و الحسبان بعد ما كان مآل أمرهم ذلك. ثمّ إنّ إمكان قيام أن و صلته مقام مفعولي حسب و قد ورد في كلامه تعالى كثيراً كقوله:( أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا ) الجاثية: ٢١ و غيره يغني عن تقدير مفعول ثان محذوف و قد منع عنه بعض النحاة.

و تؤيّده الآيات التالية:( قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا ) إلخ و كذا القراءة المنسوبة إلى عليّعليه‌السلام و عدّة منهم، أ فحسب بسكون السين و ضمّ الباء و المعنى أ فاتّخاذ عبادي من دوني أولياء كاف لهم.

و المراد بالعباد في قوله:( أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي مِنْ دُونِي أَوْلِياءَ ) كلّ من يعبده الوثنيّون من الملائكة و الجنّ و الكمّلين من البشر.

و أمّا ما ذكره المفسّرون أنّ المراد بهم المسيحعليه‌السلام و الملائكة و نحوهم من المقرّبين دون الشياطين لأنّ الأكثر في مثل هذا اللفظ( عِبادِي ) أن تكون الإضافة لتشريف المضاف.

ففيه أوّلاً أنّ المقام لا يناسب التشريف. و هو ظاهر. و ثانياً أنّ قيد( مِنْ دُونِي ) في الكلام صريح في أنّ المراد بالذين كفروا هم الوثنيّون الّذين لا يعبدون الله مع الاعتراف باُلوهيّته و إنّما يعبدون الشركاء الشفعاء؟ و أمّا أهل الكتاب مثلاً النصارى في اتّخاذهم المسيح وليّاً فإنّهم لا ينفون ولاية الله بل يثبتون الولايتين معاً ثمّ يعدّونهما واحداً فافهم ذلك فالحقّ أنّ قوله:( عِبادِي ) لا يعمّ المسيح و من كان مثله من البشر بل يختصّ بآلهة الوثنيّين و المراد بقوله( الَّذِينَ كَفَرُوا ) الوثنيّون فحسب.

٣٩٦

و قوله:( إِنَّا أَعْتَدْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ نُزُلًا ) أي شيئاً يتمتّعون به عند أوّل نزولهم الدار الآخرة شبّه الدار الآخرة بالدار ينزلها الضيف و جهنّم بالنزل الّذي يكرم به الضيف النزيل لدى أوّل وروده، و يزيد هذا التشبيه لطفاً و جمالاً ما سيأتي بعد آيتين أنّهم لا يقام لهم وزن يوم القيامة فكأنّهم لا يلبثون دون أن يدخلوا النار، و في الآية من التهكّم ما لا يخفى، و كأنّما قوبل به ما سيحكى من تهكّمهم في الدنيا بقوله:( وَ اتَّخَذُوا آياتِي وَ رُسُلِي هُزُواً ) .

( بحث روائي‏)

في تفسير القمّيّ: فلمّا أخبر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بخبر موسى و فتاه و الخضر قالوا له فأخبرنا عن طائف طاف الأرض: المشرق و المغرب من هو؟ و ما قصّته؟ فأنزل الله:( وَ يَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ ) الآيات.

أقول: و قد تقدّم في الكلام على قصّة أصحاب الكهف تفصيل هذه الرواية و روي أيضاً ما في معناه في الدرّ المنثور، عن ابن أبي حاتم عن السدّيّ و عن عمر مولى غفرة.

و اعلم أنّ الروايات المرويّة من طرق الشيعة و أهل السنّة عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و من طرق الشيعة عن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام و كذا الأقوال المنقولة عن الصحابة و التابعين و يعامل معها أهل السنّة معاملة الأحاديث الموقوفة في قصّة ذي القرنين مختلفة اختلافاً عجيباً متعارضة متهافتة في جميع خصوصيّات القصّة و كافّة أطرافها و هي مع ذلك مشتملة على غرائب يستوحش منها الذوق السليم أو يحيلها العقل و ينكرها الوجود لا يرتاب الباحث الناقد إذا قاس بعضها إلى بعض و تدبّر فيها أنّها غير سليمة عن الدسّ و الوضع و مبالغات عجيبة في وصف القصّة و أغربها ما روي عن علماء اليهود الّذين أسلموا كوهب بن منبّه و كعب الأحبار أو ما يشعر القرائن أنّه مأخوذ منهم فلا يجدينا و الحال هذه نقلها بالاستقصاء على كثرتها و طولها، و

٣٩٧

إنّما نشير بعض الإشارة إلى وجوه اختلافها، و نقتصر على نقل ما يسلم عن الاختلاف في الجملة:

فمن الاختلاف اختلافها في نفسه فمعظم الروايات على أنّه كان بشراً، و قد ورد(١) في بعضها أنّه كان ملكاً سماويّاً أنزله الله إلى الأرض و آتاه من كلّ شي‏ء سبباً. و في خطط المقريزيّ عن الجاحظ في كتاب الحيوان، أنّ ذا القرنين كانت اُمّه آدميّة و أبوه من الملائكة.

و من ذلك الاختلاف في سمته ففي أكثر الروايات أنّه كان عبداً صالحاً أحبّ الله‏ فأحبّه و ناصح الله فناصحه، و في بعضها(٢) أنّه كان محدّثاً يأتيه الملك فيحدّثه و في بعضها(٣) أنّه كان نبيّاً.

و من ذلك الاختلاف في اسمه ففي بعضها أنّ اسمه(٤) عيّاش، و في بعضها(٥) إسكندر، و في بعضها(٦) مرزيا بن مرزبة اليوناني من ولد يونن بن يافث بن نوح،

____________________

(١) رواه في الدرّ المنثور عن الأحوص بن حكيم عن أبيه عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و عن الشيرازيّ عن جبير بن نفير عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و عن عدّة عن خالد بن معدان عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و عن عدّة عن عمر بن الخطّاب.

(٢) رواه في الدرّ المنثور عن ابن أبي حاتم و أبي الشيخ عن الباقرعليه‌السلام و في البرهان عن جبرئيل بن أحمد عن الأصبغ بن نباتة عن عليّعليه‌السلام و في نور الثقلين عن اُصول الكافي عن الحارث ابن المغيرة عن أبي جعفرعليه‌السلام .

(٣) رواه العيّاشيّ عن أبي حمزة الثماليّ عن أبي جعفرعليه‌السلام و رواه في الدرّ المنثور عن أبي الشيخ عن أبي الورقاء عن عليّعليه‌السلام و في هذا المعنى روايات اُخرى.

(٤) كما في تفسير العيّاشيّ عن الأصبغ بن نباتة عن عليّعليه‌السلام ، و في البرهان عن الثماليّ عن الباقرعليه‌السلام .

(٥) كما يظهر من رواية قرب الإسناد للحميري عن الكاظمعليه‌السلام و رواية الدرّ المنثور عن عدّة عن عقبة بن عامر عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و روايته أيضاً عن عدّة عن وهب.

(٦) في الدرّ المنثور عن ابن المنذر و ابن أبي حاتم و أبي الشيخ من طريق ابن إسحاق عن بعض من أسلم من أهل الكتاب.

٣٩٨

و في بعضها(١) مصعب بن عبدالله من قحطان و في(٢) بعضها صعب بن ذي المراثد أوّل التبابعة و كأنّه التبّع أبوكرب، و في بعضها(٣) عبدالله بن ضحّاك بن معدّ إلى غير ذلك و هي كثيرة.

و من ذلك الاختلاف في وجه تسميته بذي القرنين ففي بعضها(٤) أنّه دعا قومه إلى الله فضربوه على قرنه الأيمن فغاب عنهم زماناً ثمّ جاءهم و دعاهم إلى الله ثانياً فضربوه على قرنه الأيسر فغاب عنهم زماناً ثمّ آتاه الله الأسباب فطاف شرق الأرض و غربها فسمّي بذلك ذا القرنين، و في بعضها(٥) أنّهم قتلوه بالضربة الاُولى ثمّ أحياه الله‏ فجاءهم و دعاهم فضربوه و قتلوه ثانياً ثمّ أحياه الله و رفعه إلى السماء الدنيا ثمّ أنزله إلى الأرض و آتاه من كلّ شي‏ء سبباً.

و في بعضها(٦) أنّه نبت له بعد الإحياء الثاني قرنان في موضعي الشجّتين و سخّر الله له النور و الظلمة ثمّ لمّا نزل إلى الأرض سار فيها و دعا إلى الله و كان يزأر كالأسد و يبرق و يرعد قرناه و إذا استكبر عن دعوته قوم سلّط عليهم الظلمة فأعيتهم حتّى اضطرّوا إلى إجابتها.

و في بعضها(٧) أنّه كان له قرنان في رأسه و كان يتعمّم عليهما يواريهما بذلك و هو أوّل من تعمّم و قد كان يخفيهما عن الناس و لم يكن يطّلع على ذلك أحد إلّا

____________________

(١) البداية و النهاية.

(٢) البداية و النهاية عن ابن هشام في التيجان.

(٣) في الخصال عن محمّد بن خالد مرفوعاً، و في البداية و النهاية عن زبير بن بكار عن ابن عبّاس.

(٤) في البرهان عن الصدوق عن الأصبغ عن عليّعليه‌السلام ، و في تفسير القمّيّ عن أبي بصير عن الصادقعليه‌السلام و في الخصال عن أبي بصير عن الصادقعليه‌السلام .

(٥) في تفسير العيّاشيّ عن الأصبغ عن عليّعليه‌السلام و في الدرّ المنثور عن ابن مردويه من طريق أبي الطفيل عن عليّعليه‌السلام و رواه العيّاشيّ أيضاً و روي أيضاً في روايات اُخر.

(٦) تفسير العيّاشيّ عن الأصبغ عن عليّعليه‌السلام و في الدرّ المنثور عن عدّة عن وهب بن منبه ما في معناه.

(٧) في الدرّ المنثور عن أبي الشيخ عن وهب بن منبه.

٣٩٩

كاتبه و قد نهاه أن يخبر به أحداً فضاق صدر الكاتب بذلك فأتى الصحراء فوضع فمه بالأرض ثمّ نادى ألا إنّ للملك قرنين فأنبت الله من كلمته قصبتين فمرّ بهما راع فأعجبهما فقطعهما و اتّخذهما مزماراً فكان إذا زمر خرج من القصبتين: ألا إنّ للملك قرنين فانتشر ذلك في المدينة فأرسل إلى الكاتب و استنطقه و هدّده بالقتل إن لم يصدق فقصّ عليه القصّة فقال ذو القرنين هذا أمر أراد الله أن يبديه فوضع العمامة عن رأسه.

و قيل:(١) سمّي ذا القرنين لأنّه ملك قرني الأرض و هما المشرق و المغرب و قيل:(٢) لأنّه رأى في المنام أنّه أخذ بقرني الشمس فعبّر له بملك الشرق و الغرب و سمّي بذي القرنين، و قيل:(٣) لأنّه كان له عقيصتان في رأسه، و قيل(٤) لأنّه ملك الروم و فارس، و قيل(٥) : لأنّه كان له في رأسه شبه قرنين، و قيل(٦) لأنّه كان على تاجه‏ قرنان من الذهب إلى غير ذلك ممّا قيل.

و من ذلك اختلافها في سيره إلى المغرب و المشرق و فيه أشدّ الاختلاف فقد روي(٧) أنّه سخّر له السحاب فكان يركب السحاب و يسير في الأرض غرباً و شرقاً. و روي(٨) أنّه بلغ جبل قاف و هو جبل أخضر محيط بالدنيا منه خضرة السماء. و روي(٩) أنّه طلب عين الحياة فاُشير عليه أنّها في الظلمات فدخلها و في مقدّمته الخضر

____________________

(١) في الدرّ المنثور عن عدّة عن أبي العالية و ابن شهاب.

(٢) في نور الثقلين عن الخرائج و الحرائج عن العسكريعليه‌السلام عن عليّعليه‌السلام .

(٣) في الدرّ المنثور عن الشيرازيّ عن قتادة.

(٤) في الدرّ المنثور عن عدّة عن وهب.

(٥) المصدر السابق.

(٦) نقله في روح المعاني.

(٧) في عدّة من روايات العامّة و الخاصّة الموردة في الدرّ المنثور و البرهان و نور الثقلين و البحار.

(٨) في البرهان عن جميل عن الصادقعليه‌السلام و في الدرّ المنثور عن عبد بن حميد و غيره عن عكرمة.

(٩) في تفسير القمّيّ عن عليّعليه‌السلام و في تفسير العيّاشيّ عن هشام عن بعض آل محمّدعليه‌السلام و في الدرّ المنثور عن ابن أبي حاتم و غيره عن الباقرعليه‌السلام .

٤٠٠

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443