الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٣

الميزان في تفسير القرآن17%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 443

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 443 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 111446 / تحميل: 6255
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٣

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

اشتمال مراتب القرآن على المقدّرات الحادثة في كلّ عام:

وقال: (المسألة الثامنة) في تفسير مفردات هذه الألفاظ، أمّا قوله تعالى: ( إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ ) (1) فقد قيل فيه: إنّه تعالى أنزل كلّية القرآن، يبدأ في استنساخ ذلك من اللوح المحفوظ في ليلة البراءة، ويقع الفراغ في ليلة القدر، فتُدفع نسخة الأرزاق إلى ميكائيل ونسخة الحروب إلى جبرائيل، وكذلك الزلازل والصواعق والخسف، ونسخة الأعمال إلى إسماعيل صاحب سماء الدنيا، وهو ملك عظيم، ونسخة المصائب إلى ملك الموت، انتهى كلامه.

وقال القرطبي في تفسيره الجامع لأحكام القرآن: (في تفسير قوله تعالى: ( إنّا أَنْزَلْناهُ ) يعني القرآن، وإن لم يجرِ له ذكر في هذه السورة؛ لأنّ المعنى معلوم، والقرآن كلّه كالسورة الواحدة، وقد قال: ( شَهْرُ رَمَضانُ الَّذي اُنْزِلَ فيهِ الْقُرْآنُ ) ، وقال: ( حم وَالْكِتابِ الْمُبينِ إنّا أَنْزَلْناهُ في لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ ) (2) يريد: في ليلة القدر.

وقال الشعبي: المعنى إنّا ابتدأنا إنزاله في ليلة القدر. وقيل: بل نزل به جبريل عليه‌السلام جملة واحدة في ليلة القدر من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا، إلى بيت العزّة، وأملاه جبريل على السَفَرة، ثمّ كان جبريل ينزّله على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله نُجوماً نُجوماً، وكان بين أوّله وآخره ثلاث وعشرون سنة. قاله ابن عبّاس، وقد تقدّم في سورة البقرة.

وحكى الماوردي عن ابن عبّاس، قال: نزل القرآن في شهر رمضان وفي ليلة القدر، في ليلة مباركة جملة واحدة من عند اللَّه، من اللوح المحفوظ إلى السفرة الكرام الكاتبين في السماء الدنيا، فنجّمته السفرة الكرام الكاتبون على جبريل عشرين سنة، ونجّمه جبريل على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله عشرين سنة.

قال ابن العربي: وهذا باطل؛ ليس بين جبريل وبين اللَّه واسطة، ولا بين جبريل

____________________

1) سورة الدخان: 3.

2) سورة الدخان: 1 - 3.

٢٨١

ومحمّد عليهما‌السلام واسطة.

قوله تعالى: ( في لَيْلَةِ الْقَدْرِ ) ، قال مجاهد: في ليلة الحكم، ( وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ ) ، قال ليلة الحكم. والمعنى ليلة التقدير، سمّيت بذلك لأنّ اللَّه تعالى يقدّر فيها ما يشاء من أمره، إلى مثلها من السنة القابلة، من أمر الموت والأجل والرزق وغيره، ويسلّمه إلى مدبّرات الأُمور، وهم أربعة من الملائكة: إسرافيل، وميكائيل، وعزرائيل، وجبريل عليهم‌السلام .

أُمّ الكتاب في القرآن متضمّنة لتقدير كلّ شي‏ء:

وقال: وعن ابن عبّاس، قال: يكتب من أمّ الكتاب ما يكون في السنة من رزق ومطر، وحياة وموت، حتّى الحاجّ. قال عكرمة: يكتب حجّاج بيت اللَّه تعالى في ليلة القدر بأسمائهم وأسماء آبائهم، ما يغادر منهم أحد ولا يزاد فيهم.

وقاله سعيد بن جُبير، وقد مضى في أوّل سورة الدخان هذا المعنى. وعن ابن عبّاس أيضاً: إنّ اللَّه تعالى يقضي الأقضية في ليلة نصف شعبان، ويسلّمها إلى أربابها في ليلة القدر. وقيل: إنّما سمّيت بذلك لعظمها وقدرها وشرفها، من قولهم: لفلان قدر، أي شرف ومنزلة) (1) .

ليلة القدر عوض للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وآلهعليهم‌السلام عن غصب الخلافة:

وقال: (وفي الترمذي عن الحسن بن علي رضي اللَّه عنهما: أنّ رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله رأى بني أُمية على منبره فساءه ذلك، فنزلت ( إنّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ ) ، يعني نهراً في الجنّة، ونزلت ( إنّا أنْزَلْناهُ في لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ

____________________

1) تفسير القرطبي الجامع لأحكام القرآن، ج20، ص129 - 130، طبعة القاهرة.

٢٨٢

أَلْفِ شَهْرٍ ) ، يملكها بعدك بنو أُمية. قال القاسم بن الفضل الحدّاني: فعددناها فإذا هي ألف شهر لا تزيد يوماً ولا تنقص يوماً. قال: حديث غريب.

قوله تعالى: ( تَنَزَّلُ الْمَلائِكْةُ ) أي تهبط من كلّ سماء، ومن سدرة المنتهى، ومسكن جبريل على وسطها، فينزلون إلى الأرض ويؤمّنون على دعاء الناس إلى وقت طلوع الفجر، فذاك قوله تعالى ( تَنَزَّلُ الْمَلائِكْةُ ) .

حقيقة الروح النازل ليلة القدر:

وقال: ( وَالرُّوحُ فِيها بِإذْنِ رَبِّهِمْ ) (1) ، أي جبرئيل عليه‌السلام ، وحكى القُشيري: أنّ الروح صنف من الملائكة جُعلوا حفظة على سائرهم، وأنّ الملائكة لا يرونهم كما لا نرى نحن الملائكة. وقال مقاتل: هم أشرف الملائكة وأقربهم من اللَّه تعالى.

وقيل: إنّهم جند من جند اللَّه عزّ وجلّ من غير الملائكة، رواه مجاهد عن ابن عبّاس مرفوعاً، ذكره الماوردي، وحكى القُشيري: قيل هم صنف من خلق اللَّه، يأكلون الطعام، ولهم أيدٍ وأرجل وليسوا ملائكة.

وقيل: (الروح) خلق عظيم يقوم صفّاً، والملائكة كلّهم صفّاً. وقيل: (الروح) الرحمة ينزل بها جبريل عليه‌السلام مع الملائكة في هذه الليلة على أهلها، دليله: ( يُنَزِّلُ الْمَلآئِكَةَ بِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ) (2) ، أي بالرحمة، (فِيها) أي في ليلة القدر، ( بِإذْنِ رَبِّهِمْ ) أي بأمره، ( مِن كُلِّ أَمْرٍ ) (3) أمر بكلّ أمر قدّره اللَّه وقضاه في تلك السنة إلى قابل.

وقيل عنه: إنّها رُفعت - يعني ليلة القدر - وإنّها إنّما كانت مرّة واحدة.

____________________

1) سورة القدر: 4.

2) سورة النحل: 2.

3) سورة القدر: 5.

٢٨٣

بقاء ليلة القدر في كلّ عام:

وقال: (والصحيح أنّها باقية... والجمهور على أنّها من كلّ عام من رمضان... وقال الفرّاء: لا يقدّر اللَّه في ليلة القدر إلاّ السعادة والنعم، ويقدّر في غيرها البلايا والنقم) (1) .

وقال الطبري في تفسيره، في ذيل سورة البروج: ( فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ ) ، بسنده إلى مجاهد: في لوح، قال: ( فِي أُمِّ الْكِتَابِ ) (2) .

وقال ابن كثير في تفسيره، بعد ما نقل جملة ممّا ذكره عنه الرازي والقرطبي، والذي مرّ نقله، قال: (اختلف العلماء هل كانت ليلة القدر في الأُمم السالفة، أم هي من خصائص هذه الأُمّة؟

فقال الزهري:... وهذا الذي قاله مالك يقتضي تخصيص هذه الأُمّة بليلة القدر. وقيل: إنّها كانت في الأُمم الماضين كما هي في أُمّتنا، ثمّ هي باقية إلى يوم القيامة وفي رمضان خاصّة) (3) .

وقال الزمخشري في الكشّاف، بعد ما ذكره جملة ممّا ذكره عنه الرازي والقرطبي، في ذيل قوله تعالى: ( وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ ) (4) قال: (وسبب ارتقاء فضلها إلى هذه الغاية ما يوجد فيها من المصالح الدينية التي ذكرها، من تنزّل الملائكة والروح، وفصل كلّ أمر حكيم).

وقال في ذيل قوله تعالى ( مِنْ كُلِّ أَمْرٍ ) (5) : أي تتنزّل من أجل كلّ أمر قضاه اللَّه لتلك السنة إلى قابل... وروي عن رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله : (من قرأ سورة القدر أُعطي من الأجر كمن صام رمضان وأحيى ليلة القدر)، وذكر في هامش المطبوع: أنّ الحديث أخرجه الثعلبي، والواحدي، وابن مردويه، بسندهم إلى أُبَيّ ابن كعب.

____________________

1) تفسير القرطبي، ج20، ص133 - 137، في تفسير الجامع لأحكام القرآن طبعة القاهرة.

2) جامع البيان، ج30، ص176.

3) تفسير ابن كثير، ج4، ص 568.

4) سورة القدر: 2.

5) سورة القدر: 5.

٢٨٤

ليلة القدر عوض له صلى‌الله‌عليه‌وآله عن غصب بني أُمية خلافته، وتعدد مصادر الحديث لديهم:

وقال الآلوسي في روح المعاني: (ويستدلّ لكونها مدنية بما أخرجه الترمذي، والحاكم، عن الحسن ابن عليّ (رضي اللَّه تعالى عنهما): (أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أُري بني أُمية على منبره فساءه ذلك، فنزلت ( إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ ) (1) ، ونزلت: ( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ) (2) .. الحديث). وهو كما قال المزني: حديث منكر، انتهى.

وقد أخرج الجلال هذا الحديث في الدرّ المنثور عن جرير والطبراني وابن مردويه والبيهقي في الدلائل أيضاً، من رواية يوسف ابن سعد، وذكر فيه: أنّ الترمذي (3) أخرجه وضعّفه، وأنّ الخطيب أخرج عن ابن عبّاس نحوه، وكذا عن ابن نسيب، بلفظٍ: قال نبي اللَّه: (أُريتُ بني أُمية يصعدون منبري، فشقّ ذلك عليّ فأُنزِلت ( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ) ، ففي قول المزني هو منكر تردّد عندي.

وقد ورد في روايات أهل البيت عليهم‌السلام ما رواه الكافي بسنده إلى أبي عبد اللَّه عليه‌السلام ، قال: (أُري رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله في منامه بني أُمية يصعدون على منبره من بعده ويضلّون الناس عن الصراط القهقري، فأصبح كئيباً حزيناً، قال: فهبط عليه جبرئيل فقال: يا رسول اللَّه مالي أراك كئيباً حزيناً؟ قال: يا جبرئيل إنّي رأيت بني أُمية في ليلتي هذه يصعدون منبري من بعدي، يضلّون الناس عن الصراط القهقري. فقال: والذي بعثك بالحقّ نبيّاً إنّي ما اطّلعت عليه. فعرّج إلى السماء فلم يلبث أن نزل بآي من القرآن يُؤنسه بها، قال: ( أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءهُم مَّا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يُمَتَّعُونَ ) (4) ، وأُنزل عليه: ( إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ ) ، جعل اللَّه ليلة القدر لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله

____________________

1) سورة الكوثر: 1.

2) سورة القدر: 1.

3) سنن الترمذي، ج5، ص444، ح 3350.

4) سورة الشعراء: 205 - 207.

٢٨٥

خيراً من ألف شهر ملك بني أُمية) (1) .

وروى الكُليني، عن علي بن عيسى القمّاط عن عمّه، قال: (سمعت أبا عبد اللَّه يقول: هبط جبرئيل عليه‌السلام على رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ورسول اللَّه كئيب حزين، فقال: رأيت بني أُمية يصعدون المنابر وينزلون منها. قال: والذي بعثك بالحقّ نبيّاً، ما علمت بشي‏ء من هذا. وصعد جبرئيل إلى السماء، ثمّ أهبطه اللَّه جلّ ذكره بآي من القرآن يعزّيه بها قوله: ( أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءهُم مَّا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يُمَتَّعُونَ ) (2) .

وأنزل اللَّه جلّ ذكره: ( إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ ) للقوم، فجعل اللَّه ليلة القدر (لرسوله) خير، من ألف شهر) (3) .

وفي سند الصحيفة السجّادية، عن أبي عبد اللَّه عليه‌السلام ، قال: (إنّ أبي حدّثني عن أبيه عن جدّه عن عليّ عليه‌السلام : إنّ رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله أخذته نَعسةٌ وهو على منبره، فرأى في منامه رجالاً ينزون على منبره نزو القردة، يردّون الناس على أعقابهم القهقري، فاستوى رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله جالساً والحزن يعرف في وجهه، فأتاه جبرئيل عليه‌السلام بهذه الآية ( وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إلاّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إلاّ طُغْيَانًا كَبِيرًا ) ، يعني بني أُمية. قال: يا جبرئيل على عهدي يكونون وفي زمني؟

قال: لا، ولكن تدور رحى الإسلام من مُهاجرك فتلبث بذلك عشراً، ثمّ تدور رحى الإسلام على رأس خمسة وثلاثين من مهاجِرَك فتلبث بذلك خمساً، ثمّ لابدّ من رحى

____________________

1) الكافي، ج4، ص159.

2) سورة الشعراء:205 - 206.

3) الكافي، ج8، ص223.

٢٨٦

ضلاله هي قائمة على قطبها ثمّ ملك الفراعنة. قال: وأنزل اللَّه تعالى في ذلك: ( إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ ) يملكها بنو أُمية. فيها ليلة القدر.

قال: فأَطلع اللَّه عزّ وجلّ نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّ بني أُمية تملك سلطان هذه الأُمّة وملكها طول هذه المدّة، فلو طاولتهم الجبال لطالوا عليها، حتّى يأذن اللَّه تعالى بزوال ملكهم، وهم في ذلك يستشعرون عداوتنا أهل البيت وبغضنا. أخبر اللَّه نبيّه بما يلقي أهل بيت محمّد وأهل مودّتهم وشيعتهم منهم في أيامهم وملكهم) (1) .

وفي تأويل الآيات: (روي عن أبي بصير عن أبي عبد اللَّه عليه‌السلام ، قال: قوله عزّ وجلّ: ( خَيْرٌ مِنْ ألْفِ شَهْرٍ ) هو سلطان بني أُمية.

وقال: ليلة من إمام عادل خير من ألف شهر ملك بني أُمية.

وقال: ( تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ ) أيّ من عند ربّهم على محمّد وآل محمّد، بكلّ أمر سلام) (2) .

وفي تفسير القمّي: بسنده، في معنى سورة: ( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ) فهو القرآن... قوله: ( لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ ) .

أقول: تكثر الروايات في غصب الخلافة من بني أُمية، وتأذّي النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وتعويضه بليلة القدر، وسيأتي معنى تعويضه بليلة القدر، وتسالم كثير من علماء الجمهور بهذه الروايات، هذا الأمر أحد الأدلّة على أنّ الخلافة في الشريعة الإلهية هي منصب أهل بيت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فتدبّر تبصُر.

____________________

1) الصحيفة السجّادية الكاملة: 15 - 16.

2) تأويل الآيات، ج2، ص817، ح2.

٢٨٧

حقيقة النازل الذي نزل في ليلة القدر:

وقال في ذيل قوله تعالى ( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ) : الضمير عند الجمهور للقرآن، وادّعى الإمام فيه إجماع المفسّرين، وكأنّه لم يعتقد بقول من قال منهم برجوعه لجبرئيل عليه‌السلام أو غيره؛ لضعفه. قالوا: وفي التعبير عنه بضمير الغائب مع عدم تقدّم ذكره تعظيم له، أي تعظيم لِما أنّه يشعر بأنّه لعلوّ شأنه كأنّه حاضر عند كلّ أحد.

جهل الخلق بحقيقة ليلة القدر:

وقال في ذيل قوله تعالى ( وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ ) (1) : لِما فيه من الدلالة على أنّ علوّها خارج عن دائرة دراية الخلق، لا يُعلم ذلك، ولا يَعلم به إلاّ علاّم الغيوب.

حقيقة نزول القرآن جملة واحدة:

ثمّ ذكر جملة في تعدّد نزول القرآن جملةً واحدةً ونجوماً، وذكر في ضمنها هذه الرواية، عن ابن عبّاس: (أُنزل القرآن جملةً واحدة حتّى وضع في بيت العزّة في السماء الدنيا، ونزل به جبريل عليه‌السلام على محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله بجواب كلام العباد وأعمالهم)... ثمّ نقل الاختلاف بين المفسّرين عندهم في قوله تعالى: ( أَنْزَلْنَاهُ ) من جهة نزول القرآن جملةً واحدة، فهل تضمّن القرآن النازل جملةً واحدة هذه العبارة أم لا؟ فلابدّ من ارتكاب المجاز في الإسناد؛ لأنّه إخبار عمّا وقع فيما مضى، فكيف يكون هذا اللفظ في ضمنه؟

____________________

1) سورة القدر: 2.

٢٨٨

فذكر قولاً للرازي في حلّ الإشكال، وللقرطبي، وابن كثير، وضعّف قولهم. ونقل عن ابن حجر في شرح البخاري أنّه أُنزل جملةً واحدة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزّة في السماء الدنيا، بل حكى بعضهم الإجماع عليه، ثمّ نقل جواباً لحلّ الإشكال عن السيد عيسى الصفوي، ثمّ الاختلاف بين الدَّواني وغيره، وأنّه ألّف رسالة في ذلك، في الجواب عن مسألة الحذر الأصمّ.

ثمّ نقل عن الإتقان قول أبي شامة: فإن قلت ( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ ) إن لم يكن من جملة القرآن الذي نزل جملة، فما نزل جملة؟ وإن كان من الجملة فما وجه هذه العبارة؟

قلت: لها وجهان:

أحدهما: أن يكون المعنى إنّا حكمنا بإنزاله في ليلة القدر، وقضينا به وقدّرناه في الأزل.

والثاني: أنّ لفظ ( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ ) ماضٍ ومعناه على الاستقبال، أي تنزّله جملة في ليلة القدر. ثمّ ذكر عدم ارتضائه لهذا القول وعدم حسنه.

ثمّ نقل أقوالاً أُخر، ثمّ قال: والمراد بالإنزال إظهار القرآن من عالم الغيب إلى عالم الشهادة، أو إثباته لدى السَفَرة هناك، أو نحو ذلك ممّا لا يشكل نسبته إلى القرآن.

تقدير الأُمور في ليلة القدر على من تُنزّل؟

وقال في معنى ليلة القدر: إنّها ليلة التقدير، وسبب تسميتها بذلك لتقدير ما يكون في تلك السنة من أُمور. قال: المراد إظهار تقديره ذلك للملائكة عليهم‌السلام المأمورين بالحوادث الكونية. ثمّ نقل عن بعض تفسير ذلك: هاهنا ثلاثة أشياء:

الأوّل: نفس تقدير الأُمور، أي تعيين مقاديرها وأوقاتها، وذلك في الأزل.

٢٨٩

الثاني: إظهار تلك المقادير للملائكة عليهم‌السلام بأن تكتب في اللوح المحفوظ، وذاك في ليلة النصف من شعبان.

الثالث: إثبات تلك المقادير في نسخ وتسليمها إلى أربابها من المدبّرات، فتدفع نسخة الأرزاق، والنباتات، والأمطار، إلى ميكائيل عليه‌السلام ، ونسخة الحروب والرياح والجنود والزلازل والصواعق والخسف إلى جبرئيل عليه‌السلام ، ونسخة الأعمال إلى إسرافيل عليه‌السلام ، ونسخة المصائب إلى ملك الموت، وذلك في ليلة القدر.

وقيل: يقدّر في ليلة النصف الآجال والأرزاق، وفي ليلة القدر الأُمور التي فيها الخير والبركة والسلامة. وقيل: يقدّر في هذه ما يتعلّق به إعزاز الدين وما فيه النفع العظيم للمسلمين، وفي ليلة النصف يكتب أسماء من يموت ويسلّم إلى ملك الموت، واللَّه تعالى أعلم بحقيقة الحال.

أقول: إنّ المكتوب في ليلة القدر ويقدّر يُفترض أنّ كتابته وتقديره إنّما يُكتب ويقدّر لتسليمه إلى من يوكّل إليه تدبير الأُمور بإذن اللَّه، كالملائكة الموكّلين، فالتنزّل بكلّ هذه التقديرات والكتابة إلى الأرض إلى من يسلّم؟ ومن هو الذي يطّلع على ذلك من أهل الأرض؟ وما هو التناسب بين نزول ما فيه إعزاز الدين والأُمّة، والحديث النبويّ: (إنّ الإسلام لا يزال عزيزاً إلى اثني عشر خليفة... كلّهم من قريش) (1) ؟

أقوال علماء سنّة الجماعة في عِوَضية الليلة له عن غصب الخلافة:

قال في تفسير ( أَلْفِ شَهْرٍ ) : وقد سمعت إلى ما يدلّ أنّ الألف إشارة إلى مُلك بني أُميّة، وكان على ما قال القاسم بن الفضل: ألف شهر، لا يزيد يوماً ولا ينقص

____________________

1) المعجم الكبير للطبراني، ج2، ص232. ولاحظ: إحقاق الحق، ج13، 1 - 49.

٢٩٠

يوماً، على ما قيل: ثمانين سنة، وهي ألف شهر تقريباً؛ لأنّها ثلاثة وثمانون سنة وأربعة أشهر، ولا يعكّر على ذلك ملكُهم في جزيرة الأندلس بعد؛ لأنّه ملك يسير في بعض أطراف الأرض وآخر عمارة العرب، ولذا لا يعدّ من مَلَكَ منهم هناك من خلفائهم، وقالوا بانقراضهم بهلاك مروان الحمار.

وطعن القاضي عبد الجبّار في كون الآية إشارة لما ذُكر؛ بأنّ أيام بني أُمية كانت مذمومة أي باعتبار الغالب، فيبعد أن يقال في شأن تلك الليلة إنّها خير من ألف شهر مذمومة:

ألم ترَ أنّ السيف ينقص قدره

إذا قيل إنّ السيف خيرٌ من العصا

وأُجيب: إنّ تلك الأيام كانت عظيمة بحسب السعادات الدنيوية، فلا يبعد أن يقول اللَّه تعالى: أعطيتك ليلة في السعادات الدينية أفضل من تلك في السعادات الدنيوية، فلا تبقى فائدة.

ليلة القدر مع الأنبياء في ما مضى فهي مع من في ما بقي:

الروح النازل في ليلة القدر قناة غيبية كانت مع الأنبياء، فهي مع من بعد النبيّ الخاتم؟ قال: وما أشير إليه من خصائص هذه الأُمّة هو الذي يقتضيه أكثر الأخبار الواردة في سبب النزول، وصرّح به الهيثمي وغيره.

وقال القسطَلاني: إنّه معترض بحديث أبي ذر عند النسائي، حيث قال فيه: (يا رسول اللَّه، أتكون مع الأنبياء فإذا ماتوا رُفعت. قال: بل هي باقية). ثمّ ذكر أنّ عمدة القائلين بذلك الخبر الذي قدّمناه في سبب النزول من رؤيته صلى‌الله‌عليه‌وآله تقاصر أعمار أُمّته عن أعمار الأُمم، وتعقّبه بقوله هذا محتمل للتأويل، فلا يدفع الصريح في حديث أبي ذر كما قاله الحافظان: ابن كثير في تفسيره، وابن حجر في فتح الباري.

٢٩١

وقد اختلف العلماء في ليلة القدر اختلافاً كثيراً، وتحصّل لنا من مذاهبهم في ذلك أكثر من أربعين قولاً، كما وقع لنا نظير ذلك في ساعة الجمعة، وقد اشتركتا في إخفاء كلّ منهما ليقع الجدّ في طلبهما:

القول الأوّل: إنّها رُفعت أصلاً ورأساً. حكاه المتولّي في التتمّة عن الروافض، والفاكهاني في شرح العمدة عن الحنفية، وكأنّه خطأ منه، والذي حكاه السروجي أنّه قول الشيعة.

أقول: بل الشيعة الإمامية هم المذهب الوحيد على وجه الأرض القائلون ببقاء الاتّصال بين الأرض والسماء، وأنّ هناك سبب متّصل هو الإمام من عِترة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وإن لم يكن هذا الاتّصال وحياً نبويّاً، وهو الذي يتنزّل عليه الروح الأعظم والملائكة كلّ عام بعد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، بينما المذاهب الإسلامية كلّها حتّى الزيدية، وإن قالوا باستمرار الإمامة السياسية وعدم حصرها بالأئمّة المنصوص عليهم وأنّ الإمامة هي لكلّ من قام بالثورة على الظلم ولا يشترط فيها العصمة، إلاّ أنّهم قائلون بانقطاع الاتّصال أيضاً بين الغيب والشهادة.

وانقطاع الاتّصال ذهبت إليه اليهود بعد النبيّ موسى عليه‌السلام ، كما ذهبت إليه النصارى بعد النبيّ عيسى عليه‌السلام .

وقال: وقد روى عبد الرزّاق من طريق داود بن أبي عاصم، عن عبد اللَّه بن يخنس: قلت لأبي هريرة: زعموا أنّ ليلة القدر رُفعت، قال: كذّب من قال ذلك. ومن طريق عبد اللَّه بن شُريك قال: ذكر الحجاج ليلة القدر فكأنّه أنكرها، فأراد زر بن حُبيش أن يحصبه فمنعه قومه.

الثاني: إنّها خاصّة بسنة واحدة وقعت في زمن رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، حكاه الفاكهاني أيضاً.

الثالث: إنّها خاصّة بهذه الأُمّة، ولم تكن في الأُمم قبلهم، جزم به ابن حبيب وغيره من المالكية ونقله الجمهور، وحكاه صاحب العدّة من الشافعية ورجّحه،

٢٩٢

وهو معترض بحديث أبي ذر عند النسائي، حيث قال فيه: قلت: يا رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله أتكون مع الأنبياء فإذا ماتوا رفعت قال: لا، بل هي باقية.

وعمدتهم قول مالك في الموطأ: بلغني أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) تقاصر أعمار أمّته عن أعمار الأُمم الماضية، فأعطاه اللَّه ليلة القدر، وهذا يحتمل التأويل، فلا يدفع التصريح في حديث أبي ذر (1) .

ليلة القدر يفصل فيها المقدّرات لأحداث كلّ السنة:

وقال الآلوسي في روح المعاني في تفسير قوله تعالى ( مِنْ كُلِّ أَمْرٍ ) (2) : أي من أجل كلّ أمر تعلّق به التقدير في تلك السنة إلى قابل وأظهره سبحانه وتعالى لهم، قاله غير واحد. ف)من(بمعنى اللام التعليلية متعلّقة بتنزّل، وقال أبو حاتم: (من) بمعنى الباء، أي تنزّل بكلّ أمر، فقيل: أي من الخير والبركة، وقيل: من الخير والشرّ وجعلت الباء عليه للسببية.

والظاهر على ما قالوا إنّ المراد بالملائكة المدبّرات؛ إذ غيرهم لا تعلّق له بالأُمور التي تعلّق بها التقدير ليتنزّلوا لأجلها على المعنى السابق، وهو خلاف ما تدلّ عليه الآثار من عدم اختصاصهم بالمدبّرات (3) .

ليلة القدر يتحقّقها وتتنزّل على من شاء اللَّه تعالى من عباده:

جاء في شرح صحيح مسلم للنووي قوله: (اعلم أنّ ليلة القدر موجودة... وأنّها تُرى ويتحققّها من شاء اللَّه تعالى من بني آدم كلّ سنة في رمضان، كما تظاهرت عليه الأحاديث... وأخبار الصالحين بها، ورؤيتهم لها أكثر من أن تُحصر. وأمّا قول القاضي عيّاض عن المهلّب بن أبي صُفرة: لا يمكن رؤيتها حقيقةً. فغلط فاحش

____________________

1) فتح الباري، ص262 - 263، كتاب فضل ليلة القدر.

2) سورة القدر: 6.

3) روح المعاني، ج30، ص196.

٢٩٣

نبهتُ عليه لئلاّ يُغترّ به) (1) .

وقال في ذيل سورة الدخان، في قوله تعالى ( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ ) (2) : أي الكتاب المبين الذي هو القرآن على القول المعوّل عليه في ( لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ ) هي ليلة القدر، على ما روي عن ابن عبّاس وقتادة.

وفي تحفة المحتاج لابن حَجَر الهيتمي: (ليس لرائيها كَتْمها، ولا ينال فضلها - أي كمالها - إلاّ من أطلعه اللَّه عليها)، انتهى.

والظاهر أنّه عَنى برؤيتها: رؤية ما يحصل به العلم له بها، ممّا خُصّت به من الأنوار، وتنزّل الملائكة عليهم‌السلام ، أي: نحوٍ من الكشف ممّا لا يعرف حقيقته إلاّ أهله، وهو كالنصّ في أنّها يراها من شاء اللَّه تعالى من عباده. ثمّ حكى عن ابن شاهين: إنّه لا يراها أحد من الأوّلين والآخرين إلاّ نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله .

ثمّ قال: وفي بعض الأخبار ما يدلّ على أنّ رؤيتها مناماً وقعت لغيره صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ففي صحيح مسلم وغيره، عن ابن عمر: (إنّ رجالاً من أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أُروا ليلة القدر في المنام في السبع الأواخر، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : أرى رؤياكم قد تواطأت في السبع الأواخر، فمن كان متحرّياً فليتحرَّها في السبع الأواخر) (3) .

وحُكي نحو قول ابن شاهين عن غيره أيضاً، وغلّط، ففي شرح صحيح مسلم وابن جُبير ومجاهد وابن زيد والحسن، وعليه أكثر المفسّرين والظواهر معهم.. والمراد بإنزاله في تلك الليلة إنزاله فيها جملةً إلى السماء الدنيا من اللوح، فالإنزال المنجّم في ثلاث وعشرين سنة أو أقل كان من السماء الدنيا، وروي هذا عن ابن جرير وغيره، وذكر أنّ المحلّ الذي أُنزل فيه من تلك السماء البيت المعمور، وهو

____________________

1) شرح مسلم، ج8، ص66.

2) سورة الدخان: 3.

3) صحيح مسلم، ج3، ص170.

٢٩٤

مسامِت للكعبة، بحيث لو نزل لنزل عليها.

وأخرج سعيد بن منصور عن إبراهيم النخعي أنّه قال: أُنزل القرآن جملةً على جبرئيل عليه‌السلام ، وكان جبرئيل عليه‌السلام يجي‏ء به بعدُ إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله .

ليلة القدر في سورة الشورى والنزول الأول للقرآن:

وقال في ذيل قوله تعالى: ( وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ... ) (1) : وهو ما أُوحي إليه (عليه الصلاة والسلام)، أو القرآن الذي هو للقلوب بمنزلة الروح للأبدان حيث يحييها حياة أبدية. وقيل: أي ومثل الإيحاء المشهود لغيرك، أوحينا أبو القاسم إليك. وقيل: أي مثل ذلك الإيحاء المفصّل، أوحينا إليك، إذ كان عليه الصلاة والسلام اجتمعت له الطرق الثلاث، سواء فُسّر الوحي بالإلقاء، أم فُسّر بالكلام الشفاهي.

وقد ذُكر أنّه (عليه الصلاة والسلام) قد أُلقي إليه في المنام كما أُلقي إلى إبراهيم عليه‌السلام ، وأُلقي إليه عليه الصلاة والسلام في اليقظة على نحو إلقاء الزبور إلى داود عليه‌السلام . ففي (الكبريت الأحمر) للشعراني، نقلاً عن الباب الثاني من (الفتوحات المكّية): أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله أُعطي القرآن مجملاً قبل جبرئيل عليه‌السلام ، من غير تفصيل الآيات والسور. وعن ابن عبّاس تفسير الروح بالنبوّة. وقال الربيع: هو جبرئيل عليه‌السلام .

وعليه، فأوحينا مضمّن معنى أرسلنا، والمعنى: أرسلناه بالوحي إليك؛ لأنّه لا يقال: أوحى الملك بل أرسله.

ونقل الطبرسي عن أبي جعفر، وأبي عبد اللَّه (رضي اللَّه تعالى عنهما): أنّ المراد بهذا الروح ملك أعظم من جبرئيل وميكائيل، كان مع رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ولم يصعد

____________________

1) سورة الشورى 52: 42.

٢٩٥

إلى السماء. وهذا القول في غاية الغرابة، ولعلّه لا يصحّ عن هذين الإمامين.

وتنوين (روحاً) للتعظيم، أي روحاً عظيماً (1) ... وقال في ذيل قوله تعالى ( وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ ) : أي الروح الذي أوحيناه إليك. وقال ابن عطية: الضمير للكتاب، وقيل للإيمان، ورجّح بالقرب، وقيل للكتاب والإيمان ووحّد؛ لأنّ مقصدهما واحد فهو نظير ( وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ ) (2) .

____________________

1) روح المعاني، ج25، ص 80 - 81.

2) سورة التوبة: 62.

٢٩٦

ليلة القدر

في روايات أهل سنّة الخلافة

دوام ليلة القدر في كلّ عام إلى يوم القيامة:

1 - فقد روى عبد الرزّاق الصنعاني في (المصنّف) بسنده، عن مولى معاوية، قال: (قلت لأبي هريرة: زعموا أنّ ليلة القدر قد رُفعت، قال: كذّب من قال كذلك، قلت: فهي كلّ شهر رمضان استقبله؟ قال: نعم... الحديث) (1) ، ورواه عنه بطريق آخر (2) ، ورواه كنز العمّال أيضاً (3) .

2 - وروى عبد الرزّاق الصنعاني في المصنّف بسنده، عن ابن عبّاس، قال: (ليلةٌ في كلّ رمضان يأتي، قال: وحدّثني يزيد بن عبد اللَّه بن الهاد: أنّ رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله سُئِل عن ليلة القدر، فقيل له: كانت مع النبيّين ثمّ رُفعت حين قُبضوا، أو هي في كلّ سنة؟ قال: بل هي في كلّ سنة، بل هي في كلّ سنة) (4) .

3 - وروي عن ابن جرير، قال: (حُدّثت: أنّ شيخاً من أهل المدينة سأل أبا ذر بمنى، فقال: رُفعت ليلة القدر أم هي في كلّ رمضان؟ فقال أبو ذر: سألت رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله فقلت: يا رسول اللَّه رُفعت ليلة القدر؟ قال: بل هي كلّ رمضان) (5) .

4 - وروى ابن أبي شيبة الكوفي في المصنّف في باب ليلة القدر، بسنده إلى ابن

____________________

1) المصنّف، ج3، ص216، ح 5586.

2) المصنّف، ج3، ص255، ح 7707.

3) كنز العمّال، ج3، ص634، ح 24490.

4) المصنّف، ج4، ص255، ح 7708.

5) المصنّف، ج4، ص255، ح 7709، وأخرجه هق، ج4، ص307، والطحاوي، ج2، ص50.

٢٩٧

أبي مرثد عن أبيه، قال: (كنت مع أبي ذر عند الجمرة الوسطى، فسألته عن ليلة القدر، فقال: كان أسأل الناس عنها رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله أنا: ليلة القدر كانت تكون على عهد الأنبياء فإذا ذهبوا رُفعت؟ قال: لا ولكن تكون إلى يوم القيامة) (1) .

5 - أخرج السيوطي في الدرّ المنثور: (عن محمّد بن نصر، عن سعيد بن المسيّب أنّه سُئل عن ليلة القدر، أهي شي‏ء كان فذهب، أم هي في كلّ عام؟ فقال: بل هي لأُمّة محمّد ما بقي منهم اثنان) (2) .

أقول: وفي هذه الرواية - وإن كانت مقطوعة - دلالةٌ على أن لو بقي في الأرض رجلٌ واحد لكان الثاني هو الحجّة وخليفة اللَّه في الأرض، الذي تنزّل عليه ليلة القدر بمقادير الأُمور، وأنّ ليلة القدر هي من حقائق وخصائص روح الحجّة في الأرض.

6 - وروى الطبري بسنده عن ربيعة بن كلثوم، قال: (قال رجل للحسن وأنا أسمع: أرأيت ليلة القدر في كلّ رمضان هي؟ قال: نعم، واللَّه الذي لا إله إلاّ هو إنّها لفي كلّ رمضان، وأنّها ليلة القدر، فيها يُفرق كلّ أمر حكيم، فيها يقضي اللَّه كلّ أجل وعمل ورزق إلى مثلها) (3) .

النزول في ليلة القدر وحي للأنبياء، واستمراره بعد الأنبياء:

قال ابن خزيمة في صحيحه (4) : باب ذكر أبواب ليلة القدر، والتأليف بين الأخبار المأثورة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فيها ما يحسب كثيراً من حملة العلم، ممّن لا يفهم صناعة العلم، أنّها متهاتِرةٌ متنافية، وليس كذلك هي عندنا بحمد اللَّه ونعمته، بل هي

____________________

1) المصنّف لابن أبي شيبة، ج2، ص394، ح 5، باب 341.

2) الدرّ المنثور، ج6، ص371، في ذيل سورة القدر.

3) جامع البيان، ج25، ص139، ح24000.

4) صحيح ابن خزيمة، ج3، ص320.

٢٩٨

مختلفة الألفاظ متّفقة المعنى، على ما سأبيّنه إن شاء اللَّه.

قال أيضاً: باب ذكر دوام ليلة القدر في كلّ رمضان إلى قيام الساعة، ونفي انقطاعها بنفي الأنبياء.

7 - وروى بسنده إلى أبي مرثد، قال: (قال: لقينا أبا ذر وهو عند الجمرة الوسطى، فسألته عن ليلة القدر، فقال: ما كان أحد بأَسأل لها منّي، قلت: يا رسول اللَّه ليلة القدر أُنزلت على الأنبياء بوحي إليهم فيها ثمّ ترجع؟ فقال: بل هي إلى يوم القيامة.. الحديث) (1) ، ورواه بطريق آخر أيضاً، في باب أنّ ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان (2) .

8 - وروى النسائي، والقسطلاني، والهيثمي، وابن حجر في فتح الباري، وابن كثير في تفسيره حديث أبي ذر - في ليلة القدر - قال: (يا رسول اللَّه أتكون مع الأنبياء فإذا ماتوا رُفعت؟ قال: بل هي باقية).

9 - وروى أحمد بن محمّد بن سلمة في شرح معاني الآثار، في باب الرجل يقول لامرأته أنت طالق ليلة القدر، متى يقع الطلاق؟ بسنده، إلى مالك ابن مرثد عن أبيه، قال: (سألت أبا ذر فقلت: أسألت رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله عن ليلة القدر؟ قال: نعم، كنت أسأل الناس عنها، قال عكرمة: يعني أشبع سؤلاً، قلت: يا رسول اللَّه، ليلة القدر أفي رمضان هي أم في غيره؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : في رمضان. قلت: وتكون مع الأنبياء ما كانوا فإذا رُفعوا رُفعت؟ قال: بل هي إلى يوم القيامة) (3) .

10 - وفي صحيح ابن حِبان، قال في باب ذكر البيان بأنّ ليلة القدر تكون في العشر الأواخر كلّ سنة إلى أن تقوم الساعة، ثمّ روى بسند متّصل رواية أبي ذر

____________________

1) صحيح ابن خزيمة، ج3، ص320.

2) صحيح ابن خزيمة، ج3، ص321.

3) شرح معاني الآثار، ج3، ص85.

٢٩٩

المتقدِّمة واللفظ فيها... (تكون في زمان الأنبياء ينزل عليهم الوحي، فإذا قُبضوا رُفعت؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : بل هي إلى يوم القيامة) (1) .

وروى البيهقي في فضائل الأوقات رواية أبي ذر المتقدّمة بإسناده (2) ، وقال - قبل تلك الرواية -: وليلة القدر التي ورد القرآن بفضيلتها إلى يوم القيامة وهي في كلّ رمضان... ثمّ نقل الخبر المزبور. وروى الهيثمي في موارد الظمآن رواية أبي ذر بسنده (3) .

11 - وروى أحمد بن محمّد بن سَلمة في معاني الآثار، في باب الرجل يقول لامرأته أنت طالق ليلة القدر، متى يقع الطلاق؟ بسنده إلى سعيد بن جبير عن ابن عمر، قال: (سُئل رسول اللَّه صلى‌الله‌عليه‌وآله وأنا أسمع عن ليلة القدر؟ فقال: في كلّ رمضان). ففي هذا الحديث أنّها في كلّ رمضان، فقال قوم هذا دليل على أنّها تكون في أوّله وفي وسطه، كما قد تكون في آخره. وقد يحتمل قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : (في كلّ رمضان)، هذا المعنى، ويحتمل أنّها في كلّ رمضان إلى يوم القيامة (4) ، ورواه بطرق أخرى غير مرفوعة.

أقول: هذه الروايات عند العامّة مطابقة لما يأتي من الروايات عند أهل البيت عليهم‌السلام ، من عدّة وجوه، أهمّها:

أوّلاً: ليلة القدر كانت من لَدُن آدم عليه‌السلام ، واستمرّت إلى النبيّ الخاتم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهي مستمرّة إلى يوم القيامة نزولاً على خلفاء النبيّ الاثني عشر.

وثانياً: إنّ هذا الروح النازل في ليلة القدر هو قناة ارتباط الأنبياء والأوصياء مع الغيب.

وثالثاً: ممّا يدلّل على عموم الخلافة الإلهية: ( إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ

____________________

1) صحيح ابن حِبّان، ج8، ص438.

2) البيهقي، ص 219.

3) موارد الظمآن، ص 231.

4) شرح معاني الحديث، ج3، ص84.

٣٠٠

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

لله، و أنّ الولاية بمعنى النصرة أي إنّ الله سبحانه هو الناصر للإنسان حين يحيط به البلاء و ينقطع عن كافّة الأسباب لا ناصر غيره.

و هذا معنى حقّ في نفسه لكنّه لا يناسب الغرض المسوق له الآيات و هو بيان أنّ الأمر كلّه لله سبحانه و هو الخالق لكلّ شي‏ء المدبّر لكلّ أمر، و ليس لغيره إلّا سراب الوهم و تزيين الحياة لغرض الابتلاء و الامتحان، و لو كان كما ذكروه لكان الأنسب توصيفه تعالى في قوله:( لِلَّهِ الْحَقِّ ) بالقوّة و العزّة و القدرة و الغلبة و نحوها لا بمثل الحقّ الّذي يقابل الباطل، و أيضاً لم يكن لقوله:( هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَ خَيْرٌ عُقْباً ) وجه ظاهر و موقع جميل.

و الحقّ و الله أعلم أنّ الولاية بمعنى مالكيّة التدبير و هو المعنى الساري في جميع اشتقاقاتها كما مرّ في الكلام على قوله تعالى:( إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَ رَسُولُهُ ) المائدة: ٥٥ أي عند إحاطة الهلاك و سقوط الأسباب عن التأثير و تبيّن عجز الإنسان الّذي كان يرى لنفسه الاستقلال و الاستغناء ولاية أمر الإنسان و كلّ شي‏ء و ملك تدبيره لله لأنّه إله حقّ له التدبير و التأثير بحسب واقع الأمر و غيره من الأسباب الظاهريّة المدعوّة شركاء له في التدبير و التأثير باطل في نفسه لا يملك شيئاً من الأثر إلّا ما أذن الله له و ملّكه إيّاه و ليس له من الاستقلال إلّا اسمه بحسب ما توهّمه الإنسان فهو باطل في نفسه حقّ بالله سبحانه و الله هو الحقّ بذاته المستقلّ الغنيّ في نفسه.

و إذا اُخذ بالقياس بينه - تعالى عن القياس - و بين غيره من الأسباب المدعوّة شركاء في التأثير كان الله سبحانه خيراً منها ثواباً فإنّه يثيب من دان له ثواباً حقّاً و هي تثيب من دان لها و تعلّق بها ثواباً باطلاً زائلاً لا يدوم و هو مع ذلك من الله و بإذنه، و كان الله سبحانه خيراً منها عاقبة لأنّه سبحانه هو الحقّ الثابت الّذي لا يفنى و لا يزول و لا يتغيّر عمّا هو عليه من الجلال و الإكرام، و هي اُمور فانية متغيّرة جعلها الله زينة للحياة الدنيا يتولّه إليها الإنسان و تتعلّق بها قلبه حتّى يبلغ الكتاب أجله و إنّ الله لجاعلها صعيداً جرزاً.

٣٦١

و إذا كان الإنسان لا غنى له عن التعلّق بشي‏ء ينسب إليه التدبير و يتوقّع منه إصلاح شأنه فربّه خير له من غيره لأنّه خير ثواباً و خير عقباً.

و ذكر بعضهم أنّ الإشارة بقوله:( هُنالِكَ ) إلى يوم القيامة فيكون المراد بالثواب و العقب ما في ذلك اليوم. و السياق كما تعلم لا يساعد على شي‏ء من ذلك.

قوله تعالى: ( وَ اضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ ) إلخ هذا هو المثل الثاني ضرب لتمثيل الحياة الدنيا بما يقارنها من الزينة السريعة الزوال.

و الهشيم فعيل بمعنى مفعول من الهشم، و هو على ما قال الراغب كسر الشي‏ء الرخو كالنبات، و ذرا يذرو ذروا أي فرّق، و قيل: أي جاء به و ذهب، و قوله:( فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ ) و لم يقل: اختلط بنبات الأرض إشارة إلى غلبته في تكوين النبات على سائر أجزائه، و لم يذكر مع ماء السماء غيره من مياه العيون و الأنهار لأنّ مبدأ الجميع ماء المطر، و قوله:( فَأَصْبَحَ هَشِيماً ) أصبح فيه - كما قيل - بمعنى صار فلا يفيد تقييد الخبر بالصباح.

و المعنى: و اضرب لهؤلاء المتولّهين بزينة الدنيا المعرضين عن ذكر ربّهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء و هو المطر فاختلط به نبات الأرض فرفّ نضارة و بهجة و ظهر بأجمل حليّة فصار بعد ذلك هشيماً مكسّراً متقطّعاً تعبث به الرياح تفرّقة و تجي‏ء به و تذهب و كان الله على كلّ شي‏ء مقتدراً.

قوله تعالى: ( الْمالُ وَ الْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا ) إلى آخر الآية. الآية بمنزلة النتيجة للمثل السابق و هي أنّ المال و البنين و إن تعلّقت بها القلوب و تاقت إليها النفوس تتوقّع منها الانتفاع و تحفّ بها الآمال لكنّها زينة سريعة الزوال غارّة لا يسعها أن تثيبه و تنفعه في كلّ ما أراده منها و لا أن تصدقه في جميع ما يأمله و يتمنّاه بل و لا في أكثره ففي الآية - كما ترى - انعطاف إلى بدء الكلام أعني قوله:( إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها ) الآيتين.

و قوله:( وَ الْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَ خَيْرٌ أَمَلًا ) المراد

٣٦٢

بالباقيات الصالحات الأعمال الصالحة فإنّ أعمال الإنسان محفوظة له عندالله بنصّ القرآن فهي باقية و إذا كانت صالحة فهي باقيات صالحات، و هي عند الله خير ثواباً لأنّ الله يجازي الإنسان الجائي بها خير الجزاء، و خير أملا لأنّ ما يؤمل بها من رحمة الله و كرامته ميسور للإنسان فهي أصدق أملا من زينات الدنيا و زخارفها الّتي لا تفي للإنسان في أكثر ما تعدّ، و الآمال المتعلّقة بها كاذبة على الأغلب و ما صدق منها غارّ خدوع.

و قد ورد من طرق الشيعة و أهل السنّة عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و من طرق الشيعة عن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام عدّة من الروايات: أنّ الباقيات الصالحات التسبيحات الأربع: سبحان الله و الحمد لله و لا إله إلّا الله و الله أكبر، و في اُخرى أنّها الصلاة و في اُخرى مودّة أهل البيت و هي جميعاً من قبيل الجري و الانطباق على المصداق.

٣٦٣

( سورة الكهف الآيات ٤٧ - ٥٩)

وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا ( ٤٧ ) وَعُرِضُوا عَلَىٰ رَبِّكَ صَفًّا لَّقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ  بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّن نَّجْعَلَ لَكُم مَّوْعِدًا ( ٤٨ ) وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَٰذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا  وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا  وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا ( ٤٩ ) وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ  أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ  بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا ( ٥٠ ) مَّا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا ( ٥١ ) وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُم مَّوْبِقًا ( ٥٢ ) وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُم مُّوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا ( ٥٣ ) وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَٰذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٍ  وَكَانَ الْإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا ( ٥٤ ) وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَىٰ وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَن تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا ( ٥٥ ) وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ  وَيُجَادِلُ الَّذِينَ

٣٦٤

كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ  وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنذِرُوا هُزُوًا( ٥٦) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ  إِنَّا جَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا  وَإِن تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَىٰ فَلَن يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا( ٥٧) وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ  لَوْ يُؤَاخِذُهُم بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ  بَل لَّهُم مَّوْعِدٌ لَّن يَجِدُوا مِن دُونِهِ مَوْئِلًا( ٥٨) وَتِلْكَ الْقُرَىٰ أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا( ٥٩)

( بيان)

الآيات متّصلة بما قبلها تسير مسيرها في تعقيب بيان أنّ هذه الأسباب الظاهريّة و زخارف الدنيا الغارّة زينة الحياة سيسرع إليها الزوال و يتبيّن للإنسان أنّها لا تملك له نفعاً و لا ضرّاً و إنّما يبقى للإنسان أو عليه عمله فيجازى به.

و قد ذكرت الآيات أوّلاً قيام الساعة و مجي‏ء الإنسان فردا ليس معه إلّا عمله ثمّ تذكّر إبليس و إباءه عن السجدة لآدم و فسقه عن أمر ربّه و هم يتّخذونه و ذرّيّته أولياء من دون الله و هم لهم عدوّ ثمّ تذكّر يوم القيامة و إحضارهم و شركاءهم و ظهور انقطاع الرابطة بينهم و تعقّب ذلك آيات اُخر في الوعد و الوعيد، و الجميع بحسب الغرض متّصل بما تقدّم.

قوله تعالى: ( يَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَ تَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً وَ حَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً ) الظرف متعلّق بمقدّر و التقدير( و اذكر يوم نسير) و تسيير الجبال بزوالها عن مستقرّها و قد عبّر سبحانه عنه بتعبيرات مختلفة كقوله:( وَ كانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلًا ) المزّمّل: ١٤، و قوله:( وَ تَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ ) القارعة: ٥

٣٦٥

و قوله:( فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا ) الواقعة: ٦، و قوله:( وَ سُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً ) النبأ: ٢٠.

و المستفاد من السياق أنّ بروز الأرض مترتّب على تسيير الجبال فإذا زالت الجبال و التلال ترى الأرض بارزة لا تغيب ناحية منها عن اُخرى بحائل حاجز و لا يستتر صقع منها عن صقع بساتر، و ربّما احتمل أن تشير إلى ما في قوله:( وَ أَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها ) الزمر: ٦٩.

و قوله:( وَ حَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً ) أي لم نترك منهم أحداً فالحشر عامّ للجميع.

قوله تعالى: ( عُرِضُوا عَلى‏ رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ) إلخ السياق يشهد على أنّ ضمير الجمع في قوله:( عرِضُوا ) و كذا ضميرا الجمع في الآية السابقة للمشركين و هم الّذين اطمأنّوا إلى أنفسهم و الأسباب الظاهريّة الّتي ترتبط بها حياتهم، و تعلّقوا بزينة الحياة كالمتعلّق بأمر دائم باق فكان ذلك انقطاعاً منهم عن ربّهم، و إنكاراً للرجوع إليه، و عدم مبالاة بما يأتون به من الأعمال أرضى الله أم أسخطه.

و هذه حالهم ما دام أساس الامتحان الإلهيّ و الزينة المعجّلة بين أيديهم و الأسباب الظاهريّة حولهم و لمّا يقض الأمر أجله ثمّ إذا حان الحين و تقطّعت الأسباب و طاحت الآمال و جعل الله ما عليها من زينة صعيداً جرزاً لم يبق إذ ذاك لهم إلّا ربّهم و أنفسهم و صحيفة أعمالهم المحفوظة عليهم، و عرضوا على ربّهم - و ليسوا يرونه ربّا لهم و إلّا لعبدوه - صفّاً واحداً لا تفاضل بينهم بنسب أو مال أو جاه دنيوي لفصل القضاء تبيّن لهم عند ذلك أنّ الله هو الحقّ المبين و أنّ ما يدعونه من دونه و تعلّقت به قلوبهم من زينة الحياة و استقلال أنفسهم و الأسباب المسخّرة لهم ما كانت إلّا أوهاماً لا تغني عنهم من الله شيئاً و قد أخطأوا إذ تعلّقوا بها و أعرضوا عن سبيل ربّهم و لم يجروا على ما أراده منهم بل كان ذلك منهم لأنّهم توهّموا أن لا موقف هناك يوقفون فيه فيحاسبون عليه.

٣٦٦

و بهذا البيان يظهر أنّ هذا الجمل الأربع:( و عُرِضُوا ) إلخ( لقَدْ جِئْتُمُونا ) إلخ( بَل زَعَمْتُمْ‏ ) إلخ( وَ وُضِعَ الْكِتابُ ) إلخ نكت أساسيّة مختارة من تفصيل ما يجري يومئذ بينهم و بين ربّهم من حين يحشرون إلى أن يحاسبوا، و اكتفي بها إيجازاً في الكلام لحصول الغرض بها.

فقوله:( و عُرِضُوا عَلى‏ رَبِّكَ صَفًّا ) إشارة أوّلاً إلى أنّهم ملجؤون إلى الرجوع إلى ربّهم و لقائه فيعرضون عليه عرضاً من غير أن يختاروه لأنفسهم، و ثانياً أن لا كرامة لهم في هذا اللقاء، و يشعر به قوله( على‏ رَبِّكَ) و لو اُكرموا لقيل: ربّهم كما قال:( جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ ) البيّنة: ٨ و قال:( إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ ) هود: ٢٩، أو قيل: عرضوا علينا جريا على سياق التكلّم السابق، و ثالثاً أنّ أنواع التفاضل و الكرامات الدنيويّة الّتي اختلقتها لهم الأوهام الدنيويّة من نسب و مال و جاه قد طاحت عنهم فصفّوا صفّاً واحداً لا تميّز فيه لعال من دان و لا لغنيّ من فقير و لا لمولى من عبد، و إنّما الميز اليوم بالعمل و عند ذلك يتبيّن لهم أنّهم أخطأوا الصواب في حياتهم الدنيا و ضلّوا السبيل فيخاطبون بمثل قوله:( لقَدْ جِئْتُمُونا ) إلخ.

و قوله( لقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ) مقول القول و التقدير و قال لهم أو قلنا لهم: لقد جئتمونا إلخ، و في هذا بيان خطإهم و ضلالهم في الدنيا إذ تعلّقوا بزينتها و زخرفها فشغلهم ذلك عن سلوك سبيل الله و الأخذ بدينه.

و قوله:( بل زَعَمْتُمْ أَن لَنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً ) في معنى قوله:( أَ فَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَ أَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ ) المؤمنون: ١١٥ و الجملة إن كانت إضراباً عن الجملة السابقة على ظاهر السياق فالتقدير ما في معنى قولنا: شغلتكم زينة الدنيا و تعلّقكم بأنفسكم و بظاهر الأسباب عن عبادتنا و سلوك سبيلنا بل ظننتم أن لن نجعل لكم موعداً تلقوننا فيه فتحاسبوا و بتعبير آخر: إنّ اشتغالكم بالدنيا و تعلّقكم بزينتها و إن كان سببا في الإعراض عن ذكرنا و اقتراف الخطيئات لكن كان هناك سبب هو أقدم منه و هو الأصل و هو أنّكم ظننتم أن لن نجعل لكم موعداً

٣٦٧

فنسيان المعاد هو الأصل في ترك الطريق و فساد العمل قال تعالى:( إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ ) ص: ٢٦.

و الوجه في نسبة الظنّ بنفي المعاد إليهم أنّ انقطاعهم إلى الدنيا و تعلّقهم بزينتها و من يدعونه من دون الله فعل من ظنّ أنّها دائمة باقية لهم و أنّهم لا يرجعون إلى الله فهو ظنّ حاليّ عمليّ منهم و يمكن أن يكون كناية عن عدم اعتنائهم بأمر الله و استهانتهم بما اُنذروا به نظير قوله تعالى:( وَ لكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ ) حم السجدة: ٢٢.

و من الجائز أن يكون قوله:( بل زَعَمْتُمْ أَن لَنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً ) إضراباً عن اعتذار لهم مقدّر بالجهل و نحوه و الله أعلم.

قوله تعالى: ( وَ وُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَ يَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا ) إلى آخر الآية وضع الكتاب نصبه ليحكم عليه، و مشفقين من الشفقة و أصلها الرقّة، قال الراغب في المفردات: الإشفاق عناية مختلطة بخوف لأنّ المشفق يحبّ المشفق عليه و يخاف ما يلحقه قال تعالى:( وَ هُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ ) فإذا عدّي بمن فمعنى الخوف فيه أظهر، و إذا عدّي بفي فمعنى العناية فيه أظهر، قال تعالى:( إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ ) ( مُشْفِقُونَ مِنْها ) انتهى.

و الويل الهلاك، و نداؤه عند المصيبة - كما قيل - كناية عن كون المصيبة أشدّ من الهلاك فيستغاث بالهلاك لينجى من المصيبة كما ربّما يتمنّى الموت عند المصيبة قال تعالى:( يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا ) مريم: ٢٣.

و قوله:( وَ وُضِعَ الْكِتابُ ) ظاهر السياق أنّه كتاب واحد يوضع لحساب أعمال الجميع و لا ينافي ذلك وضع كتاب خاصّ بكلّ إنسان و الآيات القرآنيّة دالّة على أنّ لكلّ إنسان كتاباً و لكلّ اُمّة كتاباً و للكلّ كتاباً قال تعالى:( وَ كُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَ نُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً ) الآية: إسراء: ١٣ و قد تقدّم الكلام فيها، و قال:( كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى‏ إِلى‏ كِتابِهَا ) الجاثية: ٢٨ و قال:( هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ ) الجاثية: ٢٩ و سيجي‏ء

٣٦٨

الكلام في الآيتين إن شاء الله تعالى.

و قيل: المراد بالكتاب كتب الأعمال و اللام للاستغراق، و السياق لا يساعد عليه.

و قوله:( فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ ) تفريع الجملة على وضع الكتاب و ذكر إشفاقهم ممّا فيه دليل على كونه كتاب الأعمال أو كتاباً فيه الأعمال، و ذكرهم بوصف الاجرام للإشارة إلى علّة الحكم و أنّ إشفاقهم ممّا فيه لكونهم مجرمين فالحكم يعمّ كلّ مجرم و إن لم يكن مشركاً.

و قوله:( وَ يَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَ لا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها ) الصغيرة و الكبيرة وصفان قامتا مقام موصوفهما و هو الخطيئة أو المعصية أو الهنة و نحوها.

و قولهم هذا إظهار للدهشة و الفزع من سلطة الكتاب في إحصائه للذنوب أو لمطلق الحوادث و منها الذنوب في صورة الاستفهام التعجيبيّ، و منه يعلم وجه تقديم الصغيرة على الكبيرة في قوله:( صَغِيرَةً وَ لا كَبِيرَةً ) مع أنّ الظاهر أن يقال: لا يغادر كبيرة و لا صغيرة إلّا أحصاها بناء على أنّ الكلام في معنى الإثبات و حقّ الترقّي فيه أن يتدرّج من الكبير إلى الصغير هذا، و ذلك لأنّ المراد - و الله أعلم - لا يغادر صغيرة لصغرها و دقّتها و لا كبيرة لكبرها و وضوحها، و المقام مقام الاستفزاع في صورة التعجيب و إحصاء الصغيرة على صغرها و دقّتها أقرب إليه من غيرها.

و قوله:( وَ وَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً ) ظاهر السياق كون الجملة تأسيساً لا عطف تفسير لقوله:( لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَ لا كَبِيرَةً ) إلخ و عليه فالحاضر عندهم نفس الأعمال بصورها المناسبة لها لا كتابتها كما هو ظاهر أمثال قوله:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) التحريم: ٧، و يؤيّده قوله بعده:( وَ لا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً ) فإنّ انتفاء الظلم بناء على تجسّم الأعمال

٣٦٩

أوضح لأنّ ما يجزون به إنّما هو عملهم يردّ إليهم و يلحق بهم لا صنع في ذلك لأحد فافهم ذلك.

قوله تعالى: ( وَ إِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ ) تذكير ثان لهم بما جرى بينه تعالى و بين إبليس حين أمر الملائكة بالسجود لأبيهم آدم فسجدوا إلّا إبليس كان من الجنّ فتمرّد عن أمر ربّه.

أي و اذكر هذه الواقعة حتّى يظهر لهم أنّ إبليس - و هو من الجنّ - و ذرّيّته عدوّ لهم لا يريدون لهم الخير فلا ينبغي لهم أن يفتتنوا بما يزيّنه لهم هو و ذرّيّته من ملاذّ الدنيا و شهواتها و الإعراض عن ذكر الله و لا أن يطيعوهم فيما يدعونهم إليه من الباطل.

و قوله:( أَ فَتَتَّخِذُونَهُ وَ ذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَ هُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ ) تفريع على محصّل الواقعة و الاستفهام للإنكار أي و يتفرّع على الواقعة أن لا تتّخذوه و ذرّيّته أولياء و الحال أنّهم أعداء لكم معشر البشر، و على هذا فالمراد بالولاية ولاية الطاعة حيث يطيعونه و ذرّيّته فيما يدعونهم فقد اتّخذوهم مطاعين من دون الله، و هكذا فسّرها المفسّرون.

و ليس من البعيد أن يكون المراد بالولاية ولاية الملك و التدبير و هو الربوبيّة فإنّ الوثنيّة كما يعبدون الملائكة طمعاً في خيرهم كذلك يعبدون الجنّ اتّقاء من شرّهم، و هو سبحانه يصرّح بأنّ إبليس من الجنّ و له ذرّيّة و أنّ ضلال الإنسان في صراط سعادته و ما يلجمه من أنواع الشقاء إنّما هو بإغواء الشيطان فالمعنى أ فتتّخذونه و ذرّيّته آلهة و أرباباً من دوني تعبدونهم و تتقرّبون إليهم و هم لكم عدوّ؟.

و يؤيّده الآية التالية فإنّ عدم إشهادهم الخلقة إنّما يناسب انتفاء ولاية التدبير عنهم لا انتفاء ولاية الطاعة و هو ظاهر.

و قد ختم الآية بتقبيح اتّخاذهم إيّاهم أولياء من دون الله الّذي معناه اتّخاذهم

٣٧٠

إبليس بدلاً منه سبحانه فقال:( بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا ) و ما أقبح ذلك فلا يقدم عليه ذو مسكة، و هو السرّ في الالتفات الّذي في قوله:( مِنْ دُونِي ) فلم يقل: من دوننا على سياق قوله:( وَ إِذْ قُلْنا ) ليزيد في وضوح القبح كما أنّه السرّ أيضاً في الالتفات السابق في قوله:( عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ ) و لم يقل: عن أمرنا.

و للمفسّرين ههنا أبحاث في معنى شمول أمر الملائكة لإبليس، و في معنى كونه من الجنّ و في معنى، و قد قدّمنا بعض القول في ذلك في تفسير سورة الأعراف.

قوله تعالى: ( ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ لا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَ ما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً ) ظاهر السياق كون ضميري الجمع لإبليس و ذرّيّته و المراد بالإشهاد الإحضار و الاعلام عيانا كما أنّ الشهود هو المعاينة حضوراً، و العضد ما بين المرفق و الكتف من الإنسان و يستعار للمعين كاليد و هو المراد ههنا.

و قد اشتملت الآية في نفي ولاية التدبير عن إبليس و ذرّيّته على حجّتين إحداهما: أنّ ولاية تدبير اُمور شي‏ء من الأشياء تتوقّف على الإحاطة العلميّة - بتمام معنى الكلمة - بتلك الاُمور من الجهة الّتي تدبّر فيها و بما لذلك الشي‏ء و تلك الاُمور من الروابط الداخليّة و الخارجيّة بما يبتدئ منه و ما يقارنه و ما ينتهي إليه و الارتباط الوجودي سار بين أجزاء الكون و هؤلاء و هم إبليس و ذرّيّته لم يشهدهم الله سبحانه خلق السماوات و الأرض و لا خلق أنفسهم فلا كانوا شاهدين إذ قال للسماوات و الأرض: كن فكانت و لا إذ قال لهم: كونوا فكانوا فهم جاهلون بحقيقة السماوات و الأرض و ما في أوعية وجوداتها من أسرار الخلقة حتّى بحقيقة صنع أنفسهم فكيف يسعهم أن يلوا تدبير أمرها أو تدبير أمر شطر منها فيكونوا آلهة و أرباباً من دون الله و هم جاهلون بحقيقة خلقتها و خلقة أنفسهم.

و أمّا أنّهم لم يشهدوا خلقها فلأنّ كلّاً منهم شي‏ء محدود لا سبيل له إلى ما وراء نفسه فغيره في غيب منه مضروب عليه الحجاب، و هذا بيّن و قد أنبأ الله سبحانه عنه في مواضع من كلامه و كذا كلّ منهم مستور عنه شأن الأسباب الّتي تسبق

٣٧١

وجوده و اللواحق الّتي ستلحق وجوده.

و هذه حجّة برهانيّة غير جدليّة عند من أجاد النظر و أمعن في التدبّر حتّى لا يختلط عنده هذه الاُلعوبة الكاذبة الّتي نسمّيها تدبيراً بالتدبير الكونيّ الّذي لا يلحقه خطأ و لا ضلال، و كذا الظنون و المزاعم الواهية الّتي نتداولها و نركن إليها بالعلم العيانيّ الّذي هو حقيقة العلم و كذا العلم بالاُمور الغائبة بالظفر على أماراتها الأغلبيّة بالعلم بالغيب الّذي يتبدّل به الغيب شهادة.

و الثانية أنّ كلّ نوع من أنواع المخلوقات متوجّه بفطرته نحو كماله المختصّ بنوعه و هذا ضروريّ عند من تتبّعها و أمعن النظر في حالها فالهداية الإلهيّة عامّة للجميع كما قال:( الَّذِي أَعْطى‏ كُلَّ شَيْ‏ءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى) طه: ٥٠ و الشياطين أشرار مفسدون مضلّون فتصدّيهم تدبير شي‏ء من السماوات و الأرض أو الإنسان - و لن يكون إلّا بإذن من الله سبحانه - مؤدّ إلى نقضه السنّة الإلهيّة من الهداية العامّة أي توسّله تعالى إلى الإصلاح بما ليس شأنه إلّا الإفساد و إلى الهداية بما خاصّته الإضلال و هو محال.

و هذا معنى قوله سبحانه:( وَ ما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً ) الظاهر في أنّ سنّته تعالى أن لا يتّخذ المضلّين عضداً فافهم.

و في قوله:( ما أَشْهَدْتُهُمْ ) و قوله:( وَ ما كُنْتُ ) و لم يقل: ما شهدوا و ما كانوا دلالة على أنّه سبحانه هو القاهر المهيمن عليهم على كلّ حال، و القائلون بإشراك الشياطين أو الملائكة أو غيرهم بالله في أمر التدبير لم يقولوا باستقلالهم في ذلك بل بأنّ أمر التدبير مملوك لهم بتمليك من الله تعالى مفوّض إليهم بتفويض منه و أنّهم أرباب و آلهة و الله ربّ الأرباب و إله الآلهة.

و ما تقدّم من معنى الآية مبنيّ على حمل الإشهاد على معناه الحقيقي و إرجاع الضميرين في( ما أَشْهَدْتُهُمْ ) و( أَنْفُسِهِمْ ) إلى إبليس و ذرّيّته كما هو الظاهر المتبادر من السياق، و للمفسّرين أقوال اُخر:

منها قول بعضهم: إنّ المراد من الإشهاد في خلقها المشاورة مجازاً فإنّ أدنى

٣٧٢

مراتب الولاية على شي‏ء أن يشاوره في أمره، و المراد بنفي الاعتضاد نفي سائر مراتب الاستعانة المؤدّية إلى الولاية و السلطة على المولّى عليه بوجه مّا فكأنّه قيل: ما شاورتهم في أمر خلقها و لا استعنت بهم بشي‏ء من أنواع الاستعانة فمن أين يكونون أولياء لهم؟.

و فيه أنّه لا قرينة على هذا المجاز و لا مانع من الحمل على المعنى الحقيقيّ على أنّه لا رابطة بين الإشارة بالشي‏ء و الولاية عليه حتّى تعدّ المشاورة من مراتب التولية أو الإشارة من درجات الولاية.

و قد وجّه بعضهم هذا المعنى بأنّ المراد بالإشهاد المشاورة كناية و لازم المشاورة أن يخلق كما شاؤا أي أن يخلقهم كما أحبّوا أي أن يخلقهم كاملين فالمراد بنفي إشهاد الشياطين خلق أنفسهم نفي أن يكونوا كاملين في الخلقة حتّى يسع لهم ولاية تدبير الاُمور.

و فيه مضافاً إلى أنّه يرد عليه ما اُورد على سابقه أوّلاً أنّ ذلك يرجع إلى إطلاق الشي‏ء و إرادة لازمه بخمس مراتب من اللزوم فالمشاورة لازم الإشهاد على ما يدّعيه و خلق ما يشاؤه المشير لازم المشاورة و خلق ما يحبّه لازم خلق ما يشاؤه، و كمال الخلقة لازم خلق ما يحبّه، و صحّة الولاية لازم كمال الخلقة فإطلاق الإشهاد و إرادة كمال الخلقة أو صحّة الولاية من قبيل التكنية عن لازم المعنى من وراء لزومات أربع أو خمس، و الكتاب المبين يجلّ عن أمثال هذه الإلغازات.

و ثانياً: أنّه لو صحّ فإنّما يصحّ في إشهادهم خلق أنفسهم دون إشهادهم خلق السماوات و الأرض فلازمه التفكيك بين الإشهادين.

و ثالثاً: أنّ لازمه صحّة ولاية من كان كاملاً في خلقه كالملائكة المقرّبين ففيه اعتراف بإمكان ولايتهم و جواز ربوبيّتهم و القرآن يدفع ذلك بأصرح البيان فأين الممكن المفتقر لذاته إلى الله سبحانه من الاستقلال في تدبير نفسه أو تدبير غيره؟ و أمّا نحو قوله تعالى:( فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً ) النازعات: ٥ فسيجي‏ء توضيح معناه إن شاء الله.

٣٧٣

و منها قول بعضهم: إنّ المراد بالإشهاد حقيقة معناه و الضميران للشياطين لكنّ المراد من إشهادهم خلق أنفسهم إشهاد بعضهم خلق بعض لا إشهاد كلّ خلق نفسه.

و فيه أنّ المراد بنفي الإشهاد استنتاج انتفاء الولاية، و لم يقل أحد من المشركين بولاية بعض الشياطين لبعض و لا تعلّق الغرض بنفيها حتّى يحمل لفظ الآية على إشهاد بعضهم خلق بعض.

و منها قول بعضهم: إنّ أوّل الضميرين للشياطين و الثاني للكفّار أو لهم و لغيرهم من الناس. و المعنى ما أشهدت الشياطين خلق السماوات و الأرض و لا خلق الكفّار أو الناس حتّى يكونوا أولياء لهم.

و فيه أنّ فيه تفكيك الضميرين.

و منها قول بعضهم: برجوع الضميرين إلى الكفّار قال الإمام الرازي في تفسيره، و الأقرب عندي عودهما يعني الضميرين على الكفّار الّذين قالوا للرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إن لم تطرد عن مجلسك هؤلاء الفقراء لم نؤمن بك فكأنّه تعالى قال: إنّ هؤلاء الّذين أتوا بهذا الاقتراح الفاسد و التعنّت الباطل ما كانوا شركائي في تدبير العالم بدليل أنّي ما أشهدتهم خلق السماوات و الأرض و لا خلق أنفسهم و لا اعتضدت بهم في تدبير الدنيا و الآخرة بل هم كسائر الخلق فلم أقدموا على هذا الاقتراح الفاسد؟ و نظيره أنّ من اقترح عليك اقتراحات عظيمة فإنّك تقول له: لست بسلطان البلد حتّى نقبل منك هذه الاقتراحات الهائلة فلم تقدم عليها؟.

و يؤكّده أنّ الضمير يجب عوده على أقرب المذكورات و هو في الآية اُولئك الكفّار لأنّهم المراد بالظالمين في قوله تعالى:( بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا ) انتهى.

و فيه أنّ فيه خرق السياق بتعليق مضمون الآية بما تعرّض به في قوله:( وَ لا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا ) بنحو الإشارة قبل ثلاث و عشرين آية و قد تحوّل وجه الكلام بالانعطاف على أوّل السورة مرّة بعد مرّة بالتمثيل بعد التمثيل و التذكير بعد التذكير فما احتمله من المعنى في غاية البعد.

٣٧٤

على أنّ ما ذكره من اقتراحهم على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( إن لم تطرد هؤلاء الفقراء من مجلسك لم نؤمن بك) ليس باقتراح فيه مداخلة في تدبير أمر العالم حتّى يردّ عليهم بمثل قوله:( ما أَشْهَدْتُهُمْ ) إلخ بل اشتراط لإيمانهم بطرد اُولئك من غير أن يبتني على دعوى تردّ بمثل ذلك، نعم لو قيل: اطرد عن مجلسك هؤلاء الفقراء و اكتفي به لكان لما قاله بعض الوجه.

و كأنّ التنبّه لهذه النكتة دعا بعضهم إلى توجيه معنى الآية على تقدير رجوع الضميرين إلى الكفّار بأنّ المراد أنّهم جاهلون بما جرى عليه القلم في الأزل من أمر السعادة و الشقاء إذ لم يشهدوا الخلقة فكيف يقترحون عليك أن تقرّبهم إليك و تطرد الفقراء؟

و مثله قول آخرين: إنّ المراد أنّي ما أطلعتهم على أسرار الخلقة و لم يختصّوا منّي بما يمتازون به من غيرهم حتّى يكونوا قدوة يقتدي بهم الناس في الإيمان بك فلا تطمع في نصرتهم فلا ينبغي لي أن أعتضد لديني بالمضلّين.

و كلا الوجهين أبعد ممّا ذكره الإمام من الوجه فأين الآية من الدلالة على ما اختلقاه من المعنى؟.

و منها أنّ الضميرين للملائكة و المعنى ما أشهدت الملائكة خلق العالم و لا خلق أنفسهم حتّى يعبدوا من دوني، و ينبغي أن يضاف إليه أنّ قوله:( وَ ما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً ) أيضاً متعرّض لنفي ولاية الشياطين فتدلّ الآية حينئذ بصدرها و ذيلها على نفي ولاية الفريقين جميعاً و إلّا دفعه ذيل الآية.

و فيه أنّ الآية السابقة إنّما خاطبت الكفّار في قولهم بولاية الشياطين ثمّ ذكرتهم بضمير الجمع في قولها:( وَ هُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ ) و لم يتعرّض لشي‏ء من أمر الملائكة فإرجاع الضميرين إلى الملائكة دون الشياطين تفكيك، و الاشتغال بنفي ولاية الملائكة تعرّض لما لم يحوج إليه السياق و لا اقتضاه المقام.

قوله تعالى: ( وَ يَوْمَ يَقُولُ نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ ) إلى آخر الآية هذا تذكير ثالث يذكر فيه ظهور بطلان الرابطة بين المشركين و بين شركائهم يوم القيامة

٣٧٥

و يتأكّد بذلك أنّهم ليسوا على شي‏ء ممّا يدّعيه لهم المشركون.

فقوله:( وَ يَوْمَ يَقُولُ ) إلخ الضمير له تعالى بشهادة السياق، و المعنى و اذكر لهم يوم يقول الله لهم نادوا شركائي الّذين زعمتم أنّهم لي شركاء فدعوهم فلم يستجيبوا لهم و بان أنّهم ليسوا لي شركاء و لو كانوا لاستجابوا.

و قوله:( وَ جَعَلْنا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً ) الموبق بكسر الباء اسم مكان من وبق وبوقا بمعنى هلك، و المعنى جعلنا بين المشركين و شركائهم محلّ هلاك و قد فسّر القوم هذا الموبق و المهلك بالنار أو بمحلّ من النار يهلك فيه الفريقان المشركون و شركاؤهم لكنّ التدبّر في كلامه تعالى لا يساعد عليه فإنّ الآية قد أطلقت الشركاء و فيهم - و لعلّهم الأكثر - الملائكة و بعض الأنبياء و الأولياء، و أرجع إليهم ضمير اُولي العقل مرّة بعد مرّة، و لا دليل على اختصاصهم بمردة الجنّ و الإنس و كون جعل الموبق بينهم دليلا على الاختصاص أوّل الكلام.

فلعلّ المراد من جعل موبق بينهم إبطال الرابطة و رفعها من بينهم و قد كانوا يرون في الدنيا أنّ بينهم و بين شركائهم رابطة الربوبيّة و المربوبيّة أو السببيّة و المسبّبيّة فكنّي عن ذلك بجعل موبق بينهم يهلك فيه الرابطة و العلقة من غير أن يهلك الطرفان، و يومئ إلى ذلك بلطيف الإشارة تعبيره عن دعوتهم أوّلاً بالنداء حيث قال:( نادُوا شُرَكائِيَ ) و النداء إنّما يكون في البعيد فهو دليل على بعد ما بينهما.

و إلى مثل هذا المعنى يشير قوله تعالى في موضع آخر من كلامه:( وَ ما نَرى‏ مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَ ضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ) الأنعام: ٩٤، و قوله تعالى:( ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَ شُرَكاؤُكُمْ فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ وَ قالَ شُرَكاؤُهُمْ ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ ) يونس: ٢٨.

قوله تعالى: ( وَ رَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها وَ لَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً ) في أخذ المجرمين مكان المشركين دلالة على أنّ الحكم عامّ لجميع أهل الاجرام، و المراد بالظنّ هو العلم - على ما قيل - و يشهد به قوله:( وَ لَمْ

٣٧٦

يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً ) .

و المراد بمواقعة النار الوقوع فيها - على ما قيل - و لا يبعد أن يكون المراد حصول الوقوع من الجانبين فهم واقعون في النار بدخولهم فيها و النار واقعة فيهم باشتعالهم بها. و قوله:( وَ لَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً ) المصرف بكسر الراء اسم مكان من الصرف أي لم يجدوا محلّا ينصرفون إليه و يعدلون عن النار و لا مناص.

قوله تعالى: ( وَ لَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَ كانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْ‏ءٍ جَدَلًا ) قد مرّ الكلام في نظير صدر الآية في سورة أسرى آية ٨٩ و الجدل الكلام على سبيل المنازعة و المشاجرة و الآية إلى تمام ستّ آيات مسوقة للتهديد بالعذاب بعد التذكيرات السابقة.

قوله تعالى: ( وَ ما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى‏ وَ يَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ ) و( يَسْتَغْفِرُوا ) عطف على قوله:( يُؤْمِنُوا ) أي و ما منعهم من الإيمان و الاستغفار حين مجي‏ء الهدى.

و قوله:( إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ ) أي إلّا طلب أن تأتيهم السنّة الجارية في الاُمم الأوّلين و هي عذاب الاستئصال، و قوله:( أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلًا ) عطف على سابقه أي أو طلب أن يأتيهم العذاب مقابلة و عيانا و لا ينفعهم الإيمان حينئذ لأنّه إيمان بعد مشاهدة البأس الإلهيّ قال تعالى:( فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ ) المؤمن: ٨٥.

فمحصّل المعنى أنّ الناس لا يطلبون إيماناً ينفعهم و الّذي يريدونه أن يأخذهم عذاب الاستئصال على سنّة الأوّلين فيهلكوا و لا يؤمنوا أو يقابلهم العذاب عيانا فيؤمنوا اضطراراً فلا ينفعهم الإيمان.

و هذا المنع و الاقتضاء في الآية أمر ادّعائيّ يراد به أنّهم معرضون عن الحقّ لسوء سريرتهم فلا جدوى للإطناب الّذي وقع في التفاسير في صحّة ما مرّ من التوجيه و التقدير إشكالاً و دفعاً.

قوله تعالى: ( وَ ما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ ) إلخ تعزية

٣٧٧

للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن لا يضيق صدره من إنكار المنكرين و إعراضهم عن ذكر الله فما كانت وظيفة المرسلين إلّا التبشير و الإنذار و ليس عليهم وراء ذلك من بأس ففيه انعطاف إلى مثل ما مرّ في قوله في أوّل السورة:( فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى‏ آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً ) و في الآية أيضاً نوع تهديد للكفّار المستهزءين.

و الدحض الهلاك و الإدحاض الإهلاك و الإبطال، و الهزؤ: الاستهزاء و المصدر بمعنى اسم المفعول و معنى الآية ظاهر.

قوله تعالى: ( وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْها وَ نَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ ) إعظام و تكبير لظلمهم و الظلم يعظم و يكبر بحسب متعلّقه و إذا كان هو الله سبحانه بآياته فهو أكبر من كلّ ظلم.

و المراد بنسيان ما قدّمت يداه عدم مبالاته بما يأتيه من الإعراض عن الحقّ و الاستهزاء به و هو يعلم أنّه حقّ، و قوله:( إِنَّا جَعَلْنا عَلى‏ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَ فِي آذانِهِمْ وَقْراً ) كأنّه تعليل لإعراضهم عن آيات الله أو له و لنسيانهم ما قدّمت أيديهم، و قد تقدّم الكلام في معنى جعل الأكنة على قلوبهم و الوقر في آذانهم في الكتاب مراراً.

و قوله:( وَ إِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى‏ فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً ) إياس من إيمانهم بعد ما ضرب الله الحجاب على قلوبهم و آذانهم فلا يسعهم بعد ذلك أن يهتدوا بأنفسهم بتعقّل الحقّ و لا أن يسترشدوا بهداية غيرهم بالسمع و الاتّباع، و الدليل على هذا المعنى قوله:( وَ إِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى‏ فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً ) حيث دلّ على تأييد النفي و قيّده بقوله:( إِذاً ) و هو جزاء و جواب.

قال في روح المعاني: و استدلّت الجبريّة بهذه الآية على مذهبهم و القدريّة بالآية الّتي قبلها. قال الإمام: و قلّ ما تجد في القرآن آية لأحد هذين الفريقين إلّا و معها آية للفريق الآخر، و ما ذاك إلّا امتحان شديد من الله تعالى ألقاه الله على عباده ليتميّز العلماء الراسخون من المقلّدين. انتهى.

أقول: و كلتا الآيتين حقّ و لازم ذلك ثبوت الاختيار للعباد في أعمالهم و

٣٧٨

انبساط سلطنته تعالى في ملكه حتّى على أعمال العباد و هو مذهب أئمّة أهل لبيتعليهم‌السلام .

قوله تعالى: ( وَ رَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ ) إلى آخر الآية، الآيات - كما سمعت - مسرودة لتهديدهم بالعذاب و هم فاسدون في أعمالهم فساداً لا يرجى منهم صلاح و هذا مقتض لنزول العذاب و أن يكون معجّلاً لا يمهلهم إذ لا أثر لبقائهم إلّا الفساد لكنّ الله سبحانه لم يعجّل لهم العذاب و إن قضى به قضاء حتم بل أخّره إلى أجل مسمّى عيّنه بعلمه.

فقوله:( وَ رَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ ) صدّرت به الآية المتضمّنة لصريح القضاء في تهديدهم ليعدّل به بواسطة اشتماله على الوصفين: الغفور ذي الرحمة ما يقتضي العذاب المعجّل فيقضي و يمضي أصل العذاب أداء لحقّ مقتضيه و هو عملهم، و يؤخّر وقوعه لأنّ الله غفور ذو رحمة.

فالجملة أعني قوله:( الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ ) مع قوله:( لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ ) بمنزلة متخاصمين متنازعين يحضران عند القاضي، و قوله:( بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا ) أي ملجأ يلجؤون منه إليه بمنزلة الحكم الصادر عنه بما فيه إرضاء الجانبين و مراعاة الحقّين فاُعطي وصف الانتقام الإلهيّ باستدعاء ممّا كسبوا أصل العذاب، و اُعطيت صفة المغفرة و الرحمة أن يؤجّل العذاب و لا يعجّل و عند ذلك أخذت المغفرة الإلهيّة تمحو أثر العمل الّذي هو استعجال العذاب، و الرحمة تفيض عليهم حياة معجّلة.

و محصّل المعنى: لو يؤاخذهم ربّك لعجّل لهم العذاب لكن لم يعجّل لأنّه الغفور ذو الرحمة بل حتم عليهم العذاب بجعله لهم موعداً لا ملجأ لهم يلجؤون منه إليه. فقوله:( بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ ) إلخ كلمة قضاء و ليس بحكاية محضة و إلّا قيل: بل جعل لهم موعداً إلخ فافهم ذلك.

و الغفور صيغة مبالغة تدلّ على كثرة المغفرة، و ذو الرحمة - و لامه للجنس - صفة تدلّ على شمول الرحمة لكلّ شي‏ء فهي أشمل معنى من الرحمن و الرحيم

٣٧٩

الدالّين على الكثرة أو الثبوت و الاستمرار فالغفور بمنزلة الخادم لذي الرحمة فإنّه يصلح المورد لذي الرحمة بإمحاء ما عليه من وصمة الموانع فإذا صلح شمله ذوالرحمة، فللغفور السعي و كثرة العمل و لذي الرحمة الانبساط و الشمول على ما لا مانع عنده، و لهذه النكتة جي‏ء في المغفرة بالغفور و هو صيغة مبالغة و في الرحمة بذي الرحمة الحاوي لجنس الرحمة فافهم ذلك و دع عنك ما أطنبوا فيه من الكلام في الاسمين.

قوله تعالى: ( وَ تِلْكَ الْقُرى‏ أَهْلَكْناهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَ جَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً ) المراد بالقرى أهلها مجازاً بدليل الضمائر الراجعة إليها، و المهلك بكسر اللام اسم زمان.

و معنى الآية ظاهر و هي مسوقة لبيان أنّ تأخير مهلكهم و تأجيله ليس ببدع منّا بل السنّة الإلهيّة في الاُمم الماضين الّذين أهلكهم الله لمّا ظلموا كانت جارية على ذلك فكان الله يهلكهم و يجعل لمهلكهم موعدا.

و من هنا يظهر أنّ العذاب و الهلاك الّذي تتضمّنه الآيات ليس بعذاب يوم القيامة بل عذاب دنيويّ و هو عذاب يوم بدر إن كان المراد تهديد صناديد قريش أو عذاب آخر الزمان إن كان المراد تهديد الاُمّة كما مرّ في تفسير سورة يونس.

( بحث روائي)

في تفسير العيّاشيّ في قوله تعالى:( يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ ) الآية: عن خالد بن نجيح عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: إذا كان يوم القيامة دفع للإنسان كتابه ثمّ قيل له: اقرأ. قلت: فيعرف ما فيه؟ فقال: إنّه يذكره فما من لحظة و لا كلمة و لا نقل قدم و لا شي‏ء فعله إلّا ذكره كأنّه فعله تلك الساعة. و لذلك قالوا:( يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَ لا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها ) .

أقول: و الرواية كما ترى تجعل ما يذكره الإنسان هو ما عرفه من ذلك الكتاب فمذكوره هو المكتوب فيه، و لو لا حضور ما عمله لم تتمّ عليه الحجّة و لأمكنه أن ينكره.

٣٨٠

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443