الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٣

الميزان في تفسير القرآن13%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 443

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 443 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 111466 / تحميل: 6258
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٣

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

الوجود ليس علّة تامّة في الرؤية

قال المصنّف ـ عطّر الله ضريحه ـ(١) :

المبحث الخامس

في أنّ الوجود ليس علّة تامّة في الرؤية

خالفت الأشاعرة كافّة العقلاء ها هنا ، وحكموا بنقيض المعلوم بالضرورة ، فقالوا : إنّ الوجود علّة [ في ] كون الشيء مرئيا ، فجوّزوا رؤية كلّ شيء موجود ، سواء كان في حيّز أم لا ، وسواء كان مقابلا أم لا!

فجوّزوا إدراك الكيفيات النفسانية ـ كالعلم ، [ وإلإرادة ، ] والقدرة ، والشهوة ، واللذّة ـ ، وغير النفسانية ممّا لا يناله البصر ـ كالروائح ، والطعوم ، والأصوات ، والحرارة ، والبرودة ، وغيرها من الكيفيات الملموسة ـ(٢) .

ولا شكّ أنّ هذا مكابرة للضروريّات ، فإنّ كلّ عاقل يحكم بأنّ الطعم إنّما يدرك بالذوق لا بالبصر ، والروائح إنّما تدرك بالشمّ لا بالبصر(٣) ، والحرارة ـ وغيرها من الكيفيات الملموسة ـ إنّما تدرك باللمس لا بالبصر ،

__________________

(١) نهج الحقّ : ٤٤ ـ ٤٥.

(٢) انظر : اللمع في الردّ على أهل الزيغ والبدع : ٦١ ـ ٦٣ ، تمهيد الأوائل : ٣٠٢ ، شرح المقاصد ٤ / ١٨٨ ـ ١٨٩ ، شرح العقائد النسفية : ١٢٦ ، شرح المواقف ٨ / ١٢٣.

(٣) كان في الأصل : « بالإبصار » ، وما أثبتناه من المصدر ليناسب وحدة السياق.

٨١

والصوت إنّما يدرك بالسمع لا بالبصر

[ ولهذا فإنّ فاقد البصر يدرك هذه الأعراض ؛ ولو كانت مدركة بالبصر لاختلّ الإدراك باختلاله ].

وبالجملة : فالعلم بهذا الحكم لا يقبل التشكيك ، وإنّ من شكّ فيه فهو سوفسطائي.

ومن أعجب الأشياء : تجويزهم عدم رؤية الجبل الشاهق في الهواء ، مع عدم الساتر! وثبوت رؤية هذه الأعراض التي لا تشاهد ولا تدرك بالبصر!

وهل هذا إلّا عدم تعقّل من قائله؟!(١) .

__________________

(١) اختلفت النسخ في إيراد هذه الجملة ؛ ففي المخطوط وطبعة طهران : « وهل هذا الأمر يغفل قائله؟! » وفي طبعة القاهرة وإحقاق الحقّ : « وهل هذا إلّا من تغفّل قائله؟! » ؛ ولا شكّ أنّ التصحيف قد طرأ عليها على أثر سقوط كلمة « عدم » ؛ وما أثبتناه من المصدر هو المناسب للسياق.

٨٢

وقال الفضل(١) :

إعلم أنّ الشيخ أبا الحسن الأشعري استدلّ بالوجود على إثبات جواز رؤية الله تعالى(٢) .

وتقرير الدليل ـ كما ذكر في « المواقف » وشرحه ـ : أنّا نرى الأعراض كالألوان والأضواء وغيرها ، من الحركة والسكون ، والاجتماع والافتراق ؛ وهذا ظاهر.

ونرى الجوهر أيضا ؛ لأنّا نرى الطول والعرض في الجسم ، وليس الطول والعرض عرضين قائمين بالجسم ، لما تقرّر من أنّه مركّب من الجواهر الفردة.

فالطول مثلا ، إن قام بجزء واحد ، فذلك الجزء يكون أكثر حجما من جزء آخر ، فيقبل القسمة ؛ هذا خلف.

وإن قام بأكثر من جزء واحد ، لزم قيام العرض [ الواحد ] بمحلّين ؛ وهو محال.

فرؤية الطول والعرض هي رؤية الجواهر التي تركّب منها الجسم.

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ ١ / ١١٨ ـ ١٢٢.

(٢) انظر : الإبانة عن أصول الديانة : ٦٦ الدليل ٨١ ، الملل والنحل ١ / ٨٧ ، نهاية الإقدام في علم الكلام : ٣٥٧ ؛ وقال به الباقلّاني أيضا في تمهيد الأوائل : ٣٠١ ، وفخر الدين الرازي في الأربعين في أصول الدين ١ / ٢٦٨ والمسائل الخمسون : ٥٦ الوجه الأوّل ، والتفتازاني في شرح العقائد النسفية : ١٢٦.

٨٣

فقد ثبت أنّ صحّة الرؤية مشتركة بين الجوهر والعرض ، وهذه الصحّة لها علّة مختصّة بحال وجودهما ؛ وذلك لتحقّقها عند الوجود ، وانتفائها عند العدم ، ولو لا تحقّق أمر يصحّح حال الوجود غير [ متحقّق ] حال العدم لكان ذلك ترجيحا بلا مرجّح.

وهذه العلّة لا بدّ أن تكون مشتركة بين الجوهر والعرض ، وإلّا لزم تعليل الأمر الواحد بالعلل المختلفة ، وهو غير جائز.

ثمّ نقول : هذه العلّة المشتركة إمّا الوجود أو الحدوث ، إذ لا مشترك بين الجوهر والعرض سواهما ، لكنّ الحدوث عدمي لا يصلح للعلّة ، فإذا العلّة المشتركة : الوجود ، فإنّه مشترك بينها وبين الواجب ، فعلّة صحّة الرؤية متحقّقة في حقّ الله تعالى ، فتتحقّق صحّة الرؤية ؛ وهو المطلوب.

ثمّ إنّ هذا الدليل يوجب أن تصحّ رؤية كلّ موجود : كالأصوات ، والروائح ، والملموسات ، والطعوم ـ كما ذكره هذا الرجل ـ ، والشيخ الأشعري يلتزم هذا ويقول : لا يلزم من صحّة الرؤية لشيء تحقّق الرؤية له.

وإنّا لا نرى هذه الأشياء التي ذكرناها بجري العادة من الله تعالى بذلك ـ أي بعدم رؤيتها ـ فإنّ الله تعالى جرت عادته بعدم خلق رؤيتها فينا ، ولا يمتنع أن يخلق الله فينا رؤيتها كما خلق رؤية غيرها.

والخصوم يشدّدون عليه الإنكار ويقولون : هذه مكابرة محضة ، وخروج عن حيّز العقل بالكلّيّة.

ونحن نقول : ليس هذا الإنكار إلّا استبعادا ناشئا عمّا هو معتاد في الرؤية ؛ والحقائق ، والأحكام الثابتة المطابقة للواقع ، لا تؤخذ من العادات ،

٨٤

بل ممّا تحكم به العقول الخالصة من الأهواء وشوائب التقليدات(١) .

ثمّ من الواجب في هذا المقام أن تذكر حقيقة الرؤية حتّى يبعد الاستبعاد عن الطبائع السليمة ، فنقول :

إذا نظرنا إلى الشمس فرأيناها ، ثمّ غمضنا العين ، فعند التغميض نعلم الشمس علما جليّا.

وهذه الحالة مغايرة للحالة الأولى التي هي الرؤية بالضرورة ، وهذه الحالة المغايرة الزائدة ليست هي تأثّر الحاسّة فقط ـ كما حقّق في محلّه ـ ، بل هي حالة أخرى يخلقها الله تعالى في العبد ، شبيهة بالبصيرة في إدراك المعقولات.

وكما إنّ البصيرة في الإنسان تدرك الأشياء ، ومحلّها القلب ؛ كذلك البصر يدرك الأشياء ، ومحلّها الحدقة في الإنسان.

ويجوز عقلا أن تكون تلك الحالة تدرك الأشياء من غير شرط ومحلّ ، وإن كان يستحيل أن ( يدرك الإنسان بلا مقابلة )(٢) وباقي الشروط عادة.

فالتجويز عقلي ، والاستحالة عاديّة ؛ كما ذكرنا مرارا.

فأين الاستبعاد إذا تأمّله المنصف؟!

ومآل هذا يرجع إلى كلام واحد قدّمناه.

* * *

__________________

(١) المواقف : ٣٠٢ ـ ٣٠٣ ، شرح المواقف ٨ / ١٢٢ ـ ١٢٤ ملخّصا.

(٢) في المصدر : تدرك الأشياء إلّا بالمقابلة.

٨٥

وأقول :

لا يخفى أنّ دليل الأشعري قد تكرّر ذكره في كتبهم ، واستفرغ القوم وسعهم في تصحيحه ، فلم ينفعهم ، حتّى أقرّ محقّقوهم بعدم تمامه.

فهذا شارح « المواقف » بعد ترويجه بما أمكن ، والإيراد عليه ببعض الأمور ، قال : « وفي هذا الترويج تكلّفات أخر يطلعك عليها أدنى تأمّل ، فإذا الأولى ما قد قيل من أنّ التعويل في هذه المسألة على الدليل العقلي متعذّر »(١) .

وقال التفتازاني في « شرح المقاصد »(٢) بعد ما أطال الكلام في إصلاحه : « والإنصاف أنّ ضعف هذا الدليل جليّ »(٣) .

وأقرّ القوشجي في « شرح التجريد » بورود بعض الأمور عليه ممّا

__________________

(١) شرح المواقف ٨ / ١٢٩.

(٢) كان في الأصل : « شرح المطالع » وهو سهو ، بل هو « شرح المقاصد » ، فلم يعهد للتفتازاني كتاب بذاك الاسم ؛ انظر : هديّة العارفين ٦ / ٤٢٩ ـ ٤٣٠ ، معجم المؤلّفين ٣ / ٨٤٩ رقم ١٦٨٥٦.

و« مطالع الأنوار » في المنطق ، للقاضي سراج الدين محمود بن أبي بكر الأرموي ـ المتوفّى سنة ٦٨٢ ه‍ ـ ، ولكتابه شرح اسمه « لوامع الأسرار » لقطب الدين محمّد ابن محمّد الرازي ـ المتوفّى سنة ٧٦٦ ه‍ ـ أحد تلامذة العلّامة الحلّي ، وعلى شرحه هذا حواش عديدة ، منها : حاشية لسيف الدين أحمد بن محمّد ـ حفيد سعد الدين التفتازاني ، المتوفّى سنة ٨٤٢ ه‍ ـ ؛ ومن هنا حصل اللبس في نسبة الكتاب ؛ فلاحظ!

انظر : كشف الظنون ٢ / ١٧١٥ ـ ١٧١٧ ، أمل الآمل ٢ / ٣٠٠ ـ ٣٠١ رقم ٩٠٨ ، رياض العلماء ٥ / ١٧٠ ، لؤلؤة البحرين : ١٩٤ ـ ١٩٨ رقم ٧٤.

(٣) شرح المقاصد ٤ / ١٩١.

٨٦

لا يمكن دفعها(١) .

وكذلك الرازي في كتاب « الأربعين » على ما نقله عنه السيّد السعيد ;(٢) .

فحينئذ يكون ذكر الفضل له ـ بدون إشارة إلى ذلك ـ تلبيسا موهما لاعتباره عند أصحابه ، بل يكون نقصا فيهم ، إذ يعتمدون على ما لا يصلح أن يسطر ، فضلا أن يعتبر!

ولنشر إلى بعض ما يرد عليه ، فنقول : يرد عليه :

أوّلا : إنّ دعوى رؤية الجواهر الفردة ، التي هي الأجزاء التي لا تتجزّأ ، مبنيّة على ثبوتها وعلى تركّب الجسم منها ، لا من الهيولى والصورة ، وهو باطل ؛ لأنّ الجزء الواقع في وسط التركيب إمّا أن يحجب الأطراف عن التماس أو لا.

فعلى الأوّل : لا بدّ أن يلاقي كلّا منها بعضه ، فتلزم التجزئة.

وعلى الثاني : يلزم التداخل ، وهو محال ؛ وعدم زيادة الحجم ، وهو خلاف المطلوب.

وبعبارة أخرى : إنّ الوسط إمّا أن يلاقي الأطراف بكلّه

أو ببعضه

أو لا يلاقي شيئا منها

أو يلاقي بعضا دون بعض.

__________________

(١) انظر : شرح التجريد : ٤٣٣ و ٤٣٧ ـ ٤٣٨.

(٢) كتاب الأربعين ١ / ٢٦٨ ـ ٢٧٧ ، وانظر : إحقاق الحقّ ١ / ١٢٢.

٨٧

فالأوّل يقتضي التداخل وعدم زيادة الحجم.

والثاني يقتضي التجزئة.

والأخيران ينافيان التأليف من الوسط والأطراف.

وإن شئت قلت : لو وضع جزء على جزء ، فإن لاقاه بكلّه لزم التداخل وعدم زيادة الحجم ، وإن لاقاه ببعضه لزمت التجزئة.

وقد ذكر شيخنا المدقّق نصير الدين ١ وغيره من العلماء وجوها كثيرة لإبطال الجوهر الفرد ، فلتراجع(١) .

ويرد عليه ثانيا : إنّه لو سلّم ثبوت الجواهر الفردة والتركيب منها ، فإثبات رؤيتها ـ كما صرّح به الدليل ـ موقوف على بطلان كون الطول والعرض عرضين قائمين بأكثر من جزء واحد ؛ لاستلزامه قيام العرض الواحد بمحلّين.

وأنت تعلم أنّه إن أريد لزوم قيام العرض بتمامه ، في كلّ واحد من المحلّين ، فهو ممنوع.

وإن أريد لزوم قيامه بمجموع المحلّين ، فمسلّم ولا بأس به.

وثالثا : إنّه لو سلّم رؤية الجواهر كالأعراض ، فتخصيص العلّة بحال الوجود محلّ نظر ، بناء على مذهبهم من إحالة كلّ شيء إلى إرادة الفاعل المختار ، فتصحّ رؤية المعدوم كالموجود!

ودعوى ضرورة امتناع رؤية المعدوم عقلا ، فلا تصلح لأن تتعلّق بها

__________________

(١) انظر : تجريد الاعتقاد : ١٤٥ ، أوائل المقالات : ٩٦ ـ ٩٧ رقم ٨٧ ، النكت الاعتقادية : ٢٨ ، الذخيرة في علم الكلام : ١٤٦ وما بعدها ، المنقذ من التقليد ١ / ٣٤ و ٤٣ ـ ٤٨ ، كشف المراد : ١٤٥ ـ ١٤٦ المسألة ٦.

٨٨

إرادة الله تعالى وقدرته ، صحيحة ؛ لكن عندنا دونهم.

إذ ليس امتناع رؤية المعدوم بأظهر من امتناع رؤية العلم ، والإرادة ، والروائح ، والطعوم ، ونحوها من الكيفيات الموجودة ، وقد أنكروا امتناع رؤيتها.

ورابعا : إنّه لو سلّم أنّ العلّة هي الوجود ، فلا نسلّم أنّه بإطلاقه هو العلّة ، بل يمكن أن تكون العلّة هي الوجود المقيّد بالحدوث الذاتي ، أو الزماني ، أو بالإمكان ، أو بما يثبت معه شروط الرؤية ، وإن قلنا : إنّ بعض هذه الأمور عدميّ ؛ لأنّها قيود ، والقيد خارج.

ويمكن ـ أيضا ـ أن تكون علّة رؤية العرض هي وجوده الخاصّ به لا المطلق ، وكذا بالنسبة إلى رؤية الجوهر.

فلا يلزم صحّة رؤية الباري سبحانه.

ودعوى أنّا قد نرى البعيد وندرك له هويّة من غير أن ندرك أنّه جوهر أو عرض ، فيلزم أن يكون المرئي هو المشترك بينهما لا نفسهما ، وأن تكون العلّة مشتركة أيضا بينهما ، باطلة ؛ لمنع ما ذكره من لزوم كون المرئي هو المشترك.

وذلك لاحتمال تعلّق الرؤية بنفس المرئي بخصوصه ، إلّا أنّ إدراكه في البعد إجماليّ.

ولو سلّم تعلّقها بالمشترك ، فهو لا يستلزم أن تكون العلّة المشتركة هي الوجود المطلق ، بل يحتمل أن تكون هي المقيّد بالإمكان والحدوث أو نحوهما ، كما عرفت.

ولو أعرضنا عن هذا كلّه وعن سائر ما يورد على هذا الدليل ،

٨٩

فلا ريب ببطلانه ، لمخالفته للضرورة القاضية بامتناع رؤية بعض الموجودات ، كالكيفيات النفسانية والروائح والطعوم ، فليس هو إلّا تشكيكا في البديهيّ!

وأمّا ما ذكره من حقيقة الرؤية ، ففيه :

إنّ تلك الحالة الحاصلة عند التغميض إنّما هي صورة المرئي ، ومحلّها الحسّ المشترك أو الخيال ، لا الباصرة ، وهي موقوفة على سبق الرؤية.

فحينئذ إن كانت رؤية الله سبحانه ممتنعة ، فقد امتنعت هذه الحالة ، وإلّا فلا حاجة إلى تكلّف إثبات هذه الحالة وجعلها هي محلّ النزاع.

ولو سلّم أنّها غير موقوفة عليها ، بناء على إنّه أراد ما يشبه تلك الحالة الحاصلة عند التغميض لا نفسها ، فنحن لا نحكم عليها بالامتناع عادة بدون الشرائط كما حكم هو عليها ؛ لأنّها ـ كما زعم ـ شبيهة بالبصيرة في إدراك المعقولات ، فكيف تمتنع بدون الشرائط؟!

مع إنّها ليست محلّ النزاع ألبتّة ، بل محلّه الرؤية المعروفة ، كما يرشد إليه دليل الأشعري السابق ، فإنّ من تأمّله عرف أنّه أراد الرؤية المعروفة.

ولذا احتاج إلى جعل العلّة للرؤية هي الوجود ، ليتسنّى له دعوى إمكان رؤية الله تعالى ، وإلّا فلو أراد رؤية أخرى غيرها ، لم يكن لإثبات كون الوجود علّة للرؤية المعروفة دخل في تجويز رؤية أخرى عليه سبحانه.

٩٠

لكنّ القوم لمّا رأوا بطلان دليل الأشعري بالبداهة ، وفساد مذهبه بالضرورة ، التجأوا ـ في خصوص المقام ـ إلى ذكر معنى للرؤية لا يعرفون حقيقته! وإلى جعله محلّا للنزاع من دون أن يخطر ـ في الصدر الأوّل ـ ببال المتنازعين ، فشوّشوا كلماتهم ، وشوّهوا وجه الحقيقة!

* * *

٩١
٩٢

هل يحصل الإدراك لمعنى في المدرك؟

قال المصنّف ـ طيّب الله مثواه ـ(١) :

المبحث السادس

في أنّ الإدراك ليس لمعنى

والأشاعرة خالفت العقلاء في ذلك ، وذهبوا مذهبا غريبا عجيبا ، لزمهم بواسطته إنكار الضروريّات.

فإنّ العقلاء بأسرهم قالوا : إنّ صفة الإدراك تصدر عن كون الواحد منّا حيّا لا آفة فيه.

والأشاعرة قالوا : إنّ الإدراك إنّما يحصل لمعنى حصل في المدرك ، فإن حصل ذلك المعنى في المدرك ، حصل الإدراك وإن فقدت جميع الشرائط ؛ وإن لم يحصل ، لم يحصل الإدراك وإن وجدت جميع الشرائط!(٢) .

وجاز عندهم بسبب ذلك إدراك المعدومات ؛ لأنّ من شأن الإدراك أن يتعلّق بالمدرك(٣) على ما هو عليه في نفسه ، وذلك يحصل في حال

__________________

(١) نهج الحقّ : ٤٥ ـ ٤٦.

(٢) انظر مؤدّاه في : تمهيد الأوائل : ٣٠٢ ، الإرشاد ـ للجويني ـ : ١٥٧ ـ ١٥٨ ، شرح المقاصد ٤ / ١٩٧.

(٣) في المصدر : بالمرئي.

٩٣

عدمه كما يحصل حال وجوده ، فإنّ الواحد منّا يدرك جميع الموجودات بإدراك يجري مجرى العلم في عموم التعلّق.

وحينئذ يلزم تعلّق الإدراك بالمعدوم ، وبأنّ الشيء سيوجد ، وبأنّ الشيء قد كان موجودا ، وأن يدرك ذلك بجميع الحواسّ ، من الذوق والشمّ واللمس والسمع ؛ لأنّه لا فرق بين رؤية الطعوم والروائح ، وبين رؤية المعدوم!

وكما إنّ العلم باستحالة رؤية المعدوم ضروريّ ، كذا العلم باستحالة رؤية الطعوم والروائح.

وأيضا : يلزم أن يكون الواحد منّا رائيا مع الساتر العظيم البقّة ، ولا يرى الفيل العظيم ولا الجبل الشاهق مع عدم الساتر ، على تقدير أن يكون المعنى قد وجد في الأوّل وانتفى في الثاني! وكان يصحّ منّا أن نرى ذلك المعنى ؛ لأنّه موجود!

وعندهم أنّ كلّ موجود يصحّ رؤيته ، ويتسلسل ؛ لأنّ رؤية المعنى(١) إنّما تكون بمعنى آخر.

وأيّ عاقل يرضى لنفسه تقليد من يذهب إلى جواز رؤية الطعم والرائحة والبرودة والحرارة والصوت بالعين ، وجواز لمس العلم والقدرة والطعم والرائحة والصوت باليد ، وذوقها باللسان ، وشمّها بالأنف ، وسماعها بالأذن؟!

وهل هذا إلّا مجرّد سفسطة وإنكار المحسوسات؟! ولم يبالغ السوفسطائية في مقالاتهم هذه المبالغة!

__________________

(١) في المصدر : الشيء.

٩٤

وقال الفضل(١) :

الظاهر أنّه استعمل الإدراك وأراد به الرؤية ، وحاصل كلامه أنّ الأشاعرة يقولون : إنّ الرؤية معنى يحصل في المدرك ، ولا يتوقّف حصوله على شرط من الشرائط.

وهذا ما قدّمنا ذكره غير مرّة ، وبيّنّا ما هو مرادهم من هذا الكلام.

ثم إنّ قوله : « وجاز عندهم بسبب ذلك إدراك المعدومات ؛ لأنّ من شأن الإدراك أن يتعلّق بالمدرك(٢) على ما هو عليه في نفسه ، وذلك يحصل في حال عدمه كما يحصل حال وجوده » استدلال باطل على معنى(٣) مخترع له.

فإنّ كون الرؤية معنى يحصل في الرائي لا يوجب جواز تعلّقها بالمعدوم ، بل المدّعى أنّه يتعلّق بكلّ موجود كما ذكر هو في الفصل السابق.

وأمّا تعلّقه بالمعدوم فليس بمذهب الأشاعرة ، ولا يلزم من أقوالهم في الرؤية.

ثمّ ما ذكره من أنّ العلم باستحالة رؤية الطعوم والروائح ضروريّ ، مثل العلم باستحالة رؤية المعدوم

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع ضمن إحقاق الحقّ ـ ١ / ١٢٤ ـ ١٢٥.

(٢) في المصدر : بالمرئي.

(٣) في المصدر : مدّعى.

٩٥

فقد ذكرنا أنّه إن أراد ـ بهذه ـ الاستحالة العقليّة ، فممنوع ؛ وإن أراد العاديّة ، فمسلّم والاستبعاد لا يقدح في الحقائق الثابتة بالبرهان.

ثمّ ما ذكر من أنّه على تقدير كون المعنى موجودا ، كان يصحّ منّا أن نرى ذلك المعنى ، لأنّه موجود ، وكلّ موجود يصحّ رؤيته ويتسلسل ؛ لأنّ رؤية المعنى إنّما تكون لمعنى آخر.

فالجواب : إنّ العقل يجوّز رؤية كلّ موجود وإن استحال عادة ، فالرؤية إذا كانت موجودة [ به ] يصحّ أن ترى نفسها ، لا برؤية أخرى ، فانقطع التسلسل ، كما ذكر في الوجود على تقدير كونه موجودا ، فلا استحالة فيه ، ولا مصادمة للضرورة.

ثمّ ما ذكره من باقي التشنيعات والاستبعادات قد مرّ جوابه غير مرّة ، ونزيد جوابه في هذه المرّة بهذين البيتين(١) :

وذي سفه يواجهني بجهل

وأكره أن أكون له مجيبا

يزيد سفاهة وأزيد حلما

كعود زاده الإحراق طيبا

* * *

__________________

(١) ينسب البيتان إلى أمير المؤمنين الإمام عليّ بن أبي طالب ٧ ، كما نسبا إلى الشافعي باختلاف يسير في صدر البيت الأوّل ؛ انظر : ديوان الإمام عليّ ٧ : ٢٨ ، ديوان الشافعي : ١٤٤.

٩٦

وأقول :

لا ريب أنّ بحث المصنّف ; هنا عامّ لجميع الإحساسات الظاهريّة ولا يخصّ الرؤية ، كما يشهد له قوله : « وأن يدرك ذلك بجميع الحواسّ من الذوق والشمّ واللمس والسمع ».

وقوله : « وجواز لمس العلم والقدرة » وهو أيضا لم يستعمل في هذا المبحث لفظ الإدراك إلّا بالمعنى المطلق.

فالمصنّف قصد بهذين القولين التنصيص على غير الرؤية ، دفعا لتوهّم اختصاص البحث بها ؛ ومع ذلك وقع الفضل بالوهم!

كما توهّم أيضا أنّه أراد أنّ الإدراك معنى يحصل في المدرك ؛ والحال أنّه أراد أنّ الإدراك يحصل لأجل معنى في المدرك.

وحاصل مقصوده أنّهم قالوا : إنّ الإدراك يحصل في الحيوان لأجل معنى فيه ، كالحياة ، ولا ريب أنّ من شأن الإدراك أن يتعلّق بالشيء على ما هو عليه في نفسه ، ولا يتقيّد الشيء ـ بالوجود ونحوه ـ إلّا لأجل تلك الشروط السابقة ، وهم لا يعتبرونها ، فيجري الإحساس بمقتضى مذهبهم مجرى العلم في عموم التعلّق.

فإذا حصل المعنى في الشخص ، لزم صحّة تعلّق الرؤية ونحوها بالمعدوم ، وبأنّ الشيء سيوجد إلى غير ذلك.

مع إنّه بمقتضى مذهبهم ـ من إحالة كلّ شيء إلى إرادة الفاعل المختار ـ يلزم أيضا جواز إدراك المعدوم بجميع الحواسّ الظاهريّة ، كما

٩٧

جاز رؤية العلم والقدرة ونحوهما.

فظهر أنّ ما نسبه المصنّف إليهم من جواز إدراك المعدومات ، لازم لهم من أقوالهم ، وأراد بالنسبة إليهم النسبة بحسب ما يلزمهم ، وإن لم يقولوا به ظاهرا.

ثمّ إنّه أراد بقوله : « لا فرق بين رؤية الطعوم والروائح ، وبين رؤية المعدوم ، وكما إنّ العلم باستحالة رؤية المعدوم ضروريّ » إلى آخره

دفع استبعاد نسبة جواز رؤية المعدوم إليهم.

وحاصله : إنّ رؤية الطعوم والروائح مستحيلة عقلا بالضرورة كرؤية المعدوم بلا فرق ، فإذا التزموا بجواز رؤية الطعوم ونحوها ، مكابرة ومخالفة لضرورة العقل والعقلاء ، لم يستبعد منهم القول بجواز رؤية المعدوم.

وبهذا تعرف أنّ ما ذكره الفضل في جوابه بقوله : « قد ذكرنا أنّه إن أراد ـ بهذه ـ الاستحالة العقلية ، فممنوع » إلى آخره لا ربط له بكلامه ، اللهمّ إلّا أن يريد الجواب بدعوى الفرق بين الاستحالتين ، بأنّ استحالة رؤية الطعوم عاديّة ، واستحالة رؤية المعدوم عقلية!

فيكون قد كابر ضرورة العقل من جهتين : من جهة : دعوى الفرق ، ومن جهة : أصل القول ، بأنّ استحالة رؤية الطعوم ونحوها عاديّة.

وأمّا ما أجاب به عن التسلسل :

فمع عدم ارتباطه بمراد المصنّف ، غير دافع للتسلسل

أمّا عدم ارتباطه به ؛ فلأنّه فهم تسلسل الرؤية بأن تتعلّق الرؤية برؤية أخرى ، إلى ما لا نهاية له ، بناء منه على إنّه أراد بالمعنى : الرؤية

٩٨

ـ كما سبق ـ وقد عرفت بطلانه ؛ وأنّ مراده بالمعنى : هو الأمر الذي لأجله يحصل الإدراك ، فيكون مراده بالتسلسل ـ بناء على هذا ـ هو تسلسل هذه المعاني ، لا الرؤية ـ كما هو واضح من كلامه ـ.

وأمّا أنّه غير دافع له ؛ فلأنّ التسلسل الواقع في الرؤية إنّما هو من حيث صحّة تعلّق رؤية برؤية ، لا من حيث وجوب التعلّق ، فلا يندفع إلّا بإنكار هذه الصحّة ، لا بإثبات صحّة رؤية الرؤية بنفسها ، التي لا تنافي التسلسل في الرؤية المختلفة.

على إنّه لا معنى لصحّة رؤية الرؤية بنفسها ، للزوم المغايرة بين الرؤية الحقيقية والمرئيّ ؛ لأنّ تعلّق أمر بآخر يستدعي الاثنينيّة بالضرورة.

وأمّا ما نسبه إلى القوم ، من أنّهم دفعوا التسلسل في الوجود ، بأنّ الوجود موجود بنفسه لا بوجود آخر ، فلا ربط له بالمقام ؛ لأنّهم أرادوا به عدم حاجة الوجود إلى وجود آخر حتّى يتسلسل ، فكيف يقاس عليه رؤية الرؤية بنفسها؟!

نعم ، يمكن الجواب عن إشكال هذا التسلسل ، بأنّ اللازم هو التسلسل في صحّة تعلّق الرؤية برؤية أخرى إلى ما لا نهاية له ، والصحّة أمر اعتباري ، والتسلسل في الاعتباريات ليس بباطل ؛ لأنّه ينقطع بانقطاع الاعتبار ، لكنّ القول بصحّة رؤية الرؤية مكابرة لضرورة العقل!

وأمّا ما استشهد به من البيتين ، فلا يليق بذي الفضل إلّا الإعراض عن معارضته!

٩٩
١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

( بحث روائي)

في تفسير البرهان، عن ابن بابويه بإسناده عن جعفر بن محمّد بن عمارة عن أبيه عن جعفر بن محمّدعليه‌السلام في حديث: إنّ موسى لمّا كلّمه الله تكليماً، و أنزل عليه التوراة، و كتب له في الألواح من كلّ شي‏ء موعظة و تفصيلاً لكلّ شي‏ء، و جعل آية في يده و عصاه، و في الطوفان و الجراد و القمّل و الضفادع و الدم و فلق البحر و غرق الله فرعون و جنوده عملت البشريّة فيه حتّى قال في نفسه: ما أرى الله عزّوجلّ خلق خلقاً أعلم منّي فأوحى الله إلى جبرئيل: أدرك عبدي قبل أن يهلك، و قل له: إنّ عند ملتقى البحرين رجلاً عابداً فاتّبعه و تعلّم منه.

فهبط جبرئيل على موسى بما أمره به ربّه عزّوجلّ فعلم موسى أنّ ذلك لما حدّثته به نفسه فمضى هو و فتاه يوشع بن نون حتّى انتهيا إلى ملتقى البحرين فوجداً هناك الخضر يعبدالله عزّوجلّ كما قال الله في كتابه:( فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَ عَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً ) الحديث.

أقول: و الحديث طويل يذكر فيه صحبته للخضر و ما جرى بينهما ممّا ذكره الله في كتابه في القصّة.

و روى القصّة العيّاشيّ في تفسيره، بطريقين و القمّيّ في تفسيره، بطريقين مسنداً و مرسلاً، و رواه في الدرّ المنثور، بطرق كثيرة من أرباب الجوامع كالبخاريّ و مسلم و النسائيّ و الترمذيّ و غيرهم عن ابن عبّاس عن اُبيّ بن كعب عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

و الأحاديث متّفقة في معنى ما نقلناه من صدر حديث محمّد بن عمارة، و في أنّ الحوت الّذي حملاه حيّ عند الصخرة و اتّخذ سبيله في البحر سربا لكنّها تختلف في اُمور كثيرة إضافتها إلى ما في القرآن من أصل القصّة.

منها ما يتحصّل من‏ رواية ابن بابويه و القمّيّ: أنّ مجمع البحرين من أرض الشامات و فلسطين بقرينة ذكرهما أنّ القرية الّتي ورداها هي الناصرة الّتي تنسب إليها النصارى، و في بعضها أنّ الأرض كانت آذربيجان: و هو يوافق ما في الدرّ المنثور

٣٨١

عن السدّي: أنّ البحرين هما الكرّ و الرسّ حيث يصبّان في البحر و أنّ القرية كانت تسمّى باجروان و كان أهلها لئاما و روي عن اُبيّ: أنّه إفريقيّة، و عن القرظيّ أنّه طنجة، و عن قتادة أنّه ملتقى بحر الروم و فارس.

و منها ما في بعض الروايات أنّ الحوت كان مشويّا و في أكثرها أنّه كان مملوحا.

و منها ما في مرسلة القمّيّ و روايات الشيخين و النسائيّ و الترمذيّ و غيرهم: أنّه كانت عند الصخرة عين الحياة حتّى في رواية مسلم و غيره أنّ الماء كان ماء الحياة من شرب منه خلد و لا يقاربه شي‏ء ميّت إلّا حيّ فلمّا نزلاً و مسّ الحوت الماء حيّ.

الحديث و في غيرها أنّ فتى موسى توضّأ من الماء فقطرت منه قطرة على الحوت فحيّ، و في غيرها أنّه شرب منه و لم يكن له ذلك فأخذه الخضر و طابقه في سفينة و تركها في البحر فهو بين أمواجها حتّى تقوم الساعة و في بعضها أنّه كانت عند الصخرة عين الحياة الّتي كان يشرب منها الخضر و بقيّة الروايات خالية عن ذكرها.

و منها ما في رواية الصحاح الأربع و غيرها: أنّ الحوت سقط في البحر فاتّخذ سبيله في البحر سربا فأمسك الله عن الحوت جرية الماء فصار عليه مثل الطاق‏ الحديث، و في بعض هذه الروايات أنّ موسى بعد ما رجع أبصر أثر الحوت فأخذ أثر الحوت يمشيان على الماء حتّى انتهيا إلى جزيرة من جزائر العرب، و في حديث الطبريّ عن ابن عبّاس في القصّة: فرجع يعني موسى حتّى أتى الصخرة فوجد الحوت فجعل الحوت يضرب في البحر و يتبعه موسى يقدّم عصاه يفرج بها عنه الماء و يتبع الحوت و جعل الحوت لا يمسّ شيئاً من البحر إلّا يبس حتّى يكون صخرة، الحديث و بعضها خال عن ذلك.

و منها ما في أكثرها أنّ موسى لقي الخضر عند الصخرة، و في بعضها أنّه ذهب من سرب الحوت أو على الماء حتّى وجده في جزيرة من جزائر البحر، و في بعضها وجده على سطح الماء جالساً أو متّكئا.

و منها اختلافها في أنّ الفتى هل صحبهما أو تركاه و ذهبا.

و منها اختلافها في كيفيّة خرق السفينة و في كيفيّة قتل الغلام و في كيفيّة

٣٨٢

إقامة الجدار و في الكنز الّذي تحته لكنّ أكثر الروايات أنّه كان لوحاً من ذهب مكتوباً فيه مواعظ، و في الأب الصالح فظاهر أكثرها أنّه أبوهما الأقرب، و في بعضها أنّه أبوهما العاشر و في بعضها السابع، و في بعضها بينهما و بينه سبعون أبا و في بعضها كان بينهما و بينه سبعمائة سنة، إلى غير ذلك من جهات الاختلاف.

و في تفسير القمّيّ، عن محمّد بن عليّ بن بلال عن يونس في كتاب كتبوه إلى الرضاعليه‌السلام يسألونه عن العالم الّذي أتاه موسى أيّهما كان أعلم؟ و هل يجوز أن يكون على موسى حجّة في وقته؟ فكتب في الجواب: أتى موسى العالم فأصابه في جزيرة من جزائر البحر إمّا جالساً و إمّا متّكئاً فسلّم عليه موسى فأنكر السلام إذ كان الأرض ليس بها سلام.

قال: من أنت؟ قال: أنا موسى بن عمران. قال: أنت موسى بن عمران الّذي كلّمه الله تكليماً؟ قال: نعم. قال: فما حاجتك؟ قال: جئت لتعلّمني ممّا علّمت رشداً. قال: إنّي وكّلت بأمر لا تطيقه، و وكّلت بأمر لا اُطيقه‏ الحديث.

أقول: و هذا المعنى مرويّ في أخبار اُخر من طرق الفريقين.

و في الدرّ المنثور، أخرج الحاكم و صحّحه عن اُبيّ أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: لمّا لقي موسى الخضر جاء طير فألقى منقاره في الماء فقال الخضر لموسى: تدري ما يقول هذا الطائر؟ قال: و ما يقول؟ قال: يقول: ما علمك و علم موسى في علم الله إلّا كما أخذ منقاري من الماء.

أقول: و قصّة هذا الطائر وارد في أغلب روايات القصّة.

و في تفسير العيّاشيّ، عن هشام بن سالم عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: كان موسى أعلم من الخضر.

و فيه، عن أبي حمزة عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: كان وصيّ موسى يوشع بن نون، و هو فتاه الّذي ذكره في كتابه.

و فيه، عن عبدالله بن ميمون القدّاح عن أبي عبدالله عن أبيهعليهما‌السلام قال: بينما موسى قاعد في ملإ من بني إسرائيل إذ قال له رجل: ما أرى أحداً أعلم بالله منك

٣٨٣

قال موسى: ما أرى فأوحى الله إليه بلى عبدي الخضر فسأل السبيل إليه و كان له الحوت آية إن افتقده، و كان من شأنه ما قصّ الله.

أقول: و ينبغي أن يحمل اختلاف الروايات في علمهما على اختلاف نوع العلم.

و فيه، عن أبي بصير عن أبي عبداللهعليه‌السلام : في قوله:( فَخَشِينا ) خشي إن أدرك الغلام أن يدعو أبويه إلى الكفر فيجيبانه من فرط حبّهما له.

و فيه، عن عثمان عن رجل عن أبي عبداللهعليه‌السلام :في قول الله:( فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً وَ أَقْرَبَ رُحْماً ) قال: إنّه ولدت لهما جارية فولدت غلاماً فكان نبيّاً.

أقول: و في أكثر الروايات أنّها ولد منها سبعون نبيّاً و المراد ثبوت الواسطة.

و فيه، عن إسحاق بن عمّار قال: سمعت أباعبداللهعليه‌السلام يقول: إنّ الله ليصلح بصلاح الرجل المؤمن ولده و ولد ولده و يحفظه في دويرته و دويرات حوله فلا يزالون في حفظ الله لكرامته على الله. ثمّ ذكر الغلامين فقال:( وَ كانَ أَبُوهُما صالِحاً ) أ لم تر أنّ الله شكر صلاح أبويهما لهما؟.

و فيه، عن مسعدة بن صدقة عن جعفر بن محمّد عن آبائهعليه‌السلام أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: إنّ الله ليخلف العبد الصالح بعد موته في أهله و ماله و إن كان أهله أهل سوء ثمّ قرأ هذه الآية إلى آخرها( وَ كانَ أَبُوهُما صالِحاً ) .

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن مردويه عن جابر قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ الله يصلح بصلاح الرجل الصالح ولده و ولد ولده و أهل دويرات حوله فما يزالون في حفظ الله ما دام فيهم.

أقول: و الروايات في هذا المعنى كثيرة مستفيضة.

و في الكافي، بإسناده عن صفوان الجمّال قال: سألت أباعبداللهعليه‌السلام عن قول الله عزّوجلّ( وَ أَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَ كانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما ) فقال: أمّا إنّه ما كان ذهباً و لا فضّة، و إنّما كان أربع كلمات: لا إله إلّا الله، من

٣٨٤

أيقن بالموت لم يضحك، و من أيقن بالحساب لم يفرح قلبه، و من أيقن بالقدر لم يخش إلّا الله.

أقول: و قد تكاثرت الروايات من طرق الشيعة و أهل السنّة أنّ الكنز الّذي كان تحت الجدار كان لوحاً مكتوباً فيه الكلمات، و في أكثرها أنّه كان لوحاً من ذهب، و لا ينافيه قوله في هذه الرواية:( ما كان ذهباً و لا فضّة) لأنّ المراد به نفي الدينار و الدرهم كما هو المتبادر. و الروايات مختلفة في تعيين الكلمات الّتي كانت مكتوبة على اللوح لكن أكثرها متّفقة في كلمة التوحيد و مسألتي الموت و القدر.

و قد جمع في بعضها بين الشهادتين كما رواه في الدرّ المنثور، عن البيهقيّ في شعب الإيمان عن عليّ بن أبي طالب: في قول الله عزّوجلّ:( وَ كانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما ) قال: كان لوحاً من ذهب مكتوب فيه: لا إله إلّا الله محمّد رسول الله عجباً لمن يذكر أنّ الموت حقّ كيف يفرح؟ و عجباً لمن يذكر أنّ النار حقّ كيف يضحك؟ و عجباً لمن يذكر أنّ القدر حقّ كيف يحزن؟ و عجباً لمن يرى الدنيا و تصرّفها بأهلها حالاً بعد حال كيف يطمئنّ إليها؟.

٣٨٥

( سورة الكهف الآيات ٨٣ - ١٠٢)

وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي الْقَرْنَيْنِ  قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْرًا ( ٨٣ ) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا ( ٨٤ ) فَأَتْبَعَ سَبَبًا ( ٨٥ ) حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْمًا  قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا ( ٨٦ ) قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَىٰ رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُّكْرًا ( ٨٧ ) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَىٰ  وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا ( ٨٨ ) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا ( ٨٩ ) حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَىٰ قَوْمٍ لَّمْ نَجْعَل لَّهُم مِّن دُونِهَا سِتْرًا ( ٩٠ ) كَذَٰلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا ( ٩١ ) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا ( ٩٢ ) حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوْمًا لَّا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا ( ٩٣ ) قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَىٰ أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا ( ٩٤ ) قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا ( ٩٥ ) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ  حَتَّىٰ إِذَا سَاوَىٰ بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُوا  حَتَّىٰ إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا ( ٩٦ ) فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا ( ٩٧ ) قَالَ هَٰذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي  فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ  وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا ( ٩٨ )

٣٨٦

وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ  وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا( ٩٩) وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِّلْكَافِرِينَ عَرْضًا( ١٠٠) الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَن ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا( ١٠١) أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِن دُونِي أَوْلِيَاءَ  إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا( ١٠٢)

( بيان‏)

الآيات تشتمل على قصّة ذي القرنين، و فيها شي‏ء من ملاحم القرآن.

قوله تعالى: ( وَ يَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً ) أي يسألونك عن شأن ذي القرنين. و الدليل على ذلك جوابه عن السؤال بذكر شأنه لا تعريف شخصه حتّى اكتفى بلقبه فلم يتعدّ منه إلى ذكر اسمه.

و الذكر إمّا مصدر بمعنى المفعول و المعنى قل سأتلو عليكم منه أي من ذي القرنين شيئاً مذكوراً، و إمّا المراد بالذكر القرآن - و قد سمّاه الله في مواضع من كلامه بالذكر - و المعنى قل سأتلو عليكم منه أي من ذي القرنين أو من الله قرآناً و هو ما يتلو هذه الآية من قوله:( إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ ) إلى آخر القصّة، و المعنى الثاني أظهر.

قوله تعالى: ( إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَ آتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْ‏ءٍ سَبَباً ) التمكين الإقدار يقال: مكّنّته و مكّنت له أي أقدرته فالتمكّن في الأرض القدرة على التصرّف فيه بالملك كيفما شاء و أراد. و ربّما يقال: إنّه مصدر مصوغ من المكان بتوهّم أصالة الميم فالتمكين إعطاء الاستقرار و الثبات بحيث لا يزيله عن مكانه أيّ مانع مزاحم.

و السبب الوصلة و الوسيلة فمعنى إيتائه سبباً من كلّ شي‏ء أن يؤتى من كلّ شي‏ء يتوصّل به إلى المقاصد الهامّة الحيويّة ما يستعمله و يستفيد منه كالعقل و العلم

٣٨٧

و الدين و قوّة الجسم و كثرة المال و الجند و سعة الملك و حسن التدبير و غير ذلك و هذا امتنان منه تعالى على ذي القرنين و إعظام لأمره بأبلغ بيان، و ما حكاه تعالى من سيرته و فعله و قوله المملوءة حكمة و قدرة يشهد بذلك.

قوله تعالى: ( فَأَتْبَعَ سَبَباً ) الإتباع اللحوق أي لحق سبباً و اتّخذ وصلة وسيلة يسير بها نحو مغرب الشمس.

قوله تعالى: ( حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَ وَجَدَ عِنْدَها قَوْماً ) تدلّ( حَتَّى ) على فعل مقدّر و تقديره( فسار حتى إذا بلغ) و المراد بمغرب الشمس آخر المعمورة يومئذ من جانب الغرب بدليل قوله:( وَ وَجَدَ عِنْدَها قَوْماً ) .

و ذكروا أنّ المراد بالعين الحمئة العين ذات الحمأة و هي الطين الأسود و أنّ المراد بالعين البحر فربّما تطلق عليه، و أنّ المراد بوجدان الشمس تغرب في عين حمئة أنّه وقف على ساحل بحر لا مطمع في وجود برّ وراءه فرأى الشمس كأنّها تغرب في البحر لمكان انطباق الاُفق عليه قيل: و ينطبق هذه العين الحمئة على المحيط الغربيّ و فيه الجزائر الخالدات الّتي كانت مبدأ الطول سابقاً ثمّ غرقت.

و قرئ( في عين حامية) أي حارّة، و ينطبق على النقاط القريبة من خطّ الاستواء من المحيط الغربي المجاورة لإفريقيّة و لعلّ ذا القرنين في رحلته الغربيّة بلغ سواحل إفريقيّة.

قوله تعالى: ( قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَ إِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً ) القول المنسوب إليه تعالى في القرآن يستعمل في الوحي النبويّ و في الإبلاغ بواسطة الوحي كقوله تعالى:( وَ قُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ ) البقرة: ٣٥ و قوله:( وَ إِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ ) البقرة: ٥٨، و يستعمل في الإلهام الّذي ليس من النبوّة كقوله:( وَ أَوْحَيْنا إِلى‏ أُمِّ مُوسى‏ أَنْ أَرْضِعِيهِ ) القصص: ٧.

و به يظهر أنّ قوله:( قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ ) إلخ لا يدلّ على كونه نبيّاً يوحى إليه لكون قوله تعالى أعمّ من الوحي المختصّ بالنبوّة و لا يخلو قوله:

٣٨٨

( ثُمَّ يُرَدُّ إِلى‏ رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ ) إلخ حيث اُورد في سياق الغيبة بالنسبة إليه تعالى من إشعار بأنّ مكالمته كانت بتوسّط نبيّ كان معه فملكه نظير ملك طالوت في بني إسرائيل بإشارة من نبيّهم و هدايته.

و قوله:( إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَ إِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً ) أي إمّا أن تعذّب هؤلاء القوم و إمّا أن تتّخذ فيهم أمراً ذا حسن، فحسنا مصدر بمعنى الفاعل قائم مقام موصوفه أو هو وصف للمبالغة، و قد قيل: إنّ في مقابلة العذاب باتّخاذ الحسن إيماء إلى ترجيحه و الكلام ترديد خبريّ بداعي الإباحة فهو إنشاء في صورة الإخبار، و المعنى لك أن تعذّبهم و لك أن تعفو عنهم كما قيل، لكنّ الظاهر أنّه استخبار عمّا سيفعله بهم من سياسة أو عفو، و هو الأوفق بسياق الجواب المشتمل على التفصيل بالتعذيب و الإحسان( أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ) إلخ إذ لو كان قوله:( إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ ) إلخ حكماً تخييريّاً لكان قوله:( أَمَّا مَنْ ظَلَمَ ) إلخ تقريراً له و إيذاناً بالقبول و لا كثير فائدة فيه.

و محصّل المعنى: استخبرناه ما ذا تريد أن تفعل بهم من العذاب و الإحسان و قد غلبتهم و استوليت عليهم؟ فقال: نعذّب الظالم منهم ثمّ يردّ إلى ربّه فيعذّبه العذاب النكر، و نحسن إلى المؤمن الصالح و نكلّفه بما فيه يسر.

و لم يذكر المفعول في قوله:( إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ ) بخلاف قوله:( إِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً ) لأنّ جميعهم لم يكونوا ظالمين، و ليس من الجائز تعميم العذاب لقوم هذا شأنهم بخلاف تعميم الإحسان لقوم فيهم الصالح و الطالح.

قوله تعالى: ( أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلى‏ رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً ) النكر و المنكر غير المعهود أي يعذّبه عذاباً لا عهد له به، و لا يحتسبه و يترقّبه.

و قد فسّر الظلم بالإشراك. و التعذيب بالقتل فمعنى( أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ) أمّا من أشرك و لم يرجع عن شركه فسوف نقتله، و كأنّه مأخوذ من مقابلة( مَنْ ظَلَمَ ) بقوله:( مَنْ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً ) لكنّ الظاهر من المقابلة أن يكون المراد بالظالم أعمّ ممّن أشرك و لم يؤمن بالله أو آمن و لم يشرك لكنّه لم يعمل

٣٨٩

صالحاً بل أفسد في الأرض، و لو لا تقييد مقابله بالإيمان لكان ظاهر الظلم هو الإفساد من غير نظر إلى الشرك لأنّ المعهود من سيرة الملوك إذا عدلوا أن يطهّروا أرضهم من فساد المفسدين، و كذا لا دليل على تخصيص التعذيب بالقتل.

قوله تعالى: ( وَ أَمَّا مَنْ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى) إلخ( صالِحاً ) وصف اُقيم مقام موصوفه و كذا الحسنى، و( جَزاءً ) حال أو تمييز أو مفعول مطلق و التقدير: و أمّا من آمن و عمل عملاً صالحاً فله المثوبة الحسنى حال كونه مجزيّاً أو من حيث الجزاء أو نجزيه جزاء.

و قوله:( وَ سَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً ) اليسر بمعنى الميسور وصف اُقيم مقام موصوفه و الظاهر أنّ المراد بالأمر الأمر التكليفيّ و تقدير الكلام و سنقول له قولا ميسوراً من أمرنا أي نكلّفه بما يتيسّر له و لا يشقّ عليه.

قوله تعالى: ( ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ ) إلخ أي ثمّ هيّأ سبباً للسير فسار نحو المشرق حتّى إذا بلغ الصحراء من الجانب الشرقيّ فوجد الشمس تطلع على قوم بدويّين لم نجعل لهم من دونها ستراً.

و المراد بالستر ما يستتر به من الشمس، و هو البناء و اللباس أو خصوص البناء أي كانوا يعيشون على الصعيد من غير أن يكون لهم بيوت يأوون إليها و يستترون بها من الشمس و عراة لا لباس عليهم، و إسناد ذلك إلى الله سبحانه في قوله:( لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ ) إلخ إشارة إلى أنّهم لم يتنبّهوا بعد لذلك و لم يتعلّموا بناء البيوت و اتّخاذ الخيام و نسج الأثواب و خياطتها.

قوله تعالى: ( كَذلِكَ وَ قَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً ) الظاهر أنّ قوله:( كَذلِكَ ) إشارة إلى وصفهم المذكور في الكلام، و تشبيه الشي‏ء بنفسه مبنيّاً على دعوى المغايرة يفيد نوعاً من التأكيد، و قد قيل في المشار إليه بذلك وجوه اُخر بعيدة عن الفهم.

و قوله:( وَ قَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً ) الضمير لذي القرنين، و الجملة حالية و المعنى أنّه اتّخذ وسيلة السير و بلغ مطلع الشمس و وجد قوماً كذا و كذا في حال أحاط فيها علمنا و خبرنا بما عنده من عدّة و عدّة و ما يجريه أو يجري عليه، و

٣٩٠

الظاهر أنّ إحاطة علمه تعالى بما عنده كناية عن كون ما اختاره و أتى به بهداية من الله و أمر، فما كان يرد و لا يصدر إلّا عن هداية يهتدي بها و أمر يأتمره كما أشار إلى مثل هذا المعنى عند ذكر مسيره إلى المغرب بقوله:( قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ ) إلخ.

فالآية أعني قوله:( وَ قَدْ أَحَطْنا ) إلخ في معناها الكنائي نظيرة قوله:( وَ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَ وَحْيِنا ) هود: ٣٧، و قوله:( أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ ) النساء: ١٦٦، و قوله:( وَ أَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ ) الجنّ: ٢٨.

و قيل: إنّ الآية لإفادة تعظيم أمره و أنّه لا يحيط بدقائقه و جزئيّاته إلّا الله أو لتهويل ما قاساه ذو القرنين في هذا المسير و أنّ ما تحمّله من المصائب و الشدائد في علم الله لم يكن ليخفى عليه، أو لتعظيم السبب الّذي أتبعه، و ما قدّمناه أوجه.

قوله تعالى: ( ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ ) إلى آخر الآية. السدّ الجبل و كلّ حاجز يسدّ طريق العبور و كأنّ المراد بهما الجبلان، و قوله:( وَجَدَ مِنْ دُونِهِما قَوْماً ) أي قريباً منهما، و قوله:( لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا ) كناية عن بساطتهم و سذاجة فهمهم، و ربّما قيل: كناية عن غرابة لغتهم و بعدها عن اللغات المعروفة عندهم، و لا يخلو عن بعد.

قوله تعالى: ( قالُوا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَ مَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ ) إلخ الظاهر أنّ القائلين هم القوم الّذين وجدهم من دون الجبلين، و يأجوج و مأجوج جيلان من الناس كانوا يأتونهم من وراء الجبلين فيغيرون عليهم و يعمّونهم قتلاً و سبباً و نهباً و الدليل عليه السياق بما فيه من ضمائر اُولي العقل و عمل السدّ بين الجبلين و غير ذلك.

و قوله:( فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً ) الخرج ما يخرج من المال ليصرف في شي‏ء من الحوائج عرضوا عليه أن يعطوه مالا على أن يجعل بينهم و بين يأجوج و مأجوج سدّاً يمنع من تجاوزهم و تعدّيهم عليهم.

قوله تعالى: ( قالَ ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَ

٣٩١

بَيْنَهُمْ رَدْماً ) أصل( مَكَّنِّي ) مكّنني ثمّ أدغمت إحدى النونين في الاُخرى، و الرّدم السدّ و قيل السدّ القويّ، و على هذا فالتعبير بالردم في الجواب و قد سألوه سدّاً إجابة و وعد بما هو فوق ما استدعوه و أملوه.

و قوله:( قالَ ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ ) استغناء من ذي القرنين عن خرجهم الّذي عرضوه عليه على أن يجعل لهم سدّاً يقول: ما مكّنني فيه و أقرّني عليه ربّي من السعة و القدرة خير من المال الّذي تعدونني به فلا حاجة لي إليه.

و قوله:( فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ ) إلخ القوّة ما يتقوىّ به على الشي‏ء و الجملة تفريع على ما يتحصّل من عرضهم و هو طلبهم منه أن يجعل لهم سدّاً، و محصّل المعنى أمّا الخرج فلا حاجة لي إليه، و أمّا السدّ فإن أردتموه فأعينوني بما أتقوّى به على بنائه كالرجال و ما يستعمل في بنائه - و قد ذكر منها زبر الحديد و القطر و النفخ بالمنافخ - أجعل لكم سدّاً قويّاً.

و بهذا المعنى يظهر أنّ مرادهم بما عرضوا عليه من الخرج الأجر على عمل السدّ.

قوله تعالى: ( آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ ) إلى آخر الآية، الزبر بالضمّ فالفتح جمع زبرة كغرف و غرفة و هي القطعة، و ساوى‏ بمعنى سوّى على ما قيل و قرئ( سوّى ) و الصَّدَفَيْنِ تثنية الصدف و هو أحد جانبي الجبل ذكر بعضهم أنّه لا يقال إلّا إذا كان هناك جبل آخر يوازيه بجانبه فهو من الأسماء المتضائفة كالزوج و الضعف و غيرهما و القطر النحاس أو الصفر المذاب و إفراغه صبّه على الثقب و الخلل و الفرج.

و قوله:( آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ ) أي أعطوني إيّاها لأستعملها في السدّ و هي من القوّة الّتي استعانهم فيها، و لعلّه خصّها بالذكر و لم يذكر الحجارة و غيرها من لوازم البناء لأنّها الركن في استحكام بناء السدّ فجملة( آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ ) بدل البعض من الكلّ من جملة( فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ ) أو الكلام بتقدير قال، و هو كثير في القرآن.

و قوله:( حَتَّى إِذا ساوى‏ بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قالَ انْفُخُوا ) في الكلام إيجاز بالحذف

٣٩٢

و التقدير فأعانوه بقوّة و آتوه ما طلبه منهم فبنى لهم السدّ و رفعه حتّى إذا سوّى بين الصدفين قال: انفخوا.

و قوله:( قالَ انْفُخُوا ) الظاهر أنّه من الإعراض عن متعلّق الفعل للدلالة على نفس الفعل و المراد نصب المنافخ على السدّ لإحماء ما وضع فيه من الحديد و إفراغ القطر على خلله و فرجه.

و قوله:( حَتَّى إِذا جَعَلَهُ ناراً قالَ ) إلخ في الكلام حذف و إيجاز، و التقدير فنفخ حتّى إذا جعله أي المنفوخ فيه أو الحديد ناراً أي كالنار في هيئته و حرارته فهو من الاستعارة.

و قوله:( قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً ) أي آتوني قطراً اُفرغه و أصبّه عليه ليسدّ بذلك خلله و يصير السدّ به مصمتا لا ينفذ فيه نافذ.

قوله تعالى: ( فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَ مَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً ) اسطاع و استطاع واحد، و الظهور العلوّ و الاستعلاء، و النقب الثقب، قال الراغب في المفردات،: النقب في الحائط و الجلد كالثقب في الخشب انتهى و ضمائر الجمع ليأجوج و مأجوج. و في الكلام حذف و إيجاز، و التقدير فبنى السدّ فما استطاع يأجوج و مأجوج أن يعلوه لارتفاعه و ما استطاعوا أن ينقبوه لاستحكامه.

قوله تعالى: ( قالَ هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَ كانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا ) الدكّاء الدكّ و هو أشدّ الدقّ مصدر بمعنى اسم المفعول، و قيل: المراد الناقة الدكّاء و هي الّتي لا سنام لها و هو على هذا من الاستعارة و المراد به خراب السدّ كما قالوا.

و قوله:( قالَ هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي ) أي قال ذو القرنين - بعد ما بنى السدّ - هذا أي السدّ رحمة من ربّي أي نعمة و وقاية يدفع به شرّ يأجوج و مأجوج عن اُمم من الناس.

و قوله:( فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ ) في الكلام حذف و إيجاز و التقدير

٣٩٣

و تبقى هذه الرحمة إلى مجي‏ء وعد ربّي فإذا جاء وعد ربّي جعله مدكوكاً و سوّى به الأرض.

و المراد بالوعد إمّا وعد منه تعالى خاصّ بالسدّ أنّه سيندكّ عند اقتراب الساعة فيكون هذا ملحمة أخبر بها ذو القرنين، و إمّا وعده تعالى العامّ بقيام الساعة الّذي يدكّ الجبال و يخرّب الدنيا، و قد أكدّ القول بجملة( وَ كانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا ) .

قوله تعالى: ( وَ تَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ ) إلخ ظاهر السياق أنّ ضمير الجمع للناس و يؤيّده رجوع ضمير( فَجَمَعْناهُمْ ) إلى الناس قطعاً لأنّ حكم الجمع عامّ.

و في قوله:( بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ ) استعارة، و المراد أنّهم يضطربون يومئذ من شدّة الهول اضطراب البحر باندفاع بعضه إلى بعض فيرتفع من بينهم النظم و يحكم فيهم الهرج و المرج و يعرض عنهم ربّهم فلا يشملهم برحمته، و لا يصلح شأنهم بعنايته.

فالآية بمنزلة التفصيل للإجمال الّذي في قول ذي القرنين:( فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ ) و نظيره قوله تعالى في موضع آخر:( حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَ مَأْجُوجُ وَ هُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ وَ اقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ ) الأنبياء: ٩٧. و هي على أيّ حال من الملاحم.

و قد بان ممّا مرّ أنّ الترك في الآية بمعناه المتبادر منه و هو خلاف الأخذ و لا موجب لما ذكره بعضهم: أنّ الترك بمعنى الجعل و هو من الأضداد انتهى.

و الآية من كلام الله سبحانه و ليست من تمام كلام ذي القرنين و الدليل عليه تغيير السياق من الغيبة إلى التكلّم مع الغير الّذي هو سياق كلامه السابق( إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ ) ( قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ ) ، و لو كان من تمام كلام ذي القرنين لقيل: و ترك بعضهم على حذاء قوله:( جَعَلَهُ دَكَّاءَ ) .

و قوله:( وَ نُفِخَ فِي الصُّورِ ) إلخ هي النفخة الثانية الّتي فيها الإحياء بدليل

٣٩٤

قوله( فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً وَ عَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً ) .

قوله تعالى: ( الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَ كانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً ) تفسير للكافرين و هؤلاء هم الّذين ضرب الله بينهم و بين ذكره سدّاً حاجزاً - و بهذه المناسبة تعرّض لحالهم بعد ذكر سدّ يأجوج و مأجوج - فجعل أعينهم في غطاء عن ذكره و أخذ استطاعة السمع عن آذانهم فانقطع الطريق بينهم و بين الحقّ و هو ذكر الله.

فإنّ الحق إنّما ينال إمّا من طريق البصر بالنظر إلى آيات الله سبحانه و الاهتداء إلى ما تدلّ عليه و تهدي إليه، و إمّا من طريق السمع باستماع الحكمة و الموعظة و القصص و العبر، و لا بصر لهؤلاء و لا سمع.

قوله تعالى: ( أَ فَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي مِنْ دُونِي أَوْلِياءَ ) إلخ الاستفهام للإنكار قال في المجمع: معناه أ فحسب الّذين جحدوا توحيد الله أن يتّخذوا من دوني أرباباً ينصرونهم و يدفعون عقابي عنهم قال: و يدلّ على هذا المحذوف قوله:( إِنَّا أَعْتَدْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ نُزُلًا ) انتهى.

و هناك وجه ثان منقول عن ابن عبّاس و هو أنّ المعنى أ فحسب الّذين كفروا أن يتّخذوا من دوني آلهة و أنا لا أغضب لنفسي عليهم و لا اُعاقبهم.

و وجه ثالث: و هو أنّ( أَنْ يَتَّخِذُوا ) إلخ مفعول أوّل لحسب بمعنى ظنّ و مفعوله الثاني محذوف، و التقدير أ فحسب الّذين كفروا اتّخاذهم عبادي من دوني أولياء نافعاً لهم أو دافعاً للعقاب عنهم، و الفرق بين هذا الوجه و الوجهين السابقين أنّ( أَنْ ) و صلته قائمة مقام المفعولين فيهما و المحذوف بعض الصلة فيهما بخلاف الوجه الثالث فأن و صلته فيه مفعول أوّل لحسب، و المفعول الثاني محذوف.

و وجه رابع: و هو أن يكون أن و صلته سادّة مسدّ المفعولين و عناية الكلام متوجّهة إلى إنكار كون الاتّخاذا اتّخاذاً حقيقة على معنى أنّ ذلك ليس من الاتّخاذ في شي‏ء إذ الاتّخاذ إنّما يكون من الجانبين و المتّخذون متبرّؤن منهم لقولهم:( سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ ) .

٣٩٥

و الوجوه الأربعة مترتّبة في الوجاهة و أوجهها أوّلها و سياق هذه الآيات يساعد عليه فإنّ هذه الآيات بل عامّة آيات السورة مسوقة لبيان أنّهم فتنوا بزينة الحياة الدنيا و اشتبه عليهم الأمر فاطمأنّوا إلى ظاهر الأسباب فاتّخذوا غيره تعالى أولياء من دونه فهم يظنّون أنّ ولايتهم تكفيهم و تنفعهم و تدفع عنهم الضرّ و الحال أنّ ما سيلقونه بعد النفخ و الجمع يناقض ذلك فالآية تنكر عليهم هذا الظنّ و الحسبان بعد ما كان مآل أمرهم ذلك. ثمّ إنّ إمكان قيام أن و صلته مقام مفعولي حسب و قد ورد في كلامه تعالى كثيراً كقوله:( أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا ) الجاثية: ٢١ و غيره يغني عن تقدير مفعول ثان محذوف و قد منع عنه بعض النحاة.

و تؤيّده الآيات التالية:( قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا ) إلخ و كذا القراءة المنسوبة إلى عليّعليه‌السلام و عدّة منهم، أ فحسب بسكون السين و ضمّ الباء و المعنى أ فاتّخاذ عبادي من دوني أولياء كاف لهم.

و المراد بالعباد في قوله:( أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي مِنْ دُونِي أَوْلِياءَ ) كلّ من يعبده الوثنيّون من الملائكة و الجنّ و الكمّلين من البشر.

و أمّا ما ذكره المفسّرون أنّ المراد بهم المسيحعليه‌السلام و الملائكة و نحوهم من المقرّبين دون الشياطين لأنّ الأكثر في مثل هذا اللفظ( عِبادِي ) أن تكون الإضافة لتشريف المضاف.

ففيه أوّلاً أنّ المقام لا يناسب التشريف. و هو ظاهر. و ثانياً أنّ قيد( مِنْ دُونِي ) في الكلام صريح في أنّ المراد بالذين كفروا هم الوثنيّون الّذين لا يعبدون الله مع الاعتراف باُلوهيّته و إنّما يعبدون الشركاء الشفعاء؟ و أمّا أهل الكتاب مثلاً النصارى في اتّخاذهم المسيح وليّاً فإنّهم لا ينفون ولاية الله بل يثبتون الولايتين معاً ثمّ يعدّونهما واحداً فافهم ذلك فالحقّ أنّ قوله:( عِبادِي ) لا يعمّ المسيح و من كان مثله من البشر بل يختصّ بآلهة الوثنيّين و المراد بقوله( الَّذِينَ كَفَرُوا ) الوثنيّون فحسب.

٣٩٦

و قوله:( إِنَّا أَعْتَدْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ نُزُلًا ) أي شيئاً يتمتّعون به عند أوّل نزولهم الدار الآخرة شبّه الدار الآخرة بالدار ينزلها الضيف و جهنّم بالنزل الّذي يكرم به الضيف النزيل لدى أوّل وروده، و يزيد هذا التشبيه لطفاً و جمالاً ما سيأتي بعد آيتين أنّهم لا يقام لهم وزن يوم القيامة فكأنّهم لا يلبثون دون أن يدخلوا النار، و في الآية من التهكّم ما لا يخفى، و كأنّما قوبل به ما سيحكى من تهكّمهم في الدنيا بقوله:( وَ اتَّخَذُوا آياتِي وَ رُسُلِي هُزُواً ) .

( بحث روائي‏)

في تفسير القمّيّ: فلمّا أخبر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بخبر موسى و فتاه و الخضر قالوا له فأخبرنا عن طائف طاف الأرض: المشرق و المغرب من هو؟ و ما قصّته؟ فأنزل الله:( وَ يَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ ) الآيات.

أقول: و قد تقدّم في الكلام على قصّة أصحاب الكهف تفصيل هذه الرواية و روي أيضاً ما في معناه في الدرّ المنثور، عن ابن أبي حاتم عن السدّيّ و عن عمر مولى غفرة.

و اعلم أنّ الروايات المرويّة من طرق الشيعة و أهل السنّة عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و من طرق الشيعة عن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام و كذا الأقوال المنقولة عن الصحابة و التابعين و يعامل معها أهل السنّة معاملة الأحاديث الموقوفة في قصّة ذي القرنين مختلفة اختلافاً عجيباً متعارضة متهافتة في جميع خصوصيّات القصّة و كافّة أطرافها و هي مع ذلك مشتملة على غرائب يستوحش منها الذوق السليم أو يحيلها العقل و ينكرها الوجود لا يرتاب الباحث الناقد إذا قاس بعضها إلى بعض و تدبّر فيها أنّها غير سليمة عن الدسّ و الوضع و مبالغات عجيبة في وصف القصّة و أغربها ما روي عن علماء اليهود الّذين أسلموا كوهب بن منبّه و كعب الأحبار أو ما يشعر القرائن أنّه مأخوذ منهم فلا يجدينا و الحال هذه نقلها بالاستقصاء على كثرتها و طولها، و

٣٩٧

إنّما نشير بعض الإشارة إلى وجوه اختلافها، و نقتصر على نقل ما يسلم عن الاختلاف في الجملة:

فمن الاختلاف اختلافها في نفسه فمعظم الروايات على أنّه كان بشراً، و قد ورد(١) في بعضها أنّه كان ملكاً سماويّاً أنزله الله إلى الأرض و آتاه من كلّ شي‏ء سبباً. و في خطط المقريزيّ عن الجاحظ في كتاب الحيوان، أنّ ذا القرنين كانت اُمّه آدميّة و أبوه من الملائكة.

و من ذلك الاختلاف في سمته ففي أكثر الروايات أنّه كان عبداً صالحاً أحبّ الله‏ فأحبّه و ناصح الله فناصحه، و في بعضها(٢) أنّه كان محدّثاً يأتيه الملك فيحدّثه و في بعضها(٣) أنّه كان نبيّاً.

و من ذلك الاختلاف في اسمه ففي بعضها أنّ اسمه(٤) عيّاش، و في بعضها(٥) إسكندر، و في بعضها(٦) مرزيا بن مرزبة اليوناني من ولد يونن بن يافث بن نوح،

____________________

(١) رواه في الدرّ المنثور عن الأحوص بن حكيم عن أبيه عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و عن الشيرازيّ عن جبير بن نفير عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و عن عدّة عن خالد بن معدان عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و عن عدّة عن عمر بن الخطّاب.

(٢) رواه في الدرّ المنثور عن ابن أبي حاتم و أبي الشيخ عن الباقرعليه‌السلام و في البرهان عن جبرئيل بن أحمد عن الأصبغ بن نباتة عن عليّعليه‌السلام و في نور الثقلين عن اُصول الكافي عن الحارث ابن المغيرة عن أبي جعفرعليه‌السلام .

(٣) رواه العيّاشيّ عن أبي حمزة الثماليّ عن أبي جعفرعليه‌السلام و رواه في الدرّ المنثور عن أبي الشيخ عن أبي الورقاء عن عليّعليه‌السلام و في هذا المعنى روايات اُخرى.

(٤) كما في تفسير العيّاشيّ عن الأصبغ بن نباتة عن عليّعليه‌السلام ، و في البرهان عن الثماليّ عن الباقرعليه‌السلام .

(٥) كما يظهر من رواية قرب الإسناد للحميري عن الكاظمعليه‌السلام و رواية الدرّ المنثور عن عدّة عن عقبة بن عامر عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و روايته أيضاً عن عدّة عن وهب.

(٦) في الدرّ المنثور عن ابن المنذر و ابن أبي حاتم و أبي الشيخ من طريق ابن إسحاق عن بعض من أسلم من أهل الكتاب.

٣٩٨

و في بعضها(١) مصعب بن عبدالله من قحطان و في(٢) بعضها صعب بن ذي المراثد أوّل التبابعة و كأنّه التبّع أبوكرب، و في بعضها(٣) عبدالله بن ضحّاك بن معدّ إلى غير ذلك و هي كثيرة.

و من ذلك الاختلاف في وجه تسميته بذي القرنين ففي بعضها(٤) أنّه دعا قومه إلى الله فضربوه على قرنه الأيمن فغاب عنهم زماناً ثمّ جاءهم و دعاهم إلى الله ثانياً فضربوه على قرنه الأيسر فغاب عنهم زماناً ثمّ آتاه الله الأسباب فطاف شرق الأرض و غربها فسمّي بذلك ذا القرنين، و في بعضها(٥) أنّهم قتلوه بالضربة الاُولى ثمّ أحياه الله‏ فجاءهم و دعاهم فضربوه و قتلوه ثانياً ثمّ أحياه الله و رفعه إلى السماء الدنيا ثمّ أنزله إلى الأرض و آتاه من كلّ شي‏ء سبباً.

و في بعضها(٦) أنّه نبت له بعد الإحياء الثاني قرنان في موضعي الشجّتين و سخّر الله له النور و الظلمة ثمّ لمّا نزل إلى الأرض سار فيها و دعا إلى الله و كان يزأر كالأسد و يبرق و يرعد قرناه و إذا استكبر عن دعوته قوم سلّط عليهم الظلمة فأعيتهم حتّى اضطرّوا إلى إجابتها.

و في بعضها(٧) أنّه كان له قرنان في رأسه و كان يتعمّم عليهما يواريهما بذلك و هو أوّل من تعمّم و قد كان يخفيهما عن الناس و لم يكن يطّلع على ذلك أحد إلّا

____________________

(١) البداية و النهاية.

(٢) البداية و النهاية عن ابن هشام في التيجان.

(٣) في الخصال عن محمّد بن خالد مرفوعاً، و في البداية و النهاية عن زبير بن بكار عن ابن عبّاس.

(٤) في البرهان عن الصدوق عن الأصبغ عن عليّعليه‌السلام ، و في تفسير القمّيّ عن أبي بصير عن الصادقعليه‌السلام و في الخصال عن أبي بصير عن الصادقعليه‌السلام .

(٥) في تفسير العيّاشيّ عن الأصبغ عن عليّعليه‌السلام و في الدرّ المنثور عن ابن مردويه من طريق أبي الطفيل عن عليّعليه‌السلام و رواه العيّاشيّ أيضاً و روي أيضاً في روايات اُخر.

(٦) تفسير العيّاشيّ عن الأصبغ عن عليّعليه‌السلام و في الدرّ المنثور عن عدّة عن وهب بن منبه ما في معناه.

(٧) في الدرّ المنثور عن أبي الشيخ عن وهب بن منبه.

٣٩٩

كاتبه و قد نهاه أن يخبر به أحداً فضاق صدر الكاتب بذلك فأتى الصحراء فوضع فمه بالأرض ثمّ نادى ألا إنّ للملك قرنين فأنبت الله من كلمته قصبتين فمرّ بهما راع فأعجبهما فقطعهما و اتّخذهما مزماراً فكان إذا زمر خرج من القصبتين: ألا إنّ للملك قرنين فانتشر ذلك في المدينة فأرسل إلى الكاتب و استنطقه و هدّده بالقتل إن لم يصدق فقصّ عليه القصّة فقال ذو القرنين هذا أمر أراد الله أن يبديه فوضع العمامة عن رأسه.

و قيل:(١) سمّي ذا القرنين لأنّه ملك قرني الأرض و هما المشرق و المغرب و قيل:(٢) لأنّه رأى في المنام أنّه أخذ بقرني الشمس فعبّر له بملك الشرق و الغرب و سمّي بذي القرنين، و قيل:(٣) لأنّه كان له عقيصتان في رأسه، و قيل(٤) لأنّه ملك الروم و فارس، و قيل(٥) : لأنّه كان له في رأسه شبه قرنين، و قيل(٦) لأنّه كان على تاجه‏ قرنان من الذهب إلى غير ذلك ممّا قيل.

و من ذلك اختلافها في سيره إلى المغرب و المشرق و فيه أشدّ الاختلاف فقد روي(٧) أنّه سخّر له السحاب فكان يركب السحاب و يسير في الأرض غرباً و شرقاً. و روي(٨) أنّه بلغ جبل قاف و هو جبل أخضر محيط بالدنيا منه خضرة السماء. و روي(٩) أنّه طلب عين الحياة فاُشير عليه أنّها في الظلمات فدخلها و في مقدّمته الخضر

____________________

(١) في الدرّ المنثور عن عدّة عن أبي العالية و ابن شهاب.

(٢) في نور الثقلين عن الخرائج و الحرائج عن العسكريعليه‌السلام عن عليّعليه‌السلام .

(٣) في الدرّ المنثور عن الشيرازيّ عن قتادة.

(٤) في الدرّ المنثور عن عدّة عن وهب.

(٥) المصدر السابق.

(٦) نقله في روح المعاني.

(٧) في عدّة من روايات العامّة و الخاصّة الموردة في الدرّ المنثور و البرهان و نور الثقلين و البحار.

(٨) في البرهان عن جميل عن الصادقعليه‌السلام و في الدرّ المنثور عن عبد بن حميد و غيره عن عكرمة.

(٩) في تفسير القمّيّ عن عليّعليه‌السلام و في تفسير العيّاشيّ عن هشام عن بعض آل محمّدعليه‌السلام و في الدرّ المنثور عن ابن أبي حاتم و غيره عن الباقرعليه‌السلام .

٤٠٠

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443