الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٣

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 443

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 443
المشاهدات: 107069
تحميل: 5630


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 443 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 107069 / تحميل: 5630
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 13

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

من ملوكهم من يسمّى بذي القرنين، و لكن هل هذا هو ذو القرنين المذكور في القرآن؟

نحن نقول: كلّا لأنّ هذا مذكور في ملوك قريبي العهد منّا جدّاً، و لم ينقل ذلك عنهم اللّهمّ إلّا في روايات ذكرها القصّاصون في التاريخ مثل أنّ( شمّر يرعش) وصل إلى بلاد العراق و فارس و خراسان و الصغد، و بنى مدينة سمرقند و أصله شمّركند، و أنّ‏ أسعد أبو كرب غزا أذربيجان، و بعث حسّانا ابنه إلى الصغد، و ابنه يعفر إلى الروم، و ابن أخيه إلى الفرس، و أنّ من الحميريّين من بقوا في الصين لهذا العهد بعد غزو ذلك الملك لها.

و كذب ابن خالدون و غيره هذه الأخبار، و وسموها بأنّها مبالغ فيها، و نقضوها بأدلّة جغرافيّة و اُخرى تاريخيّة.

إذن يكون ذو القرنين من اُمّة العرب و لكنّه في تاريخ قديم قبل التاريخ المعروف. انتهى ملخّصا.

و- و قيل: إنّ ذا القرنين هو كورش أحد ملوك الفرس الهخامنشيين (٥٣٩ - ٥٦٠ ق م) و هو الّذي أسّس الإمبراطوريّة الإيرانيّة، و جمع بين مملكتي الفارس و ماد، و سخّر بابل و أذن في رجوع اليهود من بابل إلى اُورشليم و ساعد في بناء الهيكل و سخّر مصر ثمّ اجتاز إلى يونان فغلبهم و بلغ المغرب ثمّ سار إلى أقاصي المعمورة في المشرق.

ذكره بعض من قارب(١) عصرنا ثمّ بذل الجهد في إيضاحه و تقريبه بعض محقّقي(٢) الهند في هذه الأواخر بيان ذلك إجمالاً أنّ الذي ذكره القرآن من وصف ذي القرنين منطبق على هذا الملك العظيم فقد كان مؤمناً بالله بدين التوحيد عادلاً في رعيّته سائراً بالرأفة و الرفق و الإحسان سائساً لأهل الظلم و العدوان، و قد آتاه الله من كلّ شي‏ء سبباً فجمع بين الدين و العقل و فضائل الأخلاق و العدّة

____________________

(١) سر أحمد خان الهندي.

(٢) الباحث المحقّق مولانا أبو الكلام آزاد.

٤٢١

و القوّة و الثروة و الشوكة و مطاوعة الأسباب.

و قد سار كما ذكره الله في كتابه مرّة نحو المغرب حتّى استولى على ليديا و حواليها ثمّ سار ثانياً نحو المشرق حتّى بلغ مطلع الشمس و وجد عنده قوماً بدويّين همجيّين يسكنون في البراري ثمّ بنى السدّ و هو على ما يدلّ عليه الشواهد السدّ المعمول في مضيق داريال بين جبال قفقاز بقرب( مدينة تفليس) هذا إجمال الكلام و دونك التفصيل:

إيمانه بالله و اليوم الآخر: يدلّ على ذلك ما في كتب العهد العتيق ككتاب عزرا، (الإصحاح ١) و كتاب دانيال، (الإصحاح ٦) و كتاب أشعيا، (الإصحاح ٤٤ و ٤٥) من تجليله و تقديسه حتّى سمّاه في كتاب الأشعياء( راعي الربّ) و قال في الإصحاح الخامس و الأربعين:( هكذا يقول الربّ لمسيحه لكورش الذي أمسكت بيمينه لأدوس أمامه اُمما و أحقاء ملوك أحلّ لأفتح أمامه المصراعين و الأبواب لا تغلّق. أنا أسير قدّامك و الهضاب اُمهّد أكسر مصراعي النحاس و مغاليق الحديد أقصف. و اُعطيك ذخائر الظلمة و كنوز المخابي. لكي تعرف أنّي أنا الربّ الّذي يدعوك باسمك. لقّبتك و أنت لست تعرفني) .

و لو قطع النظر عن كونه وحيا فاليهود على ما بهم من العصبيّة المذهبيّة لا يعدّون رجلاً مشركاً مجوسيّاً أو وثنيّاً - لو كان كورش كذلك - مسيحاً إلهيّاً مهديّاً مؤيّداً و راعياً للربّ.

على أنّ النقوش و الكتابات المخطوطة بالخطّ المسماريّ المأثور عن داريوش الكبير و بينهما من الفصل الزمانيّ ثماني سنين ناطقة بكونه موحّداً غير مشرك، و ليس من المعقول أن يتغيّر ما كان عليه كورش في هذا الزمن القصير.

و أمّا فضائله النفسانيّة فيكفي في ذلك الرجوع إلى المحفوظ من أخباره و سيرته و ما قابل به الطغاة و الجبابرة الّذين خرجوا عليه أو حاربهم كملوك( ماد) و( ليديا) و( بابل) و( مصر) و طغاة البدو في أطراف( بكتريا) و هو البلخ و غيرهم، و كان كلّما ظهر على قوم عفا عن مجرميهم، و أكرم كريمهم و رحم ضعيفهم

٤٢٢

و ساس مفسدهم و خائنهم.

و قد أثنى عليه كتب العهد القديم، و اليهود يحترمه أعظم الاحترام لما نجّاهم من أسارة بابل و أرجعهم إلى بلادهم و بذل لهم الأموال لتجديد بناء الهيكل و ردّ إليهم نفائس الهيكل المنهوبة المخزونة في خزائن ملوك بابل، و هذا في نفسه مؤيّد آخر لكون ذي القرنين هو كورش فإنّ السؤال عن ذي القرنين إنّما كان بتلقين من اليهود على ما في الروايات.

و قد ذكره مورّخوا يونان القدماء كهرودت و غيره فلم يسعهم إلّا أن يصفوه بالمروّة و الفتوّة و السماحة و الكرم و الصفح و قلّة الحرص و الرحمة و الرأفة و يثنوا عليه بأحسن الثناء.

و أمّا تسميته بذي القرنين‏ فالتواريخ و إن كانت خالية عمّا يدلّ على شي‏ء في ذلك لكنّ اكتشاف تمثاله الحجريّ أخيراً في مشهد مرغاب في جنوب إيران يزيل الريب في اتّصافه بذي القرنين فإنّه مثّل فيه ذا قرنين نابتين من اُمّ رأسه من منبت واحد أحد القرنين مائل إلى قدّام و الآخر آخذ جهة الخلف. و هذا قريب من قول من قال من القدماء في وجه تسمية ذي القرنين أنّه كان له تاج أو خوذة فيه قرنان.

و قد ورد في كتاب دانيال، ذكر رؤيا رأى كورش فيه في صورة كبش ذي قرنين قال فيه(١) :

( في السنة الثالثة من ملك( بيلشاصّر) الملك ظهرت لي أنا دانيال رؤيا بعد الّتي ظهرت لي في الابتداء. فرأيت في الرؤيا و كأنّ في رؤياي و أنا في( شوشن) القصر الّذي في ولاية عيلام. و رأيت في الرؤيا و أنا عند نهر( اُولاي) فرفعت عيني و إذا بكبش واقف عند النهر و له قرنان و القرنان عاليان و الواحد أعلى من الآخر و الأعلى طالع أخيراً. رأيت الكبش ينطح غرباً و شمالاً و جنوباً فلم يقف حيوان قدّامه و لا منفذ من يده و فعل كمرضاته و عظم.

____________________

(١) كتاب دانيال الإصحاح الثامن ١ - ٩.

٤٢٣

و بينما كنت متأمّلاً إذا بتيس من المعز جاء من المغرب على وجه كلّ الأرض و لم يمسّ الأرض و للتيس قرن معتبر بين عينيه. و جاء إلى الكبش صاحب القرنين الّذي رأيته واقفاً عند النهر و ركض إليه بشدّة قوّته و رأيته قد وصل جانب الكبش فاستشاط عليه و ضرب الكبش و كسر قرنيه فلم تكن للكبش قوّة على الوقوف أمامه و طرحه على الأرض و داسه و لم يكن للكبش منفذ من يده. فتعظّم تيس المعز جدّاً) .

ثمّ ذكر بعد تمام الرؤيا أنّ جبرائيل تراآى له و عبّر رؤياه بما ينطبق فيه الكبش ذو القرنين على كورش، و قرناه مملكتا الفارس و ماد، و التيس ذو القرن الواحد على‏ الإسكندر المقدونيّ.

و أمّا سيره نحو المغرب و المشرق فسيره نحو المغرب كان لدفع طاغية( ليديا) و قد سار بجيوشه نحو كورش ظلما و طغياناً من غير أيّ عذر يجوّز له ذلك فسار إليه و حاربه و هزمه ثمّ عقّبه حتّى حاصره في عاصمة ملكه ثمّ فتحها و أسره ثمّ عفا عنه و عن سائر أعضاده و أكرمه و إيّاهم و أحسن إليهم و كان له أن يسوسهم و يبيدهم و انطباق القصّة على قوله تعالى:( حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ - و لعلّها الساحل الغربيّ من آسيا الصغرى -وَ وَجَدَ عِنْدَها قَوْماً قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَ إِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً ) و ذلك لاستحقاقهم العذاب بطغيانهم و ظلمهم و فسادهم.

ثمّ إنّه سار نحو الصحراء الكبير بالمشرق حوالي بكتريا لإخماد غائلة قبائل بدويّة همجيّة انتهضوا هناك للمهاجمة و الفساد و انطباق قوله تعالى:( حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى‏ قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً ) عليه ظاهر.

و أمّا بناؤه السدّ: فالسدّ الموجود في مضيق جبال قفقاز الممتدّة من بحر الخزر إلى البحر الأسود، و يسمّى المضيق( داريال) (١) و هو واقع بلدة( تفليس) و

____________________

(١) و لعلّه محرف ( داريول ) بمعنى المضيق بالتركية، و يسمّى السدّ باللغة المحلّيّة ( دمير قابو ) و معناه باب الحديد.

٤٢٤

بين( ولادي كيوكز) .

و هذا السدّ واقع في مضيق بين جبلين شاهقين يمتدّان من جانبيه و هو وحدة الفتحة الرابطة بين جانبي الجبال الجنوبيّ و الشماليّ و الجبال مع ما ينضمّ إليها من بحر الخزر و البحر الأسود حاجز طبيعيّ في طول اُلوف من الكيلومترات يحجز جنوب آسيا من شمالها.

و كان يهجم في تلك الأعصار أقوام شريرة من قاطني الشمال الشرقيّ من آسيا من مضيق جبال قفقاز إلى ما يواليها من الجنوب فيغيرون على ما دونها من أرمينستان ثمّ إيران حتّى الآشور و كلدة، و هجموا في حوالي المائة السابعة قبل الميلاد فعمّموا البلاد قتلا و سبيا و نهبا حتّى بلغوا نينوى عاصمة الآشور و كان ذلك في القرن السابق على عهد كورش تقريباً.

و قد ذكر المورّخون من القدماء كهرودوت اليوناني سير كورش إلى شمال إيران لإخماد نوائر فتن اشتعلت هناك، و الظاهر أنّه بنى السدّ في مضيق داريال في مسيره هذا لاستدعاء من أهل الشمال و تظلّم منهم، و قد بناه بالحجارة و الحديد و هو الردم الوحيد الّذي استعمل فيه الحديد، و هو بين سدّين جبلين، و انطباق قوله تعالى:( فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُمْ رَدْماً آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ ) الآيات عليه ظاهر.

و ممّا اُيّد به هذا المدّعى وجود نهر بالقرب منه يسمّى( سايروس) و هو اسم كورش عند الغربيّين، و نهر آخر يمرّ بتفليس يسمّى( كر) و قد ذكر هذا السدّ( يوسف) اليهوديّ المورّخ عند ذكر رحلته إلى شمال قفقاز و ليس هو الحائط الموجود في باب الأبواب على ساحل بحر الخزر فإنّ التاريخ ينسب بناءه إلى كسرى أنوشيروان و كان يوسف قبله(١) .

على أنّ سدّ باب الأبواب غير سدّ ذي القرنين المذكور في القرآن قطعاً إذ لم يستعمل فيه حديد قطّ.

و أمّا يأجوج و مأجوج‏ فالبحث عن التطوّرات الحاكمة على اللّغات يهدينا

____________________

(١) فهو على ما يقال كان يعيش في القرن الأوّل الميلادي.

٤٢٥

إلى أنّهم المغول فإنّ الكلمة بالتكلّم الصينيّ( منگوک) أو( منچوک) و لفظتا يأجوج و مأجوج كأنّهما نقل عبرانيّ و هما في التراجم اليونانيّة و غيرها للعهد العتيق( گوک) و( مأگوک) و الشبه الكامل بين( ماگوک) و( منگوک) يقضي بأنّ الكلمة متطوّرة من التلفّظ الصينيّ( منگوک) كما اشتقّ منه( منغول) و( مغول) و لذلك في باب تطوّرات الألفاظ نظائر لا تحصى.

فيأجوج و مأجوج هما المغول و كانت هذه الاُمّة القاطنة بالشمال الشرقيّ من آسيا من أقدم الأعصار اُمّة كبيرة مهاجمة تهجم برهة إلى الصين و برهة من طريق داريال قفقاز إلى أرمينستان و شمال إيران و غيرها و برهة و هي بعد بناء السدّ إلى شمال اُوربة و تسمّى‏ عندهم بسيت و منهم الاُمّة الهاجمة على الروم و قد سقطت في هذه الكرّة دولة رومان، و قد تقدّم أيضاً أنّ المستفاد من كتب العهد العتيق أنّ هذه الاُمّة المفسدة من سكنة أقاصي الشمال.

هذه جملة ما لخّصناه من كلامه، و هو و إن لم يخل عن اعتراض مّا في بعض أطرافه لكنّه أوضح انطباقاً على الآيات و أقرب إلى القبول من غيره.

ز- و ممّا قيل في ذي القرنين ما سمعته عن بعض مشايخي أنّه من أهل بعض الأدوار السابقة على هذه الدورة الإنسانيّة و هو غريب و لعلّه لتصحيح ما ورد في الأخبار من عجائب حالات ذي القرنين و غرائب ما وقع منه من الوقائع كموته و حياته مرّة بعد مرّة و رفعه إلى السماء و نزوله إلى الأرض و قد سخّر له السحاب يسير به إلى المغرب و المشرق، و تسخير النور و الظلمة و الرعد و البرق له، و من المعلوم أنّ تاريخ هذه الدورة لا يحفظ شيئاً من ذلك فلا بدّ أن يكون ذلك في بعض الأدوار السابقة هذا، و قد بالغ في حسن الظنّ بتلك الأخبار.

٤- معنى صيرورة السدّ دكاء كما أخبر به القرآن‏:

ه - أمعن أهل التفسير و المورّخون في البحث حول القصّة، و أشبعوا الكلام في أطرافها، و أكثرهم على أنّ يأجوج و مأجوج اُمّة كبيرة في شمال آسيا، و قد طبّق جمع منهم ما أخبر به القرآن من خروجهم في آخر الزمان و إفسادهم في الأرض على هجوم التتر في النصف الأوّل من القرن السابع الهجريّ على غربيّ

٤٢٦

آسيا، و إفراطهم في إهلاك الحرث و النسل بهدم البلاد و إبادة النفوس و نهب الأموال و فجائع لم يسبقهم إليها سابق.

و قد أخضعوا أوّلاً الصين ثمّ زحفوا إلى تركستان و إيران و العراق و الشام و قفقاز إلى آسيا الصغرى، و أفنوا كلّ ما قاومهم من المدن و البلاد و الحصون كسمرقند و بخارا و خوارزم و مرو و نيسابور و الريّ و غيرها فكانت المدينة من المدن تصبح و فيها مات الاُلوف من النفوس، و تمسي و لم يبق من عامّة أهلها نافخ نار، و لا من هامة أبنيتها حجر على حجر.

ثمّ رجعوا إلى بلادهم ثمّ عادوا و حملوا على الروس و دمّروا أهل بولونيا و بلاد المجر و حملوا على الروم و ألجأوهم على الجزية كلّ ذلك في فجائع يطول شرحها.

لكنّهم أهملوا البحث عن أمر السدّ من جهة خروجهم منه و حلّ مشكلته فإنّ قوله تعالى:( فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَ مَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً قالَ هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَ كانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا وَ تَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ ) الآيات ظاهره على ما فسّروه أنّ هذه الاُمّة المفسدة محبوسون فيما وراءه لا مخرج لهم إلى سائر الأرض ما دام معموراً قائماً على ساقه حتّى إذا جاء وعد الله سبحانه جعله دكّاء منثلماً أو منهدماً فخرجوا منه إلى الناس و ساروا بالفساد و الشرّ.

فكان عليهم - على هذا - أن يقرّروا للسدّ وصفه هذا فإن كانت هذه الاُمّة المذكورة هي التتر و قد ساروا من شمال الصين إلى إيران و العراق و الشام و قفقاز إلى آسيا الصغرى فأين كان هذا السدّ الموصوف في القرآن الّذي وطؤوه ثمّ طلعوا منه إلى هذه البلاد و جعلوا عاليها سافلها؟.

و إن لم تكن هي التتر أو غيرها من الاُمم المهاجمة في طول التاريخ فأين هذا السدّ المشيّد بالحديد و من صفته أنّه يحبس اُمّة كبيرة منذ اُلوف من السنين من أن تهجم على سائر أقطار الأرض و لا مخرج لهم إلى سائر الدنيا دون السدّ المضروب دونهم و قد ارتبطت اليوم بقاع الأرض بعضها ببعض بالخطوط البرّيّة و البحريّة و الهوائيّة و ليس يحجز حاجز طبيعيّ كجبل أو بحر أو صناعيّ كسدّ أو سور أو

٤٢٧

خندق اُمّة من اُمّة فأيّ معنى لانصداد قوم عن الدنيا بسدّ بين جبلين بأيّ وصف وصف و على أيّ نحو فرض؟.

و الّذي أرى في دفع هذا الإشكال - و الله أعلم - أنّ قوله:( دَكَّاءَ ) من الدكّ بمعنى الذلّة، قال في لسان العرب: و جبل دُكّ: ذليل. انتهى. و المراد بجعل السدّ دكّاء جعله ذليلاً لا يعبأ بأمره و لا ينتفع به من جهة اتّساع طرق الارتباط و تنوّع وسائل الحركة و الانتقال برّاً و بحراً و جوّاً.

فحقيقة هذا الوعد هو الوعد برقيّ المجتمع البشريّ في مدنيّته، و اقتراب شتّى اُممه إلى حيث لا يسدّه سدّ و لا يحوطه حائط عن الانتقال من أيّ صقع من أصقاع الأرض إلى غيره و لا يمنعه من الهجوم و الزحف إلى أيّ قوم شاؤا.

و يؤيّد هذا المعنى سياق قوله تعالى في موضع آخر يذكر فيه هجوم يأجوج و مأجوج( حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَ مَأْجُوجُ وَ هُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ ) حيث عبّر بفتح يأجوج و مأجوج و لم يذكر السدّ.

و للدكّ معنى آخر و هو الدفن بالتراب ففي الصحاح:، دككت الركيّ - و هو البئر - دفنته بالتراب انتهى، و معنى آخر و هو صيرورة الجبل رابية من طين، قال في الصحاح: و تدكدكت الجبال أي صارت روابي من طين واحدتها دكّاء انتهى. فمن الممكن أن يحتمل أنّ السدّ من جملة أبنية العهود القديمة الّتي ذهبت مدفونة تحت التراب عن رياح عاصفة أو غريقة بانتقال البحار أو اتّساع بعضها على ما تثبتها الأبحاث الجيولوجيّة، و بذلك يندفع الإشكال لكنّ الوجه السابق أوجه و الله أعلم.

٤٢٨

( سورة الكهف الآيات ١٠٣ - ١٠٨)

قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا ( ١٠٣ ) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا ( ١٠٤ ) أُولَٰئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا ( ١٠٥ ) ذَٰلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا ( ١٠٦ ) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا ( ١٠٧ ) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا ( ١٠٨ )

( بيان‏)

الآيات الستّ في منزلة الاستنتاج ممّا تقدّم من آيات السورة الشارحة لافتنان المشركين بزينة الحياة الدنيا و اطمئنانهم بأولياء من دون الله و ابتلائهم بما ابتلوا به من غشاوة الأبصار و وقر الأذان و ما يتعقّب ذلك من سوء العاقبة، و تمهيد لما سيأتي من قوله في آخر السورة:( قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ ) الآية.

قوله تعالى: ( قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا ) ظاهر السياق أنّ الخطاب للمشركين و هو مسوق سوق الكناية و هم المعنيّون بالتوصيف و سيقترب من التصريح في قوله:( أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَ لِقائِهِ ) فالمنكرون للنبوّة و المعاد هم المشركون.

قيل: و لم يقل: بالأخسرين عملاً، مع أنّ الأصل في التمييز أن يأتي مفرداً و المصدر شامل للقليل و الكثير للإيذان بتنوّع أعمالهم و قصد شمول الخسران لجميعها.

قوله تعالى: ( الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ هُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً ) إنباء بالأخسرين أعمالاً و هم الّذين عرض في الآية السابقة على المشركين أن ينبّئهم

٤٢٩

بهم و يعرفّهم إيّاهم فعرّفهم بأنّهم الّذين ضلّ سعيهم في الحياة الدنيا، و ضلال السعي خسران ثمّ عقّبه بقوله:( وَ هُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً ) و بذلك تمّ كونهم أخسرين.

بيان ذلك: أنّ الخسران و الخسار في المكاسب و المساعي المأخوذة لغاية الاسترباح إنّما يتحقّق إذا لم يصب الكسب و السعي غرضه و انتهى إلى نقص في رأس المال أو ضيعة السعي و هو المعبّر عنه في الآية بضلال السعي كأنّه ضلّ الطريق فانتهى به السير إلى خلاف غرضه. و الإنسان ربّما يخسر في كسبه و سعيه لعدم تدرّب في العمل أو جهل بالطريق أو لعوامل اُخر اتّفاقيّة و هي خسران يرجى زواله فإنّ من المرجوّ أن يتنبّه به صاحبه ثمّ يستأنف العمل فيتدارك ما ضاع منه و يقضي ما فات، و ربّما يخسر و هو يذعن بأنّه يربح، و يتضرّر و هو يعتقد أنّه ينتفع لا يرى غير ذلك و هو أشدّ الخسران لا رجاء لزواله.

ثمّ الإنسان في حياته الدنيا لا شأن له إلّا السعي لسعادته و لا همّ له فيما وراء ذلك فإن ركب طريق الحقّ و أصاب الغرض و هو حقّ السعادة فهو، و إن أخطأ الطريق و هو لا يعلم بخطإه فهو خاسر سعياً لكنّه مرجوّ النجاة، و إن أخطأ الطريق و أصاب غير الحقّ و سكن إليه فصار كلّما لاح له لائح من الحقّ ضربت عليه نفسه بحجاب الإعراض و زيّنت له ما هو فيه من الاستكبار و عصبيّة الجاهليّة فهو أخسر عملاً و أخيب سعياً لأنّه خسران لا يرجى زواله و لا مطمع في أن يتبدّل يوماً سعادة، و هو قوله تعالى في تفسير الأخسرين أعمالاً:( الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ هُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً ) .

و حسبانهم عملهم حسناً مع ظهور الحقّ و تبيّن بطلان أعمالهم لهم إنّما هو من جهة انجذاب نفوسهم إلى زينات الدنيا و زخارفها و انغمارهم في الشهوات فيحبسهم ذلك عن الميل إلى اتّباع الحقّ و الإصغاء إلى داعي الحقّ و منادي الفطرة قال تعالى:( وَ جَحَدُوا بِها وَ اسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ) النمل: ١٤ و قال:( وَ إِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ ) البقرة: ٢٠٦ فاتّباعهم هوى أنفسهم و مضيّهم على ما هم

٤٣٠

عليه من الإعراض عن الحقّ عناداً و استكباراً و الانغمار في شهوات النفس ليس إلّا رضى منهم بما هم عليه و استحساناً منهم لصنعهم.

قوله تعالى: ( أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَ لِقائِهِ ) تعريف ثان و تفسير بعد تفسير للأخسرين أعمالاً، و المراد بالآيات - على ما يقتضيه إطلاق الكلمة - آياته تعالى في الآفاق و الأنفس و ما يأتي به الأنبياء و الرسل من المعجزات لتأييد رسالتهم فالكفر بالآيات كفر بالنبوّة، على أنّ النبيّ نفسه من الآيات، و المراد بلقاء الله الرجوع إليه و هو المعاد.

فآل تعريف الأخسرين أعمالاً إلى أنّهم المنكرون للنبوّة و المعاد و هذا من خواصّ الوثنيّين.

قوله تعالى: ( فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً ) وجه حبط أعمالهم أنّهم لا يعملون عملاً لوجه الله و لا يريدون ثواب الدار الآخرة و سعادة حياتها و لا أنّ الباعث لهم على العمل ذكر يوم الحساب و قد مرّ كلام في الحبط في مباحث الأعمال في الجزء الثاني من هذا الكتاب.

و قوله:( فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً ) تفريع على حبط أعمالهم و الوزن يوم القيامة بثقل الحسنات على ما يدلّ عليه قوله تعالى:( وَ الْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَ مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ ) الأعراف: ٩، و إذ لا حسنة للحبط فلا ثقل فلا وزن.

قوله تعالى: ( ذلِكَ جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِما كَفَرُوا وَ اتَّخَذُوا آياتِي وَ رُسُلِي هُزُواً ) الإشارة إلى ما أورده من وصفهم و اسم الإشارة خبر لمبتدإ محذوف و التقدير: الأمر ذلك أي حالهم ما وصفناه و هو تأكيد و قوله:( جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ ) كلام مستأنف ينبئ عن عاقبة أمرهم. و قوله:( بِما كَفَرُوا وَ اتَّخَذُوا آياتِي وَ رُسُلِي هُزُواً ) في معنى بما كفروا و ازدادوا كفرا باستهزاء آياتي و رسلي.

قوله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا ) الفردوس يذكّر و يؤنّث قيل: هي البستان بالروميّة، و قيل: الكرم بالنبطيّة

٤٣١

و أصله فرداسا، و قيل: جنّة الأعناب بالسريانيّة، و قيل الجنّة بالحبشيّة، و قيل: عربيّة و هي الجنّة الملتفّة بالأشجار و الغالب عليه الكرم.

و قد استفاد بعضهم من عدّه جنّات الفردوس نزلاً و قد عدً سابقاً جهنّم للكافرين نزلاً أنّ وراء الجنّة و النار من الثواب و العقاب ما لم يوصف بوصف و ربّما أيّده أمثال قوله تعالى:( لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها وَ لَدَيْنا مَزِيدٌ ) ق: ٣٥ و قوله:( فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ ) الم السجدة: ١٧، و قوله:( وَ بَدا لَهُمْ مِنَ اللهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ ) .

قوله تعالى: ( خالِدِينَ فِيها لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلًا ) البغي الطلب، و الحول التحوّل، و الباقي ظاهر.

( بحث روائي)

في الدرّ المنثور، أخرج ابن مردويه عن أبي الطفيل قال: سمعت عليّ بن أبي طالب و سأله ابن الكوّا فقال: من( هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا ) قال: فجرة قريش.

و في تفسير العيّاشيّ، عن إمام بن ربعيّ قال: قال ابن الكوّا إلى أميرالمؤمنينعليه‌السلام فقال: أخبرني عن قول الله:( قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ - إلى قوله -صُنْعاً ) قال: اُولئك أهل الكتاب كفروا بربّهم، و ابتدعوا في دينهم فحبطت أعمالهم و ما أهل النهر منهم ببعيد.

أقول: و روي أنّهم النصارى، القمّيّ عن أبي جعفرعليه‌السلام و الطبرسيّ في الاحتجاج، عن عليّعليه‌السلام : أنّهم أهل الكتاب‏ و في الدرّ المنثور، عن ابن المنذر و ابن أبي حاتم عن أبي خميصة عبدالله بن قيس عن عليّعليه‌السلام : أنّهم الرهبان الّذين حبسوا أنفسهم في السواري.

و الروايات جميعاً من قبيل الجري، و الآيتان واقعتان في سياق متّصل وجه الكلام فيه مع المشركين، و الآية الثالثة( أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَ لِقائِهِ )

٤٣٢

الآية و هي تفسّر الثانية أوضح انطباقاً على الوثنيّين منها على غيرهم كما مرّ فما عن القمّيّ في تفسيره في ذيل الآية أنّها نزلت في اليهود و جرت في الخوارج ليس بصواب.

في تفسير البرهان، عن محمّد بن العبّاس بإسناده عن الحارث عن عليّعليه‌السلام قال: لكلّ شي‏ء ذروة و ذروة الجنّة الفردوس، و هي لمحمّد و آل محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

و في الدرّ المنثور، أخرج البخاريّ و مسلم و ابن أبي حاتم عن أبي هريرة قال قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنّه وسط الجنّة و أعلى الجنّة، و فوقه عرش الرحمن، و منه تفجر أنهار الجنّة.

و في المجمع، روى عبادة بن الصامت عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: الجنّة مائة درجة ما بين كلّ درجتين كما بين السماء و الأرض، الفردوس أعلاها درجة، منها تفجر أنهار الجنّة الأربعة فإذا سألتم الله تعالى فاسألوه الفردوس.

أقول: و في هذا المعنى روايات اُخر.

في تفسير القمّيّ، عن جعفر بن أحمد عن عبيد الله بن موسى عن الحسن بن عليّ بن أبي حمزة عن أبيه عن أبي بصير عن أبي عبداللهعليه‌السلام في حديث قال: قلت قوله:( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا ) قال: نزلت في أبي ذرّ و سلمان و المقداد و عمّار بن ياسر جعل الله لهم جنّات الفردوس نزلاً أي مأوى و منزلاً.

أقول: و ينبغي أن يحمل على الجري أو المراد نزولها في المؤمنين حقّاً و إنّما ذكر الأربعة لكونهم من أوضح المصاديق و إلّا فالسورة مكّيّة و سلمان رضي الله عنه ممّن آمن بالمدينة. على أنّ سند الحديث لا يخلو عن وهن‏.

٤٣٣

( سورة الكهف آية ١٠٩)

قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا ( ١٠٩ )

( بيان‏)

الآية بيان مستقلّ لسعة كلمات الله تعالى و عدم قبولها النفاد، و ليس من البعيد أن تكون نازلة وحدها لا في ضمن آيات السورة لكنّها لو كانت نازلة في ضمن آياتها كانت مرتبطة بجميع ما بحثت عنه السورة.

و ذلك أنّ السورة أشارت في أوّلها إلى أنّ هناك حقائق إلهيّة و ذكرت أوّلاً في تسلية النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن حزنه من إعراضهم عن الذكر أنّ عامّتهم في رقدة عن التنبّه لها و سيستيقظون عن نومتهم، و أورد في ذلك قصّة أصحاب الكهف ثمّ ذكّر باُمور اُورد في ذيلها قصّة موسى و الخضر حيث شاهد موسى عنه أعمالاً ذات تأويل لم يتنبّه لتأويلها و أغفله ظاهرها عن باطنها حتّى بيّنها له الخضر فسكن عند ذلك قلقه ثمّ أورد قصّة ذي القرنين و السدّ الّذي ضربه بأمر من الله في وجه المفسدين من يأجوج و مأجوج فحجزهم عن ورود ما وراءه و الإفساد فيه.

فهذه - كما ترى - اُمور تحتها حقائق و أسرار و بالحقيقة كلمات تكشف عن مقاصد إلهيّة و بيانات تنبئ عن خبايا يدعو الذكر الحكيم الناس إليها، و الآية - و الله أعلم - تنبئ أنّ هذه الاُمور و هي كلماته تعالى المنبّئة عن مقاصده لا تنفد و الآية في وقوعها بعد استيفاء السورة ما استوفتها من البيان بوجه مثل قول القائل و قد طال حديثه: ليس لهذا الحديث منتهى فلنكتف بما أوردناه.

قوله تعالى: ( قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي ) إلى آخر الآية، الكلمة تطلق على الجملة كما تطلق على المفرد و منه قوله تعالى:( قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ

٤٣٤

تَعالَوْا إِلى‏ كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَ بَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ ) الآية آل عمران: ٦٤ و قد استعملت كثيراً في القرآن الكريم فيما قاله الله و حكم به كقوله:( وَ تَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى‏ عَلى‏ بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا ) الأعراف: ١٣٧، و قوله:( كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ) يونس: ٣٣، و قوله:( وَ لَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ ) يونس: ١٩ إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة جدّاً.

و من المعلوم أنّه تعالى لا يتكلّم بشقّ الفم و إنّما قوله فعله و ما يفيضه من وجود كما قال:( إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْ‏ءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) النحل: ٤٠ و إنّما تسمّى كلمة لكونها آية دالّة عليه تعالى و من هنا سمّي المسيح كلمة في قوله:( إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَ كَلِمَتُهُ ) النساء: ١٧١.

و من هنا يظهر أنّه ما من عين يوجد أو واقعة تقع إلّا و هي من حيث كونها آية دالّة عليه كلمة منه إلّا أنّها خصّت في عرف القرآن بما دلالته ظاهرة لا خفاء فيها و لا بطلان و لا تغيّر كما قال:( وَ الْحَقَّ أَقُولُ ) ص: ٨٤ و قال:( ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ ) ق: ٢٩ و ذلك كالمسيحعليه‌السلام و موارد القضاء المحتوم.

و من هنا يظهر أنّ حمل الكلمات في الآية على معلوماته أو مقدوراته تعالى أو مواعده لأهل الثواب و العقاب إلى غير ذلك ممّا ذكره المفسّرون غير سديد.

فقوله:( قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي ) أي فرقمت الكلمات و اُثبتت من حيث دلالتها بذاك البحر المأخوذ مداداً لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربّي.

و قوله:( وَ لَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً ) أي و لو أمددناه ببحر آخر لنفد أيضاً قبل أن تنفد كلمات ربّي.

و ذكر بعضهم: أنّ المراد بمثله جنس المثل لا مثل واحد، و ذلك لأنّ المثل كلّما اُضيف إلى الأصل لم يخرج عن التناهي، و كلماته يعني معلوماته غير متناهية و المتناهي لا يضبط غير المتناهي انتهى ملخّصا.

و ما ذكره حقّ لكن لا لحديث التناهي و اللاتناهي و إن كانت الكلمات غير متناهية

٤٣٥

بل لأنّ الحقائق المدلول عليها و الكلمات من حيث دلالتها غالبة على المقادير كيف؟ و كلّ ذرّة من ذرّات البحر و إن فرض ما فرض لا تفي بثبت دلالة نفسها في مدى وجودها على ما تدلّ عليه من جماله و جلاله تعالى فكيف إذا اُضيف إليها غيرها؟.

و في تكرار( الْبَحْرُ ) في الآية بلفظه و كذا( رَبِّي ) وضع الظاهر موضع المضمر و النكتة فيه التثبيت و التأكيد و كذا في تخصيص الربّ بالذكر و إضافته إلى ضمير المتكلّم مع ما فيه من تشريف المضاف إليه.

( بحث روائي)

في تفسير القمّيّ، بإسناده عن أبي بصير عن أبي عبداللهعليه‌السلام : في الآية قال: أخبرك أنّ كلام الله ليس له آخر و لا غاية و لا ينقطع أبداً.

أقول: في تفسيره الكلمات بالكلام تأييد لما قدّمناه.

٤٣٦

( سورة الكهف آية ١١٠)

قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ  فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ( ١١٠ )

( بيان)

الآية خاتمة السورة و تلخّص غرض البيان فيها و قد جمعت اُصول الدين الثلاثة و هي التوحيد و النبوّة و المعاد فالتوحيد ما في قوله:( أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ ) و النبوّة ما في قوله:( إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى‏ إِلَيَّ ) و قوله:( فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً ) إلخ و المعاد ما في قوله:( فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ ) .

قوله تعالى: ( قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى‏ إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ ) القصر الأوّل قصرهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في البشريّة المماثلة لبشريّة الناس لا يزيد عليهم بشي‏ء و لا يدّعيه لنفسه قبال ما كانوا يزعمون أنّه إذا ادّعى النبوّة فقد ادّعى كينونة إلهيّة و قدرة غيبيّة و لذا كانوا يقترحون عليه بما لا يعلمه إلّا الله و لا يقدر عليه إلّا الله لكنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نفى ذلك كلّه بأمر الله عن نفسه و لم يثبت لنفسه إلّا أنّه يوحى إليه.

و القصر الثاني قصر الإله الّذي هو إلههم في إله واحد و هو التوحيد الناطق بأنّ إله الكلّ إله واحد.

و قوله:( فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ ) إلخ مشتمل على إجمال الدعوة الدينيّة و هو العمل الصالح لوجه الله وحده لا شريك له و قد فرّعه على رجاء لقاء الربّ تعالى و هو الرجوع إليه إذ لو لا الحساب و الجزاء لم يكن للأخذ بالدين و التلبّس بالاعتقاد و العمل موجب يدعو إليه كما قال تعالى:( إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ ) ص: ٢٦.

و قد رتّب على الاعتقاد بالمعاد العمل الصالح و عدم الإشراك بعبادة الربّ

٤٣٧

لأنّ الاعتقاد بالوحدانية مع الإشراك في العمل متناقضان لا يجتمعان فالإله تعالى لو كان واحداً فهو واحد في جميع صفاته و منها المعبوديّة لا شريك له فيها.

و قد رتّب الأخذ بالدين على رجاء المعاد دون القطع به لأنّ احتماله كاف في وجوب التحذّر منه لوجوب دفع الضرر المحتمل، و ربّما قيل: إنّ المراد باللقاء لقاء الكرامة و هو مرجوّ لا مقطوع به.

و قد فرّع رجاء لقاء الله على قوله:( أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ ) لأنّ رجوع العباد إلى الله سبحانه من تمام معنى الاُلوهيّة فله تعالى كلّ كمال مطلوب و كلّ وصف جميل و منها فعل الحقّ و الحكم بالعدل و هما يقتضيان رجوع عباده إليه و القضاء بينهم قال تعالى:( وَ ما خَلَقْنَا السَّماءَ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما باطِلًا ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ ) ص: ٢٨.

( بحث روائي)

في الدرّ المنثور، أخرج ابن مندة و أبونعيم في الصحابة، و ابن عساكر من طريق السدّيّ الصغير عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عبّاس قال: كان جندب بن زهير إذا صلّى أو صام أو تصدّق فذكر بخير ارتاح له فزاد في ذلك لمقالة الناس فلامه الله فنزل في ذلك( فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً وَ لا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً ) .

أقول: و ورد نحو منه في عدّة روايات اُخر من غير ذكر الاسم و ينبغي أن يحمل على انطباق الآية على المورد فمن المستبعد أن ينزل خاتمة سورة من السور لسبب خاصّ بنفسها.

و فيه، عن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في الآية قال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ ربّكم يقول: أنا خير شريك فمن أشرك معي في عمله أحداً من خلقي تركت العمل كلّه له، و لم أقبل إلّا ما كان لي خالصاً ثمّ قرأ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( فَمَنْ كانَ يَرْجُوا

٤٣٨

لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً وَ لا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً ) .

و في تفسير العيّاشيّ، عن عليّ بن سالم عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: قال الله تبارك و تعالى: أنا خير شريك من أشرك بي في عمله لم أقبله إلّا ما كان لي خالصاً.

قال العيّاشيّ: و في رواية اُخرى عنهعليه‌السلام قال: إنّ الله يقول: أنا خير شريك من عمل لي و لغيري فهو لمن عمل له دوني.

و في الدرّ المنثور، أخرج أحمد و ابن أبي الدنيا و ابن مردويه و الحاكم و صحّحه و البيهقيّ عن شداد بن أوس قال: سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول: من صلّى يرائي فقد أشرك، و من صام يرائي فقد أشرك و من تصدّق يرائي فقد أشرك ثمّ قرأ( فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ ) الآية.

و في تفسير العيّاشيّ، عن زرارة و حمران عن أبي جعفر و أبي عبداللهعليهما‌السلام قالا: لو أنّ عبداً عمل عملاً يطلب به رحمة الله و الدار الآخرة ثمّ أدخل فيه رضا أحد من الناس كان مشركاً.

أقول: و الروايات في هذا الباب من طرق الشيعة و أهل السنّة فوق حدّ الإحصاء و المراد بالشرك فيها الشرك الخفيّ غير المنافي لأصل الإيمان بل لكماله قال تعالى:( وَ ما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَ هُمْ مُشْرِكُونَ ) يوسف: ١٠٦ فالآية تشمله بباطنها لا بتنزيلها.

و في الدرّ المنثور، أخرج الطبرانيّ و ابن مردويه عن أبي حكيم قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لو لم ينزل على اُمّتي إلّا خاتمة سورة الكهف لكفتهم.

أقول: تقدّم وجهه في البيان السابق.

تم و الحمد لله.

٤٣٩

الفهرس

( سورة الأسري مكّيّة و هي مائة و إحدى عشرة آية )   ٢

( سورة الإسراء آية ١ ). ٢

( بيان‏ ). ٢

( بحث روائي‏ ). ٥

بحث آخر: ٣٢

( سورة الإسراء الآيات ٢ - ٨ ). ٣٥

( بيان ). ٣٥

( بحث روائي‏ ). ٤٤

( سورة الإسراء الآيات ٩ - ٢٢ ). ٤٧

( بيان ). ٤٨

( بحث روائي ). ٧٤

( كلام في القضاء في فصول‏ ). ٧٥

١- في تحصيل معناه و تحديده: ٧٥

٢- نظرة فلسفيّة في معنى القضاء: ٧٦

٣- و الروايات في تأييد ما تقدّم كثيرة جدّاً: ٧٧

( بحث فلسفي‏ ). ٧٨

( سورة الإسراء الآيات ٢٣ - ٣٩ ). ٨١

( بيان‏ ). ٨٢

( كلام في حرمة الزنا ). ٩٠

( بحث روائي ). ١٠٢

( سورة الإسراء الآيات ٤٠ - ٥٥ ). ١٠٩

( بيان ). ١١٠

( بحث روائي ). ١٢٧

٤٤٠