الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٣

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 443

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 443
المشاهدات: 107035
تحميل: 5630


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 443 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 107035 / تحميل: 5630
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 13

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

العدد من الرجال قال الزجّاج: و يجوز أن يكون جمع نفر كما قيل: العبيد و الضئين و المعيز و الكليب، و نفر الإنسان و نفره و نفيره و نافرته رهطه الّذين ينصرونه و ينفرون معه انتهى.

و معنى الآية ظاهر، و ظاهرها أنّ بني إسرائيل ستعود الدولة لهم على أعدائهم بعد وعد المرّة الاُولى فيغلبونهم و يقهرونهم و يتخلّصون من استعبادهم و استرقاقهم و أنّ هذه الدولة سترجع إليهم تدريجاً في برهة معتدّ بها من الزمان كما هو لازم إمدادهم بأموال و بنين و جعلهم أكثر نفيرا.

و في قوله في الآية التالية:( إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَ إِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها ) إشعار بل دلالة بمعونة السياق أنّ هذه الواقعة و هي ردّ الكرّة لبني إسرائيل على أعدائهم إنّما كانت لرجوعهم إلى الإحسان بعد ما ذاقوا وبال إساءتهم قبل ذلك كما أنّ إنجاز وعد الآخرة إنّما كان لرجوعهم ثانياً إلى الإساءة بعد رجوعهم هذا إلى الإحسان.

قوله تعالى: ( إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَ إِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها ) اللّام في( لِأَنْفُسِكُمْ ) و( فَلَها ) للاختصاص أي إنّ كلّا من إحسانكم و إساءتكم يختصّ بأنفسكم دون أن يلحق غيركم، و هي سنّة الله الجارية أنّ العمل يعود أثره و تبعته إلى صاحبه إن خيراً و إن شرّاً فهو كقوله:( تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَ لَكُمْ ما كَسَبْتُمْ ) البقرة ١٤١.

فالمقام مقام بيان أنّ أثر العمل لصاحبه خيراً كان أو شرّاً، و ليس مقام بيان أنّ الإحسان ينفع صاحبه و الإساءة تضرّه حتّى يقال: و إن أسأتم فعليها كما قيل:( لَها ما كَسَبَتْ وَ عَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ ) البقرة: ٢٨٦.

فلا حاجة إلى ما تكلّفه بعضهم أنّ اللّام في قوله:( وَ إِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها ) بمعنى على، و قول آخرين: إنّها بمعنى إلى لأنّ الإساءة تتعدّى بها يقال: أساء إلى فلان و يسي‏ء إليه إساءة، و قول آخرين: إنّها للاستحقاق كقوله:( وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ ) .

٤١

و ربّما اُورد على كون اللّام للاختصاص بأنّ الواقع على خلافه فكثيراً ما يتعدّى أثر الإحسان إلى غير محسنه و أثر الإساءة إلى غير فاعلها و هو ظاهر.

و الجواب عنه أنّ فيه غفلة عمّا يراه القرآن الكريم في آثار الأعمال أمّا آثار الأعمال الاُخرويّة فإنّها لا تتعدّى صاحبها البتّة قال تعالى:( مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَ مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ ) الروم: ٤٤، و أمّا الآثار الدنيويّة فإنّ الأعمال لا تؤثّر أثراً في غير فاعلها إلّا أن يشاء الله من ذلك شيئاً على سبيل النعمة على الغير أو النقمة أو الابتلاء و الامتحان فليس في مقدرة الفاعل أن يوصل أثر فعله إلى الغير دائماً إلّا أحياناً يريده الله لكنّ الفاعل يلحقه أثر فعله الحسن أو السيّئ دائماً من غير تخلّف.

فللمحسن نصيب من إحسانه و للمسي‏ء نصيب من إساءته، قال تعالى:( فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَ مَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ) الزلزال: ٨ فأثر الفعل لا يفارق فاعله إلى غيره، و هذا معنى‏ ما روي عن عليّعليه‌السلام أنّه قال: ما أحسنتم إلى أحد و لا أسأت إليه و تلا الآية.

قوله تعالى: ( فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَ لِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَ لِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً ) التتبير الإهلاك من التبار بمعنى الهلاك و الدمار.

و قوله:( لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ ) من المساءة يقال: ساء زيد فلانا إذا أحزنه و هو على ما قيل متعلّق بفعل مقدّر محذوف للإيجاز، و اللّام للغاية و التقدير بعثناهم ليسوؤا وجوهكم بظهور الحزن و الكآبة فيها و بدوّ آثار الذلّة و المسكنة و صغار الاستعباد عليها بما يرتكبونه فيكم من القتل الذريع و السبي و النهب.

و قوله:( وَ لِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ ) المراد بالمسجد هو المسجد الأقصى - بيت المقدّس - و لا يعبؤ بما ذكره بعضهم أنّ المراد به جميع الأرض المقدّسة مجازاً، و في الكلام دلالة أوّلاً أنّهم في وعد المرّة الاُولى أيضاً دخلوا المسجد عنوة و إنّما لم يذكر قبلاً للإيجاز، و ثانياً أنّ دخولهم المسجد إنّما كان

٤٢

للهتك و التخريب، و ثالثاً يشعر الكلام بأنّ هؤلاء المهاجمين المبعوثين لمجازاة بني إسرائيل و الانتقام منهم هم الّذين بعثوا عليهم أوّلاً.

و قوله:( وَ لِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً ) أي ليهلكوا الّذي غلبوا عليه إهلاكاً فيقتلوا النفوس و يحرقوا الأموال و يهدموا الأبنية و يخرّبوا البلاد، و احتمل أن يكون ما مصدريّة بحذف مضاف و تقدير الكلام: و ليتبّروا مدّة علوّهم تتبيرا، و المعنى الأوّل أقرب إلى الفهم و أوفق بالسياق.

و المقايسة بين الوعدين أعني قوله:( بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا ) إلخ و قوله:( لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ ) إلخ يعطي أنّ الثاني كان أشدّ على بني إسرائيل و أمرّ و قد كادوا أن يفنوا و يبيدوا فيه عن آخرهم و كفى في ذلك قوله تعالى:( وَ لِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً ) .

و المعنى فإذا جاء وعد المرّة الآخرة و هي الثانية من الإفسادتين بعثناهم ليسوؤا وجوهكم بظهور الحزن و الكآبة و بدوّ الذلّة و المسكنة و ليدخلوا المسجد الأقصى كما دخلوه أوّل مرّة و ليهلكوا الّذي غلبوا عليه و يفنوا الّذي مرّوا عليه إهلاكاً و إفناء.

قوله تعالى: ( عَسى‏ رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَ إِنْ عُدْتُمْ عُدْنا وَ جَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً ) الحصير من الحصر و هو - على ما ذكروه - التضييق و الحبس قال تعالى:( وَ احْصُرُوهُمْ ) التوبة: ٥ أي ضيّقوا عليهم.

و قوله:( عَسى‏ رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ ) أي بعد البعث الثاني على ما يفيده السياق و هو ترجّ للرحمة على تقدير أن يتوبوا و يرجعوا إلى الطاعة و الإحسان بدليل قوله:( وَ إِنْ عُدْتُمْ عُدْنا ) أي و إن تعودوا إلى الإفساد و العلوّ، بعد ما رجعتم عنه و رحمكم ربّكم نعد إلى العقوبة و النكال، و جعلنا جهنّم للكافرين حصيراً و مكاناً حابساً لا يستطيعون منه خروجاً.

و في قوله:( عَسى‏ رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ ) التفات من التكلّم مع الغير إلى الغيبة و كأنّ الوجه فيه الإشارة إلى أنّ الأصل الّذي يقتضيه ربوبيّته تعالى أن يرحم

٤٣

عباده إن جروا على ما يقتضيه خلقتهم و يرشد إليه فطرتهم إلّا أن ينحرفوا عن خطّ الخلقة و يخرجوا عن صراط الفطرة، و الإيماء إلى هذه النكتة يوجب ذكر وصف الربّ فاحتاج السياق أن يتغيّر عن التكلّم مع الغير إلى الغيبة ثمّ لمّا استوفيت النكتة بقوله:( عَسى‏ رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ ) عاد الكلام إلى ما كان عليه.

( بحث روائي‏)

في تفسير البرهان، عن ابن بابويه بإسناده عن محمّد بن مسلم عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: إنّ نوحاً إنّما سمّي عبداً شكوراً لأنّه كان يقول إذا أمسى و أصبح: اللّهمّ إنّي أشهدك أنّه ما أمسى و أصبح بي من نعمة أو عافية في دين أو دنيا فمنك وحدك لا شريك لك، لك الحمد و لك الشكر بها عليّ حتّى ترضى و بعد الرضا.

أقول: و روي هذا المعنى بتفاوت يسير بعدّة طرق في الكافي و تفسيري القمّيّ، و العيّاشيّ.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن مردويه عن أبي فاطمة أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: كان نوحعليه‌السلام لا يحمل شيئا صغيراً و لا كبيراً إلّا قال: بسم الله و الحمد لله فسمّاه الله عبداً شكوراً.

أقول: و الروايات لا تنافي ما تقدّم من تفسير الشكر بالإخلاص فمن المعلوم أنّ دعاءه لم يكن إلّا عن تحقّقه بحقيقة ما دعا به و لا ينفكّ ذلك عن الإخلاص في العبوديّة.

و في تفسير البرهان، عن ابن قولويه بإسناده عن صالح بن سهل عن أبي عبداللهعليه‌السلام : في قول الله عزّوجلّ:( وَ قَضَيْنا إِلى‏ بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ ) قال: قتل أميرالمؤمنين و طعن الحسن بن عليّعليهما‌السلام ( وَ لَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً ) قال: قتل الحسينعليه‌السلام ( فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما ) قال: إذا جاء نصر الحسين( بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ ) قوم يبعثهم الله قبل قيام القائم لا يدعون لآل محمّد وتراً إلّا أخذوه( وَ كانَ وَعْداً مَفْعُولًا ) .

٤٤

أقول: و في معناها روايات اُخرى و هي مسوقة لتطبيق ما يجري في هذه الاُمّة من الحوادث على ما جرى منها في بني إسرائيل تصديقاً لما تواتر عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّ هذه الاُمّة ستركب ما ركبته بنو إسرائيل حذو النعل بالنعل و القذّة بالقذّة حتّى لو دخلوا جحر ضبّ لدخله هؤلاء، و ليست الروايات واردة في تفسير الآيات، و من شواهد ذلك اختلاف ما فيها من التطبيق.

و أمّا أصل القصّة الّتي تتضمّنها الآيات الكريمة فقد اختلفت الروايات فيها اختلافاً عجيباً يسلب عنها التعويل، و لذلك تركنا إيرادها هاهنا من أرادها فليراجع جوامع الحديث من العامّة و الخاصّة.

و قد نزل على بني إسرائيل منذ استقلّوا بالملك و السؤدد نوازل هامّة كثيرة فوق اثنتين - على ما يضبطه تاريخهم - يمكن أن ينطبق ما تضمّنته هذه الآيات على اثنتين منها لكنّ الّذي هو كالمسلّم عندهم أنّ إحدى هاتين النكايتين اللّتين تشير إليهما الآيات هي ما جرى عليهم بيد بخت نصّر (نبوكد نصّر) من ملوك بابل قبل الميلاد بستّة قرون تقريباً.

و كان ملكاً ذا قوّة و شوكة من جبابرة عهده، و كان يحمي بني إسرائيل فعصوه و تمرّدوا عليه فسار إليهم بجيوش لا قبل لهم بها و حاصر بلادهم ثمّ فتحها عنوة فخرّب البلاد و هدم المسجد الأقصى و أحرق التوراة و كتب الأنبياء و أباد النفوس بالقتل العامّ و لم يبق منهم إلّا شرذمة قليلة من النساء و الذراري و ضعفاء الرجال فأسرهم و سيّرهم معه إلى بابل فلم يزالوا هناك لا يحميهم حام و لا يدفع عنهم دافع طول زمن حياة بخت نصّر و بعده زماناً طويلاً حتّى قصد الكسرى كورش أحد ملوك الفرس العظام بابل و فتحه تلطّف على الأسرى من بني إسرائيل و أذن لهم في الرجوع إلى الأرض المقدّسة، و أعانهم على تعمير الهيكل - المسجد الأقصى - و تجديد الأبنية و أجاز لعزراء أحد كهنتهم أن يكتب لهم التوراة و ذلك في نيّف و خمسين و أربعمائة سنة قبل الميلاد.

و الّذي يظهر من تاريخ اليهود أنّ المبعوث أوّلاً لتخريب بيت المقدّس هو

٤٥

بخت نصّر و بقي خراباً سبعين سنة، و المبعوث ثانياً هو قيصر الروم إسبيانوس سيّر إليهم وزيره طوطوز فخرّب البيت و أذلّ القوم قبل الميلاد بقرن تقريباً.

و ليس من البعيد أن يكون الحادثتان هما المرادتان في الآيات فإنّ الحوادث الاُخرى لم تفن جمعهم و لم تذهب بملكهم و استقلالهم بالمرّة لكنّ نازلة بخت نصّر ذهب بجميعهم و سؤددهم إلى زمن كورش ثمّ اجتمع شملهم بعده برهة ثمّ غلب عليهم الروم و أذهبت بقوّتهم و شوكتهم فلم يزالوا على ذلك إلى زمن ظهور الإسلام.

و لا يبعّده إلّا ما تقدّمت الإشارة إليه في تفسير الآيات أنّ فيها إشعاراً بأنّ المبعوث إلى بني إسرائيل في المرّة الاُولى و الثانية قوم بأعيانهم و أنّ قوله:( ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ ) مشعر بأنّ الكرّة من بني إسرائيل على القوم المبعوثين عليهم أوّلاً، و أن قوله:( فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ ) مشعر برجوع ضمير الجمع إلى ما تقدّم من قوله:( عِباداً لَنا ) .

لكنّه إشعار من غير دلالة ظاهرة لجواز أن يكون المراد كرّة من غير بني إسرائيل على أعدائهم و هم ينتفعون بها و أن يكون ضمير الجمع عائداً إلى ما يدلّ عليه الكلام بسياقه من غير إيجاب السياق أن يكون المبعوثون ثانياً هم المبعوثين أوًلاً.

٤٦

( سورة الإسراء الآيات ٩ - ٢٢)

إِنَّ هَٰذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا( ٩) وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا( ١٠) وَيَدْعُ الْإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ  وَكَانَ الْإِنسَانُ عَجُولًا( ١١) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ  فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِّتَبْتَغُوا فَضْلًا مِّن رَّبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ  وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا( ١٢) وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ  وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا( ١٣) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَىٰ بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا( ١٤) مَّنِ اهْتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ  وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا  وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ  وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولًا( ١٥) وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا( ١٦) وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِن بَعْدِ نُوحٍ  وَكَفَىٰ بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا( ١٧) مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا( ١٨) وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَىٰ لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا( ١٩) كُلًّا نُّمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ  وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا( ٢٠) انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ  وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا( ٢١) لَّا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَّخْذُولًا( ٢٢)

٤٧

( بيان)

كان القبيل السابق من الآيات يذكر كيفيّة جريان السنّة الإلهيّة في هداية الإنسان إلى سبيل الحقّ و دين التوحيد ثمّ إسعاد من استجاب الدعوة الحقّة في الدنيا و الآخرة و عقاب من كفر بالحقّ و فسق عن الأمر في دنياه و عقباه، و كان ذكر نزول التوراة و ما جرى بعد ذلك على بني إسرائيل كالمثال الّذي يورد في الكلام لتطبيق الحكم الكلّي على أفراده و مصاديقه، و هذا القبيل من الآيات يذكر جريان السنّة المذكورة في هذه الاُمّة كما جرت في اُمّة موسى، و قد استنتج من الآيات لزوم التجنّب عن الشرك و وجوب التزام طريق التوحيد حيث قيل:( لا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولًا ) .

قوله تعالى: ( إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ) أي للملّة الّتي هي أقوم كما قال تعالى:( قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى‏ صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً ) الأنعام: ١٦١.

و الأقوم أفعل تفضيل و الأصل في الباب القيام ضدّ القعود الّذي هو أحد أحوال الإنسان و أوضاعه، و هو أعدل حالاته يتسلّط به على ما يريده من العمل بخلاف القعود و الاستلقاء و الانبطاح و نحوها ثمّ كنّي به عن حسن تصدّيه للاُمور إذا قوي عليها من غير عجز و عيّ و أحسن إدارتها للغاية يقال: قام بأمر كذا إذا تولّاه و قام على أمر كذا أي راقبه و حفظه و راعى حاله بما يناسبه.

و قد وصف الله سبحانه هذه الملّة الحنيفيّة بالقيام كما قال:( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ) الروم: ٣٠، و قال:( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ ) الروم: ٤٣.

و ذلك لكون هذا الدين مهيمنا على ما فيه خير دنياهم و آخرتهم قيّما على إصلاح حالهم في معاشهم، و معادهم و ليس إلّا لكونه موافقاً لما تقتضيه الفطرة الإنسانيّة و الخلقة الّتي سوّاه الله سبحانه عليها و جهّزه بحسبها بما يهديه إلى غايته

٤٨

الّتي اُريدت له، و سعادته الّتي هيّئت لأجله.

و على هذا فوصف هذه الملّة في قوله:( لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ) بأنّها أقوم إن كان بقياسها إلى سائر الملل إنّما هو من جهة أنّ كلّا من تلك الملل سنّة حيويّة اتّخذها ناس لينتفعوا بها في شي‏ء من اُمور حياتهم لكنّها إن كان تنفعهم في بعضها فهي تضرّهم في بعض آخر و إن كانت تحرز لهم شطرا ممّا فيه هواهم فهي تفوّت عليهم شطراً عظيماً ممّا فيه خيرهم، و إنّما ذلك الإسلام يقوم على حياتهم و بجميع ما يهمّهم في الدنيا و الآخرة من غير أن يفوته فائت فالملّة الحنيفيّة أقوم من غيرها على حياة الإنسان.

و إن كان بالقياس إلى سائر الشرائع الإلهيّة السابقة كشريعة نوح و موسى و عيسىعليهم‌السلام كما هو ظاهر جعلها ممّا يهدي إليها القرآن قبال ما تقدّم من ذكر التوراة و جعلها هدى لبني إسرائيل فإنّما هو من جهة أنّ هذه الملّة الحنيفيّة أكمل من الملل السابقة الّتي تتضمّنها كتب الأنبياء السابقين فهي تشتمل من المعارف الإلهيّة على آخر ما تتحمّله البنية الإنسانيّة و من الشرائع على ما لا يشذّ منه شاذّ من أعمال الإنسان الفرديّة و الاجتماعيّة، و قد قال تعالى:( وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَ مُهَيْمِناً عَلَيْهِ ) المائدة: ٤٨ فما يهدي إليه القرآن أقوم ممّا يهدي إليه غيره من الكتب.

قوله تعالى: ( وَ يُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً ) الصالحات صفة محذوف موصوفها اختصاراً و التقدير و عملوا الأعمال الصالحات.

و في الآية جعل حقّ للمؤمنين الّذين آمنوا و عملوا الصالحات على الله سبحانه كما يؤيّده تسمية ذلك أجرا، و يؤيّده أيضاً قوله في موضع آخر:( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ ) حم السجدة: ٨ و لا محذور في أن يكون لهم على الله حقّ إذا كان الله سبحانه هو الجاعل له، و نظيره قوله:( ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا وَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ ) يونس: ١٠٣.

و العناية في الآية ببيان الوعد المنجز كما أنّ الآية التالية تعني ببيان

٤٩

الوعيد المنجز و هو العذاب لمن يكفر بالآخرة، و أمّا من آمن و لم يعمل الصالحات فليس ممّن له على الله أجر منجز و حقّ ثابت بل أمره مراعى بتوبة أو شفاعة حتّى يلحق بذلك على معشر الصالحين من المؤمنين قال تعالى:( وَ آخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً وَ آخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ ) التوبة ١٠٢ و قال:( وَ آخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَ إِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ ) التوبة: ١٠٦.

نعم لهم ثبات على الحقّ بإيمانهم كما قال تعالى:( وَ بَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ ) يونس: ٢ و قال:( يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ فِي الْآخِرَةِ ) إبراهيم ٢٧.

قوله تعالى: ( وَ أَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً ) الاعتاد الإعداد و التهيئة من العتاد بالفتح و هو على ما ذكره الراغب ادّخار الشي‏ء قبل الحاجة إليه كالإعداد.

و ظاهر السياق أنّه عطف على قوله في الآية السابقة:( أَنَّ لَهُمْ ) إلخ فيكون التقدير و يبشّر المؤمنين الّذين يعملون الصالحات أنّ الذين لا يؤمنون إلخ و كون ذلك بشارة للمؤمنين من حيث إنّه انتقام إلهيّ من أعدائهم في الدين.

و إنّما خصّ بالذكر من أوصاف هؤلاء عدم إيمانهم بالآخرة مع جواز أن يكفروا بغيرها كالتوحيد و النبوّة لأنّ الكلام مسوق لبيان الأثر الّذي يعقّبه الدين القيّم، و لا موقع للدين و لا فائدة له مع إنكار المعاد و إن اعترف بوحدانيّة الربّ تعالى و غيرها من المعارف، و لذلك عدّ سبحانه نسيان يوم الحساب أصلا لكلّ ضلال في قوله:( إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ ) ص: ٢٦.

قوله تعالى: ( وَ يَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ وَ كانَ الْإِنْسانُ عَجُولًا ) المراد بالدعاء على ما يستفاد من السياق مطلق الطلب سواء كان بلفظ الدعاء كقوله: اللّهمّ ارزقني مالاً و ولداً و غير ذلك أو من غير دعاء لفظيّ بل بطلب و سعي فإنّ ذلك كلّه دعاء و سؤال من الله سواء اعتقد به الإنسان و تنبّه له أم لا إذ لا معطي و لا مانع في الحقيقة إلّا الله سبحانه، قال تعالى:( يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ )

٥٠

الرحمن: ٢٩ و قال:( وَ آتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ ) إبراهيم: ٣٤ فالدعاء مطلق الطلب و الباء في قوله:( بِالشَّرِّ ) و( بِالْخَيْرِ ) للصلة و المراد أنّ الإنسان يدعو الشرّ و يسأله دعاء كدعائه الخير و سؤاله و طلبه.

و على هذا فالمراد بكون الإنسان عجولاً أنّه لا يأخذ بالأناة إذا أراد شيئاً حتّى يتروّى و يتفكّر في جهات صلاحه و فساده حتّى يتبيّن له وجه الخير فيما يريده من الأمر فيطلبه و يسعى إليه بل يستعجل في طلبه بمجرّد ما ذكره و تعلّق به هواه فربّما كان شرّاً فتضرّر به و ربّما كان خيراً فانتفع به.

و الآية و ما يتلوها من الآيات في سياق التوبيخ و اللّوم متفرّعة على ما تقدّم من حديث المنّ الإلهيّ بالهداية إلى الّتي هي أقوم كأنّه قيل: إنّا أنزلنا كتاباً يهدي إلى ملّة هي أقوم تسوق الآخذين بها إلى السعادة و الجنّة و تؤدّيهم إلى أجر كبير، و ترشدهم إلى الخير كلّه لكن جنس الإنسان عجول لا يفرّق لعجلته بين الخير و الشرّ بل يطلب كلّ ما لاح له و يسأل كلّ ما بدا له فتعلّق به هواه من غير تمييز بين الخير و الشرّ و الحق و الباطل فيرد الشرّ كما يرد الخير و يهجم على الباطل كما يهجم على الحقّ.

و ليس ينبغي له أن يستعجل و يطلب كلّ ما يهواه و يشتهيه و لا يحقّ له أن يرتكب كلّ ما له استطاعة ارتكابه و يقترف كلّ ما أقدره الله عليه و مكّنه منه مستنداً إلى أنّه من التيسير الإلهيّ و لو شاء لمنعه فهذان اللّيل و النهار و آيتان إلهيّتان و ليستا على نمط واحد بل آية اللّيل ممحوّة تسكن فيها الحركات و تهدأ فيها العيون، و آية النهار مبصرة تنتبه فيها القوى و يبتغي فيها الناس من فضل ربّهم و يعلمون بها عدد السنين و الحساب.

كذلك أعمال الشرّ و الخير جميعاً كائنة في الوجود بإذن الله مقدورة للإنسان بإقداره سبحانه لكنّ ذلك لا يكون دليلاً على جواز ارتكاب الإنسان الشرّ و الخير جميعاً و أن يستعجل فيطلب كلّ ما بدا له فيرد الشرّ كما يرد الخير و يقترف المعصية كما يقترف الطاعة بل يجب عليه أن يأخذ عمل الشرّ ممحوّا فلا يقترفه و عمل الخير

٥١

مبصراً فيأتي به و يبتغي بذلك فضل ربّه من سعادة الآخرة و الرزق الكريم فإنّ عمل الإنسان هو طائره الّذي يدلّه على سعادته و شقائه، و هو لازم له غير مفارقة فما عمله من خير أو شرّ فهو لا يفارقه إلى غيره و لا يستبدل به سواه.

هذا ما يعطيه السياق من معنى الآية و يتبيّن به:

أوّلاً: أنّ الآية و ما يتلوها من الآيات مسوقة لغرض التوبيخ و اللوم، و هو وجه اتّصالها و ما بعدها بما تقدّمها من قوله:( إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ) الآية كما أشرنا إليه آنفاً فهو سبحانه يلوم الإنسان أنّه لما به من قريحة الاستعجال لا يقدّر نعمة الهداية الإلهيّة حقّ قدرها و لا يفرّق بين الملّة الّتي هي أقوم و بين غيرها فيدعو بالشرّ دعاءه بالخير و يقصد الشقاء كما يقصد السعادة.

و ثانياً: أنّ المراد بالإنسان هو الجنس دون أفراد معيّنة منه كالكفّار و المشركين كما قيل، و بالدعاء مطلق الطلب لا الدعاء المصطلح كما قيل، و بالخير و الشرّ ما فيه سعادة حياته أو شقاؤه بحسب الحقيقة دون مطلق ما يضرّ و ينفع كدعاء الإنسان على من رضي عنه بالنجاح و الفلاح و على من غضب عليه بالخيبة و الخسران و غير ذلك. و بالعجلة حبّ الإنسان أن يسرع ما يهواه إلى التحقّق دون اللّجّ و التمادي على طلب العذاب و المكروه.

و للمفسّرين اختلاف عجيب في مفردات الآية، و كلمات مضطربة في بيان وجه اتّصال الآية و كذا الآيات التالية بما قبلها تركنا إيرادها و الغور فيها لعدم جدوى في التعرّض لها من أرادها فليراجع كتبهم.

قوله تعالى: ( وَ جَعَلْنَا اللَّيْلَ وَ النَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَ جَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً ) إلى آخر الآية، قال في المجمع، مبصرة أي مضيئة منيرة نيّرة قال أبو عمرو: أراد يبصر بها كما يقال: ليل نائم و سرّ كاتم، و قال الكسائيّ: العرب تقول: أبصر النهار إذا أضاء. انتهى موضع الحاجة.

اللّيل و النهار هما النور و الظلمة المتعاقبان على الأرض من جهة مواجهة الشمس بالطلوع و زوالها بالغروب و هما كسائر ما في الكون من أعيان الأشياء و

٥٢

أحوالها آيتان لله سبحانه تدلّان بذاتهما على توحّده بالربوبيّة.

و من هنا يظهر أنّ المراد بجعلهما آيتين هو خلقهما كذلك لا خلقهما و ليستا آيتين ثمّ جعلهما آيتين و إلباسهما لباس الدلالة فالأشياء كلّها آيات له تعالى من جهة أصل وجودها و كينونتها الدالّة على مكونها لا لوصف طار يطرء عليها.

و من هنا يظهر أيضاً أنّ المراد بآية اللّيل كآية النهار نفس اللّيل كنفس النهار - على أن تكون الإضافة بيانيّة لا لاميّة - و المراد بمحو اللّيل إظلامه و إخفاؤه عن الأبصار على خلاف النهار.

فما ذكره بعضهم أنّ المراد بآية اللّيل القمر و محوها ما يرى في وجهه من الكلف كما أنّ المراد بآية النهار الشمس و جعلها مبصرة خلوّ قرصها عن المحو و السواد. ليس بسديد فإنّ الكلام في الآيتين لا آيتي الآيتين. على أنّ ما فرّع على ذلك من قوله:( لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ ) إلخ متفرّع على ضوء النهار و ظلمة اللّيل لا على ما يرى من الكلف في وجه القمر و خلوّ قرص الشمس من ذلك.

و نظيره في السقوط قول بعضهم: إنّ المراد بآية اللّيل ظلمته و بآية النهار ضوؤه و المراد بمحو آية اللّيل إمحاء ظلمته بضوء النهار و نظيره إمحاء ضوء النهار بظلمة اللّيل و إنّما اكتفى بذكر أحدهما لدلالته على الآخر.

و لا يخفى عليك وجه سقوطه بتذكّر ما أشرنا إليه سابقاً فإنّ الغرض بيان وجود الفرق بين الآيتين مع كونهما مشتركتين في الآئيّة و الدلالة، و ما ذكره من المعنى يبطل الفرق.

و قوله:( لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ ) متفرّع على قوله:( وَ جَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً ) أي جعلناها مضيئة لتطلبوا فيه رزقاً من ربّكم فإنّ الرزق فضله و عطاؤه تعالى.

و ذكر بعضهم أنّ التقدير: لتسكنوا باللّيل و لتبتغوا فضلاً من ربّكم بالنهار إلّا أنّه حذف لتسكنوا باللّيل لما ذكره في مواضع اُخر و فيه أنّ التقدير ينافي

٥٣

كون الكلام مسوقاً لبيان ترتّب الآثار على إحدى الآيتين دون الاُخرى مع كونهما معاً آيتين.

و قوله:( وَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَ الْحِسابَ ) أي لتعلموا بمحو اللّيل و إبصار النهار عدد السنين بجعل عدد من الأيّام واحداً يعقد عليه، و تعلموا بذلك حساب الأوقات و الآجال، و ظاهر السياق أنّ علم السنين و الحساب متفرّع على جعل النهار مبصراً نظير تفرّع ما تقدّمه من ابتغاء الرزق على ذلك و ذلك أنّا إنّما نتنبّه للأعدام و الفقدانات من ناحية الوجودات لا بالعكس و الظلمة فقدان النور و لو لا النور لم ننتقل لا إلى نور و لا إلى ظلمة، و نحن و إن كنّا نستمدّ في الحساب باللّيل و النهار معاً و نميّز كلّا منهما بالآخر ظاهراً لكن ما هو الوجوديّ منهما أعني النهار هو الّذي يتعلّق به إحساسنا أوّلاً ثمّ نتنبّه لما هو العدميّ منها أعني اللّيل بنوع من القياس، و كذلك الحال في كلّ وجوديّ و عدميّ مقيس إليه.

و ذكر الرازيّ في تفسيره أنّ الاُولى أن يكون المراد بمحو آية اللّيل على القول بأنّها القمر هو ما يعرض القمر من اختلاف النور من المحاق إلى المحاق بالزيادة و النقيصة ليلة فليلة لما فيه من الآثار العظيمة في البحار و الصحاري و أمزجة الناس.

و لازم ذلك - كما أشار إليه - أن يكون قوله:( لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ ) و قوله:( وَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَ الْحِسابَ ) متفرّعين على محو آية اللّيل و جعل آية النهار مبصرة جميعاً، و المعنى أنّا جعلنا ذلك كذلك لتبتغوا بإضاءة الشمس و اختلاف نور القمر أرزاقكم، و لتعلموا بذلك أيضاً السنين و الحساب فإنّ الشمس هي الّتي تميّز النهار من اللّيل و القمر باختلاف تشكّلاته يرسم الشهور القمريّة و الشهور ترسم السنين فاللّام في الجملتين أعني( لِتَبْتَغُوا ) و( لِتَعْلَمُوا ) متعلّق بالفعلين( فَمَحَوْنا ) و( وَ جَعَلْنَا ) جميعاً.

و فيه أنّ الآية في سياق لا يلائمه جعل ما ذكر فيها من الغرض غرضا مترتّباً على الآيتين معاً أعني الآية الممحوّة و الآية المثبتة فقد عرفت أنّ الآيات في سياق

٥٤

التوبيخ و اللّوم، و الآية أعني قوله:( وَ جَعَلْنَا اللَّيْلَ وَ النَّهارَ آيَتَيْنِ ) كالجواب عمّا قدر أنّ الإنسان يحتجّ به في دعائه بالشرّ كدعائه بالخير.

و ملخّصه: أنّ الإنسان لمكان عجلته لا يعتني بما أنزله الله من كتاب و هداه إليه من الملّة الّتي هي أقوم بل يقتحم الشرّ و يطلبه كما يطلب الخير من غير أن يتروّى في عمله و يتأمّل وجه الصلاح و الفساد فيه بل يقتحمه بمجرّد ما تعلّق به هواه و يسّرته قدرته، و هو يعتمد في ذلك على حرّيّته الطبيعيّة في العمل كأنّه يحتجّ فيه بأنّ الله أقدره على ذلك و لم يمنع عنه كما نقله الله من قول المشركين:( لَوْ شاءَ اللهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْ‏ءٍ نَحْنُ وَ لا آباؤُنا ) النحل ٣٥.

فاُجيب عنه بعد ما اُورد في سياق التوبيخ و اللوم بأنّ مجرّد تعلّق القدرة و صحّة الفعل لا يستلزم جواز العمل و لا أنّ إقداره على الخير و الشرّ معاً يدلّ على جواز اقتحام الشرّ كالخير فاللّيل و النهار آيتان من آيات الله يعيش فيهما الإنسان لكنّ الله سبحانه محى آية اللّيل و قدّر فيها السكون و الخمود، و جعل آية النهار مبصرة مدركة يطلب فيها الرزق و يعلم بها عدد السنين و الحساب.

فكما أنّ كون اللّيل و النهار مشتركين في الآئيّة لا يوجب اشتراكهما في الحركات و التقلّبات بل هي للنهار خاصّة كذلك اشتراك أعمال الخير و الشرّ في أنّها جميعاً تتحقّق بإذن الله سبحانه و هي ممّا أقدر الله الإنسان عليه سواء لا يستلزم جواز ارتكابه لهما و إتيانه بهما على حدّ سواء بل جواز الإتيان و الارتكاب من خواصّ عمل الخير دون عمل الشرّ فليس للإنسان أن يسلك كلّ ما بدا له من سبيل و لا أن يأتي بكلّ ما اشتهاه و تعلّق به هواه معتمداً في ذلك على ما اُعطي من الحرّيّة الطبيعيّة و الأقدار الإلهيّ.

و ممّا تقدم يظهر فساد ما ذكره بعضهم أنّ الآية مسوقة للاحتجاج على التوحيد فإنّ اللّيل و النهار و ما يعرضهما من الاختلاف و ما يترتّب على ذلك من البركات من أوضح آيات التوحيد.

و فيه أنّ دلالتهما على التوحيد لا توجب أن يكون الغرض إفادته و الاحتجاج

٥٥

بهما على ذلك في أيّ سياق وقعا.

و قوله في ذيل الآية:( وَ كُلَّ شَيْ‏ءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلًا ) إشارة إلى تمييز الأشياء و أنّ الخلقة لا تتضمّن إبهاماً و لا إجمالاً.

قوله تعالى: ( وَ كُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ ) قال في المجمع،: الطائر هنا عمل الإنسان شبّه بالطائر الّذي يسنح و يتبرّك به و الطائر الّذي يبرح فيتشأم به، و السانح الّذي يجعل ميامنه إلى مياسرك، و البارح الّذي يجعل مياسره إلى ميامنك، و الأصل في هذا أنّه إذا كان سانحاً أمكن الرامي و إذا كان بارحاً لم يمكنه قال أبو زيد: كلّ ما يجري من طائر أو ظبي أو غيره فهو عندهم طائر. انتهى.

و في الكشّاف: أنّهم كانوا يتفألون بالطير و يسمّونه زجراً فإذا سافروا و مرّ بهم طير زجروه فإن مرّ بهم سانحاً بأن مرّ من جهة اليسار إلى اليمين تيمّنوا و إن مرّ بارحاً بأن مرّ من جهة اليمين إلى الشمال تشّأموا و لذا سمّي تطيّرا. انتهى.

و قال في المفردات: تطيّر فلان و أطّيّر أصله التفاؤل بالطير ثمّ يستعمل في كلّ ما يتفأل به و يتشأم( قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ ) و لذلك قيل: لا طير إلّا طيرك و قال:( إِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا ) أي يتشأموا به( أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللهِ ) أي شؤمهم ما قد أعدّ الله لهم بسوء أعمالهم و على ذلك قوله:( قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ وَ بِمَنْ مَعَكَ ) ( قالَ طائِرُكُمْ عِنْدَ اللهِ ) ( قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ ) ( وَ كُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ ) أي عمله الّذي طار عنه من خير و شرّ و يقال: تطايروا إذا أسرعوا و يقال إذا تفرّقوا. انتهى.

و بالجملة سياق ما قبل الآية و ما بعدها و خاصّة قوله:( مَنِ اهْتَدى‏ فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ ) إلخ، يعطي أنّ المراد بالطائر ما يستدلّ به على الميمنة و المشأمة و يكشف عن حسن العاقبة و سوءها فلكلّ إنسان شي‏ء يرتبط بعاقبة حاله يعلم به كيفيّتها من خير أو شرّ.

و إلزام الطائر جعله لازماً له لا يفارقه، و إنّما جعل الإلزام في العنق لأنّه

٥٦

العضو الّذي لا يمكن أن يفارقه الإنسان أو يفارق هو الإنسان بخلاف الأطراف كاليد و الرجل، و هو العضو الّذي يوصل الرأس بالصدر فيشاهد ما يعلّق عليه من قلادة أو طوق أو غلّ أوّل ما يواجه الإنسان.

فالمراد بقوله:( وَ كُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ ) أنّ الّذي يستعقب لكلّ إنسان سعادته أو شقاءه هو معه لا يفارقه بقضاء من الله سبحانه فهو الّذي ألزمه إيّاه، و هذا هو العمل الّذي يعمله الإنسان لقوله تعالى:( وَ أَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى‏ وَ أَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى‏ ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى) النجم: ٤١.

فالطائر الّذي ألزمه الله الإنسان في عنقه هو عمله، و معنى إلزامه إيّاه أنّ الله قضى أن يقوم كلّ عمل بعامله و يعود إليه خيره و شرّه و نفعه و ضرّه من غير أن يفارقه إلى غيره، و قد استفيد من قوله تعالى:( وَ إِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَ عُيُونٍ ) الآيات: الحجر: ٤٥ أنّ من القضاء المحتوم أنّ حسن العاقبة للإيمان و التقوى و سوء العاقبة للكفر و المعصية.

و لازم ذلك أن يكون مع كلّ إنسان من عمله ما يعيّن له حاله في عاقبة أمره معيّة لازمة لا يتركه و تعييناً قطعيّاً لا يخطئ و لا يغلط لما قضي به أنّ كلّ عمل فهو لصاحبه ليس له إلّا هو و أنّ مصير الطاعة إلى الجنّة و مصير المعصية إلى النار.

و بما تقدّم يظهر أنّ الآية إنّما تثبت لزوم السعادة و الشقاء للإنسان من جهة أعماله الحسنة و السيّئة المكتسبة من طريق الاختيار من دون أن يبطل تأثير العمل في السعادة و الشقاء بإثبات قضاء أزليّ يحتم للإنسان سعادة أو شقاء سواء عمل أم لم يعمل و سواء أطاع أم عصى كما توهّمه بعضهم.

قوله تعالى: ( وَ نُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً ) يوضح حال هذا الكتاب قوله بعده:( اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى‏ بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً ) حيث يدلّ أوّلاً على أنّ الكتاب الّذي يخرج له هو كتابه نفسه لا يتعلّق بغيره، و ثانياً أنّ الكتاب متضمّن لحقائق أعماله الّتي عملها في الدنيا من غير أن يفقد منها شيئاً كما في قوله:( يَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَ لا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها ) الكهف: ٤٩، و ثالثاً أنّ الأعمال الّتي أحصاها بادية فيها بحقائقها من سعادة أو شقاء

٥٧

ظاهرة بنتائجها من خير أو شرّ ظهوراً لا يستتر بستر و لا يقطع بعذر، قال تعالى:( لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ) ق: ٢٢.

و يظهر من قوله تعالى:( يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَ ما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ ) آل عمران: ٣٠ أنّ الكتاب يتضمّن نفس الأعمال بحقائقها دون الرسوم المخطوطة على حدّ الكتب المعمولة فيما بيننا في الدنيا فهو نفس الأعمال يطلع الله الإنسان عليها عياناً، و لا حجّة كالعيان.

و بذلك يظهر أنّ المراد بالطائر و الكتاب في الآية أمر واحد و هو العمل الّذي يعمله الإنسان غير أنّه سبحانه قال:( وَ نُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً ) ففرق الكتاب عن الطائر و لم يقل:( و نخرجه) لئلّا يوهم أنّ العمل إنّما يصير كتاباً يوم القيامة و هو قبل ذلك طائر و ليس بكتاب أو يوهم أنّ الطائر خفيّ مستور غير خارج قبل يوم القيامة فلا يلائم كونه ملزماً له في عنقه.

و بالجملة في قوله:( وَ نُخْرِجُ لَهُ ) إشارة إلى أنّ كتاب الأعمال بحقائقها مستور عن إدراك الإنسان محجوب وراء حجاب الغفلة و إنّما يخرجه الله سبحانه للإنسان يوم القيامة فيطلعه على تفاصيله، و هو المعنىّ بقوله:( يَلْقاهُ مَنْشُوراً ) .

و في ذلك دلالة على أنّ ذلك أمر مهيّأ له غير مغفول عنه فيكون تأكيداً لقوله:( وَ كُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ ) لأنّ المحصّل أنّ الإنسان ستناله تبعة عمله لا محالة أمّا أوّلاً فلأنّه لازم له لا يفارقه. و أمّا ثانياً فلأنّه مكتوب كتاباً سيظهر له فيلقاه منشوراً.

قوله تعالى: ( اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى‏ بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً ) أي يقال: له: اقرأ كتابك إلخ.

و قوله:( كَفى‏ بِنَفْسِكَ ) الباء فيه زائدة للتأكيد و أصله كفت نفسك و إنّما لم يؤنّث الفعل لأنّ الفاعل مؤنّث مجازيّ يجوز معه التذكير و التأنيث، و ربّما قيل: إنّه اسم فعل بمعنى اكتف و الباء غير زائدة، و ربّما وجّه بغير ذلك.

و في الآية دلالة على أنّ حجّة للكتاب قاطعة بحيث لا يرتاب فيها قارئه و لو

٥٨

كان هو المجرم نفسه و كيف لا؟ و فيه معاينة نفس العمل و به الجزاء، قال تعالى:( لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) التحريم: ٧.

و قد اتّضح ممّا أوردناه في وجه اتّصال قوله:( وَ يَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ ) الآية بما قبله وجه اتّصال هاتين الآيتين أعني قوله:( وَ كُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ إلى قوله حَسِيباً ) فمحصّل معنى الآيات و السياق سياق التوبيخ و اللوم أنّ الله سبحانه أنزل القرآن و جعله هادياً إلى ملّة هي أقوم جريا على السنّة الإلهيّة في هداية الناس إلى التوحيد و العبوديّة و إسعاد من اهتدى منهم و إشقاء من ضلّ لكنّ الإنسان لا يميّز الخير من الشرّ و لا يفرّق بين النافع و الضارّ بل يستعجل كلّ ما يهواه فيطلب الشرّ كما يطلب الخير.

و الحال أنّ العمل سواء كان خيرا أو شرّاً لازم لصاحبه لا يفارقه و هو أيضاً محفوظ عليه في كتاب سيخرج له يوم القيامة و ينشر بين يديه و يحاسب عليه، و إذا كان كذلك كان من الواجب على الإنسان أن لا يبادر إلى اقتحام كلّ ما يهواه و يشتهيه و لا يستعجل ارتكابه بل يتوقّف في الاُمور و يتروّى حتّى يميّز بينها و يفرّق خيرها من شرّها فيأخذ بالخير و يتحرّز الشرّ.

قوله تعالى: ( مَنِ اهْتَدى‏ فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَ مَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) قال في المفردات،: الوزر الثقل تشبيها بوزر الجبل، و يعبّر بذلك عن الإثم كما يعبّر عنه بالثقل قال تعالى:( لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً ) الآية كقوله:( وَ لَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَ أَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ ) قال: و قوله:( وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى‏ ) أي لا تحمل وزره من حيث يتعرّى المحمول عنه. انتهى.

و الآية في موضع النتيجة لقوله:( وَ كُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ ) إلخ و الجملة الثالثة( وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى‏ ) تأكيد للجملة الثانية( وَ مَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها ) .

و المعنى إذا كان العمل خيراً كان أو شرّاً يلزم صاحبه و لا يفارقه و هو محفوظ على صاحبه سيشاهده عند الحساب فمن اهتدى فإنّما يهتدي لنفسه و ينتفع به نفسه

٥٩

من غير أن يتبع غيره. و من ضلّ عن السبيل فإنّما يضلّ على نفسه و يتضرّر به نفسه من دون أن يفارقه فيلحق غيره، و لا تتحمّل نفس حاملة حمل نفس اُخرى لا كما ربّما يخيّل لأتباع الضلال أنّهم إن ضلّوا فوبال ضلالهم على أئمّتهم الّذين أضلّوهم و كما يتوهّم المقلّدون لآبائهم و أسلافهم أنّ آثامهم و أوزارهم لآبائهم و أسلافهم لا لهم.

نعم لأئمّة الضلال مثل أوزار متّبعيهم، و لمن سنّ سنّة سيّئة أوزار من عمل بها و لمن قال: اتّبعونا لنحمل خطاياكم آثام خطاياهم لكنّ ذلك كلّه وزر الإمامة و جعل السنّة و تحمّل الخطايا لا عين ما للعامل من الوزر بحيث يفارق العمل عامله و يلحق المتبوع بل إن كان عينه فمعناه أن يعذّب بعمل واحد اثنان.

قوله تعالى: ( وَ ما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا ) ظاهر السياق الجاري في الآية و ما يتلوها من الآيات بل هي و الآيات السابقة أن يكون المراد بالتعذيب التعذيب الدنيويّ بعقوبة الاستئصال، و يؤيّده خصوص سياق النفي( وَ ما كُنَّا مُعَذِّبِينَ ) حيث لم يقل: و لسنا معذّبين و لا نعذّب و لن نعذّب بل قال:( وَ ما كُنَّا مُعَذِّبِينَ ) الدالّ على استمرار النفي في الماضي الظاهر في أنّه كانت السنّة الإلهيّة في الاُمم الخالية الهالكة جارية على أن لا يعذّبهم إلّا بعد أن يبعث إليهم رسولاً ينذرهم بعذاب الله.

و يؤيّده أيضاً أنّه تعالى عبّر عن هذا المبعوث بالرسول دون النبيّ فلم يقل حتّى نبعث نبيّاً، و قد تقدّم في مباحث النبوّة في الجزء الثاني من الكتاب في الفرق بين النبوّة و الرسالة أنّ الرسالة منصب خاصّ إلهيّ يستعقب الحكم الفصل في الاُمّة إمّا بعذاب الاستئصال و إمّا بالتمتّع من الحياة إلى أجل مسمّى، قال تعالى:( وَ لِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ ) يونس: ٤٧ و قال:( قالَتْ رُسُلُهُمْ أَ فِي اللهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَ يُؤَخِّرَكُمْ إِلى‏ أَجَلٍ مُسَمًّى ) إبراهيم: ١٠.

فالتعبير بالرسول لإفادة أنّ المراد نفي التعذيب الدنيويّ دون التعذيب الاُخرويّ أو مطلق التعذيب.

٦٠