الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٣

الميزان في تفسير القرآن13%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 443

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 443 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 111393 / تحميل: 6251
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٣

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

١

بسم الله الرحمن الرحيم

( سورة الأسري مكّيّة و هي مائة و إحدى عشرة آية)

( سورة الإسراء آية ١)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‏ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا  إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ( ١)

( بيان‏)

السورة تتعرّض لأمر توحيده تعالى عن الشريك مطلقاً و مع ذلك يغلب فيها جانب التسبيح على جانب التحميد كما بدأت به فقيل:( سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى‏ بِعَبْدِهِ ) الآية، و كرّر ذلك فيها مرّة بعد مرّة كقوله:( سُبْحانَهُ وَ تَعالى‏ عَمَّا يَقُولُونَ ) و قوله:( قُلْ سُبْحانَ رَبِّي ) الآية ٩٣، و قوله:( وَ يَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا ) الآية ١٠٨ حتّى أنّ الآية الخاتمة للسورة:( وَ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَ كَبِّرْهُ تَكْبِيراً ) تحمد الله على تنزّهه عن الشريك و الوليّ و اتّخاذ الولد.

و السورة مكّيّة لشهادة مضامين آياتها بذلك و عن بعضهم كما في روح المعاني، استثناء آيتين منها و هما قوله:( وَ إِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ ) الآية و قوله:( وَ إِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ ) الآية و عن بعضهم إلّا أربع آيات و هي الآيتان المذكورتان و قوله:( وَ إِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ ) الآية و قوله:( وَ قُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ ) الآية.

٢

و عن الحسن أنّها مكّيّة إلّا خمس آيات منها و هي قوله:( وَ لا تَقْتُلُوا النَّفْسَ ) الآية( وَ لا تَقْرَبُوا الزِّنى‏ ) الآية( أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ ) ( أَقِمِ الصَّلاةَ ) ( وَ آتِ ذَا الْقُرْبى ) ‏ الآية.

و عن مقاتل مكّيّة إلّا خمس:( وَ إِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ ) الآية( وَ إِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ ) الآية( وَ إِذْ قُلْنا لَكَ ) الآية( وَ قُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي ) الآية( إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ ) الآية.

و عن قتادة و المعدل عن ابن عبّاس مكّيّة إلّا ثماني آيات و هي قوله:( وَ إِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ ) الآية إلى قوله:( وَ قُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ ) الآية.

و لا دلالة في مضامين الآيات على كونها مدنيّة و لا الأحكام المذكورة فيها ممّا يختصّ نزولاً بالمدينة و قد نزلت نظائرها في السور المكّيّة كالأنعام و الأعراف.

و قد افتتحت السورة فيما ترومه من التسبيح بالإشارة إلى معراج النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فذكر إسراؤهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى و هو بيت المقدّس و الهيكل الّذي بناه داود و سليمانعليهما‌السلام و قدّسه الله لبني إسرائيل.

ثمّ سبق الكلام بالمناسبة إلى ما قدّره الله لمجتمع بني إسرائيل من الرقيّ و الانحطاط و العزّة و الذلّة فكلّما أطاعوا رفعهم الله و كلّما عصوا خفضهم الله و قد أنزل عليهم الكتاب و أمرهم بالتوحيد و نفي الشريك.

ثمّ عطف فيها الكلام على حال هذه الاُمّة و ما اُنزل عليهم من الكتاب بما يشاكل حال بني إسرائيل و أنّهم إن أطاعوا اُثيبوا و إن عصوا عوقبوا فإنّما هي الأعمال يعامل الإنسان بما عمل منها و على ذلك جرت السنّة الإلهيّة في الاُمم الماضين.

ثمّ ذكرت فيها حقائق جمّة من المعارف الراجعة إلى المبدإ و المعاد و الشرائع العامّة من الأوامر و النواهي و غير ذلك.

و من غرر الآيات فيها قوله تعالى( قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) الآية ١١٠ من السورة، و قوله:( كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ

٣

وَ هَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَ ما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً ) الآية ٢٠ منها، و قوله:( وَ إِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوها ) الآية ٥٨ منها و غير ذلك.

قوله تعالى: ( سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى‏ بِعَبْدِهِ لَيْلًا ) إلى آخر الآية سبحان اسم مصدر للتسبيح بمعنى التنزيه و يستعمل مضافاً و هو مفعول مطلق قائم مقام فعله فتقدير( سبحان الله) سبّحت الله تسبيحاً أي نزّهته عن كلّ ما لا يليق بساحة قدسه و كثيراً ما يستعمل للتعجّب لكنّ سياق الآيات إنّما يلائم التنزيه لكونه الغرض من البيان و إن أصرّ بعضهم على كونه للتعجّب.

و الإسراء و السري السير بالليل يقال سرى و أسرى أي سار ليلاً و سرى و أسرى به أي سار به ليلاً و السير يختصّ بالنهار أو يعمّه و اللّيل.

و قوله:( لَيْلًا ) مفعول فيه و يفيد من الفائدة أنّ هذا الإسراء تمّ له بالليل فكان الرواح و المجي‏ء في ليلة واحدة قبل أن يطلع فجرها.

و قوله:( إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى ) هو بيت المقدّس بقرينة قوله:( الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ ) . و القصا البعد و قد سمّي المسجد الأقصى لكونه أبعد مسجد بالنسبة إلى مكان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و من معه من المخاطبين و هو مكّة الّتي فيها المسجد الحرام.

و قوله:( لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا ) بيان غاية الإسراء و هي إراءة بعض الآيات الإلهيّة - لمكان من - و في السياق دلالة على عظمة هذه الآيات الّتي أراها الله سبحانه كما صرّح به في موضع آخر من كلامه يذكر فيه حديث المعراج بقوله:( لَقَدْ رَأى‏ مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى‏ ) النجم ١٨.

و قوله:( إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ) تعليل لإسرائه به لإراءة آياته أي إنّه سميع لأقوال عباده بصير بأفعالهم و قد سمع من مقال عبده و رآى من حاله ما استدعى أن يكرمه هذا الإكرام فيسري به ليلاً و يريه من آياته الكبرى.

و في الآية التفات من الغيبة إلى التكلّم مع الغير في قوله:( بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا ) ثمّ رجوع إلى الغيبة السابقة و الوجه فيه الإشارة إلى أنّ الإسراء و ما ترتّب عليه من إراءة الآيات إنّما صدر عن ساحة العظمة و الكبرياء و موطن

٤

العزّة و الجبروت فعملت فيه السلطنة العظمى و تجلّى الله له بآياته الكبرى و لو قيل: ليريه من آياته أو غير ذلك لفاتت النكتة.

و المعنى لينزّه تنزيها من أسرى بعظمته و كبريائه و بالغ قدرته و سلطانه بعبده محمّد في جوف ليلة واحدة من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى و هو بيت المقدّس الّذي بارك حوله ليريه بعظمته و كبريائه آياته الكبرى و إنّما فعل به ذلك لأنّه سميع بصير علم بما سمع من مقاله و رأى من حاله أنّه خليق أن يكرّم هذه التكرمة.

( بحث روائي‏)

في تفسير القمّيّ، عن أبيه عن ابن أبي عمير عن هشام بن سالم عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: جاء جبرئيل و ميكائيل و إسرافيل بالبراق إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأخذ واحد باللجام و واحد بالركاب و سوّى الآخر عليه ثيابه فتضعضعت البراق فلطمها جبرائيل ثمّ قال لها اسكني يا براق فما ركبك نبيّ قبله و لا يركبك بعده مثله.

قال: فرفّت به و رفعته ارتفاعاً ليس بالكثير و معه جبرئيل يريه الآيات من السماء و الأرض. قال: فبينا أنا في مسيري إذ نادى مناد عن يميني: يا محمّد فلم اُجبه و لم ألتفت إليه ثمّ نادى مناد عن يساري: يا محمّد فلم اُجبه و لم ألتفت إليه ثمّ استقبلتني امرأة كاشفة عن ذراعيها عليها من كلّ زينة الدنيا فقالت: يا محمّد أنظرني حتّى اُكلّمك فلم ألتفت إليها ثمّ سرت فسمعت صوتا أفزعني فجاوزت فنزل بي جبرئيل فقال: صلّ فصلّيت فقال: تدري أين صلّيت؟ قلت: لا، فقال: صلّيت بطور سيناء حيث كلّم الله موسى تكليما ثمّ ركبت فمضينا ما شاء الله ثمّ قال لي: انزل فصلّ فنزلت و صلّيت فقال لي: تدري أين صلّيت؟ فقلت: لا قال: صلّيت في بيت لحم، و بيت لحم بناحية بيت المقدّس حيث ولد عيسى بن مريم.

ثمّ ركبت فمضينا حتّى انتهينا إلى بيت المقدّس فربطت البراق بالحلقة الّتي

٥

كانت الأنبياء تربط بها فدخلت المسجد و معي جبرئيل إلى جنبي فوجدنا إبراهيم و موسى و عيسى فيمن شاء الله من أنبياء اللهعليه‌السلام فقد جمعوا إليّ و اُقيمت الصلاة و لا أشكّ إلّا و جبرئيل سيتقدّمنا فلمّا استووا أخذ جبرئيل بعضدي فقدّمني و أممتهم و لا فخر.

ثمّ أتاني الخازن بثلاثة أواني إناء فيه لبن و إناء فيه ماء و إناء فيه خمر و سمعت قائلا يقول: إن أخذ الماء غرق و غرقت اُمّته و إن أخذ الخمر غوى و غويت اُمّته و إن أخذ اللبن هدى و هديت اُمّته قال: فأخذت اللبن و شربت منه فقال لي جبرئيل هديت و هديت اُمّتك.

ثمّ قال لي ما ذا رأيت في مسيرك؟ فقلت ناداني مناد عن يميني فقال: أ و أجبته؟ فقلت: لا و لم ألتفت إليه فقال: داعي اليهود لو أجبته لتهوّدت اُمّتك من بعدك ثمّ قال: ما ذا رأيت؟ فقلت: ناداني مناد عن يساري فقال لي: أ و أجبته؟ فقلت: لا و لم ألتفت إليه فقال: ذاك داعي النصارى و لو أجبته لتنصّرت اُمّتك من بعدك. ثمّ قال: ما ذا استقبلك؟ فقلت: لقيت امرأة كاشفة عن ذراعيها عليها من كلّ زينة الدنيا فقالت: يا محمّد أنظرني حتّى اُكلّمك. فقال: أ و كلّمتها؟ فقلت لم اُكلّمها و لم ألتفت إليها فقال: تلك الدنيا و لو كلّمتها لاختارت اُمّتك الدنيا على الآخرة.

ثمّ سمعت صوتا أفزعني، فقال لي جبرئيل: أ تسمع يا محمّد؟ قلت نعم قال: هذه صخرة قذفتها عن شفير جهنّم منذ سبعين عامّاً فهذا حين استقرّت قالوا فما ضحك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتّى قبض.

قال فصعد جبرئيل و صعدت معه إلى السماء الدنيا و عليها ملك يقال له: إسماعيل و هو صاحب الخطفة الّتي قال الله عزّوجلّ:( إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ ) و تحته سبعون ألف ملك تحت كلّ ملك سبعون ألف ملك.

فقال: يا جبرئيل! من هذا الّذي معك؟ فقال: محمّد رسول الله قال: و قد بعث؟ قال: نعم ففتح الباب فسلّمت عليه و سلّم عليّ و استغفرت له و استغفر لي و قال:

٦

مرحباً بالأخ الصالح و النبيّ الصالح، و تلقّتني الملائكة حتّى دخلت السماء الدنيا فما لقيني ملك إلّا ضاحكاً مستبشراً حتّى لقيني ملك من الملائكة لم أر أعظم خلقاً منه كريه المنظر ظاهر الغضب فقال لي مثل ما قالوا من الدعاء إلّا أنّه لم يضحك و لم أر فيه من الاستبشار ما رأيت من ضحك الملائكة فقلت: من هذا يا جبرئيل فإنّي قد فزعت منه؟ فقال: يجوز أن يفزع منه فكلّنا نفزع منه إنّ هذا مالك خازن النار لم يضحك قطّ، و لم يزل منذ ولّاه الله جهنّم يزداد كلّ يوم غضباً و غيظاً على أعداء الله و أهل معصيته فينتقم الله به منهم، و لو ضحك إلى أحد قبلك أو كان ضاحكاً إلى أحد بعدك لضحك إليك فسلّمت عليه فردّ السلام عليّ و بشّرني بالجنّة.

فقلت لجبرئيل و جبرئيل بالمكان الّذي وصفه الله( مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ ) أ لا تأمره أن يريني النار؟ فقال له جبرئيل: يا مالك أر محمّداً النار فكشف عنها غطاءها و فتح باباً منها فخرج منها لهب ساطع في السماء و فارت و ارتفعت حتّى ظننت ليتناولني ممّا رأيت فقلت: يا جبرئيل! قل له فليردّ عليها غطاءها فأمره فقال لها: ارجعي فرجعت إلى مكانها الّذي خرجت منه.

ثمّ مضيت فرأيت رجلاً آدماً جسيماً فقلت: من هذا يا جبرئيل؟ فقال: هذا أبوك آدم فإذا هو يعرض عليه ذرّيّته فيقول: روح طيّبة و ريح طيّبة من جسد طيّب ثمّ تلا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سورة المطفّفين على رأس سبع عشرة آية:( كَلَّا إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ وَ ما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ كِتابٌ مَرْقُومٌ يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ ) إلى آخرها قال: فسلّمت على أبي آدم و سلّم عليّ و استغفرت له و استغفر لي، و قال: مرحباً بالابن الصالح و النبيّ الصالح المبعوث في الزمن الصالح.

قال: ثمّ مررت بملك من الملائكة جالس على مجلس و إذا جميع الدنيا بين ركبتيه و إذا بيده لوح من نور ينظر فيه مكتوب فيه كتاب ينظر فيه لا يلتفت يمينا و لا شمالاً، مقبلاً عليه كهيئة الحزين فقلت: من هذا يا جبرئيل؟ قال: هذا ملك الموت دائب في قبض الأرواح فقلت: يا جبرئيل أدنني منه حتّى اُكلّمه فأدناني منه فسلّمت عليه، و قال له جبرئيل: هذا محمّد نبيّ الرحمة الّذي أرسله الله إلى العباد فرحّب

٧

بي و حيّاني بالسلام و قال: أبشر يا محمّد فإنّي أرى الخير كلّه في اُمّتك فقلت: الحمد لله المنّان ذي النعم على عباده ذلك من فضل ربّي و رحمته عليّ فقال جبرئيل: هو أشدّ الملائكة عملاً فقلت: أ كلّ من مات أو هو ميّت فيما بعد هذا تقبض روحه؟ فقال: نعم. قلت: و تراهم حيث كانوا و تشهدهم بنفسك؟ فقال: نعم. فقال ملك الموت: ما الدنيا كلّها عندي فيما سخّره الله لي و مكّنني عليها إلّا كالدرهم في كفّ الرجل يقلّبه كيف يشاء، و ما من دار إلّا و أنا أتصّفحه كلّ يوم خمس مرّات، و أقول إذا بكى أهل الميّت على ميّتهم: لا تبكوا عليه فإنّ لي فيكم عودة و عودة حتّى لا يبقى منكم أحد فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : كفى بالموت طامّة يا جبرئيل فقال جبرئيل: إنّ ما بعد الموت أطمّ و أطمّ من الموت.

قال: ثمّ مضيت فإذا أنا بقوم بين أيديهم موائد من لحم طيّب و لحم خبيث يأكلون اللحم الخبيث و يدعون الطيّب فقلت: من هؤلاء يا جبرئيل؟ فقال: هؤلاء الّذين يأكلون الحرام و يدعون الحلال و هم من اُمّتك يا محمّد.

فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثمّ رأيت ملكاً من الملائكة جعل الله أمره عجيباً نصف جسده النار و النصف الآخر ثلج فلا النار تذيب الثلج و لا الثلج تطفئ النار و هو ينادي بصوت رفيع و يقول: سبحان الّذي كفّ حرّ هذه النار فلا تذيب الثلج و كفّ برد هذا الثلج فلا يطفئ حرّ هذه النار اللّهمّ يا مؤلّف بين الثلج و النار ألّف بين قلوب عبادك المؤمنين فقلت: من هذا يا جبرئيل؟ فقال: هذا ملك وكلّه الله بأكناف السماء و أطراف الأرضين و هو أنصح ملائكة الله لأهل الأرض من عباده المؤمنين يدعو لهم بما تسمع منذ خلق.

و رأيت ملكين يناديان في السماء أحدهما يقول: اللّهمّ أعط كلّ منفق خلفا و الآخر يقول: اللّهمّ أعط كلّ ممسك تلفا.

ثمّ مضيت فإذا أنا بأقوام لهم مشافر كمشافر الإبل يقرض اللحم من جنوبهم و يلقى في أفواههم فقلت: من هؤلاء يا جبرئيل؟ فقال: هؤلاء الهمّازون اللمّازون.

ثمّ مضيت فإذا أنا بأقوام ترضخ رؤسهم بالصخر فقلت: من هؤلاء يا جبرئيل؟

٨

فقال: هؤلاء الّذين ينامون عن صلاة العشاء.

ثمّ مضيت فإذا أنا بأقوام تقذف النار في أفواههم و تخرج من أدبارهم فقلت: من هؤلاء يا جبرئيل؟ قال: هؤلاء الّذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنّما يأكلون في بطونهم ناراً و سيصلون سعيراً.

ثمّ مضيت فإذا أنا بأقوام يريد أحدهم أن يقوم فلا يدر من عظم بطنه فقلت: من هؤلاء يا جبرئيل؟ قال: هؤلاء الّذين يأكلون الربا لا يقومون إلّا كما يقوم الّذي يتخبّطه الشيطان من المسّ، و إذا هم بسبيل آل فرعون يعرضون على النار غدوّاً و عشيّاً يقولون ربّنا متى تقوم الساعة؟.

قال: ثمّ مضيت فإذا أنا بنسوان معلّقات بثديهنّ فقلت: من هؤلاء يا جبرئيل فقال: هؤلاء اللواتي يورثن أموال أزواجهنّ أولاد غيرهم. ثمّ قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اشتدّ غضب الله على امرأة أدخلت على قوم في نسبهم من ليس منهم فاطّلع على عوراتهم و أكل خزائنهم.

ثمّ قال: مررنا بملائكة من ملائكة الله عزّوجلّ خلقهم الله كيف شاء و وضع وجوههم كيف شاء، ليس شي‏ء من أطباق أجسادهم إلّا و هو يسبّح الله و يحمده من كلّ ناحية بأصوات مختلفة أصواتهم مرتفعة بالتحميد و البكاء من خشية الله فسألت جبرئيل عنهم فقال: كما ترى خلقوا إنّ الملك منهم إلى جنب صاحبه ما كلّمه كلمة قطّ و لا رفعوا رؤسهم إلى ما فوقها و لا خفضوها إلى ما تحتها خوفاً من الله و خشوعاً فسلّمت عليهم فردّوا عليّ إيماء برؤسهم لا ينظرون إليّ من الخشوع فقال لهم جبرئيل: هذا محمّد نبيّ الرحمة أرسله الله إلى العباد رسولاً و نبيّاً. و هو خاتم النبيّين و سيّدهم أ فلا تكلّمونه؟ قال: فلمّا سمعوا ذلك من جبرئيل أقبلوا عليّ بالسلام و أكرموني و بشّروني بالخير لي و لاُمّتي.

قال: ثمّ صعدنا إلى السماء الثانية فإذا فيها رجلان متشابهان فقلت: من هذان يا جبرئيل؟ فقال لي: ابنا الخالة يحيى و عيسىعليهما‌السلام فسلّمت عليهما و سلّما عليّ و استغفرت لهما و استغفرا لي و قالا: مرحبا بالأخ الصالح و النبيّ الصالح

٩

و إذا فيها من الملائكة و عليهم الخشوع قد وضع الله وجوههم كيف شاء ليس منهم ملك إلّا يسبّح الله بحمده بأصوات مختلفة.

ثمّ صعدنا إلى السماء الثالثة فإذا فيها رجل فضل حسنه على سائر الخلق كفضل القمر ليلة البدر على سائر النجوم فقلت: من هذا يا جبرئيل؟ فقال: هذا أخوك يوسف فسلّمت عليه و سلّم عليّ و استغفرت له و استغفر لي، و قال: مرحبا بالنبيّ الصالح و الأخ الصالح و المبعوث في الزمن الصالح، و إذا فيها ملائكة عليهم من الخشوع مثل ما وصفت في السماء الاُولى و الثانية، و قال لهم جبرئيل في أمري ما قال للآخرين و صنعوا فيّ مثل ما صنع الآخرون.

ثمّ صعدنا إلى السماء الرابعة و إذا فيها رجل فقلت: من هذا يا جبرئيل؟ فقال: هذا إدريس رفعه الله مكاناً عليّاً فسلّمت عليه و سلّم عليّ و استغفرت له و استغفر لي، و إذا فيها من الملائكة الخشوع مثل ما في السّماوات الّتي عبرناها فبشّروني بالخير لي و لاُمّتي ثمّ رأيت ملكاً جالساً على سرير تحت يديه سبعون ألف ملك تحت كلّ ملك سبعون ألف ملك فوقع في نفس رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه هو فصاح به جبرئيل فقال: قم فهو قائم إلى يوم القيامة.

ثمّ صعدنا إلى السماء الخامسة فإذا فيها رجل كهل عظيم العين لم أر كهلا أعظم منه حوله ثلّة من اُمّته فأعجبني كثرتهم فقلت: من هذا يا جبرئيل؟ فقال: هذا المحبّب في قومه هارون بن عمران فسلّمت عليه و سلّم عليّ و استغفرت له و استغفر لي و إذا فيها من الملائكة الخشوع مثل ما في السماوات.

ثمّ صعدنا إلى السماء السادسة و إذا فيها رجل آدم طويل كأنّه من شنوة و لو أنّ له قميصين لنفذ شعره فيهما و سمعته يقول: يزعم بنو إسرائيل أنّي أكرم ولد آدم على الله و هذا رجل أكرم على الله منّي فقلت: من هذا يا جبرئيل؟ فقال: هذا أخوك موسى بن عمران فسلّمت عليه و سلّم عليّ و استغفرت له و استغفر لي، و إذا فيها من الملائكة الخشوع مثل ما في السماوات.

قال: ثمّ صعدنا إلى السماء السابعة فما مررت بملك من الملائكة إلّا قالوا:

١٠

يا محمّد احتجم و أمر اُمّتك بالحجامة، و إذا فيها رجل أشمط الرأس و اللحية جالس على كرسيّ فقلت: يا جبرئيل من هذا الّذي في السماء السابعة على باب البيت المعمور في جوار الله؟ فقال: هذا يا محمّد أبوك إبراهيم و هذا محلّك و محلّ من اتّقى من اُمّتك ثمّ قرأ رسول الله:( إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَ هذَا النَّبِيُّ وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ اللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ ) فسلّمت عليه و سلّم عليّ و قال: مرحبا بالنبيّ الصالح و الابن الصالح و المبعوث في الزمن الصالح و إذا فيها من الملائكة الخشوع مثل ما في السماوات فبشّروني بالخير لي و لاُمّتي.

قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : و رأيت في السماء السابعة بحاراً من نور تتلألأ تلألؤها يخطف بالأبصار، و فيها بحار من ظلمة و بحار من ثلج ترعد فكلّما فزعت و رأيت هولا سألت جبرئيل فقال: أبشر يا محمّد و اشكر كرامة ربّك و اشكر الله بما صنع إليك قال: فثبّتني الله بقوّته و عونه حتّى كثر قولي لجبرئيل و تعجّبي.

فقال جبرئيل: يا محمّد تعظّم ما ترى؟ إنّما هذا خلق من خلق ربّك فكيف بالخالق الّذي خلق ما ترى و ما لا ترى أعظم من هذا من خلق ربّك إنّ بين الله و بين خلقه سبعين ألف حجاب و أقرب الخلق إلى الله أنا و إسرافيل و بيننا و بينه أربعة حجب حجاب من نور و حجاب من الظلمة و حجاب من الغمامة و حجاب من الماء.

قال: و رأيت من العجائب الّتي خلق الله و سخّر على ما أراده ديكاً رجلاه في تخوم الأرضين السابعة و رأسه عند العرش و هو ملك من ملائكة الله تعالى خلقه الله كما أراد رجلاه في تخوم الأرضين السابعة ثمّ أقبل مصعداً حتّى خرج في الهواء إلى السماء السابعة و انتهى فيها مصعداً حتّى انتهى قرنه إلى قرب العرش و هو يقول: سبحان ربّي حيثما كنت لا تدري أين ربّك من عظم شأنه، و له جناحان في منكبه إذا نشرهما جاوزا المشرق و المغرب فإذا كان في السحر نشر جناحيه و خفق بهما و صرخ بالتسبيح يقول: سبحان الله الملك القدّوس، سبحان الله الكبير المتعال لا إله إلّا الله الحيّ القيّوم و إذا قال ذلك سبّحت ديوك الأرض كلّها و خفقت بأجنحتها و أخذت بالصراخ فإذا سكت ذلك الديك في السماء سكت ديوك الأرض كلّها، و

١١

لذلك الديك زغب أخضر و ريش أبيض كأشدّ بياض ما رأيته قطّ، و له زغب أخضر أيضاً تحت ريشه الأبيض كأشدّ خضرة ما رأيتها قطّ.

قال: ثمّ مضيت مع جبرئيل فدخلت البيت المعمور فصلّيت فيه ركعتين و معي اُناس من أصحابي عليهم ثياب جدد و آخرين عليهم ثياب خلقان فدخل أصحاب الجدد و جلس أصحاب الخلقان.

ثمّ خرجت فانقاد لي نهران نهر يسمّى الكوثر و نهر يسمّى الرحمة فشربت من الكوثر و اغتسلت من الرحمة ثمّ انقاداً لي جميعاً حتّى دخلت الجنّة و إذا على حافتيها بيوتي و بيوت أهلي و إذا ترابها كالمسك، و إذا جارية تنغمس في أنهار الجنّة فقلت: لمن أنت يا جارية؟ فقالت: لزيد بن حارثة فبشّرته بها حين أصبحت، و إذا بطيرها كالبخت، و إذا رمّانها مثل الدليّ العظام، و إذا شجرة لو اُرسل طائر في أصلها ما دارها سبعمائة سنة، و ليس في الجنّة منزل إلّا و فيه غصن منها فقلت: ما هذه يا جبرئيل؟ فقال: هذه شجرة طوبى قال الله( طُوبى‏ لَهُمْ وَ حُسْنُ مَآبٍ ) .

قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : فلمّا دخلت الجنّة رجعت إلى نفسي فسألت جبرئيل عن تلك البحار و هولها و أعاجيبها فقال: هي سرادقات الحجب الّتي احتجب الله تبارك و تعالى بها و لو لا تلك الحجب لهتك نور العرش كلّ شي‏ء فيه.

و انتهيت إلى سدرة المنتهى فإذا الورقة منها تظلّ اُمّة من الاُمم فكنت منها كما قال الله تعالى( قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى‏ ) فناداني( آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ ) فقلت أنا مجيبا عنّي و عن اُمّتي:( وَ الْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ (وَ مَلائِكَتِهِ) وَ كُتُبِهِ وَ رُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَ قالُوا سَمِعْنا وَ أَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَ إِلَيْكَ الْمَصِيرُ ) فقال الله:( لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها، لَها ما كَسَبَتْ وَ عَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ ) فقلت:( رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا ) فقال الله لا أؤاخذك، فقلت:( رَبَّنا وَ لا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا ) فقال الله: لا أحملك فقلت:( رَبَّنا وَ لا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَ اعْفُ عَنَّا وَ اغْفِرْ لَنا وَ ارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ ) فقال الله تبارك و تعالى: قد أعطيتك ذلك لك و لاُمّتك، فقال الصادقعليه‌السلام ما وفد

١٢

إلى الله تعالى أحد أكرم من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حين سأل لاُمّته هذه الخصال.

فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا ربّ أعطيت أنبياءك فضائل فأعطني فقال الله: قد أعطيتك فيما أعطيتك كلمتين من تحت عرشي: لا حول و لا قوّة إلّا بالله، و لا منجا منك إلّا إليك.

قال: و علّمتني الملائكة قولاً أقوله إذا أصبحت و أمسيت: اللّهمّ إنّ ظلمي أصبح مستجيراً بعفوك، و ذنبي أصبح مستجيراً بمغفرتك و ذلّي أصبح مستجيراً بعزّتك، و فقري أصبح مستجيراً بغناك و وجهي الفاني أصبح مستجيراً بوجهك الباقي الّذي لا يفنى، و أقول ذلك إذا أمسيت.

ثمّ سمعت الأذان فإذا ملك يؤذّن لم ير في السماء قبل تلك اللّيلة فقال: الله أكبر الله أكبر فقال الله: صدق عبدي أنا أكبر من كلّ شي‏ء فقال:( أشهد أن لا إله إلّا الله أشهد أن لا إله إلّا الله) فقال الله: صدق عبدي أنا الله لا إله إلّا أنا و لا إله غيري فقال:( أشهد أنّ محمّداً رسول الله أشهد أنّ محمّداً رسول الله) فقال الله: صدق عبدي إنّ محمّداً عبدي و رسولي أنا بعثته و انتجبته فقال:( حيّ على الصلاة حيّ على الصلاة) فقال: صدق عبدي دعا إلى فريضتي فمن مشى إليها راغباً فيها محتسبا كانت له كفّارة لما مضى من ذنوبه فقال:( حيّ على الفلاح حيّ على الفلاح) فقال الله: هي الصلاح و النجاح و الفلاح. ثمّ أممت الملائكة في السماء كما أممت الأنبياء في بيت المقدّس.

قال: ثمّ غشيتني ضبابة فخررت ساجداً فناداني ربّي أنّي قد فرضت على كلّ نبيّ كان قبلك خمسين صلاة و فرضتها عليك و على اُمّتك فقم بها أنت في اُمّتك قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : فانحدرت حتّى مررت على إبراهيم فلم يسألني عن شي‏ء حتّى انتهيت إلى موسى فقال: ما صنعت يا محمّد؟ فقلت: قال ربّي: فرضت على كلّ نبيّ كان قبلك خمسين صلاة و فرضتها عليك و على اُمّتك. فقال موسى: يا محمّد إنّ اُمّتك آخر الاُمم و أضعفها و إنّ ربّك لا يزيده شي‏ء و إنّ اُمّتك لا تستطيع أن تقوم بها فارجع إلى ربّك فاسأله التخفيف لاُمّتك.

١٣

فرجعت إلى ربّي حتّى انتهيت إلى سدرة المنتهى فخررت ساجداً ثمّ قلت: فرضت عليّ و على اُمّتي خمسين صلاة و لا اُطيق ذلك و لا اُمّتي فخفّف عني فوضع عنّي عشراً فرجعت إلى موسى فأخبرته فقال: ارجع لا تطيق فرجعت إلى ربّي فوضع عنّي عشراً فرجعت إلى موسى فأخبرته فقال: ارجع و في كلّ رجعة أرجع إليه أخّر ساجداً حتّى رجع إلى عشر صلوات فرجعت إلى موسى و أخبرته فقال: لا تطيق فرجعت إلى ربّي فوضع عنّي خمساً فرجعت إلى موسى و أخبرته فقال: لا تطيق فقلت: قد استحيت من ربّي و لكن أصبر عليها فناداني مناد: كما صبرت عليها فهذه الخمس بخمسين كلّ صلاة بعشر، و من همّ من اُمّتك بحسنة يعملها فعملها كتبت له عشراً و إن لم يعمل كتبت له واحدة، و من همّ من اُمّتك بسيّئة فعملها كتبت عليه واحدة و إن لم يعملها لم أكتب عليه.

فقال الصادقعليه‌السلام : جزى الله موسى عن هذه الاُمّة خيراً فهذا تفسير قول الله:( سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى‏ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ) .

أقول: و قد ورد ما يقرب ممّا قصّته هذه الرواية في روايات كثيرة جدّاً من طرق الشيعة و أهل السنّة، و قوله في الرواية( رجلاً آدماً) يقال: رجل آدم أي أسمر اللون، و الطامّة هي الأمر الشديد الّذي يغلب ما سواه، و لذلك سمّيت القيامة بالطامّة، و الأكتاف جمع كتف و المراد الأطراف و النواحي، و قوله:( فوقع في نفس رسول الله أنّه هو) أي أنّه الملك الّذي يدبّر أمر العالم و ينتهي إليه كلّ أمر.

و قوله: شنوة بالشين و النون و الواو و ربّما يهمز قبيلة كانوا معروفين بطول القامة، و قوله:( أشمط الرأس و اللحية) الشمط بياض الشعر يخالطه سواد، و الزغب أوّل ما يبدو من الشعر و الريش و صغارهما، و البخت الإبل الخراسانيّ و الدليّ بضمّ الدال و كسر اللام و تشديد الياء جمع دلو على فعول، و الصبابة بفتح الصاد المهملة و الباء الموحّدة الشوق و الهوى الرقيق و بالمعجمة مضمومة الغيم الرقيق.

١٤

و في أمالي الصدوق، عن أبيه عن عليّ عن أبيه عن ابن أبي عمير عن أبان بن عثمان عن أبي عبدالله جعفر بن محمّد الصادقعليه‌السلام قال: لمّا اُسري برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى بيت المقدّس حمله جبرئيل على البراق فأتيا بيت المقدّس و عرض عليه محاريب الأنبياء و صلّى بها و ردّه فمرّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في رجوعه بعير لقريش و إذا لهم ماء في آنية و قد أضلّوا بعيرا لهم و كانوا يطلبونه فشرب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من ذلك الماء و أهرق باقيه.

فلمّا أصبح رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لقريش: إنّ الله جلّ جلاله قد أسرى بي إلى بيت المقدّس و أراني آثار الأنبياء و منازلهم، و إنّي مررت بعير لقريش في موضع كذا و كذا و قد أضلّوا بعيراً لهم فشربت من مائهم و أهرقت باقي ذلك فقال أبو جهل: قد أمكنتكم الفرصة منه فاسألوه كم الأساطين فيها و القناديل؟ فقالوا: يا محمّد إنّ هاهنا من قد دخل بيت المقدّس فصف لنا كم أساطينه و قناديله و محاريبه؟ فجاء جبرئيل فعلّق صورة بيت المقدّس تجاه وجهه فجعل يخبرهم بما يسألونه عنه فلمّا أخبرهم، قالوا: حتّى يجي‏ء العير و نسألهم عمّا قلت، فقال لهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تصديق ذلك أنّ العير يطلع عليكم مع طلوع الشمس يقدمها جمل أورق.

فلمّا كان من الغد أقبلوا ينظرون إلى العقبة و يقولون هذه الشمس تطلع الساعة فبينما هم كذلك إذ طلعت عليهم العير حين طلع القرص يقدمها جمل أورق فسألوهم عمّا قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالوا: لقد كان هذا: ضلّ جمل لنا في موضع كذا و كذا، و وضعنا ماء فأصبحنا و قد اُهريق الماء فلم يزدهم ذلك إلّا عتوّا.

أقول: و في معناها روايات اُخرى من طرق الفريقين.

و فيه، بإسناده عن عبدالله بن عبّاس قال: إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمّا اُسري به إلى السماء انتهى به جبرئيل إلى نهر يقال له النور و هو قوله عزّوجلّ:( جَعَلَ الظُّلُماتِ وَ النُّورَ ) فلمّا انتهى به إلى ذلك قال له جبرئيل: يا محمّد اعبر على بركة الله فقد نوّر الله لك بصرك و مدّ لك أمامك فإنّ هذا نهر لم يعبره أحد لا ملك مقرّب و لا نبيّ مرسل غير أنّ لي في كلّ يوم اغتماسة فيه ثمّ أخرج منه

١٥

فأنفض أجنحتي فليس من قطرة تقطر من أجنحتي إلّا خلق الله تبارك و تعالى منها ملكاً مقرّباً له عشرون ألف وجه و أربعون ألف لسان كلّ لسان يلفظ بلغة لا يفقهها اللسان الآخر.

فعبر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتّى انتهى إلى الحجب و الحجب خمس مائة حجاب من الحجاب إلى الحجاب مسيرة خمسمائة عام ثمّ قال: تقدّم يا محمّد فقال له: يا جبرئيل و لم لا تكون معي؟ قال: ليس لي أن أجوز هذا المكان فتقدّم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما شاء الله أن يتقدّم حتّى سمع ما قال الربّ تبارك و تعالى: أنا المحمود و أنت محمّد شققت اسمك من اسمي فمن وصلك وصلته و من قطعك بتكته انزل إلى عبادي فأخبرهم بكرامتي إيّاك و أنّي لم أبعث نبيّاً إلّا جعلت له وزيراً و إنّك رسولي و إنّ عليّاً وزيرك.

و في المناقب، عن ابن عبّاس في خبر: و سمع يعني رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صوتا( آمنّا بربّ العالمين) قال يعني جبرئيل: هؤلاء سحرة فرعون، و سمع لبيّك اللّهمّ لبيّك قال: هؤلاء الحجّاج، و سمع التكبير قال: هؤلاء الغزاة، و سمع التسبيح قال: هؤلاء الأنبياء.

فلمّا بلغ إلى سدرة المنتهى و انتهى إلى الحجب، قال جبرئيل: تقدّم يا رسول الله ليس لي أن أجوز هذا المكان و لو دنوت أنملة لاحترقت.

و في الإحتجاج، عن ابن عبّاس قال: قال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيما احتجّ على اليهود: حملت على جناح جبرئيل حتّى انتهيت إلى السماء السابعة فجاوزت سدرة المنتهى عندها جنّة المأوى حتّى تعلّقت بساق العرش فنوديت من ساق العرش: إنّي أنا الله لا إله إلّا أنا السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبّار المتكبّر الرؤف الرحيم فرأيته بقلبي و ما رأيته بعيني. الخبر.

و في الكافي، بإسناده عن أبي الربيع قال: حججنا مع أبي جعفرعليه‌السلام في السنة الّتي كان حجّ فيها هشام بن عبدالملك و كان معه نافع مولى عمر بن الخطّاب فنظر نافع إلى أبي جعفرعليه‌السلام في ركن البيت و قد اجتمع إليه الناس فقال نافع:

١٦

يا أميرالمؤمنين من هذا الّذي قد تداكّ عليه الناس؟ فقال: هذا نبيّ أهل الكوفة هذا محمّد بن عليّ فقال: اشهد لآتينّه فلأسألنّه من مسائل لا يجيبني فيها إلّا نبيّ أو وصيّ نبيّ أو ابن نبيّ. قال: فاذهب إليه و اسأله لعلّك تخجله.

فجاء نافع حتّى اتّكى على الناس ثمّ أشرف على أبي جعفرعليه‌السلام و قال: يا محمّد بن عليّ إنّي قرأت التوراة و الإنجيل و الزبور و الفرقان و قد عرفت حلالها و حرامها، و قد جئت أسألك عن مسائل لا يجيب فيها إلّا نبيّ أو وصيّ نبيّ أو ابن نبيّ. قال: فرفع أبوجعفرعليه‌السلام رأسه و قال: سل عمّا بدا لك.

فقال: أخبرني كم بين عيسى و بين محمّد من سنة؟ قال: اُخبرك بقولي أو بقولك قال: أخبرني بالقولين جميعاً قال: أمّا في قولي فخمسمائة سنة، و أمّا في قولك فستّمائة سنة، قال: فأخبرني عن قول الله عزّوجلّ:( وَ سْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَ جَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ ) من الّذي سأله محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و كان بينه و بين عيسىعليه‌السلام خمسمائة سنة؟.

قال: فتلا أبوجعفرعليه‌السلام هذه الآية:( سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى‏ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا ) فكان من الآيات الّتي أراها الله تبارك و تعالى محمّداًصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث أسري به إلى البيت المقدّس أن حشر الله الأوّلين و الآخرين من النبيّين و المرسلين ثمّ أمر جبرئيل فأذّن شفعا و أقام شفعا، و قال في أذانه حيّ على خير العمل ثمّ تقدّم محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فصلّى بالقوم.

فلمّا انصرف قال لهم: على ما تشهدون؟ ما كنتم تعبدون؟ قالوا: نشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له و أنّك رسول الله اُخذ على ذلك عهودنا و مواثيقنا. فقال: نافع: صدقت يا أباجعفر.

و في العلل، بإسناد عن ثابت بن دينار قال: سألت زين العابدين عليّ بن الحسينعليه‌السلام عن الله جلّ جلاله هل يوصف بمكان؟ فقال: تعالى الله عن ذلك قلت: فلم أسرى بنبيّه محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى السماء؟ قال: ليريه ملكوت السماوات و ما فيها من عجائب صنعه و بدائع خلقه.

١٧

قلت: فقول الله عزّوجلّ:( ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى) قال: ذاك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دنا من حجب النور فرأى ملكوت السماوات ثمّ تدلّى فنظر من تحته إلى ملكوت الأرض حتّى ظنّ أنّه في القرب من الأرض كقاب قوسين أو أدنى.

و في تفسير القمّيّ، بإسناده عن إسماعيل الجعفيّ قال: كنت في المسجد الحرام قاعداً و أبوجعفرعليه‌السلام في ناحية فرفع رأسه فنظر إلى السماء مرّة و إلى الكعبة مرّة ثمّ قال:( سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى‏ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى ) و كرّر ذلك ثلاث مرّات ثمّ التفت إليّ فقال: أيّ شي‏ء يقولون أهل العراق في هذه الآية يا عراقيّ؟ قلت: يقولون: أسري به من المسجد الحرام إلى البيت المقدّس. فقال: ليس هو كما يقولون و لكنّه اُسري به من هذه إلى هذه و أشار بيده إلى السماء و قال: ما بينهما حرم.

قال: فلمّا انتهى به إلى سدرة المنتهى تخلّف عنه جبرئيل فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا جبرئيل أ في مثل هذا الموضع تخذلني؟ فقال: تقدّم أمامك فوالله لقد بلغت مبلغا لم يبلغه خلق من خلق الله قبلك فرأيت ربّي و حال بيني و بينه السبحة قال: قلت: و ما السبحة جعلت فداك؟ فأومأ بوجهه إلى الأرض و أومأ بيده إلى السماء و هو يقول: جلال ربّي جلال ربّي، ثلاث مرّات. قال: يا محمّد قلت: لبّيك يا ربّ قال: فيم اختصم الملأ الأعلى؟ قلت: سبحانك لا علم لي إلّا ما علّمتني.

قال: فوضع يده بين ثدييّ فوجدت بردها بين كتفيّ. قال: فلم يسألني عمّا مضى و لا عمّا بقي إلّا علمته فقال: يا محمّد فيم اختصم الملأ الأعلى؟ قال: قلت: في الدرجات و الكفّارات و الحسنات فقال: يا محمّد إنّه قد انقضت نبوّتك و انقطع أكلك فمن وصيّك؟ فقلت: يا ربّ إنّي قد بلوت خلقك فلم أر فيهم من خلقك أحداً أطوع لي من عليّ فقال: و لي يا محمّد فقلت: يا ربّ إنّي قد بلوت خلقك فلم أر من خلقك أحداً أشدّ حبّاً لي من عليّ بن أبي طالب قال: و لي يا محمّد فبشّره بأنّه آية الهدى و إمام أوليائي و نور لمن أطاعني و الكلمة الباقية الّتي ألزمتها المتّقين من أحبّه أحبّني

١٨

و من أبغضه أبغضني مع ما أنّي أخصّه بما لم أخصّ به أحداً فقلت: يا ربّ أخي و صاحبي و وزيري و وارثي فقال: إنّه أمر قد سبق إنّه مبتلى و مبتلى به مع ما أنّي قد نحلته و نحلته و نحلته و نحلته أربعة أشياء عقدها بيده و لا يفصح بما عقدها.

أقول: قولهعليه‌السلام :( و لكنّه اُسري به من هذه إلى هذه) أي من الكعبة إلى البيت المعمور، و ليس المراد به نفي الإسراء إلى بيت المقدّس و لا تفسير المسجد الأقصى في الآية بالبيت المعمور بل المراد نفي أن ينتهي الإسراء إلى بيت المقدّس و لا يتجاوزه فقد استفاضت الروايات بتفسير المسجد الأقصى ببيت المقدّس.

و قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( فرأيت ربّي) أي شاهدته بعين قلبي كما تقدّم في بعض الروايات السابقة و يؤيّده تفسير الرؤية بذلك في روايات اُخر.

و قوله:( و حالت بيني و بينه السبحة) أي بلغت من القرب و الزلفى مبلغا لم يبق بيني و بينه إلّا جلاله، و قوله: فوضع يده بين ثدييّ إلخ كناية عن الرحمة الإلهيّة، و محصّله نزول العلم من لدنه تعالى على قلبه بحيث يزيل كلّ ريب و شكّ.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن أبي شيبة و مسلم و ابن مردويه من طريق ثابت عن أنس أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: اُتيت بالبراق و هو دابّة أبيض طويل فوق الحمار و دون البغل يضع حافره عند منتهى طرفه فركبته حتّى أتيت بيت المقدّس فربطته بالحلقة الّتي يربط بها الأنبياء ثمّ دخلت المسجد فصلّيت فيه ركعتين.

ثمّ خرجت فجاءني جبريل بإناء من خمر و إناء من لبن فاخترت اللّبن فقال جبريل: اخترت الفطرة ثمّ عرج بنا إلى سماء الدنيا فاستفتح جبريل فقيل من أنت؟ قال: جبريل قيل: و من معك؟ قال: محمّد، قيل: و قد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه ففتح لنا فإذا أنا بآدم فرحّب بي و دعا لي بخير.

ثمّ عرج بنا إلى السماء الثانية فاستفتح جبريل فقيل: من أنت؟ قال جبريل قيل: و من معك؟ قال: محمّد، قيل: و قد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه ففتح لنا فإذا أنا بابني الخالة عيسى بن مريم و يحيى بن زكريّا فرحبّا بي و دعوا لي بخير.

١٩

ثمّ عرج بنا إلى السّماء الثالثة فاستفتح جبريل فقيل: من أنت؟ قال: جبريل قيل: و من معك؟ قال محمّد، قيل: و قد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه ففتح لنا فإذا أنا بيوسف و إذا هو قد اُعطي شطر الحسن فرحّب بي و دعا لي بخير.

ثمّ عرج بنا إلى السماء الرابعة فاستفتح جبريل. قيل: من هذا؟ قال: جبريل قيل: و من معك؟ قال: محمّد، قيل: و قد بعث إليه: قال: قد بعث إليه ففتح لنا فإذا أنا بإدريس فرحّب بي و دعا لي بخير.

ثمّ عرج بنا إلى السماء الخامسة فاستفتح جبريل. قيل: من هذا؟ قال: جبريل قيل: و من معك، قال: محمّد، قيل: و قد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه ففتح لنا فإذا أنا بهارون فرحّب بي و دعا لي بخير.

ثمّ عرج بنا إلى السماء السادسة فاستفتح جبريل. قيل: من هذا؟ قال: جبريل قيل: و من معك؟ قال: محمّد، قيل: و قد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه ففتح لنا فإذا أنا بموسى فرحّب بي و دعا لي بخير.

ثمّ عرج بنا إلى السماء السابعة فاستفتح جبريل. قيل: من هذا؟ قال: جبريل قيل: و من معك؟ قال: محمّد، قيل: و قد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه ففتح لنا فإذا أنا بإبراهيم مسند ظهره إلى البيت المعمور و إذا يدخله كلّ يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه.

ثمّ ذهب بي إلى سدرة المنتهى فإذا ورقها فيها كآذان الفيلة و إذا ثمرها كالقلال فلمّا غشيها من أمر الله ما غشي تغيّرت فما أحد من خلق الله يستطيع أن ينعتها من حسنها فأوحى إليّ ما أوحى و فرض عليّ خمسين صلاة في كلّ يوم و ليلة فنزلت حتّى انتهيت إلى موسى فقال: ما فرض ربّك على اُمّتك؟ قلت: خمسين صلاة قال: ارجع إلى ربّك فاسأله التخفيف فإنّ اُمّتك لا تطيق ذلك فإنّي قد بلوت بني إسرائيل و خبّرتهم.

فرجعت إلى ربّي فقلت: يا ربّ خفّف عن اُمّتي فحطّ عنّي خمساً فرجعت إلى موسى فقلت: حطّ عنّي خمساً فقال: إنّ اُمّتك لا يطيقون ذلك فارجع إلى

٢٠

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

الإحداث، فإذن يمكن أن يقال بأنّ الإرادة المتعلّقة بالبقاء غير المتعلّقة بالحدوث؛ لأنّ الإحداث فعل لا دوام له، وأيضاً التأثير - بناءً على اختيار الشق الثاني من السؤال المتقدّم - لا يعقل إلاّ بتجدّد الإرادات، وأمّا بناءً على الوجه الأَوّل ففيه الوجهان.

مسألة

قالوا: إنّ الممكن القديم - أعني به المسبوق بالغير فقط لا بالعدم - لا يحتاج إلى المؤثّر، بناءً على مدخلية الحدوث في الحاجة؛ ضرورة فقدان مناط الحاجة حينئذٍ في القديم.

أقول: وفيه تفصيل، وأمّا بناءً على سببية الإمكان للفقر دون اشتراك الحدوث، فلا شكّ في أنّه محتاج إلى المؤثّر في بقائه بداهة ترتّب المعلول على علّته، وإنّما الكلام في أنّه هل يستند إلى المختار أو الموجب؟ والظاهر من أرباب الكلام هو الثاني، فإنّ فعل المختار مسبوق بالقصد، والقصد إلى الإيجاد متقدّم عليه، مقارن لعدم ما قصد إيجاده؛ لأنّ القصد إلى إيجاد الموجود ممتنع بديهةً.

وعن شارح المقاصد (1) أنّ هذا متّفق عليه بين الفلاسفة والمتكلّمين والنزاع فيه مكابرة، وقال اللاهيجي في شوارقه: التحقيق أنّ استناد القديم الممكن إلى المختار بالاختيار الزائد على الذات محال بدليل مرّ نقله، سواء كان الاختيار الزائد تامّاً كاختيار الواجب عند المتكلّمين، أو ناقصاً كاختيارنا، وذلك ضروري... والحكماء ينفون القصد عن الواجب؛ لأنّهم يجعلون القصد بالاختيار الزائد على الذات ويقولون: إنّ القصد لا يمكن إلاّ.. ولا ينفون الاختيار مطلقاً؛ لأنّهم مصرّحون بكونه تعالى فاعلاً بالاختيار الذي هو عين ذاته تعالى، ويعبّرون عنه بالرضاء (2) ... إلخ.

والتحقيق: أنّ القصد - بمعنى الصفة النفسانية - لا يتعلّق بالموجود بالضرورة، فلا يمكن استناد القديم إلى المختار بهذا المعنى، لكن القصد بهذا المفهوم ممتنع على الواجب كما يأتي في محلّه، والمراد من القصد المستعمل في حقّه هو تعلّل أفعاله بالأغراض الزائدة على ذاته.

وعليه فعدم استناد القديم إليه ليس بضروري بل سيأتي إن شاء الله - في مبحث قدرته واختياره - جواز استناد الممكن القديم إلى الواجب الوجود، فهذا الذي نقل اتّفاق المتكلّمين والفلاسفة عليه، ليس بشيء.

____________________

(1) الشوارق 1 / 131.

(2) المصدر نفسه.

٨١

وأمّا ما ذكره الفيّاض من أنّ الحكماء ينفون القصد دون الاختيار فسوف نتعرّض له تحليلاً ونقداً.

ثمّ إنّ الرازي (1) منع استناد الممكن القديم إلى الموجب أيضاً، متمسّكاً بأنّ تأثيره فيه إمّا حال بقائه فيلزم إيجاد الموجود، وإمّا حال عدمه أو حدوثه فيلزم كونه حادثاً، وقد فرضناه قديماً.

أقول: ما احتج به مدخول بعين ما أجبنا السؤال المتقدّم المشهور، فإنّه هو هو بعينه، وأمّا نفس المدّعى فهو لا يخلو عن وجه سندرسه في مسألة حدوث العالم.

ولكن لابدّ أن يلتفت الرازي أنّ هذه الدعوى تهدم ما بنى عليه هو وأشياخه الأشعريون وغيرهم، من زيادة الصفات الممكنة القديمة القائمة بالواجب الصادرة عنه بالإيجاب والجبر، وهذه زلّة وذلة وضلة عظيمة منهم في أعظم مباحث التوحيد، عصمنا الله من التخلّف عن السفينة المنجية المحمدية.

الخاصّة الرابعة: أنّ كلّ ممكن زوج تركيبي من الوجود والماهية

قال صاحب الأسفار: كما أنّ الضرورة الأزلية مساوقة للبساطة والأَحدية، وملازمة للفردية والوترية، فكذلك الإمكان الذاتي، رفيق التركيب والازدواج، فكل ممكن زوج تركيبي؛ إذ الماهية الإمكانية لا قِوام لها إلاّ بالوجود، والوجود الإمكاني لا تعيّن له إلاّ بمرتبة من القصور ودرجة من النزول ينشأ منها الماهية، ويُنتزع بحسبها المعاني الإمكانية ويترتّب عليها الآثار المختصة...

فإذن، كلّ هوية إمكانية ينتظم من مادة وصورة عقليتين هما المسمّاتين بالماهية والوجود، وكلّ منهما مضمّن فيه الآخر وإن كانت من الفصول الأخيرة والأجناس القاصية (2) انتهى كلامه.

وقال في موضع آخر منها: زيادة وجود الممكن على ماهيته، ليس معناه المباينة بينهما بحسب الحقيقية، كيف وحقيقة كلّ شيء نحو وجود الخاص به؟ ولا كونه عرضاً قائماً بها قيام الأعراض لموضوعاتها، حتى يلزم للماهية سوى وجودها وجود آخر، بل بمعنى كون الوجود الإمكاني، لقصوره وفقره، مشتملاً على معنىً آخر غير حقيقة الوجود، منتزعاً منه، محمولاً عليه، منبعثاً عن إمكانه ونقصه، كالمشبّكات التي يتراءى من مراتب نقصانات الضوء والظلال، الحاصلة من تصوّرات النور (3) انتهى.

____________________

(1) لاحظ شرح المواقف، وشرح التجريد للقوشجي / 77.

(2) الأسفار 1 / 186.

(3) الأسفار 1 / 243.

٨٢

الفائدة الحادية عشرة

في امتناع الدور والتسلسل

أمّا الدور فهو في اللغة - كما في بعض كتبها - التقلّب والحركة إلى ما كان عليه، وفي الاصطلاح هو توقّف الشيء على ما يتوقّف عليه (1) ، وإن شئت فقل: إنّه تعاكس الشيئين في السببية والمسببية، فإن توسّط بينهما واسطة أو وسائط أخرى يسمّى مضمراً، وإلاّ فمصرّح، فتوقّف الشيء على نفسه لا يسمّى دوراً بل هو نتيجته.

ثمّ إنّه ربّما يطلق الدور على شيئين لهما معيّة، ويقال له الدور المعي، وهو ليس بمحال، وهو أن يكون شيئان موجودان، يتوقّف كلّ منهما على الآخر في صفة من الصفات، بمعنى أن تتوقّف الصفة في كلّ منهما على ذات الآخر، سواء كانت تلك الصفة فيهما من نوع واحد، كالأُخوة في أخوين والمعية في شيئين، أو من نوعين كالفوقية والتحتية في الفوق والتحت، والتقدّم والتأخر بحسب المكان في جسمين، وهذا الدور جارٍ في كلّ متضايفين كما قيل.

ثمّ إنّ الدليل على استحالة الدور - بمعنييه المتقدّمين - أنّه يستلزم تقدّم الشيء على نفسه وتأخّره عن نفسه؛ ضرورة تقدّم العلّة على المعلول تقدّماً عليّاً وتقدّماً بالذات، فإذا كانت العلّة معلولة لمعلولها، لزم تأخّر الشيء عن نفسه بمرتبتين، وكذلك تقدّمه، وهو - أي تقدّم الشيء على نفسه أو تأخّره عنها - ضروري الاستحالة، مع أنّه قد يستدلّ عليه، بأنّه يستلزم تخلّل العدم بين الشيء ونفسه، وهو واضح الاستحالة، وبأنّ التقدّم نسبة لا تعقل إلاّ بين شيئين.

فإنّ توهّم أحد أنّ المراد بالتقدّم هنا إمّا التقدّم الزماني وهو غير لازم في العلة، أو العليّ وهو مصادرة؛ لأنّ معنى قولنا: إنّ الشيء لا يتقدّم على نفسه، أنّ الشيء لا يكون علّةً لنفسه.

يقال له: إنّ معنى تقدّم العلّة على معلولها هو صحّة مثل قولنا: تحركت اليد فتحرّك الخاتم، طلعت الشمس فوُجد النهار، وبطلان عكسه أي قولنا، تحرك الخاتم فتحركت اليد، وهذا الاعتبار الذي ممّا لا يشك فيه عاقل، بديهي البطلان بالنظر إلى الشيء ونفسه.

____________________

(1) الفرق بين تقدّم الشيء على نفسه، وتوقف الشيء على نفسه اعتباري، فإنّ الأَوّل باعتبار علّية كلّ منهما للآخر، والثاني باعتبار معلولية كلّ منهما للآخر.

٨٣

فإن قلت: إنّ الفرق بين الأجزاء التي هي العلة والمركّب الذي هو المعلول، إنّما هو باعتبار بشرط الشيء واللابشرط أو بشرط اللا، وقد ذكروا من جملة العلل الأربع المادة والصورة مع أنّهما عين المعلول، فكيف المخلص؟

قلت: الأجزاء بالنسبة إلى المركّب الذي ليس إلاّ نفسها ليست إلاّ نفسه، لا علية ولا معلولية بينهما، وإنّما يطلقون عليها العلية؛ لأنّ بها قِوام المركّب، فهي علل القِوام لا علل الوجود، والتأثير في الثانية لا في الأُولى، فافهم.

وأمّا تقدّم الأجزاء على المركّب ففيه بحث طويل، قد تعرّض له صاحب الأسفار مجملاً، وصاحب الشوارق مفصّلاً فراجع.

ثم إنّ معنى الدور - بتعبير واضح - هو كون الشيء علّةً وفاعلاً لوجود نفسه، وهذا ضروري الاستحالة، بديهي البطلان، يكذّبه العقل بأَوّل تصويره، فلا معنى لإطالة الكلام حوله وقد نقل العلاّمة قدّس سره (1) ، أنّ أكثر العقلاء على ضرورة استحالته.

وأمّا التسلسل فهو عند المتكلّمين (2) عبارة عن مطلق الأُمور غير المتناهية إذا ضبطها الوجود، سواء كانت مجتمعةً أم لا، مترتّبةً أم لا، ودليلهم على ذلك برهان التطبيق، فإنّهم يجرونه في الأُمور المتعاقبة في الوجود كالحركات الفلكية، وفي الأُمور المجتمعة، سواء كان بينها ترتّب طبيعي كالعلل والمعلولات، أو وضعي كالأبعاد، أو لا يكون هناك ترتّب أصلاً كالنفوس الناطقة المفارقة (3) .

وعند الحكماء يفسّر بالأُمور غير المتناهية المجتمعة في الوجود مع ترتّبٍ وضعاً أو طبعاً؛ ولذا قال صاحب الأسفار: وعليه (أي برهان التطبيق) التعويل في كلّ عدد ذي ترتيب موجود، سواء كان من قبيل العلل والمعلولات، أو من قبيل المقادير والأبعاد، أو الأعداد الوضعية (4) ... إلخ.

ثمّ إنّ الأدلة على امتناع التسلسل في الجملة كثيرة جداً، لكنّها بمجموعها غير مسلّمة عندهم، فلهم ردود ودفوع ونقوض ونقود، والبحث حولها طويل الذيل لا يسعه هذا المختصر، لكنّنا نستخدم لك منها حجّةً قويمة، قليلة المؤونة، وكثيرة المعونة، وهي ما اخترعه سلطان المحقّقين العلاّمة الطوسي (5) ، وأشار إليه في تجريده وإليك تقريره بعبارة

____________________

(1) كشف الفوائد في شرح قواعد العقائد / 30.

(2) الشوارق 1 / 200، وكشف الفوائد / 30.

(3) شرح المواقف 1 / 541.

(4) الأسفار 2 / 145.

(5) كما ذكره صاحب الشوارق، ونُقل عن المحقّق الدواني أيضاً، لكن قيل: إنّ السيد الداماد رحمه‌الله ادّعى وجدان هذا الدليل في كتاب بهمنيار.

٨٤

المحقّق اللاهيجي (1) :

إنّ الممكن لا يجب لذاته، وما لا يجب لذاته لا يكون له وجود، وما لم يكن له وجود لا يكون لغيره عنه وجود، فلو كانت الموجودات بأسرها ممكنةً لَما كان في الوجود موجود، فلابدّ من واجب لذاته، فقد ثبت واجب الوجود وانقطعت السلسلة أيضاً.

ثمّ تعريضاً على الشارح العلاّمة قدّس سره حيث تنظّر فيها، والشارح القوشجي حيث حسبها مصادرةً، قال: وهذه الطريقة حسنة حقّة... إلخ، والأمر كما أفاد.

تتميم وتقسيم

ما لا يتناهى على ستة أقسام:

الأَوّل: المجتمع في الوجود، والمترتّب بالترتب العليّ.

الثاني: المجتمع في الوجود، والمترتّب بالترتب الوضعي كالأبعاد.

الثالث: المجتمع في الوجود بلا ترتيب، كالنفوس الناطقة على رأي الحكماء.

الرابع: المتعاقب في الوجود من قبل الماضي، مثل الصور الطارئة على المادة على سبيل المحو والإثبات.

الخامس: المتعاقب في الوجود في طرف المستقبل.

السادس: العدد.

أقول: أمّا الأَوّل فهو محال بلا خلاف بين الباحثين، بل لم أفز على مخالف ولو من الدهريين والماديين، فكأنّ هذا الاحتمال مصادم ما أودعه الله في كينونة البشر، فما يلتزم به فرد من هذا النوع الإنساني؛ ولذا ترى عبّاد الطبيعة متحيرين في تعيين المبدأ الأَوّل، فالتسلسل المذكور احتمال بدوي لم يتجاوز عن المسفورات العلمية إلى الخارج، وما نقلناه آنفاً من البرهان وغيره حجّة واضحة على إبطاله.

وأمّا الثاني فامتناعه موضع وِفاق بين المتكلّمين والحكماء، واستدلّوا عليه بأدلة منها برهان التطبيق، الذي هو عندي محلّ إشكال.

وأمّا الثالث والرابع فهما ممكنان، بل واقعان على زعم أصحاب الفلسفة؛ ولذا يدينون بقِدم العالم زماناً، لكنّ المتكلّمين يرونهما ممتنعين أيضاً، والحق معهم لِما سنبرهن على حدوث العالم في هذا الجزء إن شاء الله.

وأمّا الخامس فإمكانه متّفق عليه بينهم، فإنّ الوجود لم يضبطه، وهذا ما لا شك فيه، كيف

____________________

(1) الشوارق 1 / 199.

٨٥

وخلود المكلّفين في الجنة والنار، وبقاء ما يرتبط بهم من الضروريات الإسلامية؟

وأمّا السادس فهو مثل الخامس في اتّفاقهم على إمكانه، فإنّه إمّا غير موجود كما عن المتكلمين، وإمّا لا ترتّب بينها في غير الواحد كما عن الفلاسفة، فلم يتحقّق فيه مناط الاستحالة (1) .

وممّا ينبغي أن نختم به الكلام هنا، أنّ إبطال الدور والتسلسل إنّما يتوقف عليه إثبات الصانع؛ ضرورة أنّ إمكان أحدهما لا يدع مجالاً لإثباته، وأمّا إثبات الواجب الوجود، فهو غير موقوف عليه لِما ستعرفه إن شاء الله من الدليل على وجوده، سواء كان الممكن موجوداً خارجاً أم لا، أمكن الدور والتسلسل أم لا، وبعبارة أُخرى: إمكان الدور والتسلسل يبطل الأدلة الإنيّة، ولا ربط له بالبراهين اللميّة أو الشبيهة باللم.

هذا تمام كلامنا في المقدّمات، ثمّ بعد ذلك نرجع إلى بيان المقاصد، وإليك بيانها إجمالاً:

المقصد الأَوّل: في بيان الطريق إلى معرفة الواجب.

المقصد الثاني: في صفاته الثبوتية ذاتيةً كانت أو فعليةً.

المقصد الثالث: في صفاته السلبية.

المقصد الرابع: في التوحيد، أفردناه من سابقه اهتماماً بشأنه.

المقصد الخامس: في العدل.

المقصد السادس: في النبوّة.

المقصد السابع: في الإمامة.

المقصد الثامن: في المعاد.

____________________

(1) ولصاحب الأسفار هاهنا احتمال، وللسبزواري عليه كلام، لا يخلو مراجعتهما عن الفائدة، الأسفار 2 / 152.

٨٦

مقاصد الكتاب

المقصد الأَوّل: في بيان الطرق إلى معرفة الواجب لذاته

المقصد الثاني: في صفاته الثبوتية

المقصد الثالث: في صفاته السلبية

المقصد الرابع: في التوحيد

المقصد الخامس: في العدل

المقصد السادس: في النبوّة

المقصد السابع: في الإمامة

المقصد الثامن: في المعاد

٨٧

المقصد الأَوّل

في بيان الطرق إلى معرفة الواجب لذاته

البراهين والصُرط

مَن هم المخالفون في هذا المقصد؟

وما هو اعتقادهم؟

النظام الكامل يقضي على علّية المادة

ما يقول الماديون عن هذا النظام الأجمل؟

خاتمة

٨٨

المقصد الأَوّل

في بيان الطرق إلى معرفة

الواجب لذاته

وهو من أشرف المقاصد وأعظمها وأجلّها وأهمها، بل لا تكتسب مسألة علمية شرفاً وفضلاً ما لم تخدم هذا المقصد، فهو آخر ما تُناخ به الرواحل العقلية في سفر السعادة والفضيلة. ( أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ) ( أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأمُورُ ) .

وصُرط التصديق الحقّة المستقيمة، إلى الواجب القديم القدوس الأقدس - جلّت كبريائه وعَظُم سلطانه - متعدّدة، وإليك منها ما يناسب هذه الرسالة:

الصراط الأَوّل: إنّ العقل لا يرى الموجود الواجب لذاته مستحيلاً، بل يحكم بإمكانه إمكاناً عامّاً، ولا سيما قد شاهد الواجب الذاتي بنحو مفاد كان الناقصة، مثل زوجية الأربعة، ورطوبة الماء، ودسومة الدهن ونحوها، فإذا أمكن، وُجد وثبت من دون شرط وسبب، على ما أسلفنا برهانه.

وهذا الصراط أشرف الصُرط المذكورة في هذا المقصد، ليس له زيادة مؤونة، ولا توقّف له على استحالة الدور والتسلسل، بلا ولا على وجود ممكن، كل ذلك ظاهر جداً.

ولزيادة التأكيد لحكم العقل بعدم امتناع الواجب نقول: إنّ العقلاء - مليين كانوا أو ماديين (1) - اتفقوا في كلّ زمان ومكان، على الإذعان بوجود المبدأ الأَوّل في الخارج، وهذا ممّا يؤيّد استقلال العقل بعدم امتناع مثل هذا الوجود، والعجب من ذهول الباحثين عن هذا البرهان؛ حيث لم يذكروه في هذا المقام (2) .

الصراط الثاني: إنّ الأحاسيس قد قضت على أنّ في الخارج موجوداً ما، فهو إن كان واجباً لذاته فقد حصل الغرض، وإن كان ممكناً فهو يستلزم المقصود؛ لاستحالة الدور والتسلسل، وهذه الحجّة غير قائمة بوجود الممكن كما هو ظاهر.

____________________

(1) غير مَن قال منهم بجواز الترجّح بلا مرجّح (إن كان).

(2) وبه يمكن أن يفسّر ما أُثر عن مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام : (يا مَن دلّ على ذاته بذاته)، وما عن السجّاد عليه‌السلام : (بك عرفتك وأنت دللتني عليك).

٨٩

ثمّ إنّ هذين الوجهين المذكورين، ليسا من الأدلة الإنيّة، ولا من البراهين اللميّة؛ لعدم انتقال فيهما من العلّة إلى المعلول، ولا من المعلول إلى علّته، بل هما من شبه اللم، كما يظهر من كلمات عدّة من أكابر الحكماء.

الصراط الثالث: ما نقلناه سابقاً من المحقّق الطوسي قدّس سره في إبطال التسلسل، فإنّه يفضي إلى معرفة الواجب الوجود، ويجوز أن نعبّر عنه بألفاظ أُخرى فنقول: لا يمكن أن يكون ممكن ما من الممكنات منشأ لوجوب الممكنات، ولا لامتناع طريان العدم علّيها بالكلية، فلابدّ من واجب. وبوجه آخر: إنّ الممكن لا يستقلّ بنفسه في وجوده وهو ظاهر، ولا في إيجاده لغيره؛ لأنّ مرتبة الإيجاد بعد مرتبة الوجود، فإنّ الشيء ما لم يُوجَد لم يُوجِد، فلو انحصر الموجود في الممكن، لزم أن لا يوجد شيء أصلاً؛ لأنّ الممكن وإن كان متعدّداً، لا يستقلّ بوجود ولا إيجاد، وإذ لا وجود ولا إيجاد، فلا موجود لا بذاته ولا بغيره، إلى غير ذلك من التقارير والتعابير.

الصراط الرابع: الممكن موجود بلا ريب، فإنّ الأجسام مركّبة، وكلّ مركّب ممكن، والأعراض لمكان حاجتها إلى موضوعاتها ممكنة، بل حدوث بعض الأشياء وفقدانها وفناؤها محسوس فهو ممكن، ومهما يكن من شيء فالممكن موجود قطعاً بل ضرورةً، فيكون الواجب موجوداً بالضرورة؛ لِما مرّ من احتياج الممكن إلى الواجب، ومن بطلان الدور والتسلسل، ولعلّ قوله تعالى: ( أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ ) (1) يشير إلى ذلك، فإنّ الممكن لا يمكن أن يكون خالق نفسه؛ لما عرفت في بطلان الدور، ولا يمكن أن يوجد بلا خالق فإنّه ترجّح بلا مرجّح، ويمكن إدراج نفي التسلسل أيضاً في هذا الفرض كما يظهر بالتأمل.

ثمّ إنّ هذا الدليل الإنّي أساس لعدّة من الدلائل الأُخرى.

الصراط الخامس: ما سلكه المتكلّمون فقالوا: إنّ العالم حادث، وكلّ حادث له محدَث كما تشهد به بديهة العقل؛ ولذا مَن رأى بناءً حادثاً حكم حكماً بتياً جزمياً، بأنّ له بانياً، وعن أكثر مشايخ الاعتزال أنّ هذه المسألة - أي الكبرى - استدلالية، وقد استدلّوا عليه بوجهين (2) ، لكنّ ذلك خطأ وما استدلوا به غلط.

ثمّ إنّ هذا المحدث الصانع إن كان حادثاً احتاج إلى مؤثّر آخر، فيلزم الدور أو التسلسل وهما محالان، وإن كان قديماً أو منتهياً إلى القديم فقد ثبت المطلوب.

هذا، ولكن جملة من الفلاسفة لم يرتضوا بسلوك هذا الصراط لوجوه ثلاثة:

الأَوّل: تفنيد حدوث العالم بشراشره، بل منه ما هو قديم، ومنه ما هو حادث.

____________________

(1) الطور 52 / 35.                                   (2) شرح المواقف 3 / 3.

٩٠

الثاني: قصور هذا الدليل عن إثبات الواجب لذاته؛ لجواز أن يكون ذلك المحدِث غير الحادث ممكناً قديماً، فلا يفتقر إلى علة، فتنقطع السلسلة بلا إثبات الواجب، كما ذكره الحكيم اللاهيجي في شوارقه (1) .

الثالث: خروجه عن منهج الصدق؛ لأنّ مناط الحاجة إلى العلّة هو الإمكان دون الحدوث ولو شرطاً، ذكره الحكيم السبزواري (2) ، وقبله عنه غيره أيضاً.

أقول: هذه الوجوه ساقطة، ولا يمكن سد هذا الصراط المستقيم بها، أمّا الأَوّل، فلِما سيمرّ بك في محلّه، من حدوث تمام ما سوى الله وبطلان قِدم شيءٍ منه.

وأمّا الثاني، فينبثق بطلانه من بطلان الأَوّل؛ فإنّ القديم حينئذٍ لا يكون ممكناً، فهو واجب لعدم واسطة بينهما بالضرورة، فالقديم والواجب لذاته مترادفان عند المتكلّمين.

وأمّا الثالث ففيه، أنّ معنى علّية الإمكان للحاجة، هو سببيته للحاجة في وجوده، أو عدمه إلى المرجّح الخارجي، فحدوث الوجود، معلول عن هذا المرجّح المحدِث الخارجي، وكاشف عنه كشف كلّ معلول عن علّته، ويعبّر عنه في عرفهم بدليل الإن، فهذا لا ربط له ببطلان علّية الحدوث للحاجة، والإنصاف أنّ دلالة الحدوث على المحدِث ضرورية، وإنكارها عن هذا الرجل الفيلسوف بعيد جداً.

فاتّضح أنّ الدليل تام في نفسه، من غير أن يُبنى على الحركة الجوهرية كما تبرّع به بعضهم، لكن الذي يوجب صعوبة سلوك هذا الطريق في الجملة، هو أنّ إثبات المدّعى أسهل من تثبيت مقدّمتها الأُولى، أعني بها حدوث العالم بأجمعه، فإنّه وإن كان حقّاً إلاّ أنّ المدّعى أظهر منه، وإن أخذنا حدوث بعض العالم في المقدّمة حتى تكون ضروريةً، فلا يستنتج منها المطلوب، كما ذكره صاحب الشوارق من جواز كون القديم ممكناً.

ولا دافع له حينئذٍ أصلاً إلاّ أن يقال: بأنّ هذا القديم لا يكون إلاّ واجباً، فإنّ الممكن يستلزمه دفعاً للدور والتسلسل، لكن الدليل حينئذٍ لا يكون بلحاظ الحدوث فقط، بل مع انضمام لحاظ الإمكان.

فالتحقيق أن يقال: إنّ جملةً من هذه الموجودات حادثة حسّاً، والحادث يقتضي محدِثاً بالضرورة، وهذا المحدِث إن لم يكن له سبب وعلّة فهو المراد؛ إذ لا نعني بالقديم أو الواجب إلاّ المحدِث الذي لا سبب له، وإن كان له سبب فلابدّ من الانتهاء إلى محدِث كذلك، أي بلا سبب وعلة دفعاً للدور والتسلسل، فافهم.

____________________

(1) الشوارق 2 / 204.

(2) شرح المنظومة / 143.

٩١

الصراط السادس: ما سلكه الحكماء الطبيعيون، وهو الاستدلال بالحركات، فإنّ المتحرّك لا يوجب حركةً بل يحتاج إلى محرِّك غيره، والمحرِّكات لا محالة تنتهي إلى محرِّك غير متحرك دفعاً للدور والتسلسل، فإن كان واجباً فهو وإلاّ استلزمه لِما مرّ.

الصراط السابع: إذا كانت الموجودات منحصرةً في الممكنات لزم الدور، إذ تحقّق موجود ما يتوقّف - على هذا التقدير - على إيجاد ما؛ لأنّ وجود الممكنات إنّما يتحقق بالإيجاد، وتحقّق إيجاد ما يتوقّف أيضاً على تحقّق موجود ما؛ لأنّ الشيء ما لم يوجَد لم يُوجِد.

لكن الإنصاف، أنّ هذا التوقّف من قبيل توقّف النطفة على الحيوان، وتوقف الحيوان على النطفة، وتوقف البيض على الدجاج، وتوقف الدجاج على البيض، وهذا ليس بدور محال؛ لأنّ الدور هو الذي يكون طرفاه واحداً بالعدد، لا ما يتقدّم فيه طبيعة مرسلة على طبيعة مرسلة أُخرى، وهي تتقدّم أيضاً عليها في صورة التسلسل، فالمغالطة نشأت هاهنا، من أخذ الكلّي مكان الجزئي، والوحدة النوعية مكان الوحدة الشخصية، فتتميم هذا البرهان لا يمكن إلاّ بالتسلسل كما في الأسفار، وما رامه اللاهيجي من إصلاح الدليل، وإتمامه بالدور فقط غير تام، ومنه يظهر الحال في الصراط الآتي بكلا طريقيه.

الصراط الثامن: إنّه ليس للموجود المطلق من حيث هو موجود مبدأ، وإلاّ لزم تقدّم الشيء على نفسه، وبذلك ثبت وجود واجب الوجود بالذات، وبعبارة أُخرى: مجموع الموجودات من حيث هو موجود ليس له مبدأ بالذات، فثبت بذلك وجود الواجب لذاته.

الصراط التاسع: مجموع الموجودات من حيث هو موجود يمتنع أن يصير لا شيئاً محضاً، ومجموع الممكنات ليس يمتنع أن يصير لا شيئاً محضاً، فيثبت به الواجب لذاته.

وفيه: أنّ حيثية الإمكان وإن كانت مخالفةً لحيثية الوجود؛ لأنّ الموجود بما هو موجود يستحيل أن يصير معدوماً: لأنّ فيه ضرورة بشرط المحمول، بخلاف الموجود بما هو ممكن، فإنّ عدمه غير ممنوع، لكن هذا الاختلاف لا يؤدي إلى الاختلاف في الموضوع، كما أفاده صاحب الأسفار أيضاً.

الصراط العاشر: ما ذكره صاحب الأسفار ومَن تبعه وقال: إنّه سبيل الصدّيقين الذين يستشهدون بالحقّ على الحق، ووصفه بأنّه أسدّ البراهين وأشرفها، وإليك تقريره بعبارة السبزواري (1) مع تغيير ما: حقيقة الوجود الذي ثبتت أصالته، إن كانت واجبةً فهو المراد، وإن كانت ممكنةً - بمعنى الفقر والتعلّق بالغير، لا بمعنى سلب ضرورة الوجود والعدم؛ لأنّ ثبوت الوجود لنفسه ضروري، ولا بمعنى تساوي نسبتي الوجود والعدم؛ لأنّ نسبة الشيء إلى نفسه

____________________

(1) شرح المنظومة / 141.

٩٢

ليست كنسبة نقيضه إليه؛ لأنّ الأُولى مكيّفة بالوجوب والثانية بالامتناع - فقد استلزمت الواجب على سبيل الخلف؛ لأنّ تلك الحقيقة لا ثاني لها حتى تتعلّق به وتفتقر إليه، بل كلّما فرضته ثانياً فهو هي لا غيرها، والعدم والماهية حالهما معلومة؛ أو على سبيل الاستقامة، بأن يكون المراد بالوجود مرتبة من تلك الحقيقة، فإذا كان هذه المرتبة مفتقرة إلى الغير استلزم الغني بالذات دفعاً للدور والتسلسل، والأَوّل أوثق وأشرف وأخصر.

أقول: هذا الوجه مبني على مقدّمات، هي أغمض تصديقاً من أصل الدعوى بمراتب، فلابدّ أن يُرجع إلى الصراط الثاني.

الصراط الحادي عشر: اتّفاق الأنبياء والأولياء والعقلاء على ذلك، فإنّهم أخبروا عن وجود الواجب الصانع، وهذا الاتّفاق أقوى من التواتر، ولا شيء من المتواترات مساوٍ له في القوّة وإفادة اليقين، ذكره بعض المؤلّفين (1) ، وببالي أنّ هذا الوجه نُسب إلى جماعة من المتكلّمين.

لكن الاستدلال المذكور هيّن جداً، فإنّ العقلاء في ذلك مختلفون، وأمّا الأنبياء فهم كغيرهم، ما لم تثبت نبوّتهم المتوقّفة على وجود الواجب وصفاته، بل لا سبيل لنا إلى إحراز وجودهم - سوى خاتمهم صلى‌الله‌عليه‌وآله - من غير جهة إخباره تعالى.

هذا، مع أنّ التواتر في الحدسيات غير حجّة؛ فإنّه لا يفيد اليقين، وقد مرّ بعض الكلام فيه في المقدّمات، نعم يمكن الاستدلال بمعجزات خاتمهم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأوصيائه عليهم‌السلام ، على المطلوب، ولا محذور فيه أصلاً.

الصراط الثاني عشر: لو انحصرت الموجودات في الممكن لاحتاج الكلّ إلى موجِد مستقل - بأن لا يستند وجود شيء منها إلاّ إليه ولو بالواسطة - يكون ارتفاع الكلّ بالكلية - بأن لا يوجد الكلّ ولا واحد من أجزائه - ممتنعاً بالنظر إلى وجوده؛ لأنّ ما لم يجب لم يوجد، ويلزم من ذلك امتناع عدم المعلول من أجل العلة، والشيء الذي إذا فُرض عدم جميع أجزائه، كان ذلك العدم ممتنعاً نظراً إلى وجوده، يكون خارجاً عن المجموع، لا نفسه ولا داخلاً فيه؛ لأنّ عدم شيء منهما ليس ممتنعاً نظراً إلى ذاته، فيكون واجباً لذاته؛ إذ لا واسطة في الخارج بين الممكن والواجب، فتدبّر فيه.

هذه هي الصُرط القويمة، الحقّة المستقيمة، الموصلة إلى معرفة الواجب القديم، والصانع الحكيم (2)، وأنّ للعالم مبدأً تنتهي سلسلة الموجودات إليه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

____________________

(1) كفاية الموحّدين 1 / 26.

(2) سوى بعضها، الذي ناقشنا فيه.

٩٣

مَن هم المخالفون

في هذا المقصد؟ وما هو اعتقادهم؟

نُسب إلى جماعة من القدماء كذيمقراطيس وأتباعه، إنكار حاجة الممكن إلى المؤثّر، وجعلوا كون العالم بالبخت والاتفاق، وأنكروا أن يكون له صانع أصلاً، ورأوا أنّ مبادئ الكل أجرام صغار لا تتجزّأ لصغرها وصلابتها، وأنّها غير متناهية بالعدد، ومبثوثة في خلاء غير متناهٍ، وأنّ جوهرها في طبايعها جوهر متشاكل، وبأشكالها تختلف، وأنّها دائمة الحركة في الخلاء، فيتفق أن يتصادم منها جملة، فتجتمع على هيئة ويكون منها عالم، وأنّ في الوجود عوالم مثل هذا العالم غير متناهية بالعدد، لكن مع ذلك يرون أنّ الأُمور الجزئية - مثل الحيوانات والنباتات - كائنة لا بحسب الاتّفاق، بل بحسب أسباب سماوية وأرضية، وفرقة أخرى منهم - كانباذقلس ومَن يجري مجراه - لم يقدموا على أن يجعلوا العالم بكلّيته كائناً بالاتفاق، ولكنّهم جعلوا الكائنات متكوّنةً عن الاسطقسات بالاتّفاق، وبالجملة فهؤلاء بأجمعهم يجوّزون الحدوث بلا سبب والكون بلا علة (1) .

أقول: هل ذميقراطيس (460 ق م) وانباذقلس كانا منكرين للواجب لذاته أم لا؟ سؤال لا طريق لنا إلى جوابه جزماً. وقد ذكر بانگون (2) ، أنّ الأَوّل ليس بمادي بل كان يعتقد وجود الروح، وذكر صاحب الأسفار أنّ كلام الثاني ناظر إلى أصالة الوجود واعتبارية الماهيات، وذكر غيره أنّ مراده هو إنكار العلة الغائية (3) ، لكن هذه الضلالة الخبيثة، والجهالة المبطلة حد الإنسانية، حدثت منذ زمن غير قريب، فإنّ آحاد الإنسان في أفكارهم ليسوا على مستوىً واحد، فمنهم مَن هو قاصر، ومنهم مَن هو متوسط، ومنهم مَن هو عالٍ، ولكلّ منها درجات.

هذا من ناحية، ومن ناحية أُخرى أنّ الحدود المقرّرة في الشرائع السماوية، كثيراً ما تضاد الشهوات النفسانية، والميولات الغريزية، والمخلص من هذا التضاد، هو البناء على إنكار المبدأ الشاعر القادر لا غير. قال أبيقورس أحد زعماء الماديين: إنّ راحة البال التي تقوم بها سعادة

____________________

(1) نقله في الشوارق 1 /126 من كتاب الشفاء لابن سينا.

(2) على أطلال المذهب المادي / 15.

(3) الأسفار 1 / 210.

٩٤

الإنسان، هي في اضطراب دائم؛ من جري الريب الواقع من نسبة الإنسان إلى الخليقة وإلى الله (1) ... فهذان السببان - أي القصور الفكري والشهوة - هما أحدثا هذه البلية الفاجعة.

وما قيل من أنّ المستفاد من أكثر التواريخ، أنّ تأسيس هذه النظرية الرديئة قبل ميلاد المسيح عليه‌السلام بستة قرون أو سبعة قرون، فلعلّه يُقصد به انتشارها واشتهارها، كما أنّ شدّة ظهورها وكثرة رواجها، إنّما كانت في القرن الثامن عشر والتاسع عشر بين الغربيين، فسرت منهم إلى الشرقيين، ثمّ ضعفت في القرن العشرين؛ لكشف بطلان ما اعتمدوا عليه في هذه الدعوى.

وأمّا أصل هذا المسلك فله عهد بعيد، كما ربّما يؤيّد قوله تعالى: ( يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون ) (2) ، وإن لم يكن بدليل عليه كما لا يخفى.

ثمّ إنّ أساس عقائدهم يتخلّص إلى أصول أربعة. كما قيل:

1 - لا موجود في العالم غير المادة وآثارها.

2 - العالم مركّب من العلل والمعاليل المادية، وكلّ شيء يعلّل بعلل مادية.

3 - الموجودات بأسرها تؤثّر بعضها في بعضها، فكلّ منها علّة شيء ومعلول لشيء آخر، وجميع الحوادث في تغيّر وتحوّل، بيد أنّ القدر الجامع بينها - يعني المادة - أمر أزلي.

4 - إنّ الكائنات - بشموسها، وكواكبها، وأقمارها، وأراضيها، وسمواتها، وجميع جزئياتها - معلولة التصادف والاتّفاق، لا بمعنى أن لا علّة لها، بل بمعنى اتّحاد العلّة الفاعلية والعلة المادية فيها، فلا مُوجِد لها إلاّ المادة، ولا صانع مختار لها أبداً، فليس لها العلّة الغائية أيضاً.

والحاصل: أنّهم لا ينكرون مبدأ الكائنات، بل ينكرون شعوره وقدرته وإرادته.

تفتيش وتفنيد

أمّا الأصل الأَوّل ففيه بحثان: الأَوّل: في بيان المادة. والثاني: في بيان انحصار الموجودات بها.

أمّا البحث الأَوّل: فالمعروف عن ديمقراط (3) أنّ المادة هي الجواهر الفردة، وهي الأجزاء التي لا تتجزّأ (الأتُم)، وليس لها إلاّ أشكال هندسية، فالعالم عنده مركّب من هذه الذرّات، التي لها بنظر بعضها إلى بعض حركة دائرة، وحركة اصطدام مستقيمة (4) ، ويرى أنّ هذه الذرّات يتخلّل

____________________

(1) الرحلة المدرسية للعلاّمة المجاهد الشيخ جواد البلاغي / 292.

(2) يس 36 / 30.

(3) وقيل: إنّ أَوّل مَن تفوّه به لوقيوس أُستاذ ديمقراط.

(4) الرحلة المدرسية / 298.

٩٥

بينها فراغ، خلافاً لأرسطو وأتباعه، حيث ذهبوا إلى أنّ الجسم شيء واحد متماسك، يمكننا أن نقسّمه إلى أجزاء منفصلة، لا أنّه يشتمل سلفاً على أجزاء كذلك (1) . ثمّ إنّ هذا الذرّات غير مختلفة في حقيقتها، وما يشاهد من اختلاف آثار الموجودات المتكوّنة منها، إنّما هو من جهة اختلاف أشكالها، وأحجامها، وأمكنتها، ونظامها، وأوضاعها، هذا ولمّا كان الشكل الهندسي متناقضاً لعدم التجزّؤ، رفضوا شكلها وقالوا: إنّها غير مشكّلة؛ ولذا قال المحقّقون من أهل العصر: إنّ الجواهر التي نقول بها هي أصغر من جوهر ديمقراط جداً (2) .

أقول: وهو كذلك قطعاً، فإنّ الذرة التي زعموا عدم إمكان تجزئتها ولزوم بساطتها، قد وقع عليها التجزئة خارجاً عام 1919م، من قِبل العالِم روترفورد، ثمّ عُلم أنّ لها أجزاءً عمدتها: بروتون ونوترون والكترون.

وذهب لوسيبوس إلى أنّ تلك الذرّات تتحرّك في الفراغ منذ الأزل، والأشياء تظهر وتخفى بحسب ما تجمع وتنفصل، وعن أبيقورس: أنّها متحرّكة دائماً في الخلاء الذي لا نهاية له، بانحراف بعضها على موازاة بعض، بحيث تصطدم وتحدث حركة لولبية مخروطية كحركة الزوابع، فتؤدّي إلى تراكيب عديدية وصور متنوعة ومتغيّرة. وقال بخنر: أمّا حركة الجواهر عندنا، فمن تضادّ قوتي الجذب والدفع، اللتين نعتبرهما غريزتين في الجوهر (3).

هذا، ولكن لمّا رأى بعض العلماء أنّ الفراغ مستحيل في الطبيعة، فرضوا أنّ تلك الجواهر تسبح في مادة لطيفة، أو غاز (4) أخف من الهواء، أو سائل تام الاتصال مالئ للخلاء سمّوه الأثير، تتحرك فيه الجواهر التي هي أجزاؤه حركة الزوابع في الهواء الهادئ، ومن أحوال اجتماعها بالحركة وأفاعيلها تظهر صور الكائنات، وهذه الجواهر في الرأي القديم، هي أزلية أبدية، لم تحدث بعد العدم، ولا تتلاشى ولا تنعدم، وإنّما تخفى بتفرّقها، ولكن الرأي الجديد حسب اكتشافات العالم الفرنسي - غوستاف لبون - الرأي المبني على المشاهدة والاختبار، بحيث وافقه أكثر علماء أوروبا - هو أنّ المادة قوّة متكاثفة، وأنّ المادة ليست أبديةً، بل تتلاشى بانحلالها إلى القوة، والقوة أيضاً تنحلّ إلى الأثير، كما أنّ المادة ليست أزليةً، بل إنّ الأثير تكاثف في الأزمان البعيدة - بسبب لا نعلمه - فصار مادّةً (5) .

وأمّا البحث الثاني - وهو انحصار الموجودات في مضيقة المادة، وعدم الحاجة إلى علّة

____________________

(1) فلسفتنا / 318.

(2) الرحلة المدرسية / 274.

(3) الرحلة المدرسية / 298.

(4) جوهر هوائي قابل للضغط سيّال.

(5) الرحلة المدرسية للشيخ جواد البلاغي / 275.

٩٦

فاعلية غير مادية - فقد ذكروا لإثباته وجوهاً: الأَوّل: وهو عمدة تلفيقاتهم وأشهرها: إنّ مثل هذه العلّة غير مدركة بأحد الأحاسيس، ولم تدلّ عليها التجربة العلمية، فلا سبيل لنا إلى الإيمان به.

الثاني: إنّ كلّ موجود لابدّ له من سبب، كما أثبتته التجربة العلمية، فالوجود الغني عن السب غير معقول. ذكره بعض الفلاسفة الماركسية على ما تقدّم.

الثالث: إنّ العالم المادي لو لم يكن أزلياً وغنيّاً عن علّة مجردة لكان معلولاً لها، فيكون مخلوقاً من العدم، وهذا غير معقول، فإنّ العدم لا يسبّب الوجود ولا يكوّنه.

الرابع: إنّ كلّ موجود يجب أن يكون في الزمان والمكان، ولا يعقل ما يكون متحرّراً منهما.

الخامس: إنّ حدوث المادة غير محسوس، فلا دليل على كونها مخلوقةً للفاعل الخارج عن نشأة الطبيعة، فإذن هي قديمة.

السادس: إنّ مبدأ العالم لو كان فاعلاً مختاراً، لكان له غرض من خلقته لا محالة، مع أنّا لا نعلم الغرض المفيد في جملة من الأشياء.

السابع: إنّ التجربة العلمية دلّت على أنّ كلّ موجِد مادّي، معلّل بسبب مادّي آخر، ومعه لا ملزم للالتزام بوجد فاعل مجرّد مختار بعد المادة المذكورة.

الثامن: المؤثّر في العالم لابدّ أن يكون إمّا إرادة الفاعل المختار، وإمّا العلل الطبيعية - على سبيل منع الجمع والخلو - فإنّ تأثير المريد المختار، ينافي النظام الحاصل من تأثير العلل الطبيعي، الذي لا يتغيّر ولا يتشتّت، وحيث إنّ العلوم قاضية بتأثير العلل المادية، وإنّ الحوادث الطبيعية مسبّبة عن أسباب طبيعية، يستكشف منها عدم المبدأ المختار المذكور.

هذه هي تلفيقاتهم في هذا المبحث، ومن الضروري أنّها مخالفة للوجدان، والفطرة، والبرهان، والفلسفة، والمميّز العاقل لا يقدم على إبراز هذه الكلمات الفاسدة المخالفة لضرورة العقول الساذجة، والإنصاف أنّ هؤلاء الماديين المتفلسفين، بين مَن غرّته العلوم الطبيعية، فحسب أن تبحّره ومهارته فيها، يجوّز له الإفتاء في كل علم وفن، وإن كان جاهلاً به رأساً:

قل للذي يدّعي في العلمِ فلسفةً

حفظتَ شيئاً وغابتَ عنك أشياءُ

وبين مَن دعته إليه الأغراض السياسية الدنية، وبين مَن اشتبه عليه تباين الإلهيات والطبيعيات، فحيث لم يجد الله في الحقل التجربي أنكره، ولم يدرِ المسكين أنّ طريق الاستنتاج في كلّ من العلمينِ لا يرتبط بالآخر أصلاً، وبين مَن أضلّه تعريف أصحاب الكنائس، حيث جعلوا الخالق جسماً متحرّكاً، آكلاً شارباً، متصارعاً، إلى غير ذلك من خرافات التوراة والأناجيل الموجودين، فإذا أصبح الإله المعبود كذلك فالحق مع الماديين، والجناية حينئذٍ على عاتق

٩٧

القسّيسين والأحبار وكتّابهم.

وعلى الجملة: أنّ الموجودات - بكراتها السامية العظيمة، وميكروباتها الصغيرة - دليل على وجود الله سبحانه وتعالى، ولا يتأتى من عاقل صحيح المزاج إنكاره، وهذه الواهيات المذكورة ممّا يصادم الفطرة البشرية في أحكامها الأَوّلية، وعلى سبيل التوضيح - وإن كان توضيحاً للواضحات - ننبّه على فساد كلّ واحد واحد:

فنقول: أمّا الوجه الأَوّل فقد تقدّم بطلانه في أوائل الكتاب، وذكرنا أنّ المدركات العقلية كالحسية في الاعتبار والحجّية، بلا يتمّ إدراك حسي إلاّ بتوسط الحكم العقلي، فلابدّ أن يكون الإنسان إمّا شكّاكاً، وسوفسطائياً، أو فلسفياً يقبل العقليات والحسيات معاً؛ إذ لا حدّ فاصل بينهما.

ونزيد هنا فنقول: ماذا يريدون بقولهم هذا؟

فإن أرادوا الإحساس المباشري، وأنّ الشيء ما لم يحس بنفسه - بأحد الأحاسيس - لا يذعنون به، فهذا يرفض كيان العلوم الطبيعة بأسرها، ويبطل المجرّبات التي يقدّسونها من أصلها، أَليست الأرض متحرّكةً بحركات مختلفة؟ أَليس للهواء المحيط بنا ثقل عظيم؟ أَليس الأثير موجوداً بزعمهم بل جعلوه مبدأ الكائنات؟ أَليس الأتُم موجوداً؟ أَليست الجاذبية العامّة التي استكشفها نيوتن مسلّمةً؟ فهل الحواس أدركت حركة الأرض، وثقل الهواء، ووجود الأثير، والذرة، والجاذبية، فيجوز إنكارها بتاتاً؟ وهكذا الحال في أُلوف من نظائرها، كلا، فالإحساس المباشري لا يرتبط بقبول الحقائق والمعارف بتاتاً.

وإن أرادوا الأعم من ذلك، وأنّ الشيء يُصدّق به ولو بإحساس آثاره - كما هو المقرّر الثابت في العلوم التجربية، على ما عرفت من الأمثلة المزبورة - فهذا بعينه يجري في المقام، فإنّ الله الواجب القديم المجرّد عن الزمان والمكان، وإن لم يُدرك بإحدى الحواس لكن آثاره محسوسة، فإنّ جميع هذه الكائنات المشاهدة المحسوسة آثاره، كما تقدم برهانه، وستعرف أنّ المادة لا تصلّح للمبدئية بل هي مخلوقة لله القهّار.

وأمّا الشبهة الثانية، فقد مرّ جوابها في الفائدة العاشرة من فوائد المدخل وقلنا: إنّ التجربة قاصرة عن تثبيت الحكم في خارج الحقل المادي، ونزيدك هنا ونقول: لو صحّت ضرورة العلّة لكلّ موجود، لوجب مسببية المادّة المزعومة من مبدأ آخر، وكلّ شيء تفرضونه مبدأ للأشياء المادية، لابدّ له من سبب بحكم التجربة، فهذا - مع كونه من التسلسل المحال - يبطل قولكم أيضاً.

وأمّا الشبهة الثالث فهي مخالفة للوجدان، فإنّ الأحاسيس تشاهد في كلّ يوم أُلوفاً من

٩٨

الموجودات، توجد في الخارج بعد ما كانت معدومةً، أَليست الصور الطارئة على المادة الأزلية المزعومة حادثةً عندكم؟ فما هو جوابكم في إصلاحها؟ هو الجواب في حدوث المادة. وحلّ المطلب: أنّ معنى قولنا: يوجد من العدم، ليس كون العدم علّةً مادية للموجود، ولعلّه لم يخطر ببال صبيّ مميّز من صبيان الموحّدين، ولم يتصوّره عالم من العلماء الإلهيين، بل معناه أنّ الله يوجد الشيء بعد ما لم يكن موجوداً، فهذه الشبهة من غفلتهم بمراد المليين أو تجاهلهم به.

وأمّا الشبهة الرابعة فجوابها: أنّ كلّ موجود مادّي لابدّ له من مكان وزمان، ولا دليل على انسحاب هذا الحكم إلى كل موجود مطلقاً، وسيأتي تحقيقه في المقصد الثالث إن شاء الله.

وأمّا الخامسة فهي مضحكة، فإنّ قِدم المادة مثل حدوثها في عدم إحاطة الأحاسيس به، فكيف يذعنون بأحدهما دون الآخر، وهذا شيء عجيب؟ وسيأتي في آخر هذا الجزء أنّ العقل قاضٍ بحدوث جميع الموجودات الممكنة.

وأمّا الشبهة السادسة فهي واضحة الفساد، فإنّ الجهل بفائدة خلقة جملة من الأشياء - مع إحرازها في كثير من الموجودات بنحو تدهش العقول منها - لا يدل على أنّ المؤثّر غير عالم، بل لابدّ من الإذعان بوجود الغرض الكامل فيها إجمالاً، وأن لا نعلمه تفصيلاً؛ وذلك من جهة ما علمنا من تحقّقه في أكثر المخلوقات، أَليس إذا شاهدنا ماكنةً كبيرة ذات آلات كثيرة، وعلمنا فائدة أكثر أجزائها، لكن جهلنا فائدة بعضها الآخر، يحكم عقلنا بأنّ صانعها عالم قادر؟ وأنّ عدم علمنا بغرضه في بعض أجزائها، لا يدلّ على جهل الصانع المذكور، وإنّي أثق كل الثقة أنّ هذا الجواب ممّا يعرفه الصبيان في حين وجدانهم التمييز، لكن مَن غلب فطرته الغباوة والسفاهة لا يدرك ذلك.

وأمّا السابعة فتزيّف بأنّ الكلام في العلّة الأُولى انقطاعاً للدور التسلسل، فهي إمّا الأثير، وإمّا المادة، وعلى كلّ منهما يبطل ما ادّعوه من الكلّية المذكورة، فإنّ الذرّات أو الأثير مادّية لا علة مادّية لها، وإلاّ جاء الدور والتسلسل، فلابدّ من الالتزام بأنّ لها علّة غير مادية، وهي الواجب الوجود، ولِما ستعرف من أنّ المادة - بأي شيء فسّرت - لا تصلح للمبدئية.

وبالجملة: لزوم علّة مادية لكلّ موجود مادّي لا ينافي تأثير الواجب الوجود، ولم ينكر اللزوم المذكور الإلهيون، بل يقولون بصحّة الأسباب والمسبّبات الطبيعية في عالم الطبيعة، ومع ذلك يقولون بتأثير الواجب الوجود أيضاً، فإنّ الممكن بعلّته ومعلوله غير مستغنٍ عن الواجب حدوثاً وبقاءً كما مرّ.

وأمّا الثامنة فهي من أرذل الكلام، ولعلّ القائل بها لم يملك إدراكه حين التلفّظ بها؛ إذ أي إلهي يقول بإله ذي إرادة هدّامة للنظام الطبيعي، حتى يستكشف النظام عن عدمه؟ بل نقول: إنّ

٩٩

نظام الطبيعة من فعله وإرادته وهو - لمكان علمه وقدرته وحكمته وغنائه - لا يريد إلاّ الأصلح، فهذا النظام أكبر برهان على أنّ مبدأ العالم حي قادر عالم حكيم كامل، كما سيأتي توضيحه فيما بعد، والعمدة إلى العلل المادية في طول إرادة الخالق الحكيم، لا في عَرضها، فلا تنافي بينهما، وقد خفي هذا الموضوع المهم العالي على الماركسيين.

چشم باز وگوش باز واين عمى

حيرتم از چشم بندى خدا

فاتضح أنّ ما نسجه عبّاد المادة لا يناسب الموازين العلمية، ولا يرتبط بالنواميس العقلية، وإنّما الداعي لهم إليه ما تقدّم من الأسباب، وصدق القرآن المجيد حيث يقول: ( وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتَابٍ مُّنِيرٍ ) (1) .

هذا كله في الأصل الأَوّل من أُصولهم الأربعة المتقدّمة، ومن تزييفه وهدمه يظهر سقوط الأصل الثاني والثالث منها أيضاً، فيبقى الأصل الرابع، وهو أنّ مبدأ العالم ومؤثّره ليس إلاّ المادة المذكورة، وقد تقدّم تفسير المادّة وكيفية تشكيل الأجسام منها. وخلاصة القول: أنّ صلاحية المادّة للمبدئية المطلقة، موقوفة على وجوبها الذاتي، وعدم توقّفها على سبب آخر، كما هو ظاهر، وكونها واجبة الوجود، وأزلية الثبوت، متفرّع على بساطتها، وعدم تركّبها اتفاقاً - ولذا أنكروا تجزئتها أشد الإنكار، فإنّ التركّب أمارة المسببية كما مرّ - وعلى أنّ حركتها من ذاتها لا من غيرها، وإلاّ كان فوقها قاهر محرّك يدبّرها، وكِلا الأمرين باطل قطعاً، فلا يمكن وقوف تعليل الموجودات على المادة المذكورة.

ثمّ يُعلم أنّا لا ننكر تركّب الأجسام من الذرّات؛ تثبيتاً لتركّبها من العناصر الأربعة المعروفة (2) أو أكثر منها، ولسنا نحن بصدده، فإنّه من مسائل العلوم الطبيعة، وإنّما ننتقد كونها علّة العالم وحدها، بحيث لا تحتاج إلى علّة فاعلية أُخرى، فنقول:

أمّا كون المادة أو الأثير مركّباً، فهو ممّا لا يدانيه شك ولا يمسّه ريب، وقد أكثروا الأدلة على ذلك وإليك بعضها:

1 - كلّ موجود مادّي له جهات ستّ، وكلّ جهة منه غير جهة أُخرى منه بالضرورة؛ إذ ليس جهتها اليمنى عين جهتها اليسرى، ولا جهتها الفوقانية عين جهتها التحتانية بالبداهة، ويستنتج منه أنّ كلّ ذرة - مهما فُرض صغرها - مركبة من أجزاء ستّة، وإن عجزت الآلات الصناعية عن تجزئته في الخارج.

____________________

(1) الحج 22 / 3.

(2) وهي الماء والتراب والهواء والنار، وزاد عليها بعض علماء العرب ثلاثة أخرى: الكبريت والزئبق والملح، وعدّها الباحثون الغربيون إلى 104 عناصر.

١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443