الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٣

الميزان في تفسير القرآن17%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 443

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 443 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 111420 / تحميل: 6252
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٣

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

فقوله:( وَ ما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا ) كالدفع لما يمكن أن يتوهّم من سابق الآيات المنبئة عن لحوق أثر الأعمال بصاحبها و بشارة الصالحين بالأجر الكبير و الطالحين بالعذاب الأليم فيوهم أنّ تبعات السيّئات أعمّ من العذاب الدنيويّ و الاُخرويّ سيترتّب عليها فيغشى صاحبها من غير قيد و شرط.

فاُجيب أنّ الله سبحانه برحمته الواسعة و عنايته الكاملة لا يعذّب الناس بعذاب الاستئصال و هو عذاب الدنيا إلّا بعد أن يبعث رسولاً ينذرهم به و إن كان له أن يعذّبهم به لكنّه برحمته و رأفته يبالغ في الموعظة و يتمّ الحجّة بعد الحجّة ثمّ ينزل العقوبة فقوله:( وَ ما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا ) نفي لوقوع العذاب لا لجوازه.

فالآية - كما ترى - ليست مسوقة لإمضاء حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان بل هي تكشف عن اقتضاء العناية الإلهيّة أن لا يعذّب قوماً بعذاب الاستئصال إلّا بعد أن يبعث إليهم رسولاً فيؤكّد لهم الحجّة و يقرعهم بالبيان بعد البيان.

و أمّا النبوّة الّتي يبلغ بها التكاليف و يبيّن بها الشرائع فهي الّتي تستقرّ بها المؤاخذة الإلهيّة و المغفرة، و يثبت بها الثواب و العقاب الاُخرويّان فيما لا يتبيّن فيه الحقّ و الباطل إلّا من طريق النبوّة كالتكاليف الفرعيّة، و أمّا الاُصول الّتي يستقلّ العقل بإدراكها كالتوحيد و النبوّة و المعاد فإنّما تلحق آثار قبولها و تبعات ردّها الإنسان بالثبوت العقليّ من غير توقّف على نبوّة أو رسالة.

و بالجملة اُصول الدين و هي الّتي يستقلّ العقل ببيانها و يتفرّع عليها قبول الفروع الّتي تتضمّنها الدعوة النبويّة، تستقرّ المؤاخذة الإلهيّة على ردّها بمجرّد قيام الحجّة القاطعة العقليّة من غير توقّف على بيان النبيّ و الرسول لأنّ صحّة بيان النبيّ و الرسول متوقّفة عليها فلو توقّف هي عليها لدارت.

و تستقرّ المؤاخذة الاُخرويّة على الفروع بالبيان النبويّ و لا تتمّ الحجّة فيها بمجرّد حكم العقل، و قد فصّلنا القول فيه في مباحث النبوّة في الجزء الثاني و في قصص نوح في الجزء العاشر من الكتاب، و في غيرهما. و المؤاخذة الدنيويّة بعذاب الاستئصال يتوقّف على بعث الرسول بعناية من الله سبحانه لا لحكم عقليّ

٦١

يحيل هذا النوع من المؤاخذة قبل بعث الرسول كما عرفت.

و للمفسّرين في الآية مشاجرات طويلة تركنا التعرّض لها لخروج أكثرها عن غرض البحث التفسيريّ، و لعلّ الّذي أوردناه من البحث لا يوافق ما أوردوه لكنّ الحقّ أحقّ بالاتّباع.

قوله تعالى: ( وَ إِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً ) قال الراغب: الترفه التوسّع في النعمة يقال: اُترف فلان فهو مترف - إلى أن قال في قوله:( أَمَرْنا مُتْرَفِيها ) - هم الموصوفون بقوله سبحانه:( فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَ نَعَّمَهُ ) انتهى. و قال في المجمع: الترفه النعمة، قال ابن عرفة: المترف المتروك يصنع ما يشاء و لا يمنع منه، و قال: التدمير الإهلاك و الدمار الهلاك. انتهى.

و قوله: ( إِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً ) أي إذا دنا وقت هلاكهم من قبيل قولهم:إذا أراد العليل أن يموت كان كذا، و إذا أرادت السماء أن يمطر كان كذا، أي إذا دنا وقت موته و إذا دنا وقت إمطارها فإنّ من المعلوم أنّه لا يريد الموت بحقيقة معنى الإرادة و أنّها لا تريد الإمطار كذلك، و في القرآن:( فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ ) الآية.

و يمكن أن يراد به الإرادة الفعليّة و حقيقتها توافق الأسباب المقتضية للشي‏ء و تعاضدها على وقوعه، و هو قريب من المعنى الأوّل و حقيقته تحقّق ما لهلاكهم من الأسباب و هو كفران النعمة و الطغيان بالمعصية كما قال سبحانه:( لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَ لَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ ) إبراهيم: ٧، و قال:( الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ ) الفجر: ١٤.

و قوله:( أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها ) من المعلوم من كلامه تعالى أنّه لا يأمر بالمعصية أمراً تشريعيّاً فهو القائل:( قُلْ إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ ) الأعراف: ٢٨ و أمّا الأمر التكوينيّ فعدم تعلّقه بالمعصية من حيث إنّها معصية أوضح لجعله الفعل

٦٢

ضروريّاً يبطل معه تعلّقه باختيار الإنسان و لا معصية مع عدم الاختيار قال تعالى:( إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) يس: ٨٢.

فمتعلّق الأمر في قوله:( أَمَرْنا ) إن كان هو الطاعة كان الأمر بحقيقة معناه و هو الأمر التشريعيّ و كان هو الأمر الّذي توجّه إليهم بلسان الرسول الّذي يبلّغهم أمر ربّهم و ينذرهم بعذابه لو خالفوا و هو الشأن الّذي يختصّ بالرسول كما تقدّمت الإشارة إليه فإذا خالفوا و فسقوا عن أمر ربّهم حقّ عليهم القول و هو أنّهم معذّبون إن خالفوا فاُهلكوا و دمّروا تدميرا.

و إن كان متعلّق الأمر هو الفسق و المعصية كان الأمر مراداً به الإكثار من إفاضة النعم عليهم و توفيرها على سبيل الإملاء و الاستدراج و تقريبهم بذلك من الفسق حتّى يفسقوا فيحقّ عليهم القول و ينزل عليهم العذاب.

و هذان وجهان في معنى قوله:( أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها ) يجوز توجيهه بكلّ منهما لكن يبعّد أوّل الوجهين أوّلاً أنّ قولنا: أمرته ففعل و أمرته ففسق ظاهره تعلّق الأمر بعين ما فرّع عليه، و ثانياً عدم ظهور وجه لتعلّق الأمر بالمترفين مع كون الفسق لجميع أهل القرية و إلّا لم يهلكوا.

قال في الكشّاف: و الأمر مجاز لأنّ حقيقة أمرهم بالفسق أن يقول لهم: افسقوا، و هذا لا يكون فبقي أن يكون مجازاً، و وجه المجاز أنّه صبّ عليهم النعمة صبّا فجعلوها ذريعة إلى المعاصي و اتّباع الشهوات فكأنّهم مأمورون بذلك لتسبّب إيلاء النعمة فيه، و إنّما خوّلهم إيّاها ليشكروا و يعملوا فيها الخير و يتمكّنوا من الإحسان و البرّ كما خلقهم أصحّاء أقوياء و أقدرهم على الخير و الشرّ و طلب منهم إيثار الطاعة على المعصية فآثروا الفسوق فلمّا فسقوا حقّ عليهم القول و هو كلمة العذاب فدمّرهم.

فإن قلت: هلّا زعمت أنّ معناه أمرناهم بالطاعة ففسقوا؟ قلت: لأنّ حذف ما لا دليل عليه غير جائز فكيف يحذف ما الدليل قائم على نقيضه؟ و ذلك أنّ المأمور به إنّما حذف لأنّ فسقوا يدلّ عليه و هو كلام مستفيض يقال، أمرته فقام و أمرته فقرء

٦٣

لا يفهم منه إلّا أنّ المأمور به قيام أو قراءة و لو ذهبت تقدّر غيره لزمت من مخاطبك علم الغيب.

و لا يلزم على هذا قولهم: أمرته فعصاني أو فلم يمتثّل أمري لأنّ ذلك مناف للأمر مناقض له، و لا يكون ما يناقض الأمر مأموراً به فكان محالاً أن يقصد أصلاً حتّى يجعل دالّاً على المأمور به فكان المأمور به في هذا الكلام غير مدلول عليه و لا منويّ لأنّ من يتكلّم بهذا الكلام فإنّه لا ينوي لأمره مأموراً به كأنّه يقول: كان منّي أمر فلم يكن منه طاعة كما أنّ من يقول: فلان يعطي و يمنع و يأمر و ينهى غير قاصد إلى مفعول.

فإن قلت: هلّا كان ثبوت العلم بأنّ الله لا يأمر بالفحشاء و إنّما يأمر بالقصد و الخير دليلاً على أنّ المراد أمرناهم بالخير ففسقوا؟.

قلت: لا يصحّ ذلك لأنّ قوله: فَفَسَقُوا يدافعه فكأنّك أظهرت شيئاً و أنت تدّعي إضمار خلافه فكان صرف اللفظ إلى المجاز هو الوجه. انتهى.

و هو كلام حسن في تقريب ظهور قوله:( أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها ) في كون المأمور به هو الفسق و أمّا كونه صريحاً فيه بحيث لا يحتمل إلّا ذلك كما يدّعيه فلا، فلم لا يجوز أن تكون الآية من قبيل قولنا: أمرته فعصاني حيث تكون المعصية و هي منافية للأمر قرينة على كون المأمور به هو الطاعة و الفسق و المعصية واحد فإنّ الفسق هو الخروج عن زيّ العبوديّة و الطاعة فهو المعصية و يكون المعنى حينئذ: أمرنا مترفيها بالطاعة ففسقوا عن أمرنا و عصوه، أو يكون الأمر في الآية مستعملاً استعمال اللّازم، و المعنى توجّه أمرنا إلى مترفيها ففسقوا فيها عنه.

فالحقّ أنّ الوجهين لا بأس بكلّ منهما و إن كان الثاني لا يخلو من ظهور و قد اُجيب عن اختصاص الأمر بالمترفين بأنّهم الرؤساء السادة و الأئمّة المتبوعون و غيرهم أتباعهم و حكم التابع تابع لحكم المتبوع و لا يخلو من سقم.

و ذكر بعضهم في توجيه الآية أنّ قوله:( أَمَرْنا مُتْرَفِيها ) إلخ صفة لقرية و ليس جواباً لإذا و جواب إذا محذوف على حدّ قوله:( حتّى إِذا جاؤُها وَ فُتِحَتْ أَبْوابُها

٦٤

وَ قالَ لَهُمْ خَزَنَتُها ) إلى آخر الآية للاستغناء عنه بدلالة الكلام.

و ذكر آخرون أنّ في الآية تقديماً و تأخيراً و التقدير و إذا أمرنا مترفي قرية ففسقوا فيها أردنا أن نهلكها، و ذلك أنّه لا معنى لإرادة الهلاك قبل تحقّق سببه و هو الفسق، و هو وجه سخيف كسابقه.

هذا كلّه على القراءة المعروفة( أَمَرْنا ) بفتح الهمزة ثمّ الميم مخفّفة من الأمر بمعنى الطلب، و ربّما اُخذ من الأمر بمعنى الإكثار أي أكثرنا مترفيها مالاً و ولداً ففسقوا فيها.

و قرئ( آمرنا) بالمدّ و نسب إلى عليّعليه‌السلام و إلى عاصم و ابن كثير و نافع و غيرهم و هو من الإيمان بمعنى إكثار المال و النسل أو بمعنى تكليف إنشاء فعل، و قرئ أيضاً( أمّرنا) بتشديد الميم من التأمير بمعنى تولية الإمارة و نسب ذلك إلى عليّ و الحسن و الباقرعليهم‌السلام و إلى ابن عبّاس و زيد بن عليّ و غيرهم.

قوله تعالى: ( وَ كَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَ كَفى‏ بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً ) قال في المفردات: القرن القوم المقترنون في زمن واحد و جمعه قرون قال:( وَ لَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ ) ( وَ كَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ ) انتهى و معنى الآية ظاهر، و فيها تثبيت ما ذكر في الآية السابقة من سنّة الله الجارية في إهلاك القرى بالإشارة إلى القرون الماضية الهالكة.

و الآية لا تخلو من إشعار بأنّ سنّة الإهلاك إنّما شرعت في القرون الإنسانيّة بعد نوحعليه‌السلام و هو كذلك، و قد تقدّم في تفسير قوله تعالى:( كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ ) البقرة: ٢١٣ في الجزء الثاني من الكتاب أنّ المجتمع الإنسانيّ قبل زمن نوحعليه‌السلام كانوا على سذاجة الفطرة ثمّ اختلفوا بعد ذلك.

قوله تعالى: ( مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً ) العاجلة صفة محذوفة الموصوف و لعلّ موصوفها الحياة بقرينة مقابلتها للآخرة في الآية التالية و هي الحياة الآخرة، و قيل: المراد النعم العاجلة و قيل: الأعراض الدنيويّة العاجلة.

٦٥

و في المفردات،: أصل الصلى لإيقاد النار. قال: و قال الخليل: صلي الكافر النار قاسى حرّها( يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ ) و قيل: صلي النار دخل فيها، و أصلاها غيره قال:( فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً ) انتهى. و في المجمع،: الدحر الإبعاد و المدحور المبعد المطرود يقال: اللّهمّ أدحر عنّا الشيطان أي أبعده انتهى.

لمّا ذكر سبحانه سنّته في التعذيب الدنيويّ إثر دعوة الرسالة و أنّه يهدي الاُمم الإنسانيّة إلى الإيمان و العمل الصالح حتّى إذا فسدوا و أفسدوا بعث إليهم رسولاً فإذا طغوا و فسقوا عذّبهم عذاب الاستئصال، عاد إلى بيان سنّته في التعذيب الاُخرويّ و الإثابة فيها في هذه الآية و الآيتين بعدها يذكر في آية ملاك عذاب الآخرة، و في آية ملاك ثوابها، و في آية محصّل القول و الأصل الكلّي في ذلك.

فقوله:( مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ ) أي الّذي يريد الحياة العاجلة و هي الحياة الدنيا، و إرادة الحياة الدنيا إنّما هي طلب ما فيها من المتاع الّذي تلتذّ به النفس و يتعلّق به القلب، و التعلّق بالعاجلة و طلبها إنّما يعدّ طلباً لها إذا كانت مقصودة بالاستقلال لا لأجل التوسّل بها إلى سعادة الاُخرىّ و إلّا كانت إرادة للآخرة فإنّ الآخرة لا يسلك إليها إلّا من طريق الدنيا فلا يكون الإنسان مريداً للدنيا إلّا إذا أعرض عن الآخرة و نسيها فتمحّضت إرادته في الدنيا، و يدلّ عليه أيضاً خصوص التعبير في الآية( مَنْ كانَ يُرِيدُ ) حيث يدلّ على استمرار الإرادة.

و هذا هو الّذي لا يرى لنفسه إلّا هذه الحياة المادّيّة الدنيويّة و ينكر الحياة الآخرة، و يلغو بذلك القول بالنبوّة و التوحيد إذ لا أثر للإيمان بالله و رسله و التديّن بالدين لو لا الاعتقاد بالمعاد، قال تعالى:( فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَ لَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ ) النجم: ٣٠.

و قوله:( عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ) أي أسرعنا في إعطائه ما يريده في الدنيا لكن لا بإعطائه ما يريده بل بإعطائه ما نريده فالأمر إلينا لا إليه و الأثر لإرادتنا لا لإرادته، و لا بإعطاء ما نعطيه لكلّ من يريد بل لمن نريد فليس يحكم

٦٦

فينا إرادة الأشخاص بل إرادتنا هي الّتي تحكم فيهم.

و إرادته سبحانه الفعليّة لشي‏ء هو اجتماع الأسباب على كينونته و تحقّق العلّة التامّة لظهوره فالآية تدلّ على أنّ الإنسان و هو يريد الدنيا يرزق منها على حسب ما يسمح له الأسباب و العوامل الّتي أجراها الله في الكون و قدّر لها من الآثار فهو ينال شيئاً ممّا يريده و يسأله بلسان تكوينه لكن ليس له إلّا ما يهدي إليه الأسباب و الله من ورائهم محيط.

و قد ذكر الله سبحانه هذه الحقيقة بلسان آخر في قوله:( وَ لَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَ مَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ وَ لِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً وَ سُرُراً عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ وَ زُخْرُفاً وَ إِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا ) الزخرف: ٣٥ أي لو لا أنّ الناس جميعاً يعيشون على نسق واحد تحت قانون الأسباب و العلل، و لا فرق بين الكافر و المؤمن قبال العلل الكونية بل من صادفته أسباب الغنى و الثروة أثرته و أغنته مؤمناً كان أم كافراً، و من كان بالخلاف، فبالخلاف خصّصنا الكفّار بمزيد النعم الدنيويّة إذ ليس لها عندنا قدر و لا في سوق الآخرة من قيمة.

و ذكر بعضهم: أنّ المراد بإرادة العاجلة إرادتها بعمله و هو أن يريد بعمله الدنيا دون الآخرة فهو محروم من الآخرة، و هو تقييد من غير مقيّد، و لعلّه أخذه من قوله تعالى:( مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَ زِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَ هُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ ) هود: ١٦ لكنّ الآيتين مختلفتان غرضاً فالغرض فيما نحن فيه بيان أنّ مريد الدنيا لا ينال إلّا منها، و الغرض من آية سورة هود أنّ الإنسان لا ينال إلّا عمله فإذا كان مريدا للدنيا وفّي إليه عمله فيها و بين الغرضين فرق واضح فافهم ذلك.

و قوله:( ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً ) أي و جعلنا جزاءه في الآخرة جهنّم يقاسي حرّها و هو مذموم مبعد من الرحمة و القيدان يفيدان أنّه مخصوص بجهنّم محروم من المغفرة و الرحمة.

٦٧

و الآية و إن كانت تبيّن حال من تعلّق بالدنيا و نسي الآخرة و أنكرها غير أنّ الطلب و الإنكار مختلفان بالمراتب فمن ذلك ما هو كذلك قولاً و فعلاً و منه ما هو كذلك فعلاً مع الاعتراف به قولاً، و تصديق ذلك قوله تعالى فيما سيأتي:( وَ لَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ ) الآية.

قوله تعالى: ( وَ مَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَ سَعى‏ لَها سَعْيَها وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً ) قال الراغب: السعي المشي السريع و هو دون العدو، و يستعمل للجدّ في الأمر خيراً كان أو شرّاً، انتهى موضع الحاجة.

و قوله:( مَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ ) أي الحياة الآخرة نظير ما تقدم من قوله:( مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ ) و الكلام في قول من قال: يعني من أراد بعمله الآخرة نظير الكلام في مثله في الآية السابقة.

و قوله( وَ سَعى‏ لَها سَعْيَها ) اللّام للاختصاص و كذا إضافة السعي إلى ضمير الآخرة، و المعنى و سعى و جدّ للآخرة السعي الّذي يختصّ بها، و يستفاد منه أنّ سعيه لها يجب أن يكون سعياً يليق بها و يحقّ لها كأن يكون يبذل كمال الجهد في حسن العمل و أخذه من عقل قطعيّ أو حجّة شرعيّة.

و قوله:( وَ هُوَ مُؤْمِنٌ ) أي مؤمن بالله و يستلزم ذلك توحيده و الإذعان بالنبوّة و المعاد فإنّ من لا يعترف بإحدى الخصال الثلاث لا يعدّه الله سبحانه في كلامه مؤمناً به و قد تكاثرت الآيات فيه.

على أنّ نفس التقييد بقوله:( وَ هُوَ مُؤْمِنٌ ) يكفي في التقييد المذكور فإنّ من أراد الآخرة و سعى لها سعيها فهو مؤمن بالله و بنشأة وراء هذه النشأة الدنيويّة قطعاً فلو لا أنّ التقييد بالإيمان لإفادة وجوب كون الإيمان صحيحاً و من صحّته أن يصاحب التوحيد و الإذعان بالنبوّة لم يكن للتقييد وجه فمجرّد التقييد بالإيمان يكفي مؤنة الاستعانة بآيات اُخر.

و قوله:( فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً ) أي يشكره الله بحسن قبوله و الثناء على ساعيه، و شكره تعالى على عمل العبد تفضّل منه على تفضّل فإنّ أصل إثابته

٦٨

العبد على عمله تفضّل لأنّ من وظيفة العبد أن يعبد مولاه من غير وجوب الجزاء عليه فالإثابة تفضّل، و الثناء عليه بعد الإثابة تفضّل على تفضّل و الله ذو الفضل العظيم.

و في الآيتين دلالة على أنّ الأسباب الاُخرويّة و هي الأعمال لا تتخلّف عن غاياتها بخلاف الأسباب الدنيويّة فإنّه سبحانه يقول فيمن عمل للآخرة:( فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً ) و يقول فيمن عمل للدنيا:( عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ) .

قوله تعالى: ( كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ وَ هَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَ ما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً ) قال في المفردات، أصل المدّ الجرّ و منه المدّة للوقت الممتدّ و مدّة الجرح و مدّ النهر و مدّه نهر آخر و مددت عيني إلى كذا قال تعالى:( وَ لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ ) الآية و مددته في غيّه و أمددت الجيش بمدد و الإنسان بطعام قال: و أكثر ما جاء الإمداد في المحبوب و المدّ في المكروه نحو( وَ أَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ وَ لَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ ) ( وَ نَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا ) ( وَ يَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ ) ( وَ إِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ) انتهى بتلخيص منّا.

فإمداد الشي‏ء و مدّه أن يضاف إليه من نوعه مثلاً ما يمتدّ به بقاؤه و يدوم به وجوده و لو لا ذلك لانقطع كالعين من الماء الّتي تستمدّ من المنبع و يضاف إليها منه الماء حينا بعد حين و يمتدّ بذلك جريانها.

و الله سبحانه يمدّ الإنسان في أعماله سواء كان ممّن يريد العاجلة أو الآخرة فإنّ جميع ما يتوقّف عليه العمل في تحقّقه من العلم و الإرادة و الأدوات البدنيّة و القوى العمّالة و الموادّ الخارجيّة الّتي يقع عليها العمل و يتصرّف فيها العامل و الأسباب و الشرائط المربوطة بها كلّ ذلك اُمور تكوينيّة لا صنع للإنسان فيها و لو فقد كلّها أو بعضها لم يكن العمل، و الله سبحانه هو الّذي يفيضها بفضله و يمدّ الإنسان بها بعطائه، و لو انقطع منه العطاء انقطع من العامل عمله.

فأهل الدنيا في دنياهم و أهل الآخرة في آخرتهم يستمدّون من عطائه تعالى و لا يعود إليه سبحانه في عطائه إلّا الحمد لأنّ الّذي يعطيه نعمة على الإنسان أن

٦٩

يستعمله استعمالاً حسناً في موضع يرتضيه ربّه، و أمّا إذا فسق بعدم استعماله فيه و حرّف الكلمة عن موضعها فلا يلومنّ إلّا نفسه و على الله الثناء على جميل صنعه و له الحجّة البالغة.

فقوله:( كُلًّا نُمِدُّ ) أي كلّا من الفريقين المعجّل لهم و المشكور سعيهم نمدّ، و إنّما قدم المفعول على فعله لتعلّق العناية به في الكلام فإنّ المقصود بيان عموم الإمداد للفريقين جميعاً.

و قوله:( هؤُلاءِ وَ هَؤُلاءِ ) أي هؤلاء المعجّل لهم و هؤلاء المشكور سعيهم بما أنّ لكلّ منهما نعته الخاصّ به، و يؤل المعنى إلى أنّ كلّا من الفريقين تحت التربية الإلهيّة يفيض عليهم من عطائه من غير فرق غير أنّ أحدهما يستعمل النعمة الإلهيّة لابتغاء الآخرة فيشكر الله سعيه، و الآخر يستعملها لابتغاء العاجلة و ينسى الآخرة فلا يبقى له فيها إلّا الشقاء و الخيبة.

و قوله:( مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ ) فإنّ جميع ما يستفيدون منه في أعمالهم كما تقدّم لا صنع لهم و لا لغيرهم من المخلوقين فيه بل الله سبحانه هو الموجد لها و مالكها فهي من عطائه.

و يستفاد من هذا القيد وجه ما ذكر لكلّ من الفريقين من الجزاء فإنّ أعمالهم لمّا كانت بإمداده تعالى من خالص عطائه فحقيق على من يستعمل نعمته في الكفر و الفسوق أن يصلّى النار مذموماً مدحوراً، و على من يستعملها في الإيمان به و طاعته أن يشكر سعيه.

و في قوله:( رَبِّكَ ) التفات من التكلّم مع الغير إلى الغيبة و قد كرّر ذلك مرّتين و الظاهر أنّ النكتة فيه الإشارة إلى أنّ إمدادهم من شؤون صفة الربوبيّة و الله سبحانه هو الربّ لا ربّ غيره غير أنّ الوثنيّين يتّخذون من دونه أرباباً و لذلك نسب ربوبيّته إلى نبيّه فقال:( رَبِّكَ ) .

و قوله:( وَ ما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً ) أي ممنوعاً - و الحظر المنع - فأهل الدنيا و أهل الآخرة مستمدّون من عطائه منعّمون بنعمته ممنونون بمنّته.

٧٠

و في الآية دلالة على أنّ العطاء الإلهيّ مطلق غير محدود بحدّ لمكان إطلاق العطاء و نفي الحظر في الآية فما يوجد من التحديد و التقدير و المنع باختلاف الموارد فإنّما هو من ناحية المستفيض و خصوص استعداده للاستفاضة أو فقدانه من رأس لا من ناحية المفيض.

و من عجيب ما قيل في الآية ما نسب إلى الحسن و قتادة أنّ المراد بالعطاء العطاء الدنيويّ فهو المشترك بين المؤمن و الكافر و أمّا العطاء الاُخرويّ فللمؤمنين خاصّة، و المعنى كما قيل: كلّ الفريقين نمدّ بالعطايا العاجلة لا الفريق الأوّل المريد للعاجلة فقط و ما كان عطاؤه الدنيويّ محظوراً من أحد.

و فيه أنّه تقييد من غير مقيّد مع صلاحية المورد للإطلاق و أمّا ما ذكر من اختصاص العطاء الاُخرويّ بالمؤمنين من غير مشاركة الكفّار لهم فيه فخارج من مصبّ الكلام في الآية فإنّ الكلام في الإمداد الّذي يمدّ به الأعمال المنتهية إلى الجزاء لا في الجزاء، و عطايا المؤمنين في الآخرة من الجزاء لا من قبيل الأعمال، و نفس ما يمدّ به أعمال الفريقين عطايا دنيويّة و اُخرويّة على أنّ العطايا الاُخرويّة أيضاً مشتركة غير محظورة و الحظر فيها من قبل الكافرين كما أنّ الأمر في العطايا الدنيويّة أيضاً كذلك فربّما يمنع لكن لا من قبل محدوديّة العطاء بل من قبل عدم صلاحية القابل.

و قال في روح المعاني،: إنّ التقسيم الّذي تضمّنته الآية غير حاصر و ذلك غير مضرّ، و التقسيم الحاصر أنّ كلّ فاعل إمّا أن يريد بفعله العاجلة فقط أو يريد الآخرة فقط أو يريدهما معاً أو لم يرد شيئاً و القسمان الأوّلان قد علم حكمهما من الآية، و القسم الثالث ينقسم إلى ثلاثة أقسام لأنّه إمّا أن تكون إرادة الآخرة أرجح أو تكون مرجوحة أو تكون الإرادتان متعادلتين.

ثمّ أطال البحث فيما تكون فيه إرادة الآخرة أرجح و نقل اختلاف العلماء في قبول هذا النوع من العمل، و نقل اتّفاقهم على عدم قبول ما يترجّح فيه باعث الدنيا أو كان الباعثان فيه متساويين.

٧١

قال: و أمّا القسم الرابع عند القائلين بأنّ صدور الفعل من القادر يتوقّف على حصول الداعي فهو ممتنع الحصول و الّذين قالوا: إنّه لا يتوقّف، قالوا ذلك الفعل لا أثر له في الباطن و هو محرّم في الظاهر. انتهى و قد سبقه إلى هذا التقسيم و البحث غيره.

و أنت خبير بأنّ الآيات الكريمة ليست في مقام بيان حكم الردّ و القبول بالنسبة إلى كلّ عمل صدر عن عامل بل هي تأخذ غاية الإنسان و تعيّنها بحسب نشأة حياته مرّة متعلّقة بالحياة العاجلة و لازمه أن لا يريد بأعماله إلّا مزايا الحياة الدنيويّة المادّيّة و يعرض عن الاُخرى، و مرّة متعلّقة بالحياة الآخرة و لازمه أن يرى لنفسه حياة خالدة دائمة، بعضها و هي الحياة الدنيا مقدّمة للبعض الآخر و هي الحياة بعد الموت و أعماله في الدنيا مقصودة بها سعادة الاُخرى.

و معلوم أنّ هذا التقسيم لا ينتج إلّا قسمين نعم أحد القسمين ينقسم إلى أقسام لم يستوف أحكامها في الآيات لعدم تعلّق الغرض بها و ذلك أنّ من أراد الآخرة ربّما سعى لها سعيها و ربّما لم يسع لها سعيها كالفسّاق و أهل البدع، و على كلا الوجهين ربّما كان مؤمناً و ربّما لم يكن مؤمناً، و لم يذكر في كلامه تعالى إلّا حكم طائفة خاصّة و هي من أراد الآخرة و سعى لها سعيها و هو مؤمن لأنّ الغرض تمييز ملاك السعادة من ملاك الشقاء لا بيان تفصيل الأحوال.

قوله تعالى: ( انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى‏ بَعْضٍ وَ لَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَ أَكْبَرُ تَفْضِيلًا ) إشارة إلى تفاوت الدرجات بتفاوت المساعي حتّى لا يتوهّم أنّ قليل العمل و كثيره على حدّ سواء و يسير السعي و السعي البالغ لا فرق بينهما فإنّ تسوية القليل و الكثير و الجيّد و الرديّ في الشكر و القبول ردّ في الحقيقة لما يزيد به الأفضل على غيره.

و قوله:( انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى‏ بَعْضٍ ) أي بعض الناس على بعض في الدنيا، و القرينة على هذا التقييد قوله بعد:( وَ لَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ ) و التفضيل في الدنيا هو ما يزيد به بعض أهلها على بعض من أعراضها و اُمّتعتها كالمال و الجاه و

٧٢

الولد و القوّة و الصيت و الرئاسة و السؤدد و القبول عند الناس.

و قوله:( وَ لَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَ أَكْبَرُ تَفْضِيلًا ) أي هي أكبر من الدنيا في الدرجات و التفضيل فلا يتوهّمنّ متوهّم أنّ أهل الآخرة في عيشة سواء و لا أنّ التفاوت بين معايشهم كتفاوت أهل الدنيا في دنياهم بل الدار أوسع من الدنيا بما لا يقاس و ذلك أنّ سبب التفضيل في الدنيا هي اختلاف الأسباب الكونيّة و هي محدودة و الدار دار التزاحم و سبب التفضيل و اختلاف الدرجات في الآخرة هو اختلاف النفوس في الإيمان و الإخلاص و هي من أحوال القلوب، و اختلاف أحوالها أوسع من اختلاف أحوال الأجسام بما لا يقاس قال تعالى:( إِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ ) البقرة: ٢٨٤ و قال:( يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَ لا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ) الشعراء: ٨٩.

ففي الآية أمرهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن ينظر إلى ما بين أهل الدنيا من التفاضل و الاعتبار ليجعل ذلك ذريعة إلى فهم ما بين أهل الآخرة من تفاوت الدرجات و التفاضل في المقامات فإنّ اختلاف الأحوال في الدنيا يؤدّي إلى اختلاف الإدراكات الباطنة و النيّات و الأعمال الّتي يتيسّر للإنسان أن يأتي بها و اختلاف ذلك يؤدّي إلى اختلاف الدرجات في الآخرة.

قوله تعالى: ( لا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولًا ) قال في المفردات: الخذلان ترك من يظنّ به أن ينصر نصرته انتهى.

و الآية بمنزلة النتيجة للآيات السابقة الّتي ذكرت سنّة الله في عباده و ختمت في أنّ من أراد منهم العاجلة انتهى به ذلك إلى أن يصلّى جهنّم مذموماً مدحوراً، و من أراد منهم الآخرة شكر الله سعيه الجميل، و المعنى لا تشرك بالله سبحانه حتّى يؤدّيك ذلك إلى أن تقعد و تحتبس عن السير إلى درجات القرب و أنت مذموم لا ينصرك الله و لا ناصر دونه و قيل: القعود كناية عن المذلّة و العجز.

٧٣

( بحث روائي)

في الكافي، بإسناده عن أبي عمرو الزبيريّ عن أبي عبداللهعليه‌السلام : في قوله تعالى:( إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ) قال: أي يدعو.

و في تفسير العيّاشيّ، عن الفضيل بن يسار عن أبي جعفرعليه‌السلام :( إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ) قال: يهدي إلى الولاية.

أقول: و هي من الجري و يمكن أن يراد به ما عند الإمام من كمال معارف الدين و لعلّه المراد ممّا في بعض الروايات من قوله: يهدي إلى الإمام.

و عنه: و في رواية أبي الجارود عن أبي جعفرعليه‌السلام : في قوله:( وَ كُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ ) يقول: خيره و شرّه معه حيث كان لا يستطيع فراقه حتّى يعطى كتابه بما عمل.

و فيه، عن زرارة و حمران و محمّد بن مسلم عن أبي جعفر و أبي عبداللهعليه‌السلام : عن الآية قال: قدره الّذي قدّر عليه.

و فيه، عن خالد بن يحيى عن أبي عبداللهعليه‌السلام : في قوله:( اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى‏ بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً ) قال يذكر العبد جميع ما عمل و ما كتب عليه حتّى كأنّه فعله تلك الساعة فلذلك قالوا: يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَ لا كَبِيرَةً إلّا أَحْصاها.

و فيه، عن حمران عن أبي جعفرعليه‌السلام : في قوله:( أَمَرْنا مُتْرَفِيها ) مشدّدة منصوبة تفسيرها: كثرّنا، و قال: لا قرأتها مخفّفة.

أقول: و في حديث آخر عن حمران عنه: تفسيرها أمرنا أكابرها.

و قد روي في قوله تعالى:( وَ يَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ ) الآية و قوله:( وَ جَعَلْنَا اللَّيْلَ وَ النَّهارَ آيَتَيْنِ ) الآية و قوله:( وَ كُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ ) الآية من طرق الفريقين عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و عليّعليه‌السلام و سلمان و غيره روايات تركنا إيرادها لعدم تأيّدها بكتاب أو سنّة أو حجّة عقليّة قاطعة مع ما فيها من ضعف الأسناد.

٧٤

( كلام في القضاء في فصول‏)

١- في تحصيل معناه و تحديده: إنّا نجد الحوادث الخارجيّة و الاُمور الكونيّة بالقياس إلى عللها و الأسباب المقتضية لها على إحدى حالتين فإنّها قبل أن تتمّ عللها الموجبة لها و الشرائط و ارتفاع الموانع الّتي يتوقّف عليها حدوثها و تحقّقها لا يتعيّن لها التحقّق و الثبوت و لا عدمه بل يتردّد أمرها بين أن تتحقّق و أن لا تتحقّق من رأس.

فإذا تمّت عللها الموجبة لها و كملت ما تتوقّف عليه من الشرائط و ارتفاع الموانع و لم يبق لها إلّا أن تتحقّق خرجت من التردّد و الإبهام و تعيّن لها أحد الطرفين و هو التحقّق، أو عدم التحقّق، إن فرض انعدام شي‏ء ممّا يتوقّف عليه وجودها. و لا يفارق تعيّن التحقّق نفس التحقّق.

و الاعتباران جاريان في أفعالنا الخارجيّة فما لم نشرف على إيقاع فعل من الأفعال كان متردّداً بين أن يقع أو لا يقع فإذا اجتمعت الأسباب و الأوضاع المقتضية و أتممناها بالإرادة و الإجماع بحيث لم يبق له إلّا الوقوع و الصدور عيّنّا له أحد الجانبين فتعيّن له الوقوع.

و كذا يجري نظير الاعتبارين في أعمالنا الوضعيّة الاعتباريّة كما إذا تنازع اثنان في عين يدّعيه كلّ منهما لنفسه كان أمر مملوكيّته مردّداً بين أن يكون لهذا أو لذاك فإذا رجعاً إلى حكم يحكم بينهما فحكم لأحدهما دون الآخر كان فيه فصل الأمر عن الإبهام و التردّد و تعيين أحد الجانبين بقطع رابطته مع الآخر.

ثمّ توسّع فيه ثانياً فجعل الفصل و التعيين بحسب القول كالفصل و التعيين بحسب الفعل فقول الحكم: إنّ المال لأحد المتنازعين فصل للخصومة و تعيين لأحد الجانبين بعد التردّد بينهما، و قول المخبر إنّ كذا كذا، فصل و تعيين، و هذا المعنى هو الّذي نسمّيه القضاء.

و لما كانت الحوادث في وجودها و تحقّقها مستندة إليه سبحانه و هي فعله

٧٥

جرى فيها الاعتباران بعينهما فهي ما لم يرد الله تحقّقها و لم يتمّ لها العلل و الشرائط الموجبة لوجودها باقية على حال التردّد بين الوقوع و اللاوقوع فإذا شاء الله وقوعها و أراد تحقّقها فتمّ لها عللها و عامّة شرائطها و لم يبق لها إلّا أن توجد كان ذلك تعيينا منه تعالى و فصلاً لها من الجانب الآخر و قطعاً للإبهام، و يسمّى قضاء من الله.

و نظير الاعتبارين جار في مرحلة التشريع و حكمه القاطع بأمر و فصله القول فيه قضاء منه.

و على ذلك جرى كلامه تعالى فيما أشار فيه إلى هذه الحقيقة، قال تعالى:( وَ إِذا قَضى‏ أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) البقرة: ١١٧، و قال:( فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ ) حم السجدة: ١٢، و قال:( قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ ) يوسف: ٤١، و قال:( وَ قَضَيْنا إِلى‏ بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ ) إسراء: ٤ إلى غير ذلك من الآيات المتعرّضة للقضاء التكوينيّ.

و من الآيات المتعرّضة للقضاء التشريعيّ قوله:( وَ قَضى‏ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَ بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً ) إسراء: ٢٣، و قوله:( إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ) يونس: ٩٣، و قوله:( وَ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَ قِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ ) الزمر: ٧٥، و ما في الآية و ما قبلها من القضاء بمعنى فصل الخصومة تشريعيّ بوجه و تكوينيّ بآخر.

فالآيات الكريمة - كما ترى - تمضي صحّة هذين الاعتبارين العقليّين في الأشياء الكونيّة من جهة أنّها أفعاله تعالى، و كذا في التشريع الإلهيّ من جهة أنّه فعله التشريعيّ، و كذا فيما ينسب إليه تعالى من الحكم الفصل.

و ربّما عبّر عنه بالحكم و القول بعناية اُخرى قال تعالى:( أَلا لَهُ الْحُكْمُ ) الأنعام: ٦٢، و قال:( وَ اللهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ ) الرعد: ٤١، و قال:( ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ ) ق: ٢٩، قال:( وَ الْحَقَّ أَقُولُ ) ص: ٨٤.

٢- نظرة فلسفيّة في معنى القضاء: لا ريب أنّ قانون العلّيّة و المعلوليّة ثابت

٧٦

و أنّ الموجود الممكن معلول له سبحانه إمّا بلا واسطة معها، و أنّ المعلول إذا نسب إلى علّته التامّة كان له منها الضرورة و الوجوب إذ ما لم يجب لم يوجد، و إذا لم ينسب إليها كان له الإمكان سواء اُخذ في نفسه و لم ينسب إلى شي‏ء كالماهيّة الممكنة في ذاتها أو نسب إلى بعض أجزاء علّته التامّة فإنّه لو أوجب ضرورته و وجوبه كان علّة له تامّة و المفروض خلافه.

و لمّا كانت الضرورة هي تعيّن أحد الطرفين و خروج الشي‏ء عن الإبهام كانت الضرورة المنبسطة على سلسلة الممكنات من حيث انتسابها إلى الواجب تعالى الموجب لكلّ منها في ظرفه الّذي يخصّه قضاء عامّاً منه تعالى كما أنّ الضرورة الخاصّة بكلّ واحد منها قضاء خاصّ به منه، إذ لا نعني بالقضاء إلّا فصل الأمر و تعيينه عن الإبهام و التردّد.

و من هنا يظهر أنّ القضاء من صفاته الفعليّة و هو منتزع من الفعل من جهة نسبته إلى علّته التامّة الموجبة له.

٣- و الروايات في تأييد ما تقدّم كثيرة جدّاً: ففي المحاسن، عن أبيه عن ابن أبي عمير عن هشام بن سالم قال: قال أبوعبداللهعليه‌السلام : إنّ الله إذا أراد شيئاً قدّره فإذا قدّره قضاه فإذا قضاه أمضاه.

و فيه، عن أبيه عن ابن أبي عمير عن محمّد بن إسحاق قال: قال: أبوالحسنعليه‌السلام ليونس مولى عليّ بن يقطين: يا يونس لا تتكلّم بالقدر قال: إنّي لا أتكلّم بالقدر و لكن أقول: لا يكون إلّا ما أراد الله و شاء و قضى و قدّر فقال ليس هكذا أقول و لكن أقول: لا يكون إلّا ما شاء الله و أراد و قدّر و قضى. ثمّ قال: أ تدري ما المشيّة؟ فقال: لا فقال: همّه بالشي‏ء أ و تدري ما أراد؟ قال: لا قال: إتمامه على المشيّة فقال: أ و تدري ما قدر؟ قال: لا، قال: هو الهندسة من الطول و العرض و البقاء ثمّ قال إنّ الله إذا شاء شيئاً أراده و إذا أراد قدّره و إذا قدّره قضاه و إذا قضاه أمضاه‏

الحديث.

و في رواية اُخرى عن يونس عنهعليه‌السلام قال: لا يكون إلّا ما شاء الله و أراد و

٧٧

قدّر و قضى. قلت: فما معنى شاء؟ قال: ابتداء الفعل قلت: فما معنى أراد؟ قال: الثبوت عليه. قلت: فما معنى قدّر؟ قال: تقدير الشي‏ء من طوله و عرضه. قلت: فما معنى قضى؟ قال: إذا قضى أمضى فذلك الّذي لا مردّ له‏

و في التوحيد، عن الدقّاق عن الكلينيّ عن ابن عامر عن المعلّى قال: سئل العالمعليه‌السلام كيف علم الله؟ قال: علم و شاء و أراد و قدّر و قضى و أمضى فأمضى ما قضى و قضى ما قدّر و قدّر ما أراد فبعلمه كانت المشيّة و بمشيّته كانت الإرادة و بإرادته كان التقدير و بتقديره كان القضاء و بقضائه كان الإمضاء فالعلم متقدّم على المشيّة و المشيّة ثانية و الإرادة ثالثة و التقدير واقع على القضاء بالإمضاء.

فللّه تبارك و تعالى البداء فيما علم متى شاء و فيما أراد لتقدير الأشياء فإذا وقع القضاء بالإمضاء فلا بداء. الحديث.

و الّذي ذكرهعليه‌السلام من ترتّب المشيّة على العلم و الإرادة على المشيّة و هكذا ترتّب عقليّ بحسب صحّة الانتزاع.

و فيه، بإسناده عن ابن نباتة قال: إنّ أميرالمؤمنينعليه‌السلام عدل من عند حائط مائل إلى حائط آخر فقيل له: يا أميرالمؤمنين تفرّ من قضاء الله؟ قال: أفرّ من قضاء الله إلى قدر الله عزّوجلّ.

أقول: و ذلك أنّ القدر لا يحتم المقدّر فمن المرجوّ أن لا يقع ما قدّر أمّا إذا كان القضاء فلا مدفع له، و الروايات في المعاني المتقدّمة كثيرة من طرق أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام .

( بحث فلسفي‏)

في أنّ الفيض مطلق غير محدود على ما يفيده قوله تعالى:( وَ ما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً ) .

أطبقت البراهين على أنّ وجود الواجب تعالى بما أنّه واجب لذاته مطلق غير محدود بحدّ و لا مقيّد بقيد و لا مشروط بشرط و إلّا انعدم فيما وراء حدّه و بطل على

٧٨

تقدير عدم قيده أو شرطه و قد فرض واجباً لذاته فهو واحد وحدة لا يتصوّر لها ثان و مطلق إطلاقاً لا يتحمّل تقييداً.

و قد ثبت أيضاً أنّ وجود ما سواه أثر مجعول له و أنّ الفعل ضروريّ المسانخة لفاعله فالأثر الصادر منه واحد بوحدة حقّه ظلّيّة مطلق غير محدود و إلّا تركّبت ذاته من حدّ و محدود و تألّفت من وجود و عدم و سرت هذه المناقضة الذاتيّة إلى ذات فاعله لمكان المسانخة بين الفاعل و فعله، و قد فرض أنّه واحد مطلق فالوجود الّذي هو فعله، و أثره المجعول واحد غير كثير و مطلق غير محدود و هو المطلوب.

فما يتراءى في الممكنات من جهات الاختلاف الّتي تقضي بالتحديد من النقص و الكمال و الوجدان و الفقدان عائدة إلى أنفسها دون جاعلها.

و هي إن كانت في أصل وجودها النوعيّ أو لوازمها النوعيّة فمنشأها ماهيّاتها القابلة للوجود بإمكانها الذاتيّ كالإنسان و الفرس المختلفين في نوعيهما و لوازم نوعيهما و إن كانت في كمالاتها الثانية المختلفة باختلاف أفراد النوع من فاقد للكمال محروم منه و واجد له و الواجد للكمال التامّ أو الناقص فمنشأها اختلاف الاستعدادات المادّيّة باختلاف العلل المعدّة المهيّأة للاستفاضة من العلّة المفيضة.

فالّذي تفيضه العلّة المفيضة من الأثر واحد مطلق، لكنّ القوابل المختلفة تكثّره باختلاف قابليّتها فمن رادّ له متلبّس بخلافه و من قابل يقبله تامّاً و من قابل يقبله ناقصاً و يحوّله إلى ما يشاكل خصوصيّة ما فيه من الاستعداد كالشمس الّتي تفيض نوراً واحداً متشابه الأجزاء لكنّ الأجسام القابلة لنورها تتصرّف فيه على حسب ما عندها من القوّة و الاستعداد.

فإن قلت لا ريب في أنّ هذه الاختلافات اُمور واقعيّة فإن كان ما عدّ منشأ لها من الماهيّات و الاستعدادات اُموراً وهميّة غير واقعيّة لم يكن لإسناد هذه الاُمور الواقعيّة إليها معنى و رجع الأمر إلى الوجود الّذي هو أثر الجاعل الحقّ و هو خلاف ما ادّعيتموه من إطلاق الفيض، و إن كانت اُموراً واقعيّة غير وهميّة كانت من سنخ الوجود لاختصاص الأصالة به فكان الاستناد أيضاً إلى فعله تعالى و ثبت خلاف المدّعي.

٧٩

قلت: هذا النظر يعيد الجميع إلى سنخ الوجود الواحد و لا يبقى معه من الاختلاف أثر بل يكون هناك وجود واحد ظلّيّ قائم بوجود واحد أصليّ و لا يبقى لهذا البحث على هذا محلّ أصلاً.

و بعبارة اُخرى تقسيم الموجود المطلق إلى ماهيّة و وجود و كذا تقسيمه إلى ما بالقوّة و ما بالفعل هو الّذي أظهر السلوب في نفس الأمر و قسّم الأشياء إلى واجد و فاقد و مستكمل و محروم و قابل و مقبول و منشاؤه تحليل العقل الأشياء إلى ماهيّة قابلة للوجود و وجود مقبول للماهيّة، و كذا إلى قوّة فاقدة للفعليّة و فعليّة تقابلها أمّا إذا رجع الجميع إلى الوجود الّذي هو حقيقة واحدة مطلقة لم يبق للبحث عن سبب الاختلاف محلّ و عاد أثر الجاعل و هو الفيض واحداً مطلقاً لا كثرة فيه و لا حدّ معه فافهم ذلك.

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

ما وجب معه عليه الطلب والخروج. فلما انعكس ذلك وظهرت أمارات الغدر فيه وسوء الاتفاق ، رام الرجوع والمكافّة والتسليم كما فعل أخوه ، فمنع من ذلك وحيل بينه وبينه. فالحالان متفقان ، إلا أن التسليم والمكافّة عند ظهور أسباب الخوف لم يقبلا منه ، ولم يجب إلى الموادعة ، وطلبت نفسه فمنع منها بجهده ، حتّى مضى كريما إلى جنة الله ورضوانه ، وهذا واضح لمتأمله (انتهيكلام السيد المرتضى).

٢٨٧ ـ تعليق العلامة المجلسي :(أسرار الشهادة للدربندي ، ص ٢٦)

قال المحقق المحدث المجلسي بعد نقل كلام السيد المرتضى :

وقد مضى في كتابه (الإمامة) وكتاب (الفتن) أخبار كثيرة دالة على أن كلا منهمعليه‌السلام كان مأمورا بأمور خاصة ، مكتوبة في الصحف السماوية النازلة على الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فهم كانوا يعملون بها. ولا ينبغي قياس الأحكام المتعلقة بهم على أحكامنا. وبعد الاطلاع على أحوال الأنبياءعليهم‌السلام وأن كثيرا منهم كانوا يبعثون فرادى في ألوف من الكفرة ، ويسبّون آلهتهم ويدعونهم إلى دينهم ، ولا يبالون بما ينالهم من المكاره والضرب والحبس والقتل والإلقاء في النار ، ولا ينبغي الاعتراض على أئمة الدين في أمثال ذلك ، مع أنه بعد ثبوت عصمتهم بالبراهين والنصوص المتواترة ، لا مجال للاعتراض عليهم ، بل يجب التسليم لهم في كل ما صدر عنهم.

على أنك لو تأملت حق التأمل علمت أنهعليه‌السلام فدى بنفسه المقدسة دين جدهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولم تنزلزل أركان دولة بني أمية إلا بعد شهادته ، ولم يظهر للناس كفرهم وضلالتهم إلا عند فوزه بسعادته. ولو كان يسالمهم ويوادعهم كان يقوى سلطانهم ويشتبه على الناس أمرهم ، فتعود بعد حين أعلام الدين طامسة وآثار الهداية مندرسة. مع أنه قد ظهر لك من الأخبار السابقة أنهعليه‌السلام هرب من المدينة خوفا من القتل.

إلى مكة ، وكذا خرج من مكة بعد ما غلب على ظنه أنهم يريدون غيلته وقتله ، حتّى لم يتيسّر له أن يتمّ حجّه ، فتحلل وخرج منها خائفا يترقب. وقد كانوا ضيّقوا عليه جميع الأقطار ولم يتركوا له موضعا للفرار.

ولقد رأيت في بعض الكتب المعتبرة أن يزيد أنفذ عمرو بن سعيد بن العاص في عسكر عظيم ، وولاه أمر الموسم ، وأمّره على الحاج كلهم ، وكان قد أوصاه بقبض

٢٨١

الحسينعليه‌السلام سرا ، وإن لم يتمكن منه بقتله غيلة. ثم إنه دسّ مع الحاج في تلك السنة ثلاثين رجلا من شياطين بني أمية ، وأمرهم بقتل الحسينعليه‌السلام على أي حال اتفق. فلما علم الحسينعليه‌السلام بذلك حلّ من إحرام الحج وجعلها عمرة مفردة.

وقد روي بأسانيد معتبرة ، أنهعليه‌السلام لما منعه محمّد بن الحنفية عن الخروج

إلى الكوفة ، قال : «والله يا أخي لو كنت في جحر هامّة من هوام الأرض ، لاستخرجوني منه حتّى يقتلونني». بل الظاهر أنه لو كان يسالمهم ويبايعهم لا يتركونه ، لشدة عداوتهم وكثرة وقاحتهم ، بل كانوا يغتالونه بكل حيلة ويدفعونه بكل وسيلة. وإنما كانوا يعرضون البيعة عليه أولا لعلمهم بأنه لا يوافقهم في ذلك.ألا ترى مروان ابن الحكم كيف كان يشير على والي المدينة بقتله قبل عرض البيعة عليه؟. وكان عبيد الله بن زياد يقول : اعرضوا عليه فلينزل على أمرنا ، ثم نرى فيه رأينا؟.

ألا ترى كيف أمنّوا مسلم بن عقيل ، ثم قتلوه؟!.

فأما معاوية فإنه مع شدة عداوته وبغضه لأهل البيتعليهم‌السلام كان ذا دهاء ونكراء وحزم ، وكان يعلم أن قتلهم علانية يوجب رجوع الناس عنه وذهاب ملكه وخروج الناس عليه ، فكان يداريهم ظاهرا على كل حال. ولذا صالحه الحسنعليه‌السلام ولم يتعرض له الحسينعليه‌السلام . ولذا كان معاوية يوصي ولده اللعين بعدم التعرض للحسينعليه‌السلام لأنه كان يعلم أن ذلك يصير سببا لذهاب دولته (انتهى كلام العلامة المجلسي).

٢٨٨ ـ لماذا خرج الحسينعليه‌السلام بعياله إلى العراق؟ :(مقتل المقرم ص ١٢٥)

ان الكلمة السديدة الناضجة في وجه حمل الحسين عياله إلى العراق مع علمه بما يقدم عليه ومن معه على القتل ، هو أنهعليه‌السلام لما علم بأن قتلته سوف تذهب ضياعا لو لم يتعقبها لسان ذرب(١) وجنان ثابت ، يعرّفان الأمة ضلال ابن ميسون(يزيد) وطغيان ابن مرجانة (ابن زياد) ، باعتدائهما على الذرية الطاهرة الثائرة في وجه المنكر ، ودحض ما ابتدعاه في الشريعة المقدسة.

وعرف سيد الشهداءعليه‌السلام من حرائر الرسالةعليه‌السلام الصبر على المكاره وملاقاة

__________________

(١) ذرب اللسان : ذو لسان حادّ. ولسان ذرب : أي فصيح.

٢٨٢

الخطوب والدواهي بقلوب أرسى من الجبال ، فلا يفوتهن تعريف الملأ المغمور بالترّهات والأضاليل ، نتائج أعمال هؤلاء المضلين ، وما يقصدونه من هدم الدين ، وأن الشهداء أرادوا بنهضتهم مع إمامهم إحياء شريعة جده محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وفي الحقيقة لقد أدت عقائل الوحي هذه الرسالة الجوهرية الخطيرة ، بجرأة وإخلاص ، وثبات ورباطة جأش ، رغم تفاقم الخطب وعظم المصيبة وقساوة المحنة فهاهي عقيلة الوحي زينبعليها‌السلام أخت الحسينعليه‌السلام تقف بجرأة وحزم أمام ابن زياد الجبار المتهور ، تفرغ عن لسان أبيها ، تقول له بكلام أنفذ من السهم ، وتلقمه حجرا وهي تقول :

«هؤلاء قوم كتب الله عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم ، وسيجمع الله بينك وبينهم فتحاجّ وتخاصم ، فانظر لمن الفلج (أي الفوز) ثكلتك أمك يابن مرجانة».ثم لا ننسى خطبها في الكوفة ومواقفها في الشامعليها‌السلام .

وها هي فاطمة بنت الحسين وأم كلثوم وسكينةعليهم‌السلام يتحدثن بمثل ما تحدثت به عمتهن زينبعليها‌السلام ، في ذلك الموقف الرهيب المحفوف بسيوف الخسف والغدر والجور ، فما يستطيع أحد أن يتفوه بكلمة واحدة مهما أوتي من الجرأة والثبات والصمود ، ومهما بلغ من القوة والمنعة والمنزلة ، فكيف بهنّ وقد أعلنّ للملأ أجمع عن كل موبقات ابن ميسون وابن مرجانة.

هذا على أنه وإن وضع الله الجهاد ومكافحة الأعداء عن المرأة وأمرها بلزوم بيتها ، فذاك فيما إذا قام بتلك المكافحة غيرها من الرجال ، وأما إذا توقف إقامة الحق عليها فقط ، بحيث لولا قيامها لدرست أسس الشريعة وذهبت الغاية من تضحية الصفوة ، كان الواجب القيام به.

ينتج من هذا أن جهاد العقيلات في معركة كربلاء كان في طرف موازنة مع جهاد الشهداء.

وجاء في (اللهوف) ص ٤٧ : ومما يمكن أن يكون سببا لحمل الحسينعليه‌السلام عياله ، أنه إن تركها بالحجاز أو غيرها من البلاد ، كان يزيد بن معاوية قد أنفذ ليأخذهن إليه ، وصنع بهن من الاستئصال وسيّئ الأعمال ، ما يمنع الحسين من الجهاد والشهادة.

٢٨٣

٥ ـ هل ألقى الحسينعليه‌السلام بيده إلى التهلكة؟

٢٨٩ ـ هل عرّض الحسينعليه‌السلام نفسه للتهلكة؟ :

(مقتل الحسين للمقرّم ، ص ٣٩)

يقول السيد عبد الرزاق المقرّم عن استشهاد الأئمةعليهم‌السلام :

وليس في إقدامهم على الشهادة إعانة على إزهاق نفوسهم القدسية وإلقائها في التهلكة الممنوع منه بنص الذكر المجيد ، فإن الإبقاء على النفس والحذر من إيرادها مورد الهلكة إنما يجب إذا كان مقدورا لصاحبها أو لم يقابل بمصلحة أهمّ من حفظها. وأما إذا وجدت هنا لك مصلحة تكافىء تعريض النفس للهلاك ، كما في الجهاد والدفاع عن النفس ، مع العلم بتسرب القتل إلى فئة من المجاهدين ، فيجب عندها بذل النفس والتضحية بها. ولقد أمر الله الأنبياء والمرسلين والمؤمنين فمشوا إليه قدما موطّنين أنفسهم على القتل وكم فيهم سعداء ، وكم من نبي قتل في سبيل دعوته ولم يبارح قوله دعوته حتّى أزهقت نفسه الطاهرة!. وقد تعبّد الله طائفة من بني إسرائيل بقتل أنفسهم فقال :( إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ فَتابَ ) [البقرة : ٥٤].

وقد أثنى سبحانه على المؤمنين في إقدامهم على القتل والمجاهدة في سبيل تأييد الدعوة الإلهية ، فقال تعالى :( إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ ) [التوبة : ١١١] وقال تعالى :( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ ) [البقرة : ٢٠٧] وقال تعالى :( وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ) (١٦٩) [آل عمران : ١٦٩].

٢٩٠ ـ التعبّد بالقتل أسمى درجات السعادة ، وليس هو إلقاء إلى التهلكة :

(اللهوف للسيد ابن طاووس ، ص ١٢)

يقول السيد ابن طاووس : ولعل بعض من لا يعرف حقائق شرف السعادة بالشهادة ، يعتقد أن الله لا يتعبّد بمثل هذه الحالة. أما سمع في القرآن الصادق المقال ، أنه تعبّد قوما بقتل أنفسهم ، فقال تعالى :( إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ ) [البقرة : ٥٤] أنه هو القتل ، وليس الأمر كذلك ، وإنما التعبد به من أبلغ درجات السعادة.

٢٨٤

ثم يعرض تفسير آية التهلكة بما ذكره الإمام الصادقعليه‌السلام ، وهو أن بعض الصحابة تخلّفوا عن نصرة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأقاموا في بيوتهم لإصلاح أحوالهم ، فنزلت الآية :( وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ) [البقرة : ١٩٥] ومعناه : إن تخلّفتم عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأقمتم في بيوتكم ألقيتم بأيديكم إلى التهلكة وسخط الله عليكم فهلكتم. وليست هذه الآية في رجل يحرّض على العدو أو يطلب الشهادة بالجهاد في سبيل الله رجاء الثواب والآخرة.

٢٩١ ـ دفع شبهة : هل ألقى الحسينعليه‌السلام بنفسه إلى التهلكة؟ :

(الأنوار النعمانية لنعمة الله الجزائري ، ج ٢ ص ٢٣٦)

يقول السيد نعمة الله الجزائري :

واعلم أن جماعة من مخالفينا أورد واهنا شبهة ، بل وربما قاله بعض الجهال فينا ، وهو أن الحسينعليه‌السلام كان عالما بأن يجري عليه ما جرى قبل مسيره إلى العراق ، فلم سار إليها حتّى صار كالمعين على نفسه؟. وهذه شبهة ركيكة ، والجواب عنها من وجوه :

الوجه الأول : أن الإمام إذا وجد الأعوان وجب عليه القيام بأمر الجهاد ، ولا يجوز له التقاعد عنه لظنه بهم الخذلان له ، كما لم يجز للأنبياءعليهم‌السلام ترك الجهاد لهذه المظنّة ، بل قاموا بالدعوة حتّى أصيبوا من الأمة بالمصائب العظام ، كما وقع لأولي العزم وغيرهم ، استتماما لحجة الله تعالى على الخلائق.

الوجه الثاني : أنهعليه‌السلام لو لم يسر إلى العراق لما تركوه ، ولو ذهب إلى المكان البعيد ، مصداقا لقولهعليه‌السلام لأخيه محمّد بن الحنفية ، حين نصحه بأن يلحق بالرمال من اليمن حتّى ينظر بواطن أهل العراق ، فقال له : يا أخي نعم ما رأيت من الصلاح ، ولكن هؤلاء القوم ما يسكتون عن طلبي أينما ذهبت حتّى يسفكوا دمي ، فعند ذلك يلبسهم الله ذلّ الدنيا والآخرة.

الوجه الثالث : أن الأنبياء والأئمةعليهم‌السلام قد خصّهم الله تعالى بأنواع من التكاليف ، فلعل هذا ـ وهو الإلقاء إلى التهلكة ـ منها ، نظرا إلى الحكم والمصالح الإلهية.

فإن قلت : كيف لم يبايع ليزيد حتّى لا يصل إليه الضرر ، كما بايع أخوه الحسنعليه‌السلام ؟ قلت : هذا مجرد كلام ، والمؤمن لا يلدغ من جحر مرتين. وذلك

٢٨٥

أنهعليه‌السلام رأى أخاه الحسنعليه‌السلام لما سالم معاوية ، وكيف فعل به أولا ، وكيف غدر به آخرا ، حتّى قتله مسموما. فما كان يصنع ابنه يزيد مع الحسينعليه‌السلام إلا أسوأ من هذا ، لأن معاوية كان فيه الدهاء ، وما كان يتجرأ على قتل الحسينعليه‌السلام ظاهرا ، ولهذا أوصى عند موته ليزيد ، أنك [إن] تظفر بالحسينعليه‌السلام فلا تقتله ، واذكر فيه القرابة من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

٢٩٢ ـ بين هجرة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهجرة السبطعليه‌السلام :

(من وحي الثورة الحسينية لهاشم معروف الحسني ، ص ٣١)

يقول السيد هاشم معروف الحسني :

هناك هجرتان من أجل الإسلام ورسالة الإسلام :

الأولى منهما : كانت فرارا من الموت الّذي استهدف رسالة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بشخصه ، وقد نفّذها الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأمر من ربه ، ليتابع رسالته وينقذها من مشركي مكة وجبابرة قريش وعلى رأسهم أبو سفيان.

والثانية : قام بها سبطه الزكي الحسين بن عليعليه‌السلام ولكنها كانت للشهادة ، بعد أن أدرك أن الأخطار المحدقة برسالة جده ، لا يمكن تفاديها وتجاوزها إلا بشهادته.

لقد هاجر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من مكة إلى المدينة لأجل رسالته ، بعد أن تآمرت قريش على قتله لتتخلص منها ، لأن بقاءها وانتشارها مرهون بحياته ، وبعد أن وجدت أن جميع وسائل العنف التي استعملتها معه خلال ثلاثة عشر عاما لم تغير من موقفه شيئا ، كما لم تجدها جميع الاغراءات والعروض السخية. وكان ردّه الأخير على عروض أبي سفيان وأبي جهل ومغرياتهما أن قال : «والله لو وضعتم الشمس في يميني ، والقمر في شمالي ، على أن أترك هذا الأمر ما تركته ، حتّى يحكم الله أو أهلك دونه».

وظل الحزب الأموي بقيادة أبي سفيان وأبنائه يتحيّن الفرص ويستغل المناسبات ليجهض على الإسلام وعلى قادة الإسلام ، بعد أن عملوا بكل جهدهم لإفراغ الإسلام من مضمونه الحقيقي واتخاذه أداة ظاهرية للوصول إلى الحكم.

وحين عادت الجاهلية تعصف برياحها على بلاد الإسلام ، وتلقي بظلها على المسلمين ، سطع ضوء في الظلام ومن بين ركام الإسلام المتداعي ، وأضاءت للملأ

٢٨٦

ملامح أمل جديد في دياجي ذلك الظلام المطبق ، وبدا للعالم إنسان يخطّ على التراب بدمه هذه الكلمات :

«ألا وإني لا أرى الموت إلا سعادة ، والحياة مع الظالمين إلا برما».

إنه الحسين ، ابن علي وفاطمة الزهراءعليهم‌السلام سبط ذلك الرسول الّذي هاجر [الهجرة الأولى] من مكة إلى المدينة ، لأجل رسالته ولا نقاذها من الشرك والوثنية.جاء يهاجر [الهجرة الثانية] لأجل نفس الرسالة ولانقاذها من الشذوذ والانحراف والجور والفساد. خرج من مدينة جده محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى عاصمة أبيه الكوفة ، خرج مهاجرا لإحياء دين جده ورسالته ، وإيقاظ الآمال في نفوس الفقراء والمستضعفين ، الذين باتوا يساقون كالأنعام بيد الولاة والحكام.

ولقد رضي الحسينعليه‌السلام أن يقدّم نفسه وأهله قربانا لهذه الرسالة ، حين رأى الموت والشهادة أحلى إلى قلبه من العقد الّذي يزيّن جيد الفتاة ، وحين أدرك أن لا عزّة ولا كرامة إلا بالجهاد والفداء.

لقد هاجر الحسينعليه‌السلام من مدينة جدهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى أرض الشهادة والخلود ، ليقدّم دمه الزكي ودماء إخوته وأنصاره ثمنا لإحياء شريعة جده محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإنقاذها من الضياع والاندثار.

وهكذا كانت نهضة الحسينعليه‌السلام الامتداد الطبيعي لرسالة جده محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وجهاد الحسينعليه‌السلام امتدادا لجهاد جده وأبيهعليه‌السلام ، مصداقا لقول النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

«حسين مني وأنا من حسين». فعقيدة الحسين هي من النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ورسالة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تحيى وتبقى بالحسينعليه‌السلام .

٦ ـ معالم النهضة المقدسة

٢٩٣ ـ ثلاثة مشاعل من رسالة الحسينعليه‌السلام :

(مجلة الإسلام في معارفه وفنونه للشيخ حبيب آل إبراهيم ، بعلبك ،

السنة العاشرة ، العدد الأول ، نيسان ١٩٦٨)

ماهي رسالة الحسينعليه‌السلام ؟

تعال نسأل عنها الإمام الحسين نفسه

في يوم شهادته بالذات رفع الشهيد شعارات ثلاثة ،

٢٨٧

كانت خير عنوان للرسالة التي خرج يؤديها بدمه ،

ودم الشهداء الذين معه.

هذه الشعارات هي : المسؤولية ـ التصميم ـ العزّة.

١ ـ المسؤولية :

قال الإمام الحسينعليه‌السلام : «إني لم أخرج أشرا ولا بطرا ، ولا مفسدا ولا ظالما ، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر فمن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق ، ومن ردّ عليّ هذا أصبر حتّى يحكم الله وهو خير الحاكمين».

هذه الكلمات مشاعل ، تضيء الطريق للسالكين ، بها يحدد سيد الشهداء أغراض نهضته : إنه لم يخرج طمعا بمنصب ولا عن انحراف ، إنما خرج يطلب الإصلاح في دين جده خاتم الرسلصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، يريد أمرا بمعروف ونهيا عن منكر.

ها هنا مشعل!. الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. إنه المسؤولية ؛ مسؤولية المسلم عن عقيدته وممارستها.

ولقد كان أبو عبد الله الحسينعليه‌السلام حيثما سار وثار ، نموذجا مثاليا للمسلم حين تحيق بعقيدته الآفات والأخطار.

ثم قال الحسينعليه‌السلام : «فمن قبلني بقبول الحق ، فالله أولى بالحق ، ومن ردّ عليّ هذا أصبر ، حتّى يحكم الله ، وهو خير الحاكمين».

إنه ينادي : أيها الناس لا يكن ميزان قبولكم إياي شخصي ، إنما اقبلوني لأني أمثّل حقا. فمن قبلني فإنما يقبل الحق ، ومن ردّ عليّ فإنما يردّ على الحق هكذا ترتفع المبادئ فوق الأشخاص. وحينذاك تضيع النفوس وحاجاتها ، ويبقى المبدأ هو القائم البارز. ونعم ، يبقى الشخص بمقدار ما يمثّل من مبدأ.

٢ ـ التصميم :

وقالعليه‌السلام : «ألا وإن الدعيّ ابن الدعيّ ، قد ركز بين اثنتين : بين السّلةّ والذلة ، وهيهات منا الذلة ، يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون ، وجدود طابت ، وحجور طهرت ، وأنوف حميّة ، ونفوس أبيّة ، لا تؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام».

٢٨٨

ها هو الحسينعليه‌السلام يعلن تصميمه على أداء رسالته ، وأنه لن يتراجع. وأنه يؤثر أن يموت ميتة الكرام في سبيل الرسالة ، على أن يطيع اللئام ولكن لماذا؟. من أين ينبع هذا التصميم؟.

من الله ورسوله ، ومن تربيته ، ومن نفسه. فلا الله يرضى له التراجع ولا رسوله ، ولا حقّ من ربّوه ، ولا نفسه.

مزيج من الدوافع ، لا أشمل ولا أكمل : الدين والتربية والنفسية. كلها تدفعه لأن يعلنها صريحة مدوّية : أنه لن يتراجع عن أداء رسالته ، ولو كلّفه ذلك مصرعه ...والدين في المقدمة.

وهذا مشعل!. الدين حافز لا يرضى التراجع ، ولا يقبل بأنصاف الحلول.

٣ ـ العزّة :

ثم قالعليه‌السلام : «لا والله ، لا أعطيهم بيدي إعطاء الذليل ، ولا أقرّ إقرار العبيد».

كلمات تنضح بالعزة

إنه لن يسكت ذليلا ، ولن يسكت عبدا والمنحرفون يريدونه ذليلا وعبدا معا. ولو أنه ذل واستعبد لربما أنالوه ما يرضيه ؛ ولكنه عزّ ، وإذ عزّ ثار ولكم تكلّف.

العزة غاليا( وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ) [المنافقون : ٨].

وهذا مشعل!. الإيمان عزّ ، ولا ذلّ مع الإيمان.

٧ ـ أهداف نهضة الحسينعليه‌السلام

* مدخل :

قبل أن يسير الحسينعليه‌السلام من المدينة المنورة إلى مكة المكرمة ، دعا بدواة وبياض وكتب وصية تاريخية لأخيه محمّد بن الحنفية. وهذه الوصية هي أفضل وثيقة صادرة عن صاحب النهضة ، يوضح فيها بجلاء أهداف نهضته المباركة ، يقول فيها :

«إني لم أخرج أشرا (أي فرحا) ولا بطرا ، ولا مفسدا ولا ظالما ، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن

٢٨٩

المنكر ، وأسير بسيرة جدي محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وسيرة أبي علي بن أبي طالبعليه‌السلام .فمن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق ، ومن ردّ عليّ هذا أصبر حتّى يقضي الله بيني وبين القوم بالحق ، ويحكم بيني وبينهم وهو خير الحاكمين».

ففي هذه الوثيقة يبيّن الحسينعليه‌السلام ما يلي :

١ ـ أن نهضته ليس غرضها السلطان والدنيا وما يلازمها من الفرح والبطر ، ولا الإفساد والظلم.

٢ ـ أن نهضته تنطلق من مبدأ وجوب الإصلاح لكل فاسد ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

٣ ـ أن غايته الأولى والأخيرة إحقاق الحق الّذي أبطله المتحكمون والمبطلون ، المتمثل بسيرة جده محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأبيه عليعليه‌السلام .

٤ ـ أنه سوف يعمل جاهدا لتطبيق مبادئه السامية مستعينا بأنصار الحق ، وسوف يبذل في سبيل ذلك كل غال ورخيص ، ويصبر على تنفيذ ذلك ولو ضحّى بنفسه وما يملك.

والحسينعليه‌السلام رغم علمه بمصيره وشهادته ، التي وصلت حدّ الاشتهار ، إلا أنه كان يعمل وفق تكليفه الشرعي المبني على ظواهر الأمور.

٢٩٤ ـ هدفان رئيسيان للنهضة :

(الوثائق الرسمية لثورة الحسين لعبد الكريم الحسيني القزويني ، ص ١٢)

لو تصفحنا الوثائق الأولى لقائد هذه الثورة ـ الحسينعليه‌السلام ـ لرأيناها تحمل الهدفين التاليين :

١ ـ الثورة على حكم يزيد ، أي تغيير الجهاز الحاكم.

٢ ـ إقامة الشريعة الاسلامية وتطبيقها ، في مقابل المخالفات التي أشاعها الحكام آنذاك.

٢٩٥ ـ الحسينعليه‌السلام فاتح وليس مغامرا :(مقتل الحسين للمقرم ، ص ٥٦)

كان الحسينعليه‌السلام يعتقد في نهضته أنه فاتح منصور ، لما في شهادته من إحياء دين الرسول وإماتة البدعة وتفظيع أعمال المناوئين وتفهيم الأمة أنه أحق بالخلافة من غيره ، وإليه يشير في كتابه إلى بني هاشم :

٢٩٠

«من لحق بي منكم استشهد ، ومن تخلفّ لم يبلغ الفتح»(١) .

فإنهعليه‌السلام لم يرد بالفتح إلا ما يترتب على نهضته وتضحيته من نقض دعائم الضلال وكسح أشواك الباطل عن الشريعة المطهرة ، وإقامة أركان العدل والتوحيد ، وأن الواجب على الأمة القيام في وجه المنكر.

وهذا معنى كلمة الإمام زين العابدينعليه‌السلام لإبراهيم بن طلحة بن عبيد الله

لما سأله حين رجوعه إلى المدينة : «من الغالب؟». فقال السجّادعليه‌السلام : إذا دخل وقت الصلاة فأذّن وأقم ، تعرف الغالب!(٢) .

فإنه يشير إلى تحقّق الغاية التي ضحّى سيد الشهداء بنفسه القدسية من أجلها ، وفشل يزيد بما سعى له من إطفاء نور الله تعالى ومحو ذكر أهل البيتعليهم‌السلام ، وما أراده أبوه من نقض مساعي الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإمائة الشهادة له بالرسالة ، بعد أن كان الواجب على الأمة في أوقات الصلوات الخمس الإعلان بالشهادة لنبي الإسلام ، ذلك الّذي هدم صروح الشرك وأبطل عبادة الأوثان. كما وجب على الأمة الصلاة على النبي وعلى آله الطاهرين في التشهدين ، وأن الصلاة عليه بدون الصلاة على آله : بتراء(٣) .

كما أن العقيلة زينبعليها‌السلام أشارت إلى هذا الفتح بقولها ليزيد : «فكد كيدك ، واسع سعيك ، وناصب جهدك ، فو الله لا تمحو ذكرنا ، ولا تميت وحينا ، ولا تدرك أمدنا ، ولا يرحض عنك عارها وشنارها».

تصريحات الفيلسوف الألماني ماربين

٢٩٦ ـ أسرار شهادة الحسينعليه‌السلام للفيلسوف الألماني (ماربين):

(ذكرى الحسين للشيخ حبيب آل إبراهيم ، ج ٨ ص ٥٢)

قال الحكيم الألماني ماربين في كتابه (السياسة الإسلامية) من جملة كلام طويل :

لا يشك صاحب الوجدان إذا دقّق النظر في أوضاع ذاك العصر ، وكيفية نجاح بني

__________________

(١) كامل الزيارات ، ص ٧٥ ؛ وبصائر الدرجات للصفار ، ج ١٠ ص ١٤١.

(٢) أمالي الشيخ الطوسي.

(٣) الصواعق المحرقة ، ص ٨٧.

٢٩١

أمية في مقاصدهم واستيلائهم على جميع طبقات الناس وتزلزل المسلمين ، أن الحسين قد أحيا بقتله دين جده وقوانين الإسلام. ولو لم تقع تلك الواقعة ، ولم تظهر تلك الحسّيات الصادقة بين المسلمين لأجل قتل الحسين ، لم يكن الإسلام على ماهو عليه الآن قطعا ، بل كان من الممكن ضياع رسومه وقوانينه حيث كان يومئذ حديث العهد.

عزم الحسينعليه‌السلام على إنجاح هذا المقصد وإعلان الثورة ضد بني أمية من يوم توفي والده ، فلما قام يزيد مقام معاوية خرج الحسينعليه‌السلام من المدينة ، وكان يظهر مقصده العالي ، ويبث روح الثورة في المراكز الإسلامية المهمة كمكة والعراق وأينما حل ، فازدادت نفرة قلوب المسلمين ، التي هي مقدمة الثورة على بني أمية ، ولم يكن يجهل يزيد مقاصد الحسينعليه‌السلام ، وكان يعلم أن الثورة إذا أعلنت في جهة والحسين قائدها مع تنفر المسلمين عموما من حكومة بني أمية وميل القلوب وتوجه الانظار إلى الحسينعليه‌السلام ، عمّت جميع البلدان ، وفي ذلك زوال ملكهم وسلطانهم ، فعزم يزيد قبل كل شيء من يوم بويع على قتل الحسينعليه‌السلام . ولقد كان هذا أعظم خطأ سياسي صدر من بني أمية ، فجعلهم نسيا منسيا ولم يبق منهم أثر ولا خبر.

وأعظم الأدلة على أن الحسينعليه‌السلام أقدم على قتل نفسه ولم تكن من غرضه سلطنة ولا رئاسة ، هو أنه مضافا إلى ما كان عليه من العلم والسياسة والتجربة التي وقف عليها زمن أبيه وأخيه في قتال بني أمية ، كان يعلم أنه مع عدم تهيئة الأسباب له واقتدار يزيد ، لا يمكنه المقاومة والغلبة.

وكان يقول من يوم توفي والده إنه يقتل وأعلن يوم خروجه من المدينة أنه يمضي إلى القتل ، وأظهر ذلك لأصحابه والذين أتبعوه من باب إتمام الحجة ، حتى يتفرق الذين التفوا حوله طمعا بالدنيا ، وطالما كان يقول «وخير لي مصرع أنا لاقيه». ولو لم يكن قصده ذلك ولم يكن عالما عامدا ، لجمع الجنود ولسعى في تكثير أصحابه وزيادة استعداده ، لا أن يفرق الذين كانوا معه. ولكن لما لم يكن له قصد إلا القتل مقدمة لذلك المقصد العالي ، وإعلان الثورة المقدسة ضد يزيد ، رأى أن خير الوسائل إلى ذلك (الانفراد والمظلومية) ، فإنّ أثر هذه المصائب أشد وأكثر في القلوب.

من الظاهر أن الحسينعليه‌السلام مع ما كانت له من المحبوبية في قلوب المسلمين

٢٩٢

في ذلك الزمان ، لو كان يطلب قوة واستعدادا لأمكنه أن يخرج إلى حرب يزيد جيشا جرارا ، ولكنه لو صنع ذلك لكان قتله في سبيل السلطة والإمارة ، ولم يفز (بالمظلومية) التي انتجت تلك الثورة العظيمة. هذا هو الذي جعله لا يبقي معه إلا الذين لا يمكن انفكاكهم عنه ، كأولاده وإخوانه وبني أخوته وبني أعمامه وجماعة من خواص أصحابه ، حتى أنه أمر هؤلاء أيضا بمفارقته ، ولكنهم أبوا عليه ذلك ، وهؤلاء أيضا كانوا من المعروفين بين المسلمين بجلالة القدر وعظم المنزلة وقتلهم معه مما يزيد في عظم المصيبة وأثر الوقعة. نعم إن الحسينعليه‌السلام بمبلغ علمه وحسن سياسته بذل كمال جهده في إفشاء ظلم بني أمية وإظهار عداوتهم لبني هاشم وسلك في ذلك كل طريق.

ولما كان يعلم الحسينعليه‌السلام عداوة بني أمية له ولبني هاشم ، ويعرف أنهم بعد قتله يأسرون عياله وأطفاله ـ وذلك يؤيد مقصده ويكون له أثر عظيم في قلوب المسلمين سيما العرب كما قد وقع ـ حملهم معه وجاء بهم من المدينة.

نعم إن ظلم بني أمية وقساوة قلوبهم في معاملاتهم مع حرم محمد وصباياه أثّر في قلوب المسلمين تأثيرا عظيما لا ينقص عن أثر قتله وأصحابه. ولقد أظهر في عمله هذا عقيدة بني أمية في الإسلام وسلوكهم مع المسلمين سيما ذراري نبيهم. لهذا كان الحسين يقول في جواب أصحابه والذين كانوا يمنعونه عن هذا السفر : «إني أمضي إلى القتل» ولما كانت أفكار المانعين محدودة وأنظارهم قاصرة لا يدركون مقاصد الحسينعليه‌السلام العالية ، لم يألوا جهدهم في منعه ، وآخر ما أجابهم به أن قال لهم «شاء الله ذلك وجدي أمرني به». فقالوا إن كنت تمضي إلى القتل فما وجه حملك النسوة والأطفال ، فقال : «إن الله شاء أن يراهن سبايا». ولما كان الحسين بينهم رئيسا روحانيا لم يكن لهم بدّ من السكوت.

ومما يدل على أنه لم يكن له غرض إلا ذلك المقصد العالي الذي كان في نفسه ، ولم يتحمل تلك المصائب لسلطنة وإمارة ولم يقدم على هذا الخطر من غير علم ودارية ـ كما تصوره بعض المؤرخين منا ـ أنه قال لبعض ذوي النباهة قبل الواقعة بأعوام كثيرة ، على سبيل السلوة : إنه بعد قتلي وظهور تلك المصائب المحزنة ، يبعث الله رجالا يعرفون الحق من الباطل ، يزورون قبورنا ، ويبكون على مصابنا ، ويأخذون بثأرنا من أعدائنا ، أولئك جماعة ينشرون دين الله وشريعة جدي ، وأنا وجدي نحبهم وهو يحشرون معنا يوم القيامة. وليتأمل المتأمل في كلام

٢٩٣

الحسينعليه‌السلام وحركاته يرى أنه لم يترك طريقا من السياسة إلا سلكه في إظهار شنائع بني أمية وعداوتهم القلبية لبني هاشم ومظلومية نفسه ، وهذا مما يدل على حسن سياسته وقوة قلبه وتضحية نفسه ، في طريق الوصول إلى المقصد الذي كان في نظره ، حتى أنه في آخر ساعات حياته عمل عملا حير عقول الفلاسفة ، ولم يصرف نظره عن ذلك المقصد العالي مع تلك المصائب المحزنة والهموم المتراكمة وكثرة العطش والجراحات ، وهو قصة (عبد الله الرضيع). فلما كان الحسينعليه‌السلام يعلم أن بني أمية لا يرحمون له صغيرا رفع طفله الصغير تعظيما للمصيبة على يده أمام القوم وطلب منهم أن يأتوه بشربة من الماء فلم يجيبوه إلا بالسهم.

ويغلب على الظن أن غرض الحسينعليه‌السلام من هذا العمل تفهيم العالم بشدة عداوة بني أمية لبني هاشم وأنها إلى أي درجة بلغت. ولا يظن أحد أن يزيد كان مجبورا على تلك الأعمال المفجعة لأجل الدفاع عن نفسه ، لأن قتل الطفل الرضيع في تلك الحال بتلك الكيفية ، ليس هو إلا توحش وعداوة سبعية ، منافية لقواعد كل دين وشريعة ، ويمكن أن تكون هذه الفاجعة كافية لافتضاح بني أمية ورفع الستار عن قبائح أعمالهم ونياتهم السيئة بين العالم ، سيما المسلمين ، وأنهم يخالفون الإسلام في حركاتهم بل يسعون بعصبية جاهلية إلى إبادة آل محمد وجعلهم أيدي سبأ.

ونظرا لتلك المقاصد العالية التي كانت في نظر الحسينعليه‌السلام مضافا إلى وفور علمه وسياسته التي كان لا يشك فيها اثنان لم يرتكب أمرا يوجب إجبار بني أمية للدفاع عن أنفسهم ، حتى أنه مع ذلك النفوذ والاقتدار الذي كان له في ذلك العصر لم يسع في تسخير البلاد الإسلامية وضمها إليه ولا هاجم ولاية من ولايات يزيد إلى أن حاصروه في واد غير ذي زرع ، قبل أن تبدو منه أقل حركة عدائية أو تظهر منه ثورة ضد بني أمية لم يقل الحسينعليه‌السلام سأكون ملكا أو سلطانا أو أصبح صاحب سلطة. نعم كان يبث روح الثورة في المسلمين بنشره شنائع بني أمية واضمحلال الدين إن دام ذلك الحال ، وكان يخبر بقتله ومظلوميته وهو مسرور. ولما حوصر في تلك الأرض القفراء أظهر لهم من باب إتمام الحجة بأنهم لو تركوه لرحل بعياله وأطفاله وخرج من سلطة يزيد ، ولقد كان لهذا الإظهار الدال على سلامة نفس الحسينعليه‌السلام في قلوب المسلمين غاية التأثير.

لقد قتل قبل الحسينعليه‌السلام ظلما وعدوانا كثير من الرؤساء الروحانيين وأرباب

٢٩٤

الديانات وقامت الثورة بعد قتلهم بين تابعيهم ضد الأعداء ، كما وقع مكررا في بني إسرائيل ، وقصة يحيى من أعظم الحوادث التاريخية ، ومعاملة اليهود مع المسيح لم ير نظيرها إلى ذلك العهد ، ولكن واقعة الحسينعليه‌السلام فاقت الجميع لم يرشدنا التاريخ إلى أحد من الروحانيين وأرباب الديانات أنه أقدم على قتل نفسه عالما عامدا لمقاصد عالية لا تنجح إلا بقتله ، فإن كل واحد من أرباب الديانات الذين قتلوا ، ثار عليهم أعداؤهم وقتلوهم ظلما ، وبمقدار مظلوميتهم قامت الثورة بعدهم ، ومقاصد الحسينعليه‌السلام كانت على علم وحكمة وسياسة وليس لها نظير في التاريخ ، فإنه لم يزل يوالي السعي في تهيئة أسباب قتله نظرا لذلك المقصد العالي ، ولم نجد في التاريخ رجلا ضحّى بحياته عالما عامدا لترويج ديانته من بعده إلا الحسينعليه‌السلام .

المصائب التي تحمّلها الحسينعليه‌السلام في طريق إحياء دين جده تفوق على مصائب أرباب الديانات السابقين ، ولم ترد على أحد منهم. نعم إن هناك رجالا قتلوا في طريق إحياء الدين ولكنهم لم يكونوا كالحسين ، فإنه ضحّى بنفسه العزيزة في طريق إحياء دين جده وفداه بأولاده وإخوانه وأقربائه وأحبابه وأمواله وعياله ، ولم تقع هذه المصائب دفعة واحدة حتى تكون في حكم مصيبة واحدة ، بل وقعت متوالية واحدة بعد أخرى ، ويختص الحسينعليه‌السلام دون غيره بتواتر أمثال هذه المصائب كما يشهد له التاريخ.

لم تنته المصائب التي وردت على الحسينعليه‌السلام من قتله وقتل أصحابه وتسيير نسائه وبناته ، إلا وانكشف الغطاء عن سرائر بني أمية وقبائح أعمالهم ، وظهرت بين المسلمين الحسيات السياسية ، وتوطدت أسباب الثورة ضد سلطنة يزيد وبني أمية ، وعلم الجميع أن بني أمية مخربو الإسلام ، وصار الجميع يرفض بدعهم وتقولاتهم ، وعرفوا بالظلم والغصب ، بالعكس من بني هاشم فإنهم عرفوا بالمظلومية وأن لهم الرئاسة الروحانية بالاستحقاق ، وإليهم تنمى الحقيقة الروحانية.

كأن المسلمين بعد قتل الحسينعليه‌السلام قد دخلوا في دور جديد وظهرت الروحانية الإسلامية بأجلى مظاهرها وتجددت بعد أن كانت مندرسة غائبة عن أذهان المسلمين وكما أنه لا يشك اثنان في تفوق مصائب الحسينعليه‌السلام على جميع مصائب روحاني السلف ، فكذلك لا يشك في الثورة التي حدثت بعده بأنها فاقت جميع الثورات السالفة وأن امتدادها وأثرها أكثر ، وأن بها ظهرت للعالم (مظلومية

٢٩٥

آل محمد) فكانت أولى نتائج هذه الثورة اختصاص الرئاسة الروحانية التي لها أهمية عظمى في عالم السياسة ببني هاشم ، وخصوصا في أولاد الحسينعليه‌السلام (فكان منهم أئمة الشيعة) ونظرة عموم المسلمين إلى بني هاشم سيما أولاد الحسين نظرهم إلى الروحانيين. ولم يطل العهد حتى نزعت تلك السلطة من بني أمية وزالت السلطة والقدرة من آل يزيد في أقل من قرن ، واندرست آثارهم على وجه لم يبق منهم عين ولا أثر. وأينما ذكرت أسماؤهم في متون الكتب قرنها المسلمون بكلمة الشماتة ، وكل ذلك نتيجة سياسة الحسين الذي يمكن أن يقال إنه لم يأت في أرباب الديانات والروحانيين رجل عرف عواقب الأمور مع بعد نظر وحسن سياسة كالحسينعليه‌السلام .

قبل أن تصل سبايا الحسين إلى الشام قامت الثورة ضد يزيد وظهرت بمظلومية الحسين سرائر بني أمية ، وكشف الغطاء عن نياتهم وتوجه اللوم على يزيد حتى من أهل بيته وحرمه(١) . وصار يزيد يسمع تقديس الحسينعليه‌السلام وأولاد علي وعظمتهم ومظلوميتهم بعد أن لم يكن يمكن ذكرهم عنده بخير. وكان يصعب عليه ذلك إلا أنه لم يكن له بدّ غير السكوت ، ولما أراد تبرئة نفسه من تلك الأعمال ألقى المسؤولية على عماله ولم يزل يسمع محامد الحسينعليه‌السلام . قال يزيد ذات يوم : إن سلطنة الحسين كانت أهون عليّ من هذا المقام العالي الذي فاز به آل علي وبنو هاشم.

وأخيرا فشيعة الحسينعليه‌السلام لم يزالوا يستفيدون من هذه الثورات ، وتزيد قوة بني هاشم وعظمتهم حتى لم يمض أقل من قرن إلا وصارت السلطنة الإسلامية الوسيعة في بني هاشم من دون مزاحم ، وأبادوا بني أمية على وجه لم يبق منهم اسم ولا رسم. (انتهى كلام ماربين).

__________________

(١) قال السيد عبد الرزاق المقرم في مقتله صفحة ٢٠ : ولقد فشا الانكار على يزيد حتى من حريمه وأهل بيته ، حتى أن زوجته هند بنت عمرو بن سهيل وكان زوجة عبد الله بن عامر بن كريز ، فأجبره معاوية على طلاقها لرغبة يزيد فيها فإنها لما أبصرت الرأس مصلوبا على باب دارها ، والأنوار النبوية تتصاعد منه إلى عنان السماء ، وشاهدت الدم يتقاطر طريا ويشم منه رائحة طيبة ، عظم مصابه في قلبها فلم تتمالك أن دخلت على يزيد في مجلسه مهتوكة الحجاب وهي تصيح : رأس ابن بنت رسول الله مصلوب على دارنا. فقام إليها وغطاها وقال لها : أعولي على الحسين فإنه صريخة بني هاشم ، عجّل عليه ابن زياد قصد بذلك تعمية الامر وإبعاد السبة عنه وذلك بإلقاء التبعة على عامله

٢٩٦

إنها لكلمات حرة صادقة جاءت على لسان رجل غربي مدقق مطّلع. ومن المؤسف أن نرى أمثال هذا الفيلسوف من الغربيين أشد إنصافا ودفاعا عن الحق ، حتى من علماء العرب أنفسهم (وإن تتولّوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم) صدق الله العظيم.

٢٩٧ ـ مختصر ما حصل للحسينعليه‌السلام حتّى مقتله :

(تاريخ الخلفاء للسيوطي ، ص ٢٠٧)

يقول السيوطي : فأما ابن الزبير فلم يبايع ، ولا دعا إلى نفسه.

وأما الحسينعليه‌السلام فكان أهل الكوفة يكتبون إليه يدعونه إلى الخروج إليهم زمن معاوية ، وهو يأبى. فلما بويع يزيد أقام على ما هو مهموما ، يجمع الإقامة مرة ، ويريد المسير إليهم أخرى. فأشار عليه ابن الزبير بالخروج.

وكان ابن عباس يقول له : لا تفعل.

وقال له ابن عمر : «لا تخرج ، فإن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خيّره الله بين الدنيا والآخرة فاختار الآخرة. وإنك بضعة منه ، ولا تنالها (أي الدنيا).

(وفي رواية تهذيب التهذيب لابن حجر العسقلاني ، ج ٢ ص ٣٥٧) : «لا ينالها أحد منكم ، وما صرفها الله عنكم إلا للذي هو خير ، فأبى».

واعتنقه [ابن عمر] وبكى ، وقال : أستودعك الله من قتيل!. فكان ابن عمر يقول :غلبنا حسين بالخروج ، ولعمري لقد رأى في أبيه وأخيه عبرة.

وكلّمه في ذلك أيضا جابر بن عبد الله الأنصاري وأبو سعيد الخدري وأبو واقد الليثي وغيرهم ، فلم يطع أحدا منهم.

وصمم على المسير إلى العراق. فقال له ابن عباس : والله إني لأظنك ستقتل بين نسائك وبناتك كما قتل عثمان ، فلم يقبل منه. فبكى ابن عباس وقال : أقررت عين ابن الزبير.

وبعث أهل العراق إلى الحسينعليه‌السلام الرسل والكتب يدعونه إليهم ، فخرج من مكة إلى العراق في عشر ذي الحجة ، ومعه طائفة من آل بيته ، رجالا ونساء وصبيانا.

فكتب يزيد إلى واليه بالعراق عبيد الله بن زياد بقتاله ، فوجّه إليه جيشا من أربعة آلاف ، عليهم عمر بن سعد بن أبي وقاص ، فخذله أهل الكوفة ، كما هو شأنهم مع

٢٩٧

أبيه من قبله. فلما رهقه السلاح عرض عليهم الاستسلام والرجوع ، والمضي إلى يزيد فيضع يده في يده [هذه الدعوى مغلوطة من وضع الإعلام الأموي] فأبوا إلا قتله!. فقتل وجيء برأسه في طست ، حتّى وضع بين يدي ابن زياد ؛ لعن الله قاتله ، وابن زياد معه ويزيد أيضا.

ويتابع السيوطي حديثه فيقول : وكان قتله بكربلاء. وفي قتله قصة فيها طول ، لا يحتمل القلب ذكرها ، فإنا لله وإنا إليه راجعون. وقتل معه ستة عشر رجلا من أهل بيته

ولما قتل الحسينعليه‌السلام وبنو أمية ، بعث ابن زياد برؤوسهم إلى يزيد ، فسرّ بقتلهم أولا ، ثم ندم لمّا مقته المسلمون على ذلك ، وأبغضه الناس ، وحقّ لهم أن يبغضوه. اه

٨ ـ ثمرات النهضة الحسينية

٢٩٨ ـ نهضة الحسينعليه‌السلام تحقق أهدافها القريبة والبعيدة ، ثمرات نهضة الحسينعليه‌السلام :

(الأئمة الاثنا عشر لعادل الأديب ، ص ١٣٦)

لقد استطاعت ثورة الحسينعليه‌السلام أن تحقق من قيامها الثمرات التالية :

١ ـ وضع الحدّ الفاصل أمام الجماهير ، بين الإسلام الصحيح والحكم الأموي الخادع ، وتحطيم الإطار الديني المزيّف الّذي كان الأمويون يحيطون به سلطانهم ، وبيان مدى بعده عن الدين.

٢ ـ الشعور بالإثم : ولّد استشهاد الحسينعليه‌السلام المفجع في كربلاء في ضمير كل مسلم استطاع أن ينصره فلم ينصره ، بعد أن عاهده على الثورة ولّد فيهم الشعور بالإثم ، ولزوم التكفير عن ذلك التقصير.

ولقد قدّر لهذا الشعور بالإثم أن يظل دائم الأوار ، حافزا دائما إلى الثورة والانتقام ، من رؤوس الفتنة والانحراف ، وقدّر له أن يدفع الناس إلى الثورات على الأمويين والظالمين كلما سنحت الفرصة.

٣ ـ تنمية الروح النضالية في الإنسان المسلم ، وتحطيم كل الحواجز النفسية والاجتماعية التي حالت دون الثورة.

٢٩٨

ولكي نخرج بفكرة واضحة عن مدى تأثير ثورة الحسينعليه‌السلام في بعث روح الثورة والنضال في المجتمع الإسلامي ، يحسن بنا أن نلاحظ أن هذا المجتمع خلال عشرين عاما من مقتل الإمام عليعليه‌السلام وحتى ثورة الحسينعليه‌السلام أخلد إلى السكون ولم يقم بأي ثورة أو احتجاج جدّي جماعي على ألوان الاضطهاد والظلم والقتل وسرقة أموال الأمة ، التي كان يقوم بها الأمويون وأعوانهم ، بل خلد إلى الخنوع والنوم والتسليم.

أما بعد ثورة الحسينعليه‌السلام واستشهاده ، فقد اندلعت الثورات على يد الجماهير وتوثّبت الروح النضالية فيهم ، وبدؤوا يبحثون عن زعيم يقودهم لنزع قيد الخنوع والاستسلام ، وإرجاع الحياة والحركة للإسلام. ونلاحظ هذه الروح الثورية في كل الثورات التي حملت شعار الثأر لدم الحسينعليه‌السلام والتي هي في واقعها تثأر لكرامة الإسلام والمسلمين.

٢٩٩ ـ ثورات على خطّ الحسينعليه‌السلام :(المصدر السابق ، ص ١٣٩)

ونجمل هنا ذكر بعض هذه الثورات :

١ ـ ثورة التوابين : التي اندلعت في الكوفة بقيادة الصحابي سليمان بن صرد الخزاعي ، وكانت ردّ فعل مباشر لمقتل الحسينعليه‌السلام ، وانطلقت من مبدأ الشعور بالإثم والتقصير في نصرة الحسينعليه‌السلام . وكانت سنة ٦٥ ه‍.

٢ ـ ثورة أهل المدينة : وكانت تهدف إلى تقويض سلطان الأمويين الظالم اللاإسلامي ، وقد بدأت هذه الثورة بطرد حاكم يزيد من المدينة ، ومعه كل الأمويين وعددهم ألف شخص. فكان من نتيجة ذلك أن بعث يزيد بالمجرم السفّاك مسلم بن عقبة المرّي ، الّذي اشتهر باسم (مسرف) من شدة ما أسرف في قتل أهل المدينة من أبناء الصحابة والتابعين. وقد سبى المدينة ثلاثة أيام ، حتّى أن جيشه افتضّ ألف فتاة عذراء من بنات الصحابة الأجلاء.

٣ ـ ثورة المختار الثقفي : الّذي خرج من العراق طالبا الأخذ بالثأر من قتلة الحسينعليه‌السلام ، وذلك سنة ٦٦ ه‍. فتتبّع المختار قتلة الحسينعليه‌السلام وآله ، وقتلهم ومثّل بهم. فقتل منهم في يوم واحد مائتين وثمانين رجلا ، حتّى قتل منهم الآلاف.ولم ينج منه أحد ، حتّى عبيد الله بن زياد وعمر بن سعد وشمر بن ذي الجوشن وأضرابهم.

٢٩٩

٤ ـ ثورة ابن الأشعث : وفي سنة ٨١ ه‍ ثار عبد الرحمن بن محمّد بن الأشعث على الحجاج في العراق ، وخلع عبد الملك بن مروان. وقد استمرت ثورته إلى سنة ٨٣ ه‍ ، وأحرزت انتصارات عسكرية ، ثم قضى عليها الحجاج بمساعدة جيوش شامية.

٥ ـ ثورة الشهيد زيد بن علي : وفي سنة ١٢٢ ه‍ ثار في الكوفة على طغيان الأمويين زيد بن علي ، وهو ابن الإمام زين العابدينعليه‌السلام . ولكن سرعان ما أخمدت ثورته ، وقتل وصلبرحمه‌الله .

وكان من نتيجة هذه الثورات تقويض ملك بني أمية خلال تسعين سنة ، وقد كان يتوقع له أن يستمر مئات السنين.

فلسفة الابتلاء

٣٠٠ ـ الدنيا دار ابتلاء :

(الأنوار النعمانية للسيد نعمة الله الجزائري ، ج ٢ ص ٢٣٦)

يقول السيد نعمة الله الجزائري : اعلم أيّدك الله أن البلاء إنما كتب على المؤمن ، وأن الدنيا ليست بدار ثواب ولا بدار عقاب ، لم يرض سبحانه بأن يجعل ثواب المؤمن فيها ولا عقاب الكافر فيها ، وذلك لقلة أيامها ونقصان الأعمار فيها ، ومن ثم بعث الدواهي والمصائب فيها إلى أحبابه وأقاربه.

ولا مصيبة مثل مصيبة مولانا الحسينعليه‌السلام ، فإنها هدّت أركان الدين وصدّعت قواعد الشرع المبين ، وأبكت الأجفان وأقرحت القلوب. ولعمري إنها المصيبة التي يتسلى بها المؤمن عن كل مصاب ، والداهية المنسية له مفارقة الخلان والأحباب.

٣٠١ ـ المؤمن أشدّ ابتلاء :

(المنتخب للطريحي ، ص ١٦٨)

روي أن رجلا جاء إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فوقف بين يديه ، فقال : يا رسول الله إني أحب اللهعزوجل ، فقال : استعدّ للبلاء!. فقال : يا رسول الله وإني أحبك ، فقال له : استعدّ للفقر!. فقال : وإني أحبّ علي بن أبي طالبعليه‌السلام ، فقال : استعدّ لكثرة الأعداء!.

٣٠٠

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443