الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٣

الميزان في تفسير القرآن13%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 443

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 443 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 111431 / تحميل: 6253
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٣

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

فقوله:( وَ ما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا ) كالدفع لما يمكن أن يتوهّم من سابق الآيات المنبئة عن لحوق أثر الأعمال بصاحبها و بشارة الصالحين بالأجر الكبير و الطالحين بالعذاب الأليم فيوهم أنّ تبعات السيّئات أعمّ من العذاب الدنيويّ و الاُخرويّ سيترتّب عليها فيغشى صاحبها من غير قيد و شرط.

فاُجيب أنّ الله سبحانه برحمته الواسعة و عنايته الكاملة لا يعذّب الناس بعذاب الاستئصال و هو عذاب الدنيا إلّا بعد أن يبعث رسولاً ينذرهم به و إن كان له أن يعذّبهم به لكنّه برحمته و رأفته يبالغ في الموعظة و يتمّ الحجّة بعد الحجّة ثمّ ينزل العقوبة فقوله:( وَ ما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا ) نفي لوقوع العذاب لا لجوازه.

فالآية - كما ترى - ليست مسوقة لإمضاء حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان بل هي تكشف عن اقتضاء العناية الإلهيّة أن لا يعذّب قوماً بعذاب الاستئصال إلّا بعد أن يبعث إليهم رسولاً فيؤكّد لهم الحجّة و يقرعهم بالبيان بعد البيان.

و أمّا النبوّة الّتي يبلغ بها التكاليف و يبيّن بها الشرائع فهي الّتي تستقرّ بها المؤاخذة الإلهيّة و المغفرة، و يثبت بها الثواب و العقاب الاُخرويّان فيما لا يتبيّن فيه الحقّ و الباطل إلّا من طريق النبوّة كالتكاليف الفرعيّة، و أمّا الاُصول الّتي يستقلّ العقل بإدراكها كالتوحيد و النبوّة و المعاد فإنّما تلحق آثار قبولها و تبعات ردّها الإنسان بالثبوت العقليّ من غير توقّف على نبوّة أو رسالة.

و بالجملة اُصول الدين و هي الّتي يستقلّ العقل ببيانها و يتفرّع عليها قبول الفروع الّتي تتضمّنها الدعوة النبويّة، تستقرّ المؤاخذة الإلهيّة على ردّها بمجرّد قيام الحجّة القاطعة العقليّة من غير توقّف على بيان النبيّ و الرسول لأنّ صحّة بيان النبيّ و الرسول متوقّفة عليها فلو توقّف هي عليها لدارت.

و تستقرّ المؤاخذة الاُخرويّة على الفروع بالبيان النبويّ و لا تتمّ الحجّة فيها بمجرّد حكم العقل، و قد فصّلنا القول فيه في مباحث النبوّة في الجزء الثاني و في قصص نوح في الجزء العاشر من الكتاب، و في غيرهما. و المؤاخذة الدنيويّة بعذاب الاستئصال يتوقّف على بعث الرسول بعناية من الله سبحانه لا لحكم عقليّ

٦١

يحيل هذا النوع من المؤاخذة قبل بعث الرسول كما عرفت.

و للمفسّرين في الآية مشاجرات طويلة تركنا التعرّض لها لخروج أكثرها عن غرض البحث التفسيريّ، و لعلّ الّذي أوردناه من البحث لا يوافق ما أوردوه لكنّ الحقّ أحقّ بالاتّباع.

قوله تعالى: ( وَ إِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً ) قال الراغب: الترفه التوسّع في النعمة يقال: اُترف فلان فهو مترف - إلى أن قال في قوله:( أَمَرْنا مُتْرَفِيها ) - هم الموصوفون بقوله سبحانه:( فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَ نَعَّمَهُ ) انتهى. و قال في المجمع: الترفه النعمة، قال ابن عرفة: المترف المتروك يصنع ما يشاء و لا يمنع منه، و قال: التدمير الإهلاك و الدمار الهلاك. انتهى.

و قوله: ( إِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً ) أي إذا دنا وقت هلاكهم من قبيل قولهم:إذا أراد العليل أن يموت كان كذا، و إذا أرادت السماء أن يمطر كان كذا، أي إذا دنا وقت موته و إذا دنا وقت إمطارها فإنّ من المعلوم أنّه لا يريد الموت بحقيقة معنى الإرادة و أنّها لا تريد الإمطار كذلك، و في القرآن:( فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ ) الآية.

و يمكن أن يراد به الإرادة الفعليّة و حقيقتها توافق الأسباب المقتضية للشي‏ء و تعاضدها على وقوعه، و هو قريب من المعنى الأوّل و حقيقته تحقّق ما لهلاكهم من الأسباب و هو كفران النعمة و الطغيان بالمعصية كما قال سبحانه:( لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَ لَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ ) إبراهيم: ٧، و قال:( الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ ) الفجر: ١٤.

و قوله:( أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها ) من المعلوم من كلامه تعالى أنّه لا يأمر بالمعصية أمراً تشريعيّاً فهو القائل:( قُلْ إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ ) الأعراف: ٢٨ و أمّا الأمر التكوينيّ فعدم تعلّقه بالمعصية من حيث إنّها معصية أوضح لجعله الفعل

٦٢

ضروريّاً يبطل معه تعلّقه باختيار الإنسان و لا معصية مع عدم الاختيار قال تعالى:( إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) يس: ٨٢.

فمتعلّق الأمر في قوله:( أَمَرْنا ) إن كان هو الطاعة كان الأمر بحقيقة معناه و هو الأمر التشريعيّ و كان هو الأمر الّذي توجّه إليهم بلسان الرسول الّذي يبلّغهم أمر ربّهم و ينذرهم بعذابه لو خالفوا و هو الشأن الّذي يختصّ بالرسول كما تقدّمت الإشارة إليه فإذا خالفوا و فسقوا عن أمر ربّهم حقّ عليهم القول و هو أنّهم معذّبون إن خالفوا فاُهلكوا و دمّروا تدميرا.

و إن كان متعلّق الأمر هو الفسق و المعصية كان الأمر مراداً به الإكثار من إفاضة النعم عليهم و توفيرها على سبيل الإملاء و الاستدراج و تقريبهم بذلك من الفسق حتّى يفسقوا فيحقّ عليهم القول و ينزل عليهم العذاب.

و هذان وجهان في معنى قوله:( أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها ) يجوز توجيهه بكلّ منهما لكن يبعّد أوّل الوجهين أوّلاً أنّ قولنا: أمرته ففعل و أمرته ففسق ظاهره تعلّق الأمر بعين ما فرّع عليه، و ثانياً عدم ظهور وجه لتعلّق الأمر بالمترفين مع كون الفسق لجميع أهل القرية و إلّا لم يهلكوا.

قال في الكشّاف: و الأمر مجاز لأنّ حقيقة أمرهم بالفسق أن يقول لهم: افسقوا، و هذا لا يكون فبقي أن يكون مجازاً، و وجه المجاز أنّه صبّ عليهم النعمة صبّا فجعلوها ذريعة إلى المعاصي و اتّباع الشهوات فكأنّهم مأمورون بذلك لتسبّب إيلاء النعمة فيه، و إنّما خوّلهم إيّاها ليشكروا و يعملوا فيها الخير و يتمكّنوا من الإحسان و البرّ كما خلقهم أصحّاء أقوياء و أقدرهم على الخير و الشرّ و طلب منهم إيثار الطاعة على المعصية فآثروا الفسوق فلمّا فسقوا حقّ عليهم القول و هو كلمة العذاب فدمّرهم.

فإن قلت: هلّا زعمت أنّ معناه أمرناهم بالطاعة ففسقوا؟ قلت: لأنّ حذف ما لا دليل عليه غير جائز فكيف يحذف ما الدليل قائم على نقيضه؟ و ذلك أنّ المأمور به إنّما حذف لأنّ فسقوا يدلّ عليه و هو كلام مستفيض يقال، أمرته فقام و أمرته فقرء

٦٣

لا يفهم منه إلّا أنّ المأمور به قيام أو قراءة و لو ذهبت تقدّر غيره لزمت من مخاطبك علم الغيب.

و لا يلزم على هذا قولهم: أمرته فعصاني أو فلم يمتثّل أمري لأنّ ذلك مناف للأمر مناقض له، و لا يكون ما يناقض الأمر مأموراً به فكان محالاً أن يقصد أصلاً حتّى يجعل دالّاً على المأمور به فكان المأمور به في هذا الكلام غير مدلول عليه و لا منويّ لأنّ من يتكلّم بهذا الكلام فإنّه لا ينوي لأمره مأموراً به كأنّه يقول: كان منّي أمر فلم يكن منه طاعة كما أنّ من يقول: فلان يعطي و يمنع و يأمر و ينهى غير قاصد إلى مفعول.

فإن قلت: هلّا كان ثبوت العلم بأنّ الله لا يأمر بالفحشاء و إنّما يأمر بالقصد و الخير دليلاً على أنّ المراد أمرناهم بالخير ففسقوا؟.

قلت: لا يصحّ ذلك لأنّ قوله: فَفَسَقُوا يدافعه فكأنّك أظهرت شيئاً و أنت تدّعي إضمار خلافه فكان صرف اللفظ إلى المجاز هو الوجه. انتهى.

و هو كلام حسن في تقريب ظهور قوله:( أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها ) في كون المأمور به هو الفسق و أمّا كونه صريحاً فيه بحيث لا يحتمل إلّا ذلك كما يدّعيه فلا، فلم لا يجوز أن تكون الآية من قبيل قولنا: أمرته فعصاني حيث تكون المعصية و هي منافية للأمر قرينة على كون المأمور به هو الطاعة و الفسق و المعصية واحد فإنّ الفسق هو الخروج عن زيّ العبوديّة و الطاعة فهو المعصية و يكون المعنى حينئذ: أمرنا مترفيها بالطاعة ففسقوا عن أمرنا و عصوه، أو يكون الأمر في الآية مستعملاً استعمال اللّازم، و المعنى توجّه أمرنا إلى مترفيها ففسقوا فيها عنه.

فالحقّ أنّ الوجهين لا بأس بكلّ منهما و إن كان الثاني لا يخلو من ظهور و قد اُجيب عن اختصاص الأمر بالمترفين بأنّهم الرؤساء السادة و الأئمّة المتبوعون و غيرهم أتباعهم و حكم التابع تابع لحكم المتبوع و لا يخلو من سقم.

و ذكر بعضهم في توجيه الآية أنّ قوله:( أَمَرْنا مُتْرَفِيها ) إلخ صفة لقرية و ليس جواباً لإذا و جواب إذا محذوف على حدّ قوله:( حتّى إِذا جاؤُها وَ فُتِحَتْ أَبْوابُها

٦٤

وَ قالَ لَهُمْ خَزَنَتُها ) إلى آخر الآية للاستغناء عنه بدلالة الكلام.

و ذكر آخرون أنّ في الآية تقديماً و تأخيراً و التقدير و إذا أمرنا مترفي قرية ففسقوا فيها أردنا أن نهلكها، و ذلك أنّه لا معنى لإرادة الهلاك قبل تحقّق سببه و هو الفسق، و هو وجه سخيف كسابقه.

هذا كلّه على القراءة المعروفة( أَمَرْنا ) بفتح الهمزة ثمّ الميم مخفّفة من الأمر بمعنى الطلب، و ربّما اُخذ من الأمر بمعنى الإكثار أي أكثرنا مترفيها مالاً و ولداً ففسقوا فيها.

و قرئ( آمرنا) بالمدّ و نسب إلى عليّعليه‌السلام و إلى عاصم و ابن كثير و نافع و غيرهم و هو من الإيمان بمعنى إكثار المال و النسل أو بمعنى تكليف إنشاء فعل، و قرئ أيضاً( أمّرنا) بتشديد الميم من التأمير بمعنى تولية الإمارة و نسب ذلك إلى عليّ و الحسن و الباقرعليهم‌السلام و إلى ابن عبّاس و زيد بن عليّ و غيرهم.

قوله تعالى: ( وَ كَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَ كَفى‏ بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً ) قال في المفردات: القرن القوم المقترنون في زمن واحد و جمعه قرون قال:( وَ لَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ ) ( وَ كَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ ) انتهى و معنى الآية ظاهر، و فيها تثبيت ما ذكر في الآية السابقة من سنّة الله الجارية في إهلاك القرى بالإشارة إلى القرون الماضية الهالكة.

و الآية لا تخلو من إشعار بأنّ سنّة الإهلاك إنّما شرعت في القرون الإنسانيّة بعد نوحعليه‌السلام و هو كذلك، و قد تقدّم في تفسير قوله تعالى:( كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ ) البقرة: ٢١٣ في الجزء الثاني من الكتاب أنّ المجتمع الإنسانيّ قبل زمن نوحعليه‌السلام كانوا على سذاجة الفطرة ثمّ اختلفوا بعد ذلك.

قوله تعالى: ( مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً ) العاجلة صفة محذوفة الموصوف و لعلّ موصوفها الحياة بقرينة مقابلتها للآخرة في الآية التالية و هي الحياة الآخرة، و قيل: المراد النعم العاجلة و قيل: الأعراض الدنيويّة العاجلة.

٦٥

و في المفردات،: أصل الصلى لإيقاد النار. قال: و قال الخليل: صلي الكافر النار قاسى حرّها( يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ ) و قيل: صلي النار دخل فيها، و أصلاها غيره قال:( فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً ) انتهى. و في المجمع،: الدحر الإبعاد و المدحور المبعد المطرود يقال: اللّهمّ أدحر عنّا الشيطان أي أبعده انتهى.

لمّا ذكر سبحانه سنّته في التعذيب الدنيويّ إثر دعوة الرسالة و أنّه يهدي الاُمم الإنسانيّة إلى الإيمان و العمل الصالح حتّى إذا فسدوا و أفسدوا بعث إليهم رسولاً فإذا طغوا و فسقوا عذّبهم عذاب الاستئصال، عاد إلى بيان سنّته في التعذيب الاُخرويّ و الإثابة فيها في هذه الآية و الآيتين بعدها يذكر في آية ملاك عذاب الآخرة، و في آية ملاك ثوابها، و في آية محصّل القول و الأصل الكلّي في ذلك.

فقوله:( مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ ) أي الّذي يريد الحياة العاجلة و هي الحياة الدنيا، و إرادة الحياة الدنيا إنّما هي طلب ما فيها من المتاع الّذي تلتذّ به النفس و يتعلّق به القلب، و التعلّق بالعاجلة و طلبها إنّما يعدّ طلباً لها إذا كانت مقصودة بالاستقلال لا لأجل التوسّل بها إلى سعادة الاُخرىّ و إلّا كانت إرادة للآخرة فإنّ الآخرة لا يسلك إليها إلّا من طريق الدنيا فلا يكون الإنسان مريداً للدنيا إلّا إذا أعرض عن الآخرة و نسيها فتمحّضت إرادته في الدنيا، و يدلّ عليه أيضاً خصوص التعبير في الآية( مَنْ كانَ يُرِيدُ ) حيث يدلّ على استمرار الإرادة.

و هذا هو الّذي لا يرى لنفسه إلّا هذه الحياة المادّيّة الدنيويّة و ينكر الحياة الآخرة، و يلغو بذلك القول بالنبوّة و التوحيد إذ لا أثر للإيمان بالله و رسله و التديّن بالدين لو لا الاعتقاد بالمعاد، قال تعالى:( فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَ لَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ ) النجم: ٣٠.

و قوله:( عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ) أي أسرعنا في إعطائه ما يريده في الدنيا لكن لا بإعطائه ما يريده بل بإعطائه ما نريده فالأمر إلينا لا إليه و الأثر لإرادتنا لا لإرادته، و لا بإعطاء ما نعطيه لكلّ من يريد بل لمن نريد فليس يحكم

٦٦

فينا إرادة الأشخاص بل إرادتنا هي الّتي تحكم فيهم.

و إرادته سبحانه الفعليّة لشي‏ء هو اجتماع الأسباب على كينونته و تحقّق العلّة التامّة لظهوره فالآية تدلّ على أنّ الإنسان و هو يريد الدنيا يرزق منها على حسب ما يسمح له الأسباب و العوامل الّتي أجراها الله في الكون و قدّر لها من الآثار فهو ينال شيئاً ممّا يريده و يسأله بلسان تكوينه لكن ليس له إلّا ما يهدي إليه الأسباب و الله من ورائهم محيط.

و قد ذكر الله سبحانه هذه الحقيقة بلسان آخر في قوله:( وَ لَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَ مَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ وَ لِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً وَ سُرُراً عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ وَ زُخْرُفاً وَ إِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا ) الزخرف: ٣٥ أي لو لا أنّ الناس جميعاً يعيشون على نسق واحد تحت قانون الأسباب و العلل، و لا فرق بين الكافر و المؤمن قبال العلل الكونية بل من صادفته أسباب الغنى و الثروة أثرته و أغنته مؤمناً كان أم كافراً، و من كان بالخلاف، فبالخلاف خصّصنا الكفّار بمزيد النعم الدنيويّة إذ ليس لها عندنا قدر و لا في سوق الآخرة من قيمة.

و ذكر بعضهم: أنّ المراد بإرادة العاجلة إرادتها بعمله و هو أن يريد بعمله الدنيا دون الآخرة فهو محروم من الآخرة، و هو تقييد من غير مقيّد، و لعلّه أخذه من قوله تعالى:( مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَ زِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَ هُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ ) هود: ١٦ لكنّ الآيتين مختلفتان غرضاً فالغرض فيما نحن فيه بيان أنّ مريد الدنيا لا ينال إلّا منها، و الغرض من آية سورة هود أنّ الإنسان لا ينال إلّا عمله فإذا كان مريدا للدنيا وفّي إليه عمله فيها و بين الغرضين فرق واضح فافهم ذلك.

و قوله:( ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً ) أي و جعلنا جزاءه في الآخرة جهنّم يقاسي حرّها و هو مذموم مبعد من الرحمة و القيدان يفيدان أنّه مخصوص بجهنّم محروم من المغفرة و الرحمة.

٦٧

و الآية و إن كانت تبيّن حال من تعلّق بالدنيا و نسي الآخرة و أنكرها غير أنّ الطلب و الإنكار مختلفان بالمراتب فمن ذلك ما هو كذلك قولاً و فعلاً و منه ما هو كذلك فعلاً مع الاعتراف به قولاً، و تصديق ذلك قوله تعالى فيما سيأتي:( وَ لَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ ) الآية.

قوله تعالى: ( وَ مَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَ سَعى‏ لَها سَعْيَها وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً ) قال الراغب: السعي المشي السريع و هو دون العدو، و يستعمل للجدّ في الأمر خيراً كان أو شرّاً، انتهى موضع الحاجة.

و قوله:( مَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ ) أي الحياة الآخرة نظير ما تقدم من قوله:( مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ ) و الكلام في قول من قال: يعني من أراد بعمله الآخرة نظير الكلام في مثله في الآية السابقة.

و قوله( وَ سَعى‏ لَها سَعْيَها ) اللّام للاختصاص و كذا إضافة السعي إلى ضمير الآخرة، و المعنى و سعى و جدّ للآخرة السعي الّذي يختصّ بها، و يستفاد منه أنّ سعيه لها يجب أن يكون سعياً يليق بها و يحقّ لها كأن يكون يبذل كمال الجهد في حسن العمل و أخذه من عقل قطعيّ أو حجّة شرعيّة.

و قوله:( وَ هُوَ مُؤْمِنٌ ) أي مؤمن بالله و يستلزم ذلك توحيده و الإذعان بالنبوّة و المعاد فإنّ من لا يعترف بإحدى الخصال الثلاث لا يعدّه الله سبحانه في كلامه مؤمناً به و قد تكاثرت الآيات فيه.

على أنّ نفس التقييد بقوله:( وَ هُوَ مُؤْمِنٌ ) يكفي في التقييد المذكور فإنّ من أراد الآخرة و سعى لها سعيها فهو مؤمن بالله و بنشأة وراء هذه النشأة الدنيويّة قطعاً فلو لا أنّ التقييد بالإيمان لإفادة وجوب كون الإيمان صحيحاً و من صحّته أن يصاحب التوحيد و الإذعان بالنبوّة لم يكن للتقييد وجه فمجرّد التقييد بالإيمان يكفي مؤنة الاستعانة بآيات اُخر.

و قوله:( فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً ) أي يشكره الله بحسن قبوله و الثناء على ساعيه، و شكره تعالى على عمل العبد تفضّل منه على تفضّل فإنّ أصل إثابته

٦٨

العبد على عمله تفضّل لأنّ من وظيفة العبد أن يعبد مولاه من غير وجوب الجزاء عليه فالإثابة تفضّل، و الثناء عليه بعد الإثابة تفضّل على تفضّل و الله ذو الفضل العظيم.

و في الآيتين دلالة على أنّ الأسباب الاُخرويّة و هي الأعمال لا تتخلّف عن غاياتها بخلاف الأسباب الدنيويّة فإنّه سبحانه يقول فيمن عمل للآخرة:( فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً ) و يقول فيمن عمل للدنيا:( عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ) .

قوله تعالى: ( كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ وَ هَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَ ما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً ) قال في المفردات، أصل المدّ الجرّ و منه المدّة للوقت الممتدّ و مدّة الجرح و مدّ النهر و مدّه نهر آخر و مددت عيني إلى كذا قال تعالى:( وَ لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ ) الآية و مددته في غيّه و أمددت الجيش بمدد و الإنسان بطعام قال: و أكثر ما جاء الإمداد في المحبوب و المدّ في المكروه نحو( وَ أَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ وَ لَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ ) ( وَ نَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا ) ( وَ يَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ ) ( وَ إِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ) انتهى بتلخيص منّا.

فإمداد الشي‏ء و مدّه أن يضاف إليه من نوعه مثلاً ما يمتدّ به بقاؤه و يدوم به وجوده و لو لا ذلك لانقطع كالعين من الماء الّتي تستمدّ من المنبع و يضاف إليها منه الماء حينا بعد حين و يمتدّ بذلك جريانها.

و الله سبحانه يمدّ الإنسان في أعماله سواء كان ممّن يريد العاجلة أو الآخرة فإنّ جميع ما يتوقّف عليه العمل في تحقّقه من العلم و الإرادة و الأدوات البدنيّة و القوى العمّالة و الموادّ الخارجيّة الّتي يقع عليها العمل و يتصرّف فيها العامل و الأسباب و الشرائط المربوطة بها كلّ ذلك اُمور تكوينيّة لا صنع للإنسان فيها و لو فقد كلّها أو بعضها لم يكن العمل، و الله سبحانه هو الّذي يفيضها بفضله و يمدّ الإنسان بها بعطائه، و لو انقطع منه العطاء انقطع من العامل عمله.

فأهل الدنيا في دنياهم و أهل الآخرة في آخرتهم يستمدّون من عطائه تعالى و لا يعود إليه سبحانه في عطائه إلّا الحمد لأنّ الّذي يعطيه نعمة على الإنسان أن

٦٩

يستعمله استعمالاً حسناً في موضع يرتضيه ربّه، و أمّا إذا فسق بعدم استعماله فيه و حرّف الكلمة عن موضعها فلا يلومنّ إلّا نفسه و على الله الثناء على جميل صنعه و له الحجّة البالغة.

فقوله:( كُلًّا نُمِدُّ ) أي كلّا من الفريقين المعجّل لهم و المشكور سعيهم نمدّ، و إنّما قدم المفعول على فعله لتعلّق العناية به في الكلام فإنّ المقصود بيان عموم الإمداد للفريقين جميعاً.

و قوله:( هؤُلاءِ وَ هَؤُلاءِ ) أي هؤلاء المعجّل لهم و هؤلاء المشكور سعيهم بما أنّ لكلّ منهما نعته الخاصّ به، و يؤل المعنى إلى أنّ كلّا من الفريقين تحت التربية الإلهيّة يفيض عليهم من عطائه من غير فرق غير أنّ أحدهما يستعمل النعمة الإلهيّة لابتغاء الآخرة فيشكر الله سعيه، و الآخر يستعملها لابتغاء العاجلة و ينسى الآخرة فلا يبقى له فيها إلّا الشقاء و الخيبة.

و قوله:( مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ ) فإنّ جميع ما يستفيدون منه في أعمالهم كما تقدّم لا صنع لهم و لا لغيرهم من المخلوقين فيه بل الله سبحانه هو الموجد لها و مالكها فهي من عطائه.

و يستفاد من هذا القيد وجه ما ذكر لكلّ من الفريقين من الجزاء فإنّ أعمالهم لمّا كانت بإمداده تعالى من خالص عطائه فحقيق على من يستعمل نعمته في الكفر و الفسوق أن يصلّى النار مذموماً مدحوراً، و على من يستعملها في الإيمان به و طاعته أن يشكر سعيه.

و في قوله:( رَبِّكَ ) التفات من التكلّم مع الغير إلى الغيبة و قد كرّر ذلك مرّتين و الظاهر أنّ النكتة فيه الإشارة إلى أنّ إمدادهم من شؤون صفة الربوبيّة و الله سبحانه هو الربّ لا ربّ غيره غير أنّ الوثنيّين يتّخذون من دونه أرباباً و لذلك نسب ربوبيّته إلى نبيّه فقال:( رَبِّكَ ) .

و قوله:( وَ ما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً ) أي ممنوعاً - و الحظر المنع - فأهل الدنيا و أهل الآخرة مستمدّون من عطائه منعّمون بنعمته ممنونون بمنّته.

٧٠

و في الآية دلالة على أنّ العطاء الإلهيّ مطلق غير محدود بحدّ لمكان إطلاق العطاء و نفي الحظر في الآية فما يوجد من التحديد و التقدير و المنع باختلاف الموارد فإنّما هو من ناحية المستفيض و خصوص استعداده للاستفاضة أو فقدانه من رأس لا من ناحية المفيض.

و من عجيب ما قيل في الآية ما نسب إلى الحسن و قتادة أنّ المراد بالعطاء العطاء الدنيويّ فهو المشترك بين المؤمن و الكافر و أمّا العطاء الاُخرويّ فللمؤمنين خاصّة، و المعنى كما قيل: كلّ الفريقين نمدّ بالعطايا العاجلة لا الفريق الأوّل المريد للعاجلة فقط و ما كان عطاؤه الدنيويّ محظوراً من أحد.

و فيه أنّه تقييد من غير مقيّد مع صلاحية المورد للإطلاق و أمّا ما ذكر من اختصاص العطاء الاُخرويّ بالمؤمنين من غير مشاركة الكفّار لهم فيه فخارج من مصبّ الكلام في الآية فإنّ الكلام في الإمداد الّذي يمدّ به الأعمال المنتهية إلى الجزاء لا في الجزاء، و عطايا المؤمنين في الآخرة من الجزاء لا من قبيل الأعمال، و نفس ما يمدّ به أعمال الفريقين عطايا دنيويّة و اُخرويّة على أنّ العطايا الاُخرويّة أيضاً مشتركة غير محظورة و الحظر فيها من قبل الكافرين كما أنّ الأمر في العطايا الدنيويّة أيضاً كذلك فربّما يمنع لكن لا من قبل محدوديّة العطاء بل من قبل عدم صلاحية القابل.

و قال في روح المعاني،: إنّ التقسيم الّذي تضمّنته الآية غير حاصر و ذلك غير مضرّ، و التقسيم الحاصر أنّ كلّ فاعل إمّا أن يريد بفعله العاجلة فقط أو يريد الآخرة فقط أو يريدهما معاً أو لم يرد شيئاً و القسمان الأوّلان قد علم حكمهما من الآية، و القسم الثالث ينقسم إلى ثلاثة أقسام لأنّه إمّا أن تكون إرادة الآخرة أرجح أو تكون مرجوحة أو تكون الإرادتان متعادلتين.

ثمّ أطال البحث فيما تكون فيه إرادة الآخرة أرجح و نقل اختلاف العلماء في قبول هذا النوع من العمل، و نقل اتّفاقهم على عدم قبول ما يترجّح فيه باعث الدنيا أو كان الباعثان فيه متساويين.

٧١

قال: و أمّا القسم الرابع عند القائلين بأنّ صدور الفعل من القادر يتوقّف على حصول الداعي فهو ممتنع الحصول و الّذين قالوا: إنّه لا يتوقّف، قالوا ذلك الفعل لا أثر له في الباطن و هو محرّم في الظاهر. انتهى و قد سبقه إلى هذا التقسيم و البحث غيره.

و أنت خبير بأنّ الآيات الكريمة ليست في مقام بيان حكم الردّ و القبول بالنسبة إلى كلّ عمل صدر عن عامل بل هي تأخذ غاية الإنسان و تعيّنها بحسب نشأة حياته مرّة متعلّقة بالحياة العاجلة و لازمه أن لا يريد بأعماله إلّا مزايا الحياة الدنيويّة المادّيّة و يعرض عن الاُخرى، و مرّة متعلّقة بالحياة الآخرة و لازمه أن يرى لنفسه حياة خالدة دائمة، بعضها و هي الحياة الدنيا مقدّمة للبعض الآخر و هي الحياة بعد الموت و أعماله في الدنيا مقصودة بها سعادة الاُخرى.

و معلوم أنّ هذا التقسيم لا ينتج إلّا قسمين نعم أحد القسمين ينقسم إلى أقسام لم يستوف أحكامها في الآيات لعدم تعلّق الغرض بها و ذلك أنّ من أراد الآخرة ربّما سعى لها سعيها و ربّما لم يسع لها سعيها كالفسّاق و أهل البدع، و على كلا الوجهين ربّما كان مؤمناً و ربّما لم يكن مؤمناً، و لم يذكر في كلامه تعالى إلّا حكم طائفة خاصّة و هي من أراد الآخرة و سعى لها سعيها و هو مؤمن لأنّ الغرض تمييز ملاك السعادة من ملاك الشقاء لا بيان تفصيل الأحوال.

قوله تعالى: ( انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى‏ بَعْضٍ وَ لَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَ أَكْبَرُ تَفْضِيلًا ) إشارة إلى تفاوت الدرجات بتفاوت المساعي حتّى لا يتوهّم أنّ قليل العمل و كثيره على حدّ سواء و يسير السعي و السعي البالغ لا فرق بينهما فإنّ تسوية القليل و الكثير و الجيّد و الرديّ في الشكر و القبول ردّ في الحقيقة لما يزيد به الأفضل على غيره.

و قوله:( انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى‏ بَعْضٍ ) أي بعض الناس على بعض في الدنيا، و القرينة على هذا التقييد قوله بعد:( وَ لَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ ) و التفضيل في الدنيا هو ما يزيد به بعض أهلها على بعض من أعراضها و اُمّتعتها كالمال و الجاه و

٧٢

الولد و القوّة و الصيت و الرئاسة و السؤدد و القبول عند الناس.

و قوله:( وَ لَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَ أَكْبَرُ تَفْضِيلًا ) أي هي أكبر من الدنيا في الدرجات و التفضيل فلا يتوهّمنّ متوهّم أنّ أهل الآخرة في عيشة سواء و لا أنّ التفاوت بين معايشهم كتفاوت أهل الدنيا في دنياهم بل الدار أوسع من الدنيا بما لا يقاس و ذلك أنّ سبب التفضيل في الدنيا هي اختلاف الأسباب الكونيّة و هي محدودة و الدار دار التزاحم و سبب التفضيل و اختلاف الدرجات في الآخرة هو اختلاف النفوس في الإيمان و الإخلاص و هي من أحوال القلوب، و اختلاف أحوالها أوسع من اختلاف أحوال الأجسام بما لا يقاس قال تعالى:( إِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ ) البقرة: ٢٨٤ و قال:( يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَ لا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ) الشعراء: ٨٩.

ففي الآية أمرهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن ينظر إلى ما بين أهل الدنيا من التفاضل و الاعتبار ليجعل ذلك ذريعة إلى فهم ما بين أهل الآخرة من تفاوت الدرجات و التفاضل في المقامات فإنّ اختلاف الأحوال في الدنيا يؤدّي إلى اختلاف الإدراكات الباطنة و النيّات و الأعمال الّتي يتيسّر للإنسان أن يأتي بها و اختلاف ذلك يؤدّي إلى اختلاف الدرجات في الآخرة.

قوله تعالى: ( لا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولًا ) قال في المفردات: الخذلان ترك من يظنّ به أن ينصر نصرته انتهى.

و الآية بمنزلة النتيجة للآيات السابقة الّتي ذكرت سنّة الله في عباده و ختمت في أنّ من أراد منهم العاجلة انتهى به ذلك إلى أن يصلّى جهنّم مذموماً مدحوراً، و من أراد منهم الآخرة شكر الله سعيه الجميل، و المعنى لا تشرك بالله سبحانه حتّى يؤدّيك ذلك إلى أن تقعد و تحتبس عن السير إلى درجات القرب و أنت مذموم لا ينصرك الله و لا ناصر دونه و قيل: القعود كناية عن المذلّة و العجز.

٧٣

( بحث روائي)

في الكافي، بإسناده عن أبي عمرو الزبيريّ عن أبي عبداللهعليه‌السلام : في قوله تعالى:( إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ) قال: أي يدعو.

و في تفسير العيّاشيّ، عن الفضيل بن يسار عن أبي جعفرعليه‌السلام :( إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ) قال: يهدي إلى الولاية.

أقول: و هي من الجري و يمكن أن يراد به ما عند الإمام من كمال معارف الدين و لعلّه المراد ممّا في بعض الروايات من قوله: يهدي إلى الإمام.

و عنه: و في رواية أبي الجارود عن أبي جعفرعليه‌السلام : في قوله:( وَ كُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ ) يقول: خيره و شرّه معه حيث كان لا يستطيع فراقه حتّى يعطى كتابه بما عمل.

و فيه، عن زرارة و حمران و محمّد بن مسلم عن أبي جعفر و أبي عبداللهعليه‌السلام : عن الآية قال: قدره الّذي قدّر عليه.

و فيه، عن خالد بن يحيى عن أبي عبداللهعليه‌السلام : في قوله:( اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى‏ بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً ) قال يذكر العبد جميع ما عمل و ما كتب عليه حتّى كأنّه فعله تلك الساعة فلذلك قالوا: يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَ لا كَبِيرَةً إلّا أَحْصاها.

و فيه، عن حمران عن أبي جعفرعليه‌السلام : في قوله:( أَمَرْنا مُتْرَفِيها ) مشدّدة منصوبة تفسيرها: كثرّنا، و قال: لا قرأتها مخفّفة.

أقول: و في حديث آخر عن حمران عنه: تفسيرها أمرنا أكابرها.

و قد روي في قوله تعالى:( وَ يَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ ) الآية و قوله:( وَ جَعَلْنَا اللَّيْلَ وَ النَّهارَ آيَتَيْنِ ) الآية و قوله:( وَ كُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ ) الآية من طرق الفريقين عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و عليّعليه‌السلام و سلمان و غيره روايات تركنا إيرادها لعدم تأيّدها بكتاب أو سنّة أو حجّة عقليّة قاطعة مع ما فيها من ضعف الأسناد.

٧٤

( كلام في القضاء في فصول‏)

١- في تحصيل معناه و تحديده: إنّا نجد الحوادث الخارجيّة و الاُمور الكونيّة بالقياس إلى عللها و الأسباب المقتضية لها على إحدى حالتين فإنّها قبل أن تتمّ عللها الموجبة لها و الشرائط و ارتفاع الموانع الّتي يتوقّف عليها حدوثها و تحقّقها لا يتعيّن لها التحقّق و الثبوت و لا عدمه بل يتردّد أمرها بين أن تتحقّق و أن لا تتحقّق من رأس.

فإذا تمّت عللها الموجبة لها و كملت ما تتوقّف عليه من الشرائط و ارتفاع الموانع و لم يبق لها إلّا أن تتحقّق خرجت من التردّد و الإبهام و تعيّن لها أحد الطرفين و هو التحقّق، أو عدم التحقّق، إن فرض انعدام شي‏ء ممّا يتوقّف عليه وجودها. و لا يفارق تعيّن التحقّق نفس التحقّق.

و الاعتباران جاريان في أفعالنا الخارجيّة فما لم نشرف على إيقاع فعل من الأفعال كان متردّداً بين أن يقع أو لا يقع فإذا اجتمعت الأسباب و الأوضاع المقتضية و أتممناها بالإرادة و الإجماع بحيث لم يبق له إلّا الوقوع و الصدور عيّنّا له أحد الجانبين فتعيّن له الوقوع.

و كذا يجري نظير الاعتبارين في أعمالنا الوضعيّة الاعتباريّة كما إذا تنازع اثنان في عين يدّعيه كلّ منهما لنفسه كان أمر مملوكيّته مردّداً بين أن يكون لهذا أو لذاك فإذا رجعاً إلى حكم يحكم بينهما فحكم لأحدهما دون الآخر كان فيه فصل الأمر عن الإبهام و التردّد و تعيين أحد الجانبين بقطع رابطته مع الآخر.

ثمّ توسّع فيه ثانياً فجعل الفصل و التعيين بحسب القول كالفصل و التعيين بحسب الفعل فقول الحكم: إنّ المال لأحد المتنازعين فصل للخصومة و تعيين لأحد الجانبين بعد التردّد بينهما، و قول المخبر إنّ كذا كذا، فصل و تعيين، و هذا المعنى هو الّذي نسمّيه القضاء.

و لما كانت الحوادث في وجودها و تحقّقها مستندة إليه سبحانه و هي فعله

٧٥

جرى فيها الاعتباران بعينهما فهي ما لم يرد الله تحقّقها و لم يتمّ لها العلل و الشرائط الموجبة لوجودها باقية على حال التردّد بين الوقوع و اللاوقوع فإذا شاء الله وقوعها و أراد تحقّقها فتمّ لها عللها و عامّة شرائطها و لم يبق لها إلّا أن توجد كان ذلك تعيينا منه تعالى و فصلاً لها من الجانب الآخر و قطعاً للإبهام، و يسمّى قضاء من الله.

و نظير الاعتبارين جار في مرحلة التشريع و حكمه القاطع بأمر و فصله القول فيه قضاء منه.

و على ذلك جرى كلامه تعالى فيما أشار فيه إلى هذه الحقيقة، قال تعالى:( وَ إِذا قَضى‏ أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) البقرة: ١١٧، و قال:( فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ ) حم السجدة: ١٢، و قال:( قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ ) يوسف: ٤١، و قال:( وَ قَضَيْنا إِلى‏ بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ ) إسراء: ٤ إلى غير ذلك من الآيات المتعرّضة للقضاء التكوينيّ.

و من الآيات المتعرّضة للقضاء التشريعيّ قوله:( وَ قَضى‏ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَ بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً ) إسراء: ٢٣، و قوله:( إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ) يونس: ٩٣، و قوله:( وَ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَ قِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ ) الزمر: ٧٥، و ما في الآية و ما قبلها من القضاء بمعنى فصل الخصومة تشريعيّ بوجه و تكوينيّ بآخر.

فالآيات الكريمة - كما ترى - تمضي صحّة هذين الاعتبارين العقليّين في الأشياء الكونيّة من جهة أنّها أفعاله تعالى، و كذا في التشريع الإلهيّ من جهة أنّه فعله التشريعيّ، و كذا فيما ينسب إليه تعالى من الحكم الفصل.

و ربّما عبّر عنه بالحكم و القول بعناية اُخرى قال تعالى:( أَلا لَهُ الْحُكْمُ ) الأنعام: ٦٢، و قال:( وَ اللهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ ) الرعد: ٤١، و قال:( ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ ) ق: ٢٩، قال:( وَ الْحَقَّ أَقُولُ ) ص: ٨٤.

٢- نظرة فلسفيّة في معنى القضاء: لا ريب أنّ قانون العلّيّة و المعلوليّة ثابت

٧٦

و أنّ الموجود الممكن معلول له سبحانه إمّا بلا واسطة معها، و أنّ المعلول إذا نسب إلى علّته التامّة كان له منها الضرورة و الوجوب إذ ما لم يجب لم يوجد، و إذا لم ينسب إليها كان له الإمكان سواء اُخذ في نفسه و لم ينسب إلى شي‏ء كالماهيّة الممكنة في ذاتها أو نسب إلى بعض أجزاء علّته التامّة فإنّه لو أوجب ضرورته و وجوبه كان علّة له تامّة و المفروض خلافه.

و لمّا كانت الضرورة هي تعيّن أحد الطرفين و خروج الشي‏ء عن الإبهام كانت الضرورة المنبسطة على سلسلة الممكنات من حيث انتسابها إلى الواجب تعالى الموجب لكلّ منها في ظرفه الّذي يخصّه قضاء عامّاً منه تعالى كما أنّ الضرورة الخاصّة بكلّ واحد منها قضاء خاصّ به منه، إذ لا نعني بالقضاء إلّا فصل الأمر و تعيينه عن الإبهام و التردّد.

و من هنا يظهر أنّ القضاء من صفاته الفعليّة و هو منتزع من الفعل من جهة نسبته إلى علّته التامّة الموجبة له.

٣- و الروايات في تأييد ما تقدّم كثيرة جدّاً: ففي المحاسن، عن أبيه عن ابن أبي عمير عن هشام بن سالم قال: قال أبوعبداللهعليه‌السلام : إنّ الله إذا أراد شيئاً قدّره فإذا قدّره قضاه فإذا قضاه أمضاه.

و فيه، عن أبيه عن ابن أبي عمير عن محمّد بن إسحاق قال: قال: أبوالحسنعليه‌السلام ليونس مولى عليّ بن يقطين: يا يونس لا تتكلّم بالقدر قال: إنّي لا أتكلّم بالقدر و لكن أقول: لا يكون إلّا ما أراد الله و شاء و قضى و قدّر فقال ليس هكذا أقول و لكن أقول: لا يكون إلّا ما شاء الله و أراد و قدّر و قضى. ثمّ قال: أ تدري ما المشيّة؟ فقال: لا فقال: همّه بالشي‏ء أ و تدري ما أراد؟ قال: لا قال: إتمامه على المشيّة فقال: أ و تدري ما قدر؟ قال: لا، قال: هو الهندسة من الطول و العرض و البقاء ثمّ قال إنّ الله إذا شاء شيئاً أراده و إذا أراد قدّره و إذا قدّره قضاه و إذا قضاه أمضاه‏

الحديث.

و في رواية اُخرى عن يونس عنهعليه‌السلام قال: لا يكون إلّا ما شاء الله و أراد و

٧٧

قدّر و قضى. قلت: فما معنى شاء؟ قال: ابتداء الفعل قلت: فما معنى أراد؟ قال: الثبوت عليه. قلت: فما معنى قدّر؟ قال: تقدير الشي‏ء من طوله و عرضه. قلت: فما معنى قضى؟ قال: إذا قضى أمضى فذلك الّذي لا مردّ له‏

و في التوحيد، عن الدقّاق عن الكلينيّ عن ابن عامر عن المعلّى قال: سئل العالمعليه‌السلام كيف علم الله؟ قال: علم و شاء و أراد و قدّر و قضى و أمضى فأمضى ما قضى و قضى ما قدّر و قدّر ما أراد فبعلمه كانت المشيّة و بمشيّته كانت الإرادة و بإرادته كان التقدير و بتقديره كان القضاء و بقضائه كان الإمضاء فالعلم متقدّم على المشيّة و المشيّة ثانية و الإرادة ثالثة و التقدير واقع على القضاء بالإمضاء.

فللّه تبارك و تعالى البداء فيما علم متى شاء و فيما أراد لتقدير الأشياء فإذا وقع القضاء بالإمضاء فلا بداء. الحديث.

و الّذي ذكرهعليه‌السلام من ترتّب المشيّة على العلم و الإرادة على المشيّة و هكذا ترتّب عقليّ بحسب صحّة الانتزاع.

و فيه، بإسناده عن ابن نباتة قال: إنّ أميرالمؤمنينعليه‌السلام عدل من عند حائط مائل إلى حائط آخر فقيل له: يا أميرالمؤمنين تفرّ من قضاء الله؟ قال: أفرّ من قضاء الله إلى قدر الله عزّوجلّ.

أقول: و ذلك أنّ القدر لا يحتم المقدّر فمن المرجوّ أن لا يقع ما قدّر أمّا إذا كان القضاء فلا مدفع له، و الروايات في المعاني المتقدّمة كثيرة من طرق أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام .

( بحث فلسفي‏)

في أنّ الفيض مطلق غير محدود على ما يفيده قوله تعالى:( وَ ما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً ) .

أطبقت البراهين على أنّ وجود الواجب تعالى بما أنّه واجب لذاته مطلق غير محدود بحدّ و لا مقيّد بقيد و لا مشروط بشرط و إلّا انعدم فيما وراء حدّه و بطل على

٧٨

تقدير عدم قيده أو شرطه و قد فرض واجباً لذاته فهو واحد وحدة لا يتصوّر لها ثان و مطلق إطلاقاً لا يتحمّل تقييداً.

و قد ثبت أيضاً أنّ وجود ما سواه أثر مجعول له و أنّ الفعل ضروريّ المسانخة لفاعله فالأثر الصادر منه واحد بوحدة حقّه ظلّيّة مطلق غير محدود و إلّا تركّبت ذاته من حدّ و محدود و تألّفت من وجود و عدم و سرت هذه المناقضة الذاتيّة إلى ذات فاعله لمكان المسانخة بين الفاعل و فعله، و قد فرض أنّه واحد مطلق فالوجود الّذي هو فعله، و أثره المجعول واحد غير كثير و مطلق غير محدود و هو المطلوب.

فما يتراءى في الممكنات من جهات الاختلاف الّتي تقضي بالتحديد من النقص و الكمال و الوجدان و الفقدان عائدة إلى أنفسها دون جاعلها.

و هي إن كانت في أصل وجودها النوعيّ أو لوازمها النوعيّة فمنشأها ماهيّاتها القابلة للوجود بإمكانها الذاتيّ كالإنسان و الفرس المختلفين في نوعيهما و لوازم نوعيهما و إن كانت في كمالاتها الثانية المختلفة باختلاف أفراد النوع من فاقد للكمال محروم منه و واجد له و الواجد للكمال التامّ أو الناقص فمنشأها اختلاف الاستعدادات المادّيّة باختلاف العلل المعدّة المهيّأة للاستفاضة من العلّة المفيضة.

فالّذي تفيضه العلّة المفيضة من الأثر واحد مطلق، لكنّ القوابل المختلفة تكثّره باختلاف قابليّتها فمن رادّ له متلبّس بخلافه و من قابل يقبله تامّاً و من قابل يقبله ناقصاً و يحوّله إلى ما يشاكل خصوصيّة ما فيه من الاستعداد كالشمس الّتي تفيض نوراً واحداً متشابه الأجزاء لكنّ الأجسام القابلة لنورها تتصرّف فيه على حسب ما عندها من القوّة و الاستعداد.

فإن قلت لا ريب في أنّ هذه الاختلافات اُمور واقعيّة فإن كان ما عدّ منشأ لها من الماهيّات و الاستعدادات اُموراً وهميّة غير واقعيّة لم يكن لإسناد هذه الاُمور الواقعيّة إليها معنى و رجع الأمر إلى الوجود الّذي هو أثر الجاعل الحقّ و هو خلاف ما ادّعيتموه من إطلاق الفيض، و إن كانت اُموراً واقعيّة غير وهميّة كانت من سنخ الوجود لاختصاص الأصالة به فكان الاستناد أيضاً إلى فعله تعالى و ثبت خلاف المدّعي.

٧٩

قلت: هذا النظر يعيد الجميع إلى سنخ الوجود الواحد و لا يبقى معه من الاختلاف أثر بل يكون هناك وجود واحد ظلّيّ قائم بوجود واحد أصليّ و لا يبقى لهذا البحث على هذا محلّ أصلاً.

و بعبارة اُخرى تقسيم الموجود المطلق إلى ماهيّة و وجود و كذا تقسيمه إلى ما بالقوّة و ما بالفعل هو الّذي أظهر السلوب في نفس الأمر و قسّم الأشياء إلى واجد و فاقد و مستكمل و محروم و قابل و مقبول و منشاؤه تحليل العقل الأشياء إلى ماهيّة قابلة للوجود و وجود مقبول للماهيّة، و كذا إلى قوّة فاقدة للفعليّة و فعليّة تقابلها أمّا إذا رجع الجميع إلى الوجود الّذي هو حقيقة واحدة مطلقة لم يبق للبحث عن سبب الاختلاف محلّ و عاد أثر الجاعل و هو الفيض واحداً مطلقاً لا كثرة فيه و لا حدّ معه فافهم ذلك.

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

ما أراك إلّا قد جمعت خيانةً وغشّاً للمسلمين »(١) .

مسالة ٦٨٢ : إذا قال له إنسان : اشتر لي ، فلا يعطه(٢) من عنده وإن كان الذي عنده أجود ، لأنّه إنّما أمره بالشراء ، وهو ظاهر في الشراء من الغير.

قال الصادقعليه‌السلام : « إذا قال لك الرجل : اشتر لي ، فلا تعطه من عندك وإن كان الذي عندك خيراً منه »(٣) .

وسأل إسحاقُ الصادقَعليه‌السلام : عن الرجل يبعث إلى الرجل فيقول له : ابتع لي ثوبا ، فيطلب في السوق فيكون عنده مثل ما يجد له في السوق فيعطيه من عنده ، قال : « لا يقربن هذا ولا يدنس نفسه ، إنّ الله عزّ وجلّ يقول ( إِنّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً )(٤) وإن كان عنده خيرا ممّا يجد له في السوق فلا يعطيه من عنده »(٥) .

مسالة ٦٨٣ : إذا قال التاجر لغيره : هلمّ أحسن إليك‌ ، باعه من غير ربح استحبابا.

قال الصادقعليه‌السلام : « إذا قال الرجل للرجل : هلمّ أحسن بيعك ، يحرم عليه الربح »(٦) .

ويكره الربح على المؤمن ، فإن فعل فلا يكثر منه.

قال الصادقعليه‌السلام : « ربح المؤمن على المؤمن ربا إلاّ أن يشتري بأكثر‌

____________________

(١) الكافي ٥ : ١٦١ / ٧ ، التهذيب ٧ : ١٣ ، ٥٥.

(٢) في الطبعة الحجريّة : « فلا يعطيه ».

(٣) الكافي ٥ : ١٥١ - ١٥٢ / ٦ ، التهذيب ٦ : ٣٥٢ / ٩٩٨ ، و ٧ : ٦ - ٧ / ١٩.

(٤) الأحزاب : ٧٢.

(٥) التهذيب ٦ : ٣٥٢ / ٩٩٩.

(٦) الكافي ٥ : ١٥٢ / ٩ ، الفقيه ٣ : ١٧٣ / ٧٧٤ ، التهذيب ٧ : ٧ / ٢١.

١٨١

من مائة درهم فاربح عليه قوت يومك ، أو يشتريه للتجارة فاربحوا عليهم وارفقوا بهم »(١) .

وينبغي أن يكون الساكت عنده بمنزلة المماكس ، والجاهل بمنزلة البصير المذاقّ.

قال قيس : قلت للباقرعليه‌السلام : إنّ عامّة من يأتيني إخواني فحدّ لي من معاملتهم ما لا أجوزه إلى غيره ، فقال : « إن ولّيت أخاك فحسن ، وإلاّ فبع بيع البصير المذاق »(٢) .

وعن الصادقعليه‌السلام في رجل عنده بيع وسعّره سعرا معلوما ، فمن سكت عنه ممّن يشتري منه باعه بذلك السعر ، ومن ماكسه فأبى أن يبتاع منه زاده » قال : « لو كان يزيد الرجلين والثلاثة لم يكن بذلك بأس ، فأمّا أن يفعله لمن أبى عليه ويماكسه(٣) ويمنعه مَنْ لا يفعل فلا يعجبني إلّا أن يبيعه بيعاً واحداً »(٤) .

مسالة ٦٨٤ : يستحبّ إذا دخل السوق الدعاءُ وسؤال الله تعالى أن يبارك له فيما يشتريه ويخير له فيما يبيعه ، والتكبير والشهادتان عند الشراء.

قال الصادقعليه‌السلام : « إذا دخلت سوقك فقُلْ : اللّهمّ إنّي أسألك من خيرها وخير أهلها ، وأعوذ بك من شرّها وشرّ أهلها ، اللّهمّ إنّي أعوذ بك أن أظلم أو أظلم أو أبغي أو يبغى عليّ أو أعتدي أو يُعتدى عليَّ ، اللّهمّ إنّي أعوذ بك من شرّ إبليس وجنوده وشرّ فسقة العرب والعجم ، وحسبي الله‌

____________________

(١) الكافي ٥ : ١٥٤ / ٢٢ ، التهذيب ٧ : ٧ / ٢٣ ، الاستبصار ٣ : ٦٩ / ٢٣٢.

(٢) التهذيب ٧ : ٧ / ٢٤ ، وفي الكافي ٥ : ١٥٣ - ١٥٤ / ١٩ عن ميسّر عن الإمام الصادقعليه‌السلام .

(٣) في المصدر : « كايسه » بدل « ماكسه ».

(٤) الكافي ٥ : ١٥٢ / ١٠ ، التهذيب ٧ : ٨ / ٢٥.

١٨٢

الذي لا إله إلّا هو عليه توكّلت ، وهو ربّ العرش العظيم »(١) .

وإذا اشترى المتاع ، قال ما روي عن الصادقعليه‌السلام ، قال : « إذا اشتريت شيئاً من متاع أو غيره فكبّر ، ثمّ قُلْ : اللّهمّ إنّي اشتريته ألتمس فيه من فضلك ، فاجعل فيه فضلاً ، اللّهمّ إنّي اشتريته ألتمس فيه رزقك ، فاجعل لي فيه رزقاً ، ثمّ أعد على(٢) كلّ واحدة ثلاث مرّات »(٣) .

قال الصادقعليه‌السلام : « وإذا أراد أن يشتري شيئاً قال : يا حيّ يا قيّوم يا دائم يا رؤوف يا رحيم ، أسألك بعزّتك وقدرتك وما أحاط به علمك أن تقسم لي من التجارة اليوم أعظمها رزقاً وأوسعها فضلاً وخيرها عاقبةً فإنّه لا خير فيما لا عاقبة له » قال الصادقعليه‌السلام : « إذا اشتريت دابّةً أو رأساً فقُلْ : اللّهمّ ارزقني أطولها حياةً وأكثرها منفعةً وخيرها عاقبةً »(٤) .

مسالة ٦٨٥ : ينبغي له إذا بُورك له في شي‌ء من أنواع التجارة أو الصناعة أن يلتزم به. وإذا تعسّر عليه فيه رزقه ، تحوّل إلى غيره.

قال الصادقعليه‌السلام : « إذا رزقت في(٥) شي‌ء فالزمه »(٦) .

وقال الصادقعليه‌السلام : « إذا نظر الرجل في تجارة فلم ير فيها شيئاً فليتحوّل إلى غيرها »(٧) .

____________________

(١) الكافي ٥ : ١٥٦ / ٢ ، التهذيب ٧ : ٩ / ٣٢.

(٢) كلمة « على » لم ترد في الكافي.

(٣) الكافي ٥ : ١٥٦ / ١ ، التهذيب ٧ : ٩ / ٣٣.

(٤) الكافي ٥ : ١٥٧ / ٣ ، التهذيب ٧ : ٩ - ١٠ / ٣٤.

(٥) في الفقيه والتهذيب : « من » بدل « في ».

(٦) الكافي ٥ : ١٦٨ ( باب لزوم ما ينفع من المعاملات ) الحديث ٣ ، الفقيه ٣ : ١٠٤ / ٤٢٣ ، التهذيب ٧ : ١٤ ، ٦٠.

(٧) الكافي ٥ : ١٦٨ / ٢ ، التهذيب ٧ : ١٤ / ٥٩.

١٨٣

وينبغي له التساهل والرفق في الأشياء.

قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « بارك الله على سهل البيع ، سهل الشراء ، سهل القضاء ، سهل الاقتضاء »(١) .

مسالة ٦٨٦ : يجوز لوليّ اليتيم الناظر في أمره المصلح لمالِه أن يتناول اُجرة المثل‌ ؛ لأنّه عمل يستحقّ عليه اُجرة ، فيساوي(٢) اليتيم غيره.

وسأل هشامُ بن الحكم الصادقَعليه‌السلام فيمن تولّى مال اليتيم مالَه أن يأكل منه؟ قال : « ينظر إلى ما كان غيره يقوم به من الأجر لهم فليأكل بقدر ذلك »(٣) .

ويستحبّ له التعفّف مع الغنى ، قال الله تعالى :( وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ ) (٤) .

مسالة ٦٨٧ : يجوز أن يواجر الإنسان نفسه.

سأل ابنُ سنان الكاظمَعليه‌السلام عن الإجارة ، فقال : « صالح لا بأس به إذا نصح قدر طاقته ، فقد آجر موسىعليه‌السلام نفسه واشترط فقال : إن شئت ثماني وإن شئت عشراً ، وأنزل الله عزّ وجلّ فيه( أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ ) (٥) »(٦) .

قال الشيخرحمه‌الله : لا ينافي هذا ما رواه الساباطي عن الصادقعليه‌السلام ،

____________________

(١) التهذيب ٧ : ١٨ / ٧٩.

(٢) في « ي » وظاهر « س » : « فساوى ».

(٣) التهذيب ٦ : ٣٤٣ / ٩٦٠.

(٤) النساء : ٦٠.

(٥) القصص : ٢٧.

(٦) الكافي ٥ : ٩٠ / ٢ ، الفقيه ٣ : ١٠٦ / ٤٤٢ ، التهذيب ٦ : ٣٥٣ / ١٠٠٣ ، الاستبصار ٣ : ٥٥ / ١٧٨.

١٨٤

قال : قلت له : الرجل يتّجر فإن هو آجر نفسه اُعطي ما يصيب في تجارته ، فقال : « لا يواجر نفسه ، ولكن يسترزق الله عزّ وجلّ ويتّجر فإنّه إذا آجر نفسه حظر على نفسه الرزق »(١) لأنّه محمول على الكراهة ، لعدم الوثوق بالنصح(٢) .

وأقول : لا استبعاد في نهيه عن الإجارة للإرشاد ، فإنّ التجارة أولى ؛ لما فيها من توسعة الرزق ، وقد نبّهعليه‌السلام في الخبر عليه. ولأنّه قد روي « أنّ الرزق قسّم عشرة أجزاء ، تسعة أجزاء منها(٣) في التجارة ، والباقي في سائر الأجزاء(٤) »(٥) .

مسالة ٦٨٨ : يحرم بيع السلاح لأعداء الدين في وقت الحرب‌ ، ولا بأس به في الهدنة.

قال هند السرّاج : قلت للباقرعليه‌السلام : أصلحك الله ما تقول إنّي كنت أحمل السلاح إلى أهل الشام فأبيعهم فلمـّا عرّفني الله هذا الأمر ضقت بذلك وقلت : لا أحمل إلى أعداء الله ، فقال : « احمل إليهم فإنّ الله عزّ وجلّ يدفع بهم عدوّنا وعدوّكم - يعني الروم - فإذا كانت الحرب بيننا فمَنْ حمل إلى عدوّنا سلاحاً يستعينون به علينا فهو مشرك »(٦) .

____________________

(١) التهذيب ٦ : ٣٥٣ / ١٠٠٢ ، الاستبصار ٣ : ٥٥ / ١٧٧.

(٢) التهذيب ٦ : ٣٥٣ ، ذيل الحديث ١٠٠٣ ، الاستبصار ٣ : ٥٥ ، ذيل الحديث ١٧٨.

(٣) في « س ، ي » : « منه ».

(٤) كذا قوله : « في سائر الأجزاء ». ونصّ الرواية في المصدر هكذا : « الرزق عشرة أجزاء ، تسعة أجزاء في التجارة وواحدة في غيرها ».

(٥) الكافي ٥ : ٣١٨ - ٣١٩ / ٥٩ ، الفقيه ٣ : ١٢٠ / ٥١٠.

(٦) الكافي ٥ : ١١٢ / ٢ ، التهذيب ٦ : ٣٥٣ / ١٠٠٤ ، الاستبصار ٣ : ٥٨ / ١٨٩.

١٨٥

وقال حكم السرّاج للصادقعليه‌السلام : ما ترى فيما يحمل إلى الشام من السروج وأداتها؟ فقال : « لا بأس أنتم اليوم بمنزلة أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، إنّكم في هدنة ، فإذا كانت المباينة حرم عليكم أن تحملوا إليهم السلاح والسروج »(١) .

وقال السرّاد للصادقعليه‌السلام : إنّي أبيع السلاح ، قال : « لا تبعه في فتنة »(٢) .

ويجوز بيع ما يُكنّ من النبل لأعداء الدين ؛ لأنّ محمّد بن قيس سأل الصادقَعليه‌السلام عن الفئتين تلتقيان من أهل الباطل أبيعهما السلاح؟ فقال : « بِعْهما ما يكنّهما ، الدرع والخُفّين ونحو هذا»(٣) .

مسالة ٦٨٩ : يجوز الأجر على الختان وخفض الجواري.

قال الصادقعليه‌السلام : « لمـّا هاجرن النساء إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله هاجرت فيهنّ امرأة يقال لها : أمّ حبيب وكانت خافضة تخفض الجواري ، فلمـّا رآها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال لها : يا اُمّ حبيب ، العمل الذي كان في يدك هو في يدك اليوم؟ قالت : نعم يا رسول الله إلّا أن يكون حراماً فتنهاني عنه ، قال : لا ، بل حلال فاُدْني منّي حتى اُعلّمك ، فدنت منه ، فقال : يا اُمّ حبيب إذا أنت فعلت فلا تَنْهكي ، أي لا تستأصلي ، وأشمّي فإنّه أشرق للوجه وأحظى عند الزوج ».

قال : « وكانت لاُمّ حبيب اُخت يقال لها : اُمّ عطيّة ماشطة ، فلمـّا‌

____________________

(١) التهذيب ٦ : ٣٥٤ / ١٠٠٥ ، الاستبصار ٣ : ٥٧ / ١٨٧ ، وفي الكافي ٥ : ١١٢ / ١ بتفاوت يسير.

(٢) الكافي ٥ : ١١٣ / ٤ ، التهذيب ٦ : ٣٥٤ / ١٠٠٧ ، الاستبصار ٣ : ٥٧ / ١٨٦.

(٣) الكافي ٥ : ١١٣ / ٣ ، التهذيب ٦ : ٣٥٤ / ١٠٠٦ ، الاستبصار ٣ : ٥٧ - ٥٨ / ١٨٨.

١٨٦

انصرفت اُمّ حبيب إلى اُختها أخبرتها بما قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فأقبلت اُمّ عطيّة إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله فأخبرته بما قالت لها اُختها ، فقال لها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : اُدني منّي يا اُمّ عطيّة إذا أنت قيّنت الجارية فلا تغسلي وجهها بالخرقة ، فإنّ الخرقة تذهب بماء الوجه »(١) .

مسالة ٦٩٠ : يكره كسب الإماء والصبيان.

قال الصادقعليه‌السلام : « نهى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله عن كسب الإماء فإنّها إن لم تجده زنت إلّا أمة قد عُرفت بصنعة يد ، ونهى عن كسب الغلام الصغير الذي لا يحسن صناعة فإنّه إن لم يجد سرق»(٢) .

ويكره للصانع سهر الليل كلّه في عمل صنعته ؛ لما فيه من كثرة الحرص على الدنيا وترك الالتفات إلى اُمور الآخرة.

قال الصادقعليه‌السلام : « مَنْ بات ساهراً في كسب ولم يعط العين حظَّها من النوم فكسبه ذلك حرام »(٣) .

وقال الصادقعليه‌السلام : « الصنّاع إذا سهروا الليل كلّه فهو سحت »(٤) .

وهو محمول على الكراهة الشديدة ، أو على التحريم إذا منع من الواجبات أو منع القسم بين الزوجات.

مسالة ٦٩١ : يجوز بيع عظام الفيل واتّخاذ الأمشاط وغيرها منها‌ ؛ لأنّها طاهرة ينتفع بها ، فجاز بيعها ؛ للمقتضي للجواز ، السالم عن المانع.

ولأنّ عبد الحميد بن سعد سأل الكاظمَعليه‌السلام عن عظام الفيل يحلّ بيعه‌

____________________

(١) الكافي ٥ : ١١٨ / ١ ، التهذيب ٦ : ٣٦٠ - ٣٦١ / ١٠٣٥.

(٢) الكافي ٥ : ١٢٨ / ٨ ، التهذيب ٦ : ٣٦٧ / ١٠٥٧.

(٣) الكافي ٥ : ١٢٧ / ٦ ، التهذيب ٦ : ٣٦٧ / ١٠٥٩.

(٤) الكافي ٥ : ١٢٧ / ٧ ، التهذيب ٦ : ٣٦٧ / ١٠٥٨.

١٨٧

أو شراؤه للذي يجعل منه الأمشاط؟ فقال : « لا بأس قد كان لأبي منه مشط أو أمشاط »(١) .

وكذا يجوز بيع الفهود وسباع الطير.

سأل عيصُ بن القاسم - في الصحيح - الصادقَعليه‌السلام عن الفهود وسباع الطير هل يلتمس التجارة فيها؟ قال : « نعم »(٢) .

أمّا القرد فقد روي النهي عن بيعه.

قال الصادقعليه‌السلام : « إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله نهى عن القرد أن يشترى أو يباع »(٣) .

وفي الطريق قول ، فالأولى الكراهة.

ودخل إلى الصادقعليه‌السلام رجل فقال له : إنّي سرّاج أبيع جلود النمر ، فقال : « مدبوغة هي؟» قال : نعم ، قال : « ليس به بأس »(٤) .

مسالة ٦٩٢ : لا بأس بأخذ الهديّة.

قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « الهديّة على ثلاثة وجوه : هديّة مكافأة ، وهديّة مصانعة ، وهديّة لله عزّ وجلّ »(٥) .

وروى إسحاق بن عمّار قال : قلت له : الرجل الفقير يهدي الهديّة يتعرّض لما عندي فآخذها ولا اُعطيه شيئاً أتحلّ لي؟ قال : « نعم ، هي لك حلال ولكن لا تدع أن تعطيه »(٦) .

____________________

(١) الكافي ٥ : ٢٢٦ / ١ ، التهذيب ٦ : ٣٧٣ / ١٠٨٣.

(٢) الكافي ٥ : ٢٢٦ / ٤ ، التهذيب ٦ : ٣٧٣ / ١٠٨٥.

(٣) الكافي ٥ : ٢٢٧ / ٧ ، التهذيب ٦ : ٣٧٤ / ١٠٨٦ ، و ٧ : ١٣٤ / ٥٩٤.

(٤) الكافي ٥ : ٢٢٧ / ٩ ، التهذيب ٧ : ١٣٥ / ٥٩٥.

(٥) الكافي ٥ : ١٤١ / ١ ، التهذيب ٦ : ٣٧٨ / ١١٠٧.

(٦) الكافي ٥ : ١٤٣ / ٦ ، الفقيه ٣ : ١٩٢ / ٨٧٢ ، التهذيب ٦ : ٣٧٩ / ١١١٢.

١٨٨

وقال محمّد بن مسلم : « جلساء الرجل شركاؤه في الهديّة »(١) .

وهي مستحبّة مرغَّبٌ فيها ؛ لما فيها من التودّد.

قال أمير المؤمنينعليه‌السلام : « لأن أهدي لأخي المسلم هديّة تنفعه أحبّ إليّ من أن أتصدّق بمثلها »(٢) .

وقبولها مستحبّ ؛ اقتداءً برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فإنّه قال : « لو اُهدي إليَّ كراع لقبلت »(٣) .

ولو أهدي إليه هديّة طلباً لثوابها فلم يثبه ، كان له الرجوع فيها إذا كانت العين باقيةً ؛ لما رواه عيسى بن أعين قال : سألت الصادقَعليه‌السلام عن رجل أهدى إلى رجل هديّة وهو يرجو ثوابها فلم يثبه صاحبها حتى هلك وأصاب الرجل هديّته بعينها ، أله أن يرتجعها إن قدر على ذلك؟ قال : « لا بأس أن يأخذه »(٤) .

مسالة ٦٩٣ : لا يجوز عمل التماثيل والصور المجسّمة. ولا بأس بها فيما يوطأ بالأرجل ، كالفراش وشبهه ؛ لما رواه أبو بصير عن الصادقعليه‌السلام ، قال : قلت له : إنّما(٥) نبسط عندنا الوسائد فيها التماثيل ونفرشها ، قال : « لا بأس بما يبسط منها ويفرش ويوطأ ، وإنّما يكره منها ما نُصب على الحائط وعلى السرير »(٦) .

مسالة ٦٩٤ : يجوز لمن أمره غيره بشراء شي‌ء أن يأخذ منه على ذلك‌

____________________

(١) الكافي ٥ : ١٤٣ / ١٠ ، التهذيب ٦ : ٣٧٩ / ١١١٣.

(٢) الكافي ٥ : ١٤٤ / ١٢ ، التهذيب ٦ : ٣٨٠ / ١١١٥.

(٣) الكافي ٥ : ١٤١ / ٢ ، التهذيب ٦ : ٣٧٨ / ١١٠٨.

(٤) الفقيه ٣ : ١٩٢ / ٨٧١ ، التهذيب ٦ : ٣٨٠ / ١١١٦.

(٥) كذا في المصدر والطبعة الحجريّة ، وفي « س ، ي » : « إنّا » بدل « إنّما ».

(٦) التهذيب ٦ : ٣٨١ / ١١٢٢.

١٨٩

الجُعْل ؛ لأنّه فعل مباح.

ولما رواه ابن سنان عن الصادقعليه‌السلام ، قال : سأله أبي وأنا حاضر ، فقال : ربما أمرنا الرجل يشتري لنا الأرض أو الدار أو الغلام أو الخادم ونجعل له جُعْلاً ، فقال الصادقعليه‌السلام : « لا بأس به »(١) .

مسالة ٦٩٥ : لا بأس بالزراعة ، بل هي مستحبّة.

روى سيابة أنّ رجلاً سأل الصادقعليه‌السلام : أسمع قوماً يقولون : إنّ الزراعة مكروهة ، فقال : « ازرعوا واغرسوا ، فلا والله ما عمل الناس عملاً أحلّ ولا أطيب منه ، والله لنزرعنّ الزرع ولنغرسنّ(٢) غرس النخل بعد خروج الدجّال »(٣) .

وسأل هارون بن يزيد الواسطي الباقرَعليه‌السلام (٤) عن الفلّاحين ، فقال : « هُم الزارعون كنوز الله في أرضه ، وما في الأعمال شي‌ء أحبّ إلى الله من الزراعة ، وما بعث الله نبيّاً إلّا زارعاً ، إلّا إدريسعليه‌السلام فإنّه كان خيّاطاً »(٥) .

مسالة ٦٩٦ : يجوز أخذ أجر البذرقة من القوافل إذا رضوا بذلك‌ ، وإلّا حرم.

كتب محمّد بن الحسن الصفّار إليه : رجل يبذرق القوافل من غير أمر السلطان في موضع مخيف ، ويشارطونه على شي‌ء مسمّى أن يأخذ منهم إذا صاروا إلى الأمن ، هل يحلّ له أن يأخذ منهم؟ فوقّععليه‌السلام « إذا واجر(٦)

____________________

(١) التهذيب ٦ : ٣٨١ / ١١٢٤.

(٢) في « ي » والطبعة الحجريّة والكافي : « ليزرعنّ ليغرسنّ ».

(٣) الكافي ٥ : ٢٦٠ / ٣ ، التهذيب ٦ : ٣٨٤ - ٣٨٥ / ١١٣٩.

(٤) كذا في « س ، ي » والطبعة الحجريّة. وفي المصدر : « يزيد بن هارون الواسطي عن جعفر بن محمّدعليهما‌السلام ».

(٥) التهذيب ٦ : ٣٨٤ / ١١٣٨.

(٦) في المصدر : « آجر ».

١٩٠

نفسه بشي‌ء معروف أخذ حقّه إن شاء الله »(١) .

مسالة ٦٩٧ : يكره بيع العقار إلّا لضرورة.

قال أبان بن عثمان : دعاني الصادقعليه‌السلام فقال : « باع فلان أرضه؟ » فقلت : نعم ، فقال: « مكتوب في التوراة أنّه مَنْ باع أرضاً أو ماءً ولم يضعه في أرض وماء ذهب ثمنه محقاً »(٢) .

وقال الصادقعليه‌السلام : « مشتري العقدة مرزوق وبائعها ممحوق »(٣) .

وقال مسمع للصادقعليه‌السلام : إنّ لي أرضاً تُطلب منّي ويرغّبوني ، فقال لي : « يا أبا سيّار أما علمت أنّه مَنْ باع الماء والطين ولم يجعل ماله في الماء والطين ذهب ماله هباءً » قلت : جعلت فداك إنّي أبيع بالثمن الكثير فأشتري ما هو أوسع ممّا بعت ، فقال : « لا بأس »(٤) .

مسالة ٦٩٨ : يكره الاستحطاط من الثمن بعد العقد‌ ؛ لأنّه قد صار ملكاً للبائع بالعقد ، فيندرج تحت قوله تعالى :( وَلا تَبْخَسُوا النّاسَ أَشْياءَهُمْ ) (٥) .

وروى إبراهيم الكرخي عن الصادقعليه‌السلام ، قال : اشتريت للصادقعليه‌السلام جاريةً فلمـّا ذهبت أنقدهم قلت : أستحطّهم ، قال : « لا ، إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله نهى عن الاستحطاط بعد الصفقة»(٦) .

____________________

(١) التهذيب ٦ : ٣٨٥ / ١١٤١.

(٢) الكافي ٥ : ٩١ / ٣ ، التهذيب ٦ : ٣٨٧ - ٣٨٨ / ١١٥٥.

(٣) الكافي ٥ : ٩٢ / ٤ ، التهذيب ٦ : ٣٨٨ / ١١٥٦.

(٤) التهذيب ٦ : ٣٨٨ / ١١٥٧ ، وبتفاوت في الكافي ٥ : ٩٢ / ٨.

(٥) هود : ٨٥.

(٦) الكافي ٥ : ٢٨٦ ( باب الاستحطاط بعد الصفقة ) الحديث ١ ، التهذيب ٧ : ٢٣٣ / ١٠١٧ ، الاستبصار ٣ : ٧٣ / ٢٤٣.

١٩١

قال الشيخ : إنّه محمول على الكراهة(١) ؛ لما روى معلّى بن خنيس عن الصادقعليه‌السلام ، قال : سألته عن الرجل يشتري المتاع ثمّ يستوضع ، قال : « لا بأس به » وأمرني فكلّمت له رجلاً في ذلك(٢) .

وعن يونس بن يعقوب عن الصادقعليه‌السلام ، قال : قلت له : الرجل يستوهب من الرجل الشي‌ء بعد ما يشتري فيهب له ، أيصلح له؟ قال : « نعم »(٣) .

وكذا في الإجارة. روى عليّ أبو الأكراد عن الصادقعليه‌السلام ، قال : قلت له : إنّي أتقبّل العمل فيه الصناعة وفيه النقش فاُشارط النقاش على شي‌ء فيما بيني وبينه العشرة أزواج بخمسة دراهم أو العشرين بعشرة ، فإذا بلغ الحساب قلت له : أحسن ، فأستوضعه من الشرط الذي شارطته عليه ، قال : « بطيب نفسه؟ » قلت : نعم ، قال : « لا بأس »(٤) .

مسالة ٦٩٩ : أصل الأشياء الإباحة إلّا أن يُعلم التحريم في بعضها.

روي عن الصادقعليه‌السلام - في الصحيح - قال : « كلّ شي‌ء يكون منه حرام وحلال فهو حلال لك أبداً حتى تعرف أنّه حرام بعينه فتدعه »(٥) .

وقالعليه‌السلام : « كلّ شي‌ء هو لك حلال حتى تعلم أنّه حرام بعينه فتدعه من قِبَل نفسك ، وذلك مثل الثوب يكون عليك قد اشتريته وهو سرقة ، أو المملوك عندك ولعلّه حُرٌّ قد باع نفسه أو خُدع فبِيع أو قُهر ، أو امرأة تحتك وهي اُختك أو رضيعتك ، والأشياء كلّها على هذا حتى يستبين لك غير‌

____________________

(١) التهذيب ٧ : ٢٣٣ ، ذيل الحديث ١٠١٧ ، الاستبصار ٣ : ٧٤ ، ذيل الحديث ٢٤٥.

(٢) التهذيب ٧ : ٢٣٣ / ١٠١٨ ، الاستبصار ٣ : ٧٣ / ٢٤٤.

(٣) التهذيب ٧ : ٢٣٣ - ٢٣٤ / ١٠١٩ ، الاستبصار ٣ : ٧٤ / ٢٤٥.

(٤) التهذيب ٧ : ٢٣٤ / ١٠٢٠.

(٥) الكافي ٥ : ٣١٣ / ٣٩ ، التهذيب ٧ : ٢٢٦ / ٩٨٨.

١٩٢

ذلك أو تقوم به البيّنة »(١) .

مسالة ٧٠٠ : لا ينبغي التهوين في تحصيل قليل الرزق‌ ، فإنّ علي بن بلال روى عن الحسين الجمّال قال : شهدت إسحاق بن عمّار وقد شدّ كيسه وهو يريد أن يقوم فجاء إنسان يطلب دراهم بدينار ، فحلّ الكيس وأعطاه دراهم بدينار ، فقلت له : سبحان الله ما كان فضل هذا الدينار ، فقال إسحاق بن عمّار : ما فعلت هذا رغبة في الدينار ، ولكن سمعت الصادقَعليه‌السلام يقول : « من استقلّ قليل الرزق حرم الكثير »(٢) .

مسألة ٧٠١ : ينبغي الاقتصاد في المعيشة وترك الإسراف.

قال الباقرعليه‌السلام : « من علامات المؤمن ثلاث : حسن التقدير في المعيشة ، والصبر على النائبة ، والتفقّه في الدين » وقال : « ما خير في رجل لا يقتصد في معيشته ما يصلح [ لا ](٣) لدنياه ولا لآخرته »(٤) .

وقال الصادقعليه‌السلام في قوله عزّ وجلّ :( وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ ) (٥) قال : « ضمّ يده » فقال : « هكذا »( وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ ) (٦) قال : « وبسط راحته » وقال : « هكذا »(٧) .

وقال الصادقعليه‌السلام : « ثلاثة من السعادة : الزوجة الموافقة(٨) ، والأولاد البارّون ، والرجل يرزق معيشته ببلده يغدو إليه ويروح »(٩) .

____________________

(١) الكافي ٥ : ٣١٣ - ٣١٤ / ٤٠ ، التهذيب ٧ : ٢٢٦ ، ٩٨٩.

(٢) الكافي ٥ : ٣١١ / ٣٠ ، التهذيب ٧ : ٢٢٧ / ٩٩٣.

(٣) ما بين المعقوفين من المصدر.

(٤) التهذيب ٧ : ٢٣٦ / ١٠٢٨.

(٥ و ٦ ) الإسراء : ٢٩.

(٧) التهذيب ٧ : ٢٣٦ / ١٠٣١.

(٨) في المصدر : « المؤاتية » بدل « الموافقة ».

(٩) التهذيب ٧ : ٢٣٦ / ١٠٣٢ ، وفي الكافي ٥ : ٢٥٨ ( باب أنّ من السعادة ) الحديث ٢ بتفاوت يسير.

١٩٣

الفصل الثاني : في الشفعة

الشفعة مأخوذة من قولك : شفعت كذا بكذا ، إذا جعلته شفعاً به كأنّ الشفيع يجعل نصيبه شفعاً بنصيب صاحبه.

وأصلها التقوية والإعانة ، ومنه الشفاعة والشفيع ؛ لأنّ كلّ واحد من الموترين(١) يتقوّى بالآخَر.

وفي الشرع عبارة عن استحقاق الشريك انتزاع حصّة شريكه ، المنتقلة عنه بالبيع ، أو حقّ تملّك قهري يثبت(٢) للشريك القديم على الحادث ، وليست بيعاً ، فلا يثبت فيها خيار المجلس.

ولا بدّ في الشفعة من مشفوع - وهو المأخوذ بالشفعة ، وهو محلّها - ومن آخذٍ له ، ومن مأخوذ منه ، فهُنا مباحث :

البحث الأوّل : المحلّ.

محلّ الشفعة كلّ عقار ثابت مشترك بين اثنين قابل للقسمة.

واعلم أنّ أعيان الأموال على أقسام ثلاثة :

الأوّل : الأراضي. وتثبت فيها الشفعة أيّ أرض كانت بلا خلاف - إلّا من الأصمّ(٣) - لما رواه العامّة عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : « الشفعة فيما‌

____________________

(١) كذا في « س ، ي » والطبعة الحجريّة.

(٢) في « س ، ي » : « ثبت ».

(٣) حلية العلماء ٥ : ٢٦٣ ، المغني والشرح الكبير ٥ : ٤٦٠.

١٩٤

لم يقسم ، فإذا وقعت(١) الحدود فلا شفعة »(٢) .

ومن طريق الخاصّة : قول الصادقعليه‌السلام : « الشفعة لا تكون إلّا لشريكٍ »(٣) .

احتجّ الأصمّ على قوله بنفي الشفعة في كلّ شي‌ء : بأنّ في إثباتها إضراراً بأرباب الأملاك ، فإنّه إذا علم المشتري أنّه يؤخذ منه ما يبتاعه ، لم يبتعه ، ويتقاعد الشريك بالشريك ، ويستضرّ المالك(٤) .

وهو غلط ؛ لما تقدّم من الأخبار. وما ذكره غلط ؛ لأنّا نشاهد البيع يقع كثيراً ولا يمتنع المشتري - باعتبار استحقاق الشفعة - من الشراء. وأيضاً فإنّ له مدفعاً إذا علم التضرّر بذلك بأن يقاسم الشريك ، فتسقط الشفعة إذا باع بعد القسمة.

وتثبت الشفعة في الأراضي سواء بيعت وحدها أو مع شي‌ء من المنقولات ، ويوزّع الثمن عليهما بالنسبة ، ويأخذ الشفيع الشقص بالقسط.

الثاني : المنقولات‌ ، كالأقمشة والأمتعة والحيوانات ، وفيها لعلمائنا قولان :

أحدهما - وهو المشهور - : أنّه لا شفعة فيها - وبه قال الشافعي(٥) -

____________________

(١) في « س ، ي » والطبعة الحجريّة : « وضعت » بدل « وقعت ». وما أثبتناه هو الموافق لما في المصادر ، وكذا تأتي الرواية أيضاً بعنوان « وقعت » في ص ٢٠٧ - ٢٠٨.

(٢) الموطّأ ٢ : ٧١٣ / ١ ، التمهيد ٧ : ٣٧ - ٤٤ ، سنن أبي داوُد ٣ : ٢٨٥ / ٣٥١٤ ، سنن البيهقي ٦ : ١٠٣ و ١٠٥ ، معرفة السنن والآثار ٨ : ٣٠٨ / ١١٩٨٦.

(٣) التهذيب ٧ : ١٦٤ / ٧٢٥.

(٤) المغني والشرح الكبير ٥ : ٤٦٠.

(٥) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٨٣ ، التنبيه في الفقه الشافعي : ١١٦ ، الوجيز ١ : ٢١٥ ، الوسيط ٤ : ٦٩ ، حلية العلماء ٥ : ٢٦٣ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٣٣٧ ، =

١٩٥

لما رواه العامّة عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله قال : « لا شفعة إلّا في رَبْعٍ أو حائط »(١) .

ومن طريق الخاصّة : قول الصادقعليه‌السلام : « قضى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بالشفعة بين الشركاء في الأرضين والمساكن ، ثمّ قال : لا ضرر ولا إضرار »(٢) .

وقول الصادقعليه‌السلام : « ليس في الحيوان شفعة »(٣) .

ولأنّ الأصل عدم الشفعة ، ثبت في الأراضي بالإجماع ، فيبقى الباقي على المنع.

والثاني لعلمائنا : تثبت الشفعة في كلّ المنقولات - وبه قال مالك في إحدى الروايات عنه(٤) - لما رواه العامّة أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله قال : « الشفعة في كلّ شي‌ء »(٥) .

ومن طريق الخاصّة : رواية يونس عن بعض رجاله عن الصادقعليه‌السلام ، قال : سألته عن الشفعة لمن هي؟ وفي أيّ شي‌ء هي؟ ولمن تصلح؟ وهل تكون في الحيوان شفعة؟ وكيف هي؟ فقال : « الشفعة جائزة في كلّ شي‌ء من حيوان أو أرض أو متاع إذا كان الشي‌ء بين شريكين لا غيرهما ، فباع أحدهما نصيبه فشريكه أحقّ به من غيره ، وإن زاد على‌

____________________

= العزيز شرح الوجيز ٥ : ٤٨٢ و ٤٨٣ ، روضة الطالبين ٤ : ١٥٥ ، منهاج الطالبين : ١٥١.

(١) نصب الراية ٤ : ١٧٨ نقلاً عن البزار في مسنده.

(٢) الكافي ٥ : ٢٨٠ / ٤ ، الفقيه ٣ : ٤٥ / ١٥٤ ، التهذيب ٧ : ١٦٤ / ٧٢٧.

(٣) التهذيب ٧ : ١٦٥ / ٧٣٣ ، الاستبصار ٣ : ١١٧ - ١١٨ / ٤١٩.

(٤) حلية العلماء ٥ : ٢٦٣ - ٢٦٤ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٤٨٣ ، المغني ٥ : ٤٦٤ ، الشرح الكبير ٥ : ٤٧٢.

(٥) سنن الترمذي ٣ : ٦٥٤ / ١٣٧١ ، سنن البيهقي ٦ : ١٠٩ ، المعجم الكبير - للطبراني - ١١ : ١٢٣ / ١١٢٤٤ ، شرح معاني الآثار ٤ : ١٢٥.

١٩٦

الاثنين فلا شفعة لأحدٍ منهم »(١) .

ولأنّ الشفعة تثبت لأجل ضرر القسمة ، وذلك حاصل فيما يُنقل.

والجواب : أنّ خبر العامّة وخبر الخاصّة معاً مرسلان ، وأخبارنا أشهر ، فيتعيّن العمل بها وطرح أخبارهم. والضرر بالقسمة إنّما هو لما يحتاج إليه من إحداث المرافق ، وذلك يختصّ بالأرض دون غيرها ، فافترقا.

وقد وردت رواية تقتضي ثبوت الشفعة في المملوك دون باقي الحيوانات :

روى الحلبي - في الصحيح - عن الصادقعليه‌السلام أنّه قال في المملوك بين شركاء فيبيع أحدهم نصيبه ، فيقول صاحبه : أنا أحقّ به ، أله ذلك؟

قال : « نعم إذا كان واحدا » فقيل : في الحيوان شفعة؟ فقال : « لا »(٢) .

وعن عبد الله بن سنان قال : قلت للصادقعليه‌السلام : المملوك يكون بين شركاء فباع أحدهم نصيبه ، فقال أحدهم : أنا أحقّ به ، إله ذلك؟ قال : « نعم إذا كان واحداً »(٣) .

وعن مالك رواية اُخرى : أنّ الشفعة تثبت في السفن خاصّة(٤) .

الثالث : الأعيان التي كانت منقولةً في الأصل ثمّ اُثبتت في الأرض للدوام‌ ، كالحيطان والأشجار ، وإن بيعت منفردةً ، فلا شفعة فيها على المختار ؛ لأنّها في حكم المنقولات ، وكانت في الأصل منقولةً ، وستنتهي‌

____________________

(١) الكافي ٥ : ٢٨١ / ٨ ، التهذيب ٧ : ١٦٤ - ١٦٥ / ٧٣٠ ، الاستبصار ٣ : ١١٦ / ٤١٣.

(٢) الكافي ٥ : ٢١٠ / ٥ ، التهذيب ٧ : ١٦٦ / ٧٣٥ ، الاستبصار ٣ : ١١٦ / ٤١٥.

(٣) التهذيب ٧ : ١٦٥ - ١٦٦ / ٧٣٤ ، الاستبصار ١ : ١١٦ / ٤١٤.

(٤) حلية العلماء ٥ : ٢٦٣ - ٢٦٤ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٤٨٣ ، بدائع الصنائع ٥ : ١٢.

١٩٧

إليه وإن طال أمدها ، وليس معها ما تجعل تابعةً له ، وبه قال الشافعي(١) .

وحكى بعض أصحابه قولاً آخَر : أنّه تثبت فيها الشفعة كثبوتها في الأرض(٢) .

ولو بِيعت الأرض وحدها ، ثبتت الشفعة فيها ، ويكون الشفيع معه كالمشتري.

وإن بِيعت الأبنية والأشجار مع الأرض ، ثبتت الشفعة فيها تبعا للأرض ، لأنّ في بعض أخبار العامّة لفظ « الرّبع »(٣) وهو يتناول الأبنية ، وفي بعض أخبار الخاصّة : « والمساكن »(٤) وهو يتناول الأبنية أيضاً ، وفي بعضها : « الدار »(٥) وهو يتناول الجدران والسقوف والأبواب.

مسالة ٧٠٢ : الأثمار على الأشجار - سواء كانت مؤبَّرةً أو لا - إذا بِيعت معها ومع الأرض ، لا تثبت فيها الشفعة - وبه قال الشافعي(٦) - وكذا إذا شرط إدخال الثمرة في البيع ؛ لأنّها لا تدوم في الأرض.

وكذا الزروع الثابتة في الأرض ؛ لأنّ ما لا يدخل في بيع الأرض بالإطلاق لا يثبت له حكم الشفعة ، كالفدان(٧) الذي يعمل فيها ، وعكسه‌

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٤٨٤ ، روضة الطالبين ٤ : ١٥٦.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٤٨٤.

(٣) تقدّمت الإشارة إلى مصدره في ص ١٩٥ ، الهامش (١).

(٤) تقدّمت الإشارة إلى مصدره في ص ١٩٥ ، الهامش (٢).

(٥) راجع : الكافي ٥ : ٢٨٠ / ٢ ، والتهذيب ٧ : ١٦٥ / ٧٣١ ، والاستبصار ٣ : ١١٧ / ٤١٧.

(٦) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٨٤ ، حلية العلماء ٥ : ٢٦٥ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٣٤٤ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٤٨٤ ، روضة الطالبين ٤ : ١٥٦ ، مختصر اختلاف العلماء ٤ : ٢٤٩ ، ١٩٦٧ ، المغني ٥ : ٤٦٤ ، الشرح الكبير ٥ : ٤٧١.

(٧) الفَدان : الذي يجمع أداة الثورين في القِران للحرث. لسان العرب ١٣ : ٣٢١ « فدن ».

١٩٨

البناء والشجر.

وقال الشيخ وأبو حنيفة ومالك : تدخل الثمار والزروع مع اُصولها ومع الأرض التي نبت الزرع بها(١) ؛ لأنّها متّصلة بما فيه الشفعة ، فتثبت الشفعة فيها ، كالبناء والغراس(٢) .

ويمنع الاتّصال ، بل هي بمنزلة الوتد المثبت في الحائط.

وفي الدولاب الغرّاف والناعورة نظر من حيث عدم جريان العادة بنقله ، فكان كالبناء.

والأقرب : عدم الدخول.

ولا تدخل الحبال التي تركب عليها الدلاء.

مسالة ٧٠٣ : قد بيّنّا أنّه لا تثبت الشفعة في المنقولات‌ ، ولا فرق بين أن تباع منفردةً أو مع الأرض التي تثبت فيها الشفعة ، بل يأخذ الشفيع الشقص من الأرض خاصّة بحصّته من الثمن.

وعن مالك رواية ثالثة أنّها : إن بِيعت وحدها ، فلا شفعة فيها. وإن بيعت مع الأرض ، ففيها الشفعة ؛ لئلّا تتفرّق الصفقة(٣) .

والجواب : المعارضة بالنصوص.

ولو كانت الثمرة غير مؤبَّرة ، دخلت في المبيع شرعاً ، ولا يأخذها الشفيع ؛ لأنّها منقولة. ولأنّ المؤبَّرة لا تدخل في الشفعة فكذا غيرها ، وهو‌

____________________

(١) في الطبعة الحجريّة : « يثبت الزرع فيها » بدل « نبت الزرع بها ».

(٢) الخلاف ٣ : ٤٤٠ ، المسألة ١٥ ، المبسوط - للطوسي - ٣ : ١١٩ ، المبسوط - للسرخسي - ١٤ : ١٣٤ ، بدائع الصنائع ٥ : ٢٧ - ٢٨ ، مختصر اختلاف العلماء ٤ : ٢٤٩ / ١٩٦٧ ، المدوّنة الكبرى ٥ : ٤٢٧ ، حلية العلماء ٥ : ٢٦٥ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٤٨٤ ، المغني ٥ : ٤٦٤ ، الشرح الكبير ٥ : ٤٧١.

(٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٤٨٣.

١٩٩

أحد قولي الشافعي. والآخَر : أنّها تدخل في الشفعة ؛ لدخولها في مطلق البيع(١) .

وعلى هذا فلو لم يتّفق الأخذ حتى تأبّرت ، فوجهان للشافعيّة :

أظهرهما : الأخذ ؛ لأنّ حقّه تعلّق بها ، وزيادتها كالزيادة الحاصلة في الشجرة.

والثاني : المنع ؛ لخروجها عن كونها تابعةً للنخل.

وعلى هذا فبِمَ يأخذ الأرض والنخيل؟ وجهان :

أشبههما : بحصّتهما من الثمن كما في المؤبَّرة ، وهو مذهبنا.

والثاني : بجميع الثمن تنزيلاً له منزلة عيبٍ يحدث بالشقص(٢) .

ولو كانت النخيل حائلةً عند البيع ثمّ حدثت الثمرة قبل أخذ الشفيع ، فإن كانت مؤبَّرةً ، لم يأخذها. وإن كانت غير مؤبَّرة ، فعلى قولين(٣) .

وعندنا لا يأخذها ؛ لاختصاص الأخذ عندنا بالبيع ، والشفعة ليست بيعاً.

وإذا بقيت الثمرة للمشتري ، فعلى الشفيع إبقاؤها إلى الإدراك مجّاناً.

وهذا إذا بِيعت الأشجار مع الأرض أو مع البياض الذي يتخلّلها ، أمّا إذا بيعت الأشجار ومغارسها لا غير ، فوجهان للشافعي ، وكذا لو باع الجدار مع الاُسّ :

أحدهما : أنّه تثبت الشفعة ؛ لأنّها أصل ثابت.

____________________

(١) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٨٤ ، حلية العلماء ٥ : ٢٦٥ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٤٨٤ ، روضة الطالبين ٤ : ١٥٦.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٤٨٤ ، روضة الطالبين ٤ : ١٥٦.

(٣) التهذيب - للبغوي - ٤ : ٣٤٤ - ٣٤٥ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٤٨٥ ، روضة الطالبين ٣ : ١٥٦.

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443