الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٣

الميزان في تفسير القرآن8%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 443

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 443 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 111166 / تحميل: 6216
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٣

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

فقوله:( وَ ما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا ) كالدفع لما يمكن أن يتوهّم من سابق الآيات المنبئة عن لحوق أثر الأعمال بصاحبها و بشارة الصالحين بالأجر الكبير و الطالحين بالعذاب الأليم فيوهم أنّ تبعات السيّئات أعمّ من العذاب الدنيويّ و الاُخرويّ سيترتّب عليها فيغشى صاحبها من غير قيد و شرط.

فاُجيب أنّ الله سبحانه برحمته الواسعة و عنايته الكاملة لا يعذّب الناس بعذاب الاستئصال و هو عذاب الدنيا إلّا بعد أن يبعث رسولاً ينذرهم به و إن كان له أن يعذّبهم به لكنّه برحمته و رأفته يبالغ في الموعظة و يتمّ الحجّة بعد الحجّة ثمّ ينزل العقوبة فقوله:( وَ ما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا ) نفي لوقوع العذاب لا لجوازه.

فالآية - كما ترى - ليست مسوقة لإمضاء حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان بل هي تكشف عن اقتضاء العناية الإلهيّة أن لا يعذّب قوماً بعذاب الاستئصال إلّا بعد أن يبعث إليهم رسولاً فيؤكّد لهم الحجّة و يقرعهم بالبيان بعد البيان.

و أمّا النبوّة الّتي يبلغ بها التكاليف و يبيّن بها الشرائع فهي الّتي تستقرّ بها المؤاخذة الإلهيّة و المغفرة، و يثبت بها الثواب و العقاب الاُخرويّان فيما لا يتبيّن فيه الحقّ و الباطل إلّا من طريق النبوّة كالتكاليف الفرعيّة، و أمّا الاُصول الّتي يستقلّ العقل بإدراكها كالتوحيد و النبوّة و المعاد فإنّما تلحق آثار قبولها و تبعات ردّها الإنسان بالثبوت العقليّ من غير توقّف على نبوّة أو رسالة.

و بالجملة اُصول الدين و هي الّتي يستقلّ العقل ببيانها و يتفرّع عليها قبول الفروع الّتي تتضمّنها الدعوة النبويّة، تستقرّ المؤاخذة الإلهيّة على ردّها بمجرّد قيام الحجّة القاطعة العقليّة من غير توقّف على بيان النبيّ و الرسول لأنّ صحّة بيان النبيّ و الرسول متوقّفة عليها فلو توقّف هي عليها لدارت.

و تستقرّ المؤاخذة الاُخرويّة على الفروع بالبيان النبويّ و لا تتمّ الحجّة فيها بمجرّد حكم العقل، و قد فصّلنا القول فيه في مباحث النبوّة في الجزء الثاني و في قصص نوح في الجزء العاشر من الكتاب، و في غيرهما. و المؤاخذة الدنيويّة بعذاب الاستئصال يتوقّف على بعث الرسول بعناية من الله سبحانه لا لحكم عقليّ

٦١

يحيل هذا النوع من المؤاخذة قبل بعث الرسول كما عرفت.

و للمفسّرين في الآية مشاجرات طويلة تركنا التعرّض لها لخروج أكثرها عن غرض البحث التفسيريّ، و لعلّ الّذي أوردناه من البحث لا يوافق ما أوردوه لكنّ الحقّ أحقّ بالاتّباع.

قوله تعالى: ( وَ إِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً ) قال الراغب: الترفه التوسّع في النعمة يقال: اُترف فلان فهو مترف - إلى أن قال في قوله:( أَمَرْنا مُتْرَفِيها ) - هم الموصوفون بقوله سبحانه:( فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَ نَعَّمَهُ ) انتهى. و قال في المجمع: الترفه النعمة، قال ابن عرفة: المترف المتروك يصنع ما يشاء و لا يمنع منه، و قال: التدمير الإهلاك و الدمار الهلاك. انتهى.

و قوله: ( إِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً ) أي إذا دنا وقت هلاكهم من قبيل قولهم:إذا أراد العليل أن يموت كان كذا، و إذا أرادت السماء أن يمطر كان كذا، أي إذا دنا وقت موته و إذا دنا وقت إمطارها فإنّ من المعلوم أنّه لا يريد الموت بحقيقة معنى الإرادة و أنّها لا تريد الإمطار كذلك، و في القرآن:( فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ ) الآية.

و يمكن أن يراد به الإرادة الفعليّة و حقيقتها توافق الأسباب المقتضية للشي‏ء و تعاضدها على وقوعه، و هو قريب من المعنى الأوّل و حقيقته تحقّق ما لهلاكهم من الأسباب و هو كفران النعمة و الطغيان بالمعصية كما قال سبحانه:( لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَ لَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ ) إبراهيم: ٧، و قال:( الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ ) الفجر: ١٤.

و قوله:( أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها ) من المعلوم من كلامه تعالى أنّه لا يأمر بالمعصية أمراً تشريعيّاً فهو القائل:( قُلْ إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ ) الأعراف: ٢٨ و أمّا الأمر التكوينيّ فعدم تعلّقه بالمعصية من حيث إنّها معصية أوضح لجعله الفعل

٦٢

ضروريّاً يبطل معه تعلّقه باختيار الإنسان و لا معصية مع عدم الاختيار قال تعالى:( إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) يس: ٨٢.

فمتعلّق الأمر في قوله:( أَمَرْنا ) إن كان هو الطاعة كان الأمر بحقيقة معناه و هو الأمر التشريعيّ و كان هو الأمر الّذي توجّه إليهم بلسان الرسول الّذي يبلّغهم أمر ربّهم و ينذرهم بعذابه لو خالفوا و هو الشأن الّذي يختصّ بالرسول كما تقدّمت الإشارة إليه فإذا خالفوا و فسقوا عن أمر ربّهم حقّ عليهم القول و هو أنّهم معذّبون إن خالفوا فاُهلكوا و دمّروا تدميرا.

و إن كان متعلّق الأمر هو الفسق و المعصية كان الأمر مراداً به الإكثار من إفاضة النعم عليهم و توفيرها على سبيل الإملاء و الاستدراج و تقريبهم بذلك من الفسق حتّى يفسقوا فيحقّ عليهم القول و ينزل عليهم العذاب.

و هذان وجهان في معنى قوله:( أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها ) يجوز توجيهه بكلّ منهما لكن يبعّد أوّل الوجهين أوّلاً أنّ قولنا: أمرته ففعل و أمرته ففسق ظاهره تعلّق الأمر بعين ما فرّع عليه، و ثانياً عدم ظهور وجه لتعلّق الأمر بالمترفين مع كون الفسق لجميع أهل القرية و إلّا لم يهلكوا.

قال في الكشّاف: و الأمر مجاز لأنّ حقيقة أمرهم بالفسق أن يقول لهم: افسقوا، و هذا لا يكون فبقي أن يكون مجازاً، و وجه المجاز أنّه صبّ عليهم النعمة صبّا فجعلوها ذريعة إلى المعاصي و اتّباع الشهوات فكأنّهم مأمورون بذلك لتسبّب إيلاء النعمة فيه، و إنّما خوّلهم إيّاها ليشكروا و يعملوا فيها الخير و يتمكّنوا من الإحسان و البرّ كما خلقهم أصحّاء أقوياء و أقدرهم على الخير و الشرّ و طلب منهم إيثار الطاعة على المعصية فآثروا الفسوق فلمّا فسقوا حقّ عليهم القول و هو كلمة العذاب فدمّرهم.

فإن قلت: هلّا زعمت أنّ معناه أمرناهم بالطاعة ففسقوا؟ قلت: لأنّ حذف ما لا دليل عليه غير جائز فكيف يحذف ما الدليل قائم على نقيضه؟ و ذلك أنّ المأمور به إنّما حذف لأنّ فسقوا يدلّ عليه و هو كلام مستفيض يقال، أمرته فقام و أمرته فقرء

٦٣

لا يفهم منه إلّا أنّ المأمور به قيام أو قراءة و لو ذهبت تقدّر غيره لزمت من مخاطبك علم الغيب.

و لا يلزم على هذا قولهم: أمرته فعصاني أو فلم يمتثّل أمري لأنّ ذلك مناف للأمر مناقض له، و لا يكون ما يناقض الأمر مأموراً به فكان محالاً أن يقصد أصلاً حتّى يجعل دالّاً على المأمور به فكان المأمور به في هذا الكلام غير مدلول عليه و لا منويّ لأنّ من يتكلّم بهذا الكلام فإنّه لا ينوي لأمره مأموراً به كأنّه يقول: كان منّي أمر فلم يكن منه طاعة كما أنّ من يقول: فلان يعطي و يمنع و يأمر و ينهى غير قاصد إلى مفعول.

فإن قلت: هلّا كان ثبوت العلم بأنّ الله لا يأمر بالفحشاء و إنّما يأمر بالقصد و الخير دليلاً على أنّ المراد أمرناهم بالخير ففسقوا؟.

قلت: لا يصحّ ذلك لأنّ قوله: فَفَسَقُوا يدافعه فكأنّك أظهرت شيئاً و أنت تدّعي إضمار خلافه فكان صرف اللفظ إلى المجاز هو الوجه. انتهى.

و هو كلام حسن في تقريب ظهور قوله:( أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها ) في كون المأمور به هو الفسق و أمّا كونه صريحاً فيه بحيث لا يحتمل إلّا ذلك كما يدّعيه فلا، فلم لا يجوز أن تكون الآية من قبيل قولنا: أمرته فعصاني حيث تكون المعصية و هي منافية للأمر قرينة على كون المأمور به هو الطاعة و الفسق و المعصية واحد فإنّ الفسق هو الخروج عن زيّ العبوديّة و الطاعة فهو المعصية و يكون المعنى حينئذ: أمرنا مترفيها بالطاعة ففسقوا عن أمرنا و عصوه، أو يكون الأمر في الآية مستعملاً استعمال اللّازم، و المعنى توجّه أمرنا إلى مترفيها ففسقوا فيها عنه.

فالحقّ أنّ الوجهين لا بأس بكلّ منهما و إن كان الثاني لا يخلو من ظهور و قد اُجيب عن اختصاص الأمر بالمترفين بأنّهم الرؤساء السادة و الأئمّة المتبوعون و غيرهم أتباعهم و حكم التابع تابع لحكم المتبوع و لا يخلو من سقم.

و ذكر بعضهم في توجيه الآية أنّ قوله:( أَمَرْنا مُتْرَفِيها ) إلخ صفة لقرية و ليس جواباً لإذا و جواب إذا محذوف على حدّ قوله:( حتّى إِذا جاؤُها وَ فُتِحَتْ أَبْوابُها

٦٤

وَ قالَ لَهُمْ خَزَنَتُها ) إلى آخر الآية للاستغناء عنه بدلالة الكلام.

و ذكر آخرون أنّ في الآية تقديماً و تأخيراً و التقدير و إذا أمرنا مترفي قرية ففسقوا فيها أردنا أن نهلكها، و ذلك أنّه لا معنى لإرادة الهلاك قبل تحقّق سببه و هو الفسق، و هو وجه سخيف كسابقه.

هذا كلّه على القراءة المعروفة( أَمَرْنا ) بفتح الهمزة ثمّ الميم مخفّفة من الأمر بمعنى الطلب، و ربّما اُخذ من الأمر بمعنى الإكثار أي أكثرنا مترفيها مالاً و ولداً ففسقوا فيها.

و قرئ( آمرنا) بالمدّ و نسب إلى عليّعليه‌السلام و إلى عاصم و ابن كثير و نافع و غيرهم و هو من الإيمان بمعنى إكثار المال و النسل أو بمعنى تكليف إنشاء فعل، و قرئ أيضاً( أمّرنا) بتشديد الميم من التأمير بمعنى تولية الإمارة و نسب ذلك إلى عليّ و الحسن و الباقرعليهم‌السلام و إلى ابن عبّاس و زيد بن عليّ و غيرهم.

قوله تعالى: ( وَ كَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَ كَفى‏ بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً ) قال في المفردات: القرن القوم المقترنون في زمن واحد و جمعه قرون قال:( وَ لَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ ) ( وَ كَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ ) انتهى و معنى الآية ظاهر، و فيها تثبيت ما ذكر في الآية السابقة من سنّة الله الجارية في إهلاك القرى بالإشارة إلى القرون الماضية الهالكة.

و الآية لا تخلو من إشعار بأنّ سنّة الإهلاك إنّما شرعت في القرون الإنسانيّة بعد نوحعليه‌السلام و هو كذلك، و قد تقدّم في تفسير قوله تعالى:( كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ ) البقرة: ٢١٣ في الجزء الثاني من الكتاب أنّ المجتمع الإنسانيّ قبل زمن نوحعليه‌السلام كانوا على سذاجة الفطرة ثمّ اختلفوا بعد ذلك.

قوله تعالى: ( مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً ) العاجلة صفة محذوفة الموصوف و لعلّ موصوفها الحياة بقرينة مقابلتها للآخرة في الآية التالية و هي الحياة الآخرة، و قيل: المراد النعم العاجلة و قيل: الأعراض الدنيويّة العاجلة.

٦٥

و في المفردات،: أصل الصلى لإيقاد النار. قال: و قال الخليل: صلي الكافر النار قاسى حرّها( يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ ) و قيل: صلي النار دخل فيها، و أصلاها غيره قال:( فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً ) انتهى. و في المجمع،: الدحر الإبعاد و المدحور المبعد المطرود يقال: اللّهمّ أدحر عنّا الشيطان أي أبعده انتهى.

لمّا ذكر سبحانه سنّته في التعذيب الدنيويّ إثر دعوة الرسالة و أنّه يهدي الاُمم الإنسانيّة إلى الإيمان و العمل الصالح حتّى إذا فسدوا و أفسدوا بعث إليهم رسولاً فإذا طغوا و فسقوا عذّبهم عذاب الاستئصال، عاد إلى بيان سنّته في التعذيب الاُخرويّ و الإثابة فيها في هذه الآية و الآيتين بعدها يذكر في آية ملاك عذاب الآخرة، و في آية ملاك ثوابها، و في آية محصّل القول و الأصل الكلّي في ذلك.

فقوله:( مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ ) أي الّذي يريد الحياة العاجلة و هي الحياة الدنيا، و إرادة الحياة الدنيا إنّما هي طلب ما فيها من المتاع الّذي تلتذّ به النفس و يتعلّق به القلب، و التعلّق بالعاجلة و طلبها إنّما يعدّ طلباً لها إذا كانت مقصودة بالاستقلال لا لأجل التوسّل بها إلى سعادة الاُخرىّ و إلّا كانت إرادة للآخرة فإنّ الآخرة لا يسلك إليها إلّا من طريق الدنيا فلا يكون الإنسان مريداً للدنيا إلّا إذا أعرض عن الآخرة و نسيها فتمحّضت إرادته في الدنيا، و يدلّ عليه أيضاً خصوص التعبير في الآية( مَنْ كانَ يُرِيدُ ) حيث يدلّ على استمرار الإرادة.

و هذا هو الّذي لا يرى لنفسه إلّا هذه الحياة المادّيّة الدنيويّة و ينكر الحياة الآخرة، و يلغو بذلك القول بالنبوّة و التوحيد إذ لا أثر للإيمان بالله و رسله و التديّن بالدين لو لا الاعتقاد بالمعاد، قال تعالى:( فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَ لَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ ) النجم: ٣٠.

و قوله:( عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ) أي أسرعنا في إعطائه ما يريده في الدنيا لكن لا بإعطائه ما يريده بل بإعطائه ما نريده فالأمر إلينا لا إليه و الأثر لإرادتنا لا لإرادته، و لا بإعطاء ما نعطيه لكلّ من يريد بل لمن نريد فليس يحكم

٦٦

فينا إرادة الأشخاص بل إرادتنا هي الّتي تحكم فيهم.

و إرادته سبحانه الفعليّة لشي‏ء هو اجتماع الأسباب على كينونته و تحقّق العلّة التامّة لظهوره فالآية تدلّ على أنّ الإنسان و هو يريد الدنيا يرزق منها على حسب ما يسمح له الأسباب و العوامل الّتي أجراها الله في الكون و قدّر لها من الآثار فهو ينال شيئاً ممّا يريده و يسأله بلسان تكوينه لكن ليس له إلّا ما يهدي إليه الأسباب و الله من ورائهم محيط.

و قد ذكر الله سبحانه هذه الحقيقة بلسان آخر في قوله:( وَ لَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَ مَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ وَ لِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً وَ سُرُراً عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ وَ زُخْرُفاً وَ إِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا ) الزخرف: ٣٥ أي لو لا أنّ الناس جميعاً يعيشون على نسق واحد تحت قانون الأسباب و العلل، و لا فرق بين الكافر و المؤمن قبال العلل الكونية بل من صادفته أسباب الغنى و الثروة أثرته و أغنته مؤمناً كان أم كافراً، و من كان بالخلاف، فبالخلاف خصّصنا الكفّار بمزيد النعم الدنيويّة إذ ليس لها عندنا قدر و لا في سوق الآخرة من قيمة.

و ذكر بعضهم: أنّ المراد بإرادة العاجلة إرادتها بعمله و هو أن يريد بعمله الدنيا دون الآخرة فهو محروم من الآخرة، و هو تقييد من غير مقيّد، و لعلّه أخذه من قوله تعالى:( مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَ زِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَ هُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ ) هود: ١٦ لكنّ الآيتين مختلفتان غرضاً فالغرض فيما نحن فيه بيان أنّ مريد الدنيا لا ينال إلّا منها، و الغرض من آية سورة هود أنّ الإنسان لا ينال إلّا عمله فإذا كان مريدا للدنيا وفّي إليه عمله فيها و بين الغرضين فرق واضح فافهم ذلك.

و قوله:( ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً ) أي و جعلنا جزاءه في الآخرة جهنّم يقاسي حرّها و هو مذموم مبعد من الرحمة و القيدان يفيدان أنّه مخصوص بجهنّم محروم من المغفرة و الرحمة.

٦٧

و الآية و إن كانت تبيّن حال من تعلّق بالدنيا و نسي الآخرة و أنكرها غير أنّ الطلب و الإنكار مختلفان بالمراتب فمن ذلك ما هو كذلك قولاً و فعلاً و منه ما هو كذلك فعلاً مع الاعتراف به قولاً، و تصديق ذلك قوله تعالى فيما سيأتي:( وَ لَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ ) الآية.

قوله تعالى: ( وَ مَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَ سَعى‏ لَها سَعْيَها وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً ) قال الراغب: السعي المشي السريع و هو دون العدو، و يستعمل للجدّ في الأمر خيراً كان أو شرّاً، انتهى موضع الحاجة.

و قوله:( مَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ ) أي الحياة الآخرة نظير ما تقدم من قوله:( مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ ) و الكلام في قول من قال: يعني من أراد بعمله الآخرة نظير الكلام في مثله في الآية السابقة.

و قوله( وَ سَعى‏ لَها سَعْيَها ) اللّام للاختصاص و كذا إضافة السعي إلى ضمير الآخرة، و المعنى و سعى و جدّ للآخرة السعي الّذي يختصّ بها، و يستفاد منه أنّ سعيه لها يجب أن يكون سعياً يليق بها و يحقّ لها كأن يكون يبذل كمال الجهد في حسن العمل و أخذه من عقل قطعيّ أو حجّة شرعيّة.

و قوله:( وَ هُوَ مُؤْمِنٌ ) أي مؤمن بالله و يستلزم ذلك توحيده و الإذعان بالنبوّة و المعاد فإنّ من لا يعترف بإحدى الخصال الثلاث لا يعدّه الله سبحانه في كلامه مؤمناً به و قد تكاثرت الآيات فيه.

على أنّ نفس التقييد بقوله:( وَ هُوَ مُؤْمِنٌ ) يكفي في التقييد المذكور فإنّ من أراد الآخرة و سعى لها سعيها فهو مؤمن بالله و بنشأة وراء هذه النشأة الدنيويّة قطعاً فلو لا أنّ التقييد بالإيمان لإفادة وجوب كون الإيمان صحيحاً و من صحّته أن يصاحب التوحيد و الإذعان بالنبوّة لم يكن للتقييد وجه فمجرّد التقييد بالإيمان يكفي مؤنة الاستعانة بآيات اُخر.

و قوله:( فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً ) أي يشكره الله بحسن قبوله و الثناء على ساعيه، و شكره تعالى على عمل العبد تفضّل منه على تفضّل فإنّ أصل إثابته

٦٨

العبد على عمله تفضّل لأنّ من وظيفة العبد أن يعبد مولاه من غير وجوب الجزاء عليه فالإثابة تفضّل، و الثناء عليه بعد الإثابة تفضّل على تفضّل و الله ذو الفضل العظيم.

و في الآيتين دلالة على أنّ الأسباب الاُخرويّة و هي الأعمال لا تتخلّف عن غاياتها بخلاف الأسباب الدنيويّة فإنّه سبحانه يقول فيمن عمل للآخرة:( فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً ) و يقول فيمن عمل للدنيا:( عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ) .

قوله تعالى: ( كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ وَ هَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَ ما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً ) قال في المفردات، أصل المدّ الجرّ و منه المدّة للوقت الممتدّ و مدّة الجرح و مدّ النهر و مدّه نهر آخر و مددت عيني إلى كذا قال تعالى:( وَ لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ ) الآية و مددته في غيّه و أمددت الجيش بمدد و الإنسان بطعام قال: و أكثر ما جاء الإمداد في المحبوب و المدّ في المكروه نحو( وَ أَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ وَ لَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ ) ( وَ نَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا ) ( وَ يَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ ) ( وَ إِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ) انتهى بتلخيص منّا.

فإمداد الشي‏ء و مدّه أن يضاف إليه من نوعه مثلاً ما يمتدّ به بقاؤه و يدوم به وجوده و لو لا ذلك لانقطع كالعين من الماء الّتي تستمدّ من المنبع و يضاف إليها منه الماء حينا بعد حين و يمتدّ بذلك جريانها.

و الله سبحانه يمدّ الإنسان في أعماله سواء كان ممّن يريد العاجلة أو الآخرة فإنّ جميع ما يتوقّف عليه العمل في تحقّقه من العلم و الإرادة و الأدوات البدنيّة و القوى العمّالة و الموادّ الخارجيّة الّتي يقع عليها العمل و يتصرّف فيها العامل و الأسباب و الشرائط المربوطة بها كلّ ذلك اُمور تكوينيّة لا صنع للإنسان فيها و لو فقد كلّها أو بعضها لم يكن العمل، و الله سبحانه هو الّذي يفيضها بفضله و يمدّ الإنسان بها بعطائه، و لو انقطع منه العطاء انقطع من العامل عمله.

فأهل الدنيا في دنياهم و أهل الآخرة في آخرتهم يستمدّون من عطائه تعالى و لا يعود إليه سبحانه في عطائه إلّا الحمد لأنّ الّذي يعطيه نعمة على الإنسان أن

٦٩

يستعمله استعمالاً حسناً في موضع يرتضيه ربّه، و أمّا إذا فسق بعدم استعماله فيه و حرّف الكلمة عن موضعها فلا يلومنّ إلّا نفسه و على الله الثناء على جميل صنعه و له الحجّة البالغة.

فقوله:( كُلًّا نُمِدُّ ) أي كلّا من الفريقين المعجّل لهم و المشكور سعيهم نمدّ، و إنّما قدم المفعول على فعله لتعلّق العناية به في الكلام فإنّ المقصود بيان عموم الإمداد للفريقين جميعاً.

و قوله:( هؤُلاءِ وَ هَؤُلاءِ ) أي هؤلاء المعجّل لهم و هؤلاء المشكور سعيهم بما أنّ لكلّ منهما نعته الخاصّ به، و يؤل المعنى إلى أنّ كلّا من الفريقين تحت التربية الإلهيّة يفيض عليهم من عطائه من غير فرق غير أنّ أحدهما يستعمل النعمة الإلهيّة لابتغاء الآخرة فيشكر الله سعيه، و الآخر يستعملها لابتغاء العاجلة و ينسى الآخرة فلا يبقى له فيها إلّا الشقاء و الخيبة.

و قوله:( مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ ) فإنّ جميع ما يستفيدون منه في أعمالهم كما تقدّم لا صنع لهم و لا لغيرهم من المخلوقين فيه بل الله سبحانه هو الموجد لها و مالكها فهي من عطائه.

و يستفاد من هذا القيد وجه ما ذكر لكلّ من الفريقين من الجزاء فإنّ أعمالهم لمّا كانت بإمداده تعالى من خالص عطائه فحقيق على من يستعمل نعمته في الكفر و الفسوق أن يصلّى النار مذموماً مدحوراً، و على من يستعملها في الإيمان به و طاعته أن يشكر سعيه.

و في قوله:( رَبِّكَ ) التفات من التكلّم مع الغير إلى الغيبة و قد كرّر ذلك مرّتين و الظاهر أنّ النكتة فيه الإشارة إلى أنّ إمدادهم من شؤون صفة الربوبيّة و الله سبحانه هو الربّ لا ربّ غيره غير أنّ الوثنيّين يتّخذون من دونه أرباباً و لذلك نسب ربوبيّته إلى نبيّه فقال:( رَبِّكَ ) .

و قوله:( وَ ما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً ) أي ممنوعاً - و الحظر المنع - فأهل الدنيا و أهل الآخرة مستمدّون من عطائه منعّمون بنعمته ممنونون بمنّته.

٧٠

و في الآية دلالة على أنّ العطاء الإلهيّ مطلق غير محدود بحدّ لمكان إطلاق العطاء و نفي الحظر في الآية فما يوجد من التحديد و التقدير و المنع باختلاف الموارد فإنّما هو من ناحية المستفيض و خصوص استعداده للاستفاضة أو فقدانه من رأس لا من ناحية المفيض.

و من عجيب ما قيل في الآية ما نسب إلى الحسن و قتادة أنّ المراد بالعطاء العطاء الدنيويّ فهو المشترك بين المؤمن و الكافر و أمّا العطاء الاُخرويّ فللمؤمنين خاصّة، و المعنى كما قيل: كلّ الفريقين نمدّ بالعطايا العاجلة لا الفريق الأوّل المريد للعاجلة فقط و ما كان عطاؤه الدنيويّ محظوراً من أحد.

و فيه أنّه تقييد من غير مقيّد مع صلاحية المورد للإطلاق و أمّا ما ذكر من اختصاص العطاء الاُخرويّ بالمؤمنين من غير مشاركة الكفّار لهم فيه فخارج من مصبّ الكلام في الآية فإنّ الكلام في الإمداد الّذي يمدّ به الأعمال المنتهية إلى الجزاء لا في الجزاء، و عطايا المؤمنين في الآخرة من الجزاء لا من قبيل الأعمال، و نفس ما يمدّ به أعمال الفريقين عطايا دنيويّة و اُخرويّة على أنّ العطايا الاُخرويّة أيضاً مشتركة غير محظورة و الحظر فيها من قبل الكافرين كما أنّ الأمر في العطايا الدنيويّة أيضاً كذلك فربّما يمنع لكن لا من قبل محدوديّة العطاء بل من قبل عدم صلاحية القابل.

و قال في روح المعاني،: إنّ التقسيم الّذي تضمّنته الآية غير حاصر و ذلك غير مضرّ، و التقسيم الحاصر أنّ كلّ فاعل إمّا أن يريد بفعله العاجلة فقط أو يريد الآخرة فقط أو يريدهما معاً أو لم يرد شيئاً و القسمان الأوّلان قد علم حكمهما من الآية، و القسم الثالث ينقسم إلى ثلاثة أقسام لأنّه إمّا أن تكون إرادة الآخرة أرجح أو تكون مرجوحة أو تكون الإرادتان متعادلتين.

ثمّ أطال البحث فيما تكون فيه إرادة الآخرة أرجح و نقل اختلاف العلماء في قبول هذا النوع من العمل، و نقل اتّفاقهم على عدم قبول ما يترجّح فيه باعث الدنيا أو كان الباعثان فيه متساويين.

٧١

قال: و أمّا القسم الرابع عند القائلين بأنّ صدور الفعل من القادر يتوقّف على حصول الداعي فهو ممتنع الحصول و الّذين قالوا: إنّه لا يتوقّف، قالوا ذلك الفعل لا أثر له في الباطن و هو محرّم في الظاهر. انتهى و قد سبقه إلى هذا التقسيم و البحث غيره.

و أنت خبير بأنّ الآيات الكريمة ليست في مقام بيان حكم الردّ و القبول بالنسبة إلى كلّ عمل صدر عن عامل بل هي تأخذ غاية الإنسان و تعيّنها بحسب نشأة حياته مرّة متعلّقة بالحياة العاجلة و لازمه أن لا يريد بأعماله إلّا مزايا الحياة الدنيويّة المادّيّة و يعرض عن الاُخرى، و مرّة متعلّقة بالحياة الآخرة و لازمه أن يرى لنفسه حياة خالدة دائمة، بعضها و هي الحياة الدنيا مقدّمة للبعض الآخر و هي الحياة بعد الموت و أعماله في الدنيا مقصودة بها سعادة الاُخرى.

و معلوم أنّ هذا التقسيم لا ينتج إلّا قسمين نعم أحد القسمين ينقسم إلى أقسام لم يستوف أحكامها في الآيات لعدم تعلّق الغرض بها و ذلك أنّ من أراد الآخرة ربّما سعى لها سعيها و ربّما لم يسع لها سعيها كالفسّاق و أهل البدع، و على كلا الوجهين ربّما كان مؤمناً و ربّما لم يكن مؤمناً، و لم يذكر في كلامه تعالى إلّا حكم طائفة خاصّة و هي من أراد الآخرة و سعى لها سعيها و هو مؤمن لأنّ الغرض تمييز ملاك السعادة من ملاك الشقاء لا بيان تفصيل الأحوال.

قوله تعالى: ( انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى‏ بَعْضٍ وَ لَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَ أَكْبَرُ تَفْضِيلًا ) إشارة إلى تفاوت الدرجات بتفاوت المساعي حتّى لا يتوهّم أنّ قليل العمل و كثيره على حدّ سواء و يسير السعي و السعي البالغ لا فرق بينهما فإنّ تسوية القليل و الكثير و الجيّد و الرديّ في الشكر و القبول ردّ في الحقيقة لما يزيد به الأفضل على غيره.

و قوله:( انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى‏ بَعْضٍ ) أي بعض الناس على بعض في الدنيا، و القرينة على هذا التقييد قوله بعد:( وَ لَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ ) و التفضيل في الدنيا هو ما يزيد به بعض أهلها على بعض من أعراضها و اُمّتعتها كالمال و الجاه و

٧٢

الولد و القوّة و الصيت و الرئاسة و السؤدد و القبول عند الناس.

و قوله:( وَ لَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَ أَكْبَرُ تَفْضِيلًا ) أي هي أكبر من الدنيا في الدرجات و التفضيل فلا يتوهّمنّ متوهّم أنّ أهل الآخرة في عيشة سواء و لا أنّ التفاوت بين معايشهم كتفاوت أهل الدنيا في دنياهم بل الدار أوسع من الدنيا بما لا يقاس و ذلك أنّ سبب التفضيل في الدنيا هي اختلاف الأسباب الكونيّة و هي محدودة و الدار دار التزاحم و سبب التفضيل و اختلاف الدرجات في الآخرة هو اختلاف النفوس في الإيمان و الإخلاص و هي من أحوال القلوب، و اختلاف أحوالها أوسع من اختلاف أحوال الأجسام بما لا يقاس قال تعالى:( إِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ ) البقرة: ٢٨٤ و قال:( يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَ لا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ) الشعراء: ٨٩.

ففي الآية أمرهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن ينظر إلى ما بين أهل الدنيا من التفاضل و الاعتبار ليجعل ذلك ذريعة إلى فهم ما بين أهل الآخرة من تفاوت الدرجات و التفاضل في المقامات فإنّ اختلاف الأحوال في الدنيا يؤدّي إلى اختلاف الإدراكات الباطنة و النيّات و الأعمال الّتي يتيسّر للإنسان أن يأتي بها و اختلاف ذلك يؤدّي إلى اختلاف الدرجات في الآخرة.

قوله تعالى: ( لا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولًا ) قال في المفردات: الخذلان ترك من يظنّ به أن ينصر نصرته انتهى.

و الآية بمنزلة النتيجة للآيات السابقة الّتي ذكرت سنّة الله في عباده و ختمت في أنّ من أراد منهم العاجلة انتهى به ذلك إلى أن يصلّى جهنّم مذموماً مدحوراً، و من أراد منهم الآخرة شكر الله سعيه الجميل، و المعنى لا تشرك بالله سبحانه حتّى يؤدّيك ذلك إلى أن تقعد و تحتبس عن السير إلى درجات القرب و أنت مذموم لا ينصرك الله و لا ناصر دونه و قيل: القعود كناية عن المذلّة و العجز.

٧٣

( بحث روائي)

في الكافي، بإسناده عن أبي عمرو الزبيريّ عن أبي عبداللهعليه‌السلام : في قوله تعالى:( إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ) قال: أي يدعو.

و في تفسير العيّاشيّ، عن الفضيل بن يسار عن أبي جعفرعليه‌السلام :( إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ) قال: يهدي إلى الولاية.

أقول: و هي من الجري و يمكن أن يراد به ما عند الإمام من كمال معارف الدين و لعلّه المراد ممّا في بعض الروايات من قوله: يهدي إلى الإمام.

و عنه: و في رواية أبي الجارود عن أبي جعفرعليه‌السلام : في قوله:( وَ كُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ ) يقول: خيره و شرّه معه حيث كان لا يستطيع فراقه حتّى يعطى كتابه بما عمل.

و فيه، عن زرارة و حمران و محمّد بن مسلم عن أبي جعفر و أبي عبداللهعليه‌السلام : عن الآية قال: قدره الّذي قدّر عليه.

و فيه، عن خالد بن يحيى عن أبي عبداللهعليه‌السلام : في قوله:( اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى‏ بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً ) قال يذكر العبد جميع ما عمل و ما كتب عليه حتّى كأنّه فعله تلك الساعة فلذلك قالوا: يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَ لا كَبِيرَةً إلّا أَحْصاها.

و فيه، عن حمران عن أبي جعفرعليه‌السلام : في قوله:( أَمَرْنا مُتْرَفِيها ) مشدّدة منصوبة تفسيرها: كثرّنا، و قال: لا قرأتها مخفّفة.

أقول: و في حديث آخر عن حمران عنه: تفسيرها أمرنا أكابرها.

و قد روي في قوله تعالى:( وَ يَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ ) الآية و قوله:( وَ جَعَلْنَا اللَّيْلَ وَ النَّهارَ آيَتَيْنِ ) الآية و قوله:( وَ كُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ ) الآية من طرق الفريقين عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و عليّعليه‌السلام و سلمان و غيره روايات تركنا إيرادها لعدم تأيّدها بكتاب أو سنّة أو حجّة عقليّة قاطعة مع ما فيها من ضعف الأسناد.

٧٤

( كلام في القضاء في فصول‏)

١- في تحصيل معناه و تحديده: إنّا نجد الحوادث الخارجيّة و الاُمور الكونيّة بالقياس إلى عللها و الأسباب المقتضية لها على إحدى حالتين فإنّها قبل أن تتمّ عللها الموجبة لها و الشرائط و ارتفاع الموانع الّتي يتوقّف عليها حدوثها و تحقّقها لا يتعيّن لها التحقّق و الثبوت و لا عدمه بل يتردّد أمرها بين أن تتحقّق و أن لا تتحقّق من رأس.

فإذا تمّت عللها الموجبة لها و كملت ما تتوقّف عليه من الشرائط و ارتفاع الموانع و لم يبق لها إلّا أن تتحقّق خرجت من التردّد و الإبهام و تعيّن لها أحد الطرفين و هو التحقّق، أو عدم التحقّق، إن فرض انعدام شي‏ء ممّا يتوقّف عليه وجودها. و لا يفارق تعيّن التحقّق نفس التحقّق.

و الاعتباران جاريان في أفعالنا الخارجيّة فما لم نشرف على إيقاع فعل من الأفعال كان متردّداً بين أن يقع أو لا يقع فإذا اجتمعت الأسباب و الأوضاع المقتضية و أتممناها بالإرادة و الإجماع بحيث لم يبق له إلّا الوقوع و الصدور عيّنّا له أحد الجانبين فتعيّن له الوقوع.

و كذا يجري نظير الاعتبارين في أعمالنا الوضعيّة الاعتباريّة كما إذا تنازع اثنان في عين يدّعيه كلّ منهما لنفسه كان أمر مملوكيّته مردّداً بين أن يكون لهذا أو لذاك فإذا رجعاً إلى حكم يحكم بينهما فحكم لأحدهما دون الآخر كان فيه فصل الأمر عن الإبهام و التردّد و تعيين أحد الجانبين بقطع رابطته مع الآخر.

ثمّ توسّع فيه ثانياً فجعل الفصل و التعيين بحسب القول كالفصل و التعيين بحسب الفعل فقول الحكم: إنّ المال لأحد المتنازعين فصل للخصومة و تعيين لأحد الجانبين بعد التردّد بينهما، و قول المخبر إنّ كذا كذا، فصل و تعيين، و هذا المعنى هو الّذي نسمّيه القضاء.

و لما كانت الحوادث في وجودها و تحقّقها مستندة إليه سبحانه و هي فعله

٧٥

جرى فيها الاعتباران بعينهما فهي ما لم يرد الله تحقّقها و لم يتمّ لها العلل و الشرائط الموجبة لوجودها باقية على حال التردّد بين الوقوع و اللاوقوع فإذا شاء الله وقوعها و أراد تحقّقها فتمّ لها عللها و عامّة شرائطها و لم يبق لها إلّا أن توجد كان ذلك تعيينا منه تعالى و فصلاً لها من الجانب الآخر و قطعاً للإبهام، و يسمّى قضاء من الله.

و نظير الاعتبارين جار في مرحلة التشريع و حكمه القاطع بأمر و فصله القول فيه قضاء منه.

و على ذلك جرى كلامه تعالى فيما أشار فيه إلى هذه الحقيقة، قال تعالى:( وَ إِذا قَضى‏ أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) البقرة: ١١٧، و قال:( فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ ) حم السجدة: ١٢، و قال:( قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ ) يوسف: ٤١، و قال:( وَ قَضَيْنا إِلى‏ بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ ) إسراء: ٤ إلى غير ذلك من الآيات المتعرّضة للقضاء التكوينيّ.

و من الآيات المتعرّضة للقضاء التشريعيّ قوله:( وَ قَضى‏ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَ بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً ) إسراء: ٢٣، و قوله:( إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ) يونس: ٩٣، و قوله:( وَ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَ قِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ ) الزمر: ٧٥، و ما في الآية و ما قبلها من القضاء بمعنى فصل الخصومة تشريعيّ بوجه و تكوينيّ بآخر.

فالآيات الكريمة - كما ترى - تمضي صحّة هذين الاعتبارين العقليّين في الأشياء الكونيّة من جهة أنّها أفعاله تعالى، و كذا في التشريع الإلهيّ من جهة أنّه فعله التشريعيّ، و كذا فيما ينسب إليه تعالى من الحكم الفصل.

و ربّما عبّر عنه بالحكم و القول بعناية اُخرى قال تعالى:( أَلا لَهُ الْحُكْمُ ) الأنعام: ٦٢، و قال:( وَ اللهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ ) الرعد: ٤١، و قال:( ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ ) ق: ٢٩، قال:( وَ الْحَقَّ أَقُولُ ) ص: ٨٤.

٢- نظرة فلسفيّة في معنى القضاء: لا ريب أنّ قانون العلّيّة و المعلوليّة ثابت

٧٦

و أنّ الموجود الممكن معلول له سبحانه إمّا بلا واسطة معها، و أنّ المعلول إذا نسب إلى علّته التامّة كان له منها الضرورة و الوجوب إذ ما لم يجب لم يوجد، و إذا لم ينسب إليها كان له الإمكان سواء اُخذ في نفسه و لم ينسب إلى شي‏ء كالماهيّة الممكنة في ذاتها أو نسب إلى بعض أجزاء علّته التامّة فإنّه لو أوجب ضرورته و وجوبه كان علّة له تامّة و المفروض خلافه.

و لمّا كانت الضرورة هي تعيّن أحد الطرفين و خروج الشي‏ء عن الإبهام كانت الضرورة المنبسطة على سلسلة الممكنات من حيث انتسابها إلى الواجب تعالى الموجب لكلّ منها في ظرفه الّذي يخصّه قضاء عامّاً منه تعالى كما أنّ الضرورة الخاصّة بكلّ واحد منها قضاء خاصّ به منه، إذ لا نعني بالقضاء إلّا فصل الأمر و تعيينه عن الإبهام و التردّد.

و من هنا يظهر أنّ القضاء من صفاته الفعليّة و هو منتزع من الفعل من جهة نسبته إلى علّته التامّة الموجبة له.

٣- و الروايات في تأييد ما تقدّم كثيرة جدّاً: ففي المحاسن، عن أبيه عن ابن أبي عمير عن هشام بن سالم قال: قال أبوعبداللهعليه‌السلام : إنّ الله إذا أراد شيئاً قدّره فإذا قدّره قضاه فإذا قضاه أمضاه.

و فيه، عن أبيه عن ابن أبي عمير عن محمّد بن إسحاق قال: قال: أبوالحسنعليه‌السلام ليونس مولى عليّ بن يقطين: يا يونس لا تتكلّم بالقدر قال: إنّي لا أتكلّم بالقدر و لكن أقول: لا يكون إلّا ما أراد الله و شاء و قضى و قدّر فقال ليس هكذا أقول و لكن أقول: لا يكون إلّا ما شاء الله و أراد و قدّر و قضى. ثمّ قال: أ تدري ما المشيّة؟ فقال: لا فقال: همّه بالشي‏ء أ و تدري ما أراد؟ قال: لا قال: إتمامه على المشيّة فقال: أ و تدري ما قدر؟ قال: لا، قال: هو الهندسة من الطول و العرض و البقاء ثمّ قال إنّ الله إذا شاء شيئاً أراده و إذا أراد قدّره و إذا قدّره قضاه و إذا قضاه أمضاه‏

الحديث.

و في رواية اُخرى عن يونس عنهعليه‌السلام قال: لا يكون إلّا ما شاء الله و أراد و

٧٧

قدّر و قضى. قلت: فما معنى شاء؟ قال: ابتداء الفعل قلت: فما معنى أراد؟ قال: الثبوت عليه. قلت: فما معنى قدّر؟ قال: تقدير الشي‏ء من طوله و عرضه. قلت: فما معنى قضى؟ قال: إذا قضى أمضى فذلك الّذي لا مردّ له‏

و في التوحيد، عن الدقّاق عن الكلينيّ عن ابن عامر عن المعلّى قال: سئل العالمعليه‌السلام كيف علم الله؟ قال: علم و شاء و أراد و قدّر و قضى و أمضى فأمضى ما قضى و قضى ما قدّر و قدّر ما أراد فبعلمه كانت المشيّة و بمشيّته كانت الإرادة و بإرادته كان التقدير و بتقديره كان القضاء و بقضائه كان الإمضاء فالعلم متقدّم على المشيّة و المشيّة ثانية و الإرادة ثالثة و التقدير واقع على القضاء بالإمضاء.

فللّه تبارك و تعالى البداء فيما علم متى شاء و فيما أراد لتقدير الأشياء فإذا وقع القضاء بالإمضاء فلا بداء. الحديث.

و الّذي ذكرهعليه‌السلام من ترتّب المشيّة على العلم و الإرادة على المشيّة و هكذا ترتّب عقليّ بحسب صحّة الانتزاع.

و فيه، بإسناده عن ابن نباتة قال: إنّ أميرالمؤمنينعليه‌السلام عدل من عند حائط مائل إلى حائط آخر فقيل له: يا أميرالمؤمنين تفرّ من قضاء الله؟ قال: أفرّ من قضاء الله إلى قدر الله عزّوجلّ.

أقول: و ذلك أنّ القدر لا يحتم المقدّر فمن المرجوّ أن لا يقع ما قدّر أمّا إذا كان القضاء فلا مدفع له، و الروايات في المعاني المتقدّمة كثيرة من طرق أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام .

( بحث فلسفي‏)

في أنّ الفيض مطلق غير محدود على ما يفيده قوله تعالى:( وَ ما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً ) .

أطبقت البراهين على أنّ وجود الواجب تعالى بما أنّه واجب لذاته مطلق غير محدود بحدّ و لا مقيّد بقيد و لا مشروط بشرط و إلّا انعدم فيما وراء حدّه و بطل على

٧٨

تقدير عدم قيده أو شرطه و قد فرض واجباً لذاته فهو واحد وحدة لا يتصوّر لها ثان و مطلق إطلاقاً لا يتحمّل تقييداً.

و قد ثبت أيضاً أنّ وجود ما سواه أثر مجعول له و أنّ الفعل ضروريّ المسانخة لفاعله فالأثر الصادر منه واحد بوحدة حقّه ظلّيّة مطلق غير محدود و إلّا تركّبت ذاته من حدّ و محدود و تألّفت من وجود و عدم و سرت هذه المناقضة الذاتيّة إلى ذات فاعله لمكان المسانخة بين الفاعل و فعله، و قد فرض أنّه واحد مطلق فالوجود الّذي هو فعله، و أثره المجعول واحد غير كثير و مطلق غير محدود و هو المطلوب.

فما يتراءى في الممكنات من جهات الاختلاف الّتي تقضي بالتحديد من النقص و الكمال و الوجدان و الفقدان عائدة إلى أنفسها دون جاعلها.

و هي إن كانت في أصل وجودها النوعيّ أو لوازمها النوعيّة فمنشأها ماهيّاتها القابلة للوجود بإمكانها الذاتيّ كالإنسان و الفرس المختلفين في نوعيهما و لوازم نوعيهما و إن كانت في كمالاتها الثانية المختلفة باختلاف أفراد النوع من فاقد للكمال محروم منه و واجد له و الواجد للكمال التامّ أو الناقص فمنشأها اختلاف الاستعدادات المادّيّة باختلاف العلل المعدّة المهيّأة للاستفاضة من العلّة المفيضة.

فالّذي تفيضه العلّة المفيضة من الأثر واحد مطلق، لكنّ القوابل المختلفة تكثّره باختلاف قابليّتها فمن رادّ له متلبّس بخلافه و من قابل يقبله تامّاً و من قابل يقبله ناقصاً و يحوّله إلى ما يشاكل خصوصيّة ما فيه من الاستعداد كالشمس الّتي تفيض نوراً واحداً متشابه الأجزاء لكنّ الأجسام القابلة لنورها تتصرّف فيه على حسب ما عندها من القوّة و الاستعداد.

فإن قلت لا ريب في أنّ هذه الاختلافات اُمور واقعيّة فإن كان ما عدّ منشأ لها من الماهيّات و الاستعدادات اُموراً وهميّة غير واقعيّة لم يكن لإسناد هذه الاُمور الواقعيّة إليها معنى و رجع الأمر إلى الوجود الّذي هو أثر الجاعل الحقّ و هو خلاف ما ادّعيتموه من إطلاق الفيض، و إن كانت اُموراً واقعيّة غير وهميّة كانت من سنخ الوجود لاختصاص الأصالة به فكان الاستناد أيضاً إلى فعله تعالى و ثبت خلاف المدّعي.

٧٩

قلت: هذا النظر يعيد الجميع إلى سنخ الوجود الواحد و لا يبقى معه من الاختلاف أثر بل يكون هناك وجود واحد ظلّيّ قائم بوجود واحد أصليّ و لا يبقى لهذا البحث على هذا محلّ أصلاً.

و بعبارة اُخرى تقسيم الموجود المطلق إلى ماهيّة و وجود و كذا تقسيمه إلى ما بالقوّة و ما بالفعل هو الّذي أظهر السلوب في نفس الأمر و قسّم الأشياء إلى واجد و فاقد و مستكمل و محروم و قابل و مقبول و منشاؤه تحليل العقل الأشياء إلى ماهيّة قابلة للوجود و وجود مقبول للماهيّة، و كذا إلى قوّة فاقدة للفعليّة و فعليّة تقابلها أمّا إذا رجع الجميع إلى الوجود الّذي هو حقيقة واحدة مطلقة لم يبق للبحث عن سبب الاختلاف محلّ و عاد أثر الجاعل و هو الفيض واحداً مطلقاً لا كثرة فيه و لا حدّ معه فافهم ذلك.

٨٠

( سورة الإسراء الآيات ٢٣ - ٣٩)

وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا  إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا ( ٢٣ ) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ( ٢٤ ) رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ  إِن تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا ( ٢٥ ) وَآتِ ذَا الْقُرْبَىٰ حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا ( ٢٦ ) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ  وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا ( ٢٧ ) وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُل لَّهُمْ قَوْلًا مَّيْسُورًا ( ٢٨ ) وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا ( ٢٩ ) إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ  إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا ( ٣٠ ) وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ  نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ  إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا ( ٣١ ) وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَىٰ  إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا ( ٣٢ ) وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ  وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ  إِنَّهُ كَانَ مَنصُورًا ( ٣٣ ) وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّىٰ يَبْلُغَ أَشُدَّهُ  وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ  إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا ( ٣٤ ) وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ  ذَٰلِكَ خَيْرٌ

٨١

وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا( ٣٥) وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ  إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا( ٣٦) وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا  إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا( ٣٧) كُلُّ ذَٰلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِندَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا( ٣٨) ذَٰلِكَ مِمَّا أَوْحَىٰ إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ  وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلَٰهًا آخَرَ فَتُلْقَىٰ فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَّدْحُورًا( ٣٩)

( بيان‏)

عدّة من كلّيّات الدين يذكرها الله سبحانه و هي تتبع قوله قبل آيات( إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ) الآية.

قوله تعالى: ( وَ قَضى‏ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ) ( أَلَّا تَعْبُدُوا ) إلخ، نفي و استثناء و( أن ) مصدريّة و جوّز أن يكون نهياً و استثناء و أن مصدريّة أو مفسّرة، و على أيّ حال ينحلّ مجموع المستثنى و المستثنى منه إلى جملتين كقولنا: تعبدونه و لا تعبدون غيره و ترجع الجملتان بوجه آخر إلى حكم واحد و هو الحكم بعبادته عن إخلاص.

و القول سواء كان منحلّاً إلى جملتين أو عائداً إلى جملة واحدة متعلّق القضاء و هو القضاء التشريعيّ المتعلّق بالأحكام و القضايا التشريعيّة، و يفيد معنى الفصل و الحكم القاطع المولويّ، و هو كما يتعلّق بالأمر يتعلّق بالنهي و كما يبرم الأحكام المثبتة يبرم الأحكام المنفيّة، و لو كان بلفظ الأمر فقيل: و أمر ربّك أن لا تعبدوا إلّا إيّاه، لم يصحّ إلّا بنوع من التأويل و التجوّز.

و الأمر بإخلاص العبادة لله سبحانه أعظم الأوامر الدينيّة و الإخلاص بالعبادة أوجب الواجبات كما أنّ معصيته و هو الشرك بالله سبحانه أكبر الكبائر الموبقة، قال

٨٢

تعالى:( إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ ) النساء: ٤٨.

و إليه يعود جميع المعاصي بحسب التحليل إذ لو لا طاعة غير الله من شياطين الجنّ و الإنس و هوى النفس و الجهل لم يقدم الإنسان على معصية ربّه فيما أمره به أو نهاه عنه و الطاعة عبادة قال تعالى:( أَ لَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ ) يس: ٦٠، و قال:( أَ فَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ ) الجاثية: ٢٣، حتّى أنّ الكافر المنكر للصانع مشرك بإلقائه زمام تدبير العالم إلى المادّة أو الطبيعة أو الدهر أو غير ذلك و هو مقرّ بسذاجة فطرته بالصانع تعالى.

و لعظم أمر هذا الحكم قدّمه على سائر ما عدّ من الأحكام الخطيرة شأناً كعقوق الوالدين و منع الحقوق الماليّة و التبذير و قتل الأولاد و الزنا و قتل النفس المحترمة و أكل مال اليتيم و نقض العهد و التطفيف في الوزن و اتّباع غير العلم و الكبير ثمّ ختمها بالنهي ثانياً عن الشرك.

قوله تعالى: ( وَ بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً ) عطف على سابقه أي و قضى ربّك بأن تحسنوا بالوالدين إحساناً أو أن أحسنوا بالوالدين إحساناً و الإحسان في الفعل يقابل الإساءة.

و هذا بعد التوحيد لله من أوجب الواجبات كما أنّ عقوقهما أكبر الكبائر بعد الشرك بالله، و لذلك ذكره بعد حكم التوحيد و قدّمه على سائر الأحكام المذكورة المعدودة و كذلك فعل في عدّة مواضع من كلامه.

و قد تقدّم في نظير الآية من سورة الأنعام - الآية ١٥١ من السورة - أنّ الرابطة العاطفيّة المتوسّطة بين الأب و الاُمّ من جانب و الولد من جانب آخر من أعظم ما يقوم به المجتمع الإنسانيّ على ساقه، و هي الوسيلة الطبيعيّة الّتي تمسك الزوجين على حال الاجتماع فمن الواجب بالنظر إلى السنّة الاجتماعيّة الفطريّة أن يحترم الإنسان والديه بإكرامهما و الإحسان إليهما، و لو لم يجر هذا الحكم و هجر المجتمع الإنسانيّ بطلت العاطفة و الرابطة للأولاد بالأبوين و انحلّ به عقد الاجتماع.

٨٣

قوله تعالى: ( إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَ لا تَنْهَرْهُما وَ قُلْ لَهُما قَوْلًا كَرِيماً ) ( إِمَّا ) مركّب من( إن ) الشرطيّة و( ما ) الزائدة و هي المصحّحة لدخول نون التأكيد على فعل الشرط، و الكبر هو الكبر في السنّ و اُفّ كلمة تفيد الضجر و الانزجار، و النهر هو الزجر بالصياح و رفع الصوت و الإغلاظ في القول.

و تخصيص حالة الكبر بالذكر لكونها أشقّ الحالات الّتي تمرّ على الوالدين فيحسّان فيها الحاجة إلى إعانة الأولاد لهما و قيامهم بواجبات حياتيهما الّتي يعجزان عن القيام بها، و ذلك من آمال الوالدين الّتي يأملانها من الأولاد حين يقومان بحضانتهم و تربيتهم في حال الصغر و في وقت لا قدرة لهم على شي‏ء من لوازم الحياة و واجباتها.

فالآية تدلّ على وجوب إكرامهما و رعاية الأدب التامّ في معاشرتهما و محاورتهما في جميع الأوقات و خاصّة في وقت يشتدّ حاجتهما إلى ذلك و هو وقت بلوغ الكبر من أحدهما أو كليهما عند الولد و معنى الآية ظاهر.

قوله تعالى: ( وَ اخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَ قُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً ) خفض الجناح كناية عن المبالغة في التواضع و الخضوع قولاً و فعلاً مأخوذ من خفض فرخ الطائر جناحه ليستعطف اُمّه لتغذيته، و لذا قيّده بالذلّ فهو دأب أفراخ الطيور إذا أرادت الغذاء من اُمّهاتها، فالمعنى واجههما في معاشرتك و محاورتك مواجهة يلوج منها تواضعك و خضوعك لهما و تذلّلك قبالهما رحمة بهما.

هذا إن كان الذلّ بمعنى المسكنة و إن كان بمعنى المطاوعة فهو مأخوذ من خفض الطائر جناحه ليجمع تحته أفراخه رحمة بها و حفظاً لها.

و قوله:( وَ قُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً ) أي اذكر تربيتهما لك صغيراً فادع الله سبحانه أن يرحمهما كما رحماك و ربّياك صغيراً.

قال في المجمع،: و في هذا دلالة على أنّ دعاء الولد لوالده الميّت مسموع و إلّا لم يكن للأمر به معنى. انتهى. و الّذي يدلّ عليه كون هذا الدعاء في مظنّة

٨٤

الإجابة و هو أدب دينيّ ينتفع به الولد و إن فرض عدم انتفاع والديه به على أنّ وجه تخصيص استجابة الدعاء بالوالد الميّت غير ظاهر و الآية مطلقة.

قوله تعالى: ( رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً ) السياق يعطي أن تكون الآية متعلّقة بما تقدّمها من إيجاب إحسان الوالدين و تحريم عقوقهما، و على هذا فهي متعرّضة لما إذا بدرت من الولد بادرة في حقّ الوالدين من قول أو فعل يتأذّيان به، و إنّما لم يصرّح به للإشارة إلى أنّ ذلك ممّا لا ينبغي أن يذكر كما لا ينبغي أن يقع.

فقوله:( رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ ) أي أعلم منكم به، و هو تمهيد لما يتلوه من قوله:( إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ ) فيفيد تحقيق معنى الصلاح أي إن تكونوا صالحين و علم الله من نفوسكم ذلك فإنّه كان إلخ، و قوله:( فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً ) أي للراجعين إليه عند كلّ معصية و هو من وضع البيان العامّ موضع الخاصّ.

و المعنى: إن تكونوا صالحين و علم الله من نفوسكم و رجعتم و تبتم إليه في بادرة ظهرت منكم على والديكم غفر الله لكم ذلك إنّه كان للأوّابين غفوراً.

قوله تعالى: ( وَ آتِ ذَا الْقُرْبى‏ حَقَّهُ وَ الْمِسْكِينَ وَ ابْنَ السَّبِيلِ ) تقدّم الكلام فيه في نظائره، و بالآية يظهر أنّ إيتاء ذي القربى و المسكين و ابن السبيل ممّا شرع قبل الهجرة لأنّها آية مكّيّة من سورة مكّيّة.

قوله تعالى: ( وَ لا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ وَ كانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً ) قال في المجمع: التبذير التفريق بالإسراف، و أصله أن يفرّق كما يفرّق البذر إلّا أنّه يختصّ بما يكون على سبيل الإفساد، و ما كان على وجه الإصلاح لا يسمّى تبذيراً و إن كثر. انتهى.

و قوله:( إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ ) تعليل للنهي عن التبذير، و المعنى لا تبذّر إنّك إن تبذّر كنت من المبذّرين و المبذّرون إخوان الشياطين، و كأنّ وجه المواخاة بينهم أنّ الواحد منهم يصير ملازما لشيطانه و بالعكس كالأخوين الّذين هما شقيقان متلازمان في أصلهما الواحد كما يشير إليه قوله تعالى:( وَ قَيَّضْنا

٨٥

لَهُمْ قُرَناءَ ) حم السجدة: ٢٥، و قوله:( احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَ أَزْواجَهُمْ ) الصافّات: ٢٢ أي قرناءهم، و قوله:( وَ إِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ ) الأعراف: ٢٠٢.

و من هنا يظهر أنّ تفسير من فسّر الآية بأنّهم قرناء الشياطين أحسن من قول من قال: المعنى أنّهم أتباع الشياطين سالكون سبيلهم.

و أمّا قوله:( وَ كانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً ) فالمراد بالشيطان فيه هو إبليس الّذي هو أبوالشياطين و هم ذرّيّته و قبيله و اللّام حينئذ للعهد الذهنيّ و يمكن أن يكون اللّام للجنس و المراد به جنس الشيطان و على أيّ حال كونه كفوراً لربّه من جهة كفرانه بنعم الله حيث أنّه يصرف ما آتاه من قوّة و قدرة و استطاعة في سبيل إغواء الناس و حملهم على المعصية و دعوتهم إلى الخطيئة و كفران النعمة.

و قد ظهرت ممّا تقدم النكتة في جمع الشيطان أوّلاً و إفراده ثانياً فإنّ الاعتبار أوّلاً بأنّ كلّ مبذّر أخو شيطانه الخاصّ فالجميع إخوان للشياطين و الاعتبار ثانياً بإبليس الّذي هو أبوالشياطين أو بجنس الشيطان.

قوله تعالى: ( وَ إِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُوراً ) أصله إن تعرض عنهم و( ما ) زائدة للتأكيد و النون للتأكيد.

و السياق يشهد بأنّ الكلام في إنفاق الأموال فالمراد بقوله:( وَ إِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ) الإعراض عمّن سأله شيئا من المال ينفقه له و يسدّ به خلّته و ليس المراد به كلّ إعراض كيف اتّفق بل الإعراض عند ما ليس عنده شي‏ء من المال يبذله له و ليس بآيس من وجدانه بدليل قوله:( ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها ) أي كنت تعرض عنهم لا لكونك مليئاً بالمال شحيحاً به، و لا لأنّك فاقد له آيس من حصوله بل لأنّك فاقد له مبتغ و طالب لرحمة من ربّك ترجوها يعني الرزق.

و قوله:( فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُوراً ) أي سهلاً ليّناً أي لا تغلظ في القول و لا تجف في الردّ كما قال تعالى:( وَ أَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ ) الضحى: ١٠ بل ردّه بقول سهل ليّن.

قال في الكشّاف: و قوله:( ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ ) إمّا أن يتعلّق بجواب

٨٦

الشرط مقدّماً عليه أي فقل لهم قولاً سهلاً ليّناً و عدهم وعداً جميلاً رحمة لهم و تطييباً لقلوبهم ابتغاء رحمة من ربّك أي ابتغ رحمة الله الّتي ترجوها برحمتك عليهم، و إمّا أن يتعلّق بالشرط أي و إن أعرضت عنهم لفقد رزق من ربّك ترجو أن يفتح لك - فسمّى الرزق رحمة - فردّهم ردّاً جميلاً فوضع الابتغاء موضع الفقد لأنّ فاقد الرزق مبتغ له فكان الفقد سبب الابتغاء و الابتغاء مسبّباً عنه فوضع المسبّب موضع السبب. انتهى.

قوله تعالى: ( وَ لا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى‏ عُنُقِكَ وَ لا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً ) جعل اليد مغلولة إلى العنق كناية عن الإمساك كمن لا يعطي و لا يهب شيئاً لبخله و شحّ نفسه، و بسط اليد كلّ البسط كناية عن إنفاق الإنسان كلّ ما في وجده بحيث لا يبقى شيئاً كمن يبسط يده كلّ البسط بحيث لا يستقرّ عليها شي‏ء ففي الكلام نهي بالغ عن التفريط و الإفراط في الإنفاق.

و قوله:( فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً ) متفرّع على قوله:( وَ لا تَبْسُطْها ) إلخ و الحسر هو الانقطاع أو العرى أي و لا تبسط يدك كلّ البسط حتّى يتعقّب ذلك أن تقعد ملوماً لنفسك و غيرك منقطعاً عن واجبات المعاش أو عرياناً لا تقدر على أن تظهر للناس و تعاشرهم و تراودهم.

و قيل: إنّ قوله:( فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً ) متفرّع على الجملتين لا على الجملة الأخيرة فحسب و المعنى إن أمسكت قعدت ملوماً مذموماً و إن أسرفت بقيت متحسّراً مغموماً.

و فيه أنّ كون قوله:( وَ لا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ ) ظاهراً في النهي عن التبذير و الإسراف غير معلوم و كذا كون إنفاق جميع المال في سبيل الله إسرافاً و تبذيراً غير ظاهر و إن كان منهيّاً عنه بهذه الآية كيف و من المأخوذ في مفهوم التبذير أن يكون على وجه الإفساد، و وضع المال و لو كان كثيراً أو جميعه في سبيل الله و إنفاقه على من يستحقّه ليس بإفساد له، و لا وجه للتحسّر و الغمّ على ما لم يفسد و لا أفسد.

قوله تعالى: ( إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَ يَقْدِرُ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً

٨٧

بَصِيراً ) ظاهر السياق أنّ الآية في مقام التعليل لما تقدّم في الآية السابقة من النهي عن الإفراط و التفريط في إنفاق المال و بذله.

و المعنى: إنّ هذا دأب ربّك و سنّته الجارية يبسط الرزق لمن يشاء و يقدر لمن يشاء فلا يبسطه كلّ البسط و لا يمسك عنه كلّ الإمساك رعاية لمصلحة العباد إنّه كان بعباده خبيراً بصيراً و ينبغي لك أن تتخلّق بخلق الله و تتّخذ طريق الاعتدال و تتجنّب الإفراط و التفريط.

و قيل: إنّها تعليل على معنى أنّ ربّك يبسط و يقبض، و ذلك من الشؤون الإلهيّة المختصّة به تعالى، و ليس لك أن تتّصف به و الّذي عليك أن تقتصد من غير أن تعدل عنه إلى إفراط أو تفريط، و قيل في معنى التعليل غير ذلك، و هي وجوه بعيدة.

قوله تعالى: ( وَ لا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَ إِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً ) الإملاق الفاقة و الفقر، و قال في المفردات،: الخطأ العدول عن الجهة و ذلك أضرب: أحدها أن تريد غير ما تحسن إرادته و فعله، و هذا هو الخطأ التامّ المأخوذ به الإنسان يقال: خطئ يخطأ و خطأة، قال تعالى:( إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً ) و قال:( وَ إِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ ) و الثاني أن يريد ما يحسن فعله و لكن يقع منه خلاف ما يريد فيقال: أخطأ إخطاء فهو مخطئ و هذا قد أصاب في الإرادة و أخطأ في الفعل، و هذا المعنىّ بقوله:( وَ مَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ ) ، و الثالث أن يريد ما لا يحسن فعله و يتّفق منه خلافه فهذا مخطئ في الإرادة مصيب في الفعل فهو مذموم بقصده غير محمود على فعله.

و جملة الأمر أنّ من أراد شيئاً فاتّفق منه غيره يقال: أخطأ، و إن وقع منه كما أراده يقال: أصاب، و قد يقال لمن فعل فعلاً لا يحسن أو أراد إرادة لا يجمل: إنّه أخطأ، و لذا يقال: أصاب الخطأ و أخطأ الصواب و أصاب الصواب و أخطأ الخطأ و هذه اللفظة مشتركة كما ترى متردّدة بين معان يجب لمن يتحرىّ الحقائق أن يتأمّلها. انتهى بتلخيص.

٨٨

و في الآية نهي شديد عن قتل الأولاد خوفاً من الفقر و الحاجة و قوله( نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَ إِيَّاكُمْ ) تعليل للنهي و تمهيد لقوله بعده:( إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً ) .

و المعنى و لا تقتلوا أولادكم خوفاً من أن تبتلوا بالفقر و الحاجة فيؤدّيهم ذلك إلى ذلّ السؤال أو ازدواج بناتكم من غير الأكفاء أو غير ذلك ممّا يذهب بكرامتكم فإنّكم لستم ترزقونهم حتّى تفقدوا الرزق عند فقركم و إعساركم بل نحن نرزقهم و إيّاكم إنّ قتلهم كان خطأ كبيراً.

و قد تكرّر في كلامه تعالى النهي عن قتل الأولاد خوفاً من الفقر و خشية من الإملاق، و هو مع كونه من قتل النفس المحترمة الّتي يبالغ كلامه تعالى في النهي عنه إنّما اُفرد بالذكر و اختصّ بنهي خاصّ لكونه من أقبح الشقوة و أشدّ القسوة، و لأنّهم - كما قيل - كانوا يعيشون في أراضي يكثر فيها السنة و يسرع إليها الجدب فكانوا إذا لاحت لوائح الفاقة و الإعسار بجدب و غيره بادروا إلى قتل الأولاد خوفاً من ذهاب الكرامة و العزّة.

و في الكشّاف: قتلهم أولادهم هو وأدهم بناتهم كانوا يئدونهنّ خشية الفاقة و هي الإملاق فنهاهم الله و ضمن لهم أرزاقهم انتهى، و الظاهر خلاف ما ذكره و أنّ الآيات المتعرّضة لوأد البنات آيات خاصّة تصرّح به و بحرمته كقوله تعالى:( وَ إِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ ) التكوير: ٩، و قوله:( وَ إِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى‏ ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَ هُوَ كَظِيمٌ يَتَوارى‏ مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ أَ يُمْسِكُهُ عَلى‏ هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ ) النحل: ٥٩.

و أمّا الآية الّتي نحن فيها و أترابها فإنّها تنهى عن قتل الأولاد خشية إملاق، و لا موجب لحمل الأولاد على البنات مع كونه أعمّ، و لا حمل الهون على خوف الفقر مع كونهما متغايرين فالحقّ أنّ الآية تكشف عن سنّة سيّئة اُخرى غير وأد البنات دفعا للهون و هي قتل الأولاد من ذكر و اُنثى خوفاً من الفقر و الفاقة و الآيات تنهى عنه.

٨٩

قوله تعالى: ( وَ لا تَقْرَبُوا الزِّنى‏ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَ ساءَ سَبِيلًا ) نهي عن الزنا و قد بالغ في تحريمه حيث نهاهم عن أن يقربوه، و علّله بقوله:( إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً ) فأفاد أنّ الفحش صفة لازمة له لا يفارقه، و قوله:( وَ ساءَ سَبِيلًا ) فأفاد أنّه سبيل سيّي‏ء يؤدّي إلى فساد المجتمع في جميع شؤونه حتّى ينحلّ عقده و يختلّ نظامه و فيه هلاك الإنسانيّة و قد بالغ سبحانه في وعيد من أتى به حيث قال في صفات المؤمنين:( وَ لا يَزْنُونَ وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَ يَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً إِلَّا مَنْ تابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ عَمَلًا صالِحاً ) الفرقان: ٧٠.

( كلام في حرمة الزنا)

و هو بحث قرآنيّ اجتماعيّ.

من المشهود أنّ في كلّ من الزوجين من الإنسان أعني الذكر و الاُنثى إذا أدرك و صحّت بنيته ميلاً غريزيّاً إلى الآخر و ليس ذلك ممّا يختصّ بالإنسان بل ما نجده من عامّة الحيوان أيضاً على هذه الغريزة الطبيعيّة.

و قد جهّز بحسب الأعضاء و القوى بما يدعوه إلى هذا الاقتراب و التمايل و التأمّل في نوع تجهيز الصنفين لا يدع ريبا في أنّ هذه الشهوة الطبيعيّة وسيلة تكوينيّة إلى التوالد و التناسل الّذي هو ذريعة إلى بقاء النوع، و قد جهّز باُمور اُخرى متمّمة لهذه البغية الطبيعيّة كحبّ الولد و تجهيز الاُنثى من الحيوان ذي الثدي باللبن لتغذّي طفلها حتّى يستطيع التقام الغذاء الخشن و مضغه و هضمه فكلّ ذلك تسخير إلهيّ يتوسّل به إلى بقاء النوع.

و لذلك نرى أنّ الحيوان مع عدم افتقاره إلى الاجتماع و المدنيّة لسذاجة حياته و قلّة حاجته يهتدي حيناً بعد حين بحسب غريزته إلى الاجتماع الزوجيّ - السفاد - ثمّ يلتزم الزوجان أو الاُنثى منهما الطفل أو الفرخ و يتكفّلان أو تتكفّل الاُنثى تغذيته و تربيته حتّى يدرك و يستقلّ بإدارة رحى حياته.

و لذلك أيضاً لم يزل الناس منذ ضبط التاريخ سيرهم و سننهم تجري فيهم سنّة

٩٠

الازدواج الّتي فيها نوع من الاختصاص و الملازمة بين الرجل و المرأة لتجاب به داعية الغريزة و يتوسّل به إلى إنسالّ الذرّيّة، و هو أصل طبيعيّ لانعقاد المجتمع الإنسانيّ فإنّ من الضروريّ أنّ الشعوب المختلفة البشريّة على ما لها من السعة و الكثرة تنتهي إلى مجتمعات صغيرة منزليّة انعقدت في سالف الدهور.

و ما مرّ من أنّ في سنّة الازدواج شي‏ء من معنى الاختصاص هو المنشأ لما كان الرجال يعدّون أهلهم إعراضاً لأنفسهم و يرون الذبّ عن الأهل و صونها من تعرّض غيرهم فريضة على أنفسهم كالذبّ عن أنفسهم أو أشدّ، و الغريزة الهائجة إذ ذاك هي المسمّاة بالغيرة و ليست بالحسد و الشحّ.

و لذلك أيضاً لم يزالوا على مرّ القرون و الأجيال يمدحون النكاح و يعدّونه سنّة حسنة ممدوحة، و يستقبحون الزنا و هو المواقعة من غير علقة النكاح و يستشنعونه في الجملة و يعدّونه إثماً اجتماعيّاً و فاحشة أي فعلاً شنيعاً لا يجهر به و إن كان ربّما وجد بين بعض الأقوام الهمجيّة في بعض الأحيان و على شرائط خاصّة بين الحرائر و الشبّان أو بين الفتيات من الجواري على ما ذكر في تواريخ الاُمم و الأقوام.

و إنّما استفحشوه و أنكروه لما يستتبعه من فساد الأنساب و قطع النسل و ظهور الأمراض التناسليّة و دعوته إلى كثير من الجنايات الاجتماعيّة من قتل و جرح و سرقة و خيانة و غير ذلك و ذهاب العفّة و الحياء و الغيرة و المودّة و الرحمة.

غير أنّ المدنيّة الغربيّة الحديثة لابتنائها على التمتّع التامّ من مزايا الحياة المادّيّة و حرّيّة الأفراد في غير ما تعتني به القوانين المدنيّة سواء فيه السنن القوميّة و الشرائع الدينيّة و الأخلاق الإنسانيّة أباحته إذا وقع من غير كره كيفما كان، و ربّما اُضيف إلى ذلك بعض شرائط جزئيّة اُخرى في موارد خاصّة، و لم تبال بما يستتبعه من وجوه الفساد عناية بحرّيّة الأفراد فيما يهوونه و يرتضونه و القوانين الاجتماعية تراعي رأي الأكثرين.

فشاعت الفاحشة بين الرجال و النساء حتّى عمّت المحصنين و المحصنات و المحارم

٩١

حتّى كاد أن لا يوجد من لم يبتل به و كثر مواليدها كثرة كاد أن تثقل كفّة الميزان و أخذت تضعّف الأخلاق الكريمة الّتي كانت تتّصف بها الإنسانيّة الطبيعيّة و ترتضيها لنفسه بتسنين سنّة الازدواج من العفّة و الغيرة و الحياء يوماً فيوماً حتّى صار بعض هذه الفضائل اُضحوكة و سخريّة، و لو لا أنّ في ذكر الشنائع بعض الشناعة ثمّ في خلال الأبحاث القرآنيّة خاصّة لأوردنا بعض ما نشرته المنشورات من الإحصاءآت في هذا الباب.

و الشرائع السماويّة على ما يذكره القرآن الكريم - و قد مرّت الإشارة إلى ذلك في تفسير الآيات ١٥١ - ١٥٣ من سورة الأنعام - تنهى عن الزنا أشدّ النهي و قد كان محرّماً في ملّة اليهود و يستفاد من الأناجيل حرمته.

و قد نهي عنه في الإسلام و عدّ من المعاصي الكبيرة و اُغلظ في التحريم في المحارم كالاُمّ و البنت و الاُخت و العمّة و الخالة، و في التحريم في الزنا، مع الإحصان و هو زنا الرجل و له زوجة و المرأة ذات البعل، و قد اُغلظ فيما شرع له من الحدّ و هو الجلد مائة جلدة و القتل في المرّة الثالثة أو الرابعة لو اُقيم الحدّ مرّتين أو ثلاثاً و الرجم في الزنا مع الإحصان.

و قد أشار سبحانه إلى حكمة التحريم فيما نهى عنه بقوله:( وَ لا تَقْرَبُوا الزِّنى‏ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَ ساءَ سَبِيلًا ) حيث عدّه أوّلاً فاحشة ثمّ وصفه ثانياً بقوله:( وَ ساءَ سَبِيلًا ) و المراد - و الله أعلم - سبيل البقاء كما يستفاد من قوله:( أَ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ وَ تَقْطَعُونَ السَّبِيلَ ) العنكبوت: ٢٩، أي و تتركون إتيان النساء الّذي هو السبيل فتنقطع بذلك و ليس إلّا سبيلاً للبقاء من جهة تسبّبه إلى تولّد المواليد و بقاء النسل بذلك، و من جهة أنّ الازدواج و عقد المجتمع المنزليّ هو أقوى وسيلة يضمن بقاء المجتمع المدنيّ بعد انعقاده.

فمع انفتاح باب الزنا لا تزال الرغبات تنقطع عن النكاح و الازدواج إذ لا يبقى له إلّا محنة النفقة و مشقّة حمل الأولاد و تربيتها و مقاساة الشدائد في حفظها و القيام بواجب حياتها و الغريزة تقنع من سبيل آخر من غير كدّ و تعب، و هو مشهود من

٩٢

حال الشبان و الفتيات في هذه البلاد، و قد قيل لبعضهم: لم لا تتزوّج؟ فقال: و ما أصنع بالازدواج و كلّ نساء البلد نسائي، و لا يبقى حينئذ للازدواج و النكاح إلّا شركة الزوجين في مساعي الحياة الجزئيّة غير التناسل كالشركة في تجارة أو عمل و يسرع إليهما الافتراق لأدنى عذر، و هذا كلّه مشهود اليوم في المجتمعات الغربيّة.

و من هنا أنّهم يعدون الازدواج شركة في الحياة منعقدة بين الزوجين الرجل و المرأة و جعلوها هي الغاية المطلوبة بالذات من الازدواج دون الإنسال و تهيئة الأولاد و لا إجابة غريزة الميل الطبيعيّ بل عدوّاً ذلك من الآثار المترتّبة عليه إن توافقا على ذلك و هذا انحراف عن سبيل الفطرة و التأمّل في حال الحيوان على اختلاف أنواعه يهدي إلى أنّ الغاية المطلوبة منه عندها هو إرضاء الغريزة الهائجة و إنسال الذرّيّة و كذا الإمعان في حال الإنسان أوّل ما يميل إلى ذلك يعطي أنّ الغاية القريبة الداعية إليه عنده هو إرضاء الغريزة و يعقبه طلب الولد.

و لو كانت الغريزة الإنسانيّة الّتي تدفعه إلى هذه السنّة الطبيعيّة إنّما تطلب الشركة في الحياة و التعاون على واجب المأكل و المشرب و الملبس و المسكن و ما هذا شأنه يمكن أن يتحقّق بين رجلين أو بين امرأتين لظهر أثره في المجتمع البشريّ و استنّ عليه و لا أقلّ في بعض المجتمعات في طول تاريخ الإنسان و تزوّج رجل برجل أحياناً أو امرأة بامرأة و لم تجر سنّة الازدواج على وتيرة واحدة دائماً و لم تقم هذه الرابطة بين طرفين أحدهما من الرجال و الآخر من النساء أبداً.

و من جهة اُخرى أخذ مواليد الزنا في الإزدياد يوماً فيوماً يقطع منابت المودّة و الرحمة و تعلّق قلوب الأولاد بالآباء و يستوجب ذلك انقطاع المودّة و الرحمة من ناحية الآباء بالنسبة إلى الأولاد و هجر المودّة و الرحمة بين الطبقتين الآباء و الأولاد يقضي بهجر سنّة الازدواج للمجتمع و فيه انقراضهم و هذا كلّه أيضاً ممّا يلوح من المجتمعات الغربيّة.

و من التصوّر الباطل أن يتصوّر أنّ البشر سيوفّق يوماً أن يدير رحى مجتمعة باُصول فنّية و طرق علميّة من غير حاجة إلى الاستعانة بالغرائز الطبيعيّة فيهيّأ

٩٣

يومئذ طبقة المواليد مع الاستغناء عن غريزة حبّ الأولاد بوضع جوائز تسوقهم إلى التوليد و الإنسال أو بغير ذلك كما هو معمول بعض الممالك اليوم فإنّ السنن القوميّة و القوانين المدنيّة تستمدّ في حياتها بما جهّز به الإنسان من القوى و الغرائز الطبيعيّة فلو بطلت أو اُبطلت انفصم بذلك عقد مجتمعة، و هيئة المجتمع قائمة بأفراده و سننه مبنيّة على إجابتهم لها و رضاهم بها و كيف تجري في مجتمع سنّة لا ترتضيها قرائحهم و لا تستجيبها نفوسهم ثمّ يدوم الأمر عليه.

فهجر الغرائز الطبيعيّة و ذهول المجتمع البشريّ عن غاياته الأصليّة يهدّد الإنسانيّة بهلاك سيغشاها و يهتف بأنّ أمامهم يوماً سيتّسع فيه الخرق على الراقع و إن كان اليوم لا يحسّ به كلّ الإحساس لعدم تمام نمائه بعد.

ثمّ إنّ لهذه الفاحشة أثراً آخر سيّئا في نظر التشريع الإسلاميّ و هو إفساده للأنساب و قد بني المناكح و المواريث في الإسلام عليها.

قوله تعالى: ( وَ لا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ) إلى آخر الآية نهي عن قتل النفس المحترمة إلّا بالحقّ أي إلّا أن يكون قتلاً بالحقّ بأن يستحقّ ذلك لقود أو ردّة أو لغير ذلك من الأسباب الشرعيّة، و لعلّ في توصيف النفس بقوله:( حَرَّمَ اللهُ ) من غير تقييد إشارة إلى حرمة قتل النفس في جميع الشرائع السماويّة فيكون من الشرائع العامّة كما تقدّمت الإشارة إليه في ذيل الآيات ١٥١ - ١٥٣ من سورة الأنعام.

و قوله:( وَ مَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً ) المراد بجعل السلطان لوليّه تسليطه شرعاً على قتل قاتل وليّه قصاصاً و الضميران في( فَلا يُسْرِفْ ) و( إِنَّهُ ) للوليّ، و المراد بكونه منصوراً هو التسليط الشرعيّ المذكور.

و المعنى و من قتل مظلوماً فقد جعلنا بحسب التشريع لوليّه و هو وليّ دمه سلطنة على القصاص و أخذ الدية و العفو فلا يسرف الوليّ في القتل بأن يقتل غير القاتل أو يقتل أكثر من الواحد إنّه كان منصوراً أي فلا يسرف فيه لأنّه كان

٩٤

منصوراً فلا يفوته القاتل بسبب أنّا نصرناه أو فلا يسرف اعتماداً على أنّا نصرناه.

و ربّما احتمل بعضهم رجوع الضمير في قوله:( فَلا يُسْرِفْ ) إلى القاتل المدلول عليه بالسياق، و في قوله:( إِنَّهُ ) إلى( مَنْ ) و المعنى قد جعلنا لوليّ المقتول ظلماً سلطنة فلا يسرف القاتل الأوّل بإقدامه على القتل ظلماً فإنّ المقتول ظلماً منصور من ناحيتنا لما جعلنا لوليّه من السلطنة، و هو معنى بعيد من السياق و دونه إرجاع ضمير( إِنَّهُ ) فقط إلى المقتول.

و قد تقدم كلام في معنى القصاص في ذيل قوله تعالى:( وَ لَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ ) البقرة: ١٧٩ في الجزء الأوّل من الكتاب.

قوله تعالى: ( وَ لا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ ) نهي عن أكل مال اليتيم و هو من الكبائر الّتي أوعد الله عليها النار قال تعالى:( إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى‏ ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَ سَيَصْلَوْنَ سَعِيراً ) النساء: ١٠.

و في النهي عن الاقتراب مبالغة لإفادة اشتداد الحرمة.

و قوله:( إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) أي بالطريقة الّتي هي أحسن و فيه مصلحة إنماء ماله، و قوله:( حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ ) هو أوان البلوغ و الرشد و عند ذلك يرتفع عنه اليتم فالتحديد بهذه الجملة لكون النهي عن القرب في معنى الأمر بالصيانة و الحفظ كأنّه قيل: احتفظوا على ماله حتّى يبلغ أشدّه فتردّوه إليه، و بعبارة اُخرى الكلام في معنى قولنا: لا تقربوا مال اليتيم ما دام يتيماً، و قد تقدم بعض ما يناسب المقام في سورة الأنعام آية ١٥٢.

قوله تعالى: ( وَ أَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلًا ) أي مسئول عنه و هو من الحذف و الإيصال السائغ في الكلام، و قيل: المراد السؤال عن نفس العهد فإنّ من الجائز أن تتمثّل الأعمال يوم القيامة فتشهد للإنسان أو عليه و تشفع له أو تخاصمه.

قوله تعالى: ( وَ أَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَ زِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذلِكَ خَيْرٌ

٩٥

وَ أَحْسَنُ تَأْوِيلًا ) القسطاس بكسر القاف و ضمّها هو الميزان قيل: روميّ معرّب و قيل: عربيّ، و قيل مركّب في الأصل من القسط و هو العدل و طاس و هو كفّة الميزان و القسطاس المستقيم هو الميزان العادل لا يخسر في وزنه.

و قوله:( ذلِكَ خَيْرٌ وَ أَحْسَنُ تَأْوِيلًا ) الخير هو الّذي يجب أن يختاره الإنسان إذا تردّد الأمر بينه و بين غيره، و التأويل هو الحقيقة الّتي ينتهي إليها الأمر، و كون إيفاء الكيل و الوزن بالقسطاس المستقيم خيراً لما فيه من الاتّقاء من استراق أموال الناس و اختلاسها من حيث لا يشعرون و جلب وثوقهم.

و كونهما أحسن تأويلاً لما فيهما من رعاية الرشد و الاستقامة في تقدير الناس معيشتهم فإنّ معايشهم تقوم في التمتّع بأمتعة الحياة على أصلين اكتساب الأمتعة الصالحة للتمتّع و المبادلة على الزائد على قدر حاجتهم فهم يقدّرون معيشتهم على قدر ما يسعهم أن يبذلوه من المال عينا أو قيمة، و على قدر ما يحتاجون إليه من الأمتعة المشتراة فإذا خسروا بالتطفيف و نقص الكيل و الوزن فقد اختلّت عليهم الحياة من الجهتين جميعاً، و ارتفع الأمن العامّ من بينهم.

و أمّا إذا اُقيم الوزن بالقسط فقد أطلّ عليهم الرشد و استقامت أوضاعهم الاقتصاديّة بإصابة الصواب فيما قدّروا عليه معيشتهم و اجتلب وثوقهم إلى أهل السوق و استقرّ بينهم الأمن العامّ.

قوله تعالى: ( وَ لا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَ الْبَصَرَ وَ الْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا ) القراءة المشهورة( لا تَقْفُ ) بسكون القاف و ضمّ الفاء من قفا يقفو قفواً إذا اتّبعه و منه قافية الشعر لكونها في آخر المصراع تابعة لما تقدّمها، و قرئ( لا تَقْفُ ) بضمّ القاف و سكون الفاء من قاف بمعنى قفا، و لذلك نقل عن بعض أهل اللغة أنّ قاف مقلوب قفا مثل جبذ مقلوب جذب، و منه القيافة بمعنى اتّباع أثر الأقدام.

و الآية تنهى عن اتّباع ما لا علم به، و هي لإطلاقها تشمل الاتّباع اعتقاداً و عملاً، و تتحصّل في مثل قولنا: لا تعتقد ما لا علم لك به و لا تقل ما لا علم لك به

٩٦

و لا تفعل ما لا علم لك به لأنّ في ذلك كلّه اتّباعاً.

و في ذلك إمضاء لما تقضي به الفطرة الإنسانيّة و هو وجوب اتّباع العلم و المنع عن اتّباع غيره فإنّ الإنسان بفطرته الموهوبة لا يريد في مسير حياته باعتقاده أو عمله إلّا إصابة الواقع و الحصول على ما في متن الخارج و المعلوم هو الّذي يصحّ له أن يقول: إنّه هو، و أمّا المظنون و المشكوك و الموهوم فلا يصحّ فيها إطلاق القول بأنّه هو فافهم ذلك.

و الإنسان بفطرته السليمة يتبع في اعتقاده ما يراه حقّاً و يجده واقعاً في الخارج، و يتبع في عمله ما يرى نفسه مصيباً في تشخيصه، و ذلك فيما تيسّر له أن يحصّل العلم به، و أمّا فيما لا يتيسّر له العلم به كالفروع الاعتقاديّة بالنسبة إلى بعض الناس و غالب الأعمال بالنسبة إلى غالب الناس فإنّ الفطرة السليمة تدفعه إلى اتّباع علم من له علم بذلك و خبرة باعتبار علمه و خبرته علما لنفسه فيؤل اتّباعه في ذلك بالحقيقة اتّباعاً لعلمه بأنّ له علماً و خبرة كما يرجع السالك و هو لا يعرف الطريق إلى الدليل لكن مع علمه بخبرته و معرفته، و يرجع المريض إلى الطبيب و مثله أرباب الحوائج إلى مختلف الصناعات المتعلّقة بحوائجهم إلى أصحاب تلك الصناعات.

و يتحصّل من ذلك أنّه لا يتخطّى العلم في مسير حياته بحسب ما تهدي إليه فطرته غير أنّه يعدّ ما يثق به نفسه و يطمئنّ إليه قلبه علماً و إن لم يكن ذاك اليقين الّذي يسمّى علماً في صناعة البرهان من المنطق.

فله في كلّ مسألة ترد عليه إمّا علم بنفس المسألة و إمّا دليل علميّ بوجوب العمل بما يؤدّيه و يدلّ عليه، و على هذا ينبغي أن ينزّل قوله سبحانه:( وَ لا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ) فاتّباع الظنّ عن دليل علميّ بوجوب اتّباعه اتّباع للعلم كاتّباع العلم في مورد العلم.

فيؤل المعنى إلى أنّه يحرم الاقتحام على اعتقاد أو عمل يمكن تحصيل العلم به إلّا بعد تحصيل العلم، و الاقتحام على ما لا يمكن فيه ذلك إلّا بعد الاعتماد على

٩٧

دليل علميّ يجوّز الاقتحام و الورود و ذلك كأخذ الأحكام عن النبيّ و اتّباعه و إطاعته فيما يأمر به و ينهى عنه عن قبل ربّه و تناول المريض ما يأمر به الطبيب و الرجوع إلى أصحاب الصنائع فيما يرجع إلى صناعتهم فإنّ الدليل العلميّ على عصمة النبيّ دليل علميّ على مطابقة ما يخبر به أو ما يأمر به و ينهى عنه الواقع و أصابة من اتّبعه الصواب، و الحجّة العلميّة على خبرة الطبيب في طبّه و أصحاب الصناعات في صناعاتهم حجّة علميّة على أصابة من يرجع إليهم فيما يعمل به.

و لو لا كون الاقتحام على العمل عن حجّة علميّة على وجوب الاقتحام اقتحاماً علميّاً لكانت الآية قاصرة عن الدلالة على مدلولها من رأس فإنّ الطريق إلى فهم مدلول الآية هو ظهورها اللفظيّ فيه، و الظهور اللفظيّ من الأدلّة الظنّيّة غير أنّه حجّة عن دليل علميّ و هو بناء العقلاء على حجّيّته فلو كان غير ما تعلّق العلم به بعينه ممّا لا علم به مطلقاً لكان اتّباع الظهور و منه ظهور نفس الآية منهيّاً عنه بالآية و كانت الآية ناهية عن اتّباع نفسه فكانت ناقضة لنفسها.

و من هنا يظهر اندفاع ما أورده بعضهم في المقام كما عن الرازيّ في تفسيره أنّ العمل بالظنّ كثير في الفروع فالتمسّك بالآية تمسّك بعامّ مخصوص و هو لا يفيد إلّا الظنّ فلو دلّت على أنّ التمسّك بالظنّ غير جائز لدلّت على أنّ التمسّك بها غير جائز فالقول بحجيّتها يقضي إلى نفيه و هو غير جائز.

و فيه أنّ الآية تدلّ على عدم جواز اتّباع غير العلم بلا ريب غير أنّ موارد العمل بالظنّ شرعاً موارد قامت عليها حجّة علميّة فالعمل فيها بالحقيقة إنّما هو عمل بتلك الحجج العلميّة و الآية باقية على عمومها من غير تخصّص، و لو سلّم فالعمل بالعامّ المخصّص فيما بقي من الأفراد سالمة عن التخصيص عمل بحجّة عقلائيّة نظير العمل بالعامّ غير المخصّص من غير فرق بينهما البتّة.

و نظيره الاستشكال فيها بأنّ الطريق إلى فهم المراد من الآية هو ظهورها و الظهور طريق ظنّي فلو دلّت الآية على حرمة اتّباع غير العلم لدلّت على حرمة الأخذ بظهور نفسها، و لازمها حرمة العمل بنفسها.

٩٨

و يردّه ما تقدّمت الإشارة إليه أن اتّباع الظهور اتّباع لحجّة علميّة عقلائيّة و هي بناء العقلاء على حجيّته فليس اتّباعه من اتّباع غير العلم بشي‏ء.

و قوله:( إِنَّ السَّمْعَ وَ الْبَصَرَ وَ الْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا ) تعليل للنهي السابق في قوله:( وَ لا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ) .

و الظاهر المتبادر إلى الذهن، أنّ الضميرين في( كانَ عَنْهُ ) راجعان إلى( كُلُّ ) فيكون( عَنْهُ ) نائب فاعل لقوله:( مَسْؤُلًا ) مقدّماً عليه كما ذكره الزمخشريّ في الكشّاف، أو مغنياً عن نائب الفاعل، و قوله:( أُولئِكَ ) إشارة إلى السمع و البصر و الفؤاد، و إنّما عبّر عنها باُولئك المختصّ بالعقلاء لأنّ كون كلّ منها مسئولاً عنه يجريه مجرى العقلاء و هو كثير النظير في كلامه تعالى.

و ربّما منع بعضهم كون( اُولئك ) مختصّاً بالعقلاء استناداً إلى قول جرير:

ذمّ المنازل بعد منزلة اللوى

و العيش بعد اُولئك الأيّام

و على ذلك فالمسؤل هو كلّ من السمع و البصر و الفؤاد يسأل عن نفسه فيشهد للإنسان أو عليه كما قال تعالى:( وَ تُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَ تَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ ) يس: ٦٥.

و اختار بعضهم رجوع ضمير( عَنْهُ ) إلى( كُلُّ ) و عود باقي الضمائر إلى القافي المدلول عليه في الكلام فيكون المسؤل هو القافي يسأل عن سمعه و بصره و فؤاده كيف استعملها؟ و فيما استعملها؟ و عليه ففي الكلام التفات عن الخطاب إلى الغيبة، و كان الأصل أن يقال: كنت عنه مسؤلاً. و هو بعيد.

و المعنى: لا تتّبع ما ليس لك به علم لأنّ الله سبحانه سيسأل عن السمع و البصر و الفؤاد و هي الوسائل الّتي يستعملها الإنسان لتحصيل العلم، و المحصّل من التعليل بحسب انطباقه على المورد أنّ السمع و البصر و الفؤاد إنّما هي نعم آتاها الله الإنسان ليشخّص بها الحقّ و يحصل بها على الواقع فيعتقد به و يبني عليه عمله و سيسأل عن كلّ منها هل أدرك ما استعمل فيه إدراكاً علميّاً؟ و هل اتّبع الإنسان ما حصّلته تلك الوسيلة من العلم؟

٩٩

فيسأل السمع هل كان ما سمعه معلوماً مقطوعاً به؟ و عن البصر هل كان ما رآه ظاهراً بيّنا؟ و عن الفؤاد هل كان ما فكّره و قضى به يقينيّاً لا شكّ فيه؟ و هي لا محالة تجيب بالحقّ و تشهد على ما هو الواقع فمن الواجب على الإنسان أن يتحرّز عن اتّباع ما ليس له به علم فإنّ الأعضاء و وسائل العلم الّتي معه ستسأل فتشهد عليه فيما اتّبعه ممّا حصّلته و لم يكن له به علم و لا يقبل حينئذ له عذر.

و مآله إلى نحو من قولنا: لا تقف ما ليس لك به علم فإنّه محفوظ عليك في سمعك و بصرك و فؤادك، و الله سائلها عن عملك لا محالة، فتكون الآية في معنى قوله تعالى:( حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَ أَبْصارُهُمْ وَ جُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ - إلى أن قال -وَ ما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَ لا أَبْصارُكُمْ وَ لا جُلُودُكُمْ وَ لكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ وَ ذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ ) حم السجدة: ٢٠ - ٢٣ و غيرها من آيات شهادة الأعضاء.

غير أنّ الآية تزيد عليها بعد الفؤاد من الشهداء على الإنسان و هو الّذي به يشعر الإنسان ما يشعر و يدرك ما يدرك، و هو من أعجب ما يستفاد من آيات الحشر أن يوقف الله النفس الإنسانيّة فيسألها عمّا أدركت فتشهد على الإنسان نفسه.

و قد تبيّن أنّ الآية تنهى عن الإقدام على أمر مع الجهل به سواء كان اعتقاداً مع الجهل أو عملاً مع الجهل بجوازه و وجه الصواب فيه أو ترتيب أثر لأمر مع الجهل به و ذيلها يعلّل ذلك بسؤاله تعالى السمع و البصر و الفؤاد، و لا ضير في كون العلّة أعمّ ممّا علّلتها فإنّ الأعضاء مسؤلة حتّى عمّا إذا أقدم الإنسان مع العلم بعدم جواز الإقدام قال تعالى:( الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى‏ أَفْواهِهِمْ وَ تُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَ تَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ ) الآية.

قال في المجمع، في معنى قوله:( وَ لا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ) معناه لا تقل: سمعت و لم تسمع و لا رأيت و لم تر و لا علمت و لم تعلم عن ابن عبّاس و قتادة، و قيل: معناه لا تقل في قفا غيرك كلاماً أي إذا مرّ بك فلا تغتبه عن الحسن، و قيل: هو

١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443