الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٣

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 443

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 443
المشاهدات: 107036
تحميل: 5630


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 443 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 107036 / تحميل: 5630
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 13

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

فقوله:( وَ ما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا ) كالدفع لما يمكن أن يتوهّم من سابق الآيات المنبئة عن لحوق أثر الأعمال بصاحبها و بشارة الصالحين بالأجر الكبير و الطالحين بالعذاب الأليم فيوهم أنّ تبعات السيّئات أعمّ من العذاب الدنيويّ و الاُخرويّ سيترتّب عليها فيغشى صاحبها من غير قيد و شرط.

فاُجيب أنّ الله سبحانه برحمته الواسعة و عنايته الكاملة لا يعذّب الناس بعذاب الاستئصال و هو عذاب الدنيا إلّا بعد أن يبعث رسولاً ينذرهم به و إن كان له أن يعذّبهم به لكنّه برحمته و رأفته يبالغ في الموعظة و يتمّ الحجّة بعد الحجّة ثمّ ينزل العقوبة فقوله:( وَ ما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا ) نفي لوقوع العذاب لا لجوازه.

فالآية - كما ترى - ليست مسوقة لإمضاء حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان بل هي تكشف عن اقتضاء العناية الإلهيّة أن لا يعذّب قوماً بعذاب الاستئصال إلّا بعد أن يبعث إليهم رسولاً فيؤكّد لهم الحجّة و يقرعهم بالبيان بعد البيان.

و أمّا النبوّة الّتي يبلغ بها التكاليف و يبيّن بها الشرائع فهي الّتي تستقرّ بها المؤاخذة الإلهيّة و المغفرة، و يثبت بها الثواب و العقاب الاُخرويّان فيما لا يتبيّن فيه الحقّ و الباطل إلّا من طريق النبوّة كالتكاليف الفرعيّة، و أمّا الاُصول الّتي يستقلّ العقل بإدراكها كالتوحيد و النبوّة و المعاد فإنّما تلحق آثار قبولها و تبعات ردّها الإنسان بالثبوت العقليّ من غير توقّف على نبوّة أو رسالة.

و بالجملة اُصول الدين و هي الّتي يستقلّ العقل ببيانها و يتفرّع عليها قبول الفروع الّتي تتضمّنها الدعوة النبويّة، تستقرّ المؤاخذة الإلهيّة على ردّها بمجرّد قيام الحجّة القاطعة العقليّة من غير توقّف على بيان النبيّ و الرسول لأنّ صحّة بيان النبيّ و الرسول متوقّفة عليها فلو توقّف هي عليها لدارت.

و تستقرّ المؤاخذة الاُخرويّة على الفروع بالبيان النبويّ و لا تتمّ الحجّة فيها بمجرّد حكم العقل، و قد فصّلنا القول فيه في مباحث النبوّة في الجزء الثاني و في قصص نوح في الجزء العاشر من الكتاب، و في غيرهما. و المؤاخذة الدنيويّة بعذاب الاستئصال يتوقّف على بعث الرسول بعناية من الله سبحانه لا لحكم عقليّ

٦١

يحيل هذا النوع من المؤاخذة قبل بعث الرسول كما عرفت.

و للمفسّرين في الآية مشاجرات طويلة تركنا التعرّض لها لخروج أكثرها عن غرض البحث التفسيريّ، و لعلّ الّذي أوردناه من البحث لا يوافق ما أوردوه لكنّ الحقّ أحقّ بالاتّباع.

قوله تعالى: ( وَ إِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً ) قال الراغب: الترفه التوسّع في النعمة يقال: اُترف فلان فهو مترف - إلى أن قال في قوله:( أَمَرْنا مُتْرَفِيها ) - هم الموصوفون بقوله سبحانه:( فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَ نَعَّمَهُ ) انتهى. و قال في المجمع: الترفه النعمة، قال ابن عرفة: المترف المتروك يصنع ما يشاء و لا يمنع منه، و قال: التدمير الإهلاك و الدمار الهلاك. انتهى.

و قوله: ( إِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً ) أي إذا دنا وقت هلاكهم من قبيل قولهم:إذا أراد العليل أن يموت كان كذا، و إذا أرادت السماء أن يمطر كان كذا، أي إذا دنا وقت موته و إذا دنا وقت إمطارها فإنّ من المعلوم أنّه لا يريد الموت بحقيقة معنى الإرادة و أنّها لا تريد الإمطار كذلك، و في القرآن:( فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ ) الآية.

و يمكن أن يراد به الإرادة الفعليّة و حقيقتها توافق الأسباب المقتضية للشي‏ء و تعاضدها على وقوعه، و هو قريب من المعنى الأوّل و حقيقته تحقّق ما لهلاكهم من الأسباب و هو كفران النعمة و الطغيان بالمعصية كما قال سبحانه:( لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَ لَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ ) إبراهيم: ٧، و قال:( الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ ) الفجر: ١٤.

و قوله:( أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها ) من المعلوم من كلامه تعالى أنّه لا يأمر بالمعصية أمراً تشريعيّاً فهو القائل:( قُلْ إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ ) الأعراف: ٢٨ و أمّا الأمر التكوينيّ فعدم تعلّقه بالمعصية من حيث إنّها معصية أوضح لجعله الفعل

٦٢

ضروريّاً يبطل معه تعلّقه باختيار الإنسان و لا معصية مع عدم الاختيار قال تعالى:( إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) يس: ٨٢.

فمتعلّق الأمر في قوله:( أَمَرْنا ) إن كان هو الطاعة كان الأمر بحقيقة معناه و هو الأمر التشريعيّ و كان هو الأمر الّذي توجّه إليهم بلسان الرسول الّذي يبلّغهم أمر ربّهم و ينذرهم بعذابه لو خالفوا و هو الشأن الّذي يختصّ بالرسول كما تقدّمت الإشارة إليه فإذا خالفوا و فسقوا عن أمر ربّهم حقّ عليهم القول و هو أنّهم معذّبون إن خالفوا فاُهلكوا و دمّروا تدميرا.

و إن كان متعلّق الأمر هو الفسق و المعصية كان الأمر مراداً به الإكثار من إفاضة النعم عليهم و توفيرها على سبيل الإملاء و الاستدراج و تقريبهم بذلك من الفسق حتّى يفسقوا فيحقّ عليهم القول و ينزل عليهم العذاب.

و هذان وجهان في معنى قوله:( أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها ) يجوز توجيهه بكلّ منهما لكن يبعّد أوّل الوجهين أوّلاً أنّ قولنا: أمرته ففعل و أمرته ففسق ظاهره تعلّق الأمر بعين ما فرّع عليه، و ثانياً عدم ظهور وجه لتعلّق الأمر بالمترفين مع كون الفسق لجميع أهل القرية و إلّا لم يهلكوا.

قال في الكشّاف: و الأمر مجاز لأنّ حقيقة أمرهم بالفسق أن يقول لهم: افسقوا، و هذا لا يكون فبقي أن يكون مجازاً، و وجه المجاز أنّه صبّ عليهم النعمة صبّا فجعلوها ذريعة إلى المعاصي و اتّباع الشهوات فكأنّهم مأمورون بذلك لتسبّب إيلاء النعمة فيه، و إنّما خوّلهم إيّاها ليشكروا و يعملوا فيها الخير و يتمكّنوا من الإحسان و البرّ كما خلقهم أصحّاء أقوياء و أقدرهم على الخير و الشرّ و طلب منهم إيثار الطاعة على المعصية فآثروا الفسوق فلمّا فسقوا حقّ عليهم القول و هو كلمة العذاب فدمّرهم.

فإن قلت: هلّا زعمت أنّ معناه أمرناهم بالطاعة ففسقوا؟ قلت: لأنّ حذف ما لا دليل عليه غير جائز فكيف يحذف ما الدليل قائم على نقيضه؟ و ذلك أنّ المأمور به إنّما حذف لأنّ فسقوا يدلّ عليه و هو كلام مستفيض يقال، أمرته فقام و أمرته فقرء

٦٣

لا يفهم منه إلّا أنّ المأمور به قيام أو قراءة و لو ذهبت تقدّر غيره لزمت من مخاطبك علم الغيب.

و لا يلزم على هذا قولهم: أمرته فعصاني أو فلم يمتثّل أمري لأنّ ذلك مناف للأمر مناقض له، و لا يكون ما يناقض الأمر مأموراً به فكان محالاً أن يقصد أصلاً حتّى يجعل دالّاً على المأمور به فكان المأمور به في هذا الكلام غير مدلول عليه و لا منويّ لأنّ من يتكلّم بهذا الكلام فإنّه لا ينوي لأمره مأموراً به كأنّه يقول: كان منّي أمر فلم يكن منه طاعة كما أنّ من يقول: فلان يعطي و يمنع و يأمر و ينهى غير قاصد إلى مفعول.

فإن قلت: هلّا كان ثبوت العلم بأنّ الله لا يأمر بالفحشاء و إنّما يأمر بالقصد و الخير دليلاً على أنّ المراد أمرناهم بالخير ففسقوا؟.

قلت: لا يصحّ ذلك لأنّ قوله: فَفَسَقُوا يدافعه فكأنّك أظهرت شيئاً و أنت تدّعي إضمار خلافه فكان صرف اللفظ إلى المجاز هو الوجه. انتهى.

و هو كلام حسن في تقريب ظهور قوله:( أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها ) في كون المأمور به هو الفسق و أمّا كونه صريحاً فيه بحيث لا يحتمل إلّا ذلك كما يدّعيه فلا، فلم لا يجوز أن تكون الآية من قبيل قولنا: أمرته فعصاني حيث تكون المعصية و هي منافية للأمر قرينة على كون المأمور به هو الطاعة و الفسق و المعصية واحد فإنّ الفسق هو الخروج عن زيّ العبوديّة و الطاعة فهو المعصية و يكون المعنى حينئذ: أمرنا مترفيها بالطاعة ففسقوا عن أمرنا و عصوه، أو يكون الأمر في الآية مستعملاً استعمال اللّازم، و المعنى توجّه أمرنا إلى مترفيها ففسقوا فيها عنه.

فالحقّ أنّ الوجهين لا بأس بكلّ منهما و إن كان الثاني لا يخلو من ظهور و قد اُجيب عن اختصاص الأمر بالمترفين بأنّهم الرؤساء السادة و الأئمّة المتبوعون و غيرهم أتباعهم و حكم التابع تابع لحكم المتبوع و لا يخلو من سقم.

و ذكر بعضهم في توجيه الآية أنّ قوله:( أَمَرْنا مُتْرَفِيها ) إلخ صفة لقرية و ليس جواباً لإذا و جواب إذا محذوف على حدّ قوله:( حتّى إِذا جاؤُها وَ فُتِحَتْ أَبْوابُها

٦٤

وَ قالَ لَهُمْ خَزَنَتُها ) إلى آخر الآية للاستغناء عنه بدلالة الكلام.

و ذكر آخرون أنّ في الآية تقديماً و تأخيراً و التقدير و إذا أمرنا مترفي قرية ففسقوا فيها أردنا أن نهلكها، و ذلك أنّه لا معنى لإرادة الهلاك قبل تحقّق سببه و هو الفسق، و هو وجه سخيف كسابقه.

هذا كلّه على القراءة المعروفة( أَمَرْنا ) بفتح الهمزة ثمّ الميم مخفّفة من الأمر بمعنى الطلب، و ربّما اُخذ من الأمر بمعنى الإكثار أي أكثرنا مترفيها مالاً و ولداً ففسقوا فيها.

و قرئ( آمرنا) بالمدّ و نسب إلى عليّعليه‌السلام و إلى عاصم و ابن كثير و نافع و غيرهم و هو من الإيمان بمعنى إكثار المال و النسل أو بمعنى تكليف إنشاء فعل، و قرئ أيضاً( أمّرنا) بتشديد الميم من التأمير بمعنى تولية الإمارة و نسب ذلك إلى عليّ و الحسن و الباقرعليهم‌السلام و إلى ابن عبّاس و زيد بن عليّ و غيرهم.

قوله تعالى: ( وَ كَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَ كَفى‏ بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً ) قال في المفردات: القرن القوم المقترنون في زمن واحد و جمعه قرون قال:( وَ لَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ ) ( وَ كَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ ) انتهى و معنى الآية ظاهر، و فيها تثبيت ما ذكر في الآية السابقة من سنّة الله الجارية في إهلاك القرى بالإشارة إلى القرون الماضية الهالكة.

و الآية لا تخلو من إشعار بأنّ سنّة الإهلاك إنّما شرعت في القرون الإنسانيّة بعد نوحعليه‌السلام و هو كذلك، و قد تقدّم في تفسير قوله تعالى:( كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ ) البقرة: ٢١٣ في الجزء الثاني من الكتاب أنّ المجتمع الإنسانيّ قبل زمن نوحعليه‌السلام كانوا على سذاجة الفطرة ثمّ اختلفوا بعد ذلك.

قوله تعالى: ( مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً ) العاجلة صفة محذوفة الموصوف و لعلّ موصوفها الحياة بقرينة مقابلتها للآخرة في الآية التالية و هي الحياة الآخرة، و قيل: المراد النعم العاجلة و قيل: الأعراض الدنيويّة العاجلة.

٦٥

و في المفردات،: أصل الصلى لإيقاد النار. قال: و قال الخليل: صلي الكافر النار قاسى حرّها( يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ ) و قيل: صلي النار دخل فيها، و أصلاها غيره قال:( فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً ) انتهى. و في المجمع،: الدحر الإبعاد و المدحور المبعد المطرود يقال: اللّهمّ أدحر عنّا الشيطان أي أبعده انتهى.

لمّا ذكر سبحانه سنّته في التعذيب الدنيويّ إثر دعوة الرسالة و أنّه يهدي الاُمم الإنسانيّة إلى الإيمان و العمل الصالح حتّى إذا فسدوا و أفسدوا بعث إليهم رسولاً فإذا طغوا و فسقوا عذّبهم عذاب الاستئصال، عاد إلى بيان سنّته في التعذيب الاُخرويّ و الإثابة فيها في هذه الآية و الآيتين بعدها يذكر في آية ملاك عذاب الآخرة، و في آية ملاك ثوابها، و في آية محصّل القول و الأصل الكلّي في ذلك.

فقوله:( مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ ) أي الّذي يريد الحياة العاجلة و هي الحياة الدنيا، و إرادة الحياة الدنيا إنّما هي طلب ما فيها من المتاع الّذي تلتذّ به النفس و يتعلّق به القلب، و التعلّق بالعاجلة و طلبها إنّما يعدّ طلباً لها إذا كانت مقصودة بالاستقلال لا لأجل التوسّل بها إلى سعادة الاُخرىّ و إلّا كانت إرادة للآخرة فإنّ الآخرة لا يسلك إليها إلّا من طريق الدنيا فلا يكون الإنسان مريداً للدنيا إلّا إذا أعرض عن الآخرة و نسيها فتمحّضت إرادته في الدنيا، و يدلّ عليه أيضاً خصوص التعبير في الآية( مَنْ كانَ يُرِيدُ ) حيث يدلّ على استمرار الإرادة.

و هذا هو الّذي لا يرى لنفسه إلّا هذه الحياة المادّيّة الدنيويّة و ينكر الحياة الآخرة، و يلغو بذلك القول بالنبوّة و التوحيد إذ لا أثر للإيمان بالله و رسله و التديّن بالدين لو لا الاعتقاد بالمعاد، قال تعالى:( فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَ لَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ ) النجم: ٣٠.

و قوله:( عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ) أي أسرعنا في إعطائه ما يريده في الدنيا لكن لا بإعطائه ما يريده بل بإعطائه ما نريده فالأمر إلينا لا إليه و الأثر لإرادتنا لا لإرادته، و لا بإعطاء ما نعطيه لكلّ من يريد بل لمن نريد فليس يحكم

٦٦

فينا إرادة الأشخاص بل إرادتنا هي الّتي تحكم فيهم.

و إرادته سبحانه الفعليّة لشي‏ء هو اجتماع الأسباب على كينونته و تحقّق العلّة التامّة لظهوره فالآية تدلّ على أنّ الإنسان و هو يريد الدنيا يرزق منها على حسب ما يسمح له الأسباب و العوامل الّتي أجراها الله في الكون و قدّر لها من الآثار فهو ينال شيئاً ممّا يريده و يسأله بلسان تكوينه لكن ليس له إلّا ما يهدي إليه الأسباب و الله من ورائهم محيط.

و قد ذكر الله سبحانه هذه الحقيقة بلسان آخر في قوله:( وَ لَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَ مَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ وَ لِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً وَ سُرُراً عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ وَ زُخْرُفاً وَ إِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا ) الزخرف: ٣٥ أي لو لا أنّ الناس جميعاً يعيشون على نسق واحد تحت قانون الأسباب و العلل، و لا فرق بين الكافر و المؤمن قبال العلل الكونية بل من صادفته أسباب الغنى و الثروة أثرته و أغنته مؤمناً كان أم كافراً، و من كان بالخلاف، فبالخلاف خصّصنا الكفّار بمزيد النعم الدنيويّة إذ ليس لها عندنا قدر و لا في سوق الآخرة من قيمة.

و ذكر بعضهم: أنّ المراد بإرادة العاجلة إرادتها بعمله و هو أن يريد بعمله الدنيا دون الآخرة فهو محروم من الآخرة، و هو تقييد من غير مقيّد، و لعلّه أخذه من قوله تعالى:( مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَ زِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَ هُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ ) هود: ١٦ لكنّ الآيتين مختلفتان غرضاً فالغرض فيما نحن فيه بيان أنّ مريد الدنيا لا ينال إلّا منها، و الغرض من آية سورة هود أنّ الإنسان لا ينال إلّا عمله فإذا كان مريدا للدنيا وفّي إليه عمله فيها و بين الغرضين فرق واضح فافهم ذلك.

و قوله:( ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً ) أي و جعلنا جزاءه في الآخرة جهنّم يقاسي حرّها و هو مذموم مبعد من الرحمة و القيدان يفيدان أنّه مخصوص بجهنّم محروم من المغفرة و الرحمة.

٦٧

و الآية و إن كانت تبيّن حال من تعلّق بالدنيا و نسي الآخرة و أنكرها غير أنّ الطلب و الإنكار مختلفان بالمراتب فمن ذلك ما هو كذلك قولاً و فعلاً و منه ما هو كذلك فعلاً مع الاعتراف به قولاً، و تصديق ذلك قوله تعالى فيما سيأتي:( وَ لَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ ) الآية.

قوله تعالى: ( وَ مَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَ سَعى‏ لَها سَعْيَها وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً ) قال الراغب: السعي المشي السريع و هو دون العدو، و يستعمل للجدّ في الأمر خيراً كان أو شرّاً، انتهى موضع الحاجة.

و قوله:( مَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ ) أي الحياة الآخرة نظير ما تقدم من قوله:( مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ ) و الكلام في قول من قال: يعني من أراد بعمله الآخرة نظير الكلام في مثله في الآية السابقة.

و قوله( وَ سَعى‏ لَها سَعْيَها ) اللّام للاختصاص و كذا إضافة السعي إلى ضمير الآخرة، و المعنى و سعى و جدّ للآخرة السعي الّذي يختصّ بها، و يستفاد منه أنّ سعيه لها يجب أن يكون سعياً يليق بها و يحقّ لها كأن يكون يبذل كمال الجهد في حسن العمل و أخذه من عقل قطعيّ أو حجّة شرعيّة.

و قوله:( وَ هُوَ مُؤْمِنٌ ) أي مؤمن بالله و يستلزم ذلك توحيده و الإذعان بالنبوّة و المعاد فإنّ من لا يعترف بإحدى الخصال الثلاث لا يعدّه الله سبحانه في كلامه مؤمناً به و قد تكاثرت الآيات فيه.

على أنّ نفس التقييد بقوله:( وَ هُوَ مُؤْمِنٌ ) يكفي في التقييد المذكور فإنّ من أراد الآخرة و سعى لها سعيها فهو مؤمن بالله و بنشأة وراء هذه النشأة الدنيويّة قطعاً فلو لا أنّ التقييد بالإيمان لإفادة وجوب كون الإيمان صحيحاً و من صحّته أن يصاحب التوحيد و الإذعان بالنبوّة لم يكن للتقييد وجه فمجرّد التقييد بالإيمان يكفي مؤنة الاستعانة بآيات اُخر.

و قوله:( فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً ) أي يشكره الله بحسن قبوله و الثناء على ساعيه، و شكره تعالى على عمل العبد تفضّل منه على تفضّل فإنّ أصل إثابته

٦٨

العبد على عمله تفضّل لأنّ من وظيفة العبد أن يعبد مولاه من غير وجوب الجزاء عليه فالإثابة تفضّل، و الثناء عليه بعد الإثابة تفضّل على تفضّل و الله ذو الفضل العظيم.

و في الآيتين دلالة على أنّ الأسباب الاُخرويّة و هي الأعمال لا تتخلّف عن غاياتها بخلاف الأسباب الدنيويّة فإنّه سبحانه يقول فيمن عمل للآخرة:( فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً ) و يقول فيمن عمل للدنيا:( عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ) .

قوله تعالى: ( كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ وَ هَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَ ما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً ) قال في المفردات، أصل المدّ الجرّ و منه المدّة للوقت الممتدّ و مدّة الجرح و مدّ النهر و مدّه نهر آخر و مددت عيني إلى كذا قال تعالى:( وَ لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ ) الآية و مددته في غيّه و أمددت الجيش بمدد و الإنسان بطعام قال: و أكثر ما جاء الإمداد في المحبوب و المدّ في المكروه نحو( وَ أَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ وَ لَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ ) ( وَ نَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا ) ( وَ يَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ ) ( وَ إِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ) انتهى بتلخيص منّا.

فإمداد الشي‏ء و مدّه أن يضاف إليه من نوعه مثلاً ما يمتدّ به بقاؤه و يدوم به وجوده و لو لا ذلك لانقطع كالعين من الماء الّتي تستمدّ من المنبع و يضاف إليها منه الماء حينا بعد حين و يمتدّ بذلك جريانها.

و الله سبحانه يمدّ الإنسان في أعماله سواء كان ممّن يريد العاجلة أو الآخرة فإنّ جميع ما يتوقّف عليه العمل في تحقّقه من العلم و الإرادة و الأدوات البدنيّة و القوى العمّالة و الموادّ الخارجيّة الّتي يقع عليها العمل و يتصرّف فيها العامل و الأسباب و الشرائط المربوطة بها كلّ ذلك اُمور تكوينيّة لا صنع للإنسان فيها و لو فقد كلّها أو بعضها لم يكن العمل، و الله سبحانه هو الّذي يفيضها بفضله و يمدّ الإنسان بها بعطائه، و لو انقطع منه العطاء انقطع من العامل عمله.

فأهل الدنيا في دنياهم و أهل الآخرة في آخرتهم يستمدّون من عطائه تعالى و لا يعود إليه سبحانه في عطائه إلّا الحمد لأنّ الّذي يعطيه نعمة على الإنسان أن

٦٩

يستعمله استعمالاً حسناً في موضع يرتضيه ربّه، و أمّا إذا فسق بعدم استعماله فيه و حرّف الكلمة عن موضعها فلا يلومنّ إلّا نفسه و على الله الثناء على جميل صنعه و له الحجّة البالغة.

فقوله:( كُلًّا نُمِدُّ ) أي كلّا من الفريقين المعجّل لهم و المشكور سعيهم نمدّ، و إنّما قدم المفعول على فعله لتعلّق العناية به في الكلام فإنّ المقصود بيان عموم الإمداد للفريقين جميعاً.

و قوله:( هؤُلاءِ وَ هَؤُلاءِ ) أي هؤلاء المعجّل لهم و هؤلاء المشكور سعيهم بما أنّ لكلّ منهما نعته الخاصّ به، و يؤل المعنى إلى أنّ كلّا من الفريقين تحت التربية الإلهيّة يفيض عليهم من عطائه من غير فرق غير أنّ أحدهما يستعمل النعمة الإلهيّة لابتغاء الآخرة فيشكر الله سعيه، و الآخر يستعملها لابتغاء العاجلة و ينسى الآخرة فلا يبقى له فيها إلّا الشقاء و الخيبة.

و قوله:( مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ ) فإنّ جميع ما يستفيدون منه في أعمالهم كما تقدّم لا صنع لهم و لا لغيرهم من المخلوقين فيه بل الله سبحانه هو الموجد لها و مالكها فهي من عطائه.

و يستفاد من هذا القيد وجه ما ذكر لكلّ من الفريقين من الجزاء فإنّ أعمالهم لمّا كانت بإمداده تعالى من خالص عطائه فحقيق على من يستعمل نعمته في الكفر و الفسوق أن يصلّى النار مذموماً مدحوراً، و على من يستعملها في الإيمان به و طاعته أن يشكر سعيه.

و في قوله:( رَبِّكَ ) التفات من التكلّم مع الغير إلى الغيبة و قد كرّر ذلك مرّتين و الظاهر أنّ النكتة فيه الإشارة إلى أنّ إمدادهم من شؤون صفة الربوبيّة و الله سبحانه هو الربّ لا ربّ غيره غير أنّ الوثنيّين يتّخذون من دونه أرباباً و لذلك نسب ربوبيّته إلى نبيّه فقال:( رَبِّكَ ) .

و قوله:( وَ ما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً ) أي ممنوعاً - و الحظر المنع - فأهل الدنيا و أهل الآخرة مستمدّون من عطائه منعّمون بنعمته ممنونون بمنّته.

٧٠

و في الآية دلالة على أنّ العطاء الإلهيّ مطلق غير محدود بحدّ لمكان إطلاق العطاء و نفي الحظر في الآية فما يوجد من التحديد و التقدير و المنع باختلاف الموارد فإنّما هو من ناحية المستفيض و خصوص استعداده للاستفاضة أو فقدانه من رأس لا من ناحية المفيض.

و من عجيب ما قيل في الآية ما نسب إلى الحسن و قتادة أنّ المراد بالعطاء العطاء الدنيويّ فهو المشترك بين المؤمن و الكافر و أمّا العطاء الاُخرويّ فللمؤمنين خاصّة، و المعنى كما قيل: كلّ الفريقين نمدّ بالعطايا العاجلة لا الفريق الأوّل المريد للعاجلة فقط و ما كان عطاؤه الدنيويّ محظوراً من أحد.

و فيه أنّه تقييد من غير مقيّد مع صلاحية المورد للإطلاق و أمّا ما ذكر من اختصاص العطاء الاُخرويّ بالمؤمنين من غير مشاركة الكفّار لهم فيه فخارج من مصبّ الكلام في الآية فإنّ الكلام في الإمداد الّذي يمدّ به الأعمال المنتهية إلى الجزاء لا في الجزاء، و عطايا المؤمنين في الآخرة من الجزاء لا من قبيل الأعمال، و نفس ما يمدّ به أعمال الفريقين عطايا دنيويّة و اُخرويّة على أنّ العطايا الاُخرويّة أيضاً مشتركة غير محظورة و الحظر فيها من قبل الكافرين كما أنّ الأمر في العطايا الدنيويّة أيضاً كذلك فربّما يمنع لكن لا من قبل محدوديّة العطاء بل من قبل عدم صلاحية القابل.

و قال في روح المعاني،: إنّ التقسيم الّذي تضمّنته الآية غير حاصر و ذلك غير مضرّ، و التقسيم الحاصر أنّ كلّ فاعل إمّا أن يريد بفعله العاجلة فقط أو يريد الآخرة فقط أو يريدهما معاً أو لم يرد شيئاً و القسمان الأوّلان قد علم حكمهما من الآية، و القسم الثالث ينقسم إلى ثلاثة أقسام لأنّه إمّا أن تكون إرادة الآخرة أرجح أو تكون مرجوحة أو تكون الإرادتان متعادلتين.

ثمّ أطال البحث فيما تكون فيه إرادة الآخرة أرجح و نقل اختلاف العلماء في قبول هذا النوع من العمل، و نقل اتّفاقهم على عدم قبول ما يترجّح فيه باعث الدنيا أو كان الباعثان فيه متساويين.

٧١

قال: و أمّا القسم الرابع عند القائلين بأنّ صدور الفعل من القادر يتوقّف على حصول الداعي فهو ممتنع الحصول و الّذين قالوا: إنّه لا يتوقّف، قالوا ذلك الفعل لا أثر له في الباطن و هو محرّم في الظاهر. انتهى و قد سبقه إلى هذا التقسيم و البحث غيره.

و أنت خبير بأنّ الآيات الكريمة ليست في مقام بيان حكم الردّ و القبول بالنسبة إلى كلّ عمل صدر عن عامل بل هي تأخذ غاية الإنسان و تعيّنها بحسب نشأة حياته مرّة متعلّقة بالحياة العاجلة و لازمه أن لا يريد بأعماله إلّا مزايا الحياة الدنيويّة المادّيّة و يعرض عن الاُخرى، و مرّة متعلّقة بالحياة الآخرة و لازمه أن يرى لنفسه حياة خالدة دائمة، بعضها و هي الحياة الدنيا مقدّمة للبعض الآخر و هي الحياة بعد الموت و أعماله في الدنيا مقصودة بها سعادة الاُخرى.

و معلوم أنّ هذا التقسيم لا ينتج إلّا قسمين نعم أحد القسمين ينقسم إلى أقسام لم يستوف أحكامها في الآيات لعدم تعلّق الغرض بها و ذلك أنّ من أراد الآخرة ربّما سعى لها سعيها و ربّما لم يسع لها سعيها كالفسّاق و أهل البدع، و على كلا الوجهين ربّما كان مؤمناً و ربّما لم يكن مؤمناً، و لم يذكر في كلامه تعالى إلّا حكم طائفة خاصّة و هي من أراد الآخرة و سعى لها سعيها و هو مؤمن لأنّ الغرض تمييز ملاك السعادة من ملاك الشقاء لا بيان تفصيل الأحوال.

قوله تعالى: ( انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى‏ بَعْضٍ وَ لَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَ أَكْبَرُ تَفْضِيلًا ) إشارة إلى تفاوت الدرجات بتفاوت المساعي حتّى لا يتوهّم أنّ قليل العمل و كثيره على حدّ سواء و يسير السعي و السعي البالغ لا فرق بينهما فإنّ تسوية القليل و الكثير و الجيّد و الرديّ في الشكر و القبول ردّ في الحقيقة لما يزيد به الأفضل على غيره.

و قوله:( انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى‏ بَعْضٍ ) أي بعض الناس على بعض في الدنيا، و القرينة على هذا التقييد قوله بعد:( وَ لَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ ) و التفضيل في الدنيا هو ما يزيد به بعض أهلها على بعض من أعراضها و اُمّتعتها كالمال و الجاه و

٧٢

الولد و القوّة و الصيت و الرئاسة و السؤدد و القبول عند الناس.

و قوله:( وَ لَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَ أَكْبَرُ تَفْضِيلًا ) أي هي أكبر من الدنيا في الدرجات و التفضيل فلا يتوهّمنّ متوهّم أنّ أهل الآخرة في عيشة سواء و لا أنّ التفاوت بين معايشهم كتفاوت أهل الدنيا في دنياهم بل الدار أوسع من الدنيا بما لا يقاس و ذلك أنّ سبب التفضيل في الدنيا هي اختلاف الأسباب الكونيّة و هي محدودة و الدار دار التزاحم و سبب التفضيل و اختلاف الدرجات في الآخرة هو اختلاف النفوس في الإيمان و الإخلاص و هي من أحوال القلوب، و اختلاف أحوالها أوسع من اختلاف أحوال الأجسام بما لا يقاس قال تعالى:( إِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ ) البقرة: ٢٨٤ و قال:( يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَ لا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ) الشعراء: ٨٩.

ففي الآية أمرهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن ينظر إلى ما بين أهل الدنيا من التفاضل و الاعتبار ليجعل ذلك ذريعة إلى فهم ما بين أهل الآخرة من تفاوت الدرجات و التفاضل في المقامات فإنّ اختلاف الأحوال في الدنيا يؤدّي إلى اختلاف الإدراكات الباطنة و النيّات و الأعمال الّتي يتيسّر للإنسان أن يأتي بها و اختلاف ذلك يؤدّي إلى اختلاف الدرجات في الآخرة.

قوله تعالى: ( لا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولًا ) قال في المفردات: الخذلان ترك من يظنّ به أن ينصر نصرته انتهى.

و الآية بمنزلة النتيجة للآيات السابقة الّتي ذكرت سنّة الله في عباده و ختمت في أنّ من أراد منهم العاجلة انتهى به ذلك إلى أن يصلّى جهنّم مذموماً مدحوراً، و من أراد منهم الآخرة شكر الله سعيه الجميل، و المعنى لا تشرك بالله سبحانه حتّى يؤدّيك ذلك إلى أن تقعد و تحتبس عن السير إلى درجات القرب و أنت مذموم لا ينصرك الله و لا ناصر دونه و قيل: القعود كناية عن المذلّة و العجز.

٧٣

( بحث روائي)

في الكافي، بإسناده عن أبي عمرو الزبيريّ عن أبي عبداللهعليه‌السلام : في قوله تعالى:( إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ) قال: أي يدعو.

و في تفسير العيّاشيّ، عن الفضيل بن يسار عن أبي جعفرعليه‌السلام :( إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ) قال: يهدي إلى الولاية.

أقول: و هي من الجري و يمكن أن يراد به ما عند الإمام من كمال معارف الدين و لعلّه المراد ممّا في بعض الروايات من قوله: يهدي إلى الإمام.

و عنه: و في رواية أبي الجارود عن أبي جعفرعليه‌السلام : في قوله:( وَ كُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ ) يقول: خيره و شرّه معه حيث كان لا يستطيع فراقه حتّى يعطى كتابه بما عمل.

و فيه، عن زرارة و حمران و محمّد بن مسلم عن أبي جعفر و أبي عبداللهعليه‌السلام : عن الآية قال: قدره الّذي قدّر عليه.

و فيه، عن خالد بن يحيى عن أبي عبداللهعليه‌السلام : في قوله:( اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى‏ بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً ) قال يذكر العبد جميع ما عمل و ما كتب عليه حتّى كأنّه فعله تلك الساعة فلذلك قالوا: يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَ لا كَبِيرَةً إلّا أَحْصاها.

و فيه، عن حمران عن أبي جعفرعليه‌السلام : في قوله:( أَمَرْنا مُتْرَفِيها ) مشدّدة منصوبة تفسيرها: كثرّنا، و قال: لا قرأتها مخفّفة.

أقول: و في حديث آخر عن حمران عنه: تفسيرها أمرنا أكابرها.

و قد روي في قوله تعالى:( وَ يَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ ) الآية و قوله:( وَ جَعَلْنَا اللَّيْلَ وَ النَّهارَ آيَتَيْنِ ) الآية و قوله:( وَ كُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ ) الآية من طرق الفريقين عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و عليّعليه‌السلام و سلمان و غيره روايات تركنا إيرادها لعدم تأيّدها بكتاب أو سنّة أو حجّة عقليّة قاطعة مع ما فيها من ضعف الأسناد.

٧٤

( كلام في القضاء في فصول‏)

١- في تحصيل معناه و تحديده: إنّا نجد الحوادث الخارجيّة و الاُمور الكونيّة بالقياس إلى عللها و الأسباب المقتضية لها على إحدى حالتين فإنّها قبل أن تتمّ عللها الموجبة لها و الشرائط و ارتفاع الموانع الّتي يتوقّف عليها حدوثها و تحقّقها لا يتعيّن لها التحقّق و الثبوت و لا عدمه بل يتردّد أمرها بين أن تتحقّق و أن لا تتحقّق من رأس.

فإذا تمّت عللها الموجبة لها و كملت ما تتوقّف عليه من الشرائط و ارتفاع الموانع و لم يبق لها إلّا أن تتحقّق خرجت من التردّد و الإبهام و تعيّن لها أحد الطرفين و هو التحقّق، أو عدم التحقّق، إن فرض انعدام شي‏ء ممّا يتوقّف عليه وجودها. و لا يفارق تعيّن التحقّق نفس التحقّق.

و الاعتباران جاريان في أفعالنا الخارجيّة فما لم نشرف على إيقاع فعل من الأفعال كان متردّداً بين أن يقع أو لا يقع فإذا اجتمعت الأسباب و الأوضاع المقتضية و أتممناها بالإرادة و الإجماع بحيث لم يبق له إلّا الوقوع و الصدور عيّنّا له أحد الجانبين فتعيّن له الوقوع.

و كذا يجري نظير الاعتبارين في أعمالنا الوضعيّة الاعتباريّة كما إذا تنازع اثنان في عين يدّعيه كلّ منهما لنفسه كان أمر مملوكيّته مردّداً بين أن يكون لهذا أو لذاك فإذا رجعاً إلى حكم يحكم بينهما فحكم لأحدهما دون الآخر كان فيه فصل الأمر عن الإبهام و التردّد و تعيين أحد الجانبين بقطع رابطته مع الآخر.

ثمّ توسّع فيه ثانياً فجعل الفصل و التعيين بحسب القول كالفصل و التعيين بحسب الفعل فقول الحكم: إنّ المال لأحد المتنازعين فصل للخصومة و تعيين لأحد الجانبين بعد التردّد بينهما، و قول المخبر إنّ كذا كذا، فصل و تعيين، و هذا المعنى هو الّذي نسمّيه القضاء.

و لما كانت الحوادث في وجودها و تحقّقها مستندة إليه سبحانه و هي فعله

٧٥

جرى فيها الاعتباران بعينهما فهي ما لم يرد الله تحقّقها و لم يتمّ لها العلل و الشرائط الموجبة لوجودها باقية على حال التردّد بين الوقوع و اللاوقوع فإذا شاء الله وقوعها و أراد تحقّقها فتمّ لها عللها و عامّة شرائطها و لم يبق لها إلّا أن توجد كان ذلك تعيينا منه تعالى و فصلاً لها من الجانب الآخر و قطعاً للإبهام، و يسمّى قضاء من الله.

و نظير الاعتبارين جار في مرحلة التشريع و حكمه القاطع بأمر و فصله القول فيه قضاء منه.

و على ذلك جرى كلامه تعالى فيما أشار فيه إلى هذه الحقيقة، قال تعالى:( وَ إِذا قَضى‏ أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) البقرة: ١١٧، و قال:( فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ ) حم السجدة: ١٢، و قال:( قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ ) يوسف: ٤١، و قال:( وَ قَضَيْنا إِلى‏ بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ ) إسراء: ٤ إلى غير ذلك من الآيات المتعرّضة للقضاء التكوينيّ.

و من الآيات المتعرّضة للقضاء التشريعيّ قوله:( وَ قَضى‏ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَ بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً ) إسراء: ٢٣، و قوله:( إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ) يونس: ٩٣، و قوله:( وَ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَ قِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ ) الزمر: ٧٥، و ما في الآية و ما قبلها من القضاء بمعنى فصل الخصومة تشريعيّ بوجه و تكوينيّ بآخر.

فالآيات الكريمة - كما ترى - تمضي صحّة هذين الاعتبارين العقليّين في الأشياء الكونيّة من جهة أنّها أفعاله تعالى، و كذا في التشريع الإلهيّ من جهة أنّه فعله التشريعيّ، و كذا فيما ينسب إليه تعالى من الحكم الفصل.

و ربّما عبّر عنه بالحكم و القول بعناية اُخرى قال تعالى:( أَلا لَهُ الْحُكْمُ ) الأنعام: ٦٢، و قال:( وَ اللهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ ) الرعد: ٤١، و قال:( ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ ) ق: ٢٩، قال:( وَ الْحَقَّ أَقُولُ ) ص: ٨٤.

٢- نظرة فلسفيّة في معنى القضاء: لا ريب أنّ قانون العلّيّة و المعلوليّة ثابت

٧٦

و أنّ الموجود الممكن معلول له سبحانه إمّا بلا واسطة معها، و أنّ المعلول إذا نسب إلى علّته التامّة كان له منها الضرورة و الوجوب إذ ما لم يجب لم يوجد، و إذا لم ينسب إليها كان له الإمكان سواء اُخذ في نفسه و لم ينسب إلى شي‏ء كالماهيّة الممكنة في ذاتها أو نسب إلى بعض أجزاء علّته التامّة فإنّه لو أوجب ضرورته و وجوبه كان علّة له تامّة و المفروض خلافه.

و لمّا كانت الضرورة هي تعيّن أحد الطرفين و خروج الشي‏ء عن الإبهام كانت الضرورة المنبسطة على سلسلة الممكنات من حيث انتسابها إلى الواجب تعالى الموجب لكلّ منها في ظرفه الّذي يخصّه قضاء عامّاً منه تعالى كما أنّ الضرورة الخاصّة بكلّ واحد منها قضاء خاصّ به منه، إذ لا نعني بالقضاء إلّا فصل الأمر و تعيينه عن الإبهام و التردّد.

و من هنا يظهر أنّ القضاء من صفاته الفعليّة و هو منتزع من الفعل من جهة نسبته إلى علّته التامّة الموجبة له.

٣- و الروايات في تأييد ما تقدّم كثيرة جدّاً: ففي المحاسن، عن أبيه عن ابن أبي عمير عن هشام بن سالم قال: قال أبوعبداللهعليه‌السلام : إنّ الله إذا أراد شيئاً قدّره فإذا قدّره قضاه فإذا قضاه أمضاه.

و فيه، عن أبيه عن ابن أبي عمير عن محمّد بن إسحاق قال: قال: أبوالحسنعليه‌السلام ليونس مولى عليّ بن يقطين: يا يونس لا تتكلّم بالقدر قال: إنّي لا أتكلّم بالقدر و لكن أقول: لا يكون إلّا ما أراد الله و شاء و قضى و قدّر فقال ليس هكذا أقول و لكن أقول: لا يكون إلّا ما شاء الله و أراد و قدّر و قضى. ثمّ قال: أ تدري ما المشيّة؟ فقال: لا فقال: همّه بالشي‏ء أ و تدري ما أراد؟ قال: لا قال: إتمامه على المشيّة فقال: أ و تدري ما قدر؟ قال: لا، قال: هو الهندسة من الطول و العرض و البقاء ثمّ قال إنّ الله إذا شاء شيئاً أراده و إذا أراد قدّره و إذا قدّره قضاه و إذا قضاه أمضاه‏

الحديث.

و في رواية اُخرى عن يونس عنهعليه‌السلام قال: لا يكون إلّا ما شاء الله و أراد و

٧٧

قدّر و قضى. قلت: فما معنى شاء؟ قال: ابتداء الفعل قلت: فما معنى أراد؟ قال: الثبوت عليه. قلت: فما معنى قدّر؟ قال: تقدير الشي‏ء من طوله و عرضه. قلت: فما معنى قضى؟ قال: إذا قضى أمضى فذلك الّذي لا مردّ له‏

و في التوحيد، عن الدقّاق عن الكلينيّ عن ابن عامر عن المعلّى قال: سئل العالمعليه‌السلام كيف علم الله؟ قال: علم و شاء و أراد و قدّر و قضى و أمضى فأمضى ما قضى و قضى ما قدّر و قدّر ما أراد فبعلمه كانت المشيّة و بمشيّته كانت الإرادة و بإرادته كان التقدير و بتقديره كان القضاء و بقضائه كان الإمضاء فالعلم متقدّم على المشيّة و المشيّة ثانية و الإرادة ثالثة و التقدير واقع على القضاء بالإمضاء.

فللّه تبارك و تعالى البداء فيما علم متى شاء و فيما أراد لتقدير الأشياء فإذا وقع القضاء بالإمضاء فلا بداء. الحديث.

و الّذي ذكرهعليه‌السلام من ترتّب المشيّة على العلم و الإرادة على المشيّة و هكذا ترتّب عقليّ بحسب صحّة الانتزاع.

و فيه، بإسناده عن ابن نباتة قال: إنّ أميرالمؤمنينعليه‌السلام عدل من عند حائط مائل إلى حائط آخر فقيل له: يا أميرالمؤمنين تفرّ من قضاء الله؟ قال: أفرّ من قضاء الله إلى قدر الله عزّوجلّ.

أقول: و ذلك أنّ القدر لا يحتم المقدّر فمن المرجوّ أن لا يقع ما قدّر أمّا إذا كان القضاء فلا مدفع له، و الروايات في المعاني المتقدّمة كثيرة من طرق أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام .

( بحث فلسفي‏)

في أنّ الفيض مطلق غير محدود على ما يفيده قوله تعالى:( وَ ما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً ) .

أطبقت البراهين على أنّ وجود الواجب تعالى بما أنّه واجب لذاته مطلق غير محدود بحدّ و لا مقيّد بقيد و لا مشروط بشرط و إلّا انعدم فيما وراء حدّه و بطل على

٧٨

تقدير عدم قيده أو شرطه و قد فرض واجباً لذاته فهو واحد وحدة لا يتصوّر لها ثان و مطلق إطلاقاً لا يتحمّل تقييداً.

و قد ثبت أيضاً أنّ وجود ما سواه أثر مجعول له و أنّ الفعل ضروريّ المسانخة لفاعله فالأثر الصادر منه واحد بوحدة حقّه ظلّيّة مطلق غير محدود و إلّا تركّبت ذاته من حدّ و محدود و تألّفت من وجود و عدم و سرت هذه المناقضة الذاتيّة إلى ذات فاعله لمكان المسانخة بين الفاعل و فعله، و قد فرض أنّه واحد مطلق فالوجود الّذي هو فعله، و أثره المجعول واحد غير كثير و مطلق غير محدود و هو المطلوب.

فما يتراءى في الممكنات من جهات الاختلاف الّتي تقضي بالتحديد من النقص و الكمال و الوجدان و الفقدان عائدة إلى أنفسها دون جاعلها.

و هي إن كانت في أصل وجودها النوعيّ أو لوازمها النوعيّة فمنشأها ماهيّاتها القابلة للوجود بإمكانها الذاتيّ كالإنسان و الفرس المختلفين في نوعيهما و لوازم نوعيهما و إن كانت في كمالاتها الثانية المختلفة باختلاف أفراد النوع من فاقد للكمال محروم منه و واجد له و الواجد للكمال التامّ أو الناقص فمنشأها اختلاف الاستعدادات المادّيّة باختلاف العلل المعدّة المهيّأة للاستفاضة من العلّة المفيضة.

فالّذي تفيضه العلّة المفيضة من الأثر واحد مطلق، لكنّ القوابل المختلفة تكثّره باختلاف قابليّتها فمن رادّ له متلبّس بخلافه و من قابل يقبله تامّاً و من قابل يقبله ناقصاً و يحوّله إلى ما يشاكل خصوصيّة ما فيه من الاستعداد كالشمس الّتي تفيض نوراً واحداً متشابه الأجزاء لكنّ الأجسام القابلة لنورها تتصرّف فيه على حسب ما عندها من القوّة و الاستعداد.

فإن قلت لا ريب في أنّ هذه الاختلافات اُمور واقعيّة فإن كان ما عدّ منشأ لها من الماهيّات و الاستعدادات اُموراً وهميّة غير واقعيّة لم يكن لإسناد هذه الاُمور الواقعيّة إليها معنى و رجع الأمر إلى الوجود الّذي هو أثر الجاعل الحقّ و هو خلاف ما ادّعيتموه من إطلاق الفيض، و إن كانت اُموراً واقعيّة غير وهميّة كانت من سنخ الوجود لاختصاص الأصالة به فكان الاستناد أيضاً إلى فعله تعالى و ثبت خلاف المدّعي.

٧٩

قلت: هذا النظر يعيد الجميع إلى سنخ الوجود الواحد و لا يبقى معه من الاختلاف أثر بل يكون هناك وجود واحد ظلّيّ قائم بوجود واحد أصليّ و لا يبقى لهذا البحث على هذا محلّ أصلاً.

و بعبارة اُخرى تقسيم الموجود المطلق إلى ماهيّة و وجود و كذا تقسيمه إلى ما بالقوّة و ما بالفعل هو الّذي أظهر السلوب في نفس الأمر و قسّم الأشياء إلى واجد و فاقد و مستكمل و محروم و قابل و مقبول و منشاؤه تحليل العقل الأشياء إلى ماهيّة قابلة للوجود و وجود مقبول للماهيّة، و كذا إلى قوّة فاقدة للفعليّة و فعليّة تقابلها أمّا إذا رجع الجميع إلى الوجود الّذي هو حقيقة واحدة مطلقة لم يبق للبحث عن سبب الاختلاف محلّ و عاد أثر الجاعل و هو الفيض واحداً مطلقاً لا كثرة فيه و لا حدّ معه فافهم ذلك.

٨٠