الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٣

الميزان في تفسير القرآن13%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 443

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 443 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 111450 / تحميل: 6256
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ١٣

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

( سورة الإسراء الآيات ٢٣ - ٣٩)

وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا  إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا ( ٢٣ ) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ( ٢٤ ) رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ  إِن تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا ( ٢٥ ) وَآتِ ذَا الْقُرْبَىٰ حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا ( ٢٦ ) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ  وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا ( ٢٧ ) وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُل لَّهُمْ قَوْلًا مَّيْسُورًا ( ٢٨ ) وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا ( ٢٩ ) إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ  إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا ( ٣٠ ) وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ  نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ  إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا ( ٣١ ) وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَىٰ  إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا ( ٣٢ ) وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ  وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ  إِنَّهُ كَانَ مَنصُورًا ( ٣٣ ) وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّىٰ يَبْلُغَ أَشُدَّهُ  وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ  إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا ( ٣٤ ) وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ  ذَٰلِكَ خَيْرٌ

٨١

وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا( ٣٥) وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ  إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا( ٣٦) وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا  إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا( ٣٧) كُلُّ ذَٰلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِندَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا( ٣٨) ذَٰلِكَ مِمَّا أَوْحَىٰ إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ  وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلَٰهًا آخَرَ فَتُلْقَىٰ فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَّدْحُورًا( ٣٩)

( بيان‏)

عدّة من كلّيّات الدين يذكرها الله سبحانه و هي تتبع قوله قبل آيات( إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ) الآية.

قوله تعالى: ( وَ قَضى‏ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ) ( أَلَّا تَعْبُدُوا ) إلخ، نفي و استثناء و( أن ) مصدريّة و جوّز أن يكون نهياً و استثناء و أن مصدريّة أو مفسّرة، و على أيّ حال ينحلّ مجموع المستثنى و المستثنى منه إلى جملتين كقولنا: تعبدونه و لا تعبدون غيره و ترجع الجملتان بوجه آخر إلى حكم واحد و هو الحكم بعبادته عن إخلاص.

و القول سواء كان منحلّاً إلى جملتين أو عائداً إلى جملة واحدة متعلّق القضاء و هو القضاء التشريعيّ المتعلّق بالأحكام و القضايا التشريعيّة، و يفيد معنى الفصل و الحكم القاطع المولويّ، و هو كما يتعلّق بالأمر يتعلّق بالنهي و كما يبرم الأحكام المثبتة يبرم الأحكام المنفيّة، و لو كان بلفظ الأمر فقيل: و أمر ربّك أن لا تعبدوا إلّا إيّاه، لم يصحّ إلّا بنوع من التأويل و التجوّز.

و الأمر بإخلاص العبادة لله سبحانه أعظم الأوامر الدينيّة و الإخلاص بالعبادة أوجب الواجبات كما أنّ معصيته و هو الشرك بالله سبحانه أكبر الكبائر الموبقة، قال

٨٢

تعالى:( إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ ) النساء: ٤٨.

و إليه يعود جميع المعاصي بحسب التحليل إذ لو لا طاعة غير الله من شياطين الجنّ و الإنس و هوى النفس و الجهل لم يقدم الإنسان على معصية ربّه فيما أمره به أو نهاه عنه و الطاعة عبادة قال تعالى:( أَ لَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ ) يس: ٦٠، و قال:( أَ فَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ ) الجاثية: ٢٣، حتّى أنّ الكافر المنكر للصانع مشرك بإلقائه زمام تدبير العالم إلى المادّة أو الطبيعة أو الدهر أو غير ذلك و هو مقرّ بسذاجة فطرته بالصانع تعالى.

و لعظم أمر هذا الحكم قدّمه على سائر ما عدّ من الأحكام الخطيرة شأناً كعقوق الوالدين و منع الحقوق الماليّة و التبذير و قتل الأولاد و الزنا و قتل النفس المحترمة و أكل مال اليتيم و نقض العهد و التطفيف في الوزن و اتّباع غير العلم و الكبير ثمّ ختمها بالنهي ثانياً عن الشرك.

قوله تعالى: ( وَ بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً ) عطف على سابقه أي و قضى ربّك بأن تحسنوا بالوالدين إحساناً أو أن أحسنوا بالوالدين إحساناً و الإحسان في الفعل يقابل الإساءة.

و هذا بعد التوحيد لله من أوجب الواجبات كما أنّ عقوقهما أكبر الكبائر بعد الشرك بالله، و لذلك ذكره بعد حكم التوحيد و قدّمه على سائر الأحكام المذكورة المعدودة و كذلك فعل في عدّة مواضع من كلامه.

و قد تقدّم في نظير الآية من سورة الأنعام - الآية ١٥١ من السورة - أنّ الرابطة العاطفيّة المتوسّطة بين الأب و الاُمّ من جانب و الولد من جانب آخر من أعظم ما يقوم به المجتمع الإنسانيّ على ساقه، و هي الوسيلة الطبيعيّة الّتي تمسك الزوجين على حال الاجتماع فمن الواجب بالنظر إلى السنّة الاجتماعيّة الفطريّة أن يحترم الإنسان والديه بإكرامهما و الإحسان إليهما، و لو لم يجر هذا الحكم و هجر المجتمع الإنسانيّ بطلت العاطفة و الرابطة للأولاد بالأبوين و انحلّ به عقد الاجتماع.

٨٣

قوله تعالى: ( إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَ لا تَنْهَرْهُما وَ قُلْ لَهُما قَوْلًا كَرِيماً ) ( إِمَّا ) مركّب من( إن ) الشرطيّة و( ما ) الزائدة و هي المصحّحة لدخول نون التأكيد على فعل الشرط، و الكبر هو الكبر في السنّ و اُفّ كلمة تفيد الضجر و الانزجار، و النهر هو الزجر بالصياح و رفع الصوت و الإغلاظ في القول.

و تخصيص حالة الكبر بالذكر لكونها أشقّ الحالات الّتي تمرّ على الوالدين فيحسّان فيها الحاجة إلى إعانة الأولاد لهما و قيامهم بواجبات حياتيهما الّتي يعجزان عن القيام بها، و ذلك من آمال الوالدين الّتي يأملانها من الأولاد حين يقومان بحضانتهم و تربيتهم في حال الصغر و في وقت لا قدرة لهم على شي‏ء من لوازم الحياة و واجباتها.

فالآية تدلّ على وجوب إكرامهما و رعاية الأدب التامّ في معاشرتهما و محاورتهما في جميع الأوقات و خاصّة في وقت يشتدّ حاجتهما إلى ذلك و هو وقت بلوغ الكبر من أحدهما أو كليهما عند الولد و معنى الآية ظاهر.

قوله تعالى: ( وَ اخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَ قُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً ) خفض الجناح كناية عن المبالغة في التواضع و الخضوع قولاً و فعلاً مأخوذ من خفض فرخ الطائر جناحه ليستعطف اُمّه لتغذيته، و لذا قيّده بالذلّ فهو دأب أفراخ الطيور إذا أرادت الغذاء من اُمّهاتها، فالمعنى واجههما في معاشرتك و محاورتك مواجهة يلوج منها تواضعك و خضوعك لهما و تذلّلك قبالهما رحمة بهما.

هذا إن كان الذلّ بمعنى المسكنة و إن كان بمعنى المطاوعة فهو مأخوذ من خفض الطائر جناحه ليجمع تحته أفراخه رحمة بها و حفظاً لها.

و قوله:( وَ قُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً ) أي اذكر تربيتهما لك صغيراً فادع الله سبحانه أن يرحمهما كما رحماك و ربّياك صغيراً.

قال في المجمع،: و في هذا دلالة على أنّ دعاء الولد لوالده الميّت مسموع و إلّا لم يكن للأمر به معنى. انتهى. و الّذي يدلّ عليه كون هذا الدعاء في مظنّة

٨٤

الإجابة و هو أدب دينيّ ينتفع به الولد و إن فرض عدم انتفاع والديه به على أنّ وجه تخصيص استجابة الدعاء بالوالد الميّت غير ظاهر و الآية مطلقة.

قوله تعالى: ( رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً ) السياق يعطي أن تكون الآية متعلّقة بما تقدّمها من إيجاب إحسان الوالدين و تحريم عقوقهما، و على هذا فهي متعرّضة لما إذا بدرت من الولد بادرة في حقّ الوالدين من قول أو فعل يتأذّيان به، و إنّما لم يصرّح به للإشارة إلى أنّ ذلك ممّا لا ينبغي أن يذكر كما لا ينبغي أن يقع.

فقوله:( رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ ) أي أعلم منكم به، و هو تمهيد لما يتلوه من قوله:( إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ ) فيفيد تحقيق معنى الصلاح أي إن تكونوا صالحين و علم الله من نفوسكم ذلك فإنّه كان إلخ، و قوله:( فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً ) أي للراجعين إليه عند كلّ معصية و هو من وضع البيان العامّ موضع الخاصّ.

و المعنى: إن تكونوا صالحين و علم الله من نفوسكم و رجعتم و تبتم إليه في بادرة ظهرت منكم على والديكم غفر الله لكم ذلك إنّه كان للأوّابين غفوراً.

قوله تعالى: ( وَ آتِ ذَا الْقُرْبى‏ حَقَّهُ وَ الْمِسْكِينَ وَ ابْنَ السَّبِيلِ ) تقدّم الكلام فيه في نظائره، و بالآية يظهر أنّ إيتاء ذي القربى و المسكين و ابن السبيل ممّا شرع قبل الهجرة لأنّها آية مكّيّة من سورة مكّيّة.

قوله تعالى: ( وَ لا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ وَ كانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً ) قال في المجمع: التبذير التفريق بالإسراف، و أصله أن يفرّق كما يفرّق البذر إلّا أنّه يختصّ بما يكون على سبيل الإفساد، و ما كان على وجه الإصلاح لا يسمّى تبذيراً و إن كثر. انتهى.

و قوله:( إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ ) تعليل للنهي عن التبذير، و المعنى لا تبذّر إنّك إن تبذّر كنت من المبذّرين و المبذّرون إخوان الشياطين، و كأنّ وجه المواخاة بينهم أنّ الواحد منهم يصير ملازما لشيطانه و بالعكس كالأخوين الّذين هما شقيقان متلازمان في أصلهما الواحد كما يشير إليه قوله تعالى:( وَ قَيَّضْنا

٨٥

لَهُمْ قُرَناءَ ) حم السجدة: ٢٥، و قوله:( احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَ أَزْواجَهُمْ ) الصافّات: ٢٢ أي قرناءهم، و قوله:( وَ إِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ ) الأعراف: ٢٠٢.

و من هنا يظهر أنّ تفسير من فسّر الآية بأنّهم قرناء الشياطين أحسن من قول من قال: المعنى أنّهم أتباع الشياطين سالكون سبيلهم.

و أمّا قوله:( وَ كانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً ) فالمراد بالشيطان فيه هو إبليس الّذي هو أبوالشياطين و هم ذرّيّته و قبيله و اللّام حينئذ للعهد الذهنيّ و يمكن أن يكون اللّام للجنس و المراد به جنس الشيطان و على أيّ حال كونه كفوراً لربّه من جهة كفرانه بنعم الله حيث أنّه يصرف ما آتاه من قوّة و قدرة و استطاعة في سبيل إغواء الناس و حملهم على المعصية و دعوتهم إلى الخطيئة و كفران النعمة.

و قد ظهرت ممّا تقدم النكتة في جمع الشيطان أوّلاً و إفراده ثانياً فإنّ الاعتبار أوّلاً بأنّ كلّ مبذّر أخو شيطانه الخاصّ فالجميع إخوان للشياطين و الاعتبار ثانياً بإبليس الّذي هو أبوالشياطين أو بجنس الشيطان.

قوله تعالى: ( وَ إِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُوراً ) أصله إن تعرض عنهم و( ما ) زائدة للتأكيد و النون للتأكيد.

و السياق يشهد بأنّ الكلام في إنفاق الأموال فالمراد بقوله:( وَ إِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ) الإعراض عمّن سأله شيئا من المال ينفقه له و يسدّ به خلّته و ليس المراد به كلّ إعراض كيف اتّفق بل الإعراض عند ما ليس عنده شي‏ء من المال يبذله له و ليس بآيس من وجدانه بدليل قوله:( ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها ) أي كنت تعرض عنهم لا لكونك مليئاً بالمال شحيحاً به، و لا لأنّك فاقد له آيس من حصوله بل لأنّك فاقد له مبتغ و طالب لرحمة من ربّك ترجوها يعني الرزق.

و قوله:( فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُوراً ) أي سهلاً ليّناً أي لا تغلظ في القول و لا تجف في الردّ كما قال تعالى:( وَ أَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ ) الضحى: ١٠ بل ردّه بقول سهل ليّن.

قال في الكشّاف: و قوله:( ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ ) إمّا أن يتعلّق بجواب

٨٦

الشرط مقدّماً عليه أي فقل لهم قولاً سهلاً ليّناً و عدهم وعداً جميلاً رحمة لهم و تطييباً لقلوبهم ابتغاء رحمة من ربّك أي ابتغ رحمة الله الّتي ترجوها برحمتك عليهم، و إمّا أن يتعلّق بالشرط أي و إن أعرضت عنهم لفقد رزق من ربّك ترجو أن يفتح لك - فسمّى الرزق رحمة - فردّهم ردّاً جميلاً فوضع الابتغاء موضع الفقد لأنّ فاقد الرزق مبتغ له فكان الفقد سبب الابتغاء و الابتغاء مسبّباً عنه فوضع المسبّب موضع السبب. انتهى.

قوله تعالى: ( وَ لا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى‏ عُنُقِكَ وَ لا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً ) جعل اليد مغلولة إلى العنق كناية عن الإمساك كمن لا يعطي و لا يهب شيئاً لبخله و شحّ نفسه، و بسط اليد كلّ البسط كناية عن إنفاق الإنسان كلّ ما في وجده بحيث لا يبقى شيئاً كمن يبسط يده كلّ البسط بحيث لا يستقرّ عليها شي‏ء ففي الكلام نهي بالغ عن التفريط و الإفراط في الإنفاق.

و قوله:( فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً ) متفرّع على قوله:( وَ لا تَبْسُطْها ) إلخ و الحسر هو الانقطاع أو العرى أي و لا تبسط يدك كلّ البسط حتّى يتعقّب ذلك أن تقعد ملوماً لنفسك و غيرك منقطعاً عن واجبات المعاش أو عرياناً لا تقدر على أن تظهر للناس و تعاشرهم و تراودهم.

و قيل: إنّ قوله:( فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً ) متفرّع على الجملتين لا على الجملة الأخيرة فحسب و المعنى إن أمسكت قعدت ملوماً مذموماً و إن أسرفت بقيت متحسّراً مغموماً.

و فيه أنّ كون قوله:( وَ لا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ ) ظاهراً في النهي عن التبذير و الإسراف غير معلوم و كذا كون إنفاق جميع المال في سبيل الله إسرافاً و تبذيراً غير ظاهر و إن كان منهيّاً عنه بهذه الآية كيف و من المأخوذ في مفهوم التبذير أن يكون على وجه الإفساد، و وضع المال و لو كان كثيراً أو جميعه في سبيل الله و إنفاقه على من يستحقّه ليس بإفساد له، و لا وجه للتحسّر و الغمّ على ما لم يفسد و لا أفسد.

قوله تعالى: ( إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَ يَقْدِرُ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً

٨٧

بَصِيراً ) ظاهر السياق أنّ الآية في مقام التعليل لما تقدّم في الآية السابقة من النهي عن الإفراط و التفريط في إنفاق المال و بذله.

و المعنى: إنّ هذا دأب ربّك و سنّته الجارية يبسط الرزق لمن يشاء و يقدر لمن يشاء فلا يبسطه كلّ البسط و لا يمسك عنه كلّ الإمساك رعاية لمصلحة العباد إنّه كان بعباده خبيراً بصيراً و ينبغي لك أن تتخلّق بخلق الله و تتّخذ طريق الاعتدال و تتجنّب الإفراط و التفريط.

و قيل: إنّها تعليل على معنى أنّ ربّك يبسط و يقبض، و ذلك من الشؤون الإلهيّة المختصّة به تعالى، و ليس لك أن تتّصف به و الّذي عليك أن تقتصد من غير أن تعدل عنه إلى إفراط أو تفريط، و قيل في معنى التعليل غير ذلك، و هي وجوه بعيدة.

قوله تعالى: ( وَ لا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَ إِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً ) الإملاق الفاقة و الفقر، و قال في المفردات،: الخطأ العدول عن الجهة و ذلك أضرب: أحدها أن تريد غير ما تحسن إرادته و فعله، و هذا هو الخطأ التامّ المأخوذ به الإنسان يقال: خطئ يخطأ و خطأة، قال تعالى:( إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً ) و قال:( وَ إِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ ) و الثاني أن يريد ما يحسن فعله و لكن يقع منه خلاف ما يريد فيقال: أخطأ إخطاء فهو مخطئ و هذا قد أصاب في الإرادة و أخطأ في الفعل، و هذا المعنىّ بقوله:( وَ مَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ ) ، و الثالث أن يريد ما لا يحسن فعله و يتّفق منه خلافه فهذا مخطئ في الإرادة مصيب في الفعل فهو مذموم بقصده غير محمود على فعله.

و جملة الأمر أنّ من أراد شيئاً فاتّفق منه غيره يقال: أخطأ، و إن وقع منه كما أراده يقال: أصاب، و قد يقال لمن فعل فعلاً لا يحسن أو أراد إرادة لا يجمل: إنّه أخطأ، و لذا يقال: أصاب الخطأ و أخطأ الصواب و أصاب الصواب و أخطأ الخطأ و هذه اللفظة مشتركة كما ترى متردّدة بين معان يجب لمن يتحرىّ الحقائق أن يتأمّلها. انتهى بتلخيص.

٨٨

و في الآية نهي شديد عن قتل الأولاد خوفاً من الفقر و الحاجة و قوله( نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَ إِيَّاكُمْ ) تعليل للنهي و تمهيد لقوله بعده:( إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً ) .

و المعنى و لا تقتلوا أولادكم خوفاً من أن تبتلوا بالفقر و الحاجة فيؤدّيهم ذلك إلى ذلّ السؤال أو ازدواج بناتكم من غير الأكفاء أو غير ذلك ممّا يذهب بكرامتكم فإنّكم لستم ترزقونهم حتّى تفقدوا الرزق عند فقركم و إعساركم بل نحن نرزقهم و إيّاكم إنّ قتلهم كان خطأ كبيراً.

و قد تكرّر في كلامه تعالى النهي عن قتل الأولاد خوفاً من الفقر و خشية من الإملاق، و هو مع كونه من قتل النفس المحترمة الّتي يبالغ كلامه تعالى في النهي عنه إنّما اُفرد بالذكر و اختصّ بنهي خاصّ لكونه من أقبح الشقوة و أشدّ القسوة، و لأنّهم - كما قيل - كانوا يعيشون في أراضي يكثر فيها السنة و يسرع إليها الجدب فكانوا إذا لاحت لوائح الفاقة و الإعسار بجدب و غيره بادروا إلى قتل الأولاد خوفاً من ذهاب الكرامة و العزّة.

و في الكشّاف: قتلهم أولادهم هو وأدهم بناتهم كانوا يئدونهنّ خشية الفاقة و هي الإملاق فنهاهم الله و ضمن لهم أرزاقهم انتهى، و الظاهر خلاف ما ذكره و أنّ الآيات المتعرّضة لوأد البنات آيات خاصّة تصرّح به و بحرمته كقوله تعالى:( وَ إِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ ) التكوير: ٩، و قوله:( وَ إِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى‏ ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَ هُوَ كَظِيمٌ يَتَوارى‏ مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ أَ يُمْسِكُهُ عَلى‏ هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ ) النحل: ٥٩.

و أمّا الآية الّتي نحن فيها و أترابها فإنّها تنهى عن قتل الأولاد خشية إملاق، و لا موجب لحمل الأولاد على البنات مع كونه أعمّ، و لا حمل الهون على خوف الفقر مع كونهما متغايرين فالحقّ أنّ الآية تكشف عن سنّة سيّئة اُخرى غير وأد البنات دفعا للهون و هي قتل الأولاد من ذكر و اُنثى خوفاً من الفقر و الفاقة و الآيات تنهى عنه.

٨٩

قوله تعالى: ( وَ لا تَقْرَبُوا الزِّنى‏ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَ ساءَ سَبِيلًا ) نهي عن الزنا و قد بالغ في تحريمه حيث نهاهم عن أن يقربوه، و علّله بقوله:( إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً ) فأفاد أنّ الفحش صفة لازمة له لا يفارقه، و قوله:( وَ ساءَ سَبِيلًا ) فأفاد أنّه سبيل سيّي‏ء يؤدّي إلى فساد المجتمع في جميع شؤونه حتّى ينحلّ عقده و يختلّ نظامه و فيه هلاك الإنسانيّة و قد بالغ سبحانه في وعيد من أتى به حيث قال في صفات المؤمنين:( وَ لا يَزْنُونَ وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَ يَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً إِلَّا مَنْ تابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ عَمَلًا صالِحاً ) الفرقان: ٧٠.

( كلام في حرمة الزنا)

و هو بحث قرآنيّ اجتماعيّ.

من المشهود أنّ في كلّ من الزوجين من الإنسان أعني الذكر و الاُنثى إذا أدرك و صحّت بنيته ميلاً غريزيّاً إلى الآخر و ليس ذلك ممّا يختصّ بالإنسان بل ما نجده من عامّة الحيوان أيضاً على هذه الغريزة الطبيعيّة.

و قد جهّز بحسب الأعضاء و القوى بما يدعوه إلى هذا الاقتراب و التمايل و التأمّل في نوع تجهيز الصنفين لا يدع ريبا في أنّ هذه الشهوة الطبيعيّة وسيلة تكوينيّة إلى التوالد و التناسل الّذي هو ذريعة إلى بقاء النوع، و قد جهّز باُمور اُخرى متمّمة لهذه البغية الطبيعيّة كحبّ الولد و تجهيز الاُنثى من الحيوان ذي الثدي باللبن لتغذّي طفلها حتّى يستطيع التقام الغذاء الخشن و مضغه و هضمه فكلّ ذلك تسخير إلهيّ يتوسّل به إلى بقاء النوع.

و لذلك نرى أنّ الحيوان مع عدم افتقاره إلى الاجتماع و المدنيّة لسذاجة حياته و قلّة حاجته يهتدي حيناً بعد حين بحسب غريزته إلى الاجتماع الزوجيّ - السفاد - ثمّ يلتزم الزوجان أو الاُنثى منهما الطفل أو الفرخ و يتكفّلان أو تتكفّل الاُنثى تغذيته و تربيته حتّى يدرك و يستقلّ بإدارة رحى حياته.

و لذلك أيضاً لم يزل الناس منذ ضبط التاريخ سيرهم و سننهم تجري فيهم سنّة

٩٠

الازدواج الّتي فيها نوع من الاختصاص و الملازمة بين الرجل و المرأة لتجاب به داعية الغريزة و يتوسّل به إلى إنسالّ الذرّيّة، و هو أصل طبيعيّ لانعقاد المجتمع الإنسانيّ فإنّ من الضروريّ أنّ الشعوب المختلفة البشريّة على ما لها من السعة و الكثرة تنتهي إلى مجتمعات صغيرة منزليّة انعقدت في سالف الدهور.

و ما مرّ من أنّ في سنّة الازدواج شي‏ء من معنى الاختصاص هو المنشأ لما كان الرجال يعدّون أهلهم إعراضاً لأنفسهم و يرون الذبّ عن الأهل و صونها من تعرّض غيرهم فريضة على أنفسهم كالذبّ عن أنفسهم أو أشدّ، و الغريزة الهائجة إذ ذاك هي المسمّاة بالغيرة و ليست بالحسد و الشحّ.

و لذلك أيضاً لم يزالوا على مرّ القرون و الأجيال يمدحون النكاح و يعدّونه سنّة حسنة ممدوحة، و يستقبحون الزنا و هو المواقعة من غير علقة النكاح و يستشنعونه في الجملة و يعدّونه إثماً اجتماعيّاً و فاحشة أي فعلاً شنيعاً لا يجهر به و إن كان ربّما وجد بين بعض الأقوام الهمجيّة في بعض الأحيان و على شرائط خاصّة بين الحرائر و الشبّان أو بين الفتيات من الجواري على ما ذكر في تواريخ الاُمم و الأقوام.

و إنّما استفحشوه و أنكروه لما يستتبعه من فساد الأنساب و قطع النسل و ظهور الأمراض التناسليّة و دعوته إلى كثير من الجنايات الاجتماعيّة من قتل و جرح و سرقة و خيانة و غير ذلك و ذهاب العفّة و الحياء و الغيرة و المودّة و الرحمة.

غير أنّ المدنيّة الغربيّة الحديثة لابتنائها على التمتّع التامّ من مزايا الحياة المادّيّة و حرّيّة الأفراد في غير ما تعتني به القوانين المدنيّة سواء فيه السنن القوميّة و الشرائع الدينيّة و الأخلاق الإنسانيّة أباحته إذا وقع من غير كره كيفما كان، و ربّما اُضيف إلى ذلك بعض شرائط جزئيّة اُخرى في موارد خاصّة، و لم تبال بما يستتبعه من وجوه الفساد عناية بحرّيّة الأفراد فيما يهوونه و يرتضونه و القوانين الاجتماعية تراعي رأي الأكثرين.

فشاعت الفاحشة بين الرجال و النساء حتّى عمّت المحصنين و المحصنات و المحارم

٩١

حتّى كاد أن لا يوجد من لم يبتل به و كثر مواليدها كثرة كاد أن تثقل كفّة الميزان و أخذت تضعّف الأخلاق الكريمة الّتي كانت تتّصف بها الإنسانيّة الطبيعيّة و ترتضيها لنفسه بتسنين سنّة الازدواج من العفّة و الغيرة و الحياء يوماً فيوماً حتّى صار بعض هذه الفضائل اُضحوكة و سخريّة، و لو لا أنّ في ذكر الشنائع بعض الشناعة ثمّ في خلال الأبحاث القرآنيّة خاصّة لأوردنا بعض ما نشرته المنشورات من الإحصاءآت في هذا الباب.

و الشرائع السماويّة على ما يذكره القرآن الكريم - و قد مرّت الإشارة إلى ذلك في تفسير الآيات ١٥١ - ١٥٣ من سورة الأنعام - تنهى عن الزنا أشدّ النهي و قد كان محرّماً في ملّة اليهود و يستفاد من الأناجيل حرمته.

و قد نهي عنه في الإسلام و عدّ من المعاصي الكبيرة و اُغلظ في التحريم في المحارم كالاُمّ و البنت و الاُخت و العمّة و الخالة، و في التحريم في الزنا، مع الإحصان و هو زنا الرجل و له زوجة و المرأة ذات البعل، و قد اُغلظ فيما شرع له من الحدّ و هو الجلد مائة جلدة و القتل في المرّة الثالثة أو الرابعة لو اُقيم الحدّ مرّتين أو ثلاثاً و الرجم في الزنا مع الإحصان.

و قد أشار سبحانه إلى حكمة التحريم فيما نهى عنه بقوله:( وَ لا تَقْرَبُوا الزِّنى‏ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَ ساءَ سَبِيلًا ) حيث عدّه أوّلاً فاحشة ثمّ وصفه ثانياً بقوله:( وَ ساءَ سَبِيلًا ) و المراد - و الله أعلم - سبيل البقاء كما يستفاد من قوله:( أَ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ وَ تَقْطَعُونَ السَّبِيلَ ) العنكبوت: ٢٩، أي و تتركون إتيان النساء الّذي هو السبيل فتنقطع بذلك و ليس إلّا سبيلاً للبقاء من جهة تسبّبه إلى تولّد المواليد و بقاء النسل بذلك، و من جهة أنّ الازدواج و عقد المجتمع المنزليّ هو أقوى وسيلة يضمن بقاء المجتمع المدنيّ بعد انعقاده.

فمع انفتاح باب الزنا لا تزال الرغبات تنقطع عن النكاح و الازدواج إذ لا يبقى له إلّا محنة النفقة و مشقّة حمل الأولاد و تربيتها و مقاساة الشدائد في حفظها و القيام بواجب حياتها و الغريزة تقنع من سبيل آخر من غير كدّ و تعب، و هو مشهود من

٩٢

حال الشبان و الفتيات في هذه البلاد، و قد قيل لبعضهم: لم لا تتزوّج؟ فقال: و ما أصنع بالازدواج و كلّ نساء البلد نسائي، و لا يبقى حينئذ للازدواج و النكاح إلّا شركة الزوجين في مساعي الحياة الجزئيّة غير التناسل كالشركة في تجارة أو عمل و يسرع إليهما الافتراق لأدنى عذر، و هذا كلّه مشهود اليوم في المجتمعات الغربيّة.

و من هنا أنّهم يعدون الازدواج شركة في الحياة منعقدة بين الزوجين الرجل و المرأة و جعلوها هي الغاية المطلوبة بالذات من الازدواج دون الإنسال و تهيئة الأولاد و لا إجابة غريزة الميل الطبيعيّ بل عدوّاً ذلك من الآثار المترتّبة عليه إن توافقا على ذلك و هذا انحراف عن سبيل الفطرة و التأمّل في حال الحيوان على اختلاف أنواعه يهدي إلى أنّ الغاية المطلوبة منه عندها هو إرضاء الغريزة الهائجة و إنسال الذرّيّة و كذا الإمعان في حال الإنسان أوّل ما يميل إلى ذلك يعطي أنّ الغاية القريبة الداعية إليه عنده هو إرضاء الغريزة و يعقبه طلب الولد.

و لو كانت الغريزة الإنسانيّة الّتي تدفعه إلى هذه السنّة الطبيعيّة إنّما تطلب الشركة في الحياة و التعاون على واجب المأكل و المشرب و الملبس و المسكن و ما هذا شأنه يمكن أن يتحقّق بين رجلين أو بين امرأتين لظهر أثره في المجتمع البشريّ و استنّ عليه و لا أقلّ في بعض المجتمعات في طول تاريخ الإنسان و تزوّج رجل برجل أحياناً أو امرأة بامرأة و لم تجر سنّة الازدواج على وتيرة واحدة دائماً و لم تقم هذه الرابطة بين طرفين أحدهما من الرجال و الآخر من النساء أبداً.

و من جهة اُخرى أخذ مواليد الزنا في الإزدياد يوماً فيوماً يقطع منابت المودّة و الرحمة و تعلّق قلوب الأولاد بالآباء و يستوجب ذلك انقطاع المودّة و الرحمة من ناحية الآباء بالنسبة إلى الأولاد و هجر المودّة و الرحمة بين الطبقتين الآباء و الأولاد يقضي بهجر سنّة الازدواج للمجتمع و فيه انقراضهم و هذا كلّه أيضاً ممّا يلوح من المجتمعات الغربيّة.

و من التصوّر الباطل أن يتصوّر أنّ البشر سيوفّق يوماً أن يدير رحى مجتمعة باُصول فنّية و طرق علميّة من غير حاجة إلى الاستعانة بالغرائز الطبيعيّة فيهيّأ

٩٣

يومئذ طبقة المواليد مع الاستغناء عن غريزة حبّ الأولاد بوضع جوائز تسوقهم إلى التوليد و الإنسال أو بغير ذلك كما هو معمول بعض الممالك اليوم فإنّ السنن القوميّة و القوانين المدنيّة تستمدّ في حياتها بما جهّز به الإنسان من القوى و الغرائز الطبيعيّة فلو بطلت أو اُبطلت انفصم بذلك عقد مجتمعة، و هيئة المجتمع قائمة بأفراده و سننه مبنيّة على إجابتهم لها و رضاهم بها و كيف تجري في مجتمع سنّة لا ترتضيها قرائحهم و لا تستجيبها نفوسهم ثمّ يدوم الأمر عليه.

فهجر الغرائز الطبيعيّة و ذهول المجتمع البشريّ عن غاياته الأصليّة يهدّد الإنسانيّة بهلاك سيغشاها و يهتف بأنّ أمامهم يوماً سيتّسع فيه الخرق على الراقع و إن كان اليوم لا يحسّ به كلّ الإحساس لعدم تمام نمائه بعد.

ثمّ إنّ لهذه الفاحشة أثراً آخر سيّئا في نظر التشريع الإسلاميّ و هو إفساده للأنساب و قد بني المناكح و المواريث في الإسلام عليها.

قوله تعالى: ( وَ لا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ) إلى آخر الآية نهي عن قتل النفس المحترمة إلّا بالحقّ أي إلّا أن يكون قتلاً بالحقّ بأن يستحقّ ذلك لقود أو ردّة أو لغير ذلك من الأسباب الشرعيّة، و لعلّ في توصيف النفس بقوله:( حَرَّمَ اللهُ ) من غير تقييد إشارة إلى حرمة قتل النفس في جميع الشرائع السماويّة فيكون من الشرائع العامّة كما تقدّمت الإشارة إليه في ذيل الآيات ١٥١ - ١٥٣ من سورة الأنعام.

و قوله:( وَ مَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً ) المراد بجعل السلطان لوليّه تسليطه شرعاً على قتل قاتل وليّه قصاصاً و الضميران في( فَلا يُسْرِفْ ) و( إِنَّهُ ) للوليّ، و المراد بكونه منصوراً هو التسليط الشرعيّ المذكور.

و المعنى و من قتل مظلوماً فقد جعلنا بحسب التشريع لوليّه و هو وليّ دمه سلطنة على القصاص و أخذ الدية و العفو فلا يسرف الوليّ في القتل بأن يقتل غير القاتل أو يقتل أكثر من الواحد إنّه كان منصوراً أي فلا يسرف فيه لأنّه كان

٩٤

منصوراً فلا يفوته القاتل بسبب أنّا نصرناه أو فلا يسرف اعتماداً على أنّا نصرناه.

و ربّما احتمل بعضهم رجوع الضمير في قوله:( فَلا يُسْرِفْ ) إلى القاتل المدلول عليه بالسياق، و في قوله:( إِنَّهُ ) إلى( مَنْ ) و المعنى قد جعلنا لوليّ المقتول ظلماً سلطنة فلا يسرف القاتل الأوّل بإقدامه على القتل ظلماً فإنّ المقتول ظلماً منصور من ناحيتنا لما جعلنا لوليّه من السلطنة، و هو معنى بعيد من السياق و دونه إرجاع ضمير( إِنَّهُ ) فقط إلى المقتول.

و قد تقدم كلام في معنى القصاص في ذيل قوله تعالى:( وَ لَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ ) البقرة: ١٧٩ في الجزء الأوّل من الكتاب.

قوله تعالى: ( وَ لا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ ) نهي عن أكل مال اليتيم و هو من الكبائر الّتي أوعد الله عليها النار قال تعالى:( إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى‏ ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَ سَيَصْلَوْنَ سَعِيراً ) النساء: ١٠.

و في النهي عن الاقتراب مبالغة لإفادة اشتداد الحرمة.

و قوله:( إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) أي بالطريقة الّتي هي أحسن و فيه مصلحة إنماء ماله، و قوله:( حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ ) هو أوان البلوغ و الرشد و عند ذلك يرتفع عنه اليتم فالتحديد بهذه الجملة لكون النهي عن القرب في معنى الأمر بالصيانة و الحفظ كأنّه قيل: احتفظوا على ماله حتّى يبلغ أشدّه فتردّوه إليه، و بعبارة اُخرى الكلام في معنى قولنا: لا تقربوا مال اليتيم ما دام يتيماً، و قد تقدم بعض ما يناسب المقام في سورة الأنعام آية ١٥٢.

قوله تعالى: ( وَ أَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلًا ) أي مسئول عنه و هو من الحذف و الإيصال السائغ في الكلام، و قيل: المراد السؤال عن نفس العهد فإنّ من الجائز أن تتمثّل الأعمال يوم القيامة فتشهد للإنسان أو عليه و تشفع له أو تخاصمه.

قوله تعالى: ( وَ أَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَ زِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذلِكَ خَيْرٌ

٩٥

وَ أَحْسَنُ تَأْوِيلًا ) القسطاس بكسر القاف و ضمّها هو الميزان قيل: روميّ معرّب و قيل: عربيّ، و قيل مركّب في الأصل من القسط و هو العدل و طاس و هو كفّة الميزان و القسطاس المستقيم هو الميزان العادل لا يخسر في وزنه.

و قوله:( ذلِكَ خَيْرٌ وَ أَحْسَنُ تَأْوِيلًا ) الخير هو الّذي يجب أن يختاره الإنسان إذا تردّد الأمر بينه و بين غيره، و التأويل هو الحقيقة الّتي ينتهي إليها الأمر، و كون إيفاء الكيل و الوزن بالقسطاس المستقيم خيراً لما فيه من الاتّقاء من استراق أموال الناس و اختلاسها من حيث لا يشعرون و جلب وثوقهم.

و كونهما أحسن تأويلاً لما فيهما من رعاية الرشد و الاستقامة في تقدير الناس معيشتهم فإنّ معايشهم تقوم في التمتّع بأمتعة الحياة على أصلين اكتساب الأمتعة الصالحة للتمتّع و المبادلة على الزائد على قدر حاجتهم فهم يقدّرون معيشتهم على قدر ما يسعهم أن يبذلوه من المال عينا أو قيمة، و على قدر ما يحتاجون إليه من الأمتعة المشتراة فإذا خسروا بالتطفيف و نقص الكيل و الوزن فقد اختلّت عليهم الحياة من الجهتين جميعاً، و ارتفع الأمن العامّ من بينهم.

و أمّا إذا اُقيم الوزن بالقسط فقد أطلّ عليهم الرشد و استقامت أوضاعهم الاقتصاديّة بإصابة الصواب فيما قدّروا عليه معيشتهم و اجتلب وثوقهم إلى أهل السوق و استقرّ بينهم الأمن العامّ.

قوله تعالى: ( وَ لا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَ الْبَصَرَ وَ الْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا ) القراءة المشهورة( لا تَقْفُ ) بسكون القاف و ضمّ الفاء من قفا يقفو قفواً إذا اتّبعه و منه قافية الشعر لكونها في آخر المصراع تابعة لما تقدّمها، و قرئ( لا تَقْفُ ) بضمّ القاف و سكون الفاء من قاف بمعنى قفا، و لذلك نقل عن بعض أهل اللغة أنّ قاف مقلوب قفا مثل جبذ مقلوب جذب، و منه القيافة بمعنى اتّباع أثر الأقدام.

و الآية تنهى عن اتّباع ما لا علم به، و هي لإطلاقها تشمل الاتّباع اعتقاداً و عملاً، و تتحصّل في مثل قولنا: لا تعتقد ما لا علم لك به و لا تقل ما لا علم لك به

٩٦

و لا تفعل ما لا علم لك به لأنّ في ذلك كلّه اتّباعاً.

و في ذلك إمضاء لما تقضي به الفطرة الإنسانيّة و هو وجوب اتّباع العلم و المنع عن اتّباع غيره فإنّ الإنسان بفطرته الموهوبة لا يريد في مسير حياته باعتقاده أو عمله إلّا إصابة الواقع و الحصول على ما في متن الخارج و المعلوم هو الّذي يصحّ له أن يقول: إنّه هو، و أمّا المظنون و المشكوك و الموهوم فلا يصحّ فيها إطلاق القول بأنّه هو فافهم ذلك.

و الإنسان بفطرته السليمة يتبع في اعتقاده ما يراه حقّاً و يجده واقعاً في الخارج، و يتبع في عمله ما يرى نفسه مصيباً في تشخيصه، و ذلك فيما تيسّر له أن يحصّل العلم به، و أمّا فيما لا يتيسّر له العلم به كالفروع الاعتقاديّة بالنسبة إلى بعض الناس و غالب الأعمال بالنسبة إلى غالب الناس فإنّ الفطرة السليمة تدفعه إلى اتّباع علم من له علم بذلك و خبرة باعتبار علمه و خبرته علما لنفسه فيؤل اتّباعه في ذلك بالحقيقة اتّباعاً لعلمه بأنّ له علماً و خبرة كما يرجع السالك و هو لا يعرف الطريق إلى الدليل لكن مع علمه بخبرته و معرفته، و يرجع المريض إلى الطبيب و مثله أرباب الحوائج إلى مختلف الصناعات المتعلّقة بحوائجهم إلى أصحاب تلك الصناعات.

و يتحصّل من ذلك أنّه لا يتخطّى العلم في مسير حياته بحسب ما تهدي إليه فطرته غير أنّه يعدّ ما يثق به نفسه و يطمئنّ إليه قلبه علماً و إن لم يكن ذاك اليقين الّذي يسمّى علماً في صناعة البرهان من المنطق.

فله في كلّ مسألة ترد عليه إمّا علم بنفس المسألة و إمّا دليل علميّ بوجوب العمل بما يؤدّيه و يدلّ عليه، و على هذا ينبغي أن ينزّل قوله سبحانه:( وَ لا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ) فاتّباع الظنّ عن دليل علميّ بوجوب اتّباعه اتّباع للعلم كاتّباع العلم في مورد العلم.

فيؤل المعنى إلى أنّه يحرم الاقتحام على اعتقاد أو عمل يمكن تحصيل العلم به إلّا بعد تحصيل العلم، و الاقتحام على ما لا يمكن فيه ذلك إلّا بعد الاعتماد على

٩٧

دليل علميّ يجوّز الاقتحام و الورود و ذلك كأخذ الأحكام عن النبيّ و اتّباعه و إطاعته فيما يأمر به و ينهى عنه عن قبل ربّه و تناول المريض ما يأمر به الطبيب و الرجوع إلى أصحاب الصنائع فيما يرجع إلى صناعتهم فإنّ الدليل العلميّ على عصمة النبيّ دليل علميّ على مطابقة ما يخبر به أو ما يأمر به و ينهى عنه الواقع و أصابة من اتّبعه الصواب، و الحجّة العلميّة على خبرة الطبيب في طبّه و أصحاب الصناعات في صناعاتهم حجّة علميّة على أصابة من يرجع إليهم فيما يعمل به.

و لو لا كون الاقتحام على العمل عن حجّة علميّة على وجوب الاقتحام اقتحاماً علميّاً لكانت الآية قاصرة عن الدلالة على مدلولها من رأس فإنّ الطريق إلى فهم مدلول الآية هو ظهورها اللفظيّ فيه، و الظهور اللفظيّ من الأدلّة الظنّيّة غير أنّه حجّة عن دليل علميّ و هو بناء العقلاء على حجّيّته فلو كان غير ما تعلّق العلم به بعينه ممّا لا علم به مطلقاً لكان اتّباع الظهور و منه ظهور نفس الآية منهيّاً عنه بالآية و كانت الآية ناهية عن اتّباع نفسه فكانت ناقضة لنفسها.

و من هنا يظهر اندفاع ما أورده بعضهم في المقام كما عن الرازيّ في تفسيره أنّ العمل بالظنّ كثير في الفروع فالتمسّك بالآية تمسّك بعامّ مخصوص و هو لا يفيد إلّا الظنّ فلو دلّت على أنّ التمسّك بالظنّ غير جائز لدلّت على أنّ التمسّك بها غير جائز فالقول بحجيّتها يقضي إلى نفيه و هو غير جائز.

و فيه أنّ الآية تدلّ على عدم جواز اتّباع غير العلم بلا ريب غير أنّ موارد العمل بالظنّ شرعاً موارد قامت عليها حجّة علميّة فالعمل فيها بالحقيقة إنّما هو عمل بتلك الحجج العلميّة و الآية باقية على عمومها من غير تخصّص، و لو سلّم فالعمل بالعامّ المخصّص فيما بقي من الأفراد سالمة عن التخصيص عمل بحجّة عقلائيّة نظير العمل بالعامّ غير المخصّص من غير فرق بينهما البتّة.

و نظيره الاستشكال فيها بأنّ الطريق إلى فهم المراد من الآية هو ظهورها و الظهور طريق ظنّي فلو دلّت الآية على حرمة اتّباع غير العلم لدلّت على حرمة الأخذ بظهور نفسها، و لازمها حرمة العمل بنفسها.

٩٨

و يردّه ما تقدّمت الإشارة إليه أن اتّباع الظهور اتّباع لحجّة علميّة عقلائيّة و هي بناء العقلاء على حجيّته فليس اتّباعه من اتّباع غير العلم بشي‏ء.

و قوله:( إِنَّ السَّمْعَ وَ الْبَصَرَ وَ الْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا ) تعليل للنهي السابق في قوله:( وَ لا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ) .

و الظاهر المتبادر إلى الذهن، أنّ الضميرين في( كانَ عَنْهُ ) راجعان إلى( كُلُّ ) فيكون( عَنْهُ ) نائب فاعل لقوله:( مَسْؤُلًا ) مقدّماً عليه كما ذكره الزمخشريّ في الكشّاف، أو مغنياً عن نائب الفاعل، و قوله:( أُولئِكَ ) إشارة إلى السمع و البصر و الفؤاد، و إنّما عبّر عنها باُولئك المختصّ بالعقلاء لأنّ كون كلّ منها مسئولاً عنه يجريه مجرى العقلاء و هو كثير النظير في كلامه تعالى.

و ربّما منع بعضهم كون( اُولئك ) مختصّاً بالعقلاء استناداً إلى قول جرير:

ذمّ المنازل بعد منزلة اللوى

و العيش بعد اُولئك الأيّام

و على ذلك فالمسؤل هو كلّ من السمع و البصر و الفؤاد يسأل عن نفسه فيشهد للإنسان أو عليه كما قال تعالى:( وَ تُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَ تَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ ) يس: ٦٥.

و اختار بعضهم رجوع ضمير( عَنْهُ ) إلى( كُلُّ ) و عود باقي الضمائر إلى القافي المدلول عليه في الكلام فيكون المسؤل هو القافي يسأل عن سمعه و بصره و فؤاده كيف استعملها؟ و فيما استعملها؟ و عليه ففي الكلام التفات عن الخطاب إلى الغيبة، و كان الأصل أن يقال: كنت عنه مسؤلاً. و هو بعيد.

و المعنى: لا تتّبع ما ليس لك به علم لأنّ الله سبحانه سيسأل عن السمع و البصر و الفؤاد و هي الوسائل الّتي يستعملها الإنسان لتحصيل العلم، و المحصّل من التعليل بحسب انطباقه على المورد أنّ السمع و البصر و الفؤاد إنّما هي نعم آتاها الله الإنسان ليشخّص بها الحقّ و يحصل بها على الواقع فيعتقد به و يبني عليه عمله و سيسأل عن كلّ منها هل أدرك ما استعمل فيه إدراكاً علميّاً؟ و هل اتّبع الإنسان ما حصّلته تلك الوسيلة من العلم؟

٩٩

فيسأل السمع هل كان ما سمعه معلوماً مقطوعاً به؟ و عن البصر هل كان ما رآه ظاهراً بيّنا؟ و عن الفؤاد هل كان ما فكّره و قضى به يقينيّاً لا شكّ فيه؟ و هي لا محالة تجيب بالحقّ و تشهد على ما هو الواقع فمن الواجب على الإنسان أن يتحرّز عن اتّباع ما ليس له به علم فإنّ الأعضاء و وسائل العلم الّتي معه ستسأل فتشهد عليه فيما اتّبعه ممّا حصّلته و لم يكن له به علم و لا يقبل حينئذ له عذر.

و مآله إلى نحو من قولنا: لا تقف ما ليس لك به علم فإنّه محفوظ عليك في سمعك و بصرك و فؤادك، و الله سائلها عن عملك لا محالة، فتكون الآية في معنى قوله تعالى:( حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَ أَبْصارُهُمْ وَ جُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ - إلى أن قال -وَ ما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَ لا أَبْصارُكُمْ وَ لا جُلُودُكُمْ وَ لكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ وَ ذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ ) حم السجدة: ٢٠ - ٢٣ و غيرها من آيات شهادة الأعضاء.

غير أنّ الآية تزيد عليها بعد الفؤاد من الشهداء على الإنسان و هو الّذي به يشعر الإنسان ما يشعر و يدرك ما يدرك، و هو من أعجب ما يستفاد من آيات الحشر أن يوقف الله النفس الإنسانيّة فيسألها عمّا أدركت فتشهد على الإنسان نفسه.

و قد تبيّن أنّ الآية تنهى عن الإقدام على أمر مع الجهل به سواء كان اعتقاداً مع الجهل أو عملاً مع الجهل بجوازه و وجه الصواب فيه أو ترتيب أثر لأمر مع الجهل به و ذيلها يعلّل ذلك بسؤاله تعالى السمع و البصر و الفؤاد، و لا ضير في كون العلّة أعمّ ممّا علّلتها فإنّ الأعضاء مسؤلة حتّى عمّا إذا أقدم الإنسان مع العلم بعدم جواز الإقدام قال تعالى:( الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى‏ أَفْواهِهِمْ وَ تُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَ تَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ ) الآية.

قال في المجمع، في معنى قوله:( وَ لا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ) معناه لا تقل: سمعت و لم تسمع و لا رأيت و لم تر و لا علمت و لم تعلم عن ابن عبّاس و قتادة، و قيل: معناه لا تقل في قفا غيرك كلاماً أي إذا مرّ بك فلا تغتبه عن الحسن، و قيل: هو

١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

٢٠٥ ـ رواية الحسن بن كثير :

وقد روى الحسن بن كثير وعبد خير ، قالا : لما وصل عليعليه‌السلام إلى كربلا وقف وبكى ، وقال : بأبي أغيلمة يقتلون ههنا. هذا مناخ ركابهم ، هذا موضع رحالهم ، هذا مصرع الرجل.

ـ رواية أخرى :(شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج ٣ ص ١٧١)

عن الحسن بن كثير ، عن أبيه ، أن علياعليه‌السلام أتى كربلاء ، فوقف بها ، فقيل له :

يا أمير المؤمنين ، هذه كربلاء. فقال : ذات كرب وبلاء. ثم أومأ بيده إلى المكان ، فقال : ههنا موضع رحالهم ومناخ ركابهم.

ثم أومأ بيده إلى مكان آخر ، فقال : ههنا مهراق دمائهم. ثم مضى إلى ساباط.

٢٠٦ ـ شهداء كربلاء مثل شهداء بدر (رض):

(أعيان الشيعة للسيد محسن الأمين ، ج ٤ ص ١٤٣)

في منتخب كنز العمال عن الطبراني في الكبير ما لفظه عن شيبان بن محرم ، قال :إني لمع عليعليه‌السلام إذ أتى كربلاء ، فقال : يقتل في هذا الموضع شهداء ليس مثلهم إلا شهداء بدر.

ـ شهداء كربلاء لا يسبقهم سابق :(المنتخب للطريحي ، ص ٨٧)

عن الإمام الصادقعليه‌السلام قال : مر أمير المؤمنينعليه‌السلام بكربلاء ، فبكى حتى اغرورقت عيناه بالدموع ، وقال : هذا مناخ ركابهم ، هذا ملقى رحالهم ، ههنا تراق دماؤهم. طوبى لك من تربة عليها يراق دم الأحبة. مناخ ركاب ومنازل شهداء ، لا يسبقهم من كان قبلهم ولا يلحقهم من كان بعدهم.

٢٠٧ ـ إخبار عليعليه‌السلام أن الحسينعليه‌السلام يقتل وموضع ذلك ، وما في ذلك من معجزات :(مدينة المعاجز لهاشم البحراني ، ص ١٢٠)

روى الشيخ الصدوق بسنده عن ابن عباس ، قال : كنت مع عليعليه‌السلام في خروجه من صفين. فلما نزلنا نينوى ـ وهي بشط الفرات ـ قال بأعلى صوته : يابن عباس أتعرف هذا الموضع؟ قلت : لا أعرفه يا أمير المؤمنين. فقال عليعليه‌السلام : لو عرفته كمعرفتي لم تكن تجوزه حتى تبكي لبكائي. قال فبكىعليه‌السلام طويلا حتى اخضلت لحيته وسالت الدموع على صدره ، وبكينا معه ، وهو يقول : أوه أوه ، مالي

٢٢١

ولآل أبي سفيان مالي ولآل حزب الشيطان وأولياء الكفر. صبرا صبرا يا أبا عبد الله ، فقد لقي أبوك مثل الذي تلقى منهم. ثم دعا بماء فتوضأ وضوء الصلاة ، فصلى ما شاء الله أن يصلي.

وذكر نحو كلامه ، إلا أنه نعس عند انقضاء صلاته وكلامه ساعة ، ثم انتبه فقال :يابن عباس. قلت : ها أنذا. فقال : ألا أحدثك عما رأيت في منامي آنفا عند رقدتي؟ فقلت : نامت عينك ورأيت خيرا يا أمير المؤمنين. قالعليه‌السلام : رأيت كأني برجال قد نزلوا من السماء ، معهم أعلام بيض ، قد تقلدوا سيوفهم ، وهي بيض تلمع ، وقد خطّوا حول هذه الأرض خطة. ثم رأيت كأن النخيل قد ضربت بأغصانها الأرض ، تضرب بدم عبيط (أي طري) ، وكأني بالحسين سخلي وفرخي ومضغتي ومخي ، قد غرق فيه ، يستغيث فلا يغاث. وكأن الرجال البيض (الذين) نزلوا من السماء ، ينادونه ويقولون : صبرا آل الرسول ، فإنكم تقتلون على يدي شرار الناس ، وهذه الجنة يا أبا عبد الله مشتاقة إليك. ثم يعزّونني ويقولون : يا أبا الحسن أبشروا فقد أقرّ الله عينك يوم يقوم الناس لرب العالمين. ثم انتبهت هكذا.

والذي نفس علي بيده ، لقد حدثني الصادق المصدق أبو القاسمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أني سأمر بها في خروجي إلى أهل البغي علينا. وهي أرض كرب وبلاء ، يدفن فيها الحسينعليه‌السلام وسبعة عشر رجلا من ولدي وولد فاطمةعليها‌السلام . وإنها لفي السموات معروفة تذكر أرض كرب وبلاء ، كما تذكر بقعة الحرمين وبقعة بيت المقدس. ثم قال : يا بن عباس ، اطلب حولها بعر الظباء ، فو الله ما كذبت ولا كذبت ، وهي مصفرة ، لونها لون الزعفران. فطلبتها فوجدتها مجتمعة. فناديته : يا أمير المؤمنين قد أصبتها على الصفة التي وصفتها لي. فقال عليعليه‌السلام : صدق الله ورسوله.

ـ قصة مرور عيسىعليه‌السلام بكربلاء :

ثم قام عليعليه‌السلام يهرول حتى جاء إليها فحملها وشمها ، وقال : هي هي ، أتعلم يابن عباس ما هذه الأبعار؟ هذه قد شمها عيسى بن مريم ، وذلك أنه مرّ بها ومعه الحواريون ، فرأى ههنا ظباء مجتمعة وهي تبكي ، فجلس عيسىعليه‌السلام وجلس الحواريون. فبكى وبكى الحواريون ، وهم لا يدرون لم جلس ولم بكى. فقالوا : يا روح الله وكلمته ما يبكيك؟ قال : أتعلمون أي أرض هذه ، هذه أرض من يقتل فيها

٢٢٢

فرخ رسول الله أحمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفرخ الحرة الطاهرة البتول ، شبيهة أمي ، ويلحد فيها أطيب من المسك ، لأنها طينة الفرخ المستشهد ، وهكذا تكون طينة الأنبياء وأولاد الأنبياء. فهذه الظباء تكلمني وتقول : انها ترعى هذه الأرض شوقا إلى تربة الفرخ المبارك ، وزعمت أنها آمنة في هذه الأرض.

ثم ضرب بيده البعيرات فشمها ، وقال : هذه بعر الظباء على هذا الطيب لمكان حشيشها. اللهم فأبقها أبدا حتى يشمها أبوه ، فتكون له عزاء وسلوة. فبقيت إلى يومنا هذا وقد اصفرت لطول زمنها ، وهذه أرض كرب وبلاء.

ثم قال بأعلى صوته : يا رب عيسى بن مريم ، لا تبارك في قتلته والمعين لهم والخاذل له. ثم بكى طويلا وبكينا معه حتى سقط لوجهه وغشي عليه طويلا. ثم أفاق فأخذ البعر فصّره في ردائه وأمرني أن أصرها كذلك.

ثم قال : يابن عباس ، إذا رأيتها تتفجر دماء عبيطا ويسيل منها دم عبيط ، فاعلم أن أبا عبد اللهعليه‌السلام قد قتل بها ودفن.

قال ابن عباس : فوالله لقد كنت أحفظها أشد من حفظي لما افترض اللهعزوجل علي ، وأنا لا أحلها من طرف كمي. فبينا أنا نائم في البيت فإذا هي تسيل دما عبيطا ، وان كمي قد امتلأ دما عبيطا. فجلست وأنا باك ، وقلت : قتل والله الحسين ، والله ما كذبني قط في حديث ، ولا أخبر بشيء أن يكون إلا كان كذلك ، لأن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يخبره بأشياء لا يخبر بها غيره. ففزعت وخرجت وذلك عند الفجر ، فرأيت والله المدينة كأنها ضباب لا يستبين منها أثر عين. ثم طلعت الشمس فرأيت كأنها منكسفة ، ورأيت كأن حيطان المدينة عليها دم عبيط. فجلست وأنا باك ، وقلت قتل والله الحسينعليه‌السلام .

وسمعت صوتا من ناحية البيت ، وهو يقول : اصبروا آل الرسول قتل الفرخ النحول ، نزل الروح الأمين ببكاء وعويل. ثم بكى بأعلى صوته وبكيت. فأثبتّ عندي تلك الساعة ، وكان شهر محرم يوم عاشور لعشر مضين منه ، فوجدته قتل يوم ورد علينا خبره ، وتاريخه كذلك. فحدثت بهذا الحديث الذين كانوا معه فقالوا :والله لقد سمعنا ما سمعت ونحن في المعركة ، ولا ندري ما هو. قلت : أترى أنه الخضرعليه‌السلام .

٢٢٣

٢٠٨ ـ إخبار الإمام عليعليه‌السلام حين مر بكربلاء وهو سائر إلى صفين :

(وقعة صفين لنصر بن مزاحم ص ١٤٠ ط ٢)

قال نصر بن مزاحم : حدثني مصعب بن سلام عن هرثمة بن سليم ، قال :غزونا مع علي بن أبي طالبعليه‌السلام غزوة صفين. فسار حتى انتهى إلى كربلاء ، فنزل إلى شجرة فصلى إليها ، فلما سلم رفع إليه من تربتها فشمها ، ثم قال : واها لك أيتها التربة ، ليحشرن منك (وفي رواية : ليقتلن بك) قوم يدخلون الجنة بغير حساب.

فلما رجع هرثمة من غزوته إلى امرأته ـ وهي جرداء بنت سمير ، وكانت شيعة لعليعليه‌السلام ـ فقال لها زوجها هرثمة : ألا أعجّبك من صديقك أبي الحسن؟ لما نزلنا كربلا رفع إليه من تربتها فشمها ، وقال : «واها لك يا تربة ، ليحشرن منك قوم يدخلون الجنة بغير حساب». وما علمه بالغيب؟! فقالت : دعنا منك أيها الرجل ، فإن أمير المؤمنين لم يقل إلا حقا.

فلما بعث عبيد الله بن زياد البعث الذي بعثه إلى الحسين بن عليعليه‌السلام وأصحابه ، قال هرثمة : كنت فيهم في الخيل التي بعث إليهم ، فلما انتهيت إلى القوم وحسين وأصحابه ، نظرت إلى الشجرة ، فذكرت الحديث وعرفت المنزل الذي نزلنا فيه مع عليعليه‌السلام ، والبقعة التي رفع إليه من ترابها ، والقول الذي قاله ، فكرهت مسيري. فأقبلت على فرسي حتى وقفت على الحسينعليه‌السلام ، فسلمت عليه وحدثته بالذي سمعت من أبيه في هذا المنزل.

فقال الحسينعليه‌السلام : فأنت معنا أم علينا؟ فقلت : يابن رسول الله لا معك ولا عليك. تركت أهلي وولدي وعيالي ، أخاف عليهم من ابن زياد.

فقال الحسينعليه‌السلام : فولّ في الأرض هربا حتى لا ترى لنا مقتلا ، فو الذي نفس محمد بيده لا يرى مقتلنا اليوم رجل ولا يغيثنا إلا أدخله الله النار. قال هرثمة :فأقبلت في الأرض هاربا حتى خفي علي مقتله.

ملاحظة : هذه الفقرة هي جمع عدة روايات مع بعض ، إحداها وردت في شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ، ج ٣ ص ١٦٩ ط مصر ـ تحقيق محمد أبو الفضل ابراهيم.

٢٠٩ ـ إخبار الإمام عليعليه‌السلام بما سيحدث في كربلاء :

(المصدر السابق ، ص ١٤١)

حدّث نصر بن مزاحم عن مصعب بن سلام عن سعيد بن وهب ، قال : بعثني

٢٢٤

مخنف بن سليم إلى عليعليه‌السلام عند توجهه إلى صفين. فأتيته بكربلاء ، فوجدته يشير بيده ويقول : ههنا! فقال له رجل : وما ذاك يا أمير المؤمنين؟ قال : ثقل آل محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ينزل ههنا ، فويل لهم منكم ، وويل لكم منهم!.

فقال له الرجل : ما معنى هذا الكلام يا أمير المؤمنين؟ قال (ويل لهم منكم) تقتلونهم ، (وويل لكم منهم) يدخلكم الله بقتلهم إلى النار.

٢١٠ ـ حديث الإمام الحسنعليه‌السلام عن مصرع أخيه الحسينعليه‌السلام :

(مناقب ابن شهراشوب ، ج ٣ ص ٢٣٨ ط نجف)

روى الإمام الصادق عن آبائهعليهم‌السلام قال : دخل الحسين على أخيه الحسنعليهما‌السلام يوما ، فلما نظر إليه بكى. فقال له الحسنعليه‌السلام : ما يبكيك يا أبا عبد الله؟ قال :أبكي لما يصنع بك. فقال له الحسنعليه‌السلام : إن الذي يؤتى إليّ سم يدس إلي فأقتل به(١) ولكن لا يوم كيومك يا أبا عبد الله. يزدلف إليك ثلاثون ألف رجل يدّعون أنهم من أمة جدك محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وينتحلون بك الإسلام ، فيجتمعون على قتلك وسفك دمك ، وانتهاك حرمتك ، وسبي ذراريك ونسائك ، وانتهاب ثقلك ، فعندها تحلّ ببني أمية اللعنة ، وتمطر السماء دما ورمادا ، ويبكي عليك كل شيء ، حتى الوحوش في الفلوات ، والحيتان في البحار.

٢١١ ـ إخبار الحسينعليه‌السلام بمقتله :

عن معاوية بن قرة قال : قال الحسينعليه‌السلام : والله ليعتدن عليّ كما اعتدت بنو اسرائيل في السبت.

قال : وأنبأنا علي بن محمد ، عن جعفر بن سليمان الضبعي ، (قال) قال الحسينعليه‌السلام : والله لا يدعوني حتى يستخرجوا هذه العلقة من جوفي ، فإذا فعلوا ذلك سلط الله عليهم من يذلهم حتى يكونوا أذل من فرم الأمة.

__________________

(١) اللهوف على قتلى الطفوف ، ص ١٤.

٢٢٥

أخبار أخرى

٢١٢ ـ ورود سلمان (رض) كربلاء :

(وسيلة الدارين في أنصار الحسين للسيد إبراهيم الزنجاني ، ص ٧١)

في الخبر عن المسيب بن نجبة الفزاري ، قال : خرجت أستقبل سلمان الفارسي حين أقبل من المدينة إلى المدائن. فلما وصل إلى كربلاء تغير حاله وبكى ، وقال :هذه مصارع إخواني. هذا موضع رحالهم ، وهذا مناخ ركابهم ، وهذا مهراق دمائهم. يقتل بها خير الأولين وابن خير الآخرين.

٢١٣ ـ إخبار أبي ذر الغفاري بمقتل الحسينعليه‌السلام ونتائج ذلك :

(الإرشاد للشيخ المفيد ، ص ٢٣٦)

في (كامل الزيارة) عن عروة بن الزبير ، قال : سمعت أبا ذر ، وهو يومئذ قد أخرجه عثمان إلى الربذة ، فقال له الناس : يا أبا ذر أبشر ، فهذا قليل في الله. فقال ما أيسر هذا ، ولكن كيف أنتم إذا قتل الحسين بن عليعليه‌السلام قتلا (أو قال : ذبح ذبحا)؟. والله لا يكون في الإسلام بعد قتل الخليفة (يعني علي بن أبي طالب) أعظم قتيلا منه. وإن الله سيسل سيفه على هذه الأمة لا يغمده أبدا. ويبعث ناقما من ذريته فينتقم من الناس. وإنكم لو تعلمون ما يدخل على أهل البحار ، وسكان الجبال في الغياض والآكام ، وأهل السماء من قتله ، لبكيتم والله حتى تزهق أنفسكم. وما من سماء يمر بها روح الحسينعليه‌السلام إلا فزع له سبعون ألف ملك ، يقومون قياما ترعد مفاصلهم إلى يوم القيامة. وما من سحابة تمر وترعد وتبرق إلا لعنت قاتله. وما من يوم إلا وتعرض روحه على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيلتقيان.

٢١٤ ـ ملازمة رجل من بني أسد أرض كربلاء :

(تاريخ ابن عساكر ـ الجزء الخاص بالحسين ، ص ٢١٢)

قال العريان بن الهيثم : كان أبي يتبدى فينزل قريبا من الموضع الذي كانت فيه معركة الحسينعليه‌السلام . فكنا لا نبدو إلا وجدنا رجلا من بني أسد هناك. فقال له أبي : أراك ملازما هذا المكان!. قال : بلغني أن حسيناعليه‌السلام يقتل ههنا ، فأنا أخرج إلى هذا المكان ، لعلي أصادفه فأقتل معه.

قال ابن الهيثم : فلما قتل الحسينعليه‌السلام قال أبي : انطلقوا بنا ننظر ، هل الأسدي فيمن قتل مع الحسينعليه‌السلام . فأتينا المعركة وطوّقنا ، فإذا الأسدي مقتول.

٢٢٦

(أقول) لعل هذا الشهيد هو أنس بن الحرثرحمه‌الله . وهذا درس يعلمنا أن المؤمن النبيه يسعى نحو الحق حتى يدركه ، فينال أعلى درجات السعادة والكرامة ، كما فعل أنس بن الحرث الأسدي.

٤ ـ أخبار بمن يقتل الحسينعليه‌السلام

٢١٥ ـ الحسينعليه‌السلام يخبر بأن عمر بن سعد سيقتله :

(كشف الغمة ٢ / ٩ وإرشاد المفيد ص ٢٨٢ والبحار ٤٤ / ٢٦٣)

روى سالم بن أبي حفصة ، (قال) قال عمر بن سعد للحسينعليه‌السلام : يا أبا عبد الله ، إن قبلنا أناسا سفهاء يزعمون أني أقتلك. فقال له الحسينعليه‌السلام : إنهم ليسوا سفهاء ، ولكنهم حلماء. أما إنه يقر عيني أن لا تأكل من برّ العراق بعدي إلا قليلا.

٢١٦ ـ إخبار الإمام عليعليه‌السلام بأن عمر بن سعد يقتل ابنه الحسينعليه‌السلام :

عن الأصبغ بن نباتة ، قال : بينا أمير المؤمنينعليه‌السلام يخطب الناس ، وهو يقول :سلوني قبل أن تفقدوني ، فو الله لا تسألوني عن شيء مضى ولا شيء يكون إلا أنبأتكم به. فقام إليه سعد بن أبي وقاص ، فقال : يا أمير المؤمنين ، أخبرني كم في رأسي ولحيتي من شعرة. فقال : أما والله لقد سألتني عن مسألة حدثني خليلي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنك ستسألني عنها. وما في رأسك ولحيتك من شعرة إلا وفي أصلها شيطان جالس ، وإن في بيتك لسخلا يقتل ابني الحسينعليه‌السلام . وكان عمر بن سعد يومئذ يدرج بين يديه.

(أقول) : فلما كان من أمر الحسينعليه‌السلام ما كان ، تولى عمر بن سعد قتل الحسينعليه‌السلام ، وكان الأمر كما قال أمير المؤمنينعليه‌السلام .

وفي رواية (الإرشاد) للمفيد ص ٢٠ قال له عليعليه‌السلام :

وآية ذلك مصداق ما خبّرتك به. ولو لا أن الذي سألت عنه يعسر برهانه لأخبرتك به ، ولكن آية ذلك ما أنبأتك به من لعنتك وسخلك الملعون.

قال ابن سيرين : وقد ظهرت كرامات علي بن أبي طالبعليه‌السلام في هذا ، فإنه لقي قاتل الحسينعليه‌السلام وهو شاب ، فقال : ويحك ، كيف بك إذا قمت مقاما تخير فيه بين الجنة والنار ، فتختار النار؟

وسيرد هذا الخبر عند الحديث عن عمر بن سعد ، الذي تولى قيادة الجيش لقتال

٢٢٧

الحسينعليه‌السلام ، وقد نصحه الحسينعليه‌السلام كثيرا ، ولكن حب الدنيا أعمى قلبه.

تنبيه حول السائل :ذكر فخر الدين الطريحي في (المنتخب) ص ١٦٦ : أن الذي سأل الإمامعليه‌السلام : كم شعرة في رأسي ، هو يزيد والد خولي بن يزيد الأصبحي.ولعل بعض الروايات تشير إلى أنه سنان بن أنس ، والله أعلم.

يقول العلامة المجلسي في البحار ، ج ٤٤ ص ٢٥٧ : لا يخفى ما في الحديث من تسمية الرجل السائل المتعنت بأنه سعد بن أبي وقاص ، حيث أن سعد بن أبي وقاص اعتزل عن الجماعة وامتنع عن بيعة أمير المؤمنينعليه‌السلام ، فاشترى أرضا واشتغل بها ، فلم يكن ليجيء إلى الكوفة ويجلس إلى خطبة الإمام عليعليه‌السلام .ومن جهة أخرى إن عمر بن سعد قد ولد في السنة التي مات فيها عمر بن الخطاب وهي سنة ٢٣ ه‍ فكان عمره حين خطب الإمامعليه‌السلام هذه الخطبة بالكوفة غلاما بالغا أشرف على العشرين ، لا أنه سخل في بيته.

ولما كان أصل القصة مسلمة مشهورة ، عدل الشيخ المفيد في (الإرشاد) عن تسمية الرجل ، وتبعه الطبرسي في (إعلام الورى) ص ١٨٦. ولعل الصحيح ما ذكره ابن أبي الحديد ، حيث ذكر الخطبة في شرحه على النهج ، ج ١ ص ٢٥٣ عن كتاب (الغارات) لابن هلال الثقفي عن زكريا بن يحيى العطار عن فضيل عن محمد الباقرعليه‌السلام وقال في آخره : والرجل هو سنان بن أنس النخعي.

٢١٧ ـ إخبار النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يزيد هو قاتل الحسينعليه‌السلام :

أخرج الطبراني عن معاذ بن جبل ، أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : يزيد ، لا بارك الله في يزيد. نعي إليّ الحسينعليه‌السلام وأتيت بتربته ، وأخبرت بقاتله. والذي نفسي بيده لا يقتل بين ظهراني قوم لا يمنعونه ، إلا خالف الله بين صدورهم وقلوبهم ، وسلط عليهم شرارهم وألبسهم شيعا (أي جماعات متفرقين).

وأخرجه ابن عساكر عن عبد الله بن عمرو بن العاص مرفوعا بلفظ : يزيد ، لا بارك الله في يزيد ، الطّعان اللعّان ، أما إنه نعي إلي حبيبي وسخلي حسين ، أتيت بتربته ورأيت قاتله. أما إنه لا يقتل بين ظهراني قوم فلا ينصرونه ، إلا عمّهم الله بعقاب.

وأخرج أبو يعلى عن أبي عبيدة (قال) قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا يزال أمر أمتي قائما بالقسط حتى يكون أول من يثلمه رجل من بني أمية ، يقال له : يزيد.

وأخرج ابن أبي شيبة وأبو يعلى والروياني والحافظ أبوبكر محمد بن اسحق ابن

٢٢٨

خزيمة السلمي النيسابوري والبيهقي وابن عساكر والضياء ، عن أبي ذر ، أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : أول من يبدل سنتي رجل من بني أمية. وزاد الروياني : يقال له يزيد.

٢١٨ ـ رواية أخرى :

(معجم الطبراني ص ١٣٠ ومقتل الخوارزمي ص ١٦٠ وكنز العمال ١٣ / ١١٣ وأمالي الشجري ص ١٦٩)

في معجم الطبراني عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن معاذ بن جبل أخبره قال :خرج علينا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم متغير اللون ، فقال : أنا محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أوتيت فواتح الكلام وخواتمه ، فأطيعوني ما دمت بين أظهركم ، فإذا ذهب بي فعليكم بكتاب اللهعزوجل ، أحلوا حلاله وحرموا حرامه ، (فإذا) أتتكم الموتة أتتكم بالروح والراحة.كتاب الله من الله سبق ، أتتكم فتن كقطع الليل المظلم ، كلما ذهب رسل جاء رسل ، تناسخت النبوة فصارت ملكا. رحم الله من أخذها بحقها ، وخرج منها كما دخلها.

أمسك يا معاذ واحص!. قال : فلما بلغت خمسة ، قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يزيد ، لا بارك الله في يزيد. ثم ذرفت عيناه. ثم قال : نعي إلي حسين ، وأوتيت بتربته ، وأخبرت بقاتله. والذي نفسي بيده لا يقتل بين ظهراني قوم لا يمنعونه ، إلا خالف الله بين صدورهم وقلوبهم ، وسلط عليهم شرارهم وألبسهم شيعا.

ثم قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : واها لفراخ آل محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من خليفة مستخلف مترف ، يقتل خلفي وخلف الخلف.

أمسك يا معاذ. فلما بلغت عشرة ، قال : الوليد(١) اسم فرعون ، هادم شرائع الاسلام ، يبوء بدمه رجل من أهل بيته ، يسل الله سيفه فلا غماد له ، ويختلف الناس فكانوا هكذا ، وشبك بين أصابعه.

ثم قال : وبعد العشرين والمائة موت سريع وقتل ذريع ، فيه هلاكهم ، ويلي عليهم رجل من ولد العباس.

__________________

(١) لعل المقصود به الوليد بن يزيد بن عبد الملك ، وهو الذي مزّق القرآن وقال :

تهددني بجبار عنيد

فها أنا ذاك جبار عنيد

إذا ما جئت ربك يوم حشر

فقل : يا ربّ مزّقني الوليد

٢٢٩
٢٣٠

الفصل السادس

المآتم الحسينيّة

١ ـ إقامة ذكرى الحسينعليه‌السلام والحزن عليه

ـ إقامة العزاء على الحسينعليه‌السلام

٢ ـ فضل البكاء والحزن على الحسينعليه‌السلام

٣ ـ إقامة ذكرى الحسينعليه‌السلام ومراسم الحزن يوم عاشوراء

ـ اتخاذ بني أمية يوم عاشوراء يوم عيد وفرح

ـ أحاديث موضوعة في فضل يوم عاشوراء وأنه عيد

ـ هل يجوز صيام يوم عاشوراء؟

٤ ـ فلسفة المآتم الحسينية

٢٣١
٢٣٢

الفصل السادس

المآتم الحسينيّة

* مقدمة الفصل :

لا يخفى أن مصيبة الحسينعليه‌السلام الكبيرة قد أقضّت مضجع النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واستحوذت عليه كل اهتمامه. فلا عجب إذا رأيناه يقيم المأتم على الحسينعليه‌السلام منذ مولده ، وفي عدة مناسبات من حياته. وعلى ذلك سار الأئمة الأطهار ودعوا كل من شايع الحسينعليه‌السلام إلى إقامة الحزن والعزاء عليه في كل مكان وزمان ، ولا سيما يوم العاشر من المحرم ، حتّى صار شعارهم :

«كل أرض كربلا ، وكل يوم عاشورا»

في حين كان بعض المسلمين عمدا أو جهلا يقيمون الفرح في ذلك اليوم ، جريا على السنّة التي اختطها لهم بنو أمية من غابر الزمان.

وسوف نتكلم في هذا الفصل حول إقامة المآتم الحسينية ، ثم فضل الحزن والبكاء على الحسينعليه‌السلام ، ثم إقامة مراسم العزاء والحزن والحداد يوم العاشر من المحرم كل عام. ونتعرض إلى بعض خصوصيات يوم عاشوراء ، والمحاولات المغرضة لتغيير مفهومه وصرفه عن حقيقته. ثم ننهي الفصل بفلسفة المآتم الحسينية ، وتتضمن أهداف ذكرى الحسينعليه‌السلام والفوائد التي تحققها المجالس الحسينية ، وأن هدفها ليس فقط الحزن والبكاء ، وإنما العظة واليقظة والاعتبار ، وتبديل السلوك وتعديل المسار ، والخروج من مستنقع الخطايا والأوزار ، إلى رياض الأخيار وجنان الأبرار.

١ ـ مآتم الحسينعليه‌السلام

مرت في الفصل السابق روايات مستفيضة حول إخبار جبرئيل للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بنبأ استشهاد الحسينعليه‌السلام ، ثم إخبار محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أهله وأصحابه بذلك. وكان في

٢٣٣

تلك الأحوال يضع الحسين الطفل في حضنه ، ويبكي بكاء شديدا ، ويقبّله من فمه ونحره ، ويشمّه ويضمه إلى صدره ، فكانت تلك المشاهد أول المآتم المقامة على الحسينعليه‌السلام في حياته وقبل مماته. وعلى هذا الهدي المحمدي سار شيعة الحسينعليه‌السلام من بعده ، يقيمون المآتم والعزاء عليه ، بعد موته واستشهاده ، اقتداء بالنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومشاركة له في محنته ومصيبته.

٢١٩ ـ مأتم الحسينعليه‌السلام في دار فاطمةعليها‌السلام :

(قادتنا : كيف نعرفهم؟ ، ج ٦ ص ١٢٠)

روى الخوارزمي عن علي بن أبي طالبعليه‌السلام قال : زارنا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فعملنا له حريرة ، وأهدت لنا أم أيمن قعبا من لبن وزبدا وصفحة من تمر. فأكل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأكلنا معه. ثم وضّأت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقام فاستقبل القبلة ، فدعا الله ما شاء. ثم أكبّ على الأرض بدموع غزيرة مثل المطر. فهبنا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن نسأله!.

فوثب الحسينعليه‌السلام فقال : يا أبتي رأيتك تصنع ما لم أرك تصنع مثله!.فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا بني إني سررت بكم اليوم سرورا لم أسرّ بكم مثله. وإن حبيبي جبرئيل أتاني فأخبرني أنكم قتلى ، وأن مصارعكم شتى ، فدعوت الله لكم ، وأحزنني ذلك.

فقال الحسينعليه‌السلام : يا رسول الله ، فمن يزورنا على تشتّتنا ، ويتعاهد قبورنا؟.قال : طائفة من أمتي ، يريدون برّي وصلتي. فإذا كان يوم القيامة شهدتها بالموقف ، وأخذت بأعضادها ، فأنجيتها والله من أهواله وشدائده.

٢٢٠ ـ في دار أم سلمة :

(تاريخ ابن عساكر ـ الجزء الخاص بالحسين ، ص ١٧٦)

وروى ابن عساكر بإسناده عن عبد الله بن سعيد بن أبي هند ، عن أبيه (قال) قالت أم سلمة : كان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نائما في بيتي ، فجاء الحسينعليه‌السلام . قالت : فقصد الباب ، فسبقته على الباب مخافة أن يدخل فيوقظه. قالت : ثم غفلت في شيء ، فدبّ فدخل ، فقعد على بطنه.

قالت : فسمعت نحيب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . فجئت فقلت : يا رسول الله ، والله ما علمت به. فقال : إنما جاءني جبرئيلعليه‌السلام وهو على بطني قاعد ، فقال لي :

٢٣٤

أتحبّه؟. فقلت : نعم. قال : إن أمتك ستقتله. ألا أريك التربة التي يقتل بها؟.(قال) فقلت : بلى. قال : فضرب بجناحه فأتى بهذه التربة. قالت : فإذا في يده تربة حمراء ، وهو يبكي ويقول : يا ليت شعري من يقتلك بعدي؟!.

وفي رواية أخرى للخوارزمي : (قادتنا ـ ج ٦ ص ١٢٦)

قال : ثم أخذ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تلك القبضة التي أتاه بها الملك ، فجعل يشمّها ويبكي ، ويقول في بكائه : الله م لا تبارك في قاتل ولدي ، وأصله نار جهنم.

ثم دفع تلك القبضة إلى أم سلمة ، وأخبرها بقتل الحسينعليه‌السلام بشاطئ الفرات ، وقال : يا أم سلمة خذي هذه التربة إليك ، فإنها إذا تغيرت وتحولت دما عبيطا ، فعند ذلك يقتل ولدي الحسينعليه‌السلام .

إقامة العزاء على الحسينعليه‌السلام

٢٢١ ـ إقامة العزاء على الحسينعليه‌السلام :

(أسرار الشهادة للدربندي ، ص ٩٣)

يقول الفاضل الدربندي : اعلم أن من تأمل في الأخبار المروية من طرق العامة في فضل الحسن والحسينعليه‌السلام ومناقبهما ، علم أن البكاء على الحسينعليه‌السلام وإقامة تعزيته في كل سنة ، بل في كل شهر ، بل في كل أسبوع ، بل في كل ليلة ، من أفضل العبادات وأشرف الطاعات والقربات. فلعنة الله على كل متعصب من المخالفين ، الذين يأخذون يوم عاشوراء عيدا ، ويسمّون الاجتماع للعزاء والبكاء على سيد الشهداء بدعة ، وذلك كابن حجر العسقلاني ومن مثله.

٢٢٢ ـ ثواب إقامة العزاء على الحسينعليه‌السلام :

(المنتخب للطريحي ، ص ٢٨ ط ٢)

روي أنه لما أخبر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ابنته فاطمة بقتل ولدها الحسينعليه‌السلام وما يجري عليه من المحن ، بكت فاطمةعليه‌السلام بكاء شديدا ، وقالت : يا أبتي متى يكون ذلك؟. قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : في زمان خال مني ومنك ومن عليعليه‌السلام . فاشتد بكاؤها ، وقالت : يا أبة فمن يبكي عليه؟. ومن يلتزم بإقامة العزاء له؟. فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :يا فاطمة إن نساء أمتي يبكون على نساء أهل بيتي ، ورجالهم يبكون على رجال

٢٣٥

أهل بيتي ، ويجددون العزاء جيلا بعد جيل في كل سنة. فإذا كان يوم القيامة تشفعين أنت للنساء ، وأنا أشفع للرجال. وكل من بكى على مصاب الحسينعليه‌السلام أخذنا بيده وأدخلناه الجنة.

يا فاطمة ، كل عين باكية يوم القيامة ، إلا عين بكت على مصاب الحسينعليه‌السلام ، فإنها ضاحكة مستبشرة بنعيم الجنة.

٢ ـ فضل البكاء والحزن على الحسينعليه‌السلام

٢٢٣ ـ البكاء على أمناء الرحمن :

(المنتخب للطريحي ، ص ١٦ ط ٢)

يقول فخر الدين الطريحي : فيا إخواني ، كيف لا نبكي على أمناء الرحمن ، وسادات أهل الزمان؟. وكيف لا نجدد النوح والأحزان ، في كل آن ومكان؟. على الشهيد العطشان ، النائي عن الأهل والأوطان ، المدفون بلا غسل ولا أكفان؟.فعلى الأطائب من أهل بيت الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فليبك الباكون ، وإياهم فليندب النادبون ، ولمثلهم تذرف الدموع من العيون.

٢٢٤ ـ فضيلة البكاء من خشية الله :

(أخبار الدول للقرماني ص ١١١)

قال الإمام محمّد الباقرعليه‌السلام : ما اغرورقت عين بمائها من خشية الله ، إلا وحرّم اللهعزوجل وجه صاحبها على النار. فإن سالت على الخدين دموعه ، لم يرهق وجهه قتر ولا ذلّة. وما من شيء إلا له جزاء إلا الدمعة ، فإن الله تعالى يكفّر بها بحور الخطايا. ولو أن باكيا بكى في أمة ، لحرّم الله تلك الأمّة على النار.

(أقول) : ومن هذا القبيل بكاء المؤمن على الإمام الحسينعليه‌السلام .

٢٢٥ ـ البكاء من خوف الله وخشيته :

(أسرار الشهادة ، ص ٤٨)

يقول الفاضل الدربندي : ومنها أن البيت المبني من الطين إذا انهدم أمكن إصلاحه بقرب من الماء ، فكذلك الإنسان المخلوق أصله من الطين ، إذا فسد أمره بارتكاب المعصية ، أمكنه تداركه بإرسال العبرات على الحسرات. كما قال أمير

٢٣٦

المؤمنين ، وسيد الموحدين ، وتاج رؤوس البكّائينعليه‌السلام : أمحوا المثبّتات من العثرات بالمرسلات من العبرات.

٢٢٦ ـ البكاء على الحسينعليه‌السلام هو من خشية الله :

(المصدر السابق ، ص ٤٩)

ويقول الفاضل الدربندي : واعلم أن البكاء على مصاب أهل بيت الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولا سيما على مصاب سيد الشهداء روحي له الفداء ، ليس أمرا مغايرا للبكاء من خوف الله تعالى. حتّى يتمشّى سؤال : أهل البكاء من خوف الله تعالى أفضل ، أم البكاء على سيد الشهداءعليه‌السلام ؟. بل إن البكاء عليه هو البكاء في محبة الله ، والبكاء المنبعث عن التقرب إلى الله.

٢٢٧ ـ البكاء من خوف الله قسمان :

(المصدر السابق)

ثم يقول الفاضل الدربندي : فإن شئت أن توضّح المطلب في غاية الإيضاح فقل :إن البكاء من خوف الله تعالى ينحلّ إلى نوعين وينقسم إلى قسمين :

الأول : أن يكون منشأ البكاء معاصي الإنسان ، وتذكّره لحالة الاحتضار وأهوال البرزخ والمحشر والعقوبات التي يستحقها. فهذا البكاء وإن كان يطلق عليه أيضا أنه بكاء من خوف الله وقسم منه ، إلا أنه في الحقيقة يرجع إلى بكائه على نفسه وعلى ذنبه.

الثاني : أن يكون ذلك البكاء في مقام محبة الله تعالى ، وملاحظة عظمة صفاته وكبريائه وجبروته ، وفي مقام التفكر في التقصير في عبادته. وهذا في مقام ذوق حلاوة مناجاته ومحبته التي انبعثت عنها المحبة والموالاة لأوليائه وحججه ، فلا يلاحظ في هذا القسم أصلا رجاء الثواب ولا الخوف من العقاب. فلا شك أن هذا القسم من البكاء هو أفضل من القسم الأول. ومما لا شك فيه أن البكاء على مصاب آل الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من هذا القسم ، إذ قد عرفت أن المحبة والموالاة لهم مما يرجع إلى محبة الله وموالاته. ويتضح هذا المطلب عند الفطن المتدبر ، إذا لا حظ عوم الأئمة الطاهرين ، وسباحة حجج الله المعصومين ، في بحار البلايا وقواميس المصائب ، لأجل محبة الله تعالى.

شرح : القواميس : جمع قاموس ، وهو البحر العظيم.

٢٣٧

٢٢٨ ـ ثواب البكاء عامة على الحسين ومصيبة سائر الأئمةعليه‌السلام :

(الخصال الأربعمائة ٢ / ٦٣٥ والبحار ٤٤ / ٢٨٧)

قال أمير المؤمنينعليه‌السلام : إن الله تبارك وتعالى اطّلع إلى الأرض فاختارنا ، واختار لنا شيعة ينصروننا ، ويفرحون لفرحنا ، ويحزنون لحزننا ، ويبذلون أموالهم وأنفسهم فينا ، أولئك منا وإلينا.

وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «كل عين باكية إلا عين بكت على مصاب الحسينعليه‌السلام ، فإنها ضاحكة مستبشرة بنعيم الجنة».

وقال الإمام الرضاعليه‌السلام للريان بن شبيب : إن سرّك أن تكون معنا في الدرجات العلى من الجنان ، فاحزن لحزننا ، وافرح لفرحنا ، وعليك بولايتنا. فلو أن رجلا تولّى حجرا حشره الله معه يوم القيامة.

وقال الإمام عليعليه‌السلام : كل عين يوم القيامة باكية ، وكل عين يوم القيامة ساهرة ، إلا عين من اختصه الله بكرامته ، وبكى على ما ينتهك من الحسين وآل محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . (راجع مقتل العوالم ص ٥٢٥).

٢٢٩ ـ من قطرت عينه قطرة على الحسينعليه‌السلام :

(مجالس المفيد ، ص ٣٤٠ وأمالي الطوسي ١ / ١١٦ والبحار ٤٤ / ٢٧٩)

عن الإمام الحسينعليه‌السلام قال : ما من عبد قطرت عيناه فينا قطرة ، أو دمعت عيناه فينا دمعة ، إلا بوّأه الله تعالى بها في الجنة (غرفا يسكنها) حقبا. (وفي رواية) : أحقابا أحقابا.

شرح : الحقبة من الدهر : مدة لا وقت لها ، جمعها : حقب. وهي كناية عن الدوام.

٢٣٠ ـ فضيلة البكاء على الحسينعليه‌السلام :

(مقتل العوالم ، ج ١٧ ص ٥٢٦)

في (تفسير علي بن إبراهيم) عن الإمام محمّد الباقرعليه‌السلام قال : كان علي ابن الحسينعليه‌السلام يقول : أيّما مؤمن دمعت عيناه لقتل الحسين بن عليعليه‌السلام دمعة ، حتّى تسيل على خده ، بوّأه الله بها في الجنة غرفا يسكنها أحقابا. وأيما مؤمن دمعت عيناه (دمعا) حتّى يسيل دمعه على خده ، لأذى مسّنا من عدونا في الدنيا ، بوّأه الله مبوّأ صدق في الجنة. وأيما مؤمن مسّه أذى فينا ، فدمعت عيناه حتّى يسيل

٢٣٨

دمعه على خديه ، من مضاضة ما أوذي فينا ، صرف الله عن وجهه الأذى ، وآمنه يوم القيامة من سخطه والنار.

٢٣١ ـ البكاء على الحسينعليه‌السلام يحطّ الذنوب :

(بحار الأنوار للمجلسي ، ج ٤٤ ص ٢٨٢)

عن أبي عبد الله الصادقعليه‌السلام قال لفضيل : تجلسون وتتحدثون؟. قال : نعم جعلت فداك. قال : إن تلك المجالس أحبّها ، فأحيوا أمرنا يا فضيل ، فرحم الله من أحيا أمرنا.

يا فضيل ، من ذكرنا أو ذكرنا عنده ، فخرج من عينه مثل جناح الذباب ، غفر الله له ذنوبه ، ولو كانت أكثر من زبد البحر.

٢٣٢ ـ حديث : نفس المهموم لظلمنا تسبيح :

(مجالس المفيد ، ص ٣٣٨ وأمالي الطوسي ١ / ١١٥ والبحار ٤٤ / ٢٧٨)

عن أبان بن تغلب ، عن أبي عبد الله الصادقعليه‌السلام قال : نفس المهموم لظلمنا تسبيح ، وهمهّ لنا عبادة ، وكتمان سرّنا جهاد في سبيل الله.

ثم قالعليه‌السلام : يجب أن يكتب هذا الحديث بالذهب.

٢٣٣ ـ حديث : من دمعت عينه فينا دمعة :

(مجالس المفيد ، ص ١٧٤ وأمالي الطوسي ١ / ٩٧ والبحار ٤٤ / ٢٧٩)

عن محمّد بن أبي عمارة الكوفي ، قال : سمعت جعفر بن محمّدعليه‌السلام يقول :من دمعت عينه فينا دمعة ، لدم سفك لنا ، أو حقّ لنا أنقصناه ، أو عرض انتهك لنا أو لأحد من شيعتنا ، بوّأه الله تعالى بها في الجنة حقبا.

٢٣٤ ـ حديث : من ذكرنا عنده :

(كامل الزيارات ، ص ١٠٤ والبحار ٤٤ / ٢٨٥)

عن فضيل بن فضالة ، عن أبي عبد الله الصادقعليه‌السلام قال : من ذكرنا عنده ففاضت عيناه ، حرّم الله وجهه على النار.

وروي عن الصادقعليه‌السلام قال : لكل سرّ ثواب ، إلا الدمعة فينا.

٢٣٩

٢٣٥ ـ حديث الإمام الصادقعليه‌السلام لمسمع كردين :

(كامل الزيارات ، ص ١٠١ والبحار ٤٤ / ٢٨٩)

سأل الإمام الصادقعليه‌السلام مسمع كردين ، وهو من أهل العراق : هل يبكي على الحسينعليه‌السلام ؟ فقال : بلى

قال : ثم استعبر واستعبرت معه. فقالعليه‌السلام : الحمد لله الّذي فضّلنا على خلقه بالرحمة ، وخصّنا أهل البيت بالرحمة.

يا مسمع ، إن الأرض والسماء لتبكي منذ قتل أمير المؤمنين رحمة لنا. وما بكى لنا من الملائكة أكثر. وما رقأت دموع الملائكة منذ قتلنا. وما بكى أحد رحمة لنا ولما لقينا ، إلارحمه‌الله قبل أن تخرج الدمعة من عينيه. فإذا سالت دموعه على خده غفر الله ذنوبه ، ولو كانت مثل زبد البحر. فلو أن قطرة من دموعه سقطت في جهنم ، لأطفأت حرّها حتّى لا يوجد لها حرّ. وإن الموجع لنا قلبه ليفرح يوم يرانا عند موته ، فرحة لا تزال تلك الفرحة في قلبه حتّى يرد علينا الحوض. وإن الكوثر ليفرح بمحبّنا إذا ورد عليه ، حتّى أنه ليذيقه من ضروب الطعام ما لا يشتهي أن يصدر عنه.

٢٣٦ ـ حديث : من تذكر مصابنا وبكى :

(أمالي الصدوق ، ص ٦٨ وبحار الأنوار ٤٤ / ٢٧٨)

قال الإمام الرضاعليه‌السلام : من تذكّر مصابنا وبكى لما ارتكب منا ، كان معنا في درجاتنا يوم القيامة. ومن ذكّر بمصابنا فبكى وأبكى ، لم تبك عينه يوم تبكي العيون. ومن جلس مجلسا يحيي فيه أمرنا لم يمت قلبه يوم تموت القلوب.

٢٣٧ ـ الحسينعليه‌السلام قتيل العبرة :

(أمالي الطوسي ، ص ١٢١)

عن الإمام الصادقعليه‌السلام (قال) قال الحسين بن عليعليه‌السلام : أنا قتيل العبرة ، قتلت مكروبا ، وحقيق على الله أن لا يأتيني مكروب قط ، إلا ردّه الله وأقلبه إلى أهله مسرورا.

وعن الحسينعليه‌السلام قال : أنا قتيل العبرة ، لا يذكرني مؤمن إلا استعبر.

٢٤٠

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443