الغدير في الكتاب والسنة والأدب الجزء ٧

الغدير في الكتاب والسنة والأدب0%

الغدير في الكتاب والسنة والأدب مؤلف:
الناشر: دارالكتب الإسلامية
تصنيف: الإمامة
الصفحات: 417

الغدير في الكتاب والسنة والأدب

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة الشيخ الأميني
الناشر: دارالكتب الإسلامية
تصنيف: الصفحات: 417
المشاهدات: 185052
تحميل: 6038


توضيحات:

الجزء 1 المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11
المقدمة
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 417 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 185052 / تحميل: 6038
الحجم الحجم الحجم
الغدير في الكتاب والسنة والأدب

الغدير في الكتاب والسنة والأدب الجزء 7

مؤلف:
الناشر: دارالكتب الإسلامية
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

الرابعة: أن يكون الامام عدلاً لأنَّه متصرِّف في رقاب الناس وأموالهم وأبضاعهم فلو لم يكن عدلاً لا يؤمن تعدّيه. إلخ.

الخامسة: العقل. السادسة. البلوغ. السابعة: الذكورة. الثامنة: الحريَّة التاسعة: أن يكون قرشيّاً.

ولا يشترط فيه العصمة خلافاً للاسماعيليَّة والاثنا عشريَّة. لنا إمامة أبي بكر(١) . والاُمَّة اجتمعت على كونه غير واجب العصمة، لا أقول إنَّه غير معصوم.

ما تنعقد به الامامة

قال القاضي عضد الايجي في المواقف: المقصد الثالث فيما تثبت به الإمامة: إنَّها تثبت بالنصِّ من الرَّسول، ومن الامام السابق بالاجماع، وتثبت ببيعة أهل الحلِّ والعقد خلافاً للشيعة: لنا ثبوت إمامة أبي بكر رضي الله عنه بالبيعة(٢) .

وقال: إذا ثبت حصول الإمامة بالاختيار والبيعة، فاعلم أنَّ ذلك لا يفتقر إلى الاجماع(٣) إذ لم يقم عليه دليلٌ من العقل أو السمع بل الواحد والإثنان من أهل الحلِّ والعقد كاف لعلمنا أنَّ الصحابة مع صلابتهم في الدين اكتفوا بذلك كعقد عمر لأبي بكر، وعقد عبد الرَّحمن بن عوف لعثمان، ولم يشترطوا اجتماع مَن في المدينة فضلاً عن اجماع الاُمَّة.

هذا ولم ينكر عليهم أحدٌ، وعليه انطوت الأعصار إلى وقتنا هذا.

وقال بعض الأصحاب: يجب كون ذلك بمشهد بيِّنة عادلة كفّاً للخصام في إدّعاء من يزعم عقد الإمامة له سرّاً قبل من عقد له جهراً، وهذا من المسائل الاجتهاديَّة.

ثمّ إذا اتَّفق التعدد تفحص عن المتقدّم فاُمضي، ولو أصرَّ الآخر فهو من البغاة، ولا يجوز العقد لإمامين في صقع متضايق الأقطار، أمّا في متَّسعها بحيث لا يسع الواحد تدبيره فهو محلُّ الإجتهاد.

انتهى ما في المواقف وقد أقرَّه شرّاحه وهم: السيِد الشريف الجرجاني، والمولى حسن چلبي، والشيخ مسعود الشيرواني راجع شرح المواقف ٣: ٢٦٥ - ٧.

____________________

١ - ما اتقنها من برهنة ويا للعحب.

٢ - انظر الى هذا النول الذي تشابهوا فى النسج عليه.

٣ - قال السيد الشريف الجرجانى: يعنى من جميع اهل الحلّ والعقد.

١٤١

كلمة الماوردى

وقال الماوردي في الأحكام السلطانيَّة ص ٤: اختلفت العلماء في عدد من تنعقد به الإمامة منهم على مذاهب شتّى فقالت طائفةٌ: لا تنعقد إلّا بجمهور أهل العقد والحلِّ من كلِّ بلد ليكون الرضاء به عامّاً، والتسليم لإمامته اجماعاً، وهذا مذهبٌ مدفوعٌ ببيعة أبي بكر رضي الله عنه على الخلافة باختيار مَن حضرها ولم ينتظر ببيعة قدوم غائب عنها.

وقالت طائفة اُخرى: أقلُّ مَن تنعقد به منهم الإمامة خمسةٌ يجتمعون على عقدها أو يعقد ها أحدهم برضى الأربعة استدلالاً بأمرين: أحدهما: أنَّ بيعة أبي بكر رضي الله عنه إنعقدت بخمسة اجتمعوا عليها ثمَّ تابعهم الناس فيها، وهم عمر بن الخطاب. وأبو عبيدة ابن الجراح. واُسيد بن حضير. وبشر بن سعد وسالم مولى أبي حذيفة رضي الله عنهم. الثاني: انَّ عمر رضي الله عنه جعل الشورى في ستَّة ليعقد لأحدهم برضى الخمسة وهذا قول أكثر الفقهاء والمتكلّمين من أهل البصرة.

وقال آخرون من علماء الكوفة: تنعقد بثلاثة يتولّاها أحدهم برضى الاثنين ليكونوا حاكماً وشاهدين كما يصحُّ عقد النكاح بوليّ وشاهدين.

وقالت طائفةٌ اُخرى: تنعقد بواحد لأنَّ العبّاس قال لعليّ رضي الله عنهما: امدد يدك اُبايعك فيقول الناس: عمُّ رسول الله بايع ابن عمِّه فلا يختلف عليك إثنان ولأنَّه حُكمٌ وحُكم الواحد نافذٌ. اهـ.

م كلمة الجوينى

قال إمام الحرمين الجويني المتوفى ٤٧٨ في « الارشاد » ص ٤٢٤: باب في الإختيار وصفته وذكر ما تنعقد الإمامة به.

إعلموا أنّه لا يشترط في عقد الإمامة الإجماع، بل تنعقد الامامة وإن لم تجمع الاُمَّة على عقدها، والدليل عليه أنّ الإمامة لمـّا عقدت لأبي بكر ابتدر لإمضاء أحكام المسلمين، ولم يتأنّ لانتشار الأخبار إلى من نأى من الصحابة في الأقطار، و لم ينكر عليه منكر، ولم يحمله على التريُّث حامل، فإذا لم يشترط الإجماع في عقد الإمامة لم يثبت عددٌ معدود، ولا حدُّ محدود، فالوجه الحكم بأنَّ الإمامة تنعقد

١٤٢

بعقد واحد من أهل الحلّ والعقد.

ثمّ قال بعض أصحابنا: لا بدّ من جريان العقد بمشهد من الشهود، فإنَّه لو لم يشترط ذلك لم نأمن أن يدَّعي مدَّع عقداً سرّاً متقدِّماً على الحقِّ المظهر المعلن. وليست الإمامة أحطّ رتبة من النكاح، وقد شرط فيه الاعلان، ولا يبلغ القطع، إذ ليس. يشهد له عقل، ولا يدلُّ عليه قاطعٌ سمعيٌّ، وسبيله سبيل سائر المجتهدات.

وقال الامام ابن العربي المالكي في شرح صحيح الترمذي ١٣ ص ٢٢٩: لا يلزم في عقد البيعة للامام أن تكون من جميع الأنام بل يكفي لعقد ذلك اثنان أو واحد على الخلاف المعلوم فيه.

كلمة القرطبى

وقال القرطبي في تفسيره ١ ص ٢٣٠: فإن عقدها واحدٌ من أهل الحلّ والعقد فذلك ثابت ويلزم الغير فعله خلافاً لبعض الناس حيث قال: لا تنعقد إلّا بجماعة من اهل الحلّ والعقد، ودليلنا أنّ عمر رضي الله عنه عقد البيعة لأبي بكر ولم ينكر أحد من الصحابة ذلك(١) ولأنّه عقد فوجب ألّا يفتقر إلى عدد يعقدونه كسائر العقود، قال الإمام أبو المعالي: من انعقدت له الامامة بعقد واحد فقد لزمت، ولا يجوز خلعه من غير حدث وتغير أمر، قال: هذا مجمعٌ عليه. اهـ].

قال الأميني: فما المبرِّر عندئذ لتخلّف عبد الله بن عمر. وأُسامة بن زيد. وسعد ابن أبي وقاص. وأبي موسى الأشعري. وأبي مسعود الأنصاري. وحسّان بن ثابت. والمغيرة بن شعبة. ومحمّد بن مسلمة وبعض آخر من ولاة عثمان على الصدقات وغيرها عن بيعة مولانا أمير المؤمنين بعد اجماع الأُمَّة عليها؟ وما عذر تأخُّرهم عن طاعته في حروبه، وقد عُرفوا بين الصحابة وسمُّوا المعتزلة لاعتزالهم بيعة عليّ؟(٢) .

____________________

١ - كأنّ بني هاشم كلهم، والانصار باجمعهم الا رجلين، والزبير وعمار وسلمان ومقداداً وأبا ذر وآخرين كثيرين من المهاجرين المتخلفين عن بيعة ابي بكر المنكرين اياها كما فصل فى محله لم يكونوا من الصحابة عن القرطبى والا فلا يجوز للمفسر أن يكذب وهو يعلم أن التاريخ الصحيح سيكشف الستر عن دجله.

٢ - المستدرك للحاكم ٣: ١١٥، تأريخ الطبرى ٥: ١١٥، الكامل لابن الاثير ٣: ٨٠، تأريخ أبى الفدا ج ١: ١١٥، ١٧١.

١٤٣

رأى الخليفة الثانى

في الخلافة وأقواله فيها

عن عبد الرحمن بن أبزي قال: قال عمر: هذا الأمر في أهل بدر ما بقي منهم أحدٌ، ثمَّ في أهل اُحد ما بقي منهم أحدٌ، وفي كذا وكذا، وليس فيها لطليق ولا لولد طليق ولا لمسلمة الفتح شييءٌ [طبقات ابن سعد ٣: ٢٤٨] وفي كلمة له ذكرها ابن حجر في الإصابة ٢: ٣٠٥: إنَّ هذا الأمر لا يصلح للطلقاء ولا لأبناء الطلقاء.

وقال: لو أدركني أحد رجلين فجعلت هذا الأمر إليه لوثقت به: سالم مولى أبي حذيفة، وأبي عبيدة الجراح.

ولو كان سالم حيّاً ما جعلتها شورى(١) .

وقال لمـّا طُعن: إن ولّوها الأجلح سلك بهم الطريق الأجلح المستقيم: يعني عليّاً. فقال له ابن عمر: ما يمنعك أن تقدِّم عليّاً؟ قال: أكره أن أحملها حيّاً وميتاً.

[الأنساب للبلاذري ٥: ١٦، الإستيعاب لأبي عمر ٢: ٤١٩]

وقال: لولَّيتها عثمان لحمل آل أبي معيط على رقاب الناس، والله لو فعلت لفعل ولو فعل لأوشكوا أن يسيروا إليه حتّى يجزّوا رأسه. فقالوا: عليٌّ؟ قال. رجل قُعدد(٢) قالوا: طلحة؟ قال: ذاك رجلٌ فيه بأو(٣) قالوا: الزبير؟ قال. ليس هناك. قالوا: سعد؟ قال: صاحب فرس وقوس. فقالوا: عبد الرَّحمن بن عوف؟ قال: ذاك فيه إمساكٌ شديدٌ، ولا يصلح لهذا الأمر إلّا معط في غير سرف، وممسك في غير تقتير.

أخرجه القاضي أبو يوسف الأنصاري المتوفّى ١٨٢ في كتابه « الآثار » نقلاً عن شيخه إمام الحنفيَّة أبي حنيفة.

____________________

١ - طبقات ابن سعد ٣: ٢٤٨، التمهيد للباقلانى ٢٠٤، الاستيعاب لابى عمر ٢: ٥٦١، طرح التثريب ١: ٤٩، اسد الغابة ٢: ٢٤٦.

٢ - القعدد الجبان الخامل. كأنّ الخليفة نسى سوابق، مولانا أمير المؤمنين فى المغازى و الحروب وعزمه الماضى وبسالته المشهودة الى غيرها من صفاته الكمالية وتغافل عن ان الذي أقعده عن مناجزته بعد وفاة رسول الله صلى الله‌ عليه و آله‌ هو خوف الردّة من الناس بوقوع الفتنة لا حذار بارقة عمر وراعدته وشجاعته التى هو سلام الله عليه جدّ عليم بكمّها وكيفها، نعم: الجوّ الخالى يبعث الانسان على أن يقول هكذا.

٣ - البأو: الكبر والتعظيم فيه.

_٩_

١٤٤

هذه الكلمات وما يتلوها سلسلة بلاء تشذُّ عن الحقِّ والمنطق غير أنّا نمرُّ بها كراما.

وعن ابن عبّاس قال: قال عمر: لا أدري ما أصنع باُمَّة محمَّد؟ وذلك قبل أن يُطعن، فقلت: ولِمَ تهتمُّ وأنت تجد من تستخلفه عليهم؟ قال: أصاحبكم؟ يعني عليّاً قلت: نعم، هو أهل لها في قرابته برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وصهره وسابقته وبلائه. فقال عمر إنَّ فيه بطالةٌ وفكاهةٌ. قلت: فأين أنت عن طلحة؟ قال: أين الزهو والنخوة؟ قلت عبد الرَّحمن بن عوف؟ قال: هو رجلٌ صالحٌ على ضعف قلت: فسعد؟ قال: ذاك صاحبِ مقنب وقتال، لا يقوم بقرية لو حمّل أمرها. قلت: فالزبير؟ قال: لقيسٌ مؤمن الرضى كافر الغضب شحيح. إنَّ هذا الأمر لا يصلح إلّا لقويّ في غير عنف، رفيق في غير ضعف، جواد في غير سرف. قلت: فأين عن عثمان؟ قال: لو وليها لحمل بني أبي معيط على رقاب الناس ولو فعلها لقتلوه.

ذكره البلاذري في الأنساب ٥: ١٦، وفي لفظ آخر له ص ١٧: قيل: طلحة؟ قال: أنفه في السَّماء وإسته في الماء.

نظرة في الخلافة التى جاء بها القوم

قال الأميني: هذا ما جاء به القوم من الخلافة الاسلاميَّة والإمامة العامّة فهي عندهم ليست إلّا رياسة عامَّة لتدبير الجيوش، وسدِّ الثغور، وردع الظالم، والأخذ للمظلوم، وإقامة الحدود، وقسم الفيء بين المسلمين، والدفع بهم في حجِّهم وغزوهم، ولا يشترط فيها نبوغ في العلم زايداً على علم الرعيَّة، بل هو والاُمَّة في علم الشريعة سيّان، و يكفي له من العلم ما يكون عند القضاة، وهؤلاء القضاء بين يديك وأنت جِدُّ عليم بعلمهم ويسعك إمعان النظر فيه من كثب، ولا ينخلع الإمام بفسقه وظلمه وجوره وفجوره، ويجب على الاُمَّة طاعته على كلِّ حال برّاً كان أو فاجراً، ولا يسوغ لأحد مخالفته ولا القيام عليه والتنازع في أمره.

فعلى هذا الأساس كان يزحزح خلفاء الانتخاب الدستوري في القضاء والإفتاء عن حكم الكتاب والسنَّة ولم يكن هناك أيُّ وازع، ولم يكن يوجد قطُّ أحدٌ يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، خوفاً ممّا افتعلته يد السياسة وجعلت به على الأفواه

١٤٥

أوكية، من حديث عرفجة مرفوعاً: ستكون هنات، فمن أراد أن يفرِّق أمر هذه الاُمَّة وهي جميع فاضربوه بالسيف كائناً من كان(١) .

ورواية عبد الله مرفوعاً: ستكون بعدي أثرة وأمور تنكرونها قالوا: يا رسول الله! كيف تأمر من أدرك منّا ذلك؟ قال: تؤدّون الحقَّ الذي عليكم، وتسألون الله الذي لكم.

« صحيح مسلم ٢ ص ١١٨ »

وعلى هذا الأساس تمكّن معاوية بن أبي سفيان من أن يجلس بالكوفة للبيعة و يبايعه الناس على البراءة من عليِّ بن أبي طالب.

« البيان والتبيين ٢: ٨٥ »

وعلى هذا الأساس أقرَّ عبد الله بن عمر بيعة يزيد الخمور، قال نافع: لَمّا خلع أهل المدينة يزيد بن معاوية جمع ابن عمر حشمه ومواليه. وفي رواية سليمان: حشمه و ولده وقال: إنِّي سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول: ينصب لكلِّ غادر لواء يوم القيامة.

زاد الزهراني: قال: وإنّا قد بايعنا هذا الرَّجل على بيعة الله ورسوله، وإنِّي لا أعلم غدراً أعظم من أن تبايع رجلاً على بيعة الله ورسوله ثمَّ تنصب له القتال، وإنِّي لا أعلم أحداً منكم خلع ولا بايع في هذا الأمر إلّا كانت الفيصل فيما بيني وبينه.

وفي لفظ: انَّ عبد الله بن عمر جمع أهل بيته حين انتزى أهل المدينة مع عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما، وخلعوا يزيد بن معاوية، فقال: إنّا بايعنا هذا الرَّجل على بيعة الله ورسوله، وإنِّي سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول: إنَّ الغادر ينصب له لواء يوم القيامة فيقال: هذه غدرة فلان، وإنَّ من أعظم الغدر بعد الإشراك بالله أن يبايع رجل رجلاً على بيع الله ورسوله، ثمَّ ينكث بيعته، ولا يخلعن أحدٌ منكم يزيد، ولا يشرفن أحدٌ منكم في هذا الأمر فيكون صيلماً بيني وبينه(٢) .

وعلى هذا الأساس جاء عن حميد بن عبد الرحمن إنَّه قال: دخلت على يسير الأنصاري (الصحابيِّ) حين استخلف يزيد بن معاوية فقال: إنَّهم يقولون: إنَّ يزيد ليس بخير اُمَّة محمَّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأنا أقول ذلك ولكن لإن يجمع الله أمر اُمَّة محمَّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أحبُّ إليَّ من أن يفترق، قال النبيُّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا يأتبك في الجماعة إلّا خير(٣) .

____________________

١ - صحيح مسلم ٢ ص ١٢١، سنن ابى داود ٢: ٢٨٣.

٢ - صحيح البخارى. ١: ١٦٦ سنن البيهقى ٨: ١٥٩، ١٦٠، مسند احمد ٢ ٩٦.

٣ - الاستيعاب ٢ ص ٦٣٥ أسد الغابة ٥: ١٢٦.

١٤٦

وعلى هذا الأساس تكلّمت عائشة فيما رواه الأسود بن يزيد قال: قلت لعائشة: ألا تعجبين من رجل من الطلقاء ينازع أصحاب محمَّد في الخلافة؟ قالت: وما تعجب من ذلك؟ هو سلطان الله يؤتيه البرَّ والفاجر، وقد ملك فرعون أهل مصر أربعمائة سنة(١)

وعلى هذا الأساس يوجَّه قول مروان بن الحكم، قال: ما كان أحدٌ أدفع عن عثمان من عليّ، فقيل له: ما لكم تسبُّونه على المنابر؟ قال: إنَّه لا يستقيم لنا الأمر إلّا بذلك(٢) .

وعلى هذا الأساس صحَّ قتل معاوية عبد الرَّحمن بن خالد لمـَّا أراد البيعة ليزيد، إنَّه خطب أهل الشام وقال لهم: يا أهل الشام إنَّه قد كبرت سنّي، وقرب أجلي، وقد أردت أن أعقد لرجل يكون نظاماً لكم، إنَّما أنا رجلٌ منكم فرأوا رأيكم فاصقعوا واجتمعوا وقالوا: رضينا عبد الرَّحمن بن خالد(٣) فشقَّ ذلك على معاوية وأسرَّها في نفسه، ثمَّ إنَّ عبد الرَّحمن مرض فأمر معاوية طبيباً عنده يهوديّاً وكان عنده مكيناً أن يأتيه فيسقيه سقية يقتله بها، فأتاه فسقاه فانخرق بطنه فمات، ثمَّ دخل أخوه المهاجر ابن خالد دمشق مستخفياً هو وغلامٌ له فرصدا ذلك اليهودي فخرج ليلاً من عند معاوية فهجم عليه ومعه قومٌ هربوا عنه فقتله المهاجر.

ذكره أبو عمر في الاستيعاب ٢: ٤٠٨ فقال: وقصَّته هذه مشهورةٌ عند أهل السير والعلم بالآثار والأخبار اختصرناها، ذكرها عمر بن شبه في أخبار المدينة وذكرها غيره.ا ه. وذكرها ابن الأثير في اُسد الغابة ٣: ٢٨٩.

وعلى هذا الأساس يتمُّ اعتذار شمر بن ذي الجوشن قاتل الإمام السبط فيما رواه أبو اسحاق، قال: كان شمر بن ذي الجوشن يصلّي معنا ثمّ يقول: ألّلهم إنَّك شريفٌ تحبُّ الشرف وإنَّك تعلم أنِّي شريفٌ فاغفر لي قلت: كيف يغفر لله لك و قد أعنت على قتل ابن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: ويحك فكيف نصنع؟ إنَّ اُمراءنا هؤلاء

____________________

١ - اخرجه ابن ابى حاتم كما فى الدر المنثور ٦: ١٩.

٢ - الصواعق المحرقة ص ٣٣.

٣ - صحابى من فرسان قريش له هدى حسن وفضل وكرم الا انه كان منحرفا عن على و بنى هاشم: اسد الغابة ٣: ٢٨٩.

١٤٧

أمرونا بأمر فلم نخالفهم، ولو خلقناهم كنا شرا من هذه الحمر الشقاة(١) .

وفي لفظ: أللهمّ اغفر لي فإنِّي كريم لم تلدني اللئام. قلت له: إنَّك لسيِّئ الرأي والفكر تسارع إلى قتل ابن بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتدعو بهذا الدعاء، فقال: إليك عنِّي فلو كنّا كما تقول أنت وأصحابك لكنّا شرًّا من الحمر في الشعاب.

وعلى هذا الأساس جرى ما جرى على أبي بكر الطائي وأصحابه. قال سليمان ابن ربوة: اجتمعت أنا وعشرة من المشايخ في جامع دمشق فيهم أبو بكر بن أحمد بن سعيد الطائي فقرأنا فضائل عليِّ بن أبي طالب رضي الله عنه فوثب علينا قريب من مائة يضربونا ويسحبونا إلى الوالي فقال لهم أبو بكر الطائي: يا سادة اسمعوا لنا إنَّما قرأنا اليوم فضائل عليّ وغداً نقرأ فضائل أمير المؤمنين معاوية رضي الله عنه وقد حضرتني أبيات فإن رأيتم أن تسمعوها؟ فقالوا له: هات فأنشأ بديهاً:

حبُّ عليّ كلّه ضربُ

يرجف من خيفته القلبُ

ومذهبي حبُّ إمام الهدى

يزيد والدين هو النُّصبُ

من غير هذا قال فهو امرؤ

ليس له عقلٌ ولا لبُّ

والناس مَن يَغدُ لأهوائهم

يسلم وإلّا فالقضا نهبُ

قالوا: فخلّوا عنّا.

« تمام المتون للصفدي ص ١٨٨ »

وعلى هذا الأساس هتكت حرمات آل الله، واُضيعت مقدَّسات العترة والهادية، وسفكت دماء الأبرياء الأزكياء من شيعة أهل البيت الطاهر، وشاع وذاع لعن سيِّد العترة نفس النبيِّ الأقدس، والمطهَّر بلسان الله، على صهوات المنابر، واتَّخذه خلفاء بني اُميَّة سنَّة متَّبعة في أرجاء العالم الاسلامي، حتّى وبَّخ معاوية سعد بن أبي وقاص لسكوته عن سبِّ أبي السبطين مولانا أمير المؤمنين(٢) حتى تمكَّن عبد الله بن الوليد ابن عثمان بن عفّان من أن قام إلى هشام بن عبد الملك عشيَّة عرفة وهو على المنبر فقال: يا أمير المؤمنين! إنَّ هذا يوم كانت الخلفاء تستحبُّ فيه لعن أبي تراب(٣) .

____________________

١ - تاريخ ابن عساكر ٦: ٣٣٨، ميزان الاعتدال للذهبى ١: ٤٤٩.

٢ - راجع الجزء الثالث ص ٢٠٠ ط ٢.

٣ - رسائل الجاحظ ص ٩٢، انساب البلاذرى ٥: ١١٦.

١٤٨

وقال سعيد بن عبد الله لهشام بن عبد الملك: يا أمير المؤمنين! إنَّ أهل بيتك في مثل هذه المواطن الصالحة لم يزالوا يلعنون أبا تراب فالعنه أنت أيضاً(١) .

وعلى هذا الأساس من معنى الخلافة لا عسف ولا حزازة في رأي الخليفة الأوَّل ومن حذا حذوه من صحَّة اختيار المفضول على الفاضل، وتقديم المتأخّر على المتقدّم باعذار مفتعلة، وأوهام مختلقة، ومرجّحات واهية، وسياسة وقتيَّة، إذ الأمر الذي لا يشترط في صاحبه شيءٌ من القداسة الروحيَّة، والملكات الفاضلة، والخلايق الكريمة، والنفسيّات الشريفة، ومعالم ومعارف، ومدارج ومراتب، ولا يؤاخذ هو بما فعل، ولا يخلع بتعطيل الأحكام، وترك إقامة، الحدود، ولا ينابذ ما دام يقيم في امَّته الصّلاة كما سمعت تفصيل ذلك كلّه لا وازع عندئذ من أن يكون أمثال أبي عبيدة الجرّاح حفّار القبور حاملاً لهذا العبء الثقيل، متحلّياً بأبراد الخلافة، ولا مانع من تقديم الخليفة الأوَّل إيّاه أو صاحبه على نفسه في بَدء الأمر، ولا حاجز من اختيار أيِّ مستأهل لتنفيذ ما ذكر ص ١٣٨ ممّا يُقام له الإمام ولو بمعونة سماسرته وجلاوزته ومن يُهمُّه أمره، بل من له الشدَّة والفظاظة والعنف والتهوُّر إلى أمثالها ربما يكون أولى من غيره مهما اقتضته السياسة الوقتيَّة.

واتّبع الأكثرون الخليفة في تقديم المفضول على الفاضل، قال القاضي في المواقف: جوَّز الأكثرون إمامة المفضول مع وجود الفاضل، إذ لعلّه أصلح للامامة من الفاضل، إذا المعتبر في ولاية كلِّ أمر معرفة مصالحه ومفاسده، وقوَّة القيام بلوازمه، وربَّ مفضول في علمه وعمله هو بالزعامة أعرف، وشرائطها أقوم، وفصَّل قوم فقالوا: نصب الأفضل إن أثار فتنة لم يجب وإلّا وجب. وقال الشريف الجرجاني: كما إذا فرض أنَّ العسكر والرعاية لا ينقادون للفاضل بل للمفضول.

« شرح المواقف ٣. ٢٧٩ »

قال الأميني: إنّا لا نريد بالأفضل إلّا الجامع لجميع صفات الكمال التي يمكن اجتماعها في البشر لا الأفضليَّة في صفة دون اُخرى، فيكون حينئذ الأفقه مثلاً هو الأبصر بشئون السياسة، والأعرف بمصالح الأمور ومفاسدها، والأثبت في إدارة الصالح العامّ، والأبسل في مواقف الحروب، والأقضى في المحاكمات، والأخشن في ذات الله، والأرأف بضعفاء

____________________

١ - تاريخ ابن كثير ٩: ٤٣٢.

١٤٩

الاُمَّة، والأسمح على محاويج الملأ الديني، إلا أمثالها من الشرايط والأوصاف، إذن فلا تصوير لما حسبوه من أنَّ المفضول قد يكون أقدر وأعرف وأقوم. إلخ. وعلى المولى سبحانه أن لا يخلي الوقت عن انسان هو كما قلناه، بعد أن أثبتنا انّ تقييضه من اللطف الواجب عليه سبحانه، وهو عديل القرآن الكريم ولا يفترقا حتّى يردا على النبيّ الحوض.

وأمّا مَن لا ينقاد له من الجيش وغيره فهو كمن لا ينقاد لصاحب الرسالة، لا يزحزَح بذلك صاحب الأمر عمّا قَيَّضه الله له مِن الولاية الكبرى، بل يجب على بقيَّة الاُمَّة إخضاعهِم كما أخضعوا أهل الردَّة أو مَن حسبوه منهم، وأن يفوّقوا اليه سهم الجنِّ كما فوَّقوه إلى سعد بن عبادة أمير الخزرج.

ولم تكن للخليفة مندوحة عن رأيه في تقديم المفضول، وما كان إلّا تصحيحاً لخلافة نفسه، ولتقدُّمه على من قدَّسه المولى سبحانه في كتابه العزيز، ورآه نفس النبيِّ الأقدس وقرن طاعته بطاعته، وولايته بولايته، وأكمل به الدين، وأتمَّ به النعمة، وأمر نبيَّه بالبلاغ وضمن له العصمة من الناس، وهتف هاتف الوحي بولايته وأولويَّته بالمؤمنين من أنفسهم في محتشد رهيب بن مائة ألف أو يزيدون قائلاً: يا أيُّها الناس! إنّ الله مولاي، وأنا مولى المؤمنين، وأنا أولى بهم من أنفسهم مَن كنت مولاه فعليٌّ مولاه، أللهمَّ وال من والاه، وعاد مَن عاداه.

ولم تكن تخفى لأيِّ أحد فضائل أبي السبطين وملكاته وروحيّاته، وطيب عنصره، وطهارة محتده، وقداسة مولده، وعظمة شأنه، وبُعد شأوه في حزمه وعزمه وسبقه في الإسلام، وتفانيه في ذات الله، وأفضليَّته في العلم والفضائل كلّها.

نعم: على رأي الخليفة في تقديم المفضول على الفاضل وقع الإنتخاب من أوَّل يومه، فبويع أبو بكر بعقد رجلين ليس إلّا: عمر بن الخطاب وأبي عبيدة الحفّار ابن الجّراح، وكان الأمر أمر نهار قصي ليلاً، مدبَّراً بين اولئك الرجال مؤسّسي الإنتخاب الدستوري، وما اتَّبعهما يوم ذاك إلّا اُسيد بن حضير، وبشر بن سعد، ثمَّ دَرْدَب النّاس لَمّا عَضَّه الشفاف(١) واتّسع الخرق على الرّاقع، وما اُدركت القويمة حتّى أكلتها

____________________

١ - مثل يضرب لمن يمتنع مما يراد منه ثم يذل وينقاد.

١٥٠

الهويمة(١) وأصبح المصلح الهضيم يقول: دع الرجل واختياره(٢) وإنّ في الشرِّ خياراً، ولا يجتنى من الشوك العنب.

بويع أبو بكر ودبّ قمله(٣) وقسمت الوظايف الدينيَّة من أوّل يومه بين ثلاث: له الإمامة، وقال عمر: وإليَّ القضاء. قال أبو عبيدة: وإليَّ الفيء. وقال عمر: فلقد كان يأتي عليَّ الشهر ما يختصم إليَّ فيه اثنان(٤) ولم يكن هناك من يزعم أو يفوه بأفضليَّة أبي بكر وعمر من مولانا أمير المؤمنين، هذا أبو بكر ينادي على صهوات المنابر: وليت ولست بخيركم، ولي شيطان يعتريني. ويطلب من اُمَّته العون له على نفسه و إقامة أمته وعوجه(٥) .

وهذا عمر بن الخطاب ونصوصه بين يديك على أنَّ الأمر كان لعليّ غير أنَّهم زحزحوه عنه لحداثة سنِّه والدماء التي عليه(٦) أو لِما قاله لمـّا عزم على الاستخلاف: لله أبوك لولا دعابة فيك. كما في « الغيث المنسجم للصفدي ١: ١٦٨ » وكان يدعو الله ربَّه أن لا يبقيه لمعضلة ليس فيها أبو الحسن، ويرى انَّ عليّاً لولاه لضلّ هو(٧) ولولاه لهلك هو، ولولاه لافتضح هو، وعقمت النساء أن تلدن مثل عليّ. إلى كثير ممّا مرَّ عنه في الجزء السادس في نوادر الأثر، ولم يكن قطّ يختلج في هواجس ضميره ولن يختلج « وأنِّى يختلج » أنّه كان يماثل مولانا عليّاً في إحدى فضائله، أو يدانيه في شيءٍ منها، أو يبعد عنه بقليل.

وبعدما عرفت معنى الخلافة عند القوم، ووقفت على رأي سلفهم فيها وفي مقدَّمهم الخليفة الاوَّل، هلمَّ معي إلى التهافت بين تلكم الكلمات وبين مزاعم اُخرى جنح إليها

____________________

١ - أصل المثل: ادرك القويمة لا تأكلها الهويمة. والمراد: ادراك الرجل الجاهل حتى لا يقع فى هلكة.

٢ - مثل يضرب لمن لا يقبل الوعظ.

٣ - مثل يضرب للانسان اذا سمن وحسن حاله.

٤ - طبقات ابن سعد ٣ ص ١٣٠.

٥ - راجع ما مر فى هذا الجزء ص ١١٨.

٦ - راجع ما مر فى الجزء الاول ص ٣٨٩، وفى هذا الجزء ص ٨٠.

٧ - التمهيد للباقلانى ص ١٩٩.

١٥١

لفيفُ آخر « ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً »

قال أحمد بن محمّد الوتري البغدادي في روضة الناظرين ص ٢: إعلم أنَّ جماهير أمل السنَّة والجماعة يعتقدون انَّ أفضل الناس بعد النبيِّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أبو بكر ثمَّ عمر ثمَّ عثمان ثمَّ عليّ رضي الله تعالى عنهم، وانَّ المتقدّم في الخلافة هو المقدّم في الفضيلة لاستحالة تقديم المفضول على الفاضل لأنَّهم كانوا يراعون الأفضل فالأفضل، والدليل عليه: إنَّ أبا بكر رضي الله عنه لما نصَّ على عمر رضي الله عنه قام إليه طلحة رضي الله عنه فقال له: ما تقول لربِّك وقد وليت علينا فظاً غليظاً قال أبو بكر رضي الله عنه: فركتَ لي عينيك، ودلكت لي عقبيك، وجئتني تكفّني عن رأيي، وتصدُّني عن ديني أقول له إذا سألني: خلّفت عليهم خير أهلك. فدلَّ على أنَّهم كانوا يُراعون الأفضل فالأفضل. اهـ.

وأنت ترى أنَّ هذه المزعمة فيها دجلٌ لإغراء البسطاء من الاُمَّة المسكينة و هي تصادم رأي الجمهور ونظريّات علماء الكلام منهم، وعمل الصحابة ونصوصهم، وقبل كلِّ شييء رأي الخليفة أبي بكر، وكأنَّ ما حسبه من الاستحالة قد خفي علي الخليفة وعلى من آزره على أمره، واعتنق إمامته في القرون والأجيال من بعده

وكأنَّ أفضليَّة الرجل الفظّ الغليظ كانت تخفى على الصحابة، ولم يكن يعلمها أحدٌ فأعرب عنها أبو بكر، وكأن التاريخ ونوادر الأثر لم تكن بين يدي (الوتري) حتّى يعرف مقادير الرجال، ولا يغلو فيهم ولا يتحكّم ولا يجازف في القول ولا يسرف في الكلام ويعلم بأنَّ عمر لو كان خير الاُمَّة وتلك سيرته ونوادر أثره فعلى الإسلام السَّلام.

نعم: إنّما هي أهواء وشهوات أخذ كلٌّ بطرف منها، وفتاوى مجرَّدة هملج ورائها كلٌّ حسب ميوله، ونحن نضع عقلك السليم مقياساً بين هذين الإمامين: مَن نصفه نحن، ومن يقول به هؤلاء. فراجعه إلى أيِّهما يجنح، وأيّاً منهما يتَّخذه وسيلة بينه وبين ربِّه سبحانه، وأيُّهما يحقُّ له أن يستحوذ على رقاب المسلمين ونفوسهم ونواميسهم وأحكامهم في دنياهم واُخراهم؟ إن لم تكن في ميزان نصفته عين.

فويلٌ للمطفَفين.

١٥٢

- ٦ -

رأي الخليفة في القدَر

أخرج اللالكائي في السنَّة عن عبد الله بن عمر قال: جاء رجلٌ إلى أبي بكر فقال: أرأيت الزنا بقدرَ؟ قال: فانَّ الله قدَّره عليَّ ثمَّ يعذِّبني؟ قال: نعم، يا بن اللخناء! أما والله لو كان عندي إنسانٌ أمرت أن يجأ(١) أنفك(٢) .

قال الأميني: أترى الخليفة عرف معنى القدَر الصحيح؟ بمعنى ثبوت الأمر الجاري في العلم الأزلي الالـ~ـهي، مع إعطاء القدرة على الفعل والترك، مع تعريف الخير والشرِّ وتبيان عاقبة الأوَّل ومغبَّة الأخير.

إنّا هديناه السبيل إمّا شاكراً وإمّا كفوراً(٣) إنّا هديناه النجدين(٤) ومن شكر فإنّما يشكر لنفسه ومن كفر فانَّ ربّي غنىُّ كريم(٥) ومن يشكر فإنّما يشكر لنفسه ومن كفر فإنَّ الله غنيُّ حميد(٦) .

كلُّ ذلك مع تكافؤ العقل والشهوة في الإنسان مع خلق عوامل النجاح تجاه النفس الأمّارة بالسوء، فمن عاملٍ بالطاعة بحسن اختياره، ومِن مقترفٍ للمعصية بسوء الخيرة.

فمنهم ظالمٌ لنفسه ومنهم مقتصدٌ ومنهم سابقٌ بالخيرات(٧) من اهتدى‏ فإنّما يهتدي لنفسه ومن ضلَّ فإنَّما يضلُّ عليها(٨) فمن اهتدى‏ فلنفسه ومن ضل فإنَّما يضلُّ عليها(٩) من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها ثمَّ إلى‏ ربِّكم ترجعون(١٠) فمن أبصر فلنفسه ومن عمي فعليها(١١) قل إن ضللت فانَّما أضلُّ على‏ نفسي وإن اهتديت

____________________

١ - وجأ عنقه: ضربه، ووجأه: رضّه ودقّه.

٢ - تاريخ الخلفاء للسيوطى ص ٦٥.

٣ - سورة الانسان: ٣.

٤ - سورة البلد: ١٠.

٥ - سورة النمل: ٤٠.

٦ - سورة لقمان: ١٢.

٧ - سورة فاطر: ٣٢.

٨ - سورة يونس: ١٠٨، الاسراء: ١٥.

٩ - سورة الزمر: ٤١.

١٠ - سور ة الجاثية: ١٥.

١١ - سورة الانعام: ١٠٤.

١٥٣

فبما يوحى إِليَّ ربِّي(١) إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها(٢) إنَّ ربَّك هو أعلم بمن ضلَّ عن سبيله وهو أعلم بمن اهتدى(٣) ربِّي أَعلم مَن جاء بالهدى‏ ومَن هو في ضلال مبين(٤) .

فالقدَر لا يستلزم جبراً وعلم المولى سبحانه بمقادير ما يختاره العباد من النجدين ويأتون به من العمل من خير أو شرّ لا ينافي التكليف. كما لا أثر له في اختيار المكلِّفين، ولا يقبح معه العقاب على المعصية، ولا يسقط معه الثواب على الطاعة.

فمن يعملْ مثقال ذرَّة خيراً يره، ومن يعمل مثقال ذرَّة شراً يره(٥) ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفسٌ شيئاً وإن كان مثقال حبَّة من خردل أتينا بها وكفى‏ بنا حاسبين(٦) اليوم تجزى‏ كلُّ نفس بما كسبت لا ظلم اليوم(٧) فكيف إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه ووفّيت كلُّ نفس ما كسبت وهم لا يظلمون(٨) .

فهل الخليفة عرف هذا المعنى من القدَر، فأجاب بما أجاب؟ لكن السائل لم يفهم ما أراده فانتقده بما انتقد، غير انَّه لو كان يريد ذلك لَما جابه المنتقد بالسباب المقذع والتمنِّي بأن يكون عنده من يجأ أنفه قبل بيان المراد فيفيء الرجل إلى الحقِّ.

أو أنَّ الخليفة لم يكن يعرف من القدَر إلاّ ما ارتفعت به عقيرة جماهير من أشياعه من القول بخلق الأعمال؟ فيتَّجه إذن ما قاله المنتقد سبَّه الخليفة أولم يسبَّه.

والذي يؤثر عن إبنته عائشة هو الجنوح إلى المعنى الثاني يوم اعتذرت عن نهضتها على مولانا أمير المؤمنين، وتبرّجها عن خِدرها المضروب لها تبرُّج الجاهليَّة الاُولى بعد أن ليمت على ذلك: بأنَّها كانت قدَراً مقدوراً وللقدَر أسباب، أخرجه الخطيب البغدادي باسناده في تاريخه ١: ١٦٠.

وإن كان يوقفنا موقف السادر ما يؤثر عنها فيما أخرجه الخطيب أيضاً في تاريخه ٥: ١٨٥ عن عروة قال: ما ذكرت عائشة مسيرها في وقعة الجمل قطُّ إلاّ بكت حتّى

____________________

١ - سورة سبأ: ٥٠.

٢ - سورة الاسراء: ٧.

٣ - سورة النجم: ٣٠.

٤ - سورة القصص: ٨٥.

٥ - سورة الزلزلة: ٧، ٨.

٦ - سورة الانبياء: ٤٧.

٧ - سورة غافر: ١٧.

٨ - سورة آل عمران: ٢٥.

١٥٤

تبلَّ خمارها وتقول: يا ليتني كنت نسياً منسيّا(١) قال سفيان الثوري: النسي المنسيّ: الحيضة الملقاة.

كأنَّها كانت ترى مسيرها حوباً كبيراً جديراً أن تبكي عليه مدى الدهر، وتبلّ بدمعها خمارها، وتتمنّى ما تمنّت وهذا ينافي ذلك الإعتذار البارد المأخوذ أصله عن رأي أبيها الخليفة الذي لم يجد مساغاً في دفع ما يتّجه عليه إلّا السباب.

- ٧ -

ترك الخليفة الضحيَّة مخافة أن تستنَّ

قد مرَّ في الجزء السادس ص ١٧٧ ط ٢ من الصحيح الوارد في أنَّ أبا بكر وعمر كانا لا يضحِّيان كراهة أن يقتدى بهما، فيظنّ فيها الوجوب.

وقد استوفينا حقّ القول هناك فراجع.

- ٨ -

ردَّة بني سليم

عن هشام بن عروة عن أبيه قال: كان في بني سليم ردَّة فبعث إليهم أبو بكر خالد بن الوليد فجمع رجالاً منهم في الحظائر ثمَّ أحرقها عليهم بالنار فبلغ ذلك عمر فأتى أبا بكر فقال: تدع رجلاً يعذِّب بعذاب الله عزَّ وجلَّ، فقال أبو بكر: والله لا أشيم سيفاً سلّه الله على عدوِّه حتى يكون هذا الذي يشيمه، ثمَّ أمره فمضى من وجهه ذلك إلى مسيلمة.

الرياض النضرة ١ ص ١٠٠.

لبس في هذا الجواب مخرجٌ عن إعتراض عمر فقد جاء في الكتاب العزيز قوله تعالى: إنَّما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يُقتَّلوا أو يُصلَّبوا أو تُقطَّع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو يُنفوا من الأرض ذلك لهم خزيٌ في الدنيا ولهم في الآخرة عذابٌ عظيم.

(المائدة آية ٣٣)

وصحَّ عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم النهي عن الإحراق وقوله: لا يعذَّب بالنار إلاّ ربُّ النار. و

____________________

١ - وذكره ابن الاثير فى النهاية ٤: ١٥١، وابن منظور فى لسان العرب. ٢: ١٩٦، والزبيدى فى تاج العروس ١: ٣٦٧.

١٥٥

قوله: إنَّ النار لا يعذِّب بها إلّا الله. وقوله: لا يعذِّب بالنار إلّا ربّها(١) : وقوله: من بدَّل دينه فاقتلوه(٢) وقوله: لا يحلُّ دم امرئ مسلم يشهد أن لا الـ~ـه إلّا الله وانَّ محمَّداً رسول الله إلّا باحدى ثلاث: زنا بعد احصان فانَّه يرجم، ورجل يخرج محارباً لله ورسوله فأنَّه يُقتل، أو يُصلب، أو يُنفى من الأرض، أو يقتل نفساً فيقتل بها.

سنن أبي داود ٢ ص ٢١٩، مصابيح السنَّة ٢: ٥٩، مشكاة المصابيح ص ٣٠٠.

وأمّا فعل أمير المؤمنينعليه‌السلام بعبد الله بن سبا وأصحابه فلم يكن إحراقاً ولكن حفر لهم حفائر، وخرق بعضها إلى بعض، ثمَّ دخن عليهم حتّى ماتوا كما قال عمّار الدهني: فقال عمرو بن دينار: قال الشاعر:

لترم بي المنايا حيث شاءت

إذا لم ترم بي في الحفرتينِ

إذا ما أجَّجوا حطباً وناراً

هناك الموت نقداً غير دينِ(٣)

وأمّا قول أبي بكر: لا اشيم سيفاً الخ. فهو تحكّم تجاه النصِّ النبويِّ، وما كان السيف أنطق من القول، ومتى شهر الله سبحانه هذا السيف صاحب الدواهي الكبرى والطامات في يومه هذا، ويومه الآخر المخزي في بني حنيفة ومع مالك بن نويرة و أهله، ويومه قبلهما مع بني جذيمة الذي تبرّأ فيه رسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من عمله، إلى غيرها من المخاريق والمخازي التي تغمد بها هذا السيف.

- ٩ -

حرق الخليفة الفجاءة

قدم على أبي بكر رجلٌ من بني سليم يقال له: الفجاءة وهو اياس بن عبد الله بن عبد باليل بن عميرة بن خفاف فقال لأبي بكر: إنِّي مسلم وقد أردت جهاد من ارتدَّ من الكفار فاحملني وأعنِّي فحمله أبو بكر على ظهر وأعطاه سلاحاً فخرج يستعرض الناس

____________________

١ - صحيح البخارى ٤: ٣٢٥ كتاب الجهاد باب: لا يعذّب بعذاب الله، مسند احمد ٣: ٤٩٤ و ج ٢: ٢٠٧ سنن ابى داود ٢: ٢١٩، صحيح الترمذي سنن البيهقى ٩: ٧١، ٧٢، مصابيح السنة ٢ ص ٥٧ ٥٨، تيسير الوصول ١ ص ٢٣٦.

٢ - صحيح البخارى ١٠ ص ٨٣ كتاب استتابة المرتدين، سنن ابى داود ٢ ص ٢١٩، مصابيح السنة ٢ ص ٥٧.

٣ - سنن البيهقى ٩ ص ٧١.

١٥٦

المسلم والمرتدّ يأخذ أموالهم ويصيب من امتنع منهم ومعه رجلٌ من بني الشريد يقال له: نجبة بن أبي الميثاء فلمّا بلغ أبا بكر خبره كتب إلى طريفة بن حاجز: إنّ عدوَّ الله الفجاءة أتاني يزعم انَّه مسلمٌ ويسألني أن اُقوِّيه على من ارتدَّ عن الاسلام فحملته وسلّحته ثمَّ انتهى إليَّ من يقين الخبر انَّ عدوَّ الله قد استعرض الناس المسلم والمرتدَّ يأخذ أموالهم ويقتل من خالفه منهم فَسر إليه بمن معك من المسلمين حتى تقتله أو تأخذه فتأتيني به فسار إليه طريفة فلمّا التقى الناس كانت بينهم الرميّا بالنبل فقتل نجبة بن أبي الميثاء بسهم رُمي به فلمّا رأي الفجاءة من المسلمين الجدَّ قال لطريفة: والله ما أنت بأولى بالأمر منِّي أنت أمير لأبي بكر وأنا أميره، فقال له طريفة: إن كنت صادقاً فضع السلاح وانطلق إلى أبي بكر فخرج معه فلمّا قدما عليه أمر أبو بكر طريفة بن حاجز فقال: أخرج به إلى هذا البقيع فحرَّقه فيه بالنار. فخرج به طريفة إلى المصلّى فأوقد له ناراً فقذفه فيها. وفي لفظ الطبري: فأوقد له ناراً في مصلّى المدينة على حطب كثير ثمَّ رمي فيها مقموطاً. وفي لفظ ابن كثير: فجمعت يداه إلى قفاه واُلقي في النار فحرَّقه وهو مقموط(١) .

قال الأميني: القول في هذا كالذي سبقه من عدم جواز الإحراق بالنار والتعذيب بها، على أنَّ الفجاءة كان متظاهراً بالاسلام وتلقّاه الخليفة بالقبول يوم أعطاه ظهراً و سلّحه، وإن كان فاسقاً بالجوارح على ما انتهى إلى الخليفة من يقين الخبر، ولم يكن سيف الله مشهوراً هاهنا حتى يتورَّع عن اغماده، ولا يُدَّعى مثله لطريفة حتى يكون معذِّراً في مخالفة النصِّ الشريف، ولعلَّ لذلك كلّه ندم أبو بكر نفسه يوم مات عن فعله ذلك كما في الصحيح الآتي انشاء الله تعالى. فإلى الملتقى.

والعجب كلّ العجب من دفاع القاضي عضد الايجي عن الخليفة بقوله في المواقف.

إنَّ أبا بكر مجتهدٌ، إذ ما من مسئلة في الغالب إلّا وله فيها قولٌ مشهورٌ عند أهل العلم، وإحراق الفجاءة لاجتهاده وعدم قبول توبته لأنَّه زنديقٌ ولا تقبل توبة الزنديق في الأصحِّ

وجاء بعده القوشجي مدافعاً عن الخليفة بقوله في شرح التجريد ص ٤٨٢: إحراقه فجاءة بالنار من غلطة في اجتهاده فكم مثله للمجتهدين؟

____________________

١ - تأريخ الطبرى ٣ ص ٢٣٤، تأريخ ابن كثير ٦ ص ٣١٩، الكامل لابن الاثير ٢ ص ١٤٦، الاصابة ٢ ص ٣٢٢.

١٥٧

إقرأ واضحك أو ابك. زهٍ زهٍ بالاجتهاد تجاه نصِّ الكتاب والسَّنة، ومرحباً مجتهد يخالف دين الله.

- ١٠ -

رأي الخليفة في قصَّة مالك

سار خالد بن الوليد يريد البطاح حتّى قدمها فلم يجد بها أحداً وكان مالك بن نويرة قد فرَّقهم ونهاهم عن الاجتماع وقال: يا بني يربوع إنّا دُعينا إلى هذا الأمر فأبطأنا عنه فلم نفلح، وقد نظرت فيه فرأيت الأمر يتأتّى لهم بغير سياسة، وإذا الأمر لا يسوسه الناس، فإيّاكم ومناوأة قوم صنع لهم فتفرِّقوا وادخلوا في هذا الأمر، فتفرَّقوا على ذلك، ولمـّا قدم خالد البطاح بثّ السرايا وأمرهم بداعية الإسلام وأن يأتوه بكلِّ من لم يُجب، وإن إمتنع أن يقتلوه، وكان قد أوصاهم أبو بكر أن يأذّنوا ويقيموا إذا نزلوا منزلاً فإن أذّن القوم وأقاموا فكفّوا عنهم، وإن لم يفعلوا فلا شييء إلّا الغارة ثمَّ تقتلوا كلّ قتلة، الحرق فما سواه، إن أجابوكم إلى داعية الاسلام فسائلوهم فإن أقرّوا بالزكاة فاقبلوا منهم وإن أبوها فلا شيء إلّا الغارة، ولا كلمة، فجاءته الخيل بمالك بن نويرة في نفر معه من بني ثعلبة بن يربوع من عاصم وعبيد وعرين وجعفر فاختلفت السيرة فيهم، وكان فيهم أبو قتادة فكان فيمن شهد أنَّهم قد أذَّنوا وأقاموا و صلّوا، فلمّا اختلفوا فيهم أمر بهم فحبسوا في ليلة باردة لا يقوم لها شيءٌ وجعلت تزداد برداً، فأمر خالد منادياً فنادى: ادفئوا اُسراكم وكانت في لغة كنانة القتل فظنَّ القوم أنَّه أراد القتل ولم يُرد إلّا الدفء فقتلوهم، فقتل ضرار بن الأزور مالكاً وسمع خالد الواعية فخرج وقد فرغوا منهم فقال: إذا أراد الله أمراً أصابه، وتزوّج خالد امّ تميم امرأة مالك فقال أبو قتادة: هذا عملك؟ فزبره خالد فغضب ومضى. وفي تاريخ أبي الفدا: كان عبد الله بن عمرو أبو قتادة الأنصاري حاضرين فكلّما خالداً في أمره فكره كلامهما. فقال مالك: يا خالد إبعثنا إلى ابي بكر فيكون هو الذي يحكم فينا. فقال خالد: لا أقالني الله إن أقتلك وتقدَّم إلى ضرار بن الأزور بضرب عنقه.

فقال عمر لأبي بكر: إنَّ سيف خالد فيهَ رَهق وأكثر عليه في ذلك فقال: يا عمر! تأوّل فأخطأ فارفع لسانك عن خالد فإنِّي لا أشيم سيفاً سلّه الله على الكافرين.

١٥٨

وفي لفظ الطبري وغيره: إنَّ أبا بكر كان من عهده إلى جيوشه أن إذا غشيتم داراً من دور الناس فسمعتم فيها أذاناً للصلاة فأمسكوا عن أهلها حتى تسألوهم ما الذي نقموا، وإن لم تسمعوا أذاناً فشنّوا الغارة فاقتلوا وحرِّقوا، وكان ممَّن شهد لمالك بالاسلام أبو قتادة الحارث بن ربعيّ، وقد كان عاهد الله أن لا يشهد مع خالد بن الوليد حرباً أبداً بعدها، وكان يحدِّث أنَّهم لمـّا غشّوا لقوم راعوهم تحت الليل فأخذ القوم السلاح، قال: فقلنا: إنّا المسلمون. فقالوا: ونحن المسلمون، قلنا: فما بال السلاح معكم؟ قالوا لنا: فما بال السلاح معكم؟ قلنا: فإن كنتم كما تقولون؟ فضعوا السلاح. قال: فوضعوها ثمَّ صلّينا وصلّوا، وكان خالد يعتذر في قتله: انَّه قال وهو يراجعه: ما أخال صاحبكم إلّا وقد كان يقول كذا وكذا. قال: أوَ ما تعدّه لك صاحباً. ثمَّ قدَّمه فضرب عنقه وعنق أصحابه.

فلمّا بلغ قتلهم عمر بن الخطاب تكلّم فيه عند أبي بكر فأكثر وقال: عدوّ الله عدا على امرئ مسلم فقتله ثمَّ نزا على امرأته، وأقبل خالد بن الوليد قافلاً حتى دخل المسجد وعليه قباءٌ له عليه صدأ الحديد، معتجراً بعمامة له قد غرز في عمامته أسهماً فلمّا أن دخل المسجد قام إليه عمر فانتزع الأسهم من رأسه فحصلَّها ثمَّ قال: أرئاء؟ قتلت امرءاً مسلماً ثمَّ نزوت على امرأته، والله لأرجمنّك باحجارك ولا يكلّمه خالد بن وليد ولا يظنُّ إلّا أنَّ رأي أبي بكر على مثل رأي عمر فيه، حتّى دخل على أبي بكر فلمّا أن دخل عليه أخبره الخبر واعتذر اليه فعذره أبو بكر وتجاوز عنه ما كان في حربه تلك. قال فخرج خالد حين رضي عنه أبو بكر، وعمر جالسٌ في المسجد فقال خالد: هلمّ إليَّ يا بن اُمّ شملة؟ قال فعرف عمر أنَّ ابا بكر قد رضي عنه، فلم يكلّمه ودخل بيته.

وقال سويد: كان مالك بن نويرة من أكثر الناس شعراً وإنَّ أهل العسكر اثفوا برؤوسهم القدور فما منهم رأس إلّا وصلت النار الى بشرته ما خلا مالكاً فانّ القدر نضجت وما نزج رأسه من كثرة شعره، وقى الشعر البشَر حرَّها أن يبلغ منه ذلك.

وقال ابن شهاب: إنَّ مالك بن نويرة كان كثير شعر الرأس، فلمّا قتل أمر خالد برأسه فنصب اثفية لقِدر فنضج ما فيها قبل أن يخلص النار إلى شؤون رأسه.

وقال عروة: قدم أخو مالك متمِّم بن نويرة ينشد أبا بكر دمه ويطلب إليه في

١٥٩

سبيهم فكتب له بردِّ السبي، وألحَّ عليه عمر في خالد أن يعزله، وقال: إنَّ في سيفه رهقاً. فقال: لا يا عمر! لم أكن لأشيم سيفاً سلّه الله على الكافرين.

وروى ثابت في الدلائل: انَّ خالداً رأى امرأة مالك وكانت فائقة في الجمال فقال مالك بعد ذلك لامرأته: قتلتيني. يعني ساُقتل من أجلكِ(١) .

وقال الزمخشري وابن الأثير وأبو الفدا والزبيدي: انَّ مالك بن نويرة رضي الله عنه قال لامرأته يوم قتله خالد بن وليد: أقتلتني. أي عرَّضتني بحسنٍ وجهكِ للقتل لوجوب الدفع عنكِ، والمحاماة عليك، وكانت جميلة حسناء تزوَّجها خالد بعد قتله فأنكر ذلك عبد الله بن عمر. وقيل فيه:

أفي الحق أنّا لم تجفّ دماؤنا

وهذا عروساً باليمامة خالدُ؟(٢)

وفي تاريخ ابن شحنة هامش الكامل ٧ ص ١٦٥: أمر خالد ضراراً بضرب عنق مالك فالتفت مالك إلى زوجته وقال لخالد: هذه التي قتلتني. وكانت في غاية الجمال، فقال خالد: بل قتلك رجوعك عن الإسلام فقال مالك: أنا مسلم. فقال خالد: يا ضرار! إضرب عنقه فضرب عنقه وفي ذلك يقول أبو نمير السعدي:

ألا قل لحيّ أوطؤا بالسنابكِ

تطاول هذا الليل من بَعد مالكِ

قضى خالدٌ بغياً عليه بعرسه

وكان له فيها هوىً قبل ذلكِ

فأمضى هواه خالدٌ غير عاطفٍ

عنان الهوى عنها ولا متمالكِ

وأصبح ذا أهل وأصبح مالك

إلى غير أهل هالكاً في الهوالكِ

فلمّا بلغ ذلك أبا بكر وعمر قال عمر لأبي بكر: إنَّ خالداً قد زنى فاجلده. قال أبو بكر: لا، لأنّه تأوّل فأخطأ قال: فإنّه قتل مسلماً فاقتله. قال: لا، إنَّه تأوّل فأخطأ. ثمَّ قال: يا عمر! ما كنت لأغمد سيفاً سلّه الله عليهم، ورثى مالكاً أخوه متمّم بقصائد عديدة. وهذا التفصيل ذكره أبو الفدا ايضاً في تاريخه ١: ١٥٨.

____________________

١ - تأريخ الطبرى ٣ ص ٢٤١، تأريخ ابن الاثير ٣ ص ١٤٩، اسد الغابة ٤: ٢٩٥، تأريخ ابن عساكر ٥ ص ١٠٥، ١١٢، خزانة الادب ١: ٢٣٧، تأريخ ابن كثير ٦ ص ٣٢١، تاريخ الخميس، ٢: ٢٣٣، الاصابة ج ١ ص ٤١٤ و ج ص ٣٥٧.

٢ - الفائق ٢ ص ١٥٤، النهاية ٣ ص ٢٥٧، تاريخ أبي الفدا ج ١ ص ١٥٨، تاج العروس ٨ ص ٧٥.

١٦٠