الغدير في الكتاب والسنة والأدب الجزء ٧

الغدير في الكتاب والسنة والأدب0%

الغدير في الكتاب والسنة والأدب مؤلف:
الناشر: دارالكتب الإسلامية
تصنيف: الإمامة
الصفحات: 417

الغدير في الكتاب والسنة والأدب

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة الشيخ الأميني
الناشر: دارالكتب الإسلامية
تصنيف: الصفحات: 417
المشاهدات: 185053
تحميل: 6038


توضيحات:

الجزء 1 المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11
المقدمة
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 417 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 185053 / تحميل: 6038
الحجم الحجم الحجم
الغدير في الكتاب والسنة والأدب

الغدير في الكتاب والسنة والأدب الجزء 7

مؤلف:
الناشر: دارالكتب الإسلامية
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

وفي تاريخ الخميس ٢: ٢٣٣: اشتدَّ في ذلك عمر وقال لأبي بكر: ارجم خالداً فانَّه قد استحلَّ ذلك، فقال أبو بكر: والله لا أفعل، إن كان خالد تأوّل أمراً فأخطأ وفي شرح المواقف: فأشار عمر على أبي بكر بقتل خالد قصاصاً، فقال أبو بكر: لا أغمد سيفاً شهره الله على الكفار. وقال عمر لخالد: لئن وليتُ الأمر لأقيدنَّك به.

م وفي تاريخ ابن عساكر ٥: ١١٢: قال عمر: إنِّي ما عتبت على خالد إلّا في تقدُّمه وما كان يصنع في المال. وكان خالد إذا صار إليه شيئ قسّمه في أهل الغنى ولم يرفع إلى أبي بكر حسابه، وكان فيه تقدّم على أبي بكر يفعل الأشياء التي لا يراها أبو بكر، واقدم على قتل مالك بن نويرة ونكح امرأته، وصالح اهل اليمامة ونكح ابنة مجاعة بن مرارة، فكره ذلك أبو بكر وعرض الدية على متمّم بن نويرة وأمر خالداً بطلاق امرأة مالك ولم ير أن يعزله وكان عمر ينكر هذا وشبهه على خالد].

نظرة في القضية

قال الأميني: يحقُّ على الباحث أن يمعن النظرة في القضيَّة من ناحيتين. الأولى: ما ارتكبه خالد بن الوليد من الطامات والجرائم الكبيرة التي تُنزَّه عنها ساحة كلِّ معتنق بالاسلام، وتضادُّ نداء القرآن الكريم والسنَّة الشريفة، ويتبرَّأ منها و ممَّن اقترفها مَن آمن بالله ورسوله واليوم الآخر. أيحسب الإنسان أن يترك سُدى؟(١) أيحسب أن لن يقدر عليه أحد؟(٢) أم: حسب الذين يعملون السيِّئات أن يسبقونا ساء ما يحكمون؟(٣)

بأيِّ كتاب أم بأيَّة سنَّة ساغ للرجل سفك تلكم الدماء الزكيَّة من الذين آمنوا بالله ورسوله واتَّبعوا سبيل الحقِّ وصدَّقوا بالحسنى، وأذَّنوا وأقاموا وصلّوا وقد علت عقيرتهم: بأنّا مسلمون، فما بال السلاح معكم؟ لا تحسبنَّ الذين يفرحون بما أتوا ويحبُّون أن يُحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنَّهم بمفازةٍ من العذابِ ولهم عذابٌ أليم(٤) .

ما عذر الرَّجل في قتل مثل مالك الذي عاشر النبيَّ الأعظم، وأحسن صحبته،

____________________

١ - سورة القيامة آية: ٣.

٢ - سورة البلد آية: ٥.

٣ - سورة العنكبوت آية ٤.

٤ - سورة آل عمران آية: ١٨٨.

١٦١

واستعملهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على صدقات قومه، وقد عُدَّ من أشراف الجاهليَّة والإسلام، ومن أرداف الملوك. من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنَّما قتل الناس جميعا(١) . ومن يقتل مؤمناً متعمِّداً فجزاؤه جهنَّم خالداً فيها [النساء: ٩٣].

وما ذا أحلَّ للرجل شنَّ الغارة على أهل أولئك المقتولين وذويهم الأبرياء و ايذائهم وسبيهم بغير ما اكتسبوا إثماً، أو اقترفوا سيِّئة، أو ظهر منهم فساد في الملأ الدينيِّ؟ الَّذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتاناً وإثماً مبينا(٢) .

ما هذه القسوة والعنف والفظاظة والتزحزح عن طقوس الإسلام، وتعذيب رؤس أمَّة مسلمة، وجعلها أثفيةً للقِدر وإحراقها بالنار؟ فويلٌ للقاسية قلوبهم، فويلٌ للذين ظلموا من عذاب يوم اليم.

ما خالد وما خطره بعد ما اتَّخذ إ~لهه هواه، وسوَّلته نفسه، وأضلّته شهوته، وأسكره شبقه؟ فهتك حرمات الله، وشوَّه سمعة الإسلام المقدَّس، ونزى على زوجة مالك قتيل غيِّه في ليلته(٣) انَّه كان فاحشةً ومقتاً وساء سبيلا، ولم يكن قتل الرجل إلّا لذلك السفاح، وكان أمراً مشهوداً وسرًّا غير مستسرّ، وكان يعلمه نفس مالك ويخبر زوجته بذلك قبل وقوع الواقعة بقوله إياّها: أقتلتني. فقتل الرجل مظلوماً غيرةً و محاماةً على ناموسه. وفي المتواتر: من قتل دون أهله فهو شهيدٌ(٤) وفي الصحيحة من قتل دون مظلمته فهو شهيدٌ(٥) .

والعذر المفتعل من منع مالك الزكاة لا يُبرِّئ خالداً من تلكم الجنايات، أيصدَّق جحد الرجل فرض الزكاة ومكابرته عليها وهو مؤمنٌ بالله وكتابه ورسوله ومصدِّقٌ بما جاء به نبيُّه الأقدس، يقيم الصَّلاة ويأتي بالفرائض بأذانها وإقامتها، وينادي بأعلى صوته: نحن المسلمون، وقد إستعمله النبيُّ الأعظم على الصدقات ردحاً من الزمن؟ لا ها الله.

____________________

١ - سورة المائدة آية: ٣٢.

٢ - سورة الاحزاب آية: ٥٨.

٣ - الصواعق ص ٢١، تاريخ الخميس ٢: ٣٣٣.

٤ - مسند احمد ١ ص ١٩١، نص على تواتره المناوى في الفيض القدير ٦ ص ١٩٥.

٥ - أخرجه النسائى والضياء المقدسى كما فى الجامع الصغير، وصححه السيوطى راجع الفيض القدير ٦ ص ١٩٥.

١٦٢

أيوجب الردَّة مجرَّد إمتناع الرجل المسلم الموحِّد المؤمن بالله وكتابه عن أداء الزكاة لهذا الإنسان بخصوصه وهو غير منكر أصل الفريضة؟ أو يُحكم عليه بالقتل عندئذ؟ وقد صحَّ عن المشرِّع الأعظم قوله: لا يحلُّ دم رجل يشهد أن لا إلـ~ـه إلّا الله، وإنّي رسول الله إلّا باحدى ثلاثة: النفس بالنفس، والثيِّب الزاني، والتارك لدينه المفارق للجماعة(١) .

وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا يحلُّ دم امرئ مسلم إلّا باحدى ثلاث: رجل كفر بعد اسلامه، أو زنى بعد إحصانه، أو قتل نفساً بغير نفس(٢) .

وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اُمرت أن اُقاتل الناس حتى يقولوا: لا إ~له إلّا الله، فاذا قالوها منعوا منِّي دماؤهم وأموالهم، وحسابهم على الله(٣) .

وعهد أبو بكر نفسه لسلمان بقوله: من صلّى الصلوات الخمس فانَّه يصبح في ذمَّة الله ويمسي في ذمَّة الله تعالى فلا تقتلنَّ أحداً من أهل ذمَّة الله فتخفر الله في ذمَّته فيكبّك الله في النار على وجهك(٤) .

أيسلب امتناع الرجل المسلم عن أداء الزكاة حرمة الاسلام عن أهله وماله وذويه ويجعلهم أعدال أولئك الكفرة الفجرة الذين حقَّ على النبيِّ الطاهر شنُّ الغارة عليهم؟ ويحكم عليهم بالسبي والقتل الذريع وغارة ما يملكون، والنزو على تلكم الحرائر المأسورات؟

وأمّا ما مرَّ من الاعتذار بانَّ خالداً قال: ادفئوا اسراكم وأراد الدفء وكانت في لغة كنانة: القتل. فقتلوهم فخرج خالد وقد فرغوا منهم. فلا يفوه به إلّا معتوهٌ استأسر هواه عقله، وسفه في مقاله، لِماذا قتل ضرار مالكاً بتلك الكلمة وهو لم

____________________

١ - صحيح البخارى ١٠: ٦٣ كتاب المحاربين. باب: قول الله تعالى ان النفس بالنفس، صحيح مسلم ٢: ٣٧، الديات لابن ابى عاصم الضحاك ص ١٠، سنن ابى داود ٢: ٢١٩ سنن ابن ماجة ٢: ١١٠، مصباح السنة ٢: ٥٠، مشكاة المصابيح ص ٢٩١.

٢ - الديات لابن أبي عاصم الضحاك ص ٩، سنن ابن ماجة ٢: ١١٠، سنن البيهقى ٨: ١٩.

٣ - صحيح مسلم ١: ٣٠، الديات لابن أبى عاصم الضحاك ص ١٧، ١٨ سنن ابن ماجة ٢: ٤٥٧، خصايص النسائى ص ٧، سنن البيهقى ٨: ١٩، ١٩٦.

٤ - أخرجه أحمد فى الزهد كما فى تاريخ الخلفاء للسيوطى ص ٧٠.

١٦٣

يكن من كنانة ولا من أهل لغتها؟ بل هو أسديٌّ من بني ثعلبة، ولم يكن أميره يتكلّم قبل ذلك اليوم بلغة كنانة.

وإن صحَّت المزعمة فلما ذا غضب أبو قتادة الأَنصاري على خالد وخالفه وتركه يوم ذاك وهو ينظر إليه من كثب، والحاضر يرى ما لا يراه الغائب؟

ولِماذا اعتذر خالد بانَّ مالكاً قال: ما أخال صاحبكم إلّا قال كذا وكذا؟

وهذا اعترافٌ منه بانَّه قتله غير أنَّه نحت على الرجل مقالاً، وهو من التعريض الذي لا يجوِّز القتل « بعد تسليم صدوره منه » عند الاُمَّة الإسلاميَّة جمعاء، والحدود تُدرأ بالشبهات.

ولِماذا رآه عمر عدوّاً لله، وقذَفه بالقتل والزنا؟ وإن لم يفتل ذلك ذؤابة(١) أبي بكر.

ولِماذا هتكه عمر في ملأ من الصحابة بقوله إيّاه: قتلتَ امرءاً مسلماً ثمَّ نزوت على امرأته، والله لأرجمنَّك بأحجارك؟.

ولِماذا رأى عمر رَهَقاً في سيف خالد وهو لم يقتل مالكاً وصحبه وإنَّما قتلتهم لغة كنانة؟

ولِماذا سكت خالد عن جوابه؟ وما أخرسه إلّا عمله، إنَّ الانسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره.

ولِماذا صدَّق أبو بكر عمر بن الخطاب في مقاله ووقيعته على خالد وما أنكر عليه غير أنَّه رآه متأوِّلاً تارةً، ونَحَت له فضيلةً اُخرى؟

ولِماذا أمر خالد بالرؤس فنصبت أثفيةً للقدور، وزاد وصمة على لغة كنانة؟

ولِماذا نزى على امرأة مالك، وسبى أهله، وفرَّق جمعه، وشتَّت شمله، وأباد قومه، ونهب ماله؟ أكلُّ هذه معرَّة لغة كنانة؟

ولِماذا ذكر المؤرِّخون انِّ مالكاً قُتل دون أهله محاماتاً عليها؟

ولِماذا أثبت المترجمون ذلك القتل الذريع على خالد دون لغة كنانة، وقالوا في

____________________

١ - مثل يضرب يقال: فتل ذؤابة فلان. أى أزاله عن رأيه.

١٦٤

ترجمة ضرار وعبد بن الأزور: إنِّه هو الذي أمره خالد بقتل مالك بن نويرة(١) وقالوا في ترجمة مالك: إنَّه قتله خالد. أو: قتله ضرارٌ صبراً بأمر خالد؟(٢) هذه أسؤلة توقف المعتذر موقف السَدِر، ولم يحر جواباً.

ما شأن أبناء السلف وقد غرَّرت بهم سكرة الشبق، وغالتهم داعية الهوى، وجاؤا لا يرقبون في مؤمن إلّاً ولا ذمَّة و اولئك هم المعتدون؟ فترى هذا يقتل مثل مالك ويأتي بالطامّات رغبةً في نكاح اُمِّ تميم.

وهذا يقتل سيِّد العترة أمير المؤمنين شهوةً في زواج قطام.

وآخر(٣) شنَّ الغارة على حيّ من بني أسد فأخذ امرأة جميلة فوطئها بهبة من أصحابه، ثمَّ ذكر ذلك لخالد فقال: قد طيَّبتها لك « كأنَّ تلكم الجنود كانت مجنَّدة لوطي النساء وفضِّ ناموس الحرائر » فكتب إلى عمر فأجاب برضخه بالحجارة(٤) .

وهذا يزيد بن معاوية يدسُّ إلى زوجة ريحانة رسول الله الحسن السبط الزكيِّ السمَّ النقيع لتقتلهَ ويتزَّوجها(٥) أو فعله معاوية لغاية له كما يأتي.

ووراء هؤلاء المعتدين قومٌ ينزِّه ساحتهم بأعذار مفتعلة كالتأويل والاجتهاد - وليتهما لم يكونا - وتخطأة لغة كنانة، والله يعلم ما تكنُّ صدورهم وما يعلنون، وإن حكمتَ فاحكم بينهم بالقسط إنَّ الله يحبُّ المقسطين.

الناحية الثانية

الثانية من الناحيتين التي يهمُّنا أن نولّي شطرها وجه البحث تسليط الخليفة أوَّلاً أمثال خالد وضرار بن الأزور وشارب الخمور وصاحب الفجور.(٦) على الأنفس والدماء، على الأعراض ونواميس الاسلام، وعهده إلى جيوشه في حرق أهل الردَّة

____________________

١ - الاستيعاب ١: ٣٣٨، أسد الغابة ٣: ٣٩، خزانة الادب للبغدادي ٢: ٩، الاصابة ٢: ٢٠٩.

٢ - الاصابة ٣: ٣٥٧، مرآت الجنان ١: ٦٢.

٣ - هو ضرار بن الازور زميل خالد بن الوليد وشاكلته فى النزو على الحرائر.

٤ - تاريخ ابن عساكر ٧: ٣١، خزانة الادب ٢: ٨، الاصابة ٢: ٢٠٩.

٥ - تاريخ ابن عساكر ٤: ٢٢٦.

٦ - تاريخ ابن عساكر ٧: ٣٠، خزانة الادب ٢: ٨، الاصابة ٢: ٢٠٩.

١٦٥

وقد عرفت النهي عنه في السنَّة الشريفة ص ١٥٥. وصفحه ثانياً عن تلكم الطامّات والجنايات الفاحشة كأن لم تكن شيئاً مذكوراً، فما سمعت اُذن الدنيا منه حولها ركزاً، وما حُكيت عنه في الانكار عليها ذأمة، وما رأى أحدٌ منه حَوَلا.

لِمَ لم يؤاخذ الخليفة خالداً بقتل مالك وصحبه المسلمين الأبرياء، وقد ثبت عنده كما يلوح ذلك عن دفاعه عنه ومحاماته عليه؟

لِمَ لم يقتصّ منه قصاص القاتل؟ ولم يُقم عليه جلدة الزاني؟ ولم يضربه حدَّ المفتري؟ ولم يعزَّره تعزيز المعتدي على ما ملكته أيدي اولئك المسلمين؟

لِمَ لم ير عزل خالد وقد كره ما فعله، وعرض الدية على متمم بن نويرة أخي مالك؟ وأمر خالداً بطلاق امرأة مالك كما في الإصابة ١ ص ٤١٥؟

دَع هذه كلّها ولا أقلَّ من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتوبيخ الرجل وعتابه على تلكم الجرائم، وأقلّ الانكار كما قال أمير المؤمنينعليه‌السلام : أن تلقى أهل المعاصي بوجوه مكفهرَّة.

ما للخليفة يتلعثم ويتلعذم في الدفاع عن خالد وجناياته؟ فيرى تارةً انَّه تأوّل وأخطأ، ويعتذر اُخرى بانَّه سيفٌ من سيوف الله، وينهي عمر بن الخطاب عن الوقيعة فيه، ويأمره بالكفِّ عنه وصرف اللسان عن مغايطته، ويغضب على أبي قتادة لانكاره على خالد كما في شرح ابن أبي الحديد ٤: ١٨٧.

ونحن نقتصر في البحث عن هذا الجانب على توجيه القارئ اليه، ولم نذهب به قُصاه، ولم نبتغ فيه مُداه، إذ لم نر أحداً تخفى عليه حزازة أيّ من العذرين، هلاّ يعلم متشرِّعٌ في الاسلام انَّ تلكم الطامّات والجرائم الخطيرة لا يتطرَّق اليها التأوّل والاجتهاد؟ ولا يسوغ لكلِّ فاعل تارك أن يتترَّس بأمثالهما في معرّاته، ويتدرَّع بها في أحناثه، ولا تُدرأ بها الحدود، ولا تطلّ بها الدماء، ولا تحلُّ بها حرمات الحرائر، و لا يرفض لها حكم الله في الأنفس والأعراض والأموال، ولم يضح الحاكم لمدَّعيها كما ادَّعى قدامة بن مظعون في شربه الخمر بأنَّه تأوَّل واجتهد فأقام عمر عليه الحدَّ وجلده ولم يقبل منه العذر. كما في سنن البيهقي ٨: ٣١٦ وغيره.

وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر عن محارب ين دثار: انَّ ناساً من أصحاب النبيِّ

١٦٦

صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شربوا الخمر بالشام وقالوا: شربنا لقول الله: ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناحٌ فيما طعموا. الآية. فأقام عمر عليهم الحدَّ(١) .

وجلد أبو عبيدة أبا جندل العاصي بن سهيل وقد شرب الخمر متأوِّلاً لقوله تعالى: ليس على الذين آمنوا وعملوا الصّالحات جناحٌ فيما طعموا. الآية: كما في الروض الانف للسهيلي ٢: ٢٣١.

وهل يرتاب أحدٌ في أنَّ سيفاً سَلّه المولى سبحانه لا يكون فيه قطُّ رهقٌ ولا شغب، ولا تُسفك به دماءٌ محرَّمة، ولا تُهتك به حرمات الله، ولا يُرهف لنيل الشهوات، ولا يُنضى للشبق، ولا يُفتك به ناموس الإسلام، ولا يحمله إلاّ يد اناس طيِّبين، و رجال نزهين عن الخنابة والعيث والفساد؟

فما خالد وما خطره حتّى يهبه الخليفة تلك الفضيلة الرابية ويراه سيفاً سلّه الله على أعداءه، وهو عدوُّ الله بنصّ من الخليفة الثاني كما مرَّ في ص ١٥٩؟ أليست هذه كلّها تحكّماً وسرفاً في الكلام، وزوراً في القول، واتّخاذ الفضائل في دين الله مهزئةً ومَجهلة؟

كيف يسعنا أن نعدَّ خالداً سيفا من سيوف الله سلّه على أعداءه؟ وقد ورد في ترجمته وهي بين أيدينا: أنَّه كان جبّاراً فاتكاً، لا يراقب الدين فيما يحمله عليه الغضب وهوى نفسه، ولقد وقع منه في حياة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع بني جذيمة بالغميصا أعظم ممّا وقع منه في حق مالك بن نويرة وعفا عنه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد أن غضب عليه مدَّة وأعرض عنه، وذلك العفو هو الذي أطمعه حتى فعل ببني يربوع ما فعل بالبطاح(٢) .

إن كان عفو النبيِّ الأعظم عن الرجل ما غضب عليه وأَخذه بذنبه، وأعرض عنه، ردحاً من الزمن أطمعه حتّى فعل ما فعل، فانظر ماذا يصنع صفح الخليفة عنه من دون أيِّ غضب عليه وإعراض عنه؟ وما الذي يأثِّر دفاعه عنه من الجرأة والجسارة، في نفس الرجل ونفوس مشاكليه من اُناس العيث والفساد، وشعب الشغب والفتن؟

أنَّى لنا أن نرى خالداً سيفاً سلّه الله على أعدائه وفي صفحة التاريخ كتاب أبي بكر

____________________

١ - الدر المنثور ٢: ٣٢١.

٢ - شرح ابن ابى الحديد ٤ ص ١٨٧.

١٦٧

إليه وفيه قوله: لعمري يا ابن امّ خالد! انَّك لفارغ تنكح النساء وبفناء بيتك دم ألف ومائتي رجل من المسلمين لم يجفف بعدُ(١) كتبه إليه لمـّا قال خالد لمجاعة: زوِّجني ابنتك فقال له مجاعة: مهلاً انَّك قاطع ظهري وظهرك معي عند صاحبك قال: ايُّها الرجل زوِّجني فزوَّجه فبلغ ذلك أبا بكر فكتب إليه الكتاب فلمّا نظر خالد في الكتاب جعل يقول: هذا عمل الاُعيسر. يعني عمر بن الخطاب.

وليست هذه بأوَّل قارورة كسرت في الاسلام بيد خالد، وقد صدرت منه لِدة هذه الفحشاء المنكرة على عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتبرّأصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من صنيعه. قال ابن اسحاق: بعث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيما حول مكة السرايا تدعو إلى الله عزَّ وجلَّ، ولم يأمرهم بقتال، وكان ممَّن بعث خالد بن الوليد، وأمره أن يسير بأسفل تهامة داعياً، ولم يبعثه مقاتلا، ومعه قبائل من العزب فوطئوا بني جذيمة ابن عامر فلمّا رآه القوم أخذوا السلاح، فقال خالد: ضعوا السلاح فأنَّ الناس قد أسلموا.

قال: حدَّثني بعض أصحابنا من أهل العلم من بني جذيمة قال: لمـّا أمرنا خالد أن نضع السلاح قال رجلٌ منّا يقال له جحدم(٢) : ويلكم يا بني جذيمة إنَّه خالد، والله ما بعد وضع السلاح إلّا الاسار، وما بعد الإسار إلّا ضرب الأعناق، والله لا أضع سلاحي أبداً قال: فأخذه رجالٌ من قومه فقالوا: يا جحدم! أتريد أن تسفك دمائنا إنَّ الناس قد أسلموا، ووضعوا السلاح، ووضعت الحرب، وأمن الناس؟ فلم يزالوا به حتّى نزعوا سلاحه، ووضع القوم السلاح لقول خالد، فلمّا وضعوا السلاح أمر بهم خالد عند ذلك فكُتِّفوا، ثمَّ عرضهم على السيف، فقتل مَن قتل منهم، فلمّا انتهى الخبر إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رفع يديه إلى السَّماء ثمَّ قال: أللّهم انِّي أبرأ إليك ممّا صنع خالد بن الوليد.

قال أبو عمر في الاستيعاب ١: ١٥٣ هذا من صحيح الأثر.

قال ابن هشام: حدَّث بعض أهل العلم عن ابراهيم بن جعفر المحمودي قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رأيت كأنِّي لقمتُ لقمة من حَيسْ(٣) فالتذذت طعمها فاعترض

____________________

١ - تاريخ الطبرى ٣ ص ٢٥٤، تاريخ الخميس ٣: ٣٤٣.

٢ - فى الاصابة جحدم. فى ١ ص ٢٢٧ وجذيم بن الحارث في ١ ص ٢١٨. والصحيح هو الاول

٣ - الحيس. بفتح فسكون أن يخلط السمن والتمر والاقط فيؤكل. والاقط: ما يعقد من اللبن ويجفف.

١٦٨

في حلقي منها شييءٌ حين ابتلعتها فأدخل عليٌّ يده فنزعه. فقال أبو بكر الصدِّيق رضي الله عنه: يا رسول الله! هذه سريَّة من سراياك تبعثها فيأتيك منها بعض ما تحبّ ويكون في بعضها اعتراض فتبعث عليّاً فيسهِّله.

قال ابن اسحاق: ثمَّ دعا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليَّ بن أبي طالب رضوان الله عليه فقال: يا عليّ! اخرج إلى هؤلاء القوم فانظر في أمرهم واجعل أمر الجاهليَّة تحت قدميك. فخرج عليُّ حتّى جاءهم ومعه مال قد بعث به رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فودى لهم الدماء وما اُصيب لهم من الأموال حتى انَّه لَيدى لهم ميلغة(١) الكلب إذا لم يبق شيىءٌ من دمٍ ولا مال إلّا وداه، بقيت معه بقيَّة من المال. فقال لهم عليُّ رضوان الله عليه حين فرغ منهم: هل بقي لكم (بقيَّة من) دم أو مال لم يود لكم؟ قالوا: لا. قال: فانِّي أعطيكم هذه البقيَّة من هذا المال احتياطاً لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ممّا لا يعلم ولا تعلمون، ففعل، ثمَّ رجع إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فاخبره الخبر، فقال: أصبت وأحسنت. قال: ثمَّ قام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فاستقبل القبلة قائماً شاهراً يديه حتى انّه ليرى ما تحت منكبيه يقول: أللّهم إنِّي أبرأ إليك ممّا صنع خالد بن وليد. ثلاث مرّات.

وقد كان بين خالد وبين عبد الرَّحمن بن عوف كلامٌ في ذلك فقال له عبد الرَّحمن ابن عوف: عملت بأمر الجاهليَّة في الإسلام(٢) وفي الاصابة: أنكر عليه عبد الله بن عمر وسالم مولى أبي حذيفة، وقد تُعدُّ هذه الفضيحة ايضاً من جنايات لغة كنانة كما في الاصابة ٢: ٨١.

فهذا الرَّهق والسرف في سيف خالد على عهد أبي بكر من بقايا تلك النزعات الجاهليَّة، وهذه سيرته من أوَّل يومه، فأنَّى لنا أن نعدَّه سيفاً من سيوف الله وقد تبرَّأ منه نبيُّ الاسلام الأعظم غير مرَّة، مستقبل القبلة شاهراً يديه وأبو بكر ينظر إليه من كَثَب.

____________________

١ - الميلغة: خشبة تحفر ليلغ فيها الكلب.

٢ - سيرة ابن هشام ٤ ص ٥٣ - ٥٧، طبقات ابن سعد ط مصر رقم التسلسل ٦٥٩، صحيح البخارى شطرا منه فى كتاب المغازى باب بعث خالد الى بنى جذيمة، تاريخ ابى الفدا ج ١ ص ١٤٥، اسد الغابة ٣: ١٠٢، الاصابة ١ ص ٣١٨، ج ٢ ص ٨١.

١٦٩

- ١١ -

ثلاثةٌ و ثلاثةٌ و ثلاثةٌ

عن عبد الرَّحمن بن عوف قال: إنَّه دخل على أبي بكر الصدِّيق رضي الله عنه في مرضه الذي توفّي فيه فأصابه مهتمّاً، فقال له عبد الرحمن: أصبحت والحمد لله بارئاً فقال أبو بكر رضي الله عنه: أتراه؟ قال نعم: إنِّي ولَّيت أمركم خيركم في نفسي فكلُّكم ورم أنفه من ذلك يريد أن يكون الأمر له دونه، ورأيتم الدنيا قد أقبلت ولّما تقبل وهي مقبلة حتى تتَّخذوا ستور الحرير، ونضائد الديباج، وتألموا الاضطجاع على الصوف الأذري كما يألم أحدكم أن ينام على حسك، والله لإن يقدم أحدكم فتضرب عنقه في غير حدّ خيرٌ له من أن يخوض في غمرة الدنيا، وأنتم أوَّل ضالّ بالناس غداً فتصدّونهم عن الطريق يميناً وشمالاً، يا هادي الطريق إنَّما هو الفجر أو البحر. فقلت له: خفِّض عليك رحمك الله، فإنَّ هذا يهيضك في أمرك، إنَّما الناس في أمرك بين رجلين: إمّا رجلٌ رأى ما رأيت فهو معك. وإمّا رجلٌ خالفك فهو مشيرٌ عليك وصاحبك كما تحبّ، ولا نعلمك أردت إلّا خيراً، ولم تزل صالحاً مصلحاً، وإنَّك لا تأسى على شيىء من الدنيا. قال أبو بكر رضي الله عنه: أجل أنّي لا آسي على شيىء من الدنيا إلّا على ثلاث فعلتهنَّ وددت انّي تركتهنَّ.

وثلاث تركتهنَّ وددت انّي فعلتهنَّ. وثلاث وددت انّي سألت عنهنَّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

فأمّا الثلاث اللّاتي وددت انِّي تركتهنَّ: فوددت انِّي لم أكشف بيت فاطمة عن شيء وإن كانوا قد غلقوه على الحرب. ووددت انِّي لم أكن حرقت الفجاءة السلمي وأنِّي كنت قتلته سريحاً، أو خلّيته نجيحاً. ووددت إنِّي يوم سقيفة بني ساعدة كنت قذفت الأمر في عنق أحد الرجلين - يريد عمر وأبا عبيدة - فكان أحدهما أميراً وكنت وزيراً

وأما اللّاتي تركتهنَّ فوددت انِّي يوم أتيت بالاشعث بن قيس أسيراً كنت ضربت عنقه، فإنَّه تخيّل إليَّ انّه لا يرى شرّاً إلّا أعان عليه. ووددت انِّي حين سيَّرت خالد بن الوليد إلى أهل الرَّدة كنت أقمت بذي القصَّة فإن ظفر المسلمون ظفروا، وإن

١٧٠

هُزموا كنت بصدد لقاء أو مدد. ووددت انِّي إذا وجَّهت خالد بن الوليد إلى الشام كنت وجَّهت عمر بن الخطاب إلى العراق، فكنت قد بسطت يدي كلتيهما في سبيل الله. ومدَّ يديه.

ووددت انِّي كنت سألت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمن هذا الأمر؟ فلا ينازعه أحدٌ، ووددت انِّي كنت سألته هل للأنصار في هذا الأمر نصيب؟ ووددت انِّي كنت سألته عن ميراث ابنة الأخ والعمَّة فإنَّ في نفسي منهما شيئاً.

أخرجه أبو عبيد في الأموال ص ١٣١، والطبري في تاريخه ٤ ص ٥٢، وابن قتيبة في الامامة والسياسة ١ ص ١٨، والمسعودي في مروج الذهب ١: ٤١٤، وابن عبد ربِّه في السد الفريد ٢: ٢٥٤.

والاسناد صحيحٌ رجاله كلّهم ثقاتٌ أربعة منهم من رجال الصِّحاح الستِّ.

قال الأميني: إنَّ في هذا الحديث اموراً تسعة، ثلاثة منها فات الخليفة فقهها يوم عمل بها، وقد بسطنا القول في إحراق الفجاءة منها.

وأمّا تمنّي قذف الأمر في عنق أحد الرجلين فإنَّه ينمُّ عن أنَّ الخليفة انكشف له في اُخريات أيّامه انَّ ما ناء به من الأمر لم يكن على القانون الشرعيِّ في الخلافة والوصيَّة، لأنَّ المخلّف والموصي يجب أن يكون هو المعيِّن لمن ينهض بأمره من بعده، وهو الذي تنبَّه له الخليفة الثاني بعد ردحٍ من الزمن فقال: كانت بيعة أبي بكر فلتة كفلتة الجاهليَّة وقى الله شرَّها فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه(١) .

ولا أدري أنَّ ما تنبّها له هل هو قصورٌ في المختار « بالفتح » أو فيه « بالكسر » أو فيهما معاً؟ أو في كون الاختيار موجباً لتعيين الخليفة؟ وأيّاً ما أراد فلنا فيه المخرج.

وهؤلاء زمر الأنبياء والرسل لم يعدهم التنصيص بالخليفة من بعدهم، ولن انتخبت اُممهم خلفاء لهم.

وهل هنا لك ذو حجىً يزعم أنَّ وصاية الفقيد المبيحة للتصرُّف فيما تركه من بعده موكولةٌ إلى اناس أجانب لا يعرفون ما يرتأيه في شئونه، بعداء عن مغازيه وما يروقه في ماله وأهله، والفقيد عاقلٌ رشيدٌ يعرف الصالح من غيره، ويعلم بنوايا مَن

____________________

١ - راجع الجزء الخامس ص ٣٧٠ ط ٢ وهذا الجزء ص ٧٩.

١٧١

يلتاث به، ومَن يحدوه الجشع، وترقل به النهمة، ويستفزُّه الطمع، أفتراه والحالة هذه يترك الوصيَّة؟ فيدع ما تركه اُكلة للآكل؟ ومطمعاً للناهب؟ لا.

لا يفعل ذلك وهو يريد خيراً بآله وصلاحاً في ماله، وعلى ذلك جرت سنَّة المسلمين منذ عهد الصحابة إلى يومنا الحاضر، وأقرَّته الشريعة الإسلاميَّة، وشرّعت للوصايا أحكاماً، وجاء في الصحيحين(١) عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم انَّه قال: ما حقَّ امرئ مسلم له شىء يوصى فيه يبيت ليلتين إلّا ووصيَّته مكتوبةٌ عنده. كذا في لفظ البخاري، وفي لفظ مسلم: يبيت ثلاث ليال، قال ابن عمر: ما مرَّت عليَّ ليلة منذ سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال ذلك إلّا وعندي وصيّتي. قال النووي في رياض الصالحين ١٥٦: متَّفقٌ عليه.

وصّى الإلـ~ـه وأوصت رسله فلذا

كان التأسّي بهم من أفضل العملِ

لولا الوصيَّة كان الخلق في عمَه

وبالوصيَّة دام الملك في الدُّولِ

فاعمل عليها ولا تهمل طريقتها

إنَّ الوصيَّة حكم الله في الأزلِ

ذكرت قوماً بما أوصى الإلـ~ـه به

وليس إحداث أمر في الوصيَّة لي(٢)

فإذا كانت الوصية ثابتة في حطام زائل؟ فما بالها تنفى في خلافة راشدة، وشريعة خالدة، مكتفّلة بصلاح النفوس والنواميس والأموال والأحكام والأخلاق والصالح العام والسَّلام والوئام؟ ومن المسلّم قصور الفهم البشريِّ العاديِّ عن غايات تلكم الشئون فلا منتدح والحالة هذه عن أن يعيِّن الرسول الأمين عن ربِّه خليفته من بعده ليقتصَّ أثره في اُمَّته.

وقد مرَّ في صفحة ١٣٢ رأي عائشة وعبد الله بن عمر ومعاوية وحديث الناس بأنَّ راعي إبل أو غنم أو قيّم أرض لأيِّ أحد لا يسعهم ترك رعيتهم هملاً، ورعية الناس أشدّ من رعية الإبل والغنم فالاُمَّة لماذا صفحت يوم السقيفة عن هذا الحكم المتسالم عليه بينها؟ ولِماذا نبأت عنه الأسماع؟ وخرست الألسن؟ وذهلت الأحلام عنه يوم ذاك، ثمَّ حدَّث به الناس ونبَّأته الاُمَّة؟ ولماذا ترك النبيُّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اُمَّته سُدىً هملاً؟ وفتح بذلك أبواب الفتن المضلّة المدلهمَّة؟ واستحقر اُمَّته ورأى

____________________

١ - صحيح البخارى ٤: ٢ كتاب الوصية، وصحيح مسلم ٢: ١٠.

٢ - الجزء الاخير من الفتوحات المكية لابن العربى ص ٥٧٥.

١٧٢

رعيتها أهون من رعية الإبل والغنم؟ حاشا النبيّ الأعظم عن هذه الأوهام، فإنَّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وصّى واستخلف ونصَّ على خليفته وبلَّغ اُمَّته غير أنَّه عهد إلى وصيِّه من بعده: انَّ الاُمَّة ستغدر به بعده كما ورد في الصحيح(١) وقال له ايضاً: أما إنَّك ستلقى بعدي جهدا، قال (عليٌّ): في سلامة من ديني؟ قال: في سلامة من دينك(٢) و قال لعليٍّ: ضغائن في صدور أقوام لا يبدونها إلّا من بعدي(٣) وقال له: يا عليّ إنَّك ستبتلى بعدي فلا تقاتلنَّ. « كنوز الدقائق للمناوي ص ١٨٨ »

ثمَّ إنَّ الخليفة النادم لِماذا تمنَّى التسلّل عن الأمر يوم السقيفة؟ وقذفه في عنق أحد الرجلين: أبي عبيدة أو عمر؟ أكان ندمه عن حقٍّ وقع؟ فالحقُّ لا ندم فيه. و إن كان عن باطل سبق؟ فهو يهدم أساس الخلافة الراشدة.

ثمّ الّذي ودَّه من قذفه إلى عنق أحد الرجلين فإنّا لا نعرف وجهاً لتخصيصهما بالقذف وفي الصحابة أعاظم وذو وفضائل لا يبلغ الرجلان شأو أيّ منهم، وهذان بالنظر إلى ما عرفناه من أحوال الصحابة إن لم نقل إنَّهما من ساقتهم، فإنّا نقول بكلِّ صراحة إنَّهما لم يكونا من الأعالي منهم وفيهم من فيهم، وقبل جميعهم سيِّدنا أمير المؤمنينعليه‌السلام صاحب السوابق والمناقب والصهر والقرابة والغناء والعناء، وصاحب يوم الغدير، والأيام المشهودة، والمواقف المشهورة، نفس النبيِّ الأعظم بنصٍّ من الكتاب العزيز(٤) المطهَّر من كلِّ رجس بآية التطهير(٥) .

فهلاّ ودَّ أن يقذفه إليه؟ فيسير بالاُمَّة سيراً سُجحا، ويحملهم على المحجّة البيضاء، ويأخذ بهم الطريق المستقيم، ويجدونه هادياً مهديّاً، يدخلهم الجنَّة. كما أخبر بهذه كلّها النبيُّ الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد مرَّ شطرٌ منها في الجزء الأوّل صفحه ١٢، ١٣ ط ٢.

____________________

١ - مستدرك الحاكم ٣: ١٤٠، ١٤٢، وصححه هو والذهبى فى تلخيصه، تاريخ الخطيب ١ ص ٢١٦، تاريخ ابن كثير ٦: ٢١٩، كنز العمال ٦: ١٥٧.

٢ - مستدرك الحاكم ٣: ١٤٠ وصححه هو واقره الذهبى.

٣ - اخرجه ابن عساكر، والمحب الطبرى فى الرياض ٢: ٢١٠ نقلا عن احمد فى المناقب والحافظ الكنجى فى الكفاية ص ١٤٢، والخوارزمى فى المقتل ١: ٣٦.

٤ - بآية المباهلة فى سورة آل عمران: ٦١.

٥ - فى سورة الاحزاب: ٣٣.

١٧٣

وأمّا كشف بيت فاطمة سلام الله عليها فانَّه لا يروقنا ها هنا خدش العواطف بتلكم النوائب، غير انَّه سبقت منّا بعض القول في الجزء الثالث ص ١٠٢ - ١٠٤ ط ٢ وفي هذا الجزء ص ٧٧، ٨٦.

وفذلكة ذلك النبأ العظيم أنَّ الصدِّيقة سلام الله عليها قضت وهي واجدةٌ على من ارتكبه، وكانت صلوات الله عليها تدعو عليه بعد كلِّ صلاة صلّتها(١) .

وإن تعجب فعجبٌ انَّ القوم ارتكب ما ارتكب من تلكم الفظايع وارتبك فيها وملأ الاسماع هتاف النبيِّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقوله: من عرف هذه فقد عرفها، ومن لم يعرفها فهي بضعةٌ منِّي، هي قلبي وروحي التي بين جنبيَّ، فمن آذاها فقد آذاني.

بقوله: فاطمة بضعةٌ منِّي يريبني ما رابها، ويؤذيني ما آذاها.

وبقوله: فاطمة بضعةٌ منِّي فمن أغضبها فقد أغضبني.

وبقوله: فاطمة بضعةٌ منِّي يقبضني ما يقبضها، ويبسطني ما يبسطها(٢) .

وبقوله: فاطمة بضعةٌ مني يسرّني ما يسرّها(٣) .

وبقوله: يا فاطمة إنَّ الله يغضب لغضبكِ، ويرضى لرضاكِ(٤) .

وبهذا الهتاف تعلم أنَّ ندم الخليفة كان في محلّه، غير أنَّه نَدمِ ولات حينَ مندم، نَدمِ وقد قضى الأمر ووقع ما وقع، نَدمِ والصدِّيقة الطاهرة مقبورةٌ ومِلأ اهابها موجدة.

الثلاثة الوسطى

وأمّا الثلاثة من هاتيك الاُمور التسعة التي ندم عليها الخليفة على تركها فانَّها تعرب عن أنَّه ارتكب ما ارتكب فيها لا عن تروٍّ أو بصيرة في الأمر، أو إستنادٍ إلى حكم شرعيّ، حتى كشف له الخطأ فيها جمعاء، وقد وقعت فيها عظائم، وأعقبتها طامّات، و خليفة المسلمين يجب أن لا يرتكب ما يستتبعها، ولا يفعل ما يوجب الندم في مغبَّته، و قصَّة الأشعث بن قيس تعرب عن أنَّ ندم الخليفة كان في محلّه، فأنَّ الرجل بعد ما ارتدَّ

____________________

١ - الامامة والسياسة ١: ١٤، رسائل الجاحظ ص ٣٠١، أعلام النساء ٣ ص ١٢١٥.

٢ - راجع الجزء الثالث من كتابنا هذا ص ٢٠، وسنوقفك على تفصيلها فى هذا الجزء انشاء الله

٣ - الاغاني ٨: ١٥٦.

٤ - راجع الجزء الثالث من كتابنا هذا ص ١٨٠ ط ٢، وسنفصل فيه القول انشاء الله.

١٧٤

وأتى بمعرّات وقاتل المسلمين واُخذ واُتي به أسيراً إلى الخليفة فقال: ماذا تراني أصنع بك؟ فإنك قد فعلت ما علمت.

قال: تمنُّ عليَّ فتفكَّني من الحديد، وتزوِّجني اختك، فانِّي قد راجعت وأسلمت. فقال أبو بكر: قد فعلت فزوَّجه اُمّ فروة ابنة أبي قحافة، فاخترط سيفه ودخل سوق الإبل فجعل لا يرى جملاً ولا ناقة إلّا عرقبه، فصاح الناس: كفر الأشعث. فلمّا فرغ طرح سيفه وقال: إنّي والله ما كفرت ولكن زوَّجني هذا الرجل اُخته ولو كنّا في بلادنا كانت وليمة غير هذه، يا أهل المدينة! كلوا، ويا أصحاب الابل! تعالوا خذوا شرواها، فكان ذلك اليوم قد شبِّه بيوم الأضحى وفي ذلك يقول وبرة بن قيس الخزرجي:

لقد أولم الكنديُّ يوم ملاكه

وليمة حمّال لثقل الجرائمِ

لقد سلَّ سيفاً كانُ مذ كان مغمداً

لدى الحرب منها في الطلا والجماجمِ

فأغمده في كلّ بكر وسابحٍ

وعير وبغل في الحشا والقوائمِ

فقل للفتى الكنديِّ يوم لقائه

ذهبت بأسنى مجد أولاد آدمِ

وقال الأصبغ بن حرملة الليثي متسخِّطاً لهذه المصاهرة:

أتيت بكنديٍّ قد ارتدَّ وانتهى

إلى غاية من نكث ميثاقه كفرا

فكان ثواب النكث إحياء نفسه

وكان ثواب الكفر تزويجه البِكرا

ولو أنَّه يأبى عليك نكاحها

وتزويجها منه لأمهرته مهرا

ولو أنَّه رام الزيادة مِثلها

لأنكحته عشراً وأتبعته عشرا

فقل لأبي بكر: لقد شنت بَعدها

قريشاً وأخملتَ النباهة والذِّكرا

أما كان في تيم بن مرَّة واحد

تُزوِّجه؟ لولا أردت به الفخرا؟

ولو كنت لمـّا أن أتاك قتلته

لأحرزتها ذكراً وقدَّمتها ذخرا

فأضحى يرى ما قد فعلت فريضة

عليك فلا حمداً حويت ولا أجرا(١)

الثلاثة الاخر

انَّ الثلاثة الاُخر التي تمنّى الخليفة أن يكون استعلمها من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فانَّها تنبأنا بقصوره في علم الدين، وإنَّه كان نابياً في فقهه، لا يعرف أحكام المواريث

____________________

١ - تاريخ الطبرى ٣: ٢٧٦، ثمار القلوب للثعالبى ص ٦٩، الاستيعاب: ١: ٥١، الكامل لابن الاثير ٢: ١٦٠، مجمع الامثال للميدانى ٢: ٣٤١، الاصابة ١: ٥١ و ج ٣: ٦٣٠.

١٧٥

التي يكثر ابتلاء خليفة المسلمين بها طبعاً، وإنَّه كان شاكّاً في أصل الخلافة هل هي بالنصِّ أو الاختيار؟ وعلى الثاني هل تخصّ المهاجرين فحسب؟ أو أنَّه يشاركهم فيها الأنصار؟ وعلى أيّ فهو في تسنّمه عرش الخلافة غير متيقّن بالرشد من أمره، ولا نُحكّم ها هنا غير ضميرك الحرّ، وليس في الحقِّ مغضبة.

ثمَّ إنّي لا أعرف لهذا التمنّي محصَّلاَ لأنَّه لو كان سألهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن ذلك لما كان يجيبه إلاّ بمثل قوله: من كنت مولاه فعليُّ مولاه. غ ج ١(١) .

وقوله: إنِّي تاركٌ فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي(٢) .

وقوله: إنِّي تارك فيكم خليفتين كتاب الله وأهل بيتي(٣) .

وقوله: عليٌ مني بمنزلة هارون من موسى إلّا أنَّه لا نبيَّ بعدي غ ٣: ١٩٩.

وقوله لعليّ: أما ترضى أن تكون منِّي بمنزلة هارون من موسى إلّا أنَّك لست بنبيّ، انَّه لا ينبغي أن أذهب إلّا وأنت خليفتي. غ ٣: ١٧٢.

وقوله: أوحي إليَّ في علي ثلاث: انَّه سيد المسلمين. وإمام المتَّقين. وقائد الغرّ المحجلين: مستدرك الحاكم ٣: ١٣٨.

وقوله: إن الله اطَّلع على أهل الأرض فاختار منه أباكِ فبعثه نبيّاً، ثمَّ اطَّلع الثانية فاختار بعلك فأوحى اليَّ فأنكحته واتَّخذته وصيّاً. غ ٢: ٣١٨ و ج ٣: ٢٣.

وقوله: عليٌ الصدَّيق الأكبر وفاروق هذه الاُمَّة، يفرق بين الحقِّ والباطل، ويعسوب المؤمنين، وهو بابي الذي أوتي منه، وهو خليفتي من بعدي. غ ٢: ٢١٣.

وقوله: عليٌّ راية الهدى، وامام أوليائي، ونور من أطاعني، والكلمة التي ألزمتها المتقين، من أحبَّه أحبَّني ومن أبغضه أبغضني. غ ٣: ١١٨.

وقوله: عليٌ أخي ووصيّي ووارثي وخليفتي من بعدي. غ ٢: ٢٧٩ - ٢٨١.

وقوله: عليٌ سيِّدٌ مبجَّل، مؤمل المسلمين، وأمير المؤمنين، وموضع سرِّي وعلمي، وبابي الذي يؤوى اليه، وهو الوصيُّ على أهل بيتي، وعلى الأخيار من اُمَّتي، وهو أخي في الدنيا والآخرة. غ ٣: ١١٦.

____________________

١ - هذا رمز كتابنا هذا (الغدير) فى هذا الجزء وبقية الاجزاء.

٢ و ٣ - مرّ الايعاز الى حديث الثقلين غير مرة وسنفصل القول فيه انشاء الله.

_١١_

١٧٦

وقوله: عليٌّ أخي ووزيري وخير من أترك بعدي. غ ٢: ٣١٣.

وقوله: عليٌّ مع الحقِّ والحقُّ مع علي لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض. غ ٣: ١٧٧.

وقوله: عليٌّ مع الحقِّ والحقُّ معه وعلى لسانه يدور حيثما دار عليٌّ. غ ٣: ١٧٨.

وقوله: عليٌّ مع القرآن والقرآن معه لا يفترقان حتّى يردا عليَّ الحوض. غ ٣: ١٨٠.

وقوله: عليٌّ منِّي وأنا منه، وهو وليُّ كلِّ مؤمن بعدي غ ٣: ٢٢، ٢١٥.

وقوله: عليٌّ مولى كلّ مؤمن بعدي ومؤمنة غ ١: ١٥، ٥١.

وقوله: عليٌّ أنزله الله منِّي بمنزلتي منه. غ ١: ٢٢.

وقوله: عليٌّ وليِّي في كلّ مؤمن بعدي، مسند أحمد ١: ٢٣١.

وقوله: عليٌّ منِّي بمنزلتي من ربِّي، السيرة الحلبيَّة ٣: ٣٩١.

وقوله: عليٌّ وليٌّ المؤمنين من بعدي. تاريخ الخطيب ٤: ٣٣٩.

وقوله: من كان الله ورسوله وليُّه فعليٌّ وليُّه. غ ١: ٣٨.

وقوله: لا يُبلّغ عنِّي إلّا أنا أو رجل منِّي. غ ٦: ٣٣٨ - ٣٥٠.

وقوله: ما من نبيٍّ إلّا وله نظير وعليٌّ نظيري. غ ٣: ٢٣.

وقوله: أنا وعليَّ حجَّة على اُمّتي يوم القيامة. تاريخ الخطيب ٢: ٨٨.

وقوله: من أطاع عليّاً فقد أطاعني، ومن عصى عليّاً فقد عصاني، مستدرك الحاكم ٣: ١٢١، ١٢٨.

كيف تمنَّى الخليفة ما تمنّى مع هذه النصوص؟ أو كان في الآذان وقرٌ يوم هتفصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بهاتيك الكلم الجامعة المعربة عن الخلافة بكلِّ ما يمكن من التعبير؟ أم أنَّ في القوم من تصامم عنها لأَمر دبِّر بليل.

أوَلم يكف الخليفة انَّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمـَّا عرض نفسه على القبائل وكان معه عليٌّ أمير المؤمنين ومعهما أبو بكر وبلغ بني عامر بن صعصعة ودعاهم إلى الله فقال له قائلهم: أرأيت إن نحن تابعناك على أمرك ثمَّ أظهرك الله على مَن خالفك، أيكون لنا الأمر من بعدك؟ قال: إنَّ الأمر إلى الله يضعه حيث يشاء(١) ؟

____________________

١ - مرّت مصادره فى هذا الجزء ص ١٣٤.

١٧٧

أفكان يزعم الخليفة: أنَّ النبيَّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي أناط الأمر بعده إلى المولى سبحانه ومشيئته كان لو سأله عن ذلك أجابه بالترديد بين اختيار الاُمَّة ولو لم تكتمل فيه شرايط الإجماع والإنتخاب الصحيح كما في البيعة الأولى؟ وبين وصيَّة الخليفة واستخلافه كما وقع في أمر الثاني؟ وبين الشورى مع إرهاب المخالف بالقتل كما كان في منتهى الثلاثة؟ لكنَّه لو كان يحسب ذلك لما ودَّ أن لو كان سألهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكان يعلم ايضاً انَّ الترديد في الجواب على فرضه إغراءٌ للاُمَّة بالفوضى، وفي ذلك مسرح لكل مدَّعٍ محقّ أو مبطل، ولاحتجَّ به كلّ ناعبٍ وناعقٍ حتّى تنتهي النوبة إلى الطلقاء وأبناء الطلقاء أمثال معاوية و يزيد وهلمَّ جرّا.

تحفّظ على كرامة

حذف أبو عبيد من الحديث ذكر الأمر الأوَّل من الثلاثة الاُول وهو: كشف بيت فاطمة وجعل مكانه قوله: فوددت انِّي لم أكن فعلت كذا وكذا - لخلّة ذكرها - فقال: لا اُريد اذكرها. وما حرَّف ما حرَّف إلّا تحفُّظاً على كرامة الخليفة، والأسف على انَّ غيره ما شاركه فيما فعل، فظهرت خيانته على ودائع التاريخ.

- ١٢ -

سؤال يهوديّ أبا بكر

عن أنس بن مالك قال: أقبل يهوديٌّ بعد وفاة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأشار القوم إلى أبي بكر فوقف عليه فقال: اُريد أن أسألك عن أشياء لا يعلمها إلاّ نبيٌّ أو وصيُّ نبيّ قال أبو بكر: سل عمّا بدا لك. قال اليهودي: أخبرني عمّا ليس لله، وعمّا ليس عند الله، وعمّا لا يعلمه الله. فقال أبو بكر: هذه مسائل الزنادقة يا يهوديّ! وهمَّ أبو بكر والمسلمون رضي الله عنهم باليهودي، فقال ابن عبّاس رضي الله عنهما: ما أنصفتهم الرجل. فقال أبو بكر: أما سمعت ما تكلَّم به؟ فقال ابن عبّاس إن كان عندكم جوابه وإلّا فاذهبوا به إلى عليّ رضي الله عنه يجيبه فانّي سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول لعليِّ بن أبي طالب: أللهم اهد قلبه، وثبّت لسانه، قال: فقام أبو بكر ومن حضره حتى أتوا عليَّ بن أبي طالب

١٧٨

فاستأذنوا عليه فقال أبو بكر: يا أبا الحسن! إنَّ هذا اليهودي سألني مسائل الزنادقة. فقال عليٌّ: من تقول يا يهودي؟ قال: أسألك عن أشياء لا يعلمها إلاّ نبيٌّ أو وصيُّ نبيّ. فقال له: قل. فردَّ اليهودي المسائل: فقال عليٌّ رضي الله عنه: أمّا لا يعلمه الله فذلك قولكم يا معشر اليهود! إنّ العزيز ابن الله، والله لا يعلم أنَّ له ولداً. وأمّا قولك: أخبرني بما ليس عند الله. فليس عنده ظلم للعباد، وأمّا قولك: أخبرني بما ليس لله فليس له شريك. فقال اليهوديُّ: أشهد أن لا إ~له إلا الله، وأنَّ محمّداً رسول الله، وأنّك وصيُّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال أبو بكر والمسلمون لعليّعليه‌السلام : يا مفرّج الكرب. « المجتنى لابن دريد ص ٣٥ » قال الأميني: إقرأ واحكم.

- ١٣ -

وفد النصارى وأسؤلتهم

أخرج الحافظ العاصمي عن سلمان الفارسي رضي الله عنه قال: لمـّا قبض النبيُّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اجتمعت النصارى إلى قيصر مالك الروم فقالوا له: أيّها الملك أنّا وجدنا في الإنجيل رسولاً يخرج من بعد عيسى إسمه أحمد وقد رمقنا خروجه وجائنا نعته فأشر علينا فانّا قد رضيناك لديننا ودنيانا قال: فجمع قيصر من نصارى بلاده مائة رجل وأخذ عليهم المواثيق أن لا يغدروا ولا يخفوا عليه من امورهم شيئاً وقال: وانطلقوا إلى هذا الوصيِّ الذي من بعد نبيِّهم فسلوه عمّا سئل عنه الأنبياء عليهم السَّلام وعمّا أتاهم به من قبل، والدلايل التي عرفت بها الأنبياء، فان أخبركم فآمنوا به وبوصيِّه واكتبوا بذلك إليَّ، وإن لم يخبركم فاعلموا انَّه رجلٌ مُطاع في قومه، يأخذ الكلام بمعانيه، ويردّه على مواليه، وتعرِّفوا خروج هذا النبيِّ. قال: فسار القوم حتّى دخلوا بيت المقدس واجتمعت اليهود إلى رأس جالوت فقالوا له مثل مقالة النصارى بقيصر، فجمع رأس جالوت من اليهود مائة رجل، قال سلمان فاغتنمت صحبة القوم فسرنا حتى دخلنا المدينة وذلك يوم عروبة(١) وأبو بكر قاعدٌ في المسجد رضي الله عنه يفتي الناس فدخلت عليه فأخبرته بالذي قدم له النصارى واليهود فأذن لهم بالدخول عليه فدخل عليه رأس جالوت

____________________

١ - يعنى يوم الجمعة وكان يسمى قديماً بيوم عروبة، ويوم العروبة. والافصح ترك الالف واللام.

١٧٩

فقال: يا أبا بكر إنّا قومٌ من النصارى واليهود جئناكم لنسألكم عن فضل دينكم فان كان دينكم أفضل من ديننا قبلناه وإلّا فديننا أفضل الأديان؟ قال أبو بكر: سل عمّا تشاء اُجبك إن شاء الله قال: ما أنا وأنت عند الله؟ قال أبو بكر: أمّا أنا فقد كنت عند الله مؤمناً وكذلك عند نفسي إلى الساعة ولا أدري ما يكون من بعد. فقال اليهودي: فصف لي صفة مكانك في الجنّة، وصفة مكاني في النار، لأرغب في مكانك وأزهد عن مكاني. قال: فأقبل أبو بكر ينظر إلى معاذ مرَّة وإلى ابن مسعود مرَّة، وأقبل رأس جالوت يقول لأصحابه بلغة اُمَّته: ما كان هذا نبيّاً: قال سلمان: فنظر إليَّ القوم، قلت لهم: أيّها القوم! ابعثوا إلى رجل لو ثنيتم الوسادة لقضى لأهل التوراة بتوراتهم، ولأهل الإنجيل بانجيلهم، ولأهل الزبور بزبورهم، ولأهل القرآن بقرآنهم، ويعرف ظاهر الآية من باطنها، وباطنها من ظاهرها.

قال معاذ: فقمت فدعوت عليَّ بن أبي طالب وأخبرته بالذي قدمت له اليهود والنصارى فأقبل حتّى جلس في مسجد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال ابن مسعود: وكان علينا ثوب ذلّ: فلمّا جاء عليُّ بن أبي طالب كشفه الله عنّا قال عليٌّ: سلني عمّا تشاء أخبرك إن شاء الله قال اليهودي: ما أنا وأنت عند الله؟ قال أمّا أنا فقد كنت عند الله وعند نفسي مؤمناً إلى الساعة فلا أدري ما يكون بعدُ. وأمّا أنت فقد كنت عند الله وعند نفسي إلى الساعة كافراً ولا أدري ما يكون بعدُ. قال رأس جالوت: فصف لي صفة مكانك في الجنَّة وصفة مكاني في النار فأرغب، في مكانك وأزهد عن مكاني قال: عليٌّ: يا يهودي! لم أرَ ثواب الجنَّة ولا عذاب النار فاُعرف ذلك، ولكن كذلك أعدَّ الله للمؤمنين الجنّة وللكافرين النار، فان شككت في شييء من ذلك فقد خالفتَ النبيَّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولست في شييء من الإسلام. قال: صدقت رحمك الله فإنَّ الأنبياء يوقنون على ما جاؤا به فإن صدقوا آمنوا، وإن خولفوا كفروا. قال: فأخبرني أعرفت الله بمحمَّد أم محمّداً بالله؟ فقال عليٌّ: يا يهودي! ما عرفت الله بمحمَّد ولكن عرفت محمّداً بالله لأنَّ محمَّداً محدودٌ مخلوقٌ وعبدٌ من عباد الله اصطفاه الله واختاره لخلقه وألهم الله نبيه كما ألهم الملائكة الطاعة، وعرَّفهم نفسه بلا كيف ولا شبه. قال صدقت قال: فاخبرني الربَّ في الدنيا أم في الآخرة؟ فقال عليٌّ: إنَّ « في » وعاءٌ فمتى ما كان بفي كان محدوداً ولكنه يعلم ما في الدنيا والآخرة، وعرشه في هواء الآخرة وهو محيطٌ بالدنيا، والآخرة بمنزلة القنديل في وسطه إن خليت يكسر، إن أخرجته لم يستقم

١٨٠