الغدير في الكتاب والسنة والأدب الجزء ٧

الغدير في الكتاب والسنة والأدب0%

الغدير في الكتاب والسنة والأدب مؤلف:
الناشر: دارالكتب الإسلامية
تصنيف: الإمامة
الصفحات: 417

الغدير في الكتاب والسنة والأدب

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة الشيخ الأميني
الناشر: دارالكتب الإسلامية
تصنيف: الصفحات: 417
المشاهدات: 185048
تحميل: 6038


توضيحات:

الجزء 1 المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11
المقدمة
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 417 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 185048 / تحميل: 6038
الحجم الحجم الحجم
الغدير في الكتاب والسنة والأدب

الغدير في الكتاب والسنة والأدب الجزء 7

مؤلف:
الناشر: دارالكتب الإسلامية
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مكانه هناك فكذلك الدنيا وسط الآخرة. قال: صدقت قال: فأخبرني الربّ يَحمل أو يُحمل؟ قال عليُّ بن أبي طالب: يَحمل قال رأس جالوت: فكيف؟ وإنّا نجد في التوراة مكتوباً ويحمل عرش ربِّك فوقهم يومئذ ثمانية. قال عليُّ: يا يهوديُّ: إنَّ الملائكة تحمل العرش، والثرى يحمل الهواء، والثرى موضوع على القدرة وذلك قوله تعالى: له ما في السموات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى. قال اليهوديُّ: صدقت رحمك الله. الحديث.

« زين الفتى في شرح سورة هل أتى للحافظ العاصمي »

(هلمَّ معي إلى الغلو)

هذه جملة ممّا وقفنا عليه من فتاوى أبي بكر وآرائه وهي على قلّتها تدلُّك على مكانته من علم الكتاب، وعرفان السنَّة، وفقه الشريعة، واحكام الدين، أوَ ليس من المغالاة إذن أن يُقال: عَلِم كلُّ ذي حظّ من العلم أنّ الذي كان عند أبي بكر من العلم أضعاف ما كان عند عليّ منه؟(١) .

أليس من المغالاة؟ أن يُقال: إنَّ المعروف انَّ الناس قد جمع الأقضية والفتاوى المنقولة عن أبي بكر وعمر وعثمان وعليّ فوجدوا أصوبها وأدلّها علىّ علم صاحبها امور أبي بكر ثمَّ عمر، ولهذا كان ما يوجد من الاُمور التي وجد نصٌّ يخالفها عن عمر أقلّ ممّا وجد عن عليّ، وأمّا أبو بكر فلا يكاد يوجد نصُّ يخالفه؟

أليس من المغالاة؟ أن يُقال: لم يكن أبو بكر وعمر ولا غيرهما من أكابر الصحابة يخصّان عليّاً بسؤال، والمعروف: أنَّ عليّاً أخذ العلم عن أبي بكر؟(٢) .

أليس من المغالاة أن يقال: إنَّ أبا بكر من أكابر المجتهدين بل هو أعلم الصحابة على الإطلاق؟ قال ابن حجر في الصواعق ص ١٩.

أليس من المغالاة؟ أن يقال: إنَّ أبا بكر أعلم الصحابة وأذكاهم، وكان مع ذلك أعلمهم بالسنَّة كما رجع إليه الصحابة في غير موضع، يبرز عليهم بنقل سنن عن النبيِّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يحفظها هو ويستحضرها عند الحاجة إليها ليست عندهم، وكيف لا يكون

____________________

١ - قاله ابن حزم فى الفصل ٤: ١٣٦. راجع ما مر فى الجزء الثالث ص ٩٥ ط ٢.

٢ - منهاج السنة لابن تيمية ٣: ١٢٨. راجع ما اسلفناه فى ج ٦ ص ٣٢٩ ط ٢.

١٨١

كذلك وقد واظب على صحبة الرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أوَّل البعثة الى الوفاة(١)

أليس من المغالاة؟ ما عزوه إلى النبيِّ الأقدس من قيلهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما صبَّ الله في صدري شيئاً إلّا صببته في صدر أبي بكر(٢) .

أليس من المغالاة؟ ما رووه عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم انَّه قال: رأيت كأنّي اُعطيت عسّاً مملوًّ البناً فشربت منه حتّى امتلأت، فرأيتها تجري في عروقي بين الجلد واللحم ففضلت منها فضلة فأعطيتها أبا بكر، قالوا: يا رسول الله! هذا علم أعطاكه الله حتّى إذا امتلأت ففضلت فضلة فأعطيتها أبا بكر، قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : قد أصبتم « الرياض النضرة ١: ١٠١ »

أليس من المغالاة؟ ما جاء به ابن سعد عن ابن عمر من انَّه سُئل عمَّن كان يفتي في زمن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال: أبو بكر وعمر ولا أعلم غيرهما.

راجع اسد الغابة ٣: ٢١٦، الصواعق ص ١٠، ٢٠ تاريخ الخلفاء للسيوطي ص ٣٥.

قال الأميني: ليتني أدري وقومي ما بال القوم؟ في نحت هذه الدعاوي الفارغة، واختلاق هذه الأكاذيب المكردسة، وزعق بسطاء الاُمَّة إلى المزالق والطامّات، و ردعهم عن مهيع الحقِّ، وجَدد الصِّدق في عرفان الرجال، ومقادير السلف.

أليست هذه الآراء تضادُّ نداه المشرِّعِ الأقدس وقوله لفاطمة: أما ترضين إنِّي زوَّجتكِ أوَّل المسلمين إسلاماً وأعلمهم علماً؟

وقوله لها: زوَّجتك خير اُمَّتي أعلمهم علماً.

وقوله: إنَّ عليّاً لأوَّل أصحابي إسلاماً وأكثرهم علماً.

وقوله: أعلم اُمَّتي من بعدي عليّ.

وقوله: أنا مدينة العلم وعليٌّ بابها.

وقوله: عليٌّ وعاء علمي.

وقوله: عليٌّ باب علمي.

وقوله: عليٌّ خازن علمي.

وقوله: عليٌّ عيبة علمي.

وقوله: أنا دار الحكمة وعليٌّ بابها.

____________________

١ - تأريخ الخلفاء للسيوطى ص ٢٩.

٢ - راجع الجزء الخامس من كتابنا هذا ص ٣١٦ ط ٢ وهذا الجزء ص ٨٧.

١٨٢

وقوله: أنا دار العلم وعليٌّ بابها.

وقوله: أنا ميزان العلم وعليٌّ كفَّتاه.

وقوله: أنا ميزان الحكمة وعليٌّ لسانه.

وقوله: أقضى اُمَّتي عليٌّ.

وقوله: أقضاكم عليّ(١) إلى أمثال هذه من الكثير الطيِّب،

أليست تلكم الآراء المجرَّدة تخالف ما أسلفناه في الجزء الثالث ص ٩٥ - ١٠١ وفي نوادر الأثر في الجزء السادس من أقوال الصحابة الأوّلين والتابعين باحسان في علم عليّ؟ نظراء عائشة. وعمر. ومعاوية. وابن عبّاس. وابن مسعود. وعديّ بن حاتم. وسعيد بن المسيب. وهشام بن عتبة. وعطاء وعبد الله بن حجل.

أنَّى يسوغ القول بأعلميَّة أيِّ أحد من الاُمَّة غير عليّ أمير المؤمنين بعد ما مرَّ في الجزء الثالث ص ١٠٠ من إجماع أهل العلم أنَّ عليّاًعليه‌السلام هو وارث علم النبيِّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دونهم. وما أسلفناه هناك من الصحيح الوارد عن مولانا أمير المؤمنين من قوله: والله إنِّي لأخوه ووليُّه وابن عمِّه ووارث علمه، فمن أحقُّ به منّي؟

ثمَّ أيُّ نُجفة من العلم كانت آية فضلة عسّ شربها الخليفة من يد النبيِّ الأعظم إن صحَّت الأحلام؟ أقوله في الأبّ؟ أم رأيه في الكلالة والجدِّ والجدَّتين والخلافة وغيرها؟ أبمثل هذه كان هو وصاحبه ويفتيان في حياة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟

وأيُّ صدرٍ هذا لم يك ينضح بشيء من العلم - والاناء ينضح بما فيه - بعد ما صبَّ فيه رسول الله كلّما صبَّ الله في صدرهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟.

وأنت جِدُّ عليم بأنَّ الأخذ بمجامع تلكم الصحاح المأثورة عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأقوال الصحابة والتابعين في علم أمير المؤمنينعليه‌السلام والجمع بينها وبين تلكم الآراء في علم أبي بكر يستلزم القول بأعلميَّته من رسول الله ايضاً بعد كونه وعليّ صلى الله عليهما وآلهما صنوين في الفضائل، بعد كون عليّ رديف أخيه الأقدس ونفسه في مآثره، بعد كونه وارث علمه وبابه وعيبته ووعاءه وخازنه، ولا أحسب كلَّ القوم ولاجلّهم يقول بذلك. نعم: مَن لم يتحاش عن الغلوِّ في أبي حنيفة والقول بأعلميَّته من رسول الله

____________________

١ - راجع الجزء الثالث من كتابنا هذا ص ٩٥ ط ٢، والجزء السادس ص ٦١ / ٨١ ط ٢.

١٨٣

صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في القضاء كما مرَّ في الجزء الخامس ص ٢٧٩ ط ٢ لا يكترث للقول بذلك في أبي بكر الأفضل من أبي حنيفة.

هذا هو الغلوُّ الممقوت الَّذي تصكُّ به المسامع لا ما تقول به الشيعة يا اتباع أبناء حزم وتيميَّة وكثير وجوزيَّة!

مظاهر علم الخليفة

وأوَّل مظهر من مظاهر علم الخليفة عند الباقلاني من المتقدِّمين كما في تمهيده ص ١٩١، وعند السيِّد أحمد زيني دحلان من المتأخِّرين كما في سيرته هامش الحلبيَّة ٣: ٣٧٦ هو إعلامه الناس بموت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحجاجه عمر بن الخطاب بقول العزيز الحكيم: و ما محمَّد إلّا رسولٌ قد خلت من قبله الرُّسل أفان مات أو قتل انقلبتم على‏ أعقابكم. الآية(١) .

ما أذهل الرجلين عن انَّ الأمر لم يعضل على أيِّ امرئ من الصحابة، وحاشاهم عن أن يكون هذا مبلغ علمهم، وقد كان حملة القرآن الكريم بأسرهم على علم من موتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أخذاً بما أجرى الله بين البشر من الطبيعة المطَّردة وقضى أجلاً وأجل مسمّى وما كان لنفس أن تموت إلّا باذن الله كتاباً مؤجَّلاً، ولكلِّ اُمَّة أجل فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون. وتمسُّكاً بالقرآن العظيم، ونصوصهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الكثيرة عليه في مواقف لا تحصى، أحفلها حجَّة الوداع ومن هنا سُمِّيت تلك الحجَّة بحجَّة الوداع.

ولم يكن إنكار عمر موتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لجهله بذلك، وقد قرأ عمر وبن زائدة عليه و على الصحابة في مسجد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الآية المذكورة قبل تلاوة أبي بكر إيّاها وأشفعها بقوله تعالى إنّك ميِّتُ وإنّهم ميِّتون(٢) فضرب الرجل عنها وعن قارئها صفحاً، وعمر وبن زائدة صحابيٌّ عظيم استخلفه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على المدينة ثلاث عشرة مرَّة في غزواته كما في الاصابة ٢ ص ٥٢٣.

وإنَّما كان إنكاره ذلك وإرهابه الناس لسياسة مدبَّرة، وذلك صرف فكرة الشعب

____________________

١ - آل عمران. آية: ١٤٤.

٢ - راجع تاريخ ابن كثير ٥: ٢٤٣، شرح المواهب للزرقانى ٨. ٢٨١.

١٨٤

عن الفحص عن الخليفة إلى أن يحضر أبو بكر وكان غائباً بالسُّنح(١) خارج المدينة، وكان الأمر دُبِّر بليل،

ألا ترى أنَّ غير واحد من أعلام القوم قد اعتذروا عن إنكار عمر موتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بغير الجهل فمنهم من قال: إنَّ ذلك كان لتشوّش البال، واضطراب الحال، والذهول عن جليّات الأحوال(٢) ومنهم من اعتذر بقوله: خَبَل عمر في وفاة النبيِّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فجعل يقول: إنَّه والله ما مات ولكنَّه ذهب إلى ربِّه(٣) .

(المظهر الثاني) وجاء ابن حجر من علم الخليفة بمظاهر اُخرى واحتجَّ بها على كونه أعلم الصحابة على الإطلاق. منها: ما أخرجه البخاري في صحيحه في صلح الحديبيَّة عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: فأتيت نبيَّ اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقلت: يا نبيَّ الله ألست نبيَّ الله حقاً؟ قال: بلى قلت: ألسنا على الحقٍّ وعدوُّنا على الباطل؟ قال: بلى.

قلت: فَلِم نعطي الدنيَّة في ديننا إذن؟ قال: إنِّي رسول الله ولست أعصيه، وهو ناصري. قلت: أو ليس كنتَ تحدِّثنا أنَّا سنأتي البيت ونطوف به؟ قال: بلى، أفأخبرتك انَّك تأتيه العام؟ قلت: لا. قال: فإنَّك آتيه ومطوِّف به. قال: فأتيت أبا بكر رضي الله عنه فقلت: يا أبا بكر: أليس هذا نبيُّ الله حقّاً؟ قال: بلى. قلت: ألسنا على الله وعدوّنا على الباطل؟ قال: بلى. قلت: فِلمَ نعطي الدنيّة في ديننا إذن. فقال: أيّها الرجل! انَّه رسول الله ولن يعصي ربّه وهو ناصره، فاستمسك بغرزه، فوالله انَّه على الحقِّ. فقلت: أليس كان يحدّثنا أنّا سنأتي البيت ونطوف به؟ قال: بلى فأخبرك انَّك تأتيه العام؟ قلت: لا. قال: فانَّك آتيه ومطوِّفٌ به.

قال الأميني: هل في هذه الرواية غير أنَّ أبا بكر كان مؤمناً بنبوَّة رسول الله، وبطبع الحال انَّ كلَّ من اعتنق هذا المبدء يرى انِّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يعصي ربّه وهو ناصره و أنَّ كلَّ ميعاد جاء به لا بدَّ وأن يقع في الأجل المضروب له إن كان موقَّتاً وإلّا فهو يقع

____________________

١ - تاريخ الطبرى ٣ ص ١٩٧، طبقات ابن سعد رقم التسلسل ط مصر: ٧٨٦، تفسير القرطبى ٤: ٢٢٣ عيون الاثر ٢: ٣٣٩.

٢ - شرح المقاصد للتفتازانى ٢: ٢٩٤.

٣ - عيون الاثر لابن سيد الناس ٣: ٣٣٩.

١٨٥

لا محالة في ظرفه الخاصِّ به، فلا يخالجه شكٌّ إذا لم يُعجّل.

هذه غاية ما يوصف به أبو بكر بهذا الحديث، وهو معنى يشترك فيه جميع المسلمين وليس من خاصَّته، فأيُّ دلالة فيه على كون أبي بكر أعلم الصحابة على الإطلاق؟ ولو كان عمر يسأل أيَّ صحابيّ بسؤاله هذا لما سمع إلّا لِدة ما أجاب به أبو بكر ومثل ما أجاب به رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكذلك المسلمون كلّهم إلى منصرم الدنيا، فانَّك لا تجد عند أحدهم ضميراً غير هذا، و اذا فاتحته بالكلام عن مثله فلا تسمع جواباً غيره، فهل فاتح عمر بن غير أبي بكر أحداً من الصحابة وسمع جواباً غير ما أجاب به؟ حتى يُستدلَّ به على أعلميَّته على الإطلاق أو على التقييد.

وهل كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في صدد بيان غامض من علومه لمـّا أجاب عمر حتّى يكون إذا وافقه أبو بكر في الجواب يصبح به أعلم الصحابة على الإطلاق؟

وابن حجر يعلم ذلك كلّه ولذلك تعمَّد باسقاط لفظ الرواية وقال في الصواعق ص ١٩: هو (ابو بكر) من أكابر المجتهدين بل هو أعلَم الصحابة على الإطلاق للأدلَّة الواضحة على ذلك منها: ما أخرجه البخاري وغيره انَّ عمر في صلح الحديبيَّة سأل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن ذلك الصلح وقال: علامَ نعطي الدنيّة في ديننا فأجابه النبيُّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثمَّ ذهب ألى أبي بكر فسأله عمّا سأل عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من غير أن يعلم بجواب النبيِّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأجابه بمثل ذلك الجواب سواء بسواء.ا ه.

يوهم ابن حجر انَّ هناك معضلةٌ كشفها أبو بكر، أو عويصةُ من العلوم حلَّها ممَّا يُعدّ الخوض فيه من الأدلَّة الواضحة على أعلميَّة صاحبه من الصحابة على الإطلاق فليفعل ابن حجر ما شاء فأنَّ نظّارة التنقيب رقيبةٌ عليه، والله من وراءه حسيب.

(المظهر الثالث) ومن الأدلَّة الواضحة عند ابن حجر على انَّ الخليفة أعلم الصحابة على الإطلاق ما روي في الصواعق ص ١٩ عن عايشة مرسلاً أنَّها قالت. لمـّا توفّي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اشرأبَّ النفاق، أي رفع رأسه، وارتدَّت العرب، وانحازت الأنصار، فلو نزل بالجبال الراسيات ما نزل بأبي لهاضها، أي فتتها، فما اختلفوا في لفظة إلّا طار أبي بعبأها وفصلها، قالوا: أين ندفن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟ فما وجدنا عند أحد في ذلك علماً فقال أبو بكر: سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول: ما من نبيّ يقبض إلّا دفن تحت مضجعه الذي مات فيه.

١٨٦

واختلفوا في ميراثه فما وجدنا عند أحد في ذلك علماً فقال أبو بكر: سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول: إنّا معشر الأنبياء لا نورث ما تركنا صدقة.

ثمَّ قال: قال بعضهم: وهذا أوَّل اختلاف وقع بين الصحابة فقال بعضهم: ندفنه بمكّة مولده ومنشأه، وبعضهم بمسجده، وبعضهم بالبقيع، وبعضهم ببيت المقدس مدفن الأنبياء، حتّى أخبرهم أبو بكر بما عنده من العلم، قال ابن زنجويه: وهذه سنَّةٌ تفرَّد بها الصدِّيق من بين المهاجرين والأنصار ورجعوا اليه فيها.

قال الأميني: غاية ما في هذه المرسلة عن عايشة أنَّ أبا بكر روى حديثين عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شذَّت روايتهما عن الحضور في ذينك الموقفين، فان يكن بهما أبو بكر أعلم الصحابة على الإطلاق حتّى مَن لم يحضرهما ولو بنحو من التهجُّم والرجم بالغيب. فكيف بمن روى آلافاً مؤلَّفة من الأحاديث شذَّت عن أبي بكر روايتها جمعاء أو رواية أكثرها؟ و مع ذلك لا يُعدُّ أحدٌ منهم أعلمَ الصحابة أو أعلمَ من أبي بكر على الأقلِّ.

أليس هو صاحب نادرة الأبِّ والكلالة والجدِّ والجدتين إلى نوادر اُخرى؟ أليس هو الآخذ بالسنَّة الشريفة من نظراء المغيرة بن شعبة ومحمَّد بن مسلمة وعبد الرَّحمن بن سهيل إلى اُناس آخرين عاديِّين؟

كأنَّ ابن حجر يقيس الناس إلى نفسه ويحسبهم ولايدَ حَجَر لا يعقلون شيئاً و هم يسمعون، ألا يقول الرجل ما الذي فهمه الصحابة من هتاف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم هتف بقوله:

١ - ما بين قبري ومنبري روضةٌ من رياض الجنَّة قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

٢ - ما بين بيتي ومنبري روضةٌ من رياض الجنَّة. وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

٣ - ما بين حجرتي إلى منبري روضةٌ من رياض الجنَّة. وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

٤ - ما بين المنبر وبيت عائشة روضةٌ من رياض الجنَّة وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

٥ - من سرَّه أن يصلِّي في روضة من رياض الجنة فليصلِّ بين قبري ومنبري؟

وهذه الأحاديث أخرجها باللفظ الأوَّل البخاري(١) وأحمد، وعبد الرزاق،

____________________

١ - حكاه الانصارى عن نسخة من صحيحه فى تحفة البارى المطبوع فى ذيل ارشاد السارى ٤: ٤١٢.

١٨٧

وسعيد بن المنصور، والبيهقي في شعب الايمان، والخطيب، والبزار، والطبراني، و الدارقطني، وأبو نعيم، وسمويه، وابن عساكر من طريق جابر، وسعد بن أبي وقاص، و عبد الله بن عمر، وأبي سعيد الخدري.

راجع تاريخ الخطيب ١١: ٢٢٨، ٢٩٠، إرشاد الساري للقسطلاني ٤: ٤١٣ وصحَّح إسناد البزّار وقال: عند البزّار بسند رجاله ثقات، كنز العمال ٦: ٢٥٤، شرح النووي لمسلم هامش الارشاد ٦: ١٠٣ تحفة الباري في ذيل الإرشاد ٤: ٤١٢، وحكاه السمهودي في وفاء الوفا ١: ٣٠٣ عن الصحيحين، وصحَّحه من طريق البزّار.

وأخرجها باللفظ الثاني البخاري، ومسلم، والترمذي، وأحمد، والدارقطني، و أبو يعلى، والبزّار، والنسائي، وعبد الرزّاق، والطبراني، وابن النجّار، من طريق جابر وعبد الله بن عمر، وعبد الله المازني، وأبي بكر.

راجع صحيح البخاري كتاب الصَّلاة: باب فضل ما بين القبر والمنبر وكتاب الحجِّ، وصحيح مسلم كتاب الحجِّ، باب: فضل ما بين قبرهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومنبره، تيسير الوصول ٣: ٣٢٣، تمييز الطيب ص ١٣٩، فقال: متَّفقٌ عليه، كنوز الدقائق ص ١٢٩، كنز العمّال ٦: ٢٥٤، الجامع الصغير وصحَّحه وقال: حديثٌ متواترٌ كما في الفيض القدير ٥: ٤٣٣، تحفة الباري في ذيل الإرشاد ٤: ٤١٢، وفاء الوفا ١: ٣٠٢، ٣٠٣ وصحَّحه باسناد أحمد والبزّار.

وأخرجه باللفظ الثالث أحمد، والشاشي، وسعيد بن منصور، والخطيب من طريق جابر وعبد الله المازني كما في تاريخ الخطيب ٣: ٣٦٠، وكنز العمال ٦، ٢٥٤، وشرح النووي لمسلم هامش الإرشاد ٦: ١٠٣.

واللفظ الرابع تجده في الأوسط للطبراني من طريق أبي سعيد الخدري كما في ارشاد الساري ٤. ٤١٣، ووفاء الوفا ١: ٣٠٣.

والخامس منها أخرجه الديلمي من طريق عبيد الله بن لبيد كما في كنز العمال ٦ ص ٢٥٤.

وقال ابن أبي الحديد في شرحه ٣: ١٩٣: قلت: كيف اختلفوا في موضع دفنه وقد قال لهم: فضعوني على سريري في بيتي هذا على شفير قبري. وهذا تصريح بانَّه

١٨٨

دفن في البيت الذي جمعهم فيه وهو بيت عايشة. اهـ.

وهذا الحديث أخرجه ابن سعد، وابن منيع، والحاكم، والبيهقي، والطبراني في الأوسط من طريق ابن مسعود كما في الخصايص الكبرى للحافظ السيوطي ٢: ٢٧٦.

أيرى ابن حجر انَّ الصحابة بعد تلكم الأحاديث كانوا غير عارفين تلك الروضة المقدَّسة التي أنبأهم بها نبيُّهم الأقدس، وأمرهم بالصَّلاة عليها؟ أو يراهم إنَّهم عرفوا القبر والمنبر وما بينهما من الروضة، ووقفوا على حدودها من كَثَب أخذاً منهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثمّ اختلفوا في المدفن الشريف، فباح به أبو بكر فأصبح بذلك أعلمهم على الإطلاق؟

على انَّه لو صحَّت رواية الدفن لوجب أن يبوح بها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمن أوصاه بغسله ودفنه(١) لمن ولي غسله وكفنه وإجنانه(٢) لمن يعلم أنَّه يباشر دفنه ويلي إجنانه في منتصف الليل من دون حضور غير أهله كما مرَّ في ص ٧٥ لا الذي يغيب عن ذلك المشهد، وغلبت على أجفانه عند ذاك سنة الكرى، وتعيين المدفن من أهمِّ ما يوصى به عند كلِّ أحد فضلاً عن سيِّد البشر، وهذا الاعتبار يعاضد ما أخرجه أبو يعلى من حديث عايشة ايضاً وإن يعارض حديثها عن أبيها قالت: اختلفوا في دفنه (صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ) فقال عليٌّ: إنَّ أحبَّ البقاع إلى الله مكان قبض فيه نبيُّه.

(الخصايص الكبرى ٢: ٢٧٨) ولعلَّ تجاهَ هذا الحديث اُختلفت رواية الدفن. ولو كان عند دفن جثمان القداسة حوارٌ كما نصفه ابن حجر لتناقلته الألسن و تداولته السير والمدوَّنات نقلاً عن الصحابة الحضور يوم ذاك الواقفين على الجلبة، و المستمعين للّغط، ولَما اختصَّت بوصفه صفحات الصواعق أو ما يشاكله من كتب المتأخِّرين ولا تفرَّدت برواية شييء منها عائشة، وكيف تفرَّدت بها؟ وهي التي تقول: ما علمنا بدفن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتّى سمعنا صوت المساحي من جوف الليل(٣) .

ثمَّ إنَّ أوَّل مفنِّد لهذه السنَّة المزعوم اطّرادها هو مدفن أوَّل الأنبياء آدمعليه‌السلام فإنه توفي بمكّة ودفن عند الجبل الذي اهبط منه في الهند، وقيل بجبل

____________________

١ - طبقات ابن سعد رقم التسلسل ٧٩٨، ٨٠١، الخصايص الكبرى ٢: ٢٧٦، ٢٧٧.

٢ - طبقات ابن سعد ص ٧٩٨.

٣ - راجع ما مر فى ٧٥.

١٨٩

أبي قبيس بمكّة(١) .

وقد اشترى إبراهيم الخليل على نبيِّنا وآله وعليه‌السلام مغارة في حبرون(٢) من عفرون بن صخر فدفن فيها سارة ثمَّ دفن فيها هو وابنه إسحاق.

وتوفي يعقوبعليه‌السلام في مصر واستأذن يوسف سلام الله عليه ملك مصر في الخروج مع أبيه ليدفنه عند أهله فأذن له وخرج معه أكابر مصر فدفنه في المغارة بحبرون(٣) .

(المظهر الرابع) أمّا رواية الإرث فسرعان ما ناقض ابن حجر فيها نفسه. فتراه يحسب ها هنا في ص ١٩: أنَّها مختصَّةٌ بأبي بكر وهي من الأدلَّة الواضحة على أعلميَّته، وهو يعتقد في صفحة ٢١: انَّه رواها عليٌّ والعبّاس وعثمان وعبد الرحمن بن عوف والزبير وسعد وأمَّهات المؤمنين وقال: كلّهم كانوا يعلمون أنَّ النبيَّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال ذلك: وإنَّ أبا بكر إنَّما انفرد باستحضاره أوَّلاً ثمَّ استحضره الباقون.

ما هذا التهافت بين كلامي الرَّجل؟ وما أذهله أخيراً عمّا جاء به أوَّلاً؟ وهل الأعلميَّة مترشّحة من محض الاستحضار أوَّلاً؟ أو السبق إلى الهتاف به؟ وكلٌّ منهما كما ترى لا يفيد مزيَّة إلّا في الحفظ دون العلم.

ثمَّ لو كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال ذلك لوجب أن يفشيه إلى آله وذويه الذين يدَّعون الوراثة منه ليقطع معاذيرهم في ذلك بالتمسك بعمومات الإرث من آي القرآن الكريم والسنَّة الشريفة، فلا يكون هناك صخبٌ وحوارٌ تتعقَّبهما محنٌ وإحنٌ ولا تموت بضعته الطاهرة وهي واجدة على أصحاب أبيها(٤) ويكون ذلك كلّه مثاراً للبغضاء والعداء في الأجيال المتعاقبة بين أشياع كلّ من الفريقين وقدِ بُعث هوصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لكسح تلكم المعرّات وعقد الإخاء بين الاُمم والأفراد.

ألم يكنصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على بصيرة ممّا يَحدث بعده من الفتن الناشئة من عدم إيقاف

____________________

١ - تاريخ الطبرى ١: ٨٠، ٨١ العرائس للثعلبى ص ٢٩، الكامل لابن الاثير ١: ٢٢، تاريخ ابن كثير ١: ٩٨

٢ - فى تاريخ الطبرى: جيرون والصحيح: حبرون.

٣ - تاريخ الطبرى ١: ١٦١، ١٦٩، معجم البلدان ٣: ٢٠٨، تاريخ ابن كثير ١: ١٧٤. ١٩٧، ٢٢٠.

٤ - سيوافيك فى هذا الجزء تفصيل ذلك.

١٩٠

أهله وذويه على هذا الحكم المختصِّ بهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المخصِّص لشرعة الإرث؟ حاشاه. و عنده علم المنايا والبلايا والقضايا والفتن والملاحم.

وهل ترى أنَّ دعوى الصدِّيق الأكبر أمير المؤمنين وحليلته الصدِّيقة الكبرى. صلوات الله عليهما وآلهما على أبي بكر ما استولت عليه يده ممّا تركه النبيُّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من ماله كانت بعد علمٍ وتصديق منهما بتلك السنَّة المزعومة صفحاً منهما عنها لاقتناء حطام الدنيا؟ أو كانت عن جهلٍ منهما بما جاء به أبو بكر؟ نحن نقدِّس ساحتهما [أخذاً بالكتاب والسنَّة] عن علمٍ بسنَّة ثابتة والصفح عنها، وعن جهلٍ يربكهما في الميزان.

ولِماذا يُصدِّق أبو بكر في دعواه الشاذَّة عن الكتاب والسنَّة، فيما لا يُعلم إلّا من قِبَل ورثتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ووصيِّه الذي هتفصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم به وبوصايته من بدء دعوته في الأندية والمجتمعات؟(١) ولم تكن اُذنٌ واعية لدعوى الصدِّيقة وزوجها الطاهر بكون فدك نحلة لها من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهي لا تُعلم إلّا من قِبلهما؟ قال مالك بن جعونة عن أبيه انَّه قال: قالت فاطمة لأبي بكر: إنَّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جعل لي فدك فاعطني إيّاها، و شهد لها عليُّ بن أبي طالب، فسألها شاهداً آخر فشهدت لها اُمُّ أيمن: فقال: قد علمت يا بنت رسول الله! انَّه لا تجوز إلّا رجلين أو رجل وامرأتين وانصرفت.

وفي رواية خالد بن طهمان: إنَّ فاطمة رضي الله عنها قالت لأبي بكر رضي الله عنه: اعطني فدك فقد جعلها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لي فسألها البيِّنة فجاءت باُمِّ أيمن ورباح مولى النبيِّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فشهد لها بذلك فقال: إنَّ هذا الأمر لا تجوز فيه إلّا شهادة رجل وامرأتين(٢) .

ثمَّ مِمَّ كان غضب الصدِّيقة الطاهرة سلام الله عليها؟ وهي التي جاء فيها عن أبيها الأقدس: انَّ الله يرضى لرضاها ويغضب لغضبها(٣) أمِن حكم صَدعَ به والدها وما ينطق عن الهوى إن هو إلاّ وحيٌ يوحى؟ وحاشاها، أم لأنَّ ذلك الحكم الباتّ رواه عنه صدِّيق أمين يريد بثَّ حكم الشريعة وتنفيذه وهي مصدِّقة له؟ نحاشي ساحة البضعة

____________________

١ - راجع الجزء الثانى صفحة ٢٧٨ ط ٢.

٢ - فتوح البلدان للبلاذرى ص ٣٨.

٣ - راجع ج ٣ ص ٢٠ وسيأتيك فى هذا الجزء.

١٩١

الطاهرة بنصِّ آية التطهير عن هذه الخزاية، فلم يبق إلّا شقٌ ثالثٌ وهو: انَّها كانت تتَّهم الراوي، أو تعتقد خللاً في الرواية، وتراه حكماً خلاف الكتاب والسنَّة، وهذا الذي دعاها إلى أن لاثت خمارها على رأسها، واشتملت بجلبابها، وأقبلت في لمـَّة من حفدتها ونساء قومها تطأ ذيولها، ما تخرم مشيتها مشية رسول الله، حتى دخلت على أبي بكر وهو في حشد من المهاجرين والأنصار وغيرهم، فنيطت دونها ملاءة، ثم أنَّت أنَّة أجهش لها القوم بالبكاء، وارتجَّ المجلس، ثمَّ مهلت هنيهة حتى إذا سكن نشيج القوم، وهدأت فورتهم، إفتتحت كلامها بالحمد لله عزَّ وجلَّ والثناء عليه والصَّلاة على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . ثمَّ قالت ما قالت وفيما قالت: أنتم الآن تزعمون أن لا إرث لنا، أفحكم الجاهليَّة يبغون ومَن أحسنِ من الله حكماً لقوم يوقنون؟ يا بن أبي قحافة! أترث أباك ولا أرث أبي؟ لقد جئت شيئاً فريّا، فدونكها مخطومة مرحولة تلقاك يوم حشرك، فنعم الحَكَم الله، والزعيم محمَّد، والوعد القيامة، وعند الساعة يخسر المبطلون. ثمَّ انكفأت إلى قبر أبيهاصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالت:

قد كان بعدك أنباءٌ وهنبثة

لو كنت شاهدها لم تكثر الخطب

إنّا فقدناك فقد الأرض وابلها

واختلَّ قومك فاشهدهم ولا تغب

فليت بعدك كان الموت صادفنا

لمـّا قضيت وحالت دونك الكثب(١)

وهذا الذي تركها غضباء على مَن خالفها وتدعو عليه بعد كلِّ صلاة حتى لفظت نفسها الاخيرة صلّى الله عليها كما سيوافيك تفصيله.

وهل هذا الحكم مطّردٌ بين الأنبياء جميعاً؟ أو أنَّه من خاصَّة نبيِّناصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟ والأوَّل ينقضه الكتاب العزيز بقوله تعالى: وورث سليمان داود - النمل ١٦ - و قوله سبحانه عن زكريّا: فهب لي من لدنك وليّاً يرثني ويرث من آل يعقوب - مريم ٦ -.

ومن المعلوم أنِّ حقيقة الميراث إنتقال ملك الموروث إلى ورثته بعد موته بحكم المولى سبحانه، فحمل الآية الكريمة على العلم والنبوَّة كما فعله القوم خلاف الظاهر لأنَّ النبوَّة والعلم لا يورثان، والنبوَّة تابعةٌ للمصلحة العامَّة، مقدَّرة لأهلها من أوَّل

____________________

١ - بلاغات النساء لابن طيفور ص ١٢، شرح ابن ابى الحديد ٤: ٩٣، أعلام النساء ٣: ١٢٠٨.

_١٢_

١٩٢

يومها عند بارئها، والله أعلم حيث يجعل رسالته، ولا مدخل للنسب فيها كما لا أثر للدعاء والمسألة في اختيار الله تعالى أحداً من عباده نبيّاً والعلم موقوفٌ على من يتعرَّض له ويتعلّمه.

على انَّ زكريّا سلام الله عليه إنَّما سأل وليّاً من ولده يحجب مواليه « كما هو صريح الآية » من بني عمِّه وعصبته من الميراث، وذلك لا يليق إلّا بالمال، ولا معنى لحجب الموالي عن النبوَّة والعلم.

ثمَّ إنَّ اشتراطهعليه‌السلام في وليِّه الوارث كونه رضيّاً بقوله: واجعله ربِّ رضيّاً. لا يليق بالنبوَّة، إذا العصمة والقداسة في النفسيّات والملكات لا تفارق الأنبياء، فلا محصّل عندئذ لمسألته ذلك. نعم يتمُّ هذا في المال ومَن يرثه فإنَّ وارثه قد يكون رضيّاً وقد لا يكون.

وأمّا كون الحكم من خاصَّة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فالقول به يستلزم تخصيص عموم آي الإرث مثل قوله تعالى: يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظِّ الانثيين « النساء ١١ » وقوله سبحانه: وأولوا الأرحام بعضهم أولى‏ ببعض في كتاب الله « الأنفال ٧٥ » وقوله العزيز: إِن ترك خيراً الوصيَّة للوالدين والأقربين بالمعروف « البقرة ١٨٠ » ولا يسوغ تخصيص الكتاب إلا بدليل ثابت مقطوع عليه لا بالخبر الواحد الذي لم يصحَّ الأخذ بعموم ظاهره لمخالفته ما ثبت من سيرة الأنبياء الماضين صلوات الله على نبيِّنا وآله وعليهم.

لا بالخبر الواحد الذي لم يخبت اليه صدّيقة الاُمَّة وصدِّيقها الذي ورث علم نبيّها الأقدس، وعدَّه المولى سبحانه في الكتاب نفساً لنبيِّه صلى الله عليهما وآلهما.

لا بالخبر الواحد الذي لم يُنبَّأ عنه قطُّ خبيرٌ من الاُمَّة وفي مقدَّمها العترة الطاهرة وقد اختصَّ الحكم بهم وهم الّذين زُحزحوا به عن حكم الكتاب والسنَّة الشريفة، وحرموا من وراثة أبيهم الطاهر، وكان حقّاً عليهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يخبرهم بذلك، ولا يأخَّر بيانه عن وقت حاجتهم، ولا يكتمه في نفسه عن كلِّ أهله وذويه وصاحبته واُمَّته إلى آخر نَفَس لفظه.

لا بالخبر الواحد الذي جرَّ على الاُمَّة كلَّ هذه المحن والإحن، وفتح عليها

١٩٣

باب العداء المحتدم بمصراعيه، وأجَّج فيها نيران البغضاء والشحناء في قرونها الخالية، وشقَّ عصا المسلمين من اوَّل يومهم، وأقلق من بينهم السَّلام والوئام وتوحيد الكلمة. جزى الله محدِّثه عن الاُمَّة خيراً.

ثمَّ إن كان أبو بكر على ثقة من حديثه فِلَم ناقضه بكتاب كتبه لفاطمة الصدِّيقة سلام الله عليها، بفدك؟ غير أنَّ عمر بن الخطاب دخل عليه فقال: ما هذا؟ فقال: كتاب كتبته لفاطمة بميراثها من أبيها. فقال: ممّا ذا تنفق، على المسلمين وقد حاربتك العرب كما ترى؟ ثمَّ أخذ عمر الكتاب فشقَّه، ذكره سبط ابن الجوزي كما في السيرة الحلبية ٣: ٣٩١. وإن كان صحَّ الخبر وكان الخليفة مصدَّقاً فيما جاء به فما تلكم الآراء المتضاربة بعد الخليفة؟ وإليك شطراً منها:

١ – لمـّا ولي عمر بن الخطاب الخلافة ردَّ فدكاً إلى ورثة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فكان عليُّ بن أبي طالب والعباس بن عبد المطلب يتنازعان فيها. فكان عليٌّ يقول: إنَّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جعلها في حياته لفاطمة. وكان العبّاس يأبى ذلك ويقول: هي ملك رسول الله و أنا وارثه. فكانا يتخاصمان إلى عمر، فيأبى أن يحكم بينهما ويقول: أنتما أعرف بشأنكما أمّا أنا فقد سلّمتها إليكما.

راجع صحيح البخاري كتاب الجهاد السير باب فرض الخمس ج ٥: ٣ - ١٠، صحيح مسلم كتاب الجهاد والسير، باب: حكم الفيء، الأموال لأبي عبيد ص ١١ ذكر حديث البخاري وبتره، سنن البيهقي ٦: ٢٩٩، معجم البلدان ٦: ٣٤٣، تفسير ابن كثير ٤: ٣٣٥، تاريخ ابن كثير ٥: ٢٨٨، تاج العروس ٧: ١٦٦.

(لفت نظر) نحن لا نناقش فيما نجده من المخازي في أحاديث الباب كأصل التنازع المزعوم بين عليّ والعبّاس، وما جاء في لفظ مسلم في صحيحه من قول العبّاس لعمر: يا أمير المؤمنين! اقض بيني وبين هذا الكاذب الآثم الغادر الخائن.

أهكذا كان العبّاس يقذف سيِّد العترة الطاهر المطهَّر بهذا السباب المقذع وبين يديه آية التطهير وغيرها ممّا نزل في عليّ أمير المؤمنين في آي الكتاب العزيز؟ فما العبّاس وما خطره عندئذ؟ وبماذا يُحكم عليه أخذاً بقول النبيِّ الطاهر: من سبَّ علياً فقد سبَّني، و

١٩٤

من سبَّني فقد سبَّ الله، ومن سبَّ الله كبَّه الله على منخريه في النار؟(١)

لاها الله نحن نحاشي العبّاس عن هذه النسب المخزية، ونرى القوم راقهم سبُّ مولانا أمير المؤمنين فنحتوا هذه الأحاديث وجعلوها للنيل منه قنطرة ومعذرة والله يعلم ما تكنُّ صدورهم وما يعلنون. وإلى الله المشتكى.

٢ - أقطع مروان بن الحكم فدكاً في أيّام عثمان بن عفان كما في سنن البيهقي ٦: ٣٠١ وما كان إلّا بأمر من الخليفة.

٣ – لمـّا ولي معاوية بن أبي سفيان الأمر أقطع مروان بن الحكم ثلث الفدك، وأقطع عمرو بن عثمان بن عفان ثلثها، وأقطع يزيد بن معاوية ثلثها، وذلك بعد موت الحسن بن عليّ فلم يزالوا يتداولونها حتّى خلصت لمروان بن الحكم أيّام خلافته فوهبها لعبد العزيز إبنه فوهبها عبد العزيز لابنه عمر بن عبد العزيز.

٤ – ولمـّا ولي عمر بن عبد العزيز الخلافة خطب فقال: إنّ فدَك كانت ممّا أفاء الله على رسوله ولم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب فسألته إيّاها فاطمة فقال: ما كان لك أن تسأليني وما كان لي أن أعطيك فكان يضع ما يأتيه منها في أبناء السبيل، ثمَّ ولي أبو بكر وعمر وعثمان وعليّ فوضعوا ذلك بحيث وضعه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثمِّ ولي معاوية فأقطعها مروان بن الحكم فوهبها مروان لأبي ولعبد الملك فصارت لي وللوليد وسليمان فلمّا ولي الوليد سألته حصَّته منها فوهبها لي، وسألت سليمان حصَّته منها فوهبها لي فاستجمعتها، وما كان لي من مال أحبُّ إليَّ منها، فاشهدوا أنِّي قد رددتها إلى ما كانت عليه.

٥ - فكانت فدك بيد أولاد فاطمة مدَّة ولاية عمر بن عبد العزيز فلمّا ولي يزيد بن عبد الملك قبضها منهم فصارت في أيدي بني مروان كما كانت يتداولونها حتى انتقلت الخلافة عنهم.

٦ – ولمـّا ولي أبو العباس السفّاح ردَّها على عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي أمير المؤمنين.

٧ - ثمَّ لمـّا ولي أبو جعفر المنصور قبضها من بني حسن.

____________________

١ - مر الايعاز اليه فى الجزء الثاني ص ٢٩٩ ط ٢ وسيوافيك تفصيل مصادره انشاء الله.

١٩٥

٨ - ثمَّ ردَّها المهدي بن المنصور على ولدِ فاطمة سلام الله عليها.

٩ - ثمَّ قبضها موسى بن المهدي وأخوه من أيدي بني فاطمة فلم تزل في أيديهم حتّى ولي المأمون.

١٠ - ردّها المأمون على الفاطميِّين سنة ٢١٠ وكتب بذلك إلى قُثم بن جعفر عامله على المدينة:

أمّا بعد: فإنَّ أمير المؤمنين بمكانه من دين الله وخلافة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والقرابة به، أولى مَن استنَّ بسنّته، ونفَّذ أمره، وسلّم لمن منحه منحةً، وتصدَّق عليه بصدقة منحته وصدقته وبالله توفيق أمير المؤمنين وعصمته، وإليه - في العمل بما يقرِّبه إليه - رغبته، وقد كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أعطى فاطمة بنت رسول الله فدك، وتصدَّق بها عليها، وكان ذلك أمراً ظاهراً معروفاً لا اختلاف فيه بين آل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لم تزل تدَّعي منه ما هو أولى به من صُدِّق عليه، فرأى أمير المؤمنين أن يردُّها إلى ورثتها، ويسلّمها إليهم تقرُّباً إلى الله تعالى باقامة حقِّه وعدله، وإلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بتنفيذ أمره وصدقته، فأمر باثبات ذلك في دواوينه، والكتاب إلى عمّاله، فلئن كان ينادى في كلِّ موسم بعد أن قبض نبيُّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يذكر كلَّ من كانت له صدقة أو هبة أو عدة ذلك، فيُقبل قوله، وتنفَّذ عدته، إنَّ فاطمة رضي الله عنها لأولى بأن يُصدَّق قولها فيما جعل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لها.

وقد كتب أمير المؤمنين إلى المبارك الطبري مولى أمير المؤمنين يأمره بردِّ فدك على ورثة فاطمة بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بحدودها وجميع حقوقها المنسوبة اليها، وما فيها من الرقيق والغلّات وغير ذلك، وتسليمها إلى محمَّد بن يحيى بن الحسين بن زيد بن عليِّ بن الحسين بن عليِّ بن أبي طالب، ومحمَّد بن عبد الله بن الحسن بن عليِّ بن الحسين بن عليِّ بن أبي طالب، لتولية أمير المؤمنين إيّاهما القيام بها لأهلها.

فاعلم ذلك من رأي أمير المؤمنين، وما ألهمه الله من طاعته، ووفَّقه له من التقرّب اليه وإلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأعلمه مَنْ قِبَلك، وعامل محمَّد بن يحيى ومحمَّد بن عبد الله بما كنت تعامل به المبارك الطبري، وأعنهما على ما فيه عمارتها ومصلحتها ووفور غلاّتها إن شاء الله، والسلام.

١٩٦

وكتب يوم الأربعاء لليلتين خلتا من ذي القعدة سنة ٢١٠ ه‍.

١١ – ولمـّا استخلف المتوكّل على الله أمر بردّها إلى ما كانت عليه قبل المأمون.

راجع فتوح البلدان للبلاذري ص ٣٩ - ٤١، تاريخ اليعقوبي ٣: ٤٨، العقد الفريد ٢: ٣٣٣، معجم البلدان ٦: ٣٤٤، تاريخ ابن كثير ٩: ٢٠٠ وله هناك تحريف دعته إليه شنشنة أعرفها من أخزم، شرح ابن أبي الحديد ٤: ١٠٣، تاريخ الخلفاء للسيوطي ص ١٥٤، جمهرة رسائل العرب ٣: ٥١٠، أعلام النساء ٣: ١٢١١.

كلُّ هذه تضادُّ ما جاء به الخليفة من خبره الشاذِّ عن الكتاب والسنَّة، فأنَّى لابن حجر ومن لفَّ لفَّه أن يعدَّه من الأدلَّة الواضحة على علمه وهذا شأنه، فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا؟.

التمسك بالافائك

والعجب العجاب قول ابن حجر في الصواعق ص ٢٠: لا يقال بل عليٌّ أعلم من أبي بكر للخبر الآتي في فضائله: أنا مدينة العلم وعليٌّ بابها. لأنّا نقول: سيأتي انَّ ذلك الحديث مطعونٌ فيه، وعلى تسليم صحَّته أو حسنه فأبو بكر محرابها. ورواية فمن أراد العلم فليأت الباب لا تقتضي الأعلميَّة فقد يكون غير الأعلم يُقصد لما عنده من زيادة الايضاح والبيان والتفرُّغ للناس بخلاف الأعلم. على انَّ تلك الرواية معارضة بخبر الفردوس: أنا مدينة العلم، وأبو بكر أساسها، وعمر حيطانها، وعثمان سقفها، وعليُّ بابها. فهذه صريحةٌ في أنَّ أبا بكر أعلمهم، وحينئذ فالأمر بقصد الباب إنَّما هو لنحو ما قلناه لا لزيادة شرفه على ما قلته لما هو معلومٌ ضرورة انَّ كلاًّ من الأساس والحيطان والسقف أعلى عن الباب.ا ه.

قال الأميني: إنَّ الطعن في حديث أنا مدينة العلم لم يصدر إلّا من ابن الجوزي ومن يشاكله مِن رماة القول على عواهنه، وقد عرفت في الجزء السادس ص ٦١ - ٨١ ط ٢ نصوص العلماء على صحَّة الحديث، واعتبار قوم حسنه، وتقرير آخرين ما صدر ممَّن تقدَّمهم إلى ذينك الوجهين وتزييف ما ارتآه ابن الجوزي.

وأمّا ما ذكره من رواية الفردوس فلا يختلف اثنان في ضعفها وضعف ما يقاربها في اللفظ ممّا تدرَّج نحته في الأزمنة المتأخَرة تجاه ما يثبته هتاف النبيِّ الأعظم من

١٩٧

فضيلة العلم الرابية لمولانا أمير المؤمنينعليه‌السلام وابن حجر نفسه من اولئك الذين زيَّفوه وحكموا عليه بالضعف كما في كتابه الفتاوى الحديثيّة ص ١٩٧ فقال: حديثٌ ضعيفٌ، و معاوية حلقتها فهو ضعيف ايضاً. فأذهله لجاجه في حجاجه عن حكمه ذاك، ورأى ما حكم عليه بالضعف نصّاً في أعلميَّة أبي بكر.

وقال العجلوني في كشف الخفا ج ١: ٢٠٤: روى الديلمي في « الفردوس » بلا إسناد عن ابن مسعود رفعه: أنا مدينة العلم وأبو بكر أساسها، وعمر حيطانها، وعثمان سقفها، وعليٌّ بابها. وروى ايضاً عن أنس مرفوعاً: أنا مدينة العلم، عليٌّ بابها، ومعاوية حلقتها. قال في المقاصد: وبالجملة فكلّها ضعيفةٌ وألفاظ أكثرها ركيكة.

وقال السيِّد محمّد درويش الحوت في أسنى المطالب ص ٧٣: أنا مدينة العلم، أبو بكر أساسها، وعمر حيطانها وذلك لا ينبغي ذكره في كتب العلم لا سيَّما مثل ابن حجر الهيثمي ذكر ذلك في الصواعق والزواجر وهو غير جيِّد من مثله. ا هـ.

فلم يبق إذن مجالٌ للمناقشة بالتعبير بالباب لمولانا صلوات الله عليه وبالأساس و الحيطان والسقف والحقلة لغيره، حسب المسكين ناحت هذه المهزأة مدينةً خارجيّة يرمق إليها، ويتجوَّل بين جدرانها، ويتفيَّأ تحت سقفها، ويدقّ بابها بالحلقة، وقد عزب عنه أنَّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يريد أنَّ السبب الوحيد للاستفادة من علوم النبوَّة هو خليفته مولانا أمير المؤمنينعليه‌السلام ، كما أنَّ المدخل الوحيد للمدنية بابها، فهو معنى كنائيّ جيىء به لإفادة ما ذكرناه، والأساس لا فضيلة له غير أنَّه يقوم عليه سياج المدينة المشاد للوقاية عن الغارات والسرقات، وأمّا معنويّات المدنية فلا صلة لها بشيىء من ذلك، والاستفادة بالسقف على فرض تصويره في المدن ليس إلّا الإستظلال ودفع عايدة الحرِّ والقرِّ ولذلك لا يسقف إلّا المحالّ التي يتصوَّر فيها ذلك كالبيوت والحمامات والحوانيت والربط وأمثالها. فقاصد المدينة للاستفادة ممّا فيها من علمٍ أو ثروة أو أيِّ من أقسام النفع معنويَّة وماديَّة لا يتوصَّل بها إلّا بالدخول من الباب، فهو أهمُّ ممّا جاء به ابن حجر من الأساس والجدار والسقف وأمّا الحلقة فيُحتاج إليه لفتح الباب وسدِّه و الدقّ إذا كان مرتجاً غير أنَّ باب علم النبوَّة غير موصود، ولا يزال مفتوحاً على البشر بمصراعيه أبد الدهر.

١٩٨

ثمَّ إنَّ من الواضح انَّ المراد من التعبير بالباب ليس الولوج والخروج فحسب وإنما هو الاستفادة والأخذ، ولا يتمُّ هذا إلّا أن يكون عنده كلُّ علم النبوَّة الذي أرادصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سوق الاُمَّة إليه، وحَصر الطريق إلى ذلك بمن عبَّر عنه بالباب تأكيداً للحصر ثمَّ زاد في التأكيد بقوله: فمن أراد المدينة فليأت الباب.

فعليٌّ امير المؤمنين هو الباب المبتلى به الناس، ومَن عنده كلُّ علم النبوَّة وكلُّ ما يحتاج إليه البشر من فقه أو عظة أو خلق أو حُكم أو حِكم أو سياسة أو حزم أو عزم، فهو أعلم الناس لا محالة، وأمّا زيادة الايضاح والبيان والتفرُّغ للناس، فلا يجوز أن تنفكّ عمَّن سيق إليه البشر لغاية التفهُّم، وإزاحة الجهل، لا لمحض البيان وجودة السرد، لأنَّ وضوح البيان بمجرَّده غير وافٍ للغرض، لارتباك صاحبه عند الجهل بما يقدِّم إليه من المعضلات، كارتباك الأعلم عند التفهيم إذا أعوزه البيان عن الافهام، فمن الواجب أن يجتمعا في إنسان واحد الذي هو مرجع الاُمَّة جمعاء، وهو قضيَّة اللطف الواجب عليه سبحانه، فذلك الإنسان هو عِدل الكتاب العزيز وهما الثقلان خليفتا النبيِّ الأقدس لا يتفرَّقا حتّى يردا عليه الحوض، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر

١٩٩

- ٢ -

شجاعة الخليفة

لم يؤثر عن الخليفة قبل الإسلام مشهدٌ يدلُّ على فروسيَّته، كما أنَّه لم نجد له في مغازي النبيِّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع كثرتها وشهوده فيها موقفاً يشهد له بالبسالة، أو وقفة تخلّد له الذكر في التاريخ، أو خطوة قصيرة في ميادين تلك الحروب الدامية تُعرب عن شيء من هذا الجانب الهامّ غير ما كان في واقعة خيبر من فراره عن مناضلة مرحب اليهودي كصاحبه عمر بن الخطاب، قال عليٌّ وابن عبّاس: بعث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أبا بكر إلى خيبر فرجع منهزماً ومن معه، فلمّا كان من الغد بعث عمر فرجع منهزماً يُجبن أصحابَه ويُجبنه أصحابُه.

أخرجه الطبراني والبزّار كما في مجمع الزوائد ٩: ١٢٤ ورجال اسناد البزّار رجال الصحيح غير محمَّد بن عبد الرَّحمن ومحلّه الصِّدق، وذكر انهزام الرجلين يوم خيبر القاضي عضد الايجي في المواقف وأقرَّه شرّاحه كما في شرحه ٣: ٢٧٦، وذكره القاضي البيضاوي في طوالع الأنوار كما في المطالع ص ٤٨٣.

ويُعرب عن فرارهما يوم ذاك قول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد ما فرّا: لأعطينَّ الراية غداً رجلاً يحبُّ الله ورسوله، ويحبُّه الله ورسوله، يفتح الله على يديه ليس بفرّار. وفي لفظ: كرّار غير فرّار. وفي لفظ: والذي كرّم وجه محمَّد لأعطينّها رجلاً لا يفرّ، وفي لفظ: لأدفعنَّ إلى رجل لن يرجع حتّى يفتح الله له. وفي لفظ: لا يوّلي الدبر(١) .

وقال ابن أبي الحديد المعتزلي فيما يعزى إليه من القصيدة العلويّة:

____________________

١ - صحيح البخارى ٦: ١٩١، صحيح مسلم ٢: ٣٢٤، طبقات ابن سعد ص ٦١٨، ٦٣٠ رقم التسلسل ط مصر، مسند احمد ١: ٢٨٤، ١٨٥، ٣٥٣، ٣٥٨، خصائص النسائى ص ٤ - ٨، سيرة ابن هشام ٣: ٣٨٦، مستدرك الحاكم ٣: ١٠٩، حلية الاولياء ٢: ٦٢، أسد الغابة ٤: ٢١، الامتاع للمقريزي ص ٣١٤، تاريخ ابن كثير ٤: ١٨٥ - ١٨٧، تيسير الوصول ٣: ٢٢٧، الرياض النضرة ٢: ١٨٤ - ١٨٨. وهناك مصادر كثيرة تأتى فى محلها انشاء الله تعالى.

٢٠٠