الغدير في الكتاب والسنة والأدب الجزء ٧

الغدير في الكتاب والسنة والأدب0%

الغدير في الكتاب والسنة والأدب مؤلف:
الناشر: دارالكتب الإسلامية
تصنيف: الإمامة
الصفحات: 417

الغدير في الكتاب والسنة والأدب

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة الشيخ الأميني
الناشر: دارالكتب الإسلامية
تصنيف: الصفحات: 417
المشاهدات: 184828
تحميل: 6026


توضيحات:

الجزء 1 المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11
المقدمة
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 417 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 184828 / تحميل: 6026
الحجم الحجم الحجم
الغدير في الكتاب والسنة والأدب

الغدير في الكتاب والسنة والأدب الجزء 7

مؤلف:
الناشر: دارالكتب الإسلامية
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

وما أنسَ لا أنس اللّذين تقدَّما

وفرَّهما والفرُّ قد علما حوبُ(١)

وللراية العظمى وقد ذهبا بها

مَلابسٌ ذلّ فوقها وجلابيب

يشلُّهما مِن آل موسى شمردلٌ

طويل نجاد السيف أجيد يعبوبُ(٢)

يمجُّ منوناً سيفه وسِنانه

ويلهب ناراً غمده والأنابيبُ

أحضرٌ هما أم حضرُ أخرج خاضبٍ

وذان هما أم ناعم الخدّ مخضوبُ(٣)

عذرتكما إنَّ الحمام لمبغضٌ

وإنَّ بقاء النفس للنفس محبوبُ

لَيكره طعم الموت والموت طالب

فكيف يَلذُّ الموت والموت مطلوبُ

وممّا ينبأنا عن هذا الجانب حديث كعِّ الخليفة عن ذي الثدية لمـّا أمره رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقتله وهو في صلاته غير شاك السلاح، فرأى مخالفة الأمر النبويِّ أهون من قتل الرجل، فآب إليهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم معتذراً بما سيوافيك تفصيله إنشاء الله.

نعم يراه ابن حزم في كتاب « المفاضلة بين الصحابة » ومن لفَّ لفَّه أشجع الصحابة على الإطلاق ونحتوا له حديثاً على أمير المؤمنين انَّه قال: أخبروني من أشجع الناس؟ فقالوا: أنت، قال: أما انِّي ما بارزت أحداً إلاّ انتصفت منه ولكن أخبروني بأشجع الناس؟ قالوا: لا نعلم: فمن؟ قال: أبو بكر، أنَّه لمـّا كان يوم بدر فجعلنا لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عريشاً فقلنا: من يكون مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لئلاً يهوي إليه أحدٌ من المشركين؟ فوالله ما دنا منّا أحدٌ إلّا أبا بكر شاهراً بالسيف على رأس رسول الله لا يهوي اليه أحدٌ إلّا هوى إليه، فهو أشجع الناس. الحديث(٤) .

ليت القوم لم يحذفوا سند هذه الأثارة المفتعلة وكانوا يروونها بالإسناد حتّى نعرّف الملأ العلمي بالذي اختلقها، وحسبنا أنَّ الحافظ الهيثمي ذكرها بلا اسناد في

____________________

١ - الحوب: الاثم.

٢ - شمردل مرّ في ص ٥٢، يريد من طول النجاد طول القامة. الاجيد: الطويل الجيد و هو العنق. اليعبوب، الفرس الكثير الجرى اطلق على مرحب هذه اللفظة لشدته وسرعة حركته.

٣ - الحضر: العدو. الاخرج: ذكر النعام الذي فيه بياض وسواد. الخاضب: الذى أكل الربيع فاحمرّ طنبوباه أو اصفر. ناعم الخد مخضوب: كناية عن المرأة. يعني: هما رجلان أم امرأتان فى ضعفهما ورقّة قلوبهما؟.

٤ - الرياض النضرة ١: ٩٢، تاريخ الخلفاء للسيوطى ص ٢٥.

٢٠١

مجمع الزوايد ٩: ٤٦١ وضعَّفه وقال: فيه من لم أعرفه.

وتكذِّبها صحيحة ابن اسحاق قال: كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم « يوم بدر » في العريش وسعد بن معاذ قائمٌ على باب العريش الذي فيه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم متوشِّح السيف في نفر من الأنصار يحرسون رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يخافون على كرَّة العدوِّ(١) .

ثمَّ إنَّ حراسة النبيِّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم تكن تنحصر بيوم بدر ولا بأبي بكر بل في كلِّ موقف من مواقفهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يتعهّد أحدٌ من الصحابة بحراسته، فكانت الحراسة لسعد بن معاذ ليلة البدر وفي يومه لأبي بكر على ما ذكره الحلبي في السيرة ٣: ٣٥٣، ولمحمَّد بن مسلمة يوم اُحد، وللزبير بن العوام يوم الخندق، وللمغيرة بن شعبة يوم الحديبيَّة، ولأبي أيوب الأنصاري ليلة بنى بصفيَّة ببعض طرق خيبر، ولبلال وسعد بن أبي وقّاص وذكوان بن عبد قيس بوادي القرى، ولابن أبي مرثد الغنوي ليلة وقعة حنين(٢) .

وكانت هذه السيرة في الحراسة مستمرَّة إلى أن نزل قوله تعالى في حجَّة الوداع والله يعصمك من الناس. فترك الحرس(٣) فأبو بكر رديف اولئك الحرسة بعد تسليم ما جاء في حراسته.

ولو صدق النبأ وكانت يوم بدر لأبي بكر تلك الأهميَّة الكبرى لكان هو أولى وأحقّ بنزول القرآن فيه يوم ذاك دون عليّ وحمزة وعُبيدة لمـّا نزل فيهم ذلك اليوم: هذان خصمان إختصموا في ربِّهم. سورة الحج: ١٩(٤)

ولو صحَّت المزعمة لَما خُصَّ عليُّ وحمزة وعُبيدة بقوله تعالى: من المؤمنين رجالٌ

____________________

١ - عيون الاثر لابن سيد الناس ١: ٢٥٨.

٢ - عيون الاثر ٢: ٣١٦، المواهب اللدنية ١: ٢٨٣، السيرة الحلبية ٣: ٣٥٤، شرح المواهب للزرقانى ٣: ٢٠٤.

٣ - مستدرك الحاكم ٢: ٣١٣، تفسير القرطبى ٦: ٢٤٤، تفسير ابن جزى الكلبى ١: ١٧٣، تفسير ابن كثير ٢: ٧٨، الخصايص الكبرى ١: ١٢٦ عن الترمذى والحاكم البيهقى وأبى نعيم.

٤ - صحيح البخارى ٦: ٩٨ كتاب التفسير صحيح مسلم ٢: ٥٥٠، طبقات ابن سعد ص ٥١٨، مستدرك الحاكم ٢: ٣٨٦ وصححه هو والذهبى، تفسير القرطبى ١٢: ٢٥، ٢٦، تفسير ابن كثير ٣: ٢١٢، تفسير ابن جزى ٣: ٣٨ تفسير الخازن ٣: ٢٩٨.

٢٠٢

صَدَقُوا ما عاهدوا الله عليه الآية. الأحزاب: ٢٣(١)

ولَما نزل في عليِّ أمير المؤمنين قوله تعالى: هو الذي أيَّدك بنصره وبالمؤمنين « سورة الأنفال: ٦٢ » ولَما ورد فيها ما ورد عن النبيِّ الأعظم ممّا أسلفناه في الجزء الثاني ص ٤٦ - ٥١.

ولَما خَصَّ لمولانا عليٍّ قوله: ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله « سورة البقرة: ٢٠٧ » كما ذكره القرطبي في تفسيره ٣: ٢١ وفصَّلنا القول فيه في الجزء الثاني ص ٤٧ - ٤٩ ط ٢.

وكان حقّاً على رضوان منادي الله يوم بدر بقوله:

لا سيف إلّا ذو الفقار

ولا فتى إلّا عليِّ(٢)

أن ينوِّه باسم أبي بكر وبسيفه المشهور على رأس رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثمَّ هل تنحصر مغازي النبيِّ الأعظم وحروبه الدامية ببدر؟ وهل العريش كان في البدر فحسب دون ساير الغزوات؟ وهل سيِّد العريش النبيُّ الأعظم كان يلازم عريشه ولم يحضر قطُّ في ميادين القتال؟ أو كان ينزل بالمعارك ويستخلف صاحبه على العريش؟

ما أعوز النبيَّ الأعظم يوم خيبر مجاهدٌ كرّارُ غير فرّار لا يولّي الدبر، و كان معه الخليفة الأشجع؟ أكان فرّاراً غير كرّار؟ ومَن المعنيّ في قول المؤرِّخين من أنَّ النبيَّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دفع لواءه لرجل من المهاجرين فرجع ولم يصنع شيئاً؟(٣) أهذا الرجل وصاحبه نكرتان لا يُعرفان؟ لا ها الله.

وأين كان الأشجع؟ يوم خرجت كتائب اليهود يقدمهم ياسر فكشف الأنصار حتى انتهى إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في موقفه، فاشتدَّ ذلك على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و أمسى مهموماً(٤) .

ولماذا بعثصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم ذاك - وكان الأشجع معه - سلمة بن الأكوع إلى عليّ؟

____________________

١ - راجع ما مر فى الجزء الثانى ص ٥١ ط ٢.

٢ - راجع ما اسلفناه فى الجزء الثانى صفحة ٥٩ - ٦١ ط ٢.

٣ - الامتاع للمقريزى ص ٣١٣، السيرة الحلبية ٣ ص ٣٩.

٤ - الامتاع للمقريزى ص ٣١٤، السيرة الحلبية ٣ ص ٣٩.

٢٠٣

وكان قد تخلّف بالمدينة لرمد عينيه، وكان لا يبصر موضع قدمه فذهب اليه سلمة وأخذ بيده يقوده(١) ومَلأ المسامع قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأعُطينَّ الراية إلى رجل كرّار غير فرّار.

أكان الأشجع في العريش يوم خيبر؟ لمـّا قاتل المصطفى بنفسه يومه ذلك أشدَّ القتال وعليه درعان وبيضة مغفر، وهو على فرس يقال له: الظِرب(٢) وفي يده قناة وترس كما في السيرة الحلبية ٣ ص ٣٩.

أكان الأشجع في العريش يوم اُحد يوم بلاء وتمحيص؟ حتى خلص العدوُّ إلى رسول الله فدُثَّ بالحجارة حتَّى وقع لشقّه فاُصيبت رباعيته، وشجَّ في وجهه، وكلمت شفته، فجعل الدم يسيل على وجهه، وجعل يمسح الدم ويقول: كيف يفلح قومٌ خضبوا وجه نبيِّهم وهو يدعوهم إلى ربِّهم(٣) .

أكان الأشجع في العريش؟ يوم قال فيه عليٌّ: لمـّا تخَّلى الناس عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم اُحد نظرت في القتلى فلم أر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقلت: والله ما كان ليفرُّ وما أراه في القتلى، ولكن الله غضب علينا بما صنعنا، فرفع نبيّه، فما فيَّ خيرٌ من أن اُقاتل حتى اُقتل، فكسرت جفن سيفي ثمَّ حملت على القوم فأفرجوا لي فإذا برسول الله بينهم. وقد أصابت عليّاً يوم ذاك ستة عشر ضربة كلُّ ضربة تلزمه الأرض فما كان يرفعه إلّا جبريل.

« اُسد الغابة ٤: ٢٠ »

أكان الأشجع في العريش يوم وقع رسول الله في حفرة من الحفر التي عمل أبو عامر ليقع فيها المسلمون وهم لا يعلمون؟ فأخذ عليُّ بن أبي طالب بيدهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واحتضنه ورفعه طلحة حتّى استوى قائما(٤) .

____________________

١ - صحيح مسلم ٢: ١٠٢، سنن البيهقى ٩: ١٣١، الرياض النضرة ٢: ١٨٦، السيرة الحلبية ٣: ٤١، شرح المواهب للزرقانى ٢: ٢٢٣.

٢ - من أشهر خيله صلى ‌الله‌ عليه‌ و آله‌ وأعرفها، سمّي بذلك لكبره أو لسمنه أو لقوّته وصلابته تشبيها له بالجبل. قالوا: أهداه له صلى ‌الله‌ عليه‌ و آله‌ وسلم فروة ابن عمرو الجذامى. أو: ربيعة بن ابى البراء. أو: جنادة بن المعلى.

٣ - سيرة ابن هشام ٣: ٢٧، طبقات ابن سعد رقم التسلسل ٥٤٩، تاريخ ابن كثير ٤: ٢٣، ٢٩، امتاع المقريزى ص ١٣٥، شرح المواهب للزرقانى ٢: ٣٧.

٤ - سيرة ابن هشام ٣: ٢٧، الامتاع المقريزى ص ١٣٥، تاريخ ابن كثير ٤ ص ٢٤، عيون الاثر ٢: ١٢.

٢٠٤

أكان الأشجع في العريش يوم رُأي رسول الله في ميدان النزال وهو لابسٌ درعين: درعه ذات الفضول ودرعه فضة، أو يوم حنين وله درعان: درعه ذات الفضول والسعديَّة.

« شرح المواهب للزرقاني ٢: ٢٤ »

أكان الأشجع في العريش يوم ضُرب وجه النبيَّ بالسيف سبعين ضربة وقاه الله شرَّها كلها؟

« المواهب اللدنية ١: ١٢٤ »

أكان الأشجع في العريش يوم بايع رسول الله على الموت ثمانية؟ هم: عليُّ، والزبير، وطلحة، وأبو دجانة، والحارث بن الصمة، وحباب بن المنذر، وعاصم بن ثابت، وسهل بن حنيف، ورسول الله يدعوهم في أخراهم.

« الإمتاع للمقريزي ص ١٣٢ »

أكان الأشجع في العريش يوم كان عليٌّ يذبُّ عن رسول الله من ناحية، وأبو دجانة مالك بن خرشة من ناحية، وسعد بن أبي وقاص يذبُّ طائفة، والحباب بن المنذر يحوش المشركين كما تُحاش الغنم؟

« الإمتاع للمقريزي ص ١٤٣ »

أكان الأشجع في العريش يوم حمى الوطيس، وجلس رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تحت راية الأنصار؟ وأرسل إلى عليّ أن قدِّم فقدّم عليٌّ وهو يقول: أنا أبو القصم(١) .

أكان الأشجع في العريش يوم انتهى رسول الله إلى أهله ناول سيفه ابنته فاطمة فقال: اغسلي عن هذا دمه يا بنيَّة فوالله صدقني اليوم؟ يوم ملأ عليٌّ درقته ماءً من المهراس فجاء به إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليشرب منه، وغسل عن وجهه الدَّم وصبَّ على رأسه، و أخذت فاطمة (سلام الله عليها) قطعة حصير فاحرقته فألصقته عليه فاستمسك الدم(٢) .

أكان الأشجع في العريش لمـّا ملأ الفضاء نداء جبرئيل؟

لا سيف إلّا ذو الفقار

ولا فتى إلّا عليّ

أكان الأشجع في العريش يوم نظم حسّان بن ثابت:

جبريل نادى معلناً

والنقع ليس بمنجلي

____________________

١ - سيرة ابن هشام ٣: ١٩، شرح المواهب للزرقانى ٢: ٣١.

٢ - طبقات ابن سعد ٣: ٩٠ رقم التسلسل ٢٥٢، سيرة ابن هشام ٣: ٣٤، ٥١، الامتاع ص ١٣٨، تاريخ ابن كثير ٤: ٣٥، عيون الاثر ٢: ١٥، المواهب اللدنية ١: ١٢٥، شرح الزرقاني ٢: ٥٦.

٢٠٥

والمسلمون قد أحدقوا

حول النبيِّ المرسلِ

لا سيف إلّا ذو الفقار

ولا فتى إلّا عليّ(١)

أكان الأشجع في العريش يوم حمراء الأسد؟ وقد خرجصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو مجروحٌ في وجهه، مشجوجٌ في جبهته، ورباعيته قد شظيت، وشفته السفلى قد كلمت في باطنها، وهو متوهّن منكبه الأيمن من ضربة ابن قميئة، وركبتاه مجحوشتان. (طبقات ابن سعد رقم التسلسل ٥٥٣).

أكان الأشجع في العريش يوم حنين؟ لّما حمى الوطيس وفرَّ الناس عن النبيِّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولم يبق معه إلّا أربعة: ثلاثةٌ من بني هاشم ورجلٌ من غيرهم: عليّ ابن أبي طالب والعبّاس وهما بين يديه، وأبو سفيان بن الحارث آخذ بالعنان، وابن مسعود من جانبه الأيسر، ولا يَقبل أحدٌ من المشركين جهتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلّا قتل. (السيرة اَلحلبية ٣: ١٢٣).

أكان الأشجع في العريش يوم الأحزاب؟ وكان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ينقل مع صحبه من تراب الخندق وقد وارى التراب بياض بطنه ويقول:

لاهمَّ لولا أنت ما اهتدينا

ولا تصدَّقنا ولا صلّينا

فأنزلن سكينةً علينا

وثبِّت الأقدام إن لاقينا

إنَّ الاولى لقد بغوا علينا

إذا أرادوا فتنة أبينا

(طبقات ابن سعد رقم التسلسل ٥٧٥، تاريخ ابن كثير ٤: ٩٦).

أكان الأشجع في العريش يوم قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لَضربة عليّ خيرٌ من عبادة الثقلين وفي لفظ: قتل عليّ لعمرو أفضل من عبادة الثقلين. وفي لفظ: لَمبارزة عليّ لعمرو بن ودّ أفضل من أعمال اُمَّتي إلى يوم القيامة؟(٢) .

نعم: للرجل موقفٌ يوم اُحد لّما طلع يومئذ عبد الرَّحمن بن أبي بكر (وكان من المشركين) فقال: من يبارز وارتجز يقول:

____________________

١ - راجع ما مرّ في الجزء الثاني صفحة ٥٩ - ٦١ ط ٢.

٢ - مستدرك الحاكم ٣: ٣٢، المواقف للقاضى الايجى ٣: ٢٧٦، كنز العمال ٦: ١٥٨، السيرة الحلبية ٢: ٣٤٩ وهناك كلمة رداً على ابن تيمية فى ردّه على هذا الحديث، هداية المرتاب في فضايل الاصحاب ص ١٤٨.

٢٠٦

لم يبق إلّا شكّة ويعب

وبوصارم يقتل ضلاّل الشيب

فنهض إليه أبو بكر رضي الله عنه وهو يقول: أنا ذلك الأشيب ثمَّ ارتجز فقال:

لم يبق إلّا حسبي وديني

وصارمٌ تقضي به يميني

فقال له عبد الرَّحمن: لولا أنّك أبي لم أنصرف. الإمتاع ص ١٤٤.

حجاج بالعريش

قال المحاملي: كنت عند أبي الحسن بن عبدون وهو يكتب لبدر، وعند جمع فيهم أبو بكر الداودي واحمد بن خالد المادرائي - فذكر قصَّة مناظرته مع الداودي في التفصيل إلى أن قال -: فقال الداودي: والله ما نقدر نذكر مقامات عليّ مع هذه العامَّة. قلت: أنا والله أعرفها مقامه ببدر، واُحد، الخندق، ويوم حنين، ويوم خيبر. قال: فإن عرفتها ينفعني أن تقدّمه على أبي بكر وعمر، قلت: قد عرفتها ومنه قدَّمت أبا بكر وعمر عليه. قال: مِن أين؟ قلت: أبو بكر كان مع النبيِّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على العريش يوم بدر مقامه مقام الرئيس، والرئيس ينهزم به الجيش، وعليٌّ مقامه مقام مبارز، والمبارز لا ينهزم به الجيش.

ذكره الخطيب في تاريخه ٨: ٢١، وابن الجوزي في المنتظم ٦: ٣٢٧، وأحسب أنَّ مبتدع هذه الباكورة، ومؤسِّس فكرة العريش والاستدلال بها في التفضيل هو الجاحظ قال في خلاصة كتاب العثمانيَّة ص ١٠: والحجَّة العظمى للقائلين بتفضيل عليّ قتله الأقران وخوضه الحروب، وليس له في ذلك كبير فضيلة، لأنَّ كثرة القتل و المشي بالسيف إلى الأقران لو كان من أشد المحن وأعظم الفضائل وكان دليلاً على الرياسة والتقدُّم، لوجب أن يكون للزبير وأبي دجانة ومحمّد بن مسلمة وابن عفراء و البراء بن مالك من الفضل ما ليس لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ! لأنّه لم يقتل إلّا رجلاً واحداً ولم يحضر الحرب يوم بدر ولا خالط الصفوف، وإنَّما كان معتزلاً عنهم في العريش و معه أبو بكر. وأنت ترى الرجل الشجاع قد يقتل الأقران، ويجندل الأبطال، وفوقه من العسكر مَن لا يقتل ولا يبارز وهو الرئيس، أو ذو الرأي والمستشاري في الحرب، لأنَّ للرؤساء من الاكتراث والاهتمام وسعل البال والعناية والتفقُّد ما ليس لغيرهم، ولأنَّ الرئيس هو المخصوص بالمطالبة وعليه مدار الاُمور، وبه يستبصر المقاتل ويستنصر، وباسمه ينهزم العدوُّ، ولو لم يكن له إلّا أنَّ الجيش لو ثبت وفرَّ هو لم يغن ثبوت الجيش كلّه وكانت الدَبرة

٢٠٧

عليه، ولو ضيع القوم جميعاً وحفظ هو لانتصر وكانت الدولة له، ولهذا لا يضاف النصر، والهزيمة إلاّ إليه. ففضل أبي بكر بمقامه في العريش مع رسول الله يوم بدر أعظم من جهاد عليّ ذلك اليوم وقتله أبطال قريش.ا ه.

قال الأميني: نحن لا ننبس في الجواب عن هذه الأساطير المشمرجة ببنت شفه، وإنّما نقتصر فيه بما أجاب به عنها أبو جعفر الاسكافي المعتزلي البغدادي المتوفّى ٢٤٠ قال في الردِّ عليها(١) :

لقد اُعطي أبو عثمان مِقولاً وحرمَ معقولاً، إن كان يقول هذا على اعتقاد و جدّ، ولم يذهب به مذهب اللعب واللهو، أو على طريق التفاصح والتشادق وإظهار القوَّة والسلاطة وذلاقة اللسان وحدَّة الخاطر والقوَّة على جدال الخصوم. ألم يعلم أبو عثمان انَّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان أشجع البشر وأنَّه خاض الحروب وثبت في المواقف التي طاشت فيها الألباب، وبلغت القلوب الحناجر؟ فمنها يوم اُحد ووقوفه بعد أن فرَّ المسلمون بأجمعهم ولم يبق معه إلّا أربعة: عليٌّ. والزبير. وطلحة. وأبو دجانة، فقاتل ورمي بالنبل حتى فنيت نبله وانكسرت سِية قوسه، وانقطع وتره، فأمر عكاشة بن محصن أن يوترها فقال: يا رسول الله لا يبلغ الوتر، فقال: أو تر ما بلغ. قال عكاشة: فوالذي بعثه بالحقِّ لقد أوترت حتّى بلغ وطويت منه شبراً على سِية القوس، ثمَّ أخذها فما زال يرميهم حتّى نظرت إلى قوسه قد تحطَّمت، وبارز اُبيّ بن خلف فقال له أصحابه: إن شئت عطف عليه بعضنا؟ فأبي وتناول الحربة من الحارث بن السمت ثمَّ إنتفض باصحابه كما ينتفض البعير قالوا: فتطايرنا عنه تطاير الشعارين فطعنه بالحربة فجعل يخور كما يخور الثور، ولو لم يدل على ثباته حين انهزم أصحابه وتركوه إلّا قوله: « إذ تصعدون ولا تلوُن على أحد والرسول يدعوكم في اُخراكم » فكونهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في اُخراهم وهم يصعدون ولا يلوُن هاربين دليلٌ على أنَّه ثبت ولم يفرّ. وثبت يوم حنين في تسعة من أهله ورهطه الأدنين، وقد فرَّ المسلمون كلهم والنفر التسعة محدقون به، العبّاس آخذٌ بحكمة بغلته، وعليٌّ بين يديه مصلتٌ سيفه، والباقون حول بغلته يُمنةً ويُسرةً، وقد انهزم المهاجرون والأنصار، وكلّما فرّوا أقدم هوصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وصمَّم مستقدماً يلقي السيوف والنبال بنحره

____________________

١ - رسائل الجاحظ ص ٥٤، شرح ابن أبى الحديد ٣ ص ٢٧٥.

_١٣_

٢٠٨

وصدره، ثمَّ أخذ كفّاً من البطحاء وحصب المشركين وقال: شاهت الوجوه. والخبر المشهور عن عليّ وهو أشجع البشر: كنّا إذا اشتدَّ البأس وحمى الوطيس إتَّقينا برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولذنا به. فيكف يقول الجاحظ: إنَّه ما خاض الحروب ولا خالط الصفوف؟ وأيّ فرية أعظم ومن فرية من نسب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى الاحجام والاعتزال الحرب؟ ثمَّ أيّ مناسبة بين أبي بكر ورسول الله في هذا المعنى؟ ليقيسه وينسبه إلى رسول الله صاحب الجيش والدعوة ورئيس الاسلام والملّة، والملحوظ بين أصحابه واعدائه بالسيادة، وإليه الايماء والاشارة، وهو الذي أحنق قريشاً والعرب، وورى أكبادهم بالبراءة من آلهتهم و عيب دينهم وتضليل أسلافهم، ثمَّ وترهم فيما بعد بقتل رؤسائهم وأكابرهم، وحقَّ لمثله إذا تنحّى عن الحرب واعتزلها أن يتنحّى ويعتزل، لأنَّ ذلك شأن الملوك والرؤساء إذ كان الجيش منوطاً بهم وببقائهم، فمتى هلك الملك هلك الجيش، ومتى سلم الملك أمكن أن يبقى عليه ملكه، وإن عطب جيشه بأن يستجدَّ جيشاً آخر، ولذلك نهى الحكماء أن يباشر الملك الحرب بنفسه، وخطّأوا الاسكندر لمـّا بارز فور ملك الهند ونسبوه إلى مجانبة الحكمة ومفارقة الصواب والحزم، فليقل لنا الجاحظ: أيّ مدخل لأبي بكر في هذا المعنى؟ ومَن الذي كان يعرفه من أعداء الإسلام ليقصده بالقتل؟ وهل هو إلّا واحدٌ من عرض المهاجرين حكمه حكم عبد الرَّحمن بن عوف وعثمان بن عفان وغيرهما؟ بل كان عثمان أكثر منه صيتاً، وأشرف منه مركباً، والعيون إليه طمح، والعدوُّ عليه أحنق وأكلب. ولو قُتل أبو بكر في بعض تلك المعارك هل كان يؤثِّر قتله في الاسلام ضعفاً؟ أو يحدث وهناً؟ أو يخاف على الملّة لو قُتل أبو بكر في بعض تلك الحروب أن تندرس و تُعفى آثارها وتنطمس منارها؟ ليقول الجاحظ: إنَّ أبا بكر كان حكمه حكم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مجانبة الحروب واعتزالها. نعوذ بالله من الخذلان. وقد علم العقلاء كلّهم ممَّن له بالسير معرفة وبالآثار والأخبار ممارسة حال حروب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كيف كانت، وحاله عليه الصَّلاة والسَّلام فيها كيف كان، ووقوفه حيث وقف وحربه حيث حارب، و جلوسه في العريش يوم جلس، وأنَّ وقوفهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقوف رئاسةٍ وتدبير، ووقوف ظهرٍ وسند، يتعرَّف اُمور أصحابه ويحرس صغيرهم وكبيرهم بوقوفه من ورائهم وتخلّفه عن التقدُّم في أوائلهم، لأنَّهم متى علموا أنَّه في اخراهم إطمأنَّت قلوبهم ولم تتعلّق

٢٠٩

بأمره نفوسهم، فيشتغلوا بالاهتمام به عن عدِّوهم، ولا يكون لهم فئة يلجئون إليها و ظهراً يرجعون إليه، ويعلمون أنَّه متى كان خلفهم تفقَّد اُمورهم وعلم مواقفهم وآوى كلُّ انسان مكانه في الحماية والنكاية وعند النازلة في الكرِّ والحملة، فكان وقوفه حيث وقف أصلح لأمرهم، وأحمي وأحرس لبيضتهم، ولأنَّه المطلوب من بينهم، إذ هو مدبِّر اُمورهم ووالي جماعتهم، ألا ترون أنَّ موقف صاحب اللواء موقف شريف؟ وأنَّ صلاح الحرب في وقوفه، وأنَّ فضيلته في ترك التقدُّم في أكثر حالاته، فللرئيس حالات: الأولى حالة يتخلّف ويقف آخراً ليكون سنداً وقوَّة ورِداءاً وعُدَّة، وليتولّى تدبير الحرب و يعرف مواضع الخلل. والحالة الثانية: يتقدَّم فيها في وسط الصفِّ ليقوى الضعيف ويُشجِّع الناكس: وحالة ثالثة: وهي إذا اصطدم الفيلقان، وتكافح السيفان، إعتمد ما يقتضيه الحال ومن الوقوف حيث يستصلح، أو من مباشرة الحرب بنفسه فانَّها آخر المنازل وفيها تظهر شجاعة الشجاع النجد، وفسالة الجبان المموَّه. فأين مقام الرئاسة العظمى لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟ وأين منزلة أبي بكر ليسوَّى بين المنزلتين، ويناسب بين الحالتين؟ ولو كان أبو بكر شريكاً لرسول الله في الرسالة وممنوحاً من الله بفضيلة النبوَّة، وكانت قريش والعرب تطلبه كما تطلب محمَّداًصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟ لكان للجاحظ أن يقول ذلك، فأمّا وحاله حاله وهو أضعف المسلمين جناناً وأقلّهم عند العرب تِرةً لم يَرم قَطّ بسهمٍ، ولا سلَّ سيفاً، ولا أراق دماً، وهو أحد الأتباع غير مشهور ولا معروف ولا طالب ولا مطلوب، فكيف يجوز أن يجعل مَقامه ومنزلته مقام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومنزلته؟ ولقد خرج ابنه عبد الرَّحمن مع المشركين يوم اُحد فرآه أبو بكر فقام مغيظاً عليه فسلَّ من السيف مقدار إصبع يروم البروز إليه فقال له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا أبا بكر! شِم سيفك وامتعنا بنفسك. ولم يقل له (وامتعنا بنفسك) إلّا لعلمه بأنَّه ليس أهلاً للحرب وملاقاة الرجال وأنِّه لو بارز لقتل.

وكيف يقول الجاحظ: لا فضيلة لمباشرة الحروب ولقاء الأقران وقتل أبطال الشرك؟ وهل قامت عمد الإسلام إلّا على ذلك؟ وهل ثبت الدين واستقرَّ إلّا بذلك؟ أتراه لم يسمع قول الله تعالى « إنَّ الله يحبُّ الذين يُقاتلون في سبيله صفّاً كأنَّهم بنيانٌ مرصوص » ؟ والمحبَّة من الله تعالى هي إرادة الثواب، فكلُّ من كان أشد ثبوتاً في هذا الصفِّ وأعظم

٢١٠

قتالاً كان أحبّ إلى الله، ومعنى الأفضل هو الأكثر ثواباً، فعليٌّعليه‌السلام إذا هو أحبّ المسلمين إلى الله لأنَّهم أثبتهم قدماً في الصفِّ المرصوص، لم يفرّ قطُّ باجماع الاُمَّة، ولا بارزه قرنٌ إلّا قتله، أو تَراه لم يسمع. قول الله تعالى: « وفضَّل الله المجاهدين على القاعدين أجراً عظيما » ؟ وقوله « إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأنَّ لهم الجنَّة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويُقتلون وعداً عليه حقّاً في التوراة والإنجيل والقرآن ثمَّ قال سبحانه: مؤكّداً لهذا البيع والشراء « ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الّذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم » وقال الله تعالى: « ذلك بأنَّهم لا يصيبهم ظلمأٌ ولا نصبٌ ولا مخمصةٌ في سبيل الله ولا يطؤن موطئاً يغيظ الكفار ولا ينالون من عدوّ نيلاً إلّا كُتب لهم به عملٌ صالح » فمواقف الناس في الجهاد على أحوال، وبعضهم في ذلك أفضل من بعض، فمن دلف إلى الأقران واستقبل السيوف والأسنَّة كان أثقل على أكتاف الأعداء لشدَّة نكابته فيهم ممَّن وقف في المعركة وأعان ولم يقدم، وكذلك مَن وقف في المعركة وأعان ولم يقدم إلّا انَّه بحيث تناله السهام والنبل أعظم عناءً وأفضل ممَّن وقف حيث لا يناله ذلك، ولو كان الضعيف والجبان يستحقَّان الرئاسة بقلّة بسط الكفِّ وترك الحرب وإنَّ ذلك يشاكل فعل النبيِّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لكان أوفر الناس حظّاً في الرئاسة وأشدّهم لها استحقاقاً حسّان بن ثابت، وإن بطل فضل عليّ في الجهاد لأنَّ النبيَّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان أقلّهم قتالاً - كما زعم الجاحظ - ليبطلنَّ على هذا القياس فضل أبي بكر في الإنفاق، لأنَّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان أقلّهم مالاً، وأنت إذا تأمَّلت أمر العرب وقريش ونظرت السير وقرأت الأخبار عرفت أنها تطلب محمَّداًصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتقصد قصده وتروم قتله، فان أعجزها وفاتها طلبت عليّاً وأرادت قتله، لأنَّه كان أشبهم بالرسول حالاً، وأقربهم منه قرباً، وأشدَّهم عنه دفعاً، وإنَّهم متى قصدوا عليّاً فقتلوه أضعفوا أمر محمَّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكسروا شوكته، إذ كان أعلى من ينصره في البأس والقوَّة والشجاعة والنجدة والإقدام والبسالة. ألا ترى إلى قوله عتبة ربيعة يوم بدر - وقد خرج هو وأخوه شيبة وإبنه الوليد بن عتبة فأخرج إليهم الرَّسول نفراً من الأنصار فاستنسبوهم فانتسبوا لهم فقالوا: إرجعوا إلى قومكم، ثمَّ نادوا: يا محمَّد! - أخرج إلينا أكفاءنا من قومنا فقال النبيُّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأهله الأدنين: قوموا يا بني هاشم! فانصروا حقَّكم الذي آتاكم الله على باطل

٢١١

هؤلاء، قم يا عليّ! قم يا حمزة! قم يا عبيدة! ألا ترى ما جعلت هند بنت عتبة لمن قتله يوم اُحد لأنَّه اشترك هو وحمزة في قتل أبيها يوم بدر؟ ألم تسمع قول هند ترثي أهلها:

ما كان لِي من عُتبة من صبر

أبي وعمِّي وشَقيق صَدِري

أخي الذي كان كضوءِ البَدرِ

بهم كَسرتَ يا عليُّ! ظهري

وذلك لأنَّه قتل أخاها الوليد بن عتبة وشرك في قتل أبيها عتبة، وأمّا عمّها شيبة فانَّ حمزة تفرَّد بقتله. وقال جبير بن مطعم لوحشي مولاه يوم اُحد: إن قتلت محمَّداً فأنت حرٌّ، وإن قتلت علي ّ اً فأنت حرّ، وإن قتلت حمزة فأنت حرٌّ، فقال أمّا محمَّد فسيمنعه أصحابه، وأما عليٌّ فرجل حذِر كثير الإلتفات في الحرب، ولكنّي سأقتل حمزة. فقعد له وزرقه بالحربة فقتله.

ولِما قلنا من مقاربة حال عليّ في هذا الباب لحال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومناسبتها إيّاه ما وجدناه في السيرة والأخبار من إشفاق رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحذره على ودعائه له بالحفظ والسلامة، قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم الخندق وقد برز عليٌّ إلى عمرو ورفع يديه إلى السَّماء بمحضر مِن أصحابه: الّلهمَّ إنَّك أخذت منّي حمزة يوم اُحد، و عبيدة يوم بدر، فاحفظ اليوم عليَّ عليّاً، ربِّ لا تذرني فرداً وأنت خير الوارثين. و لذلك ضنَّ به عن مبارزة عمرو حين دعا عمرو الناس إلى نفسه مراراً في كلّها يحجمون ويقدم عليٌّ فيسأل الإذن له في البراز حتى قال له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنَّه عمرو فقال: وأنا عليّ. فأدناه وقبَّله وعمَّمه بعمامته وخرج معه خطوات كالمودِّع له، القلق لحاله، المنتظر لما يكون منه. ثمَّ لم يزلصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رافعاً يده إلى السَّماء مستقبلاً لها بوجهه و المسلمون صموت حوله كأنَّما على رؤسهم الطير حتّى ثارت الغبرة وسمعوا التكبير من تحتها فعلموا أنَّ عليّاً قتل عمراً. فكبِّر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكبِّر المسلمون تكبيرة سمعها من وراء الخندق من عساكر المشركين. ولذلك قال حذيفة بن اليمان: لو قسِّمت فضيلة عليّ بقتل عمرو يوم الخندق بين المسلمين بأجمعهم لوسعتهم. وقال ابن عبّاس: في قوله تعالى « وكفى الله المؤمنين القتال » قال: بعليِّ بن أبي طالب.ا ه.

٢١٢

الغريق يتشبّث بكلّ حشيش

أعيت القوم شجاعة الخليفة، وأضلّتهم عن المذاهب، وجعلتهم في الرونة، وأركبتهم على الزحلوقة تسفُّ بهم تارةً وتُعليِّهم اُخرى، فلم يجدو مهيعاً يوصلهم إلى ما يرومون من إثباتها له مهما وجدوا غضون التاريخ خاليةً عن كلِّ عين وأثر يسمعهم الركون إليه في الحِجاج لها، فتشبَّثوا بالتفلسف فيها فهذا يبني فلسفة العريش، والآخر ينسج نسج العناكيب ويعدُّ ثباته في موت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعدم تضعضعه في تلك الهائلة دليلاً على كمال شجاعته، قال القرطبي في تفسيره ٤: ٢٢٢ في سورة آل عمران ١٤٤ عند قوله تعالى: « وما محمّدٌ إلّا رسولٌ قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم، ومَن ينقلب على عقبه فلن يضرَّ الله شيئاً » هذه الآية أدلُّ دليل على شجاعة الصديق وجرأته فانَّ الشجاعة والجرأة حدّهما ثبوت القلب عند حلول المصائب ولا مصيبة أعظم من موت النبيِّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فظهرت عنده شجاعته وعلمه و قال الناس: لم يمت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منهم عمر، وخرس عثمان، واستخفى عليٌّ، و اضطرب الأمر فكشفه الصدِّيق بهذه الآية حين قدومه من مسكنه بالسُنح(١) .

وهذا الإستدلال أقرَّه الحلبي في سيرته ٣: ٣٥ وقال: لمـَّا توفّي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم طاشت العقول فمنهم مَن خبَل، ومنهم من أقعد ولم يطق القيام، ومنهم من أخرس فلم يطق الكلام، ومنهم من أضنى، وكان عمر رضي الله عنه ممَّن خبل، وكان عثمان رضي الله عنه ممَّن أخرس، فكان لا يستطيع أن يتكلّم، وكان عليٌّ رضي الله عنه ممَّن أقعد فلم يستطع أن يتحرَّك، وأضنى عبد الله بن أنيس فمات كمداً، وكان أثبتهم: أبو بكر الصدِّيق رضي الله عنه - إلى أن قال -: قال القرطبي: و هذا أدلُّ دليل على كمال شجاعة الصدِّيق. الخ.

قال الأميني: يوهم القرطبي انَّ في كتاب الله العزيز ما يدلُّ على شجاعة الخليفة وعلمه، وليس فيما جاء به أكثر من أنَّه استدلَّ بالآية الشريفة يوم ذاك على موت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأيُّ صلة بها إلى شجاعة الرجل؟! وأيُّ قسم فيها من أنحاء الدلالة الثلاثة فضلاً عن أن تكون أدلَّ دليل؟ فإن يكن هناك شيءٌ من الدلالة - وأين وأنَّى

____________________

١ - بضم اوله وسكون النون وقد تضم: موضع خارج المدينة بينها وبين منزل النبى ميل.

٢١٣

فهو في ثبات جأشه وتمسُّكه بالآية الكريمة لا في الآية نفسها.

ثمَّ كيف خفي على الرجل وعلى من تبعه الفرق ين ملكتي الشجاعة والقسوة؟

وأنَّ هذا النسج الذي أوهن من بيت العنكبوت إنَّما نسجته يد السياسة لدفع مشكلات هناك، فخبَّلوا عمر بن الخطاب « وحاشة الخبل » تصحيحاً لإنكاره موت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأنَّه كان من ذلك القلق كما مرَّ في ص ١٨٤، وأقعدوا عليّاً لإيهام العذر في تخلّفه عن البيعة، وأخرسوا عثمان لأنَّه لم ينبس في ذلك الموقف ببنت شفة.

على أنَّ ما جاء به القرطبي من ميزان الشجاعة يستلزم كون الخليفة أشجع من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أيضاً إذ لم يُروَ عن أبي بكر في رزيَّة النبيِّ الأعظم اكثر من أنَّه كشف عن وجه النبيِّ وقبَّله وهو يبكي وقال: طبت حيّاً وميِّتاً(١) وقد فعلصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أكثر وأكثر من هذا في موت عثمان بن مظعون فإنَّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنكبَّ عليه ثلاث مرّات مرَّةً بعد اُخرى وقبَّله باكياً عليه وعيناه تذرفان والدموع تسيل على وجنتيه وله شهيقٌ(٢) ، وشتّان بين عثمان بن مظعون وبين سيِّد البشر روح الخليقة وعلّة العوالم كلّها، وشتّان بين المصيبتين.

كما يستدعي مقياس الرجل كون عمر بن الخطاب أشجع من النبيِّ الأقدس لحزنه العظيم في موت زينب وبكائه عليها، وعمر كان يوم ذاك يضرب النسوة الباكيات عليها بالسوط كما مرَّ في الجزء السادس ص ١٥٩ ط ٢ فضلاً عن عدم تأثُّره بتلك الرزيَّة.

وعلى هذا الميزان يغدو عثمان بن عفّان أشجع من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لوجدهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لموت إحدى بنتيه: رقية أو امّ كلثوم زوجة عثمان. وبكائه عليها، وعثمان غير متأثِّر به ولا بانقطاع صهره من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم غير مشغول بذلك من مقارفة بعض نساءه في ليلة وفاتها كما في صحيحة أنس(٣) .

وقبل هذه كلّها ما ذكره أعلام القوم في موت أبي بكر من طريق ابن عمر من قوله: كان سبب موت أبي بكر موت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما زال جسمه يجري حتّى مات. وقوله:

____________________

١ - صحيح البخارى ٦: ٢٨١ كتاب المغازى، سيرة ابن هشام ٤: ٣٣٤، طبقات ابن سعد ط مصر رقم التسلسل ٧٨٥، تاريخ الطبرى ٣: ١٩٨.

٢ - سنن البيهقى ٣: ٤٠٦، حلية الاولياء ١: ١٠٥، الاستيعاب ٢: ٤٩٥، اسد الغابة، الغدير ٣ ٣٨٧، الاصابة ٢: ٤٦٤.

٣ - مستدرك الحاكم ٤: ٤٧، الاستيعاب ٢: ٧٤٨ وصححه، الاصابة ٤: ٣٠٤، ٤٨٩ الغدير ٣: ٢٤.

٢١٤

كان سبب موته كمداً لحقه على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما زال يذيبه حتّى مات. وفي لفظ القرماني: ما زال جسمه ينقص حتّى مات.

راجع المستدرك الحاكم ٣: ٦٣، اسد الغابة ٣: ٢٢٤، صفة الصفوة ١: ١٠٠، الرياض النضرة ١: ١٨٠، تاريخ الخميس ج ٢: ٢٦٣، حياة الحيوان للدميري ١: ٤٩، الصواعق ص ٥٣، تاريخ الخلفاء للسيوطي ص ٥٥، أخبار الدول للقرماني هامش الكامل ١: ١٩٨، نزهة المجالس للصفوري ٢: ١٩٧، مصباح الظلام للجرداني ٢: ٢٥.

كأنَّ هذا الحديث عزب عن القرطبي والحلبي، فأخذاً بهذا مشفوعاً بكلامهما المذكور في شجاعة أبي بكر يكون هو شاكلة عبد الله بن أنيس في موتهما كمداً على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولم ينبّأ قطُّ خبير بموت أحدٍ من الصحابة غيرهما بموتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و هذا دليلُ على ضعف قلبهما عند حلول المصائب، فهما أجبنا الصحابة على الإطلاق إذا وزُنا بميزان القرطبي وفيها عين.

ووراء هذ، المغالاة في شجاعة الخليفة وعدِّه أشجع الصحابة ما عزاه القوم إلى ابن مسعود من انَّه قال: أوّل من أظهر الاسلام بسيفه محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأبو بكر. والزبير بن العوام رضي الله عنهم(١) وما يُعزى إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من انَّه قال: لولا أبو بكر الصدِّيق لذهب الإسلام(٢) .

قال الأميني: لقد كانت على الأبصار غشاوة عن رؤية هذا السيف الذي كان بيد الخليفة، فلم يُؤثر أنه تقلّده يوماً، أو سلّه في كريهة، أو هابه إنسان في معمعة، حتّى يقرن برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي كان منذ بعث سيفاً الله تعالى مجرَّداً.

إنَّ الرسول لنورٌ يستضاء به

مُهنَّدٌ من سيوف الله مسلولُ(٣)

أو يقرن بمثل الزبير الذي عرفته وسيفه الحرب الزَّبون فشكرته، وقد سجَّل التاريخ مواقفه المشهودة وسجَّل للخليفة يوم خيبر وأمثاله.

وأنا لا أدري بأيِّ خصلة في الخليفة نيط بقاء الاسلام، أبشجاعته هذه؟ أم بعلمه الذي عرفت كميَّته؟ أم بماذا؟ « فظُنّ خيراً ولا تسأل عن الخبر »

____________________

١ - نزهة المجالس للصفورى ٢، ١٨٢.

٢ - نور الابصار للشبلنجى ص ٥٤.

٣ - البيت من قصيدة لكعب بن زهير المشهورة ببانت سعاد.

٢١٥

- ٣ -

ثبات الخليفة على المبدء

عن أبي سعيد الخدري: إنَّ أبا بكر جاء إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال: يا رسول الله! إنِّي مررت بوادي كذا وكذا فاذا رجلٌ متخشِّعٌ حسن الهيئة يصلّي. فقال له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذهب إليه فاقتله. قال: فذهب إليه أبو بكر فلمّا رآه على تلك الحالة كره أن يقتله فجاء إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال النبيُّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعمر: إذهب إليه فاقتله. قال فذهب عمر فرآه على تلك الحال التي رآه أبو بكر فكره أن يقتله فرجع فقال: يا رسول الله! إنِّي رأيته متخشِّعاً فكرهت أن أقتله قال: يا عليُّ إذهب فاقتله. فذهب عليٌّ فلم يره فرجع فقال: يا رسول الله! إنِّي لم أره. فقال النبيُّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنَّ هذا وأصحابه يقرؤن القرآن لا يجاوز تراقيهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ثمَّ لا يعودون فيه حتّى يعود السهم في فوقه فاقتلوهم هم شرُّ البريَّة(١) .

وعن أنس بن مالك قال: كان في عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رجلٌ يعجبنا تعبُّده و اجتهاده وقد ذكرنا ذلك لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم باسمه فلم يعرفه فوصفناه بصفته فلم يعرفه فبينا نحن نذكره إذ طلع الرجل قلنا: هو هذا. قال: إنَّكم لتخبروني عن رجل إنَّ في وجهه لسفعةٌ من الشيطان فأقبل حتّى وقف عليهم ولم يسلّم فقال له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اُنشدك الله هل قلت حين وقفت على المجلس: ما في القوم أحدٌ أفضل منّي أو خير منّي؟ قال: أللّهم نعم. ثمَّ دخل يصلّي فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من يقتل الرجل؟ فقال أبو بكر أنا، فدخل عليه فوجده يصلّي فقال: سبحان الله! أقتل رجلاً يصلّي: وقد نهى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن قتل المصلّين، فخرج. فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما فعلت؟ قال: كرهت أن أقتله وهو يصلّي وأنت قد نهيت عن قتل المصلّين. قال: مَن يقتل الرجل؟ قال عمر: أنا. فدخل فوجده واضعاً جبهته فقال عمر: أبو بكر أفضل منِّي فخرج فقال له النبيُّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مَه؟ قال: وجدته واضعاً وجهه لله فكرهت أن أقتله. فقال: مَن يقتل الرجل؟ فقال عليُّ: أنا. فقال: أنت

____________________

١ - مسند أحمد ٣: ١٥، تاريخ ابن كثير ٧: ٢٩٨.

٢١٦

إن أدركته. فدخل عليه فوجده قد خرج فرجع إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال له: مَه؟ قال: وجدته قد خرج قال: لو قُتل ما اختلف من أُمَّتي رجلان كان أوَّلهم وآخرهم(١) .

صاحب القصَّة هو ذو الثُديَّة رأس الفتنة يوم النهروان قتله أمير المؤمنين الامام عليُّ يوم ذاك كما في صحيح مسلم وسنن أبي داود، قال الثعالبي في ثمار القلوب ص ٢٣٣: ذو الثُديَّة شيخ الخوارج وكبيرهم الذي علّمهم الضلال، وكان النبيُّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمر بقتله وهو في الصَّلاة فكعَّ عنه أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، فلمَّا قصده عليُّ رضي الله عنه لم يره، فقال له النبيُّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أما انَّك لو قتلته لكان أوَّل فتنة وآخرها، ولمـّا كان يوم النهروان وجد بين القتلى فقال عليُّ رضي الله عنه: ائتوني بيده المخدجة. فاُتي بها فأمر بنصبها.

قال الأميني: هلمّ معي نسائل الرّجلين ممَّن أخذا أنَّ الصلاة تحقن دم صاحبها؟ هل أخذاها عن شريعة غاب الصادع بها، فارتبكا بين قوليه؟ أليست هي الشريعة المحمَّديَّة وصاحبها هو الذي أمر بقتل الرجل؟ وهو ينظر إليه من كَثب، ويعلم أنَّه يصلّي، و قد أخبرته الصحابة وفيهم الرجلان بخضوعه وخشوعه في صلاته، وإعجابهم بتعبُّده و اجتهاده، وفي المخبرين أبو بكر نفسه، غير أنَّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عرف بواسع علمه النبويِّ أنَّ كلَّ ذلك عن دهاء وتصنُّع يريد بن إغراء الدهماء للحصول على اُمنيَّته الفاسدة التي لم يتمكَّن منها إلّا على عهد الخوارج فأرادصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قمع تلك الجرثومة الخبيثة بقتله، ولقد أرادصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تعريف الناس بالرجل إيقافهم على ما انطوت عليه أضالعه فاستحفاه عمّا دار في خَلَده حين وقف على القوم وفيهم النبيُّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأراد أن يعلموا أنَّه يجد نفسه خيراً أو أفضل منهم ومنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

أيّ كافر هذا يجب قتله لا سيّما بعد قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنَّ في وجهه لسفعةٌ من الشيطان؟ وأيّ شقيّ هذا يقف على المنتدى وقد ضمّ صدره نبيَّ العظمة ولم يسلّم؟ وأيّ صفيق يُعرب عن سوء ما هجس في ضميره بكلِّ صراحة، غير محتشم عن موقفه، ولا مكترث لمقاله؟

____________________

١ - حلية الاولياء ٢: ٣١٧، ج ٣: ٢٢٧، مسند البزار من طريق الاعمش، و ابو يعلى مسنده كما في تأريخ ابن كثير ٧ ص ٢٩٨، الاصابة ١: ٤٨٤.

٢١٧

نعم لذلك كلّه أمرصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقتله وهو لا ينطق عن الهوى إن هو إلّا وحيٌ يوحى، لكن الشيخين رؤفا به حين وجداه يصلّي تثبُّتاً على المبدء، وتحفّظاً على كرامة الصَّلاة ومَن أتى بها، وزاد عمر: انَّ أبا بكر خيرٌ منِّي ولم يقتله. أوَ لم يكن النبيُّ الآمر بقتله خيراً منهما؟ أوَلم يكن هو مشرِّع الصّلاة والآتي بحرمتها؟ أوَ لم يكن مصدَّقاً لدى الصدِّيق وصاحبه في قوله حول الرجل وإعرابه عن نواياه؟

كان خيراً للشيخين أن يتركا هذا التعلّل الواضح فساده ويتعلّلا بما في لفظ أبي نعيم في الحلية من أنَّهما هابا أن يقتلاه، وبما أسلفناه عن ثمار القلوب للثعالبي من أنَّهما كعّا عن الرجل. أي جبنا وضعفا وتهيّبهما الرجل وإن كان مصلّياً غير شاك السلاح، فلعلّه يكون معذِّراً لهما عن ترك الإمتثال، فلا يكلّف الله نفساً إلّا وسعها، لكنَّهما يوم عرفا نفسهما كذلك والإنسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره لماذا أقدما على قتل الرجل، ففوَّتا على النبيِّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم طلبته وعلى الاُمَّة السَّلام والأمن ولو بعد لأي من عمر الدهر عند ثورات الخوارج؟ وأبو بكر هذا هو الَّذي يحسبه ابن حزم والمحبّ الطبري والقرطبي والسيوطي أشجع الناس كما مرَّ ص ٢٠٠ وقد يهابه ظلّ الرجال في مصلاّهم.

وللرجل (ذي الثُديَّة) سابقة سوء عند الشيخين من يوم قسَّم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم غنيمة هوازن قال ذو الثديّة للنبيِّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم أرك عدلت. أو: لم تعدل هذه قسمةٌ ما اُريد بها وجه الله. فغضب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقال: ويحك إذا لم يكن العدل عندي فعند من يكون؟ فقال عمر: يا رسول الله ألا أقتله؟ قال: لا، سيخرج من ضيضئ هذا الرجل قومٌ يخرجون من الدين كما يخرج السهم من الرميَّة لا يجاوز إيمانهم تراقيهم. تاريخ أبي الفدا ج ١ ص ١٤٨، الامتاع للمقريزي ص ٤٢٥.

٢١٨

- ٤ -

تهالك الخليفة في العبادة

لم يؤثر عن الخليفة دؤب على العبادة على العهد النبويِّ أو بعده غير أشياء لا تُنجع من أثبتها له إلّا بعد تحمّل متطاول، أو تفلسف في القول لو أجدتْ الفلسفة على لا شييء.

روى المحبُّ الطبري في الرياض النضرة ١ ص ١٣٣: إنَّ عمر بن الخطاب أتى إلى زوجة أبي بكر بعد موته فسألها عن أعمال أبي بكر في بيته ما كانت فأخبرته بقيامه في الليل وأعمال كان يعملها ثمَّ قالت: ألا انَّه كان في كلِّ ليلة جمعة يتوضَّأ و يصلّي ثمَّ يجلس مستقبل القبلة رأسه على ركبتيه فإذا كان وقت السحر رفع رأسه و تنفَّس الصعداء فيشمُّ في البيت روائح كبدٍ مشويٍّ. فبكا عمر وقال: أنّى لابن الخطاب بكبدٍ مشويّ.

وفي مرآة الجنان ١ ص ٦٨: جاء انَّ أبا بكر كان إذا تنفَّس يشمُّ منه رائحة الكبد المشويَّة.

وفي عمدة التحقيق للعبيدي المالكي ص ١٣٥: لمـّا مات أبو بكر الصدِّيق رضي الله عنه واستخلف عمر رضي الله عنه كان يتبع آثار الصدِّيق رضي الله عنه ويتشبَّه بفعله فكان يتردَّد كلّ قليل إلى عائشة واسماء رضي الله تعالى عنهما ويقول لهما: ما كان يفعل الصدِّيق إذا خلا بيته ليلاً؟ فيقال له: ما رأينا له كثير صلاة بالليل ولا قيام إنَّما كان إذا جنَّه الليل يقوم عند السحر ويقعد القرفصاء ويضع رأسهُ على ركبتيه ثمَّ يرفعها إلى السماء ويتنفَّس الصعداء ويقول: اخ. فيطلع الدخان مِن فيه. فيبكي عمر ويقول: كلُّ شييء يقدر عليه عمر إلّا الدخان. فقال:

وأصل ذلك أن شدَّة خوفه من الله تعالى أوجبت احتراق قلبه، فكان جليسه يشمُّ منه رائحة الكبد المشوي، وسببه انَّ الصدِّيق لم يتحمَّل أسرار النبوَّة الملقاة إليه وفي الحديث: أنا أعلمكم بالله وأخوفكم منه. فالمعرفة التامَّة تكشف عن جلال

٢١٩

المعروف وجماله وكلاهما أمرٌ عظيم جدًّا تتقطَّع دونه الغايات ولولا أنّ الله تعالى ثبت من أراد ثباته وقوّاه على ذلك ما استطاع أحدٌ الوقوف ذرَّة على كليهما وجلالاً و جمالاً، والغاية في الطرفين قد نالها الصدِّيق رضي الله عنه. فقد ورد: ما صُبَّ في صدري شييءٌ إلّا صببته في صدر أبي بكر. ولو صبَّه جبريلعليه‌السلام في صدر أبي بكر ما أطاقه لعدم مجراه من المماثل، لكن لما صبَّ في صدر النبيِّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو من جنس البشريَّة فجرى في قناة مماثلة للصدِّيق، فبواسطتها أطاق حمله، ومع ذلك احترق قلبه. الخ.

وروى الترمذي الحكيم في نوادر الاصول ص ٣١ و ٢٦١، عن بكر بن عبد الله المزني قال: لم يفضل أبو بكر رضي الله عنه الناس بكثرة صوم ولا صلاة إنَّما فضلهم بشييء كان في قلبه. وذكر أبو محمَّد الأزدي في شرح مختصر صحيح البخاري ٢: ٤١، ١٠٥. و ج ٣: ٩٨. و ج ٤: ٦٣، والشعراني في اليواقيت والجواهر ٢: ٢٢١، واليافعي في مرآة الجنان ١: ٦٨، والصفوري في نزهة المجالس ٢ ص ١٨٣: انَّ في الحديث ما فضلكم أبو بكر بكثرة صومٍ ولا صلاة ولن بشييء وقر في صدره.

قال الأميني: لو صحَّ حديث الكبد المشويِّ لوجب اطّراده في الأنبياء والرسل ويقدمهم سيِّد المرسلين محمَّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأنَّهم أخوف من الله من أبي بكر وخاتم النبيِّين أخوفهم، ولوجب أن تكون الرائحة فيهم أشدَّ وأنشر، فانَّ الخوف فرع الهيبة المسبَّبة عن إحاطة العلم بما هناك من عظمة وقهر وجبروت ومنعة، وينبأنا عن ذلك قوله تعالى: إنَّما يخشى الله من عباده العلماء(١) قال ابن عبّاس: يريد إنَّما يخافني من خلقي من علم جبروتي وعزَّتي وسلطاني. وقيل: عظِّموه وقدِّروا قدره، وخشوه حقَّ خشيته، ومن ازداد به علماً ازداد به خشية.

« تفسير الخازن ٣: ٥٢٥ »

وفي الحديث: أعلمكم بالله أشدُّكم له خشية.

« تفسير ابن جزي ٣: ١٥٨ »

وفي خطبة لهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : فوالله انِّي لأعلمهم بالله وأشدُّ هم له خشية(٢) .

وفي خطبة اُخرى لهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً(٣) .

____________________

١ - سورة فاطر آية ٢٨.

٢ - صحيح مسلم كتاب المناقب. باب علمه بالله وشدة خشيته، تفسير الخازن ٣: ٥٢٥.

٣ - صحيح البخارى كتاب الرقاق. باب لو تعلمون ما أعلم، مسند احمد ٦: ١٦٤، تيسير الوصول ٢، ٢٦، تفسير الخازن ٣: ٥٢٥.

٢٢٠