الغدير في الكتاب والسنة والأدب الجزء ٧

الغدير في الكتاب والسنة والأدب0%

الغدير في الكتاب والسنة والأدب مؤلف:
الناشر: دارالكتب الإسلامية
تصنيف: الإمامة
الصفحات: 417

الغدير في الكتاب والسنة والأدب

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة الشيخ الأميني
الناشر: دارالكتب الإسلامية
تصنيف: الصفحات: 417
المشاهدات: 185047
تحميل: 6038


توضيحات:

الجزء 1 المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة المقدمة الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11
المقدمة
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 417 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 185047 / تحميل: 6038
الحجم الحجم الحجم
الغدير في الكتاب والسنة والأدب

الغدير في الكتاب والسنة والأدب الجزء 7

مؤلف:
الناشر: دارالكتب الإسلامية
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

وذكر منها في المواهب اللدنيَّة ١: ٤٨، أبياتاً فقال: هي أكثر من ثمانين بيتاً قال ابن التين: إنَّ في شعر أبي طالب هذا دليلاً على أنَّه كان يعرف نبوَّة النبيِّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبل أن يبعث لمـّا أخبره به « بحيرا » وغيره من شأنه. وقال العيني في عمدة القاري ٣: ٤٣٤: قصيدةٌ طنّانةٌ وهي مائة بيت وعشرة أبيات أوَّلها:

خليليَّ ما اُذني لأوَّل عاذلٍ

بصغواء في حقّ ولا عند باطلِ

ذكر منها البغدادي في خزانة الأدب ١: ٢٥٢ - ٢٦١ إثنين وأربعين بيتاً مع شرحها وقال أوَّلها:

خليليَّ ما اُذني لأوَّل عاذلٍ

بصغواء في حقّ ولا عند باطلِ

خليليَّ انَّ الرأي ليس بشركة

ولا نهنه عند الاُمور البلابل

ولَمّا رأيت القوم لا ودَّ عندهم

وقد قطعوا كلَّ العرا والوسائلِ

وذكر الآلوسي عدَّة منها في بلوغ الارب ١ ص ٢٣٧ وذكر كلمة ابن كثير المذكورة وقال: هي مذكورةٌ مع شرحها في كتاب لبِّ لباب لسان العرب.

وذكر منها السيِّد زيني دحلان أبياتاً في السيرة النبويّة هامش الحلبيَّة ١ ص ٨٨ فقال: قال الإمام عبد الواحد(١) السفاقسي في شرح البخاري: إنَّ في شعر أبي طالب هذا دليلاً على أنَّه كان يعرف نبوَّة النبيِّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبل أن يبعث لما أخبره به « بحيرا » الراهب وغيره من شأنه مع ما شاهده من أحواله ومنها الإستسقاء به في صغره ومعرفة أبي طالب بنبوَّتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جاءت في كثير من الأخبار زيادة على أخذها من شعره.

قال الأميني: أنا لا أدري كيف تكون الشهادة والاعتراف بالنبوَّة إن لم يكن منها هذا الأساليب المتنوِّعة المذكورة في هذه الأشعار؟ ولو وُجد واحدٌ منها في شعر أيِّ أحد أو نثره لأصفق الكلُّ على إسلامه، لكن جميعها لا يدلُّ على إسلام أبي طالب. فاعجب واعتبر.

هذه جملةٌ من شعر أبي طالبعليه‌السلام الطافح من كلِّ شطره الايمان الخالص، والاسلام الصحيح قال العلّامة الأوحد إبن شهر اشوب المازندراني في كتابه متشابهات القرآن عند قوله تعالى (ولينصرنَّ الله من ينصره) في سورة الحجِّ: إنَّ أشعار أبي طالب

____________________

١ - هو ابن التين المذكور فى كلام القسطلانى.

٣٤١

الدالَّة على إيمانه تزيد على ثلاثة آلاف بيت يكاشف فيها من يكاشف النبيَّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و يصحِّح نبوَّته ثمَّ ذكر جملة ضافية وممّا ذكر له قوله في وصيَّته:

اوصي بنصر نبيِّ الخير أربعة

إبني عليّاً وشيخ القوم عبّاسا

وحمزة الأسد الحامي حقيقته

وجعفراً أن تذودا دونه الناسا

كونوا فداءً لكم اُمِّي وما ولدت

في نصر أحمد دون الناس أتراسا(١)

- ٢ -

ما ناء به من عمل بار وقول مشكور

أمَّا ما ناء به سيِّد الأباطح أبو طالب سلام الله عليه من عملٍ بارٍّ وسعي مشكور في نصرة النبيِّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكلائته والذبِّ عنه والدعوة إليه وإلى دينه الحنيف منذ بدء البعثة إلى أن لفظ أبو طالب نفسه الأخير وقد تخلّل ذلك جملٌ من القول كلّها نصوصٌ على اسلامه الصحيح، وايمانه الخالص، وخضوعه للرسالة الإ~لهيَّة، فإلى الملتقى. روى القوم:

- ١ -

قال ابن اسحاق: انَّ أبا طالب خرج في ركب إلى الشام تاجراً فلمّا تهيَّأ للرحيل وأجمع السير هبّ له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأخذ بزمام ناقته وقال: يا عمّ إلى مَن تكلني لا أب لي ولا أمّ لي؟ فرقَّ له أبو طالب وقال: والله لأخرجنَّ به معي ولا يفارقني ولا اُفارقه أبداً. قال: فخرج به معه فلمَّا نزل الركب « بصرى » من أرض الشام وتهيَّأ راهب يُقال له: بحيرا. في صومعة له وكان أعلم أهل النصرانيَّة ولم يزل في تلك الصومعة راهب إليه يصير علمهم من كتاب فيهم كما يزعمون يتوارثونه كائناً عن كائن، فلمّا نزلوا ذلك العام ببحيرا وكانوا كثيراً ما يمرُّون عليه قبل ذلك فلا يكلِّمهم ولا يتعرَّض لهم حتّى إذا كان ذلك العام نزلوا به قريباً من صومعته فصنع لهم طعاماً كثيراً وذلك فيما يزعمون عن شيء رآه وهو في صومعته في الركب حين أقبلوا، وغمامة تظلّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من بين القوم. ثمَّ أقبلوا حتّى نزلوا بظلِّ شجرة قريباً منه فنظر إلى الغمامة حتى أظلّت

____________________

١ - فى النسخة المطبوعة من متشابهات القرآن تصحيف وتحريف فى الابيات راجع ج ٢ ص ٦٥.

٣٤٢

الشجرة وتهصَّرت يعني تدلَّت أغصانها على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتَّى استظلَّ تحتها فلمّا رأي « بحيرا » ذلك نزل من صومعته وقد أمر بذلك الطعام فصنع ثمَّ أرسل إليهم فقال: إنِّي قد صنعت لكم طعاماً يا معشر قريش! وأنا أحبُّ أن تحضروا كلّكم صغيركم وكبيركم وحرُّكم وعبدكم فقال له رجلٌ منهم: يا بحيرا! إنَّ لذلك اليوم لشأناً ما كنت تصنع هذا فيما مضى وقد كنَّا نمرُّ بك كثيراً فما شأنك اليوم؟ فقال له بحيرا: صدقت قد كان ما تقولون ولكنكم ضيوف فأحببت أن اُكرمكم وأصنع لكم طعاماً تأكلون منه كلّكم، فاجتمعوا إليه وتخلّف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من بين القوم لحداثة سنِّه في رحال القوم تحت الشجرة فلمّا نظر « بحيرا » في القوم لم ير الصفة التي يعرفها وهي موجودة عنده فقال: يا معشر قريش! لا يتخلّف أحدٌ عنكم عن طعامي هذا فقالوا: يا بحيرا! ما تخلّف عنك أحدٌ ينبغي أن يأتيك إلّا غلامٌ هو حدث القوم سنّاً تخلّف في رحالهم قال: فلا تفعلوا ادعوه فليحضر هذا الطعام معكم، فقال رجلٌ من قريش: واللّات والعزّى انّ لهذا اليوم نبأ. أيليق أن يتخلّف ابن عبد الله عن الطعام من بيننا؟ ثمَّ قام إليه فاحتضنه ثمَّ أقبل به حتّى أجلسه مع القوم فلمّا رئاه « بحيرا » جعل يلحظه لحظاً شديداً وينظر إلى أشياء من جسده قد كان يجدها عنده في صفته حتَّى إذا فرغ القوم من الطعام وتفرَّقوا قام « بحيرا » فقال له: يا غلام أسألك باللّات والعزّى إلّا أخبرتني عمّا أسألك عنه. فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا تسألني باللّات والعزّى شيئاً قطُّ، فقال بحيرا: فبالله إلّا ما أخبرتني عمّا أسألك عنه. فقال: سلني عمّا بدا لك. فجعل يسأله عن أشياء من نومه وهيئته واموره ورسول الله يخبره فيوافق ذلك ما عند « بحيرا » من صفته ثمَّ نظر إلى ظهره فرأى خاتم النبوَّة بين كتفيه على موضعه من صفته التي عنده. الحديث فقال أبو طالب في ذلك.

إنَّ ابن آمنة النبيَّ محمَّداً

عندي يفوق منازل الأولادِ

لَمّا تعلّق بالزمام رحمتُه

والعيس قد قلّصن(١) بالأزوادِ

فارفضَّ من عينيَّ دمعٌ ذارفٌ

مثل الجمان مفرِّق الأفرادِ

____________________

١ - قلص القوم: اجتمعوا فساروا. قلصت الناقة: استمرت في مضيّها. تقلص: انضم وانزوى. تدانى.

٣٤٣

راعيتُ فيه قرابةً موصولةً

وحفظت فيه وصيَّة الأجداد

وأمرته بالسير بين عمومة

بيض الوجوه مصالت أنجادِ(١)

ساروا لأبعد طيَّة معلومة

فلقد تباعد طيَّة(٢) المرتادِ

حتّى إذا ما القوم بصرى عاينوا

لاقوا على شركٍ من المرصادِ

حبراً فأخبرهم حديثاً صادقاً

عنه وردَّ معاشر الحسّادِ

قومٌ يهودٌ قد رأوا لَمّا رأى

ظلَّ الغمام وعنَّ ذي الأكبادِ(٣)

ثاروا لقتل محمَّد فنهاهمُ

عنه وجاهد أحسن التجهادِ

فثنى زبيراً من بُحيرا فانثنى

في القوم بعد تجاول وبعادِ

ونهى دريساً فانتهى عن قوله

حبر يوافق أمره برشادِ

وقال ايضاً:

ألم ترني من بعدهمّ هممته

بفرقة حرّ الوالدين حرامِ

بأحمد لمـَّا أن شددت مطيَّتي

برحلي وقد ودَّعته بسلامِ

بكى حزناً والعيس قد فصلت بنا

وأخذت بالكفين فضل زمامِ

ذكرت أباه ثمَّ رقرقتُ عبرةً

تجود من العينين ذات سجامِ

فقلت: ترحَّل راشداً في عمومةٍ

مواسير في البأساء غير لئامِ

فجاء مع العير التي راح ركبها

شآمي الهوى والأصل غير شآمِ

فلمّا هبطنا أرض بصرى تشرَّفوا

لنا فوق دورٍ ينظرون جسامِ

فجاء بُحيرا عند ذلك حاشداً

لنا بشرابٍ طيِّب وطعامِ

فقال: اجمعوا أصحابكم لطعامنا

فقلنا: جمعنا القوم غير غلامِ

يتيم فقال: ادعوه إنَّ طعامنا

كثيرٌ عليه اليوم غير حرامِ

فلولا الّذي خبَّرتمُ عن محمَّد

لكنتم لدينا اليوم غير كرامِ

____________________

١ - مصالت: الماضي فى الحوائج، الصلت الجبين: الواضح. أنجاد ج النجد: الضابط للامور يذلل المصائب. الشجاع الماضى فيما يعجز غيره. سريع الاجابة الى ما دعى اليه.

٢ - فى الموضعين فى رواية: طبّة. بالموحدة مؤنث الطبّ بفتح الطاء: الناحية.

٣ -

وفي رواية: قوم يهود قد رأوا ما قد رأوا

ظلّ الغمامة ناغري الاكباد

٣٤٤

فلمّا رآه مقبلاً نحو داره

يوقِّيه حرَّ الشمس ظلُّ غمامِ

حنا رأسه شبه السجود وضمَّه

إلى نحره والصدر أيَّ ضمامِ

وأقبل ركبٌ يطلبون الذي رأى

بُحيرا من الأعلام وسط خيامِ

فثار إليهم خشيةً لعرامهم(١)

وكانوا ذوي بغي لنا وعرامِ

دريس وتمام وقد كان فيهمُ(٢)

زبيرٌ وكلُّ القوم غير نيامِ

فجاؤا وقد همّوا بقتل محمَّد

فردَّهمُ عنه بحسن خصامِ

بتأويله التوراة حتى تيقَّنوا

وقال لهم: رمتم أشدَّ مرامِ

أتبغون قتلاً للنبيِّ محمَّدٍ؟

خصصتم على شؤم بطول أنامِ

وإنَّ الذي نختاره منه مانعٌ

سيكفيه منكم كيد كلِّ طغامِ

فذلك من أعلامه وبيانه

وليس نهارٌ واضحٌ كظلامِ

ديوان أبي طالب ص ٣٣ - ٣٥، تاريخ ابن عساكر ١: ٢٦٩ - ٢٧٢، الروض الانف ١: ١٢٠.

وذكر السيوطي الحديث من طريق البيهقي في الخصايص الكبرى ١: ٨٤ فقال في ص ٨٥: وقال أبو طالب في ذلك أبياتاً منها:

فما رجعوا حتّى رأوا من محمَّد

أحاديث تجلو غمَّ كلِّ فؤادِ

وحتّى رأوا أحبار كلِّ مدينةٍ

سجوداً له من عصبةٍ وفرادِ

زبيراً وتماماً وقد كان شاهداً

دريساً وهمُّوا كلّهم بفسادِ

فقال لهم قولاً بُحيرا وأيقنوا

له بعد تكذيبٍ وطول بعادِ

كما قال للرهط الذين تهوَّدوا

وجاهدهم في الله كلّ جهادِ

فقال ولم يترك له النصح: رُدّه

فانَّ له إرصاد كلِّ مصادِ

فانِّي أخاف الحاسدين وانَّه

لفي الكتب مكتوبٌ بكلِّ مدادِ

- ٢ -

استسقاء أبي طالب بالنبيِّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

أخرج ابن عساكر في تاريخه عن جلهمة بن عرفطة قال: قدمت مكّة وهم في قحط

____________________

١ - العرام: الشراسة والاذى.

٢ - دريس، وتمام، وزبير - فى بعض النسخ: زدير أحبارمن اليهود.

٣٤٥

فقالت قريش: يا أبا طالب! أقحط الوادي، وأجدب العيال، فهلمَّ واستسق فخرج أبو طالب ومعه غلامٌ كأنَّه شمس دجن تجلّت عنه سحابةٌ قتماء وحوله اُغيلمة فأخذه أبو طالب فألصق ظهره بالكعبة، ولاذَ باصبعه الغلام، وما في السماء قزعة(١) فأقبل السحاب من ها هنا وها هنا وأغدق واغدودق وانفجر له الوادي وأخصب البادي والنادي ففي ذلك يقول أبو طالب:

وأبيض يُستسقى الغمام بوجهه

ثمال اليتامى عصمة للأراملِ

يلوذ به الهلاّك من آل هاشم

فهم عنده في نعمةٍ وفواضلِ

وميزان عدل لا يخيس شعيرة

ووزّان صدق وزنه غير هائلِ

شرح البخاري للقسطلاني ٢: ٢٢٧، المواهب اللدنية ١: ٤٨، الخصايص الكبرى ١: ٨٦، ١٢٤، شرح بهجة المحافل ١: ١١٩، السيرة الحلبيَّة ١: ١٢٥، السيرة النبويَّة لزيني دحلان هامش الحلبيَّة ١: ٨٧، طلبة الطالب ص ٤٢.

ذكر الشهرستاني في الملل والنحل بهامش الفصل ٣: ٢٢٥ سيِّدنا عبد المطلب وقال: وممّا يدلُّ على معرفته بحال الرسالة وشرف النبوّة أن أهل مكّة لمـّا أصابهم ذلك الجدب العظيم وأمسك السحاب عنهم سنتين أمر أبا طالب إبنه أن يحضر المصطفى عليه الصّلاة والسَّلام وهو رضيعٌ في قماط فوضعه على يديه واستقبل الكعبة ورماه إلى السَّماء وقال: يا ربّ بحقِّ هذا الغلام. ورماه ثانياً وثالثاً وكان يقول: بحقِّ هذا الغلام إسقنا غيثاً مغيثاً دائماً هاطلاً. فلم يلبث ساعة ان طبَّق السحاب وجه السمَّاء وأمطر حتَّى خافوا على المسجد وأنشد أبو طالب ذلك الشعر اللّامي الذي منه:

وأبيض يستسقى الغمام بوجهه

ثمان اليتامى عصمة للأرامل

ثمَّ ذكر أبياتاً من القصيدة، ولا يخفى على الباحث أنَّ القصيدة نظمها أبو طالب عليه ‌السلام أيّام كونه في الشعب كما مرّ.

فاستسقاء عبد المطلب وإبنه سيّد الأبطح بالنبيِّ الأعظم يوم كانصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رضيعاً و يافعاً يُعرب عن توحيدهما الخالص، وإيمانهما بالله، وعرفانهما بالرسالة الخاتمة، وقداسة صاحبها من أوّل يومه، ولو لم يكن لهما إلّا هذين الموقفين لكفياهما كما يكفيان

____________________

١ - القزعة: القطعة من السحاب.

٣٤٦

الباحث عن دليل آخر على إعتناقهما الايمان.

- ٣ -

أبو طالب في مولد أمير المؤمنينعليه‌السلام

عن جابر بن عبد الله قال: سألت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن ميلاد عليِّ بن أبي طالب فقال: لقد سألتني عن خير مولود ولد في شبيه المسيحعليه‌السلام إنَّ الله تبارك وتعالى خلق عليّاً من نوري وخلقني من نوره وكلانا من نور واحد، ثمَّ إنَّ الله عزَّ وجلَّ نقلنا من صلب آدمعليه‌السلام في أصلاب طاهرة إلى أرحام زكيَّة فما نقلت من صلب إلّا ونقل عليٌّ معي فلم نزل كذلك حتى استودعني خير رحم وهي آمنة. واستودع عليّاً خير رحم وهي فاطمة بنت أسد. وكان في زماننا رجلٌ زاهدٌ عابدٌ يقال له المبرم بن دعيب بن الشقبان قد عَبدَ الله تعالى مائتين وسبعين سنة لم يسأل الله حاجةً فبعث الله إليه أبا طالب فلمّا أبصره المبرم قام إليه وقبَّل رأسه وأجلسه بين يديه ثمَّ قال له: من أنت؟ فقال: رجلٌ من تهامة. فقال: من أيِّ تهامة؟ فقال: من بني هاشم. فوثب العابد فقبَّل رأسه ثمَّ قال: يا هذا إنَّ العليَّ الأعلى ألهمني إلهماماً. قال أبو طالب: وما هو؟ قال: ولدٌ يولد من ظهرك وهو وليُّ الله عزَّ وجلَّ، فلمّا كان الليلة التي ولد فيها عليٌّ أشرقت الأرض فخرج أبو طالب وهو يقول: أيُّها الناس ولد في الكعبة وليُّ الله فلمّا أصبح دخل الكعبة وهو يقول:

يا ربَّ هذا الغسق الدجيِّ

والقمر المنبلج المضيِّ

بيِّن لنا من أمرك الخفيِّ

ماذا ترى في اسم ذا الصبيِّ؟

قال: فسمع صوت هاتف يقول:

يا أهل بيت المصطفى النبيِّ

خصصتم بالولد الزكيِّ

إنَّ اسمه من شامخ العليِّ

عليٌّ اشتقَّ من العليِّ

أخرجه الحافظ الكنجي الشافعي في كفاية الطالب ص ٢٦٠ وقال: تفرَّد به مسلم بن خالد الزنجي وهو شيخ الشافعي، وتفرَّد به عن الزنجي عبد العزيز بن عبد الصمد وهو معروفٌ عندنا.

٣٤٧

- ٤ -

بدء أمر النبيِّ وأبو طالب

أخرج فقيه الحنابلة ابراهيم بن علي بن محمَّد الدينوري في كتابه - نهاية الطلب وغاية السؤل في مناقب آل الرَّسول -(١) باسناده عن طاوس عن ابن عبّاس في حديث طويل: إن النبيَّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال للعبّاس رضي الله عنه: إنَّ الله قد أمرني باظهار أمري وقد أنبأني واستنبأني فما عندك؟ فقال له العبّاس رضي الله عنه: يا بن أخي تعلم انَّ قريشاً أشدّ الناس حسداً لولد أبيك، وإن كانت هذه الخصلة كانت الطامّة الطمّاء والداهية العظيمة ورمينا عن قوس واحد وانتسفونا نسفاً، صِلنا ولكن قرِّب إلى عمِّك أبي طالب فإنَّه كان أكبر أعمامك إن لا ينصرك لا يخذلك ولا يسلمك، فأتياه فلمّا رآهما أبو طالب قال: إنَّ لكما لظنَّه وخبراً ما جاء بكما في هذا الوقت؟ فعرَّفه العبّاس ما قال له النبيُّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وما أجابه به العبّاس فنظر إليه أبو طالب وقال له: أخرج ابن أبي فانّك الرفيع كعبا، والمنيع حزباً، والأعلى أباً، والله لا يسلقك لسانٌ إلّا سلقته ألسنٌ حداد، واجتذبته سيوفٌ حداد، والله لتذلّنَّ لك العرب ذلَّ البهم لحاضنها، ولقد كان أبي يقرأ الكتاب جميعاً ولقد قال: إنَّ من صلبي لنبيّاً لوددت انِّي أدركت ذلك الزمان فآمنت به فمن أدركه من ولدي فليؤمن به.

قال الأميني: أترى أنَّ أبا طالب يروي ذلك عن أبيه مطمأناً به؟ فلينشِّط رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذا التنشيط لأوَّل يومه، ويأمره باشهار أمره والإشادة بذكر الله وهو مخبتٌ بأنَّه هو ذلك النبيُّ الموعود بلسان أبيه والكتب السالفة، ويتكهَّن بخضوع العرب له، أتراه سلام الله عليه يأتي بهذه كلّها ثمَّ لا يُؤمن به؟ إن هذا إلّا اختلاق.

- ٥ -

أبو طالب وفقده النبيَّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

ذكر ابن سعد الواقدي في الطبقات الكبرى ص ١٨٦ ج ١ ط مصر وص ١٣٥ ط ليدن حديث ممشى قريش إلى أبي طالب في أمرهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى أن قال: فاشمأزّوا ونفروا منها (يعني من مقالة محمّد) وغضبوا وقاموا وهم يقولون: اصبروا على آلهتكم، إنَّ

____________________

١ - راجع الطرائف لسيدنا ابن طاوس ص ٨٥، وضياء العالمين لشيخنا أبى الحسن الشريف.

٣٤٨

هذا لشيءٌ يُراد، ويقال: المتكلّم بهذا: عقبة بن أبي معيط. وقالوا: لا نعود اليه أبداً، وما خير من أن نغتال محمّداً، فلمّا كان مساء تلك الليلة فقد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وجاء ابو طالب وعمومته إلى منزله فلم يجدوه، فجمع فتياناً من بني هاشم وبني المطلب ثمَّ قال، ليأخذ كلُّ واحد منكم حديدةً صارمة، ثمَّ ليتبعني إذا دخلت المسجد، فلينظر كلّ فتى منكم فليجلس إلى عظيم من عظمائهم فيهم: ابن الحنظلية - يعني أبا جهل - فانّه لم يغب عن شرّ إن كان محمَّد قد قُتل، فقال الفتيان: نفعل، فجاء زيد بن حارثة فوجد أبا طالب على تلك الحال، فقال: يا زيد! أحسست إبن أخي؟ قال: نعم كنت معه آنفاً. فقال أبو طالب: لا أدخل بيتي أبداً حتى أراه، فخرج زيد سريعاً حتى أتى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو في بيت عند الصفا ومعه أصحابه يتحدَّثون، فأخبره الخبر، فجاء رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى أبي طالب، فقال: يا ابن أخي! أين كنت؟ أكنت في خير؟ قال: نعم. قال: ادخل بيتك، فدخل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلمّا أصبح أبو طالب غدا على النبيِّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأخذ بيده فوقف به على أندية قريش ومعه الفتيان الهاشميّون والمطلبيّون فقال: يا معشر قريش! هل تدرون ما هممت به! قالوا: لا: فأخبرهم الخبر، وقال للفتيان: اكشفوا عمّا في أيديكم. فكشفوا، فإذا كلُّ رجل منهم معه حديدةٌ صارمةٌ. فقال: والله لو قتلتموه ما بقيَّت منكم أحداً. حتّى نتفانى نحن وأنتم، فانكسر القوم وكان أشدُّهم إنكساراً أبو جهل.

(لفظ آخر)

وأخرج الفقيه الحنبلي ابراهيم بن عليِّ بن محمَّد الدينوري في كتابه - نهاية الطلب(١) باسناده عن عبد الله بن المغيرة بن معقب قال: فقد أبو طالب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فظنَّ انَّ بعض قريش إغتاله فقتله فبعث إلى بني هاشم فقال: با بني هاشم أظنُّ انَّ بعض قريش إغتال محمَّداً فقتله فليأخذ كلُّ واحد منكم حديدةً صارمةً وليجلس إلى جنب عظيم من عظماء قريش فاذا قلت: أبغي محمَّداً. قتل كلٌّ منكم الرجل الذي إلى جانبه، وبلغ رسول الله جمع أبي طالب وهو في بيت عند الصفا فأتى أبا طالب وهو في المسجد فلمّا رآه أبو طالب أخذ بيده ثمَّ قال: يا معشر قريش! فقدت محمَّداً فظننت انَّ بعضكم إغتاله

____________________

١ - راجع الطرائف لسيدنا ابن طاووس ص ٨٥.

٣٤٩

فأمرت كلَّ فتى شهد من بني هاشم أن يأخذ حديدةً ويجلس كلُّ واحد منهم إلى عظيم منكم فإذا قلت: أبغي محمَّداً: قتل كلُّ واحد منهم الرجل الذي إلى جنبه، فاكشفوا عمّا في أيديكم يا بني هاشم! فكشف بنو هاشم عمّا في أيديهم فنظرت قريش إلى ذلك فعندها هابت قريش رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثمَّ أنشأ أبو طالب:

ألا أبلغ قريشاً حيث حلّت

وكلُّ سرائر منها غرورُ

فانّي والضوابح عاديات(١)

وما تتلو السفاسرة الشهورُ(٢)

لآل محمّد راعٍ حفيظ

وودّ الصدر منِّي والضميرُ

فلست بقاطع رحمي وولدي

ولو جرَّت مظالمها الجزورُ

أيأمر جمعهم أبناء فهر

بقتل محمَّد والأمر زورُ

فلا وأبيك لا ظفرت قريش

ولا أمَّت رشاداً إذ تشيرُ

بُنيّ أخي ونوط القلب منِّي

وأبيض ماءه غدق كثيرُ

ويشرب بعده الولدان ريّاً

وأحمد قد تضمَّنه القبورُ

أيا ابن الانف أنف بني قُصيّ(٣)

كأنَّ جبينك القمر المنيرُ

(لفت نظر) قال شيخنا لعلاّمة المجلسي في البحار ٩: ٣١ روى جامع الديوان - يعني ديوان أبي طالب - نحو هذا الخبر مرسلاً ثمَّ ذكر الأشعار هكذا فذكر الاشعار وفيها زيادة عشرين بيتاً على ما ذكر وهي لا توجد في الديوان المطبوع لسيِّدنا أبي طالب.

(لفظٌ ثالثٌ)

وقال السيِّد فخار بن معد في كتابه « الحجَّة » ص ٦١: وأخبرني الشيخ الحافظ أبو الفرج عبد الرحمن بن محمَّد بن الجوزي المحدِّث البغدادي (وكان ممَّن يرى كفر

____________________

١ - فى تاج العروس ٣، ٢٧٢ « فانّى والسوابح كلّ يوم » وفي ص ٣٢٠ « فانّي والضوابح كل يوم »

٢ - السفاسرة: أصحاب الاسفار وهو الكتب. الشهور: العلماء ج الشهر. كذا فسر البيت كما في تاج العروس ٣: ٢٧٢، ٣٢٠.

٣ - الانف: السيد.

٣٥٠

أبي طالب ويعتقده) بواسط العراق سنة إحدى وتسعين وخمسمائة باسناد له إلى الواقدي قال: كان أبو طالب بن عبد المطلب لا يغيب صباح النبيِّ ولا مساءه، ويحرسه من أعداءه ويخاف أن يغتالوه، فلمّا كان ذات يوم فقده فلم يره وجاء المساء فلم يره وأصبح الصباح فطلبه في مظانِّه فلم يجده فلزم أحشاءه وقال: وا ولداه وجمع عبيده ومن يلزمه في نفسه قال لهم: إنَّ محمّداً قد فقدته في أمسنا ويومنا هذا ولا أظنُّ إلّا أنَّ قريشاً قد إغتالته وكادته وقد بقي هذا الوجه ما جئته وبعيدٌ أن يكون فيه واختار من عبيده عشرين، رجلاً، فقال: امضوا وأعدّوا سكاكين وليمض كلٌّ رجل منكم وليجلس إلى جنب سيّد من سادات قريش فان أتيت ومحمَّد معي فلاُ تحدثن أمراً وكونوا على رسلكم حتّى أقف عليكم، وإن جئت وما محمَّد معي فليضرب كلٌّ منكم الرجل الذي إلى جانبه من سادات قريش فمضوا وشحذوا سكاكينهم حتّى رضوها، ومضى أبو طالب في الوجه الذي أراده ومعه رهطه من قومه فوجده في أسفل مكّة قائماً يصلّي إلى جنب صخرة فوقع عليه وقبّله وأخذ بيده وقال: يا بن أخ! قد كدت أن تأتي على قومك، سر معي، فأخذ بيده وجاء إلى المسجد وقريش في ناديهم جلوسٌ عند الكعبة فلمّا رأوه قد جاء ويده في يد النبيِّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قالوا: هذا أبو طالب قد جاءكم بمحمَّد إنَّ له لشأناً، فلمَّا وقف عليهم والغضب في وجهه قال لعبيده: أبرزوا ما في أيديكم فأبرز كلٌّ واحد منهم ما في يده فلمّا رأوا السكاكين قالوا: ما هذا يا أبا طالب؟ قال: ما ترون، انِّي طلبت محمَّداً فلم أره منذ يومين فخفت أن تكونوا كدتموه ببعض شأنكم فأمرت هؤلاء أن يجلسوا حيث ترون وقلت لهم: إن جئت وليس محمَّدٌ معي فليضرب كلٌّ منكم صاحبه الذي إلى جنبه ولا يستأذنِّي فيه ولو كان هاشميّاً فقالوا: وهل كنت فاعلاً؟ فقال: أي وربِّ هذه وأومى إلى الكعبة، فقال له المطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف وكان من أحلافه: لقد كدت تأتي على قومك؟ قال: هو ذلك. ومضى به وهو يقول:

إذهب بُنيَّ فما عليك غضاضةٌ

إذهب وقرَّ بذاك منك عيونا

والله لن يصلوا إليك بجمعهم

حتّى اُوسَّد في التراب دفينا

ودعوتني وعلمت أنّك ناصحي

ولقد صدقت وكنت قبل أمينا

٣٥١

وذكرت ديناً لا محالة إنَّه

من خير أديان البريَّة دينا(١)

فرجعت قريش على أبي طالب بالعتب والإستعطاف وهو لا يحفل بهم ولا يلتفت إليهم.

قال الأميني: هذا الشيخ الأبطح يروقه أن يُضحِّي كلّ قومه دون نبيِّ الاسلام وقد تأهَّب لأن يطأ القوميّات كلّها والأواصر المتَّشجة بينه وبين قريش بأخمص الدين. فحيّاها الله من عاطفة إلـ~ـهيَّة، وآصرة دينيَّة هي فوق أواصر الرَّحم.

- ٦ -

أبو طالب في بدء الدعوة

لمـّا نزلت: وانذر عشيرتك الأقربين(٢) . خرج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فصعد على الصفا فهتف: يا صباحاه. فاجتمعوا إليه، فقال: أرأيتكم لو أخبرتكم انَّ خيلاً تخرج بسفح الجبل أكنتم مصدِّقي؟ قالوا: نعم ما جرَّبنا عليك كذباً. قال: فانِّي نذيرٌ لكم بين يدي عذاب شديد. فقال أبو لهب: تبّاً لك، أما جمعتنا إلّا لهذا؟ ثمَّ احضر قومه في داره فبادره أبو لهب وقال: هؤلاء هم عمومتك وبنو عمِّك فتكلَّم ودع الصبأة(٣) و اعلم أنَّه ليس لقومك بالعرب قاطبة طاقة، وانَّ أحقّ من أخذك فحبسك بنو أبيك و إن أقمت ما أنت عليه فهو أيسر عِليهم من أن ينبَّ لك بطون قريش، وتمدَّهم العرب فما رأيت أحداً جاء على بني أبيه بشرٍّ ممّا جئتم به. فسكت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ولم يتكلّم.

ثمَّ دعاهم ثانية وقال: الحمد لله أحمده وأستعينه واومن وأتوكَّل عليه وأشهد أن لا إلـ~ـه إلاّ الله وحده لا شريك له.

ثمَّ قال: إنَّ الرائد لا يكذب أهله، والله الذي لا إلـ~ـه إلّا هو انِّي رسول الله إليكم خاصَّة وإلى الناس عامَّة، والله لتموتنَّ كما تنامون، ولتبعثنَّ كما تستيقظون، ولتحاسبنَّ بما تعملون، وانَّها الجنَّة أبداً والنار أبداً.

فقال أبو طالب: ما احبَّ إلينا معاونتك، واقبلنا لنصيحتك، واشدَّ تصديقنا لحديثك، وهؤلاء بنو أبيك مجتمعون وانَّما أنا أحدهم غير انِّي أسرعهم إلى ما تحبُّ، فامض لما اُمرت به، فوالله لا أزال أحوطك وأمنعك، غير أنَّ نفسي لا تُطاوعني على

____________________

١ - راجع ما اسلفناه ص ٣٣٤.

٢ - مرّ حديثها فى الجزء الثانى ص ٢٧٨ ط ٢.

٣ - الصبأ: الخروج من دين الى دين آخر.

_٢٢_

٣٥٢

فراق دين عبد المطلب(١) .

قال الأميني لم يكن دين عبد المطلب سلام الله عليه إلّا دين التوحيد والايمان بالله ورسله وكتبه غير مشوب بشيء من الوثنيَّة، وهو الذي كان يقول في وصاياه: إنَّه لن يخرج من الدنيا ظلومٌ حتى ينتقم منه وتصيبه عقوبة. إلى أن هلك ظلومٌ لم تصبه عقوبة. فقيل له في ذلك ففكّر في ذلك فقال: والله انَّ وراء هذه الدار دارٌ يجزى فيها المحسن باحسانه، ويعاقب المسيء باساءته، وهو الذي قال لأبرهة: انَّ لهذا البيت ربّاً يذبُّ عنه ويحفظه، وقال وقد صعد أبا قبيس:

لا هُمَّ انَّ المرء يمنع

حلّه فامنع حلالك

لا يغلبنَّ صليبهم

ومحالهم عدّوا محالكْ

فانصر على آل الصليب

وعابديه اليوم آلكْ

إن كنت تاركهم وكعـ

ـبتنا فأمرٌ ما بدا لكْ(٢)

ويُعرب عن تقدُّمه في الايمان الخالص والتوحيد الصَّحيح انتماء رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اليه ومباهاته به يوم حنين بقوله:

أنا النبيُّ لا كَذِب

أنا ابن عبد المطَّلب(٣)

وقد أجاد الحافظ شمس الدين بن ناصر بن الدمشقي في قوله:

تنقَّل أحمد نوراً عظيماً

تلالا في جباه الساجدينا

تقلّب فيهمُ قرناً فقرناً

إلى أن جاء خير المرسلينا(٤)

وهذا هو الذي أراده أبو طالب سلام الله عليه بقوله: نفسي لا تطاوعني على فراق دين عبد المطلب. وهو صريح بقيَّة كلامه، وقد أراد بهذا السياق التعمية على الحضور لئلّا يناصبوه العداء بمفارقتهم، وهذا السياق من الكلام من سنن العرب في

____________________

١ - الكامل لابن الاثير ٢: ٢٤.

٢ - الملل والنحل للشهرستانى هامش الفصل ٣: ٢٢٤، الدرج المنيفة للسيوطى ص ١٥، مسالك الحنفاء ٣٧.

٣ - طبقات ابن سعد ط مصر رقم التسلسل ص ٦٦٥، تاريخ الطبرى ٣: ١٢٩.

٤ - مسالك الحنفا للسيوطى ص ٤٠، الدرج المنيفة ص ١٤.

٣٥٣

محاورتهم، قد يريدون به التعمية، وقد يراد به التأكيد للمعنى المقصود كقول الشاعر:

ولا عيب فيهم غير أنَّ سيوفهم

بهنَّ فلولٌ من قراع الكتائبِ

ولو لم يكن لسيِّدنا ابي طالب إلّا موقفه هذا لكفى بمفرده في ايمانه الثابت، وإسلامه القويم، وثباته في البدء.

قال ابن الأثير: فقال أبو لهب: هذه والله السوء خذوا على يديه قبل أن يأخذ غيركم، فقال أبو طالب: والله لنمنعنَّه ما بقينا، وفي السيرة الحلبيَّة ١: ٣٠٤: إنَّ الدعوة كانت في دار أبي طالب.

قال عقيل بن أبي طالب: جاءت قريش إلى أبي طالب فقالوا: إنَّ ابن أخيك يُؤذينا في نادينا وفي كعبتنا وفي ديارنا ويُسمعنا ما نكره فإن رأيت أن تكفَّه عنّا فافعل. فقال لي: يا عقيل! التمس لي ابن عمِّك فأخرجته من كبس من كباس ابي طالب فجاء يمشي معي يطلب الفيء يطأ فيه لا يقدر عليه حتَّى انتهى إلى ابي طالب فقال: يا ابن أخي! والله لقد كنت لي مطيعاً جاء قومك يزعمون انَّك تأتيهم في كعبتهم وفي ناديهم فتؤذيهم و تُسمعهم ما يكرهون، فإن رأيت أن تكفَّ عنهم. فحلق بصره إلى السَّماء وقال: والله ما أنا بقادر أن أردَّ ما بعثني به ربِّي، ولو أن يشعل أحدهم من هذه الشمس ناراً. فقال أبو طالب: والله ما كذب قطُّ فارجعوا راشدين.

قال الأميني: هكذا أخرجه البخاري في تاريخه باسناد رجاله كلّهم ثقات، وبهذا اللفظ ذكره المحبُّ الطبري في ذخاير العقبي ص ٢٢٣. غير أنَّ ابن كثير لمـّا رأى لكلمة: راشدين. قيمة في ايمان أبي طالب فحذفها في تاريخه ٣ ص ٤٢. حيّا الله الأمانة.

وأخرج ابن سعد في الطبقات الكبرى ١: ١٧١ حديث الدعوة عن عليّ وفيه: ثمَّ قال لهمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : مَن يؤازرني على ما أنا عليه ويجيبني على أن يكون أخي وله الجنَّة؟ فقلت: أنا يا رسول الله، وإنيِّ لأحدثهم سنّاً، وأحمشهم ساقاً.

وسكت القوم، ثمَّ قالوا: يا أبا طالب! ألا ترى ابنك؟ قال: دعوه فلن يألو(١) ابن عمّه خيرا.

وروى أبو عمرو الزاهد الطبري عن تغلب عن ابن الأعرابي إنَّه قال في لغة - العور - انَّه الرديّ من كلِّ شيء قال: ومن العور ما في رواية ابن عبّاس. ثمَّ ذكر حديث

____________________

١ - يألو: قصر.

٣٥٤

عليّعليه‌السلام بطوله إلى أن قال: قال: فلمّا أراد النبيُّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يتكلَّم اعترضه أبو لهب فتكلّم بكلمات وقال: قوموا فقاموا وانصرفوا. قال: فلمّا كان من الغد أمرني فصنعت مثل ذلك الطعام والشراب ودعوتهم فأقبلوا ودخلوا فأكلوا وشربوا فقام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليتكلَّم فاعترضه أبو لهب فقال له أبو طالب: اسكت يا أعور! ما أنت وهذا؟ ثمَّ قال: لا يقومنَّ أحدٌ. قال: فجلسوا ثمَّ قال للنبيِّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : قم يا سيِّدي فتكلَّم بما تحبّ و بلِّغ رسالة ربِّك فانَّك الصّادق المصدَّق.

وإلى هذا الحديث وكلمة أبي طالب - اسكت يا أعور! ما أنت وهذا؟ - وقع الايعاز في النهاية لابن الأثير ٣: ١٥٦، والفائق للزمخشري ٢: ٩٨ نقلا عن ابن الأعرابي، وفي لسان العرب ٦: ٢٩٤، تاج العروس ٣: ٤٢٨.

قال الأميني: أيّ كافر طاهر هذا سلام الله عليه وهو يدافع عن الاسلام المقدَّس بكلِّ حوله وطوله، ويسلق رجال قومه بلسان حديد، ويحضُّ النبيَّ الأعظم على الدَّعوة وتبليغ رسالته عن ربِّه، ويراه الصّادق المصدَّق؟.

- ٧ -

قول أبي طالب لعليّ: إلزم ابن عمِّك

قال ابن إسحاق: ذكر بعض أهل العلم أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان إذا حضرت الصَّلاة خرج إلى شعاب مكّة وخرج معه عليُّ بن أبي طالب مستخفياً من أبيه أبي طالب ومن جميع أعمامه وسائر قومه، فيصلّيان الصَّلوات فيها فإذا أمسيا رجعا فمكثا كذلك ما شاء الله أن يمكثا، ثمَّ إنَّ أبا طالب عثر عليهما يوماً وهما يُصلّيان فقال لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا ابن أخي! ما هذا الدين الذي اراك تدين به؟ قال: أي عمّ! هذا دين الله ودين ملائكته ودين رسله ودين أبينا إبراهيم.

وذكروا انَّه قال لعليّ: أيُ بنيَّ! ما هذا الدين الذي أنت عليه؟ فقال: يا أبت آمنت بالله وبرسول الله وصدَّقته بما جاء به، وصلَّيت معه لِلَّه واتَّبعته، فزعموا انَّه قال له: أما انَّه لم يدعك إلّا إلى خير، فالزمه.

وفي لفظ عن عليّ: إنَّه لمـَّا أسلم قال له أبو طالب: إلزم ابن عمِّك.

سيرة ابن هشام ١: ٢٦٥، تاريخ الطبري ٢: ٢١٤، تفسير الثعلبي، عيون الأثر

٣٥٥

١: ٩٤، الإصابة ٤: ١١٦، أسنى المطالب ص ١٠.

وفي شرح إبن أبي الحديد ٣: ٣١٤: روي عن عليّ قال: قال أبي: يا بنيَّ ألزم ابن عمِّك فانَّك تسلم به من كلِّ بأس عاجل وآجل ثمَّ قال لي:

إنَّ الوثيقة في لزوم محمَّد

فاشدد بصحبته علىُّ يديكا

فقال: ومن شعره المناسب لهذا المعنى قوله:

إنَّ عليّاً وجعفراً ثقتي

عند مُلمِّ الزمان والنوبِ

لا تخذلا وانصرا ابن عمّكما

أخي لاُمِّي من بينهم وأبي

والله لا أخذل النبيَّ ولا

يخذله من بنيَّ ذو حسب

هذه الأبيات الثلاث توجد في ديوان أبي طالب ايضا ص ٣٦ وذكرها العسكري في كتاب الأوايل قال: إنَّ أبا طالب مرَّ بالنبيِّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومعه جعفر فرأى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يصلّي وعليٌّ معه فقال لجعفر: يا بنيَّ! صلِّ جناح ابن عمِّك.

فقام إلى جنب عليّ فأحسَّ النبيُّ فتقدَّمهما وأقبلوا على أمرهم حتّى فرغوا فانصرف أبو طالب مسروراً وأنشأ يقول:

إنَّ عليّاً وجعفراً ثقتي

عند ملمِّ الزمان والنوبِ

وذكر أبياتاً لم يذكرها ابن أبي الحديد ومنها:

نحن وهذا النبيُّ ننصره

نضرب عنه الأعداء كالشهبِ

وأخرج أبو بكر الشيرازي في تفسيره: إنَّ النبيَّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمـّا انزل عليه الوحي أتى المسجد الحرام وقام يصلّي فيه فأجتاز به عليٌّعليه‌السلام وكان إبن تسع سنين فناداه: يا عليُّ! إليَّ أقبل، فأقبل اليه ملبِّياً فقال له النبيُّ: إنِّي رسول الله اليك خاصَّة وإلى الخلق عامَّة فقف عن يميني وصلِّ معي فقال: يا رسول الله! حتى أمضي وأستأذن أبا طالب والدي، فقال له: إذهب فانَّه سيأذن لك، فانطلق إليه يستأذنه في إتِّباعه، فقال: يا ولدي: نعلم أنَّ محمَّداً أمين الله منذ كان، إمض اليه واتَّبعه ترشد وتفلح. فأتى عليٌّعليه‌السلام ورسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قائمٌ يُصلّي في المسجد فقام عن يمينه يُصلّي معه فاجتاز أبو طالب بهما وهما يصلِّيان. فقال: يا محمَّد ما تصنع؟ قال: أعبد إ~له السَّماوات والأرض ومعي أخي عليّ يعبد ما أعبد وأنا أدعوك إلى عبادة الواحد القهّار فضحك أبو طالب حتّى بدت نواجذه وانشأ يقول:

والله لن يصلوا إليك بجمعهم

حتّى اُغيَّب في التراب دفينا

٣٥٦

إلى آخر الأبيات التي أسلفناها ص ٣٣٤.

- ٨ -

قول أبي طالب: صِل جناح ابن عمِّك

أخرج ابن الأثير: إنَّ أبا طالب رأي النبيَّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعليّاً يصلّيان وعليٌّ على يمينه فقال لجعفر رضي الله تعالى عنه: صِل جناح إبن عمِّك، وصَلِّ عن يساره، وكان إسلام جعفر بعد إسلام أخيه عليٍّ بقليل. وقال أبو طالب:

فصبراً أبا يعلى على دين أحمد

وكن مظهراً للدين وُفِّقت صابرا

وحط مَن أتى بالحقِّ من عند ربِّه

بصدقٍ عزمٍ لا تكن حمزُ كافرا

فقد سرَّني إذ قلت: إنَّك مؤمنٌ

فكن لرسول الله في الله ناصرا

وباد قريشاً بالذي قد أتيته

جهاراً وقل: ما كان أحمد ساحرا

اُسد الغابة: ١: ٢٨٧، شرح ابن أبي الحديد ٣: ٣١٥، الاصابة ٤: ١١٦، السيرة الحلبية ١: ٢٨٦، أسنى المطالب ص ٦ وقال: قال البرزنجي: تواترت الأخبار انَّ أبا طالب كان يُحبُّ النبيَّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويحوطه وينصره ويعينه على تبليغ دينه ويُصدِّقه، فيما يقوله ويأمر أولاده كجعفر وعليّ باتِّباعه ونصرته.

وقال في ص ١٠: قال البرزنجي: هذه الأخبار كلّها صريحةٌ في أنَّ قلبه طافحٌ وممتلئٌ بالايمان بالنبيِّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

- ٩ -

أبو طالب وحنوه على النبيِّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

قال أبو جعفر محمَّد بن حبيب رحمه الله في أماليه: كان أبو طالب إذا رأى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أحياناً يبكي ويقول: إذا رأيته ذكرت أخي، وكان عبد الله أخاه لأبويه وكان شديد الحبِّ والحنوِّ عليه، وكذلك كان عبد المطَّلب شديد الحبِّ له، وكان أبو طالب كثيراً ما يخاف على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم البيات اذا عرف مضجعه فكان يقيمه ليلاً من منامه ويضجع إبنه عليّاً مكانه، فقال له: عليٌّ ليلة: يا أبت إنِّي مقتولٌ. فقال له:

أصبرن يا بنيَّ فالصبر أحجى

كلُّ حيٍّ مصيره لشعوبِ

قد بذلناك والبلاء شديد

لفداء الحبيب وابن الحبيبِ

٣٥٧

لفداء الأغرِّ ذي الحسب الثا

قب والباع والكريم النجيبِ

إن تصبك المنون فالنبل تبرى(١)

فمصيبٌ منها وغير مصيبِ

كلُّ حيٍّ وإن تملّي بعمرٍ(٢)

آخذٌ من مذاقها بنصيبِ

فأجاب عليٌّ بقوله:

أتأمرني بالصبر في نصر أحمد؟

ووالله ما قلت الذي قلت جازعا

ولكنَّني أحببت أن ترَ نصرتي

وتعلم أنِّي لم أزل لك طائعا

سأسعى لوجه الله في نصر أحمد

نبيِّ الهدى المحمود طفلاً ويافعا

وذكره ابن أبي الحديد نقلاً عن الأمالي ٣: ٣١٠ وهناك تصحيفٌ في البيت الثاني والثالث من أبيات أبي طالب صحَّحناه من طبقات السيِّد علي خان الناقل عن شرح ابن أبي الحديد المخطوط، وذكر القصَّة أبو علي الموضح العمري العلوي كما في كتابه (الحجَّة) ص ٦٩.

قال الأميني: إنَّ القرابة والرحم تبعثان إلى المحاماة إلى حدّ محدود، لكنَّه إذا بلغت حدَّ التضحية بولد كأمير المؤمنين هو أحب العالمين إلى والده فهناك يقف التفاني على موقفه، فلا يستسهل الوالد أن يعرض إبنه على القتل كلَّ ليلة فينيمه على فراش المفدَّى، ويستعوض منه ابن أخيه، إلّا أن يكون مندفعاً إلى ذلك بدافع دينيٍّ وهو معنى إعتناق أبي طالب بالدين الحنيف، وهو الذي تعطيه المحاورة الشعريَّة بين الوالد والولد فترى الولد يسارح بالنبوَّة فلا ينكر عليه الوالد بأنَّ هذا التهالك ليس إلّا بدافعٍ قوميّ غير فاتر عن حضِّ إبنه على ما يبتغيه من النصرة ولا متثبِّط عن النهوض بها (فسلام الله على والد وما ولد).

- ١٠ -

أبو طالب وابن الزبعرى

قال القرطبي في تفسيره ٤٠٦: روى أهل السير قال: كان النبيُّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد خرج إلى الكعبة يوماً وأراد أن يصلّي، فلمّا دخل في الصَّلاة قال أبو جهل - لعنه

____________________

١ - فى بعض المصادر: تترى.

٢ - فى مصادر مخطوطة عتيقة: كل حيّ وان تطاول عمراً.

٣٥٨

الله -: من يقوم إلى هذا الرجل فيفسد عليه صلاته؟ فقام ابن الزبعرى فأخذ فرثاً ودماً. فلطخ به وجه النبيِّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فانفتل النبيُّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من صلاته، ثمَّ أتى أبا طالب عمَّه فقال: يا عمّ! ألا ترى إلى ما فُعِل بي؟ فقال أبو طالب: من فعل هذا بك؟! فقال النبيُّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عبد الله بن الزبعرى. فقام أبو طالب ووضع سيفه على عاتقه ومشى معه حتّى أتى القوم فلمّا رأوا أبا طالب قد أقبل جعل القوم ينهضون، فقال أبو طالب: والله لئن قام رجلٌ لجللته بسيفي فقعدوا حتى دنا إليهم، فقال: يا بُنيَّ مَنِ الفاعل بكَ هذا؟ فقال: عبد الله ابن الزبعرى، فأخذ أبو طالب فرثاً ودماً فلطَّخ به وجوههم ولحاهم وثيابهم، وأساء لهم القول.

حديث موقف أبي طالب هذا يوجد في غير واحد من كتب القوم وقد لعبت به أيدي الهوى وسنوقفك إنشاء الله على حقِّ القول فيه تحت عنوان [أبو طالب في الذكر الحكيم].

- ١١ -

سيِّدنا أبو طالب وقريش

قال إبن إسحاق: لَمّا بادى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قومه بالاسلام، وصدع به كما أمره الله لم يبعد منه قومه ولم يردّوا عليه فيما بلغني حتّى ذكر آلهتهم وعابها، فلمّا فعل ذلك أعظموه وناكروه، وأجمعوا خلافه عداوته، إلّا من عصم الله تعالى منهم بالإسلام وهم قليلٌ مستخفون، وحدِب(١) على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عمّه أبو طالب ومنعه وقام دونه، ومضى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على أمر الله مظهراً لأمره، لا يردُّه عنه شيءٌ.

وقال: إنَّ قريشاً حين قالوا لأبي طالب هذه المقالة بعث إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال له: يا ابن أخي! إنَّ قومك قد جاءوني فقالوا لي كذا وكذا، فابق عليَّ وعلى نفسك، ولا تحملنِّي من الأمر ما لا اُطيق، قال: فظنَّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم انَّه قد بدا لعمِّه فيه بداء، وانَّه خاذله ومسلمه، وانَّه قد ضعف عن نصرته والقيام معه، قال: فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا عمُّ! والله لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتّى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته. قال: ثمَّ استعبر رسول الله

____________________

١ - حدب: عطف عليه ومنع له.

٣٥٩

صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فبكى ثمَّ قام، فلمّا ولّى ناداه أبو طالب فقال: أقبل يا بن أخي! قال: فأقبل عليه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال: إذهب يا بن أخي فقل ما أحببت فوالله لا اسلمك لشيء أبداً.

ثمَّ إنَّ قريشاً حين عرفوا انَّ أبا طالب قد أبى خذلان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإسلامه وإجماعه لفراقهم في ذلك وعداوتهم مشوا إليه بعمارة بن الوليد بن المغيرة فقالوا له: يا أبا طالب هذا عمارة بن الوليد أنهد فتىً في قريش وأجمله، فخذه فلك عقله ونصره واتَّخذه ولداً فهو لك وأسلم إلينا إبن أخيك، هذا الذي قد خالفك دينك ودين آبائك وفرَّق جماعة قومك، وسفه أحلامهم، فنقتله، فانَّما هو رجلٌ برجل، قال: والله لبئس ما تسومونني، أتعطونني إبنكم أغذوه لكم وأعطيكم إبني تقتلونه؟! هذا والله ما لا يكون أبدا. قال: فقال المطعم بن عديّ بن نوفل: والله يا أبا طالب! لقد أنصفك قومك وجهدوا على التخلّص ممّا تكرهه، فما أراك تريد أن تقبل منهم شيئاً، فقال أبو طالب للمطعم: والله ما أنصفوني، ولكنّك قد أجمعت خذلاني ومظاهرة القوم عليَّ فاصنع ما بدا لك أو كما قال.

قال: فحقب الأمر، وحميت الحرب، وتنابذ القوم، وبادى بعضهم بعضاً، فقال أبو طالب عند ذلك يعرض بالمطعم بن عديّ ويعمُّ من خذله من عبد مناف ومن عاداه من قبائل قريش، ويذكر ما سألوه وما تباعد من أمرهم:

ألا قل لعمرو والوليد ومطعمٍ

ألا ليت حظِّي من حياطتكم بَكرُ(١)

من الخور حبحابٌ كثيرٌ رُغاؤه

يُرشُّ على الساقين من بوله قطرُ(٢)

تخلّف خلف الورد ليس بلا حقٍ

إذا ما علا الفيفاء قيل له: وَبرُ(٣)

أرى أخوينا من أبينا وامِّنا

إذا سُئلا قالا: إلى غيرنا الأمرُ

بلى لهما أمرٌ ولكن تجرجما

كما جرجمت من رأس ذي علقٍ صخرُ(٤)

____________________

١ - البكر: القتى من الابل.

٢ - الخور ج أخور: الضعيف حبحاب بالمهملتين: القصير. ويروى بالجيمين المعجمتين: الكثير الكلام. ويروى بالخاء المعجمة ومعناه: الضعيف.

٣ - الفيفاء الارض القفر. وبر: دويبة على قدر الهّرة.

٤ - تجرجما: سقطا وانحدرا، يقال: تجرجم الشيء اذا سقط. ذو علق: جبل فى ديار بنى اسد.

٣٦٠