الميزان في تفسير القرآن الجزء ٦

الميزان في تفسير القرآن14%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 401

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 401 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 84213 / تحميل: 7596
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ٦

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

١

بسم الله الرحمن الرحيم

( بقيّة سورة المائدة)

( سورة المائدة الآيات ٥٥ - ٥٦)

إِنّمَا وَلِيّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالّذِينَ آمَنُوا الّذِينَ يُقِيمُونَ الصّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ( ٥٥) وَمَن يَتَوَلّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالّذِينَ آمَنُوا فَإِنّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ( ٥٦)

( بيان)

الآيتان - كما ترى - موضوعتان بين آيات تنهى عن ولاية أهل الكتاب و الكفّار، و لذلك رام جماعة من مفسّري القوم إشراكهما مع ما قبلهما و ما بعدهما من حيث السياق، و جعل الجميع ذات سياق واحد يقصد به بيان وظيفة المؤمنين في أمر ولاية الأشخاص ولاية النصرة، و النهي عن ولاية اليهود و النصارى و الكفّار، و قصر الولاية في الله سبحانه و رسوله و المؤمنين الّذين يقيمون الصلاة و يؤتون الزكاة و هم راكعون، و هؤلاء هم المؤمنون حقّاً فيخرج بذلك المنافقون و الّذين في قلوبهم مرض، و يبقى على وجوب الولاية المؤمنون حقّاً، و تكون الآية دالّة على مثل ما يدلّ عليه مجموع قوله تعالى:( وَ اللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ ) آل عمران: ٦٨، و قوله تعالى:( النَّبِيُّ أَوْلى‏ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ) الأحزاب: ٦، و قوله تعالى في المؤمنين:( أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ ) الأنفال: ٧٢، و قوله تعالى:( وَ الْمُؤْمِنُونَ وَ الْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ) الآية: التوبة ٧١. فمحصّل الآية جعل ولاية النصرة لله و لرسوله و المؤمنين على المؤمنين.

نعم يبقى هناك إشكال الجملة الحاليّة الّتي يتعقّبها قوله:( وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ )

٢

و هي قوله:( وَ هُمْ راكِعُونَ ) و يرتفع الإشكال بحمل الركوع على معناه المجازيّ و هو مطلق الخضوع لله سبحانه أو انحطاط الحال لفقر و نحوه، و يعود معنى الآية إلى أنّه ليس أولياؤكم اليهود و النصارى و المنافقين بل أولياؤكم الله و رسوله و المؤمنون الّذين يقيمون الصلاة، و يؤتون الزكاة، و هم في جميع هذه الأحوال خاضعون لساحة الربوبيّة بالسمع و الطاعة، أو أنّهم يؤتون الزكاة و هم فقراء معسرون هذا.

لكنّ التدبّر و استيفاء النظر في الآيتين و ما يحفّهما من آيات ثمّ في أمر السورة يعطي خلاف ما ذكروه، و أوّل ما يفسد من كلامهم ما ذكروه من أمر وحدة سياق الآيات، و أنّ غرض الآيات التعرّض لأمر ولاية النصرة، و تمييز الحقّ منها من غير الحقّ فإنّ السورة و إن كان من المسلم نزولها في آخر عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حجّة الوداع لكن من المسلّم أيضاً أنّ جميع آياتها لم تنزل دفعة واحدة ففي خلالها آيات لا شبهة في نزولها قبل ذلك، و مضامينها تشهد بذلك، و ما ورد فيها من أسباب النزول يؤيّده فليس مجرّد وقوع الآية بعد الآية أو قبل الآية يدلّ على وحدة السياق، و لا أنّ بعض المناسبة بين آية و آية يدلّ على نزولهما معاً دفعة واحدة أو اتّحادهما في السياق.

على أنّ الآيات السابقة أعني قوله:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَ النَّصارى‏ أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ ) إلخ، تنهى المؤمنين عن ولاية اليهود و النصارى، و تعيّر المنافقين و الّذين في قلوبهم مرض بالمسارعة إليهم و رعاية جانبهم من غير أن يرتبط الكلام بمخاطبة اليهود و النصارى و إسماعهم الحديث بوجه بخلاف الآيات التالية أعني قوله:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَ لَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَ الْكُفَّارَ أَوْلِياءَ ) إلخ، فإنّها تنهى عن ولايتهم و تتعرّض لحالهم بالأمر بمخاطبتهم ثمّ يعيّرهم بالنفاق و الفسق فالغرض في القبيلين من الآيات السابقة و اللّاحقة مختلف، و معه كيف يتحدّ السياق؟!

على أنّك قد عرفت في البحث عن الآيات السابقة أعني قوله:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَ النَّصارى‏ أَوْلِياءَ ) (الآيات) أنّ ولاية النصرة لا تلائم سياقها،

٣

و أنّ خصوصيّات الآيات و العقود المأخوذة فيها و خاصّة قوله:( بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ ) و قوله:( وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ) لا تناسبها فإنّ عقد ولاية النصرة و اشتراطها بين قومين لا يوجب صيرورة أحدهما الآخر و لحوقه به، و لا أنّه يصحّ تعليل النهي عن هذا العقد بأنّ القوم الفلانيّ بعضهم أولياء بعض بخلاف عقد ولاية المودّة الّتي توجب الامتزاج النفسيّ و الروحيّ بين الطرفين، و تبيح لأحدهما التصرّف الروحيّ و الجسميّ في شؤون الآخر الحيويّة و تقارب الجماعتين في الأخلاق و الأعمال الّذي يذهب بالخصائص القوميّة.

على أنّه ليس من الجائز أن يعدّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وليّاً للمؤمنين بمعنى ولاية النصرة بخلاف العكس فإنّ هذه النصرة الّتي يعتني بأمرها الله سبحانه، و يذكرها القرآن الكريم في كثير من آياته هي النصرة في الدين و حينئذ يصحّ أن يقال: إنّ الدين لله بمعنى أنّه جاعله و شارع شرائعه فيندب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو المؤمنون أو هما جميعاً إلى نصرته أو يدعوا أنصاراً لله في ما شرّعه من الدين كقوله تعالى:( قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ ) الصفّ: ١٤، و قوله تعالى:( إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ ) محمّد: ٧، و قوله تعالى:( وَ إِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ - إلى أن قال -لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَ لَتَنْصُرُنَّهُ ) آل عمران: ٨١، إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة.

و يصحّ أن يقال: إنّ الدين للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمعنى أنّه الداعي إليه و المبلّغ له مثلاً، أو إنّ الدين لله و لرسوله بمعنى التشريع و الهداية فيدعى الناس إلى النصرة، أو يمدح المؤمنون بالنصرة كقوله تعالى:( وَ عَزَّرُوهُ وَ نَصَرُوهُ ) الأعراف: ١٥٧، و قوله تعالى:( وَ يَنْصُرُونَ اللهَ وَ رَسُولَهُ ) الحشر: ٨، و قوله تعالى:( وَ الَّذِينَ آوَوْا وَ نَصَرُوا ) الأنفال: ٧٢، إلى غير ذلك من الآيات.

و يصحّ أن يقال: إنّ الدين للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و للمؤمنين جميعاً، بمعنى أنّهم المكلّفون بشرائعه العاملون به فيذكر أنّ الله سبحانه وليّهم و ناصرهم كقوله تعالى:( وَ لَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ ) الحجّ: ٤٠، و قوله تعالى:( إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَ الَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ يَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ ) غافر: ٥١، و قوله تعالى:( كانَ حَقًّا

٤

عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ) الروم ٤٧ إلى غير ذلك من الآيات.

لكن لا يصحّ أن يفرد الدين بوجه للمؤمنين خاصّة، و يجعلوا أصلاً فيه و النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمعزل عن ذلك، ثمّ يعدّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ناصراً لهم فيما لهم، إذ ما من كرامة دينيّة إلّا هو مشاركهم فيها أحسن مشاركة، و مساهمهم أفضل سهام و لذلك لا نجد القرآن يعدّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ناصراً للمؤمنين و لا في آية واحدة، و حاشا ساحة الكلام الإلهيّ أن يساهل في رعاية أدبه البارع.

و هذا من أقوى الدليل على أنّ المراد بما نسب إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الولاية في القرآن هو ولاية التصرّف أو الحبّ و المودّة كقوله تعالى:( النَّبِيُّ أَوْلى‏ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ) الأحزاب: ٦، و قوله تعالى:( إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا ) (الآية)، فإنّ الخطاب للمؤمنين، و لا معنى لعدّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وليّاً لهم ولاية النصرة كما عرفت.

فقد ظهر أنّ الآيتين أعني قوله تعالى:( إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَ رَسُولُهُ ) إلى آخر الآيتين لا تشاركان السياق السابق عليهما لو فرض أنّه متعرّض لحال ولاية النصرة، و لا يغرّنّك قوله تعالى في آخر الآية الثانية:( فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغالِبُونَ ) ، فإنّ الغلبة كما تناسب الولاية بمعنى النصرة، كذلك تناسب ولاية التصرّف و كذا ولاية المحبّة و المودّة، و الغلبة الدينيّة الّتي هي آخر بغية أهل الدين تتحصّل باتّصال المؤمنين بالله و رسوله بأي وسيلة تمّت و حصلت، و قد قرع الله سبحانه أسماعهم ذلك بصريح وعده حيث قال:( كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَ رُسُلِي ) المجادلة: ٢١، و قال:( وَ لَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَ إِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ ) الصافّات: ١٧٣.

على أنّ الروايات متكاثرة من طرق الشيعة و أهل السنّة على أنّ الآيتين نازلتان في أميرالمؤمنين عليّعليه‌السلام لما تصدّق بخاتمه و هو في الصلاة، فالآيتان خاصّتان غير عامّتين، و سيجي‏ء نقل جلّ ما ورد من الروايات في ذلك في البحث الروائيّ التالي إن شاء الله تعالى.

٥

و لو صحّ الإعراض في تفسير آية بالأسباب المأثورة عن مثل هذه الروايات على تكاثرها و تراكمها لم يصحّ الركون إلى شي‏ء من أسباب النزول المأثورة في شي‏ء من آيات القرآن و هو ظاهر، فلا وجه لحمل الآيتين على إرادة ولاية المؤمنين بعضهم لبعض بجعلها عامّة.

نعم استشكلوا في الروايات - و لم يكن ينبغي أن يستشكل فيها مع ما فيها من الكثرة البالغة -أوّلاً: بأنّها تنافي سياق الآيات الظاهر في ولاية النصرة كما تقدّمت الإشارة إليه وثانياً: أنّ لازمها إطلاق الجمع و إرادة الواحد فإنّ المراد بالّذين آمنوا الّذين يقيمون الصلاة إلخ، على هذا التقدير هو علي و لا يساعده اللغة، وثالثاً: أنّ لازمها كون المراد بالزكاة هو التصدّق بالخاتم، و لا يسمّى ذلك زكاة.

قالوا: فالمتعيّن أن تؤخذ الآية عامّة، و تكون مسوقة لمثل قصر القلب أو الإفراد فقد كان المنافقون يسارعون إلى ولاية أهل الكتاب و يؤكّدونها، فنهى الله عن ذلك و ذكر أنّ أولياءهم إنّما هم الله و رسوله و المؤمنون حقّاً دون أهل الكتاب و المنافقين.

و لا يبقى إلّا مخالفة هذا المعنى لظاهر قوله:( وَ هُمْ راكِعُونَ ) و يندفع بحمل الركوع على معناه المجازيّ، و هو الخضوع لله أو الفقر و رثاثة الحال، هذا ما استشكلوه.

لكنّ التدبّر في الآية و ما يناظرها من الآيات يوجب سقوط الوجوه المذكورة جميعاً:

أمّا وقوع الآية في سياق ولاية النصرة، و لزوم حملها على إرادة ذلك فقد عرفت أنّ الآيات غير مسوقة لهذا الغرض أصلاً، و لو فرض سرد الآيات السابقة على هذه الآية لبيان أمر ولاية النصرة لم تشاركها الآية في هذا الغرض.

و أمّا حديث لزوم إطلاق الجمع و إرادة الواحد في قوله:( وَ الَّذِينَ آمَنُوا ) إلخ، فقد عرفت في الكلام على آية المباهلة في الجزء الثالث من هذا الكتاب تفصيل الجواب عنه، و أنّه فرق بين إطلاق لفظ الجمع و إرادة الواحد و استعماله فيه، و بين إعطاء حكم كلّيّ أو الإخبار بمعرّف جمعيّ في لفظ الجمع لينطبق على من يصحّ أن

٦

ينطبق عليه، ثمّ لا يكون المصداق الّذي يصحّ أن ينطبق عليه إلّا واحداً فرداً و اللّغة تأبى عن قبول الأوّل دون الثاني على شيوعه في الاستعمالات.

و ليت شعري ما ذا يقولون في مثل قوله تعالى:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَ عَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ - إلى أن قال -تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ ) الآية: الممتحنة: ١، و قد صحّ أنّ المراد به حاطب بن أبي بلتعة في مكاتبته قريشاً؟

و قوله تعالى:( يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ ) المنافقون: ٨، و قد صحّ أنّ القائل به عبدالله بن أبي بن سلول؟ و قوله تعالى:( يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ ) البقرة: ٢١٥ و السائل عنه واحد؟، و قوله تعالى:( الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَ النَّهارِ سِرًّا وَ عَلانِيَةً ) البقرة: ٢٧٤ و قد ورد أنّ المنفق كان عليّاً أو أبابكر؟ إلى غير ذلك من الموارد الكثيرة.

و أعجب من الجميع قوله تعالى:( يَقُولُونَ نَخْشى‏ أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ ) و القائل هو عبدالله بن اُبيّ، على ما رووا في سبب نزوله و تلقّوه بالقبول، و الآية واقعة بين الآيات المبحوث عنها نفسها.

فإن قيل: إنّ هذه الموارد لا تخلو عن اُناس كانوا يرون رأيهم أو يرضون بفعالهم فعبّر الله تعالى عنهم و عمّن يلحق بهم بصيغة الجمع. قيل: إنّ محصّله جواز ذلك في اللغة لنكتة مجوّزة فليجر الآية أعني قوله:( وَ الَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ راكِعُونَ ) هذا المجرى، و لتكن النكتة هي الإشارة إلى أنّ أنواع الكرامات الدينيّة - و منها الولاية المذكورة في الآية - ليست موقوفة على بعض المؤمنين دون بعض وقفاً جزافيّاً و إنّما يتّبع التقدّم في الإخلاص و العمل لا غير.

على أنّ جلّ الناقلين لهذه الأخبار هم صحابة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و التابعون المتّصلون بهم زماناً و هم من زمرة العرب العرباء الّذين لم تفسد لغتهم و لم تختلط ألسنتهم و لو كان هذا النحو من الاستعمال لا تبيحه اللغة و لا يعهده أهلها لم تقبله طباعهم، و لكانوا أحقّ باستشكاله و الاعتراض عليه، و لم يؤثر من أحد منهم ذلك.

٧

و أمّا قولهم: إنّ الصدقة بالخاتم لا تسمّى زكاة، فيدفعه أنّ تعيّن لفظ الزكاة في معناها المصطلح إنّما تحقّق في عرف المتشرّعة بعد نزول القرآن بوجوبها و تشريعها في الدين، و أمّا الّذي تعطيه اللغة فهو أعمّ من الزكاة المصطلحة في عرف المتشرّعة و يساوق عند الإطلاق أو عند مقابلة الصلاة إنفاق المال لوجه الله كما يظهر ممّا وقع فيما حكاه الله عن الأنبياء السالفين كقوله تعالى في إبراهيم و إسحاق و يعقوب:( وَ أَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَ إِقامَ الصَّلاةِ وَ إِيتاءَ الزَّكاةِ ) الأنبياء: ٧٣، و قوله تعالى في إسماعيل:( وَ كانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَ الزَّكاةِ وَ كانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا ) مريم: ٥٥ و قوله تعالى حكاية عن عيسىعليه‌السلام في المهد:( وَ أَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَ الزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا ) مريم: ٣١ و من المعلوم أن ليس في شرائعهم الزكاة الماليّة بالمعنى الّذي اصطلح عليه في الإسلام.

و كذا قوله تعالى:( قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَ ذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى ) الأعلى: ١٥ و قوله تعالى:( الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى ) الليل: ١٨ و قوله تعالى:( الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ ) حم السجدة: ٧ و قوله تعالى:( وَ الَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ ) المؤمنون: ٤، و غير ذلك من الآيات الواقعة في السور المكّيّة و خاصّة السور النازلة في أوائل البعثة كسورة حم السجدة و غيرها، و لم تكن شرّعت الزكاة المصطلحة بعد فليت شعري ما ذا كان يفهمه المسلمون من هذه الآيات في لفظ الزكاة.

بل آية الزكاة أعني قوله تعالى:( خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَ تُزَكِّيهِمْ بِها وَ صَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ ) التوبة: ١٠٣، تدلّ على أنّ الزكاة من أفراد الصدقة، و إنّما سمّيت زكاة لكون الصدقة مطهّرة مزكّية مطلقاً، و قد غلب استعمالها في الصدقة المصطلحة.

فتبيّن من جميع ما ذكرنا أنّه لا مانع من تسمية مطلق الصدقة و الإنفاق في سبيل الله زكاة، و تبيّن أيضاً أن لا موجب لارتكاب خلاف الظاهر بحمل الركوع على معناه المجازيّ، و كذا ارتكاب التوجيه في قوله:( إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ

٨

آمَنُوا ) حيث أتى باسم إن( وَلِيُّكُمُ ) مفرداً و بقوله:( الَّذِينَ آمَنُوا ) و هو خبر بالعطف بصيغة الجمع، هذا.

قوله تعالى: ( إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا ) قال الراغب في المفردات: الولاء (بفتح الواو) و التوالي أن يحصل شيئاًن فصاعداً حصولاً ليس بينهما ما ليس منهما، و يستعار ذلك للقرب من حيث المكان و من حيث النسبة و من حيث الصداقة و النصرة و الاعتقاد، و الولاية النصرة، و الولاية تولّي الأمر، و قيل: الولاية و الولاية (بالفتح و الكسر) واحدة نحو الدلالة و الدلالة و حقيقته تولّي الأمر، و الوليّ و المولى يستعملان في ذلك، كلّ واحد منهما يقال في معنى الفاعل أي الموالي (بكسر اللّام) و معنى المفعول أي الموالي (بفتح اللّام) يقال للمؤمن: هو وليّ الله عزّوجلّ و لم يرد مولاه، و قد يقال: الله وليّ المؤمنين و مولاهم.

قال: و قولهم: تولّى إذا عدّي بنفسه اقتضى معنى الولاية و حصوله في أقرب المواضع منه يقال: ولّيت سمعي كذا، و ولّيت عيني كذا، و ولّيت وجهي كذا أقبلت به عليه قال الله عزّوجلّ:( فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها، فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ، وَ حَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ) و إذا عدّي بعن لفظاً أو تقديراً اقتضى معنى الإعراض و ترك قربه. انتهى.

و الظاهر أنّ القرب الكذائيّ المعبّر عنه بالولاية، أوّل ما اعتبره الإنسان إنّما اعتبره في الأجسام و أمكنتها و أزمنتها ثمّ أستعير لأقسام القرب المعنويّة بالعكس ممّا ذكره لأنّ هذا هو المحصّل من البحث في حالات الإنسان الأوّليّة فالنظر في أمر المحسوسات و الاشتغال بأمرها أقدم في عيشة الإنسان من التفكّر في المعقولات و المعاني و أنحاء اعتبارها و التصرّف فيها.

و إذا فرضت الولاية - و هي القرب الخاصّ - في الاُمور المعنويّة كان لازمها أن للوليّ ممّن وليه ما ليس لغيره إلّا بواسطته فكلّ ما كان من التصرّف في شؤون من وليه ممّا يجوز أن يخلفه فيه غيره فإنّما يخلفه الوليّ لا غيره كوليّ الميّت، فإنّ التركة الّتي كان للميّت أن يتصرّف فيها بالملك فإنّ لوارثه الوليّ أن يتصرّف فيها بولاية

٩

الوراثة، و وليّ الصغير يتصرّف بولايته في شؤون الصغير الماليّة بتدبير أمره، و وليّ النصرة له أن يتصرّف في أمر المنصور من حيث تقويته في الدفاع، و الله سبحانه وليّ عباده يدبّر أمرهم في الدنيا و الآخرة لا وليّ غيره، و هو وليّ المؤمنين في تدبير أمر دينهم بالهداية و الدعوة و التوفيق و النصرة و غير ذلك، و النبيّ وليّ المؤمنين من حيث إنّ له أن يحكم فيهم و لهم و عليهم بالتشريع و القضاء، و الحاكم وليّ الناس بالحكم فيهم على مقدار سعة حكومته، و على هذا القياس سائر موارد الولاية كولاية العتق و الحلف و الجوار و الطلاق و ابن العمّ، و ولاية الحبّ و ولاية العهد و هكذا، و قوله:( يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ ) أي يجعلون أدبارهم تلي جهة الحرب و تدبّر أمرها، و قوله:( تَوَلَّيْتُمْ ) أي تولّيتم عن قبوله أي اتّخذتم أنفسكم تلي جهة خلاف جهته بالإعراض عنه أو اتّخذتم وجوهكم تلي خلاف جهته بالإعراض عنه، فالمحصّل من معنى الولاية في موارد استعمالها هو نحو من القرب يوجب نوعاً من حقّ التصرّف و مالكيّة التدبير.

و قد اشتمل قوله تعالى:( إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا ) إلخ من السياق على ما يدلّ على وحدة مّا في معنى الولاية المذكورة فيه حيث تضمّن العدّ في قوله:( اللهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا ) و أسند الجميع إلى قوله:( وَلِيُّكُمُ ) و ظاهره كون الولاية في الجميع بمعنى واحد. و يؤيّد ذلك أيضاً قوله في الآية التالية:( فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغالِبُونَ ) حيث يشعر أو يدلّ على كون المتولّين جميعاً حزباً لله لكونهم تحت ولايته، فولاية الرسول و الّذين آمنوا إنّما هو من سنخ ولاية الله.

و قد ذكر الله سبحانه لنفسه من الولاية، الولاية التكوينيّة الّتي تصحّح له التصرّف في كلّ شي‏ء و تدبير أمر الخلق بما شاء، و كيف شاء قال تعالى:( أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ فَاللهُ هُوَ الْوَلِيُّ ) الشورى: ٩ و قال:( ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا شَفِيعٍ أَ فَلا تَتَذَكَّرُونَ ) السجدة: ٤ و قال:( أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ ) يوسف: ١٠١ و قال:( فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ ) الشورى: ٤٤ و في معنى هذه الآيات قوله:( وَ نَحْنُ

١٠

أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ) ق: ١٦، و قوله:( وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَ قَلْبِهِ ) الأنفال: ٢٤.

و ربّما لحق بهذا الباب ولاية النصرة الّتي ذكرها لنفسه في قوله:( ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَ أَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى‏ لَهُمْ ) سورة محمّد: ١١، و قوله:( فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاهُ ) التحريم: ٤، و في معنى ذلك قوله:( وَ كانَ حقّاً عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ) الروم: ٤٧.

و ذكر تعالى أيضاً لنفسه الولاية على المؤمنين فيما يرجع إلى أمر دينهم من تشريع الشريعة و الهداية و الإرشاد و التوفيق و نحو ذلك كقوله تعالى:( اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ ) البقرة: ٢٥٧، و قوله:( وَ اللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ ) آل عمران: ٦٨ و قوله:( وَ اللهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ ) الجاثية: ١٩، و في هذا المعنى قوله تعالى:( وَ ما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَ لا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَ رَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَ مَنْ يَعْصِ اللهَ وَ رَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِيناً ) الأحزاب: ٣٦.

فهذا ما ذكره الله تعالى من ولاية نفسه في كلامه، و يرجع محصّلها إلى ولاية التكوين و ولاية التشريع، و إن شئت سمّيتهما بالولاية الحقيقيّة و الولاية الاعتباريّة.

و قد ذكر الله سبحانه لنبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الولاية الّتي تخصّه الولاية التشريعيّة و هي القيام بالتشريع و الدعوة و تربية الاُمّة و الحكم فيهم و القضاء في أمرهم، قال تعالى:( النَّبِيُّ أَوْلى‏ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ) الأحزاب: ٦، و في معناه قوله تعالى:( إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللهُ ) النساء: ١٠٥، و قوله:( وَ إِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى‏ صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ) الشورى: ٥٢، و قوله:( رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَ يُزَكِّيهِمْ وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ ) الجمعة: ٢، و قوله:( لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ) النحل: ٤٤ و قوله:( أَطِيعُوا اللهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ ) النساء: ٥٩، و قوله:( وَ ما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَ لا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَ رَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ) الأحزاب: ٣٦، و قوله:( وَ أَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَ احْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ ) المائدة: ٤٩، و قد تقدّم أنّ الله لم يذكر ولاية النصرة عليه للاُمّة.

١١

و يجمع الجميع أنّ لهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الولاية على الاُمّة في سوقهم إلى الله و الحكم فيهم و القضاء عليهم في جميع شؤونهم فله عليهم الإطاعة المطلقة فترجع ولايتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى ولاية الله سبحانه بالولاية التشريعيّة، و نعني بذلك أنّ لهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم التقدّم عليهم بافتراض الطاعة لأنّ طاعته طاعة الله، فولايته ولاية الله كما يدلّ عليه بعض الآيات السابقة كقوله:( أَطِيعُوا اللهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ ) (الآية) و قوله:( وَ ما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَ لا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَ رَسُولُهُ أَمْراً ) (الآية) و غير ذلك.

و هذا المعنى من الولاية لله و رسوله هو الّذي تذكره الآية للّذين آمنوا بعطفه على الله و رسوله في قوله:( إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا ) على ما عرفت من دلالة السياق على كون هذه الولاية ولاية واحدة هي لله سبحانه بالأصالة و لرسوله و الّذين آمنوا بالتبع و بإذن منه تعالى.

و لو كانت الولاية المنسوبة إلى الله تعالى في الآية غير المنسوبة إلى الّذين آمنوا - و المقام مقام الالتباس - كان الأنسب أن تفرد ولاية اُخرى للمؤمنين بالذكر رفعاً للالتباس كما وقع نظيره في نظيرها، قال تعالى:( قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَ يُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ ) التوبة: ٦١، فكرّر لفظ الإيمان لما كان في كلّ من الموضعين لمعنى غير الآخر، و قد تقدّم نظيره في قوله تعالى:( أَطِيعُوا اللهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ ) النساء: ٥٩، في الجزء السابق على هذا الجزء من الكتاب.

على أنّ لفظ( وَلِيُّكُمُ ) اُتي به مفرداً و قد نسب إلى الّذين آمنوا و هو جمع، و قد وجّهه المفسّرون بكون الولاية ذات معنى واحد هو لله سبحانه على الأصالة و لغيره بالتبع.

و قد تبيّن من جميع ما مرّ أنّ القصر في قوله:( إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ ) إلخ، لقصر الإفراد كأنّ المخاطبين يظنّون أنّ الولاية عامّة للمذكورين في الآية و غيرهم فاُفرد المذكورون للقصر، و يمكن بوجه أن يحمل على قصر القلب.

قوله تعالى: ( الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ راكِعُونَ ) بيان للّذين آمنوا المذكور سابقاً، و قوله:( وَ هُمْ راكِعُونَ ) حال من فاعل( يُؤْتُونَ ) و هو العامل فيه.

١٢

و الركوع هو الهيئة المخصوصة في الإنسان، و منه الشيخ الراكع، و يطلق في عرف الشرع على الهيئة المخصوصة في العبادة، قال تعالى:( الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ ) التوبة: ١١٢ و هو ممثّل للخضوع و التذلّل لله، غير أنّه لم يشرع في الإسلام في غير حال الصلاة بخلاف السجدة.

و لكونه مشتملاً على الخضوع و التذلّل ربّما أستعير لمطلق التذلّل و الخضوع أو الفقر و الإعسار الّذي لا يخلو عادة عن التذلّل للغير.

قوله تعالى: ( وَ مَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَ رَسُولَهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغالِبُونَ ) ، التولّي هو الأخذ وليّاً، و( الَّذِينَ آمَنُوا ) مفيد للعهد و المراد به المذكور في الآية السابقة:( وَ الَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ ) ، إلخ، و قوله:( فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغالِبُونَ ) واقع موقع الجزاء و ليس به بل هو من قبيل وضع الكبرى موضع النتيجة للدلالة على علّة الحكم، و التقدير: و من يتولّ فهو غالب لأنّه من حزب الله و حزب الله هم الغالبون، فهو من قبيل الكناية عن أنّهم حزب الله.

و الحزب على ما ذكره الراغب جماعة فيها غلظ، و قد ذكر الله سبحانه حزبه في موضع آخر من كلامه قريب المضمون من هذا الموضع، و وسمهم بالفلاح فقال:( لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَ رَسُولَهُ وَ لَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَ أَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ - إلى أن قال -أُولئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) المجادلة: ٢٢.

و الفلاح الظفر و إدراك البغية الّتي هي الغلبة و الاستيلاء على المراد، و هذه الغلبة و الفلاح هي الّتي وعدها الله المؤمنين في أحسن ما وعدهم به و بشّرهم بنيله، قال تعالى:( قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ) المؤمنون: ١، و الآيات في ذلك كثيرة، و قد اُطلق اللفظ في جميعها، فالمراد الغلبة المطلقة و الفلاح المطلق أي الظفر بالسعادة و الفوز بالحقّ و الغلبة على الشقاء، و إدحاض الباطل في الدنيا و الآخرة، أمّا في الدنيا فبالحياة الطيّبة الّتي توجد في مجتمع صالح من أولياء الله في أرض مطهّرة من أولياء الشيطان على تقوى و ورع، و أمّا في الآخرة ففي جوار ربّ العالمين.

١٣

( بحث روائي)

في الكافي، عن عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن عمر بن اُذينة، عن زرارة و الفضيل بن يسار، و بكير بن أعين، و محمّد بن مسلم، و بريد بن معاوية، و أبي الجارود، جميعاً عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: أمر الله عزّوجلّ رسوله بولاية عليّ و أنزل عليه:( إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ راكِعُونَ ) و فرض من ولاية اُولي الأمر فلم يدروا ما هي؟ فأمر الله محمّداًصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يفسّر لهم الولاية كما فسّر الصلاة و الزكاة و الصوم و الحجّ.

فلمّا أتاه ذلك من الله ضاق بذلك صدر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و تخوّف أن يرتدّوا عن دينهم و أن يكذّبوه، فضاق صدره و راجع ربّه عزّوجلّ فأوحى الله عزّوجلّ إليه:( يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَ اللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ) ، فصدع بأمر الله عزّ ذكره، فقام بولاية عليّعليه‌السلام يوم غدير خمّ فنادى: الصلاة جامعة، و أمر الناس أن يبلّغ الشاهد الغائب.

قال عمر بن اُذينة: قالوا جميعاً غير أبي الجارود: قال أبوجعفرعليه‌السلام : و كانت الفريضة الاُخرى، و كانت الولاية آخر الفرائض فأنزل الله عزّوجلّ:( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي ) ، قال أبوجعفرعليه‌السلام : يقول الله عزّوجلّ: لا اُنزل عليكم بعد هذه فريضة قد أكملت لكم الفرائض.

و في البرهان، و غاية المرام، عن الصدوق بإسناده عن أبي الجارود عن أبي جعفرعليه‌السلام : في قول الله عزّوجلّ:( إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا ) ، قال: إنّ رهطاً من اليهود أسلموا منهم عبدالله بن سلام و أسد و ثعلبة و ابن يامين و ابن صوريا فأتوا النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالوا: يا نبيّ الله إنّ موسى أوصى إلى يوشع بن نون، فمن وصيّك يا رسول الله؟ و من وليّنا بعدك؟ فنزلت هذه الآية:( إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ راكِعُونَ ) .

١٤

قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : قوموا فقاموا و أتوا المسجد فإذا سائل خارج فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا سائل هل أعطاك أحد شيئاً؟ قال: نعم هذا الخاتم قال: من أعطاكه؟ قال: أعطانيه ذلك الرجل الّذي يصلّي قال على أيّ حال أعطاك؟ قال: كان راكعاً فكبّر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و كبّر أهل المسجد.

فقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : عليّ وليّكم بعدي قالوا: رضينا بالله ربّاً، و بمحمّد نبيّاً، و بعليّ بن أبي طالب وليّاً فأنزل الله عزّوجلّ:( وَ مَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَ رَسُولَهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغالِبُونَ ) الحديث.

و في تفسير القمّيّ، قال: حدّثني أبي، عن صفوان: عن أبان بن عثمان، عن أبي حمزة الثمالي، عن أبي جعفرعليه‌السلام : بينا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جالس و عنده قوم من اليهود فيهم عبدالله بن سلام إذ نزلت عليه هذه الآية فخرج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى المسجد فاستقبله سائل فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : هل أعطاك أحد شيئاً؟ قال: نعم ذلك المصلّي، فجاء رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فإذا هو عليّعليه‌السلام .

أقول: و رواه العيّاشيّ في تفسيره عنهعليه‌السلام .

و في أمالي الشيخ، قال: حدّثنا محمّد بن محمّد - يعني المفيد - قال: حدّثني أبوالحسن عليّ بن محمّد الكاتب، قال: حدّثني الحسن بن عليّ الزعفرانيّ، قال: حدّثنا أبوإسحاق إبراهيم بن محمّد الثقفيّ، قال: حدّثنا محمّد بن عليّ، قال: حدّثنا العبّاس بن عبدالله العنبريّ، عن عبدالرحمن بن الأسود الكنديّ اليشكريّ، عن عون بن عبيد الله، عن أبيه عن جدّه أبي رافع قال: دخلت على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوماً و هو نائم و حيّة في جانب البيت فكرهت أن أقتلها و اُوقظ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فظننت أنّه يوحى إليه فاضطجعت بينه و بين الحيّة فقلت: إن كان منها سوء كان إلىّ دونه.

فكنت هنيئة فاستيقظ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و هو يقرأ:( إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا ) - حتّى أتى على آخر الآية - ثمّ قال: الحمد لله الّذي أتمّ لعليّ نعمته، و هنيئاً له بفضل الله الّذي آتاه، ثمّ قال لي: ما لك ههنا؟ فأخبرته بخبر الحيّة فقال لي: اقتلها ففعلت ثمّ قال لي: يا ( أبا،ظ ) رافع كيف أنت و قوم يقاتلون عليّاً و هو على الحقّ و هم

١٥

على الباطل؟ جهادهم حقّاً لله عزّ اسمه فمن لم يستطع بقلبه، ليس وراءه شي‏ء فقلت: يا رسول الله ادع الله لي إن أدركتهم أن يقوّيني على قتالهم قال: فدعا النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و قال: إنّ لكلّ نبيّ أميناً، و إنّ أميني أبورافع.

قال: فلمّا بايع الناس عليّاً بعد عثمان، و سار طلحة و الزبير ذكرت قول النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فبعت داري بالمدينة و أرضاً لي بخيبر و خرجت بنفسي و ولدي مع أميرالمؤمنينعليه‌السلام لأستشهد بين يديه فلم اُدرك معه حتّى عاد من البصرة، و خرجت معه إلى صفّين ( فقاتلت، ظ ) بين يديه بها و بالنهروان أيضاً، و لم أزل معه حتّى استشهد عليّعليه‌السلام ، فرجعت إلى المدينة و ليس لي بها دار و لا أرض فأعطاني الحسن بن عليّعليه‌السلام أرضاً بينبع، و قسم لي شطر دار أميرالمؤمنينعليه‌السلام فنزلتها و عيالي.

و في تفسير العيّاشيّ، بإسناده عن الحسن بن زيد، عن أبيه زيد بن الحسن، عن جدّه قال: سمعت عمّار بن ياسر يقول: وقف لعليّ بن أبي طالب سائل و هو راكع في صلاة تطوّع فنزع خاتمه فأعطاه السائل فأتى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأعلم بذلك فنزل على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذه الآية:( إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ راكِعُونَ ) (إلى آخر الآية) فقرأها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم علينا ثمّ قال: من كنت مولاه فعليّ مولاه، اللّهمّ وال من والاه، و عاد من عاداه.

و في تفسير العيّاشيّ، عن المفضّل بن صالح، عن بعض أصحابه، عن أحدهماعليهما‌السلام قال: قال: إنّه لما نزلت هذه الآية:( إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا ) شقّ ذلك على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و خشي أن تكذّبه قريش فأنزل الله:( يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ) (الآية) فقام بذلك يوم غدير خمّ.

و فيه، عن أبي جميلة عن بعض أصحابه عن أحدهماعليهما‌السلام قال: إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: إنّ الله أوحى إليّ أن اُحبّ أربعة: عليّاً و أباذرّ و سلمان و المقداد، فقلت: ألا فما كان من كثرة الناس أ ما كان أحد يعرف هذا الأمر؟ فقال: بلى ثلاثة، قلت: هذه الآيات الّتي اُنزلت:( إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا ) و قوله:( أَطِيعُوا اللهَ

١٦

وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ) ما كان أحد يسأل فيمن نزلت؟ فقال من ثمّ أتاهم لم يكونوا يسألون.

و في غاية المرام، عن الصدوق بإسناده عن أبي سعيد الورّاق عن أبيه عن جعفر بن محمّد عن أبيه عن جدّه: في حديث مناشدة عليّعليه‌السلام لأبي بكر حين ولى أبوبكر الخلافة، و ذكرعليه‌السلام فضائله لأبي بكر و النصوص عليه من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فكان فيما قال له: فاُنشدك بالله أ لي الولاية من الله مع ولاية رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في آية زكاة الخاتم أم لك؟ قال: بل لك.

و في مجالس الشيخ، بإسناده إلى أبي ذرّ: في حديث مناشدة أميرالمؤمنينعليه‌السلام عثمان و الزبير و عبدالرحمن بن عوف و سعد بن أبي وقّاص يوم الشورى و احتجاجه عليهم بما فيه من النصوص من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و الكلّ منهم يصدّقهعليه‌السلام فيما يقوله فكان ممّا ذكرهعليه‌السلام : فهل فيكم أحد آتى الزكاة و هو راكع فنزلت فيه:( إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ راكِعُونَ ) غيري؟ قالوا: لا.

و في الإحتجاج، في رسالة أبي الحسن الثالث عليّ بن محمّد الهاديعليه‌السلام إلى أهل الأهواز حين سألوه عن الجبر و التفويض:

قالعليه‌السلام : اجتمعت الاُمّة قاطبة لا اختلاف بينهم في ذلك: أنّ القرآن حقّ لا ريب فيه عند جميع فرقها فهم في حالة الاجتماع عليه مصيبون، و على تصديق ما أنزل الله مهتدون لقول النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( لا تجتمع اُمّتي على ضلالة) ، فأخبرعليه‌السلام : أنّ ما اجتمعت عليه الاُمّة و لم يخالف بعضها بعضاً هو الحقّ، فهذا معنى الحديث لا ما تأوّله الجاهلون، و لا ما قاله المعاندون من إبطال حكم الكتاب، و اتّباع أحكام الأحاديث المزوّرة، و الروايات المزخرفة، و اتّباع الأهواء المردئة المهلكة الّتي تخالف نصّ الكتاب، و تحقيق الآيات الواضحات النيّرات، و نحن نسأل الله أن يوفّقنا للصلاة، و يهدينا إلى الرشاد.

ثمّ قالعليه‌السلام : فإذا شهد الكتاب بصدق خبر و تحقيقه فأنكرته طائفة من

١٧

الاُمّة عارضته بحديث من هذه الأحاديث المزوّرة، فصارت بإنكارها و دفعها الكتاب ضلالاً، و أصحّ خبر ممّا عرف تحقيقه من الكتاب مثل الخبر المجمع عليه من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال:( إنّي مستخلف فيكم خليفتين كتاب الله و عترتي. ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا بعدي و إنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض) و اللفظة الاُخرى عنه في هذا المعنى بعينه قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( إنّي تارك فيكم الثقلين: كتاب الله و عترتي أهل بيتي، و إنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض، ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا) .

وجدنا شواهد هذا الحديث نصّاً في كتاب الله مثل قوله:( إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ راكِعُونَ ) . ثمّ اتّفقت روايات العلماء في ذلك لأميرالمؤمنينعليه‌السلام : أنّه تصدّق بخاتمه و هو راكع فشكر الله ذلك له، و أنزل الآية فيه. ثمّ وجدنا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد أبانه من أصحابه بهذه اللفظة:( من كنت مولاه فعليّ مولاه اللّهمّ وال من والاه و عاد من عاداه) و قوله:صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ( عليّ يقضي ديني، و ينجز موعدي، و هو خليفتي عليكم بعدي) و قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حين استخلفه على المدينة فقال: يا رسول الله: أ تخلّفني على النساء و الصبيان؟ فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أ ما ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلّا أنّه لا نبيّ بعدي؟.

فعلمنا أنّ الكتاب شهد بتصديق هذه الأخبار، و تحقيق هذه الشواهد فيلزم الاُمّة الإقرار بها إذا كانت هذه الأخبار وافقت القرآن فلمّا وجدنا ذلك موافقاً لكتاب الله، و وجدنا كتاب الله موافقاً لهذه الأخبار، و عليها دليلاً كان الاقتداء فرضاً لا يتعدّاه إلّا أهل العناد و الفساد.

و في الإحتجاج، في حديث عن أميرالمؤمنينعليه‌السلام : قال المنافقون لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : هل بقي لربّك علينا بعد الّذي فرض علينا شي‏ء آخر يفترضه فتذكر فتسكن أنفسنا إلى أنّه لم يبق غيره؟ فأنزل الله في ذلك:( قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ ) يعني الولاية فأنزل الله:( إنّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَ رَسُولُهُ وَ الّذينَ آمَنُوا الّذينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ راكِعُونَ ) ، و ليس بين الاُمّة خلاف أنّه لم يؤت الزكاة يومئذ و هو راكع غير رجل واحد، الحديث.

١٨

و في الاختصاص، للمفيد عن أحمد بن محمّد بن عيسى، عن القاسم بن محمّد الجوهريّ، عن الحسن بن أبي العلاء قال: قلت لأبي عبداللهعليه‌السلام : الأوصياء طاعتهم مفترضة؟ فقال: نعم، هم الّذين قال الله:( أَطِيعُوا اللهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ) و هم الّذين قال الله:( إنّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَ رَسُولُهُ وَ الّذينَ آمَنُوا الّذينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ راكِعُونَ ) .

أقول: و رواه في الكافي، عن الحسين بن أبي العلاء عنهعليه‌السلام ، و روي ما في معناه عن أحمد بن عيسى عنهعليه‌السلام .

و إسناد نزول ما نزل في عليّعليه‌السلام إلى جميع الأئمةعليهم‌السلام لكونهم أهل بيت واحد، و أمرهم واحد.

و عن تفسير الثعلبيّ، أخبرنا أبوالحسن محمّد بن القاسم الفقيه قال: حدّثنا عبدالله بن أحمد الشعرانيّ قال: أخبرنا أبوعليّ أحمدبن عليّ بن رزين قال: حدّثنا المظفّر بن الحسن الأنصاريّ قال: حدّثنا السريّ بن عليّ الورّاق قال: حدّثنا يحيى بن عبد الحميد الجمانيّ عن قيس بن الربيع عن الأعمش، عن عباية بن الربعيّ قال: حدّثنا عبدالله بن عبّاس رضي الله عنه و هو جالس بشفير زمزم يقول قال: رسول الله: إذ أقبل رجل معتمّ بعمامة فجعل ابن عبّاس لا يقول: قال رسول الله إلّا و قال الرجل: قال رسول الله.

فقال له ابن عبّاس: سألتك بالله من أنت؟ قال: فكشف العمامة عن وجهه و قال: يا أيّها الناس من عرفني فقد عرفني و من لم يعرفني فأنا جندب بن جنادة البدريّ أبوذرّ الغفاريّ سمعت رسول الله بهاتين و إلّا فصمّتا و رأيته بهاتين و إلّا فعميتا يقول: عليّ قائد البررة و قاتل الكفرة، منصور من نصره، مخذول من خذله.

أما إنّي صلّيت مع رسول الله يوماً من الأيّام صلاة الظهر فسأل سائل في المسجد فلم يعطه أحد فرفع السائل يده إلى السماء و قال: اللّهمّ اشهد أنّي سألت في مسجد رسول الله فلم يعطني أحد شيئاً، و كان علي راكعاً فأومأ إليه بخنصره اليمنى، و كان يتختّم فيها فأقبل السائل حتّى أخذ الخاتم من خنصره، و ذلك بعين النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

١٩

فلمّا فرغ من صلاته رفع رأسه إلى السماء و قال: اللّهمّ موسى سألك فقال: ربّ اشرح لي صدري، و يسّر لي أمري، و احلل عقدة من لساني يفقهوا قولي، و اجعل لي وزيراً من أهلي هارون أخي، اشدد به أزري، و أشركه في أمري. فأنزلت عليه قرآناً ناطقاً: سنشدّ عضدك بأخيك، و نجعل لكما سلطاناً فلا يصلون إليكما بآياتنا.

اللّهمّ و أنا محمّد نبيّك و صفّيك، اللّهمّ و اشرح لي صدري و يسّر لي أمري، و اجعل لي وزيراً من أهلي عليّاً اشدد به ظهري.

قال أبوذرّ: فما استتمّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الكلمة حتّى نزل عليه جبرئيل من عندالله تعالى فقال: يا محمّد اقرأ قال: و ما أقرأ قال: قال: اقرأ:( إنّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَ رَسُولُهُ وَ الّذينَ آمَنُوا الّذينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ راكِعُونَ ) .

و عن الجمع بين الصحاح الستّة، لزرّين من الجزء الثالث في تفسير سورة المائدة: قوله تعالى:( إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَ رَسُولُهُ ) (الآية) من صحيح النسائيّ عن ابن سلام: قال أتيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقلنا: إنّ قومنا حادّونا لما صدّقنا الله و رسوله، و أقسموا أن لا يكلّموننا فأنزل الله تعالى:( إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ راكِعُونَ ) (الآية).

ثمّ أذّن بلال لصلاة الظهر فقام الناس يصلّون فمن بين ساجد و راكع و سائل إذ سائل يسأل، و أعطى عليّ خاتمه و هو راكع فأخبر السائل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقرأ علينا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ راكِعُونَ وَ مَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَ رَسُولَهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغالِبُونَ )

و عن مناقب ابن المغازليّ الشافعيّ في تفسير قوله تعالى:( إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَ رَسُولُهُ ) (الآية) قال: أخبرنا محمّد بن أحمد بن عثمان قال: أخبرنا أبوبكر أحمد بن إبراهيم بن شاذان البزّاز إذناً قال: حدّثنا الحسن بن عليّ العدويّ قال: حدّثنا سلمة بن شبيب قال: حدّثنا عبدالرزّاق قال أخبرنا مجاهد عن ابن عبّاس في قوله تعالى:( إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ راكِعُونَ ) قال: نزلت في عليّ.

٢٠

هو أنّ «ملكية» قد حدثت، لكن هل المقصود بالملكية هنا أن الشخص (أ) قد انجز عملاً انتاجياً وخلق قيمة استهلاكية جديدة ؟ من المؤكد أنه لم ينجز عملاً انتاجياً بقطف التفاح وجمعه، بل أخذ من مخزون الطبيعة بمقدار حاجته (في حالة وجود كمية وفيرة من التفاح) ويسمى هذا النوع من التملك في الاصطلاح الفقهي ب«الحيازة».

الحيازة والملكية

هل يصبح الانسان مالكاً في مثل هذا «الأخذ» من القيم الاستهلاكية المتوفرة بشكل جاهز في الطبيعة؟ لنضرب مثالاً لفهم هذه المسألة :

اننا نعرف أن ثمن الفاكهة أرخص في محل البيع بالجملة منه في محل البيع بالمفرد، فلو جمع عدد من الأشخاص مبلغاً من المال واشتروا به صندوقاً من الفاكهة فأصبحوا جميعاً يملكون هذا الصندوق بشكل مشاع، ثم أخذ كل واحد منهم حصته منه وذهب لسبيله، فهل سيصبح الشخص (أ)(١) مثلاً مالكاً لحصته بأخذها فقط ؟ أم بالمال الذي دفعه مسبقاً مع الآخرين ؟ ان اخذ الشخص (أ) لحصته يحولها من حصة مشاعة الى حصة مفروزة ومعينة، والا فإن مبدأ الملكية كان موجوداً بشكل مشاع قبل ذلك، وعلى هذا الأساس نتساءل : هل «الحيازة» هي منشأ الملكية أم أن الانسان يملك قبل الحيازة أيضاً ؟ ألم يكن هناك وجود للعلاقة بين البشر الذين وجدوا في هذا العالم على طول التاريخ وبين هذه الطبيعة الجاهزة قبل أن يوجد «الأخذ» و«الحيازة» ؟ أليست هناك علاقة ملكية مشاعة بين البشر والمواد الموجودة في الطبيعة قبل الحيازة ؟

في بعض الأحيان يجاب على هذا السؤال بالقول : إن حاجة الانسان الى هذه المواد المتوفرة في الطبيعة من أجل استمراره في الحياة دفعت الإتسان ذا التفكير السليم الى أن يفكر بعلاقة ملكية بين الانسانية ككل والطبيعة ككل، أي أن جميع البشر يملكون الطبيعة كلها، ولكل انسان حصة مشاعة في هذه الطبيعة، وان الأخذ والحيازة تفرزان حصته المشاعة. فلو أخذ بمقدار حاجته في حالة الوفرة بحيث يمكن للآخرين أن يأخذوا (بمقدار حاجتهم) فان منطق الفطرة يتقبل هذا الأمر، ولو لم

____________________

(١) على فرض أن الشخص (أ) واحد من الذين اشتركوا في شراء صندوق الفاكهة.

٢١

تكن وفرة بل كانت هناك شحة (كما في مثال التفاح مثلاً) وأخذ الشخص (أ) بمقدار ما يشبعه فقط، فحين يأتي الشخص التالي ويرى أنه لا يوجد أي شيء (سوى تلك الكمية من التفاح)، فإنّ له الحق في أن يطالب (أ) بحصته، ووجداننا الانساني يعطيه هذا الحق أيضاً، ألا يدل هذا على أن الأساس الفطري لهذه الفكرة يتمثل في أن الاشخاص : (أ) و(ب) و(ج) و(د) و... الخ جميعاً شركاء في هذه الطبيعة ككل، وأنه يجب - لهذا السبب - أن نأخذ بنظر الاعتبار شركاء آخرين أيضاً ؟(١)

في مثال شراء الفاكهة بصورة مشتركة من قبل عدة اشخاص نرى أنه : مع أن حصة كل واحد منهم قد لا تزيد عن اثنتين - وهو عدد قليل جداً لاستهلاك أسرة كل منهم - ولكنهم لا يحق لهم - حين التقسيم - المطالبة بأكثر من ذلك، وعليه فان الحيازة تعتبر مصدراً للملكية حسب المنطق الفطري ولكن بشكل محدود ومشروط.

نستنتج من ذلك أن الفكرة التي تنص على أن حاجة البشر للمواد المتوفرة في الطبيعة تعتبر مصدراً لملكيتهم العامة تجاه الأنفال والثروات العامة الموجودة في الطبيعة، وأن لكل انسان حصة تتناسب مع حاجته، ومع وفرة تلك المادة أو شحّتها في الطبيعة، فكرة ليست خاطئة.

والآن يجب أن نعرف ماذا نجد من الاشارات(٢) بهذا الصدد في نصوصنا الاسلامية، فهذه رواية رويت عن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله من قبل العامة والخاصة، ورويت بعبارة أخرى عن الامام الكاظم (ع):

«الناس شركاء في ثلاثة : النار والماء والكلأ».(٣)

____________________

(١) يجب الالتفات في هذا الصدد الى ما يلي :

إننا نقول حيناً ان الشخص (أ) قد أخذ ذلك العدد من التفاح في حالة الشحة فأصبح مالكاً لها، ولكن حين يأتي كل من (ب) و(ت) و(ث) و... يجب عليه أن يعطيهم مما يملك، وفي هذه الحالة نقول : إن الحيازة تعتبر مصدراً للملكية حتى في حالة الشحة، ولكنه يجب حينئذ على المالك أن يعطي الآخرين مما يملك. ونقول حيناً آخر انه مبدئياً لا يملك في حالة الشحة أكثر من تفاحة واحدة، وعلى أقل تقدير - وحتى لو لم نقل شيئاً بهذا الصدد - فإن من الواضح في منطق الفطرة أن الشخص (أ) لا يصبح مالكاً لكل ذلك التفاح. فلم يعد هناك - في أقل تقدير - مبرر لملكيته له، إذ ان منطق الفطرة لا يؤيد هذا الأمر في حالة الشحة.

(٢) ان لم نقل هناك «نصوص» ففي الأقل يمكن القول إن هناك «إشارات» بهذا الصدد.

(٣) مستدرك الوسائل، ج ٣ ص ١٥٠، كتاب احياء الموات، الباب الرابع، الرواية رقم (٢).

٢٢

والنار تعني : «المواد المستعملة في الوقود وما تضرم منه النار» والكلأ يعني : المراتع «أي النباتات التي يستفيد منها الانسان والحيوان».

أما ما روي عن الامام موسى الكاظم (ع) فهو كالآتي : «إنّ المسلمين شركاء في الماء والنار والكلأ».(١)

وعلى هذا الأساس لو وجدنا دستور الاتحاد السوفياتي ينص في فصل الاقتصاد على : «ان المعادن والمياه والغابات والمراعي وأمثالها أملاك عامة وملكيتها ملكية عامة» فإن هذه المسألة ليست من مبتكرات الماركسية،(٢) وقد جاء في ذلك الدستور أن ملكية هذه الأشياء ملكية «عامة» و«حكومية».

تقول الروايات بهذا الصدد : (عن ابي بصير عن ابي جعفر (ع) قال : «لنا الأنفال، قلت وما الأنفال ؟ قال : منها المعادن والآجام، وكل أرض لا ربّ لها، وكل أرض باد أهلها فهو لنا»).(٣)

وجاء في رواية أخرى : «أو بطون الأودية»(٤) او «وبطون الأودية ورؤوس الجبال والآجام...»(٥) فهذه الأشياء (حسب هذه الروايات) ملك للإمام. أي انها ملك للدولة والأمة، وهذا يعني أن ملكيتها ملكية عامة، والناس شركاء في هذه الملكية، ويشمل ذلك حتى المواد الاستهلاكية الموجودة في الطبيعة بصورة جاهزة، والتي تسمى في اصطلاحنا الفقهي «المعادن الظاهرة» ولننقل هنا هذه الفتوى :

«في المعادن الظاهرة وهي التي لا تفتقر الى إظهار (كالملح والنفط

____________________

(١) التهذيب : للشيخ الطوسي ج ٧ كتاب التجارة ص ١٤٦، باب بيع الماء والمنع منه، الحديث رقم ٦٤٨.

(٢) جاء في المادة الحادية عشرة من الدستور السوفياتي الذي اقر في (٧) أكتوبر من عام ١٩٧٧ م ما يلي :

«إن ملكية الدولة تعتبر ملكاً عاماً لجميع أفراد الشعب السوفياتي، وهي الشكل الأساس للملكية الاشتراكية، فالأرض والثروات التي في باطنها، والمياه والغابات تنحصر ملكيتها بالدولة».

(٣) وسائل الشيعة، ج ٤، كتاب الخمس، الحديث (٢٨)، ص (٣٧٢).

(٤) وسائل الشيعة، ج ٤، كتاب الخمس، الحديث رقم (٣٢)، ص (٣٧٢).

(٥) وسائل الشيعة، ج ٤، كتاب الخمس، الحديث رقم (٣٢)، ص (٣٧٢).

٢٣

والقار) لا تملك بالإحياء ولا يختص بها الحَجر(١) ، وفي جواز إقطاع السلطان المعادن والمياه تردد، وكذا في اختصاص المقطع بها، ومن سبق اليها فله أخذ حاجته».(٢)

فعلى أي أساس قيل في هذه الفتوى : «فله أخذ حاجته» ؟ هل على أساس ان لا داعي لأن يأخذ أكثر من حاجته ؟ أم أن المسألة أكبر وأن المقصود من ذلك أنه يحق له مبدئياً أخذ مقدار حاجته، ولا يحق له أخذ أكثر من ذلك (ولو كان هناك داع لذلك) ؟

والدليل على كون الحيازة مصدراً للملكية يتمثل في أن هذه المسألة تشاهد في النصوص الفقهية على شكل استرسال مسلّمٍ به من قبل الفقهاء. واضافة الى ذلك هناك حديث نبوي بهذا الصدد وهو :

«من سبق الى ما لم يسبق اليه مسلم، فهو له».

وعلى هذا الأساس فان منطق الفطرة يعتبر الحيازة سبباً ومصدراً ثانياً للملكية، وكذلك الحال في دين الفطرة إذ أورد تعليماً بهذا الشأن.

جيم - الخدمات

المصدر الثالث للملكية هو «الخدمات»، فهناك بعض الأعمال التي لا يسمونها أعمالاً انتاجية، إذ أن العمل الانتاجي اصطلاح يطلق على العمل الذي يحدث تغييراً في الشكل لأيِّ جرم أو شيء مادي وعيني وخارجي بحيث ينتج ربحاً. فمثلاً حين تحوُّلُ قطعة من الحديد الى فأس أو منشار أو مسمار أو حدوة حصان أو عتلة أو أي شيءٍ آخر، أو حين تقوم بإذابة خامات الحديد وتصفيتها وتبديلها الى حديد، حينذاك يقال إنك أنجزت عملاً إنتاجياً.

ان بعض الأعمال لا يتسبب في ايجاد عينية خارجية بل تعود نتيجته الى الآخرين، فمثلاً حين يعالجك الطبيب، أو يزرقك المضمد حقنة، أو يضمد الممرض جرحك، وأمثال هذه الأعمال، فأي عمل يتم انجازه هنا ؟ حين يعرض شخص معين عمله الحي ليرفع به احدى حاجاتنا ويلبي احدى رغباتنا فإن مثل هذه

____________________

(١) الحَجرُ في الاصطلاح الفقهي : عبارة عن إيجاد سياج من الحجر ووضع علامات على الأرض وغير ذلك مما يفعله الذي يريد إعمار الأرض التي لا مالك لها لكي يمنع غيره من حيازتها. (م)

(٢) شرائع الاسلام للمحقق الحلي، ج ٣، كتاب إحياء الموات، ص ٢٧٨.

٢٤

الأعمال تسمى بالخدمات.

الخدمات والملكية

الانسان يملك عمله الحي والنافذ، فلو أوجد على أثر عمله الحي والنافذ جسماً عينياً له هيكل خارجي، أو حالة جديدة وقيمة استهلاكية جديدة فإنه سوف يصير مالكاً للجثة الميتة لعمله الحي أيضاً، وهكذا الأمر في العمل الانتاجي، والآن لو أنجز الانسان عملاً حياً ولكن نتيجته مجردة عن هذه الجثة، فهل هناك شيء يملكه (في الظاهر) ؟ هل يمكن القول : إن الطبيب الذي يمارس عمله في علاج أحد المرضى يملك صحة ذلك المريض وعافيته ؟ ولو أخذت قطعة من قماش الى الخياط وخاطها فهل يصبح شريكاً لك في تملكها ؟ وهل يمكن للطبيب حين تأخذ اليه ابناءك ليعالجهم أن يطالبك بحصة منهم ؟ وهل يمكن للمعلم حين يدرس تلاميذه أن يدعي أنه قد أصبح مالكاً لمعلوماتهم وأن كل ما تعلموه ملك له(١) ؟ وعلى هذا الاساس فإن الانسان - في الخدمات - لا يملك عينية خارجية تنتج من عمله كما هو الحال في العمل الانتاجي، ومع ذلك فان الخدمات تعتبر مصدراً للملكية. بمعنى أن الانسان إذ يملك هذا العمل فهو يستطيع أن يحصل على شيءٍ ما عن طريق مبادلته بعينية خارجية قابلة للتملك، وهذا صحيح من وجهة النظر الفطرية والاجتماعية، ومن الناحية الفقهية هناك اعتبار للملكية أيضاً.

وعلى ضوء ما تقدم فقد عرضنا ثلاثة أنواع من العمل باعتبارها مصادر

____________________

(١) هناك نقاش في بعض الأعمال مثل التعليم والتدريس حول، هل أنها أعمال انتاجية أم لا ؟ وهذه المسألة تابعة الى كيفية النظر الى هذه الاعمال، فحيناً ندرس من أجل المعرفة الصرف، فبعض الناس يرغبون في مزيد من المعرفة، وكثير من مطالعات الأفراد سببها ظمأهم الى المعرفة، ومن المؤكد أن هذا النوع من التدريس يعد من الخدمات، لكن حين يكون التدريس في مستوى الانتاج كالدورات التدريبية التي تقام في المصانع من أجل تحويل العامل البسيط أو العامل الفني الى عامل ماهر فما الهدف هنا ؟ الهدف هو رفع مستوى الانتاج، وعليه فان الدرس المهني الذي يعطى للعامل يدخل ضمن خط الانتاج، فماذا يضر لو سمي هذا النوع من التعليم عملاً انتاجياً غير مباشر ؟ لأن العمل الانتاجي - على ضوء ما تقدم - عبارة عن العمل الذي ينتج - بشكل مباشر أو غير مباشر - احدى البضائع أو الأشياء التي يحتاج اليها الانسان، ومن المؤكد أن هناك بعض الأعمال تتبلور نتيجتها في شكل عمل ميت، ومخزون على شكل تجسيد للعمل بعيداً عن النشاط في إطار جرم أو جسم معين، وهناك أيضاً بعض الأعمال المربحة بغير هذه الحالة بل هي أعمال حية لا يبقى منها شيء بعد استخدام الانسان لها ونطلق على هذا النوع من الاعمال اسم الخدمات.

٢٥

للملكية :

١ - العمل الانتاجي.

٢ - العمل الحيازي.

٣ - العمل الخدمي.

ثلاثة مصادر أخرى للملكية

ان العوامل الثلاثة التي ذكرت لحد الآن هي في الحقيقة مصادر ل«الملكية الابتدائية» وهناك - اضافة الى هذه العوامل الثلاثة - ثلاثة عوامل أخرى أيضاً تعتبر مصادر ل«الملكية الانتقالية».

أوّلاً - المبادلة

في المبادلة توضع عادة قيمتان استهلاكيتان في مقابل بعضهما، أي ان الانسان يعطي قيمة استهلاكية، ليأخذ قيمة استهلاكية أخرى. وهكذا نجد مصدراً جديداً للملكية يسمى ب«المبادلة». انك حين تملك شيئاً ما، وهناك شخص يملك شيئاً آخر تحتاج اليه وترغب في اقتنائه، فإنّ المنطق الفطري يعطيكما حق «المبادلة» هنا، أي يسمح لك بأن تعطيه الشيء الذي تملكه أنت ويحتاجه هو، وتأخذ منه ما يملكه هو وتحتاجه أنت، ونتيجة لهذا العمل تصبح أنت مالكاً لما كان عنده ويصبح هو مالكاً لما كان لديك، مثلاً انت تملك أربعة أرغفة من الخبز ولا تملك أداماً، وصديقك عنده أدام ولا يملك خبزاً فتعطيه رغيفاً من الخبز وتأخذ منه ما يقابل ثمنه من الادام، وهو بدوره يعطي الأدام ليحصل على الخبز. انك كنت قبل المبادلة تملك الخبز وصديقك يملك الأدام، ولكن الملكية تتغير أماكنها بعد إجراء المبادلة فتكون مالكاً لبعض الأدام وبعض الخبز، ويصير هو مالكاً في المقابل مثلك، ولا يهم هنا معرفة مصدر الملكية في الخبز أو الادام، سواء كان ذلك المصدر عملاً إنتاجياً، أو حيازياً أو خدمياً، لأن الطرفين يملكان ما يتبادلانه، على كل حال، إن المبادلة تأتي في المرحلة الثانية. إذ ما لم تكن مالكاً لشيء معين بأحد الطرق الثلاثة التي مرّ ذكرها فلن تكون مالكاً للشيء الآخر، وأحياناً تجري المبادلة بالعمل الخدمي فيكون أحد طرفي المبادلة مالكاً لعمله الانتاجي والطرف الآخر مالكاً لعمله الخدمي. فمثلاً حين كان الأطباء في السابق

٢٦

يذهبون الى القرى كانوا يذهبون اليها حاملين معهم محفظة أقلام وبعض القصاصات من الورق ليعودوا وقد حمل كل منهم خرجاً مملوءاً، فكان الطبيب يعرض علاجه ويبادل عمله الحي الذي كان يملكه بانتاج القروي أو حيازته، وأحياناً يتبادل الانسان الخدمة بخدمة أخرى. فمثلاً يعالج الطبيب صباغاً بشرط أن يصبغ عيادته ففي هذه الحالة تُبادل الخدمة بالخدمة.

ولا يمكن للانسان المتقدم في ميدان الاقتصاد أن يؤمِّن جميع حاجاته بشكل مباشر عن طريق الانتاج أو الحيازة أو الخدمات التي يقدمها، ولذلك فهو ينتج واحدة أو اثنتين من القيم الاستهلاكية الفائضة عن استهلاكه او استهلاك أسرته، أو يحصل عليها عن طريق الحيازة، أو يعرضها على شكل عمل خدمي، ثم يبادلها بأنواع أخرى من القيم الاستهلاكية التي يحتاجها هو ولا ينتجها هو، بل يعرضها أناس آخرون.(١) وهناك فيما يتعلق بالمبادلة نقطتان لا بد من ذكرهما :

١ - يمكن للمبادلة أن تتحول الى أرضية للظلم والاستغلال. فقد يتملك أحدهم مثلاً كمية كبيرة من القيمة الاستهلاكية عن طريق الحيازة السهلة ويخزنها ثم يطلب من الآخرين القيام بخدمات عسيرة له ليعطيهم في مقابلها جزءاً مما خزنه كأجر عمل.

٢ - قد تجري المبادلة حيناً بشكل طبيعي كما كان الحال في المراحل الأولى للحياة البشرية البسيطة. فمثلاً هناك قروي يملك بيضاً ولا يملك لحماً، فيعطي البيض لجاره ليأخذ منه اللحم، وغير ذلك من الأمثلة المشابهة، ففي هذه الحالة تمثل المبادلة جانباً من أعمال المعيشة العادية، ولكن هذه المبادلة تتحول في

____________________

(١) هنا تبرز مسألة «قيمة المبادلة» فما ذكر لحد الآن كان «قيمة الاستهلاك» ولكن ومع ظهور «المبادلة» في الحياة الاقتصادية للبشر برزت مسألة قيمة المبادلة أيضاً، وقيمة المبادلة عبارة عن : نسبة تبادل قيمتين استهلاكيتين مع بعضهما، ونسبة التبادل هذه قد تعقدت في المجتمعات المختلفة الى حد يستوجب بحثاً مفصلاً جداً، وهذه النسبة هي التي يمكنها أن تكون عادلة أو مجحفة، ونحتاج الى كثير من البحث لكي نعرف بأي مقياس يجب تعيين هذه النسبة لكي تكون عادلة، فهل يمكن اعتبار مقدار العمل اللازم لتعويض الطاقة المستهلكة في عملية المبادلة مقياساً لذلك ؟ وهل ان ساعات العمل هي المقياس في ذلك ؟ هل ان المقياس هو ساعات العمل مع أخذ وسائل الانتاج بنظر الاعتبار ؟ هل ان المقياس هو ساعات العمل مع مراعاة وسائل الانتاج والكيفية ومقدار رغبة الناس في البضاعة ؟

إن أساس الحسابات الاقتصادية وتعقيدات علم الاقتصاد وحتى الكثير من الفلسفات الاقتصادية يتمثل في مسألة قيمة المبادلة ونسبتها هذه.

٢٧

المراحل الاقتصادية الأكثر تقدماً، وفي أساليب الحياة الأكثر اتساعاً، الى حرفة من الحرف، ففي مرحلة مبادلة البضاعة ببضاعة اخرى، كان عمل البائع المتجول أن يأتي بكمية من البضاعة من المدينة ليعطيها للقروي ثم يأخذ بضاعة القروي ويجلبها الى المدينة، فهذا العمل (حرفة البائع المتجول الذي كان في مقابل هذه الخدمات) يستوجب تحقيق مقدار من الربح والأجر أو حق التعب. فمثلاً كان يأخذ مترين من القماش الى القرية ليحصل في قبالها على عشرين بيضة، ثم يعطي هذه العشرين بيضة للبزاز ليأخذ منه مترين وربعاً من القماش، فهو قد حصل على «ربع المتر» من القماش أزاء عمله الخدمي الذي قدمه. فهو يعيش بهذه الطريقة، ثم حين يعود الى القرية يأخذ معه هذين المترين والربع من القماش ويعطيها للقروي ليحصل منه في قبالها على خمس وعشرين بيضة، وهنا يحصل على خمس بيضات لتكون غذاءً له ولأفراد أسرته، وعليه فإن المبادلة تتحول حيناً الى عمل وحرفة. فهي حينئذ نوع من الخدمات. وهنا أيضاً تتوفر أرضية الظلم والاجحاف، فمثلاً يعمل بقال معين(٨) ساعات في اليوم ليحصل في الأحوال الاعتيادية على دخل قدرة (٨٥٠) توماناً(١) ، وقد نجد هذا الشخص يملك بعد انقضاء النهار دخلاً مقداره (٣٠٠٠) تومان، فهنا ارتكب ظلماً واجحافاً. وهذه هي بداية طرح مسألة تحديد الأسعار التي تعتبر من المسائل الاقتصادية المهمة.

٣ – التجارة والمبادلة في هذه الحالة نوع من العمل الخدمي الذي يحصل منجزه على شيء ما مقابل الخدمة التي يقدمها. وعلى هذا الأساس يعتبر الشخص المبادل عاملاً(٢) . ويجب بالطبع احتساب القيمة الانتفاعية - لمنجز المبادلة الذي هو

____________________

(١) التومان عملة معدنية ايرانية تساوي ٨ / ١ الدولار الامريكي.

(٢) حينما ننطق بكلمة عامل فان لذلك معنى واسعاً في النظام الاجتماعي، فالبقالة تعتبر نوعاً من العمالة، والتجارة نوعاً من «العمل»، ولا ينحصر اطلاق تسمية العمل على العمل البدني فقط بل ان الجهد الفكري أيضاً نوع من العمل، فمثلاً يستخدم الفرد في الادارة والمحاسبة ذكاءه ومعلوماته الاقتصادية ويعمل، فمثل هؤلاء أيضاً نوع من العمال ولكن الشيء الذي يطرح نفسه هو قيمة عمل هؤلاء، لأن المدير هنا سوف يخسر بدلاً من أن يربح ان لم يتمتع بالذكاء والمعلومات الكافية عن البضائع والاسعار والمعادلات الاقتصادية، ولكنّ النقاش يدور حول أجور هذا المدير أو التاجر وأنه لا ينبغي الاجحاف في ذلك، وأنه يجب أن يحصل على أجور مشابهة لأجور العامل أو اذا قيل ان عمله فكري وهو يبذل جهداً أكبر فلتكن أجوره ضعف أو ثلاثة أمثال أجور العامل وليس عشرة أمثال أو مئة مثل.

٢٨

التاجر - بدقة لكي تكون قيمة عادلة لا كما هو المعتاد في النظام الرأسمالي الذي تكون فيه الأسعار مجحفة جداً بحيث يحصل المرء بتوقيع واحد على عشرة ملايين تومان، وباتصال هاتفي أو تلكس واحد على مئة مليون تومان، وقد أصبح اليوم أمراً عادياً أن تستورد البلدان المختلفة بضائع من الخارج، ويجب هنا على الشخص الذي تقلد منصب ادارة تجارة بلدٍ معين أن يكون خبيراً بشؤون عمله، وذا معلومات كافية بهذا الصدد، ولكن لا يحق له بسبب ذلك أن يطالب بامتصاص دماء الناس بل ينبغي عليه أن يتسلم راتباً معقولاً، ونحن هنا نعطي الحق بتسلم الراتب لمن كان عمله ذا نتيجة معينة فإن كان هناك شخص لا يتأثر العمل بوجوده أو عدمه، فلا ينبغي إعطاؤه راتباً.

ثانياً - الهبة

المصدر الثاني لانتقال الملكية هو «الهبة»، ويكمن الفرق بينها وبين المبادلة في أن كلاً من طرفي المبادلة يعطي الطرف الآخر ولكن الهبة أحادية الجانب. أي انك تملك شيئاً ما فتهب ما تملك لشخص آخر ليصبح بهبتك هذه مالكاً لذلك الشيء، ولكنك هنا لا تحصل على شيءٍ ما في مقابل ذلك، وكما يحق للانسان أن يستهلك حاصل أتعابه فان منطق الفطرة يعطيه الحق في أن يهبه بمحض ارادته وبصورة مجانية لشخص آخر ليستفيد منه ويستهلكه، فهنا تغير مكان الملكية عن طريق الهبة.

ثالثاً - الانتقال القهري

الانتقال القهري يشمل الارث وأمثاله، فالانسان في العمل الانتاجي - وكما مرّ سابقاً - يملك أية كمية ينتجها من القيمة الاستهلاكية، ولا توجد حدود لهذا النوع من الملكية إلا اذا كانت المواد الأولية للعمل محدودة، وفي العمل الحيازي أيضاً - وكما قلنا سابقاً - يمكن للانسان أن يأخذ من الطبيعة بمقدار حصته وحصة عائلته، فالأب أو الأم أو الابن الذي يعمل عملاً انتاجياً أو حيازياً أو خدمياً ليس هدفه من هذا العمل تأمين حاجته الشخصية فقط، بل يشمل ذلك

٢٩

تأمين الحاجات الاستهلاكية لكلٍّ من زوجته وبنيه وأبيه وأمه وجده وجدته وأخته وأخيه وأقربائه الأقربين أيضاً، وكأنه أمر طبيعي أن يكون الهدف المادي للانسان في عمله الانتاجي أو الحيازي أو الخدمي انتفاعه هو وأقرباؤه، وعليه فلو ملك شخص ما شيئاً عن طريق الانتاج أو الحيازة أو الخدمات أو المبادلة أو الهبة والهدية ثم مات قبل أن يستهلك هذا الشيء هو أو أقرباؤه، فإن المنطق الفطري يقول هنا : إن ما بقي منه يتعلق بأولئك الذين كان يعمل أثناء حياته من أجل انتفاعهم، وإن ملكيته تعتبر «ملكاً» لهم، وهذا هو الهدف الطبيعي للبشر(١) .

وليست هذه الملكية ملكية «إبتدائية» بل هي ملكية «انتقالية» حيث كان المورث قبل ذلك مالكاً لشيءٍ ما فانتقل بعد ذلك عن طريق الإرث إلى ورثته بشكل قهري.(٢)

وهناك حالات أخرى في الاقتصاد تعتبر انتقالاً قهرياً، فلو كنت مثلاً تملك (١٥٠) كغم من الحنطة وكان جارك يملك (٧٥) كغم منها فحين تمزج هاتان الكميتان يكون ثلث هذه ال(٢٢٥) كغم ملكاً لجارك، وثلثاها ملكاً لك، وما دامت حصة كل منكما غير معزولة فانكما شريكان في كل حبة من حبات الحنطة بالنسبة التي مرّ ذكرها، وحسب الفقه الاسلامي فقد حدث هنا أيضاً نوع من الانتقال القهري، ونظراً لما شرحناه حتى الآن، لو قيل إنّ منبع الملكية وجذرها يكمن في العمل، فان ذلك كلام يطابق الاسلام.

____________________

(١) وحتى في الاتحاد السوفياتي وبعد مداولات طويلة أوردوا مسألة الارث في دستورهم مع ملكية الشخص للدار ومستلزمات المعيشة، وكذلك الحال في الصين (راجع هامش الصفحة القادمة).

(٢) المقصود هنا أصل «الإرث» وليس الارث الذي يبلغ الملايين والمليارات، اذ ان له حساباً آخر، فهذه الاموال مشبوهة ما دام الفرد حياً، فلو مات بقيت تلك الشبهة حولها.

٣٠

أنواع الملكية

١ - الملكية الفردية : في هذا النوع من الملكية يعمل الانسان بنفسه فيصبح مالكاً لعمله.

٢ - ملكية المجموع : وهي نوعان :

أ - الملكية العامة : تحدث حين تكون الملكية متعلقة بجميع البشر، أو «الأراضي الخراجية» التي يملكها كافة المسلمين حتى الذين يأتون فيما بعد، أو

٣١

يسلمون فيما بعد، وقد ولدوا من أبوين غير مسلمين.

ب - الملكية الجماعية : في هذا النوع من الملكية تشترك - مثلاً - مجموعة معينة لتنجز عملاً معيناً، أو تشتري شيئاً ما فتصبح مالكة له بشكل جماعي.

إن مبدأ الملكية الفردية معترف به بشكل عام في الانظمة العالمية المعاصرة،(١) وقد اعترف الاسلام بكلٍّ من الملكية الفردية وملكية المجموع (العامة والجماعية)، وحسب المصطلحات الاقتصادية في عالمنا المعاصر. فالملكية على أربعة أنواع :

١ - الملكية الشخصية.

٢ - الملكية الخاصة.

٣ - الملكية العامة.

٤ - ملكية الدولة.

في اصطلاح الاقتصاد المعاصر يطلق على ملكية الفرد لغير وسائل الانتاج اسم الملكية الشخصية، وملكية فرد معين (أو حتى مجموعة معينة) لوسائل الانتاج تسمى ملكية خاصة، وملكية الناس للأراضي والجبال والمعادن والمياه وأمثالها ملكية عامة، وتسمى ملكية أمثال الأراضي الخراجية (التي يملكها عامة الناس ولكن الحكومة هي التي ينبغي لها التصرف بها) ملكية الدولة.(٢)

____________________

(١) حتى أننا نرى البلدان الماركسية كالصين والاتحاد السوفياتي قد اعترفت بشكل مجمل بمبدأ الملكية الفردية، إذ ورد في المادة الثالثة عشرة من الدستور الرابع للاتحاد السوفياتي الذي أقِرَّ عام ١٩٧٧م بهذا الصدد ما يلي : «إن أساس الملكية الشخصية لمواطني الاتحاد السوفياتي يكمن في الدخل الناتج عن عملهم، ويمكن للملكية الشخصية أن تشمل الأشياء المستخدمة في تمشية أمور المعيشة اليومية، والأشياء اللازمة للاستهلاك والترفيه الشخصي، والأعمال الثانوية، وبيت السكن، ومبالغ التوفير الناتجة عن العمل، والحكومة تدعم ملكية المواطنين الشخصية وحقهم في وراثتها، ويجوز اعطاء المواطنين قطع الأراضي المخصصة قانوناً للاستثمار الثانوي في تربية الدواجن والمواشي والبستنة وزراعة الخضروات، وكذلك لإنشاء دار خاصة، وعلى المواطنين استخدام قطع الأراضي الممنوحة لهم بشكل معقول، والحكومة والكالخوزات تساعد المواطنين في الأمور المتعلقة بالاستثمار الثانوي.

لا يجوز استخدام الأملاك الشخصية التي تمنح للمواطنين أو توضع تحت تصرفهم للاستفادة منها، في الحصول على دخول لا تحصل نتيجة لعمل الفرد نفسه، أو تلحق الضرر بمصالح المجتمع».

(٢) لأجل التعرف أكثر على أنواع الملكية راجع كتاب (مواقفنا) باب السياسة الاقتصادية ص ٦٢.

٣٢

ما يترتب على الملكية

حق الاستهلاك والاستثمار

حين يصبح الانسان مالكاً لشيءٍ ما فإنه بذلك يمتلك الحق في استهلاك ذلك الشيء، والمسألة التي تطرح نفسها في هذا البحث تدور حول، هل أن هناك حدوداً ومقاييس لهذا الاستهلاك أم لا(١) ؟ فلو غرس شخص ما شجرة - مثلاً - وحصل منها على بعض الثمار، فهل يحق لصاحب هذه الشجرة أن يستهلك من الثمار أيَّ مقدار يرغب فيه بسبب كونه مالكاً لها ؟ هل هناك حدود لهذا الأمر ؟ وان كانت فما هي تلك الحدود ؟ هل ان هذه الحدود ترسمها الحاجة الطبيعية(٢) أم الامكانية الاجتماعية(٣) أم الحد الأدنى لها ؟ ويقال في الاجابة عن هذه الاسئلة، انه لا توجد هناك حدود من حيث الملكية، بل هناك حدود أخلاقية، ومعنى ذلك أن الملكية تعطي الحق لصاحب هذه الشجرة في أن يستفيد من ثمارها إلى أقصى حدٍّ يرغب فيه. ولا حدود لهذا الأمر، ولكنه مسؤول من الناحية الأخلاقية أن لا يستفيد أكثر من معدل ما يحصل عليه جميع الناس، ولو قيل إنه مقيد من حيث الملكية فذلك يعني أنه لو أخذ أكثر من معدل ما يحصل عليه المجتمع بكافة أفراده فقد ارتكب عملاً اغتصابياً، ولكننا لو اعتبرنا ذلك حكماً أخلاقياً تحتمه المسؤولية الاجتماعية فإنه بذلك قد ارتكب عملاً يخالف مسؤوليته الانسانية.

والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو : لو أن هذا الفرد (في المثال نفسه) أكل من الشجرة التي زرعها بنفسه الى حد «الشبع» في الوقت الذي لم يكن متوسط ما يحصل عليه أفراد المجتمع قد بلغ درجة «الشبع» هذه فأية مخالفة ارتكب هذا الفرد ؟ هل ان مخالفته هذه مخالفة قانونية واقتصادية أم هي مخالفة لقوانين

____________________

(١) ان ما يخضع لبحثنا في هذه المرحلة ليس من وجهة نظر النصوص الاسلامية بل هو من وجهة نظر منطق الانسان الفطري والطبيعي.

(٢) الحاجة الطبيعية تعني أن صاحب هذه الشجرة يحق له أن يأكل من ثمارها أي مقدار يحتاج اليه وهذا بحد ذاته يعتبر حداً مرسوماً، لأن الانسان لا يستطيع استهلاك أكثر من حاجته الطبيعية.

(٣) معدل الامكانية الاجتماعية يعني ملاحظة ما يحصل عليه كلّ من افراد المجتمع من ثمار هذه الشجرة فيما لو قسمناها بينهم جميعاً، فيكون لكل فرد منهم حق استهلاك تلك الكمية.

٣٣

الملكية ؟ أم هي مخالفة أخلاقية في مجال الاقتصاد ؟ ولنضرب مثالاً آخر : لو كنت مرتدياً بعض الملابس وصادفت شخصاً عرياناً فوجب عليك اعطاؤه ملابسك ولم تفعل ذلك، فهل ارتكبت هنا مخالفة قانونية ؟ أم مخالفة لأحد الواجبات الاجتماعية ؟ وهنا تبرز مسألة طريفة جديرة بالاهتمام وهي:

ان الفقه المتبع يفرق بين المخالفة القانونية والمخالفة الأخلاقية والدينية. وهناك نوعان من التعامل مع هذه المسألة : -

يقال حيناً : ان هذه (الملابس) لم تأت من دخلك الخاص، وان الشخص المحتاج الذي صادفته هو في الأصل شريك لك فيها، ولو استملكها فانه لم يرتكب عملاً اغتصابياً تجاه أموال الغير.

ويقال حيناً آخر : ان هذه الأموال (الملابس) ملك لك من الناحية الاقتصادية ولكن تقع عليك مسؤولية اجتماعية واقتصادية لم تعطها حقها، فارتكبت بذلك عملاً محرماً وخاطئاً. وعليه فقد أصبحت مستحقاً لجميع أنواع العقاب الدنيوي والأخروي.

ويمكن استناداً الى بحث الانفاق في الاسلام الوصول الى استنتاجين :

١ - الاستنتاج المتبع من قبل فقهاء العامة والخاصة يقول بأنه لو ملك الانسان أموالاً من الطرق الصحيحة فان هذه الاموال ملك له ولكن انفاقها واجب عليه :

( الذين ينفقون أموالهم في سبيل اللّه ) (١)

فالمال في هذه الحالة ماله، ولا يتسبب وجوب الانفاق في سبيل اللّه في خروج هذا المال عن ملكيته، لأن الانفاق واجب من الواجبات وعلاقة الملكية محفوظة في مكانها، ولو خالف هذا الانفاق الواجب فلن يقضي ذلك على علاقة الملكية، بل يعتبر ذلك مخالفة لأحد الواجبات الدينية.

٢ - الاستنتاج الثاني يقضي بأنه لو وجب عليه الانفاق تزعزعت علاقة الملكية واضطربت، وعلى هذا الأساس فانني حين أنتج شيئاً ما فسوف أصبح مالكاً له كله في حالة عدم وجود أية حاجة وأرضية للانفاق الواجب لدى المجتمع، ولكنني وبمجرد بروز أرضية كهذه لن أعود مالكاً لجميع ذلك الشيء بل سأصبح مالكاً لذلك الجزء الفائض عن الكمية الواجب انفاقها.

____________________

(١) البقرة : ٢٦٢.

٣٤

وينطبق هذان الرأيان على الخمس والزكاة أيضاً، فأحدهما يقضي بأن الكمية المساوية للخمس والزكاة ليست ملكاً للشخص أساساً، بل هي ملك خاص لمصارف هاتين الضريبتين، والرأي الآخر يقضي بأن الشخص هو المالك في جميع الأحوال، فلو ارتكب مخالفة من هذا النوع فانه قد خالف حكماً من الأحكام التكليفية.(١) ويختلف فقهاؤنا في وجهات نظرهم حول الخمس والزكاة وهما ضريبتان قد حدد الشرع مقدار كلٍّ منهما، فيرى عدد كبير منهم أن الانسان لا يعتبر أساساً مالكاً لذلك المقدار (الذي تحدده هاتان الضريبتان) بل هو ملك خاص لمصارف الخمس والزكاة،(٢) وفي هذه الحالة يكون الفرد - في الخمس - مالكاً في البداية لأربعة أخماس عمله الانتاجي الفائض عن حاجته السنوية، ولا يملك الخمس الباقي أساساً، ولذا فهم يقولون إنه لو مارس مرة ثانية عملاً اقتصادياً بجميع هذا الدخل فان الربح الناتج عن خمسه يذهب الى حساب الخمس لا الى حسابه الخاص، وعلى هذا الأساس فان وجهة نظر كثير من الفقهاء حول الضرائب التي حدد مقدارها وكميتها تقول بأن الشخص لا يملك ذلك المقدار وتلك الكمية أساساً، بل انه ومنذ بداية انتاجه يتعلق مقدار من هذا الانتاج بمصارف تلك الضرائب.(٣)

____________________

(١) ورد كل من «الحكم التكليفي» و«الحكم الوضعي» في المصطلحات الاسلامية، فالحكم الوضعي يعني العلاقة القانونية، والحكم التكليفي هو بالضبط ما عبرنا عنه بالحكم الأخلاقي.

(٢) البحث يدور هنا حول الضرائب التي حدد مقدارها، ولا يوجد مثل هذا الرأي حول الحقوق التي لم يحدد مقدارها، ولم يسبق وجود هذه النظرة لدى الفقهاء فيما يتعلق بحالات الانفاق غير المحدود الذي يعين وفقاً للظروف الزمانية والمكانية المختلفة.

(٣) تعود بنا هذه المسألة الى البحث حول قضية الاختيار، والاختيار الذي نطرحه نحن يعني أن الانسان مخير حتى في المعصية، فالانسان مخلوق قادر على ارتكاب المعصية ولو وجب عليه الاتيان بعمل معين فانه يستطيع أن لا يأتي به. وعلى هذا الأساس كان الوجوب التكليفي لا يقضي على الاختيار الطبيعي والتكويني لدى الانسان، وهكذا فالمال ملك له ويرتبط به بعلاقة الملكية وهو بالاضافة الى ذلك هناك واجب يتحمل مسؤولية أدائه وهو يقدر على عدم ادائه دون أن يؤدي ذلك الى انقطاع علاقة الملكية القانونية بينه وبين هذا المال، حتى أن العقاب لا يزحزح - أيضاً - العلاقة القانونية بين المالكين وأملاكهم، وعلى ضوء ذلك فانه قد لا يعطي المال، بل وقد يدخل السجن أيضاً ولكن المال يبقى ملكاً له.

وهناك سؤال مهم يقول : هل هناك فرق بين الحكم القانوني - أو بتعبير أدق الحكم الوضعي - والحكم التكليفي، أم لا ؟ أي هل انه كلما جاء الحكم التكليفي بوجوب الانفاق، جاء الحكم القانوني والوضعي بزوال الملكية معه ؟ أم ان الملكية محفوظة في مكانها ؟ وهل يعتبر الفرد الذي يطبق الحكم التكليفي قد أحسن عملاً، والذي لم يطبقه قد أساء عملاً ؟

٣٥

وفي الحديث عن القضايا الاقتصادية بصورة عامة يمكن القول : إنه قد يفصل الحكم الوضعي والقانوني عن الحكم الأخلاقي والتكليفي، فحين نتحدث مع بعض الأفراد حول وجوب اجراء الكثير من التعديلات نراهم يردّون بأن ذلك وجوب تكليفي وليس حكماً قانونياً.(١)

الاسراف والاتلاف(٢)

هل ان حق الاستهلاك الناشئ عن الملكية يصل الى حد الاتلاف والافناء الذي لا داعي له أم لا ؟ فمثلاً لو غرس شخص ما شجرة كمثرى، فنمت وحملت الثمار، وصار مالكاً لثمار الكمثرى هذه، ثم ترك هذه الثمار وشأنها حتى تتلف فهل يحق له ذلك من الناحية القانونية بسبب كونه مالكاً لها ؟ وان لم تعطه ملكية ثمار الكمثرى مثل هذا الحق، فهل يحق لآخرين أن يملكوها ويستهلكوها بعد معرفتهم بأنه ينوي تركها وشأنها ؟ هنا يمكن طرح رأيين :

١ - ان ثمار الكمثرى ملك للشخص الذي غرس الشجرة، وهو بذلك يستطيع أن يتركها و شأنها حتى تتفسخ (وتتلف)، ولو قام بهذا العمل فقد ارتكب أبشع أشكال الإسراف (التبذير) وهو إتلاف الأموال، ومع انه ارتكب معصية لكن احداً لا يستطيع استهلاك شيء من هذه الثمار دون إذن منه، أو مبادلة، أو هبة. لأن علاقة الملكية ما زالت قائمة هنا.

____________________

(١) هناك بحث حول العلاقات القانونية في كُلٍّ من علم الاقتصاد والمذهب الاقتصادي، فالمذهب يحدد المبادئ الاقتصادية العامة وكل ما يجب أن يعمل به، والعلم يشرح الأفعال وردود الأفعال العلمية على أساس هذه المبادئ فهو تحليل لما هو قائم، أو يبين كيفية التطبيق العلمي لما يجب أن يحدث. فمثلاً يقول المذهب : يجب أن يتمتع جميع أفراد المجتمع بالحد الأدنى من مستوى المعيشة، وهذا مبدأ مذهبي لم يكتسب حقيقة خارجية لحد الآن، ولكن العلم يوضح لنا الطرق العينية التي يمكننا اتباعها من الناحية العملية لتلبية الحد الأدنى من احتياجات جميع أفراد مجتمعٍ ما، أي الشيء الذي لم يتحقق بعد، ولكنه يبين الطريقة العلمية لتحقيق ما يجب تحقيقه، مثلاً تريد أنت أن تجعل أبناءك أشخاصاً حركين (وهذا الأمر يتعلق بالمذهب، وكيفية انجاز هذا الأمر واضحة وهي تخص العلم الذي يقول بوجوب الاستفادة من تجارب الآخرين في تحريك أبنائهم) فهل يجب لجعل ولدك فرداً متحركاً أن تقول له دوماً : تحرك ؟ أم أن الطريق الى ذلك يتمثل في أن تضع أمامه الدوافع الى التحرك لتخلق فيه اندفاعاً ذاتياً ؟ هذه أمور يجب على العلم أن يجيبنا عنها.

(٢) الاسراف يعني استهلاك ما هو أكثر من الحد المعقول، والاتلاف يعني الإهلاك والإفناء.

٣٦

٢ - إن ملكية الثمار لا تعطيه مثل هذا الحق أساساً، وعليه فلو علم الآخرون بأنه يقصد تركها وشأنها فإنّ لهم حق استهلاكها.

إن ما قيل حتى الآن بصدد مصدر الملكية في المنطق الفطري، وجواز تصرف المالك بملكه، لا يسري على الإتلاف، على كل حال ان عدم جواز الإتلاف في المنطق الفطري السليم واضح تماماً، وما يتبادر الى الذهن هو أن المنطق الفطري لا يمنح المالك حق الإتلاف، وإن حق التصرف لا يبلغ حد الاتلاف. ولو أراد المالك اتلاف ما يملك فان ذلك يعتبر شكلاً من أشكال «الاعراض»(١) بحيث يخرج (ذلك المال) عن ملكيته بشكل تام، وتزول علاقة الملكية بينه وبين هذا الشيء. إن مثل هذا الشخص قد ارتكب معصية لأن حق الملكية الذي منحه اللّه له لا يبلغ حدّ الاتلاف، وان تصرفه أساساً هو تصرف غير لائق في ملك اللّه، مثلاً لو أراد شخص أن يرمي قدحاً من أعلى السطح بقصد كسره والتقط أحد المارة ذلك القدح فأيّ منهما يكون هنا مالكاً لهذا القدح ؟ وهذا بحث قانوني مطروح في الفقه أيضاً، فالشخص الذي كان يقصد رمي القدح من أعلى السطح ليكسره قد انقطعت علاقة ملكيته للقدح برميه إيّاه. ويسمى هذا الأمر «اعراضاً»، فلو كان يحق له إتلاف أمواله لما كان ينبغي لهذه العلاقة أن تقطع، فانقطاع هذه العلاقة لمجرد قيامه بذلك العمل يعني عدم وجود حق الإتلاف هنا.

ومع قرار الشخص وأول خطوة تنفيذية له (نحو إتلاف ماله) تبرز مسألتان:

الاولى : انه ارتكب معصية تكليفية.

الثانية : تتمثل في نتيجة قانونية وهي انقطاع ملكيته بحيث لو جاء شخص آخر وأنقذ هذا المال من التلف فإنه يصبح مالكاً له.

وهذا بحث مهم، فقد برز مثل هذا الوضع قبل فترة من الزمن في إحدى البلدان ذات الحركة الانتاجية الواسعة جداً، حيث أتلفوا كمية من أحد المنتجات من أجل تقليل الكمية المعروضة منه في السوق، وتطرح هذه المسألة أحياناً كاحدى وسائل تنظيم الحركة الاقتصادية على صعيد الانتاج والاستهلاك، وعلى صعيد

____________________

(١) «الإعراض» من عوامل سلب الملكية بحيث يمكن للآخرين التصرف في ذلك المال.

٣٧

انتاج البضائع وتبادلها وتوزيعها.(١)

____________________

(١) حدث في احدى السنين في قرية من قرى أمريكا أن امتلأت أشجار الخوخ الى حد كبير فتعاهد المزارعون مع بعضهم على قطف ٥٠ % من هذه الثمار مثلاً لغرض بيعها وترك ال ٥٠ % الأخرى وشأنها لتسقط وتتحول بعد تفسخها الى سماد للأرض، وقد اعتبروا مراعاة هذا العهد واجباً عليهم حتى من الناحية الأخلاقية، ولو تخلف أحد عنه كان - في الوجدان الأخلاقي لأولئك المزارعين - قد ارتكب مخالفة أخلاقية، وهي مخالفة لعهد ترك تأثيره في تنظيم مصاريفهم ودخولهم، وهكذا نجد أن مثل هذه الأمور تبلغ احياناً هذا الحد.

٣٨

رأس المال

المسألة الثانية التي تطرح نفسها حول ما يترتب على الملكية هي استثمار الملك والمال بصورة رأس مال، أي أن يستثمر الانسان ما حصل عليه بإحدى الطرق التي مرّ ذكرها بصورة رأس مال، وهذه قضية من القضايا الأساس.

تعريف رأس المال

هو تعبير عن الكمية التي يحصل عليها الفرد من القيمة الاستهلاكية التي يمكنها أن تكون عاملاً مساعداً في الحصول على كمية أخرى منها، فمثلاً هناك مزارع يزرع القطن ليحصل من مزرعته على (٥٠٠) كغم منه، وفي فصل الشتاء يحول (٥٠) كغم من هذا القطن بعمله اليدوي الى خيوط ليبيعها بسعر أعلى. وعليه فهو يملك في نهاية السنة (٤٥٠) كغم من القطن و(٥٠) كغم من الخيوط، فيحدِّثُ نفسه قائلاً : إنه لو استطاع بطريقة ما أن يحول جميع ال(٥٠٠) كغم من القطن الى خيوط في فصل الشتاء فسوف يحصل على دخل أكبر، وبهذا الدافع يتحرك تفكيره المبدع فيخترع ماكنة الغزل، وفي السنة التالية يزرع هذا المزارع القطن مرة أخرى فيحصل على (٥٠٠) كغم منه ولكنه ينجح بمساعدة ماكنة الغزل في أن يحول جميع هذا القطن الى خيوط.

فأية معجزة حدثت هنا ؟ إن ماكنة الغزل البسيطة هذه قد أصبحت مصدراً لزيادة الانتاج، لقد أصبح الزارع مالكاً لوسيلة رفعت من مقدار الربح الناتج عن فترة العمل نفسها، فماكنة الغزل تعين القروي في أن يرفع من مستوى إنتاجه، وليتمكن من انتاج كمية اكبر من القيم الاستهلاكية، وفي هذه الحالة يملك

٣٩

المزارع كل شيء حتى ماكنة الغزل البسيطة التي اخترعها بنفسه، فقد نجح باستعماله الخشب والامكانات الأخرى التي وضعتها الطبيعة تحت تصرفه، وكذلك فكره المبدع وساعديه وعمله، في رفع كمية القيمة الاستهلاكية، فهل هناك أدنى شك في ملكية هذا الشخص للقطن والخيوط وماكنة الغزل الخشبية ؟ إنّ هذا الشخص لم يرتكب لحدِّ الآن عملاً مخالفاً للحكمين : الوضعي والقانوني.

في هذا المثال الذي أوردناه هنا يعتبر كلّ من ال(٥٠٠) كغم من القطن وماكنة الغزل البسيطة وسيلة من وسائل عمل القروي، وسبباً لإنتاج ال(٥٠٠) كغم من الخيوط، فكلاهما إنضم الى قوة العمل الحيِّ للقروي الذي يغزل القطن، ولكن دور ماكنة الغزل يختلف، فهي حقاً تؤثر في انتاج القيمة الاستهلاكية المضافة، ولكن القطن لا يؤثر هنا.

ولتوضيح هذا الموضوع لاحظ الجدول الآتي حيث اعتبرنا في هذا المثال سعر القطن(١٠) ريالات لكل كغم وسعر الخيط (٢٠) ريالاً لكل كغم:

إن القيمة الاستهلاكية الجديدة التي أضيفت هنا تعادل (٤٥٠٠) ريال (١٠٠٠٠ - ٥٥٠٠ = ٤٥٠٠)، وبناءً على ما تقدم فإن الشيء الذي أصبح عاملاً في إيجاد هذه القيمة المضافة هو ماكنة الغزل التي استعملت كوسيلة في زيادة القيمة المنتجة، ذلك لأن كمية ال(٥٠٠) كغم من القطن موجودة بحوزة الزارع في كلتا الحالتين.

أنواع رأس المال

يمكن لرأس المال أن يتخذ أشكالاً ثلاثة :

١ - وسائل إنتاج.

٢ - استثمارات.

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401