الميزان في تفسير القرآن الجزء ٦

الميزان في تفسير القرآن9%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 401

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 401 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 88922 / تحميل: 8241
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ٦

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

و إذا كان كذلك كان ما يوصف به من الصفات غير محدود بحدّ - و إن كان لفظنا قاصراً عنه، و المعنى غير واف به - فهو تعالى أحد لا بتأويل عدد يقضي بالمحدوديّة، و على هذا النهج خلقه و سمعه و بصره و شهوده و غير ذلك.

و من فروع ذلك أنّ بينونته من خلقه ليس بمعنى الانفصال و الانعزال تعالى عن الاتّصال و الانفصال، و الحلول و الانعزال، بل بمعنى قهره لها و قدرته عليها، و خضوعهم و رجوعهم إليه.

و قولهعليه‌السلام :( من وصفه فقد حدّه و من حدّه، فقد عدّه و من عدّه، فقد أبطل أزله) فرّع على إثبات الوحدة العدديّة إبطال الأزل لأنّ حقيقة الأزل كونه تعالى غير متناه في ذاته و صفاته و لا محدود فإذا اعتبر من حيث إنّه غير مسبوق بشي‏ء يتقدّم عليه كان هو أزله، و إذا اعتبر من حيث إنّه غير ملحوق بشي‏ء يتأخّر عنه كان هو أبده، و ربّما اعتبر من الجانبين فكان دواماً.

و أمّا ما يظهر من عدّة من الباحثين أنّ معنى كونه تعالى أزليّاً أنّه سابق متقدّم على خلقه المحدث تقدّماً في أزمنة غير متناهية لا خبر فيها عن الخلق و لا أثر منهم فهو من أشنع الخطأ، و أين الزمان الّذي هو مقدار حركة المتحرّكات و المشاركة معه تعالى في أزله؟!.

و في النهج: و من خطبة لهعليه‌السلام :( الحمد لله خالق العباد، و ساطح المهاد، و مسبل الوهاد، و مخصب النجاد، ليس لأوّليّته ابتداء، و لا لأزليّته انقضاء، هو الأوّل لم يزل، و الباقي بلا أجل، خرّت له الجباه، و وحّدته الشفاه، حدّ الأشياء عند خلقه لها إبانة له من شبهها، لا تقدّره الأوهام بالحدود و الحركات، و لا بالجوارح و الأدوات، لا يقال: متى؟ و لا يضرب له أمد بحتّى، الظاهر لا يقال: ممّا؟ و الباطن لا يقال: فيما؟ لا شبح فيتقضّى و لا محجوب فيحوى، لم يقرب من الأشياء بالتصاق، و لم يبعد عنها بافتراق، لا يخفى عليه من عباده شخوص لحظة، و لا كرور لفظة، و لا ازدلاف ربوة، و لا انبساط خطوة في ليل داج، و لا غسق ساج، يتفيّؤ عليه القمر المنير، و تعقّبه الشمس ذات النور في الاُفول و الكرور و تقلّب الأزمنة و الدهور من إقبال ليل مقبل و إدبار

١٠١

نهار مدبر، قبل كلّ غاية و مدّة، و كلّ إحصاء و عدّة، تعالى عمّا ينحله المحدّدون من صفات الأقدار، و نهايات الأقطار، و تأثّل المساكن، و تمكّن الأماكن، فالحدّ لخلقه مضروب، و إلى غيره منسوب، لم يخلق الأشياء من اُصول أزليّة، و لا أوائل أبديّة بل خلق ما خلق فأقام حدّه، و صوّر ما صوّر فأحسن صورته) .

و في النهج: من خطبة لهعليه‌السلام :( ما وحّده من كيّفه، و لا حقيقته أصاب من مثّله، و لا إيّاه عنى من شبّهه، و لا صمده من أشار إليه و توهّمه، كلّ معروف بنفسه مصنوع، و كلّ قائم في سواه معلول، فاعل لا باضطراب آلة، مقدّر لا يحول فكره، غنيّ لا باستفادة، لا تصحبه الأوقات، و لا ترفده الأدوات، سبق الأوقات كونه، و العدم وجوده، و الابتداء أزله، بتشعيره المشاعر عرف أن لا مشعر له، و بمضادّته بين الاُمور عرف أن لا ضدّ له، و بمقارنته بين الأشياء عرف أن لا قرين له ضادّ النور بالظلمة، و الوضوح بالبهمة، و الجمود بالبلل، و الحرور بالصرد، مؤلّف بين متعادياتها، مقارن بين متبائناتها، مقرّب بين متباعداتها، مفرّق بين متدانياتها، لا يشمل بحدّ، و لا يحسب بعدّ، و إنّما تحدّ الأدوات أنفسها، و تشير الإله إلى نظائرها، منعتها( منذ) القدمة، و حمتها( قد) الأزليّة، و جنّبتها( لو لا) التكملة، بها تجلّى صانعها للعقول، و بها امتنع عن نظر العيون، لا يجري عليه السكون و الحركة، و كيف يجري عليه ما هو أجراه؟ و يعود فيه ما هو أبداه؟ و يحدث فيه ما هو أحدثه؟ إذاً لتفاوتت ذاته، و لتجزّأ كنهه، و لامتنع من الأزل معناه، و لكان له وراء إذا وجد له أمام، و لالتمس التمام إذا لزمه النقصان، و إذاً لقامت آية المصنوع فيه، و لتحوّل دليلاً بعد أن كان مدلولاً عليه) .

أقول: أوّل كلامهعليه‌السلام مسوق لبيان امتناع ذاته المقدّسة عن الحدّ، و لزمه في جميع ما عداه، و قد تقدّم توضيحه الإجماليّ فيما تقدّم.

و قوله:( لا يشمل بحدّ و لا يحسب بعدّ) كالنتيجة لما تقدّمه من البيان، و قوله:( و إنّما تحدّ الأدوات أنفسها، و تشير الإله إلى نظائرها) بمنزلة بيان آخر لقوله: لا يشمل بحدّ، إلخ فإنّ البيان السابق إنّما سيق من مسلك أنّ هذه الحدود المستقرّة في المصنوعات مجعولة للذات المتعالية متأخّرة عنها تأخّر الفعل عن فاعله فلا يمكن

١٠٢

أن تتقيّد بها الذات إذ كان ذات و لا فعل.

و أمّا ما في قوله:( و إنّما تحدّ) إلخ، من البيان فهو مسوق من طريق آخر، و هو أنّ التقدير و التحديد الّذي هو شأن هذه الأدوات و الحدود إنّما هو بالمسانخة النوعيّة كما أنّ المثقال الّذي هو واحد الوزن مثلاً توزن به الأثقال دون الألوان و الأصوات مثلاً، و الزمان الّذي هو مقدار الحركة إنّما تحدّ به الحركات، و الإنسان مثلاً إنّما يقدّر بما له من الوزن الاجتماعيّ المتوسّط مثلاً من يماثله في الإنسانيّة، و بالجملة كلّ حدّ من هذه الحدود يعطي لمحدوده شبيه معناه، و كلّ صفة إمكانيّة كائنة ما كانت مبنيّة على قدر و حدّ و ملزومة لأمد و نهاية، و كيف يمكن أن يحمل معناها المحدود على ذات أزليّة أبديّة غير متناهية؟.

فهذا هو مرادهعليه‌السلام ، و لذلك أردفه بقوله:( منعتها منذ القدمة) إلخ، أي صدق كلمة( منذ) و كلمة( قد) الدالّتين على الحدوث الزمانيّ، على الأشياء منعتها و حمتها أن تتّصف بالقدمة، و كذلك صدق كلمة( لو لا) في الأشياء و هي تدلّ على النقص و اقتران المانع جنبتها و بعّدتها أن تكون كاملة من كلّ وجه.

و قوله:( بها تجلّى صانعها للعقول و بها امتنع من نظر العيون) الضميران للأشياء أي إنّ، الأشياء بما هي آيات له تعالى و الآية لا تري إلّا ذا الآية فهي كالمرائي لا تجلّي إلّا إيّاه تعالى فهو بها تجلّى للعقول و بها أيضاً امتنع عن نظر العيون إذ لا طريق إلى النظر إليه تعالى إلّا هذه الآيات و هي محدودة لا تنال إلّا مثلها لا ربّها المحيط بكلّ شي‏ء.

و هذا المعنى بعينه هو الموجب لامتناعه عن نظر العيون فإنّها آلات مركّبة مبنيّة على الحدود لا تعمل إلّا في المحدود، و جلّت ساحة ربّ العزّة عن الحدّ.

و قولهعليه‌السلام :( لا يجري عليه السكون و الحركة) إلخ، بمنزلة العود إلى أوّل الكلام ببيان آخر يبيّن به أنّ هذه الأفعال و الحوادث الّتي هي تنتهي إلى الحركة

١٠٣

و السكون لا تجري عليه، و لا تعود فيه و لا تحدث فإنّها آثاره الّتي تترتّب على تأثيره في غيره، و معنى تأثير المؤثّر توجيهه أثره المتفرّع على نفسه إلى غيره، و لا معنى لتأثير الشي‏ء في نفسه إلّا بنوع من التجزّي و التركيب العارض لذاته كالإنسان مثلاً يدبّر بنفسه بدنه، و يضرب بيده على رأسه، و الطبيب يداوي بطبّه مرضه، فكلّ ذلك إنّما يصحّ لاختلاف في الأجزاء أو الحيثيّات، و لو لا ذلك لامتنع وقوع التأثير.

فالقوّة الباصرة مثلاً لا تبصر نفسها، و النار لا تحرق ذاتها، و هكذا جميع الفواعل لا تفعل إلّا في غيرها إلّا مع التركيب و التجزئة كما عرفت و هذا معنى قوله:( إذاً لتفاوتت ذاته، و لتجزّأ كنهه، و لامتنع من الأزل معناه) إلخ.

و قولهعليه‌السلام :( و إذاً لقامت آية المصنوع فيه، و لتحوّل دليلاً بعد أن كان مدلولاً عليه) أي إذاً لزمه النقص من تطرّق هذه الحدود و الأقدار عليه، و النقص من علائم المصنوعيّة و أمارات الإمكان كان (تعالى و تقدّس) مقارناً لما يدلّ على كونه مصنوعاً و كان نفسه كسائر المصنوعات دليلاً على موجود آخر أزليّ كامل الوجود غير محدود الذات هو الإله المنزّه عن كلّ نقص مفروض، المتعالي عن أن تناله أيدي الحدود و الأقدار.

و اعلم أنّ ما يدلّ عليه قوله - من كون الدلالة هي من شؤون المصنوع الممكن - لا ينافي ما يستفاد من سائر كلامه و كلام سائر أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام : أنّه تعالى معلوم بنفس ذاته، و غيره معلوم به، و أنّه دالّ على ذاته، و هو الدليل على مخلوقاته فإنّ العلم غير العلم و الدلالة غير الدلالة، و أرجو أن يوفّقني الله تعالى لإيضاحه و بسط الكلام فيه في بعض ما يرتبط به من الأبحاث الآتية إن شاء الله العزيز.

و في التوحيد، بإسناده عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: بينا أميرالمؤمنينعليه‌السلام يخطب على منبر الكوفة إذ قام إليه رجل يقال له( ذعلب) ذرب اللسان، بليغ في الخطاب، شجاع القلب فقال: يا أميرالمؤمنين هل رأيت ربّك؟ فقال: ويلك يا ذعلب لم أكن لأعبد ربّاً لم أره!.

فقال: يا أميرالمؤمنين كيف رأيته؟ قال: يا ذعلب لم تره العيون بمشاهدة الأبصار،

١٠٤

و لكن رأته القلوب بحقائق الإيمان، ويلك يا ذعلب إنّ ربّي لطيف اللطافة فلا يوصف باللطف، عظيم العظمة لا يوصف بالعظم، كبير الكبرياء لا يوصف بالكبر، جليل الجلالة لا يوصف بالغلظ، قبل كلّ شي‏ء لا يقال: شي‏ء قبله، و بعد كلّ شي‏ء لا يقال: له بعد، شاء الأشياء لا بهمّة، دراك لا بخديعة، هو في الأشياء غير متمازج بها و لا بائن، عنها ظاهر لا بتأويل المباشرة، متجلّ لا باستهلال رؤية، بائن لا بمسافة، قريب لا بمداناة، لطيف لا بتجسّم، موجود لا بعد عدم، فاعل لا باضطرار، مقدّر لا بحركة، مريد لا بهمامة، سميع لا بآلة، بصير لا بأداة، لا تحويه الأماكن، و لا تصحبه الأوقات، و لا تحدّه الصفات، و لا تأخذه السنات، سبق الأوقات كونه، و العدم وجوده، و الابتداء أزله، بتشعيره المشاعر عرف أن لا مشعر له، و بتجهيره الجواهر عرف أن لا جوهر له، و بمضادّته بين الأشياء عرف أن لا ضدّ له، و بمقارنته بين الأشياء عرف أن لا قرين له، ضادّ النور بالظلمة، و الجسوء بالبلل، و الصرد بالحرور، مؤلّف بين متعادياتها، مفرّق بين متدانياتها، دالّة بتفريقها على مفرّقها، و بتأليفها على مؤلّفها، و ذلك قوله عزّوجلّ:( وَ مِنْ كُلِّ شَيْ‏ءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) ، ففرّق بها بين قبل و بعد ليعلم أن لا قبل له و لا بعد، شاهدة بغرائزها أن لا غريزة لمغرّزها، مخبرة بتوقيتها أن لا وقت لموقّتها، حجب بعضها عن بعض ليعلم أن لا حجاب بينه و بين خلقه غير خلقه، كان ربّاً و لا مربوب، و إلهاً إذ لا مألوه، و عالماً إذ لا معلوم، و سميعاً إذ لا مسموع. ثمّ أنشأ يقول:

و لم يزل سيّدي بالحمد معروفاً

و لم يزل سيّدي بالجود موصوفاً

و كان إذ ليس نور يستضاء به

و لا ظلام على الآفاق معكوفاً

فربّنا بخلاف الخلق كـلّهم

و كلّ ما كان في الأوهام موصوفاً

الأبيات.

أقول: و كلامهعليه‌السلام - كما ترى - مسوق لبيان معنى أحديّة الذات في جميع ما يصدق عليه و يرجع إليه، و أنّه تعالى غير متناهي الذات و لا محدودها، فلا يقابل ذاته ذات و إلّا لهدّده بالتحديد و قهره بالتقدير، فهو المحيط بكلّ شي‏ء، المهيمن على

١٠٥

كلّ أمر، و لا يلحقه صفة تمتاز عن ذاته، فإنّ في ذلك بطلان أزليّته و عدم محدوديّته.

و أنّ صفته تعالى الكماليّة غير محدودة بحدّ يدفع الغير أو يدفعه الغير كما أنّ العلم فينا غير القدرة لما بينهما من المدافعة مفهوماً و مصداقاً، و لا تدافع بينهما فيه تعالى، بل الصفة عين الصفة و عين كلّ صفة من صفاته العليا و الاسم عين كلّ اسم من أسمائه الحسنى.

بل إنّ هنالك ما هو ألطف معنى و أبعد غوراً من ذلك و هو أنّ هذه المعاني و المفاهيم للعقل بمنزلة الموازين و المكاييل يوزن و يكتال بها الوجود الخارجيّ و الكون الواقعيّ فهي حدود محدودة لا تنعزل عن هذا الشأن و إن ضممنا بعضها إلى بعض، و استمددنا من أحدها للآخر، لا يغترف بأوعيتها إلّا ما يقاربها في الحدّ، فإذا فرضنا أمراً غير محدود ثمّ قصدناه بهذه المقاييس المحدودة لم ننل منه إلّا المحدود و هو غيره، و كلّما زدنا في الإمعان في نيله زاد تعالياً و ابتعاداً.

فمفهوم العلم مثلاً هو معنى أخذناه من وصف محدود في الخارج نعدّه كمالاً لما يوجد له، و في هذا المفهوم من التحديد ما يمنعه أن يشمل القدرة و الحياة مثلاً، فإذا أطلقناه عليه تعالى ثمّ عدّلنا محدوديّته بالتقييد في نحو قولنا: علم لا كالعلوم فهب أنّه يخلص من بعض التحديد لكنّه بعد مفهوم لا ينعزل عن شأنه و هو عدم شموله ما وراءه (و لكلّ مفهوم وراء يقصر عن شموله) و إضافة مفهوم إلى مفهوم آخر لا يؤدّي إلى بطلان خاصّة المفهوميّة، و هو ظاهر.

و هذا هو الّذي يحيّر الإنسان اللبيب في توصيفه تعالى بما يثبته له لبّه و عقله، و هو المستفاد من قولهعليه‌السلام :( لا تحدّه الصفات) و من قوله فيما تقدّم من خطبته المنقولة:( و كمال الإخلاص له نفي الصفات عنه) و قوله أيضاً في تلك الخطبة:( الذي ليس لصفته حدّ محدود، و لا نعت موجود) و أنت ترى أنّهعليه‌السلام يثبت الصفة في عين أنّه ينفيها أو ينفي حدّها، و من المعلوم أنّ إثباتها هي لا تنفكّ عن الحدّ فنفي الحدّ عنها إسقاط لها بعد إقامتها، و يؤول إلى أنّ إثبات شي‏ء من صفات الكمال فيه لا ينفي ما وراءها فتتّحد الصفات بعضها مع بعض ثمّ تتّحد مع الذات و لا حدّ، ثمّ لا ينفي ما

١٠٦

وراءها ممّا لا مفهوم لنا نحكي عنه، و لا إدراك لنا يتعلّق به فافهم ذلك.

و لو لا أنّ المفاهيم تسقط عند الإشراف على ساحة عظمته و كبريائه بالمعنى الّذي تقدّم لأمكن للعقل أن يحيط به بما عنده من المفاهيم العامّة المبهمة كوصفه بأنّه ذات لا كالذوات، و له علم لا كالعلوم، و قدرة لا كقدرة غيره، و حياة لا كسائر أقسام الحياة، فإنّ هذا النحو من الوصف لا يدع شيئاً إلّا أحصاه و أحاط به إجمالاً فهل يمكن أن يحيط به سبحانه شي‏ء؟ أو أنّ الممنوع هو الإحاطة به تفصيلاً، و أمّا الإحاطة الإجماليّة فلا بأس بها؟ و قد قال تعالى:( وَ لا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً ) طه: ١١٠، و قال:( أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْ‏ءٍ مُحِيطٌ ) حم السجدة: ٥٤، و الله سبحانه لا يحيط به شي‏ء من جهة من الجهات بنحو من أنحاء الإحاطة، و لا يقبل ذاته المقدّسة إجمالاً و تفصيلاً حتّى يتبعّض فيكون لإجماله حكم و لتفصيله حكم آخر فافهم ذلك.

و في الإحتجاج، عنهعليه‌السلام في خطبة:( دليله آياته، و وجوده إثباته، و معرفته توحيده، و توحيده تمييزه من خلقه، و حكم التمييز بينونة صفة لا بينونة عزلة إنّه ربّ خالق، غير مربوب مخلوق، ما تصوّر فهو بخلافه - ثمّ قالعليه‌السلام : - ليس بإله من عرف بنفسه، هو الدالّ بالدليل عليه، و المؤدّي بالمعرفة إليه) .

أقول: التأمّل فيما تقدّم يوضح أنّ الخطبة مسوقة لبيان كون وحدته تعالى وحدة غير عدديّة لصراحته في أنّ معرفته تعالى عين توحيده أي إثبات وجوده عين إثبات وحدته، و لو كانت هذه الوحدة عدديّة لكانت غير الذات فكانت الذات في نفسها لا تفي بالوحدة إلّا بموجب من خارج عن جهة ثبوت الذات.

و هذا من عجيب المنطق و أبلغ البيان في باب التوحيد الّذي يحتاج شرحه إلى مجال وسيع لا يسعه طراز البحث في هذا الكتاب، و من ألطف المقاصد الموضوعة فيه قولهعليه‌السلام :( وجوده إثباته) يريد به أنّ البرهان عليه نفس وجوده الخارجيّ أي إنّه لا يدخل الذهن، و لا يسعه العقل.

قوله:( ما تصوّر فهو بخلافه) ليس المراد به أنّه غير الصورة الذهنيّة فإنّ جميع الأشياء الخارجيّة على هذا النعت، بل المراد أنّه تعالى بخلاف ما يكشف عنه

١٠٧

التصوّر الذهنيّ أيّاً ما كان، فلا يحيط به صورة ذهنيّة، و لا ينبغي لك أن تغفل عن أنّه أنزه ساحة حتّى من هذا التصوّر أعني تصوّر أنّه بخلاف كلّ تصوّر.

و قوله:( ليس بإله من عرف بنفسه) مسوق لبيان جلالته تعالى عن أن يتعلّق به معرفة، و قهره كلّ فهم و إدراك فإنّ كلّ من يتعلّق بنفسه معرفتنا هو في نفسه غير نفسنا و معرفتنا ثمّ يتعلّق به معرفتنا، لكنّه تعالى محيط بنا و بمعرفتنا، قيّم على ذلك فلا معصم تعتصم به أنفسنا و لا معرفتنا عن إحاطة ذاته و شمول سلطانه حتّى يتعلّق به تعلّق منعزل بمنعزل.

و بيّنعليه‌السلام ذلك بقوله:( هو الدالّ بالدليل عليه و المؤدّي بالمعرفة إليه) أي إنّه تعالى هو الدليل يدلّ الدليل على أن يدلّ عليه، و يؤدّي المعرفة إلى أن يتعلّق به تعالى نوع تعلّق لمكان إحاطته تعالى و سلطانه على كلّ شي‏ء، فكيف يمكن لشي‏ء أن يهتدي إلى ذاته ليحيط به و هو محيط به و باهتدائه؟.

و في المعاني، بإسناده عن عمر بن عليّ عن عليّعليه‌السلام قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( التوحيد ظاهره في باطنه، و باطنه في ظاهره، ظاهره موصوف لا يرى، و باطنه موجود لا يخفى، يطلب بكلّ مكان، و لم يخل عنه مكان طرفة عين، حاضر غير محدود، و غائب غير مفقود) .

أقول: كلامهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مسوق لبيان وحدته تعالى غير العدديّة المبنيّة على كونه تعالى غير محدود بحدّ، فإنّ عدم المحدوديّة هو الموجب لعدم انعزال ظاهر توحيده و توصيفه تعالى عن باطنه، و باطنه عن ظاهره فإنّ الظاهر و الباطن إنّما يتفاوتان و ينعزل كلّ منهما عن الآخر بالحدّ فإذا ارتفع الحدّ اختلطاً و اتّحداً.

و كذلك الظاهر الموصوف إنّما يحاط به، و الباطن الموجود إنّما يخفى و يتحجّب إذا تحدّداً فلم يتجاوز كلّ منهما حدّه المضروب له، و كذلك الحاضر إنّما يكون محدوداً مجموعاً وجوده عند من حضر عنده، و الغائب يكون مفقوداً لمكان المحدوديّة، و لو لا ذلك لم يجتمع الحاضر بتمام وجوده عند من حضر عنده، و لم يستر الغائب حجاب الغيبة و لا ساتر دونه عمّن غاب عنه، و هو ظاهر.

١٠٨

( بحث تاريخي)

( كلام في معنى التوحيد)

القول بأنّ للعالم صانعاً ثمّ القول بأنّه واحد من أقدم المسائل الدائرة بين متفكّري هذا النوع تهديه إليه فطرته المركوزة فيه، حتّى أنّ الوثنيّة المبنيّة على الإشراك، إذا أمعنّا في حقيقة معناها وجدناها مبنيّة على أساس توحيد الصانع، و إثبات شفعاء عنده( ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى‏ ) و إن انحرفت بعد عن مجراها، و آل أمرها إلى إعطاء الاستقلال و الأصالة لآلهة دون الله.

و الفطرة الداعية إلى توحيد الإله و إن كانت تدعو إلى إله واحد غير محدود العظمة و الكبرياء ذاتاً و صفة - على ما تقدّم بيانه بالاستفادة من الكتاب العزيز - غير أنّ اُلفة الإنسان و اُنسه في ظرف حياته بالآحاد العدديّة من جانب، و بلاء الملّيّين بالوثنيّين و الثنويّين و غيرهم لنفي تعدّد الآلهة من جانب آخر سجّل عدديّة الوحدة و جعل حكم الفطرة المذكورة كالمغفول عنه.

و لذلك ترى المأثور من كلمات الفلاسفة الباحثين في مصر القديم و اليونان و إسكندريّة و غيرهم ممّن بعدهم يعطي الوحدة العدديّة حتّى صرّح بها مثل الرئيس أبي عليّ بن سينا في كتاب الشفاء، و على هذا المجرى يجري كلام غيره ممّن بعده إلى حدود الألف من الهجرة النبويّة.

و أمّا أهل الكلام من الباحثين فاحتجاجاتهم على التوحيد لا تعطي أزيد من الوحدة العدديّة أيضاً في عين أنّ هذه الحجج مأخوذة من الكتاب العزيز عامّة فهذا ما يتحصّل من كلمات أهل البحث في هذه المسألة.

فالّذي بيّنه القرآن الكريم من معنى التوحيد أوّل خطوة خطيت في تعليم هذه الحقيقة من المعرفة، غير أنّ أهل التفسير و المتعاطين لعلوم القرآن من الصحابة و التابعين ثمّ الّذين يلونهم أهملوا هذا البحث الشريف، فهذه جوامع الحديث و كتب التفسير المأثورة منهم لا ترى فيها أثراً من هذه الحقيقة لا ببيان شارح، و لا بسلوك استدلاليّ.

١٠٩

و لم نجد ما يكشف عنها غطاءها إلّا ما ورد في كلام الإمام عليّ بن أبي طالب عليه أفضل السلام خاصّة، فإنّ كلامه هو الفاتح لبابها، و الرافع لسترها و حجابها على أهدى سبيل و أوضح طريق من البرهان، ثمّ ما وقع في كلام الفلاسفة الإسلاميّين بعد الألف الهجريّ، و قد صرّحوا بأنّهم إنّما استفادوه من كلامهعليه‌السلام .

و هذا هو السرّ في اقتصارنا في البحث الروائيّ السابق على نقل نماذج من غرر كلامهعليه‌السلام الرائق، لأنّ السلوك في هذه المسألة و شرحها من مسلك الإحتجاج البرهانيّ لا يوجد في كلام غيرهعليه‌السلام .

و لهذا بعينه تركنا عقد بحث فلسفيّ مستقلّ لهذه المسألة فإنّ البراهين الموردة في هذا الغرض مؤلّفة من هذه المقدّمات المبيّنة في كلامه لا تزيد على ما في كلامه بشي‏ء، و الجميع مبنيّة على صرافة الوجود و أحديّة الذات جلّت عظمته(١) .

____________________

(١) و للناقد البصير و المتدبّر المتعمّق أن يقضي عجباً من ما صدر من الهفوة من عدّة من العلماء الباحثين حيث ذكروا أنّ هذه الخطب العلويّة الموضوعة في نهج البلاغة موضوعة دخيلة، و قد ذكر بعضهم أنّها من وضع الشريف الرضي رحمه الله، و قد تقدّم الكلام في أطراف هذه السقطة.

و ليت شعري كيف يسع للوضع و الدس أن يتسرب إلى موقف علمي دقيق لم يقو بالوقوف عليه أفهام العلماء حتّى بعد ما فتحعليه‌السلام بابه و رفع ستره قروناً متمادية إلى أن وفق لفهمه بعد ما سير في طريق الفكر المترقّي مسير ألف سنة، و لا أطاق حمله غيره من الصحابة و لا التابعون، بل كلام هؤلاء الرامين بالوضع ينادي بأعلى صوته أنّهم كانوا يظنّون أنّ الحقائق القرآنيّة و الاُصول العالية العلميّة ليست إلّا مفاهيم مبتذلة عاميّة و إنّما تتفاضل باللفظ الفصيح و البيان البليغ.

١١٠

( سورة المائدة الآيات ٨٧ - ٨٩)

يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحَرّمُوا طَيّبَاتِ مَا أَحَلّ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنّ اللّهَ لاَ يُحِبّ الْمُعْتَدِينَ( ٨٧) وَكُلُوا مِمّا رَزَقَكُمُ اللّهُ حَلاَلاً طَيّباً وَاتّقُوا اللّهَ الّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ( ٨٨) لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقّدتّمُ الْأَيْمَانَ فَكَفّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَن لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيّامٍ ذلِكَ كَفّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذلِكَ يُبَيّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلّكُمْ تَشْكُرُونَ( ٨٩)

( بيان)

الآيات الثلاثة و عدّة من الآيات الواقعة بعدها إلى بضع و مائة من آيات السورة آيات مبيّنة لعدّة من فروع الأحكام، و هي جميعاً كالمتخلّلة بين الآيات المتعرّضة لقصص المسيحعليه‌السلام و النصارى، و هي لكونها طوائف متفرّقة نازلة في أحكام متنوّعة كلّ منها ذات استقلال و تمام في ما تقصده من المعنى يشكل القضاء كونها نزلت دفعة أو صاحبت بقيّة آيات السورة في النزول إذ لا شاهد يشهد بذلك من مضامينها، و أمّا ما ورد من أسباب النزول فسيأتي بعض ما هو العمدة منها في البحث الروائيّ.

و كذلك القول في هذه الآيات الثلاث المبحوث عنها فإن الآية الثالثة مستقلّة في معناها، و تستقلّ عنها الآية الاُولى و إن لم تخلو من نوع من المناسبة فبينهما بعض الارتباط من جهة أنّ من جملة مصاديق لغو اليمين أن تتعلّق بتحريم بعض الطيّبات ممّا أحلّه الله تعالى، و لعلّ هذا هو الداعي لمن نقل عنه في أسباب النزول أنّه ذكر نزول الآيات جميعاً في اليمين اللاغية.

هذا حال الآية الاُولى مع الثالثة، و أمّا الآية الثانية فكأنّها من تمام الآية

١١١

الاُولى كما يشهد به بعض الشهادة ذيلها أعني قوله تعالى:( وَ اتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ ) بل و صدرها حيث يشتمل على العطف، و على الأمر بأكل الحلال الطيّب الّذي تنهى الآية الاُولى عن تحريمه و اجتنابه، و بذلك تلتئم الآيتان معنى و تتّحدان حكماً ذواتي سياق واحد.

قوله تعالى: ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ ) ، قال الراغب في المفردات: الحرام الممنوع منه إمّا بتسخير إلهيّ، و إمّا بمنع قهريّ، و إمّا بمنع من جهة العقل أو جهة الشرع أو من جهة من يرتسم أمره، انتهى موضع الحاجة.

و قال أيضاً: أصل الحلّ حلّ العقدة، و منه قوله عزّوجلّ:( وَ احْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي ) ، و حللت: نزلت، أصله من حلّ الأحمال عند النزول ثمّ جرّد استعماله للنزول فقيل: حلّ حلولاً و أحلّه غيره، قال عزّوجلّ:( أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ، وَ أَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ ) ، و يقال: حلّ الدين وجب أداؤه، و الحلّة القوم النازلون و حيّ حلال مثله، و المحلّة مكان النزول، و عن حلّ العقدة أستعير قولهم: حلّ الشي‏ء حلّاً قال الله تعالى:( وَ كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالًا طَيِّباً ) ، و قال تعالى:( هذا حَلالٌ وَ هذا حَرامٌ ) ، انتهى.

فالظاهر أنّ مقابلة الحلّ الحرمة و كذا التقابل بين الحلّ و الحرم أو الإحرام من جهة تخيّل العقد في المنع الّذي هو معنى الحرمة و غيرها ثمّ مقابلته بالحلّ المستعار لمعنى الجواز و الإباحة، و اللفظان أعني الحلّ و الحرمة من الحقائق العرفيّة قبل الإسلام دون الشرعيّة أو المتشرّعيّة.

و الآية أعني قوله:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا ) إلخ، تنهى المؤمنين عن تحريم ما أحلّ الله لهم و تحريم، ما أحلّ الله هو جعله حراماً كما جعله الله تعالى حلالاً و ذلك إمّا بتشريع قبال تشريع، و إمّا بالمنع أو الامتناع بأن يترك شيئاً من المحلّلات بالامتناع عن إتيانه أو منع نفسه أو غيره من ذلك فإنّ ذلك كلّه تحريم و منع و منازعة لله سبحانه في سلطانه و اعتداء عليه ينافي الإيمان بالله و آياته، و لذلك صدّر النهي بقوله:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ) فإنّ المعنى: لا تحرّموا ما أحلّ الله لكم و قد آمنتم به و سلّمتم لأمره.

١١٢

و يؤيّده أيضاً قوله في ذيل الآية التالية:( وَ اتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ ) .

و إضافة قوله:( طَيِّباتِ ) إلى قوله:( ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ ) - مع أنّ الكلام تامّ بدونه - للإشارة إلى تتميم سبب النهي فإنّ تحريم المؤمنين لما أحلّ الله لهم على أنّه اعتداء منهم على الله في سلطانه، و نقض لإيمانهم بالله و تسليمهم لأمره كذلك هو خروج منهم عن حكم الفطرة، فإنّ الفطرة تستطيب هذه المحلّلات من غير استخباث، و قد أخبر الله سبحانه عن ذلك فيما نعت به نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و الشريعة الّتي جاء بها حيث قال:( الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَ الْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ يُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَ يُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَ يَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَ الْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَ عَزَّرُوهُ وَ نَصَرُوهُ وَ اتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) الأعراف: ١٥٧.

و بهذا الّذي بيّنّا يتأيّدأوّلاً: أنّ المراد بتحريم طيّبات ما أحلّ الله هو الإلزام و الالتزام بترك المحلّلات.

و ثانياً: أنّ المراد بالحلّ مقابل الحرمة و يعمّ المباحات و المستحبّات بل و الواجبات قضاءً لحقّ المقابلة.

و ثالثاً: أنّ إضافة الطيّبات إلى ما أحلّ الله في قوله:( طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ ) إضافة بيانيّة.

و رابعاً: أنّ المراد بالاعتداء في قوله:( وَ لا تَعْتَدُوا ) هو الاعتداء على الله سبحانه في سلطانه التشريعيّ، أو التعدّي عن حدود الله بالانخلاع عن طاعته و التسليم له و تحريم ما أحلّه كما قال تعالى في ذيل آية الطلاق:( تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَعْتَدُوها وَ مَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) البقرة: ٢٢٩، و قوله في ذيل آيات الإرث:( تِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَ مَنْ يُطِعِ اللهَ وَ رَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ، وَ مَنْ يَعْصِ اللهَ وَ رَسُولَهُ وَ يَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها وَ لَهُ عَذابٌ مُهِينٌ ) النساء: ١٤، و الآيات - كما ترى - تعدّ الاستقامة و الالتزام بما شرّعه الله طاعةً له تعالى و لرسوله ممدوحة، و الخروج عن التسليم و الالتزام و الانقياد

١١٣

اعتداءً و تعدّياً لحدود الله مذموماً معاقباً عليه.

فمحصّل مفاد الآية النهي عن تحريم ما أحلّه الله بالاجتناب عنه و الامتناع من الاقتراب منه فإنّه يناقض الإيمان بالله و آياته و يخالف كون هذه المحلّلات طيّبات لا خباثة فيها حتّى يجتنب عنها لأجلها، و هو اعتداء و الله لا يحبّ المعتدين.

قوله تعالى: ( وَ لا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ) قد عرفت أنّ ظاهر السياق أنّ المراد بالاعتداء هو التحريم المذكور في الجملة السابقة عليه فقوله:( وَ لا تَعْتَدُوا ) يجري مجرى التأكيد لقوله:( لا تُحَرِّمُوا ) ، إلخ.

و أمّا ما ذكره بعضهم: أنّ المراد بالاعتداء تجاوز حدّ الاعتدال في المحلّلات بالانكباب على التمتّع بها و لاستلذاذ منها قبال تركها و اجتناب تناولها تقشّفاً و ترهّباً فيكون معنى الآية: لا تحرّموا على أنفسكم ما أحلّ الله لكم من الطيّبات المستلذّة بأن تتعمّدوا ترك التمتّع بها تنسّكاً و تقرّباً إليه تعالى، و لا تعتدوا بتجاوز حدّ الاعتدال إلى الإسراف و الإفراط الضارّ بأبدانكم أو نفوسكم.

أو أنّ المراد بالاعتداء تجاوز المحلّلات الطيّبة إلى الخبائث المحرّمة، و يعود المعنى إلى أن لا تجتنبوا المحلّلات و لا تقترفوا المحرّمات، و بعبارة اُخرى: لا تحرّموا ما أحلّ الله لكم، و لا تحلّلوا ما حرّم الله عليكم.

فكلّ من المعنيين و إن كان في نفسه صحيحاً يدلّ عليه الكتاب بما لا غبار عليه لكنّ شيئاً منهما لا ينطبق على الآية بظاهر سياقها و سياق ما يتلوها من الآية اللاحقة فما كلّ معنى صحيح يمكن تحميله على كلّ لفظ كيفما سيق و أينما وقع.

قوله تعالى: ( وَ كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالًا طَيِّباً ) إلى آخر الآية، ظاهر العطف أعني انعطاف قوله:( وَ كُلُوا ) على قوله:( لا تُحَرِّمُوا ) أن يكون مفاد هذه الآية بمنزلة التكرار و التأكيد لمضمون الآية السابقة، و يؤيّده سياق صدر الآية من حيث اشتماله على قوله:( حَلالًا طَيِّباً ) ، و هو يحاذي قوله في الآية السابقة:( طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ ) ، و كذا ذيلها من حيث المحاذاة الواقعة بين قوله فيه:( وَ اتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ ) و قوله في الآية السابقة:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ) و قد مرّ بيانه.

١١٤

و على هذا فقوله:( كُلُوا ) إلخ، من قبيل ورود الأمر عقيب الحظر، و تخصيص قوله:( كُلُوا ) بعد تعميم قوله:( لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ) إلخ، إمّا تخصيص بحسب اللفظ فقط، و المراد بالأكل مطلق التصرّف فيما رزقه الله تعالى من طيّبات نعمه، سواء كان بالأكل بمعنى التغذّي أو بسائر وجوه التصرّف، و قد تقدّم مراراً أنّ استعمال الأكل بمعنى مطلق التصرّف استعمال شائع ذائع.

و إمّا أن يكون المراد - و من الممكن ذلك - الأكل بمعناه الحقيقيّ، و يكون سبب نزول الآيتين تحريم بعض المؤمنين في زمن النزول المأكولات الطيّبة على أنفسهم فتكون الآيتان نازلتين في النهي عن ذلك، و قد عمّم النهي في الآية الاُولى للأكل و غيره إعطاءً للقاعدة الكلّيّة لكون ملاك النهي يعمّ محلّلات الأكل و غيرها على حدّ سواء.

و قوله:( مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ ) لازم ما استظهرناه من معنى الآيتين كونه مفعولاً لقوله:( كُلُوا ) و قوله:( حَلالًا طَيِّباً ) حالين من الموصول و بذلك تتوافق الآيتان، و ربّما قيل: إنّ قوله:( حَلالًا طَيِّباً ) مفعول قوله:( كُلُوا ) و قوله:( مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ ) متعلّق بقوله:( كُلُوا ) أو حال من الحلال قدّم عليه لكونه نكرة، أو كون قوله:( حَلالًا ) وصفاً لمصدر محذوف، و التقدير: رزقاً حلالاً طيّباً إلى غير ذلك.

و ربّما استدلّ بعضهم بقوله:( حَلالًا ) على أنّ الرزق يشمل الحلال و الحرام معاً و إلّا لغا القيد.

و الجواب: أنّه ليس قيداً احترازيّاً لإخراج ما هو رزق غير حلال و لا طيّب بل قيد توضيحيّ مساو لمقيّده، و النكتة في الإتيان به بيان أنّ كونه حلالاً طيّباً لا يدع عذراً لمعتذر في الاجتناب و الكفّ عنه على ما تقدّم، و قد تقدّم الكلام في معنى الرزق في ذيل الآية ٢٧ من سورة آل عمران في الجزء الثالث من هذا الكتاب.

قوله تعالى: ( لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَ لكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ ) اللغو ما لا يترتّب عليه أثر من الأعمال، و الأيمان جمع يمين و هو القسم و

١١٥

الحلف قال الراغب في المفردات: و اليمين في الحلف مستعار من اليد اعتباراً بما يفعله المعاهد و المحالف و غيره، قال تعالى:( أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ إِلى‏ يَوْمِ الْقِيامَةِ، وَ أَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ، لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ ) انتهى، و التعقيد مبالغة في العقد و قرئ: عقدتم بالتخفيف، و قوله:( فِي أَيْمانِكُمْ ) متعلّق بقوله:( لا يُؤاخِذُكُمُ ) أو بقوله:( بِاللَّغْوِ ) و هو أقرب.

و التقابل الواقع بين قوله:( بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ ) و قوله:( بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ ) يعطي أنّ المراد باللغو في الأيمان ما لا يعقد عليه الحالف، و إنّما يجري على لسانه جرياً لعادة اعتادها أو لغيرها و هو قولهم - و خاصّة في قبيل البيع و الشري -: لا و الله، بلى و الله، بخلاف ما عقد عليه عقداً بالالتزام بفعل أو ترك كقول القائل: و الله لأفعلنّ كذا، و و الله لأتركنّ كذا.

هذا هو الظاهر من الآية، و لا ينافي ذلك أن يعدّ شرعاً قول القائل: و الله لأفعلنّ المحرّم الفلانيّ، و الله لأتركنّ الواجب الفلانيّ مثلاً من لغو اليمين لكون الشارع ألغى اليمين فيما لا رجحان فيه، فإنّما هو إلحاق من جهة السنّة، و ليس من الواجب أن يدلّ القرآن على خصوص كلّ ما ثبت بالسنّة بخصوصه.

و أمّا قوله:( وَ لكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ ) فلا يشمل إلّا اليمين الممضاة شرعاً لمكان قوله في ذيل الآية:( وَ احْفَظُوا أَيْمانَكُمْ ) فإنّه لا مناص عن شموله لهذه الأيمان بحسب إطلاق لفظه، و لا معنى للأمر بحفظ الأيمان الّتي ألغى الله سبحانه اعتبارها فالمتعيّن أنّ اللغو من الأيمان في الآية ما لا عقد فيه، و ما عقد عليه هو اليمين الممضاة.

قوله تعالى: ( فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ - إلى قوله -أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ ) ، الكفّارة هي العمل الّذي يستر به مساءة المعصية بوجه، من الكفر بمعنى الستر، قال تعالى:( نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ ) النساء: ٣١، قال الراغب: و الكفّارة ما يغطّي الإثمّ و منه كفّارة اليمين، انتهى.

و قوله:( فَكَفَّارَتُهُ ) تفريع على اليمين باعتبار مقدّر هو نحو من قولنا: فإن

١١٦

حنثتم فكفّارته كذا، و ذلك لأنّ في لفظ الكفّارة دلالة على معصية تتعلّق به الكفّارة، و ليست هذه المعصية هي نفس اليمين، و لو كان كذلك لم يورد في ذيل الآية قوله:( وَ احْفَظُوا أَيْمانَكُمْ ) إذ لا معنى لحفظ ما فيه معصية فالكفّارة إنّما تتعلّق بحنث اليمين لا بنفسها.

و منه يظهر أنّ المؤاخذة المذكورة في قوله:( وَ لكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ ) هي المؤاخذة على حنث اليمين لا على نفس إيقاعها، و إنّما اُضيفت إلى اليمين لتعلّق متعلّقها - أعني الحنث - بها، فقوله:( فَكَفَّارَتُهُ ) متفرّع على الحنث المقدّر لدلالة قوله:( يُؤاخِذُكُمُ ) ، إلخ، عليه، و نظير هذا البيان جار في قوله:( ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ ) و تقديره: إذا حلفتم و حنثتم.

و قوله:( إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ ) خصال ثلاث يدلّ الترديد على تعيّن إحداها عند الحنث من غير جمع، و يدلّ قوله بعده:( فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ) على كون الخصال المذكورة تخييريّة من غير لزوم مراعاة الترتيب الواقع بينها في الذكر، و إلّا لغا التفريع في قوله:( فَمَنْ لَمْ يَجِدْ ) إلخ، و كان المتعيّن بحسب اقتضاء السياق أن يقال: أو صيام ثلاثة أيّام.

و في الآية أبحاث فرعيّة كثيرة مرجعها علم الفقه.

قوله تعالى: ( ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ ) تقدّم أنّ الكلام في تقدير: إذا حلفتم و حنثتم، و في قوله:( ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ ) و كذا في قوله:( كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ ) نوع التفات و رجوع من خطاب المؤمنين إلى خطاب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و لعلّ النكتة فيه أنّ الجملتين جميعاً من البيان الإلهيّ للناس إنّما هو بوساطة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فكأنّ في ذلك حفظاً لمقامهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في بيان ما اُوحي إليه للناس كما قال تعالى:( وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ) النحل: ٤٤.

قوله تعالى: ( كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) أي يبيّن لكم بواسطة نبيّه أحكامه لعلّكم تشكرونه بتعلّمها و العمل بها.

١١٧

( بحث روائي)

في تفسير القمّيّ في قوله تعالى:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ ) (الآية) قال: حدّثني أبي عن ابن أبي عمير، عن بعض رجاله، عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: نزلت هذه الآية في أميرالمؤمنينعليه‌السلام و بلال و عثمان بن مظعون فأمّا أميرالمؤمنينعليه‌السلام فحلف أن لا ينام بالليل أبداً، و أمّا بلال فإنّه حلف أن لا يفطر بالنهار أبداً، و أمّا عثمان بن مظعون فإنّه حلف أن لا ينكح أبداً.

فدخلت امرأة عثمان على عائشة، و كانت امرأة جميلة فقالت عائشة: ما لي أراك متعطّلة؟ فقالت: و لمن أتزيّن؟ فوالله ما قربني زوجتي منذ كذا و كذا فإنّه قد ترهّب و لبس المسوح و زهد في الدنيا.

فلمّا دخل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أخبرته عائشة بذلك فخرج فنادى الصلاة جامعة فاجتمع الناس فصعد المنبر فحمد الله و أثنى عليه، ثمّ قال: ما بال أقوام يحرّمون على أنفسهم الطيّبات؟ ألا إنّي أنام بالليل و أنكح و اُفطر بالنهار، فمن رغب عن سنّتي فليس منّي.

فقاموا هؤلاء فقالوا: يا رسول الله فقد حلفنا على ذلك فأنزل الله عليه:( لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَ لكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ ) .

أقول: و في انطباق قوله تعالى:( لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَ لكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ ) (الآية)، على حلفهم خفاءٌ، و قد تقدّم بعض الكلام فيه، و قد روى الطبرسيّ في مجمع البيان، القصّة عن أبي عبداللهعليه‌السلام و لم يذكر الّذيل فليتأمّل فيه.

و في الإحتجاج، عن الحسن بن عليّعليه‌السلام في حديث: أنّه قال لمعاوية و أصحابه:

١١٨

اُنشدكم بالله أ تعلمون أنّ عليّاً أوّل من حرّم الشهوات على نفسه من أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأنزل الله:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ ) .

و في المجمع، في الآية: قال المفسّرون: جلس رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوماً فذكّر الناس و وصف القيامة فرقّ الناس و بكوا و اجتمع عشرة من الصحابة في بيت عثمان بن مظعون الجمحيّ، و هم عليّ و أبوبكر و عبدالله بن مسعود و أبوذرّ الغفاريّ و سالم مولى أبي حذيفة و عبدالله بن عمر و المقداد بن الأسود الكنديّ و سلمان الفارسيّ و معقل بن مقرن، و اتّفقوا على أن يصوموا النهار، و يقوموا الليل، و لا يناموا على الفرش، و لا يأكلوا اللحم و لا الودك، و لا يقربوا النساء و الطيب، و يلبسوا المسوح، و يرفضوا الدنيا، و يسيحوا في الأرض، و همّ بعضهم أن يجبّ مذاكيره.

فبلغ ذلك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأتى دار عثمان فلم يصادفه فقال لامرأته اُمّ حكيم بنت أبي اُميّة - و اسمها حولاء و كانت عطّارة -: أ حقّ ما بلغني عن زوجك و أصحابه؟ فكرهت أن تكذب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و كرهت أن تبدي على زوجها فقالت: يا رسول الله إن كان أخبرك عثمان فقد صدقك فانصرف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلمّا دخل عثمان أخبرته بذلك.

فأتى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو و أصحابه فقال لهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أ لم اُنبّئكم أنّكم اتّفقتم على كذا و كذا؟ قالوا: بلى يا رسول الله و ما أردنا إلّا الخير، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّي لم اُومر بذلك، ثمّ قال: إنّ لأنفسكم عليكم حقّاً فصوموا و أفطروا، و قوموا و ناموا فإنّي أقوم و أنام و أصوم و اُفطر و آكل اللحم و الدسم و آتي النساء، و من رغب عن سنّتي فليس منّي.

ثمّ جمع الناس و خطبهم و قال: ما بال أقوام حرّموا النساء و الطعام و الطيب و النوم و شهوات الدنيا أمّا إنّي لست آمركم أن تكونوا قسّيسين و رهباناً فإنّه ليس في ديني ترك اللحم و لا النساء و لا اتّخاذ الصوامع، و إنّ سياحة اُمّتي الصوم، و رهبانيّتهم الجهاد، اعبدوا الله و لا تشركوا به شيئاً، و حجّوا، و اعتمروا، و أقيموا الصلاة، و آتوا الزكاة، و صوموا رمضان، و استقيموا يستقم لكم فإنّما هلك من كان قبلكم

١١٩

بالتشديد شدّدوا على أنفسهم فشدّد الله عليهم فاُولئك بقاياهم في الديارات و الصوامع فأنزل الله الآية.

أقول: و يظهر بالرجوع إلى روايات القوم أنّ هذه الرواية إنّما هي تلخيص للروايات المرويّة في هذا الباب، و هي كثيرة جدّاً فقد أوردها بالجمع بين شتات مضامينها بإدخال بعضها في بعض، و سبكها رواية واحدة.

و أمّا نفس هذه الروايات على كثرتها فلم يجتمع أسماء هؤلاء الصحابة في واحدة منها بل ذكر الأجمع منها لفظاً هؤلاء الصحابة بلفظ عثمان بن مظعون و أصحابه و في بعضها اُناس من أصحاب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و في بعضها رجال من أصحاب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

و كذلك ما وقع في هذه الرواية من قول النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و خطبته على تفصيلها متفرّقة الجمل في الروايات، و كذلك الّذي عقدوا عليه و همّوا به من التروك لم تصرّح الروايات بأنّهم اتّفقوا جميعهم على جميعها بل صرّح بعض الروايات باختلافهم فيما همّوا به أو عقدوا عليه‏ كما في صحيح البخاريّ و مسلم عن عائشة: أنّ ناساً من أصحاب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سألوا أزواج النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن عمله في السرّ فقال بعضهم: لا آكل اللحم، و قال بعضهم: لا أتزوّج النساء، و قال بعضهم: لا أنام على فراش فبلغ ذلك النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال: ما بال أقوام يقول أحدهم كذا و كذا؟ لكنّي أصوم و اُفطر، و أنام و أقوم، و آكل اللحم، و أتزوّج النساء فمن رغب عن سنّتي فليس منّي.

و لعلّ المراد بقوله في الرواية: و اتّفقوا على أن يصوموا النهار إلخ، أنّ المجموع اتّفقوا على المجموع لا أنّ كلّ واحد منهم عزم على الجميع. و الروايات و إن كانت مختلفة في مضامينها، و فيها الضعيف و المرسل و المعتبر لكنّ التأمّل في جميعها يوجب الوثوق بأنّ رهطاً من الصحابة عزموا على هذا النوع من التزهّد و التنسّك، و أنّه كان فيهم عليّعليه‌السلام و عثمان بن مظعون، و أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لهم: من رغب عن سنّتي فليس منّي، و الله أعلم، فعليك بالرجوع إلى التفاسير الروائيّة كتفسير الطبريّ و الدرّ المنثور و فتح القدير و أمثالها.

و في الدرّ المنثور: أخرج الترمذيّ و حسّنه و ابن جرير و ابن أبي حاتم و ابن عديّ

١٢٠

في الكامل و الطبرانيّ و ابن مردويه عن ابن عبّاس: أنّ رجلاً أتى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال: يا رسول الله إنّي إذا أكلت اللحم انتشرت للنساء و أخذتني شهوتي، و إنّي حرّمت عليّ اللحم فنزلت:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ ) .

و فيه: أخرج ابن جرير و ابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم: أنّ عبدالله بن رواحة ضافه ضيف من أهله و هو عند النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثمّ رجع إلى أهله فوجدهم لم يطعموا ضيفهم انتظاراً له، فقال لامرأته: حبسّت ضيفي من أجلي هو حرام عليّ، فقالت امرأته: هو عليّ حرام، قال الضيف: هو عليّ حرام، فلمّا رأى ذلك وضع يده و قال: كلوا بسم الله، ثمّ ذهب إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأخبره، فقال النبي:صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد أصبت فأنزل الله:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ ) .

أقول: من الممكن أن يكون السببان المذكوران في الروايتين الأخيرتين من تطبيق الرواة، و هو شائع في روايات أسباب النزول، و من الممكن أن يقع لنزول الآية أسباب عديدة.

و في تفسير العيّاشيّ، عن عبدالله بن سنان قال: سألته عن رجل قال لامرأته: طالق، أو مماليكه أحرار إن شربت حراماً و لا حلالاً فقال: أمّا الحرام فلا يقربه حلف أو لم يحلف، و أمّا الحلال فلا يتركه فإنّه ليس أن يحرّم ما أحلّ الله لأنّ الله يقول:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ ) فليس عليه شي‏ء في يمينه من الحلال.

و في الكافي، بإسناده عن مسعدة بن صدقة عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: سمعته يقول في قول الله عزّوجلّ:( لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ ) قال:( اللغو) قول الرجل:( لا و الله، و بلى و الله) و لا يعقد على شي‏ء.

أقول: و روى العيّاشيّ في تفسيره عن عبدالله بن سنان مثله، و عن محمّد بن مسلم مثله و فيه: و لا يعقد عليها.

و في الدرّ المنثور: أخرج ابن جرير عن ابن عبّاس قال: لما نزلت:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ ) في القوم الّذين حرّموا النساء و اللحم على

١٢١

أنفسهم قالوا: يا رسول الله كيف نصنع بأيماننا الّتي حلفنا عليها؟ فأنزل الله:( لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ ) .

أقول: و الرواية تشاكل ذيل الرواية الاُولى الّتي أوردناها في صدر البحث غير أنّها لا تنطبق على ظاهر الآية فإنّ الحلف على ترك واجب أو مباح لا يخلو من عقد عليه، و قد قوبل في الآية قوله:( بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ ) بقوله:( بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ ) و دلّ ذلك على كون اللغو من اليمين ما لا عقد عليه، و هذا الظاهر إنّما يوافق الرواية المفسّرة للغو اليمين بقول القائل: لا و الله، و بلى و الله، من غير أن يعقد على شي‏ء، و أمّا اليمين الملغاة شرعاً ففيها عقد على ما حلف عليه فالمتعيّن أن يستند إلغاؤه إلى السنّة دون الكتاب.

على أنّ سياق الآية أدّل دليل على أنّها مسوقة لبيان كفّارة اليمين و الأمر بحفظها استقلالاً لا على نحو التطفّل كما هو لازم هذا التفسير.

١٢٢

( سورة المائدة الآيات ٩٠ - ٩٣)

يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا إِنّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلّكُمْ تُفْلِحُونَ( ٩٠) إِنّمَا يُرِيدُ الشّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصّلاَةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ( ٩١) وَأَطِيعُوا اللّهَ وَأَطِيعُوا الرّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِن تَوَلّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنّمَا عَلَى‏ رَسُولِنَا الْبَلاَغُ الْمُبِينُ( ٩٢) لَيْسَ عَلَى الّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيَما طَعِمُوا إِذَا مَا اتّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحَاتِ ثُمّ اتّقَوْا وَآمَنُوا ثُمّ اتّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللّهُ يُحِبّ الْمُحْسِنِينَ( ٩٣)

( بيان)

الآيات متلائمة سياقاً فكأنّها نزلت دفعة أو هي متقاربة نزولاً، و الآية الأخيرة بمنزلة دفع الدخل على ما سنبيّنه تفصيلاً، فهي جميعاً تتعرّض لحال الخمر، و بعضها يضيف إليها الميسر و الأنصاب و الأزلام.

و قد تقدّم في قوله تعالى:( يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَ مَنافِعُ لِلنَّاسِ وَ إِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما ) البقرة: ٢١٩، في الجزء الأوّل، و في قوله تعالى:( يا أَيُّهَا الّذينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَ أَنْتُمْ سُكارى‏ حتّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ ) النساء: ٤٣ في الجزء الرابع من هذا الكتاب أنّ هاتين الآيتين مع قوله تعالى:( قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَ ما بَطَنَ وَ الْإِثْمَ ) الأعراف: ٣٣، و هذه الآية المبحوث عنها:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ وَ الْأَنْصابُ وَ الْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ - إلى قوله -فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ ) إذا انضمّ بعضها إلى بعض دلّت سياقاتها المختلفة على تدرّج الشارع في تحريم الخمر.

لكن لا بمعنى السلوك التدريجيّ في تحريمها من تنزيه و إعافة إلى كراهية إلى

١٢٣

تحريم صريح حتّى ينتج معنى النسخ، أو من إبهام في البيان إلى إيضاح أو كناية خفيّة إلى تصريح لمصلحة السياسة الدينيّة في إجراء الأحكام الشرعيّة فإنّ قوله تعالى:( وَ الْإِثم ) آية مكّيّة في سورة الأعراف إذا انضمّ إلى قوله تعالى:( قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ ) و هي آية مدنيّة واقعة في سورة البقرة أوّل سورة مفصّلة نزلت بعد الهجرة أنتج ذلك حرمة الخمر إنتاجاً صريحاً لا يدع عذراً لمعتذر، و لا مجالاً لمتأوّل.

بل بمعنى أنّ الآيات تدرّجت في النهي عنها بالتحريم على وجه عامّ و ذلك قوله تعالى:( وَ الْإِثْمَ ) ، ثمّ بالتحريم الخاصّ في صورة النصيحة و ذلك قوله:( قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَ مَنافِعُ لِلنَّاسِ وَ إِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما ) ، و قوله:( لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَ أَنْتُمْ سُكارى‏ حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ ) إن كانت الآية ناظرة إلى سكر الخمر لا إلى سكر النوم، ثمّ بالتحريم الخاصّ بالتشديد البالغ الّذي يدلّ عليه قوله:( إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ وَ الْأَنْصابُ وَ الْأَزْلامُ رِجْسٌ إلى قوله فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ ) الآيتان.

فهذه الآيات آخر ما نزل في تحريم الخمر يدلّ على ذلك أقسام التأكيد المودعة فيها من( إِنَّما ) و التسمية بالرجس، و نسبته إلى عمل الشيطان، و الأمر الصريح بالاجتناب، و توقّع الفلاح فيه، و بيان المفاسد الّتي تترتّب على شربها، و الاستفهام عن الانتهاء، ثمّ الأمر بإطاعة الله و رسوله و التحذير عن المخالفة، و الاستغناء عنهم لو خالفوا.

و يدلّ على ذلك بعض الدلالة أيضاً قوله تعالى في ذيل الآيات:( لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ ) إلخ بما سيأتي من الإيضاح.

قوله تعالى: ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ ) إلى آخر الآية قد تقدّم الكلام في أوّل السورة في معنى الخمر و الميسر و الأنصاب و الأزلام فالخمر ما يخمر العقل من كلّ مائع مسكر عمل بالتخمير، و الميسر هو القمار مطلقاً، و الأنصاب هي الأصنام أو الحجارة الّتي كانت تنصب لذبح القرابين عليها و كانت تحترم و يتبرّك بها، و الأزلام هي الأقداح الّتي كانت يستقسم بها، و ربّما كانت تطلق على السهام الّتي كانت يتفاءل بها عند ابتداء الاُمور و العزيمة عليها كالخروج إلى سفر و نحوه

١٢٤

لكنّ اللفظ قد وقع في أوّل السورة للمعنى الأوّل لوقوعه بين محرّمات الأكل فيتأيّد بذلك كون المراد به ههنا هو ذلك.

فإن قلت: الميسر بعمومه يشمل الأزلام بالمعنى الآخر الّذي هو الاستقسام بالأقداح، و لا وجه لإيراد الخاصّ بعد العامّ من غير نكتة ظاهرة فالمتعيّن حمل اللفظ على سهام التفؤل و الخيرة الّتي كان العمل بها معروفاً عندهم في الجاهليّة قال الشاعر:

فلئن جذيمة قتلت ساداتها

فنساؤها يضربن بالأزلام

و هو - كما روي - أنّهم كانوا يتّخذون أخشاباً ثلاثة رقيقة كالسهام أحدها مكتوب عليه( افعل) و الثاني مكتوب عليه لا تفعل و الثالث غفل لا كتابة عليه فيجعلها الضارب في خريطة معه و هي متشابه فإذا أراد الشروع في أمر يهمّه كالسفر و غير ذلك أخرج واحداً منها فإن كان الّذي عليه مكتوب( افعل) عزم عليه، و إن خرج الّذي مكتوب عليه( لا تفعل) تركه، و إن خرج الثالث أعاد الضرب حتّى يخرج واحد من الأوّلين، و سميّ استقساماً لأنّ فيه طلب ما قسّم له من رزق أو خير آخر من الخيرات.

فالآية تدلّ على حرمته لأنّ فيه تعرّضاً لدعوى علم الغيب، و كذا كلّ ما يشاكله من الأعمال كأخذها الخيرة بالسبحة و نحوها.

قلت: قد عرفت أنّ الآية في أوّل السورة:( وَ أَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ) ظاهرة في الاستقسام بالأقداح الّذي هو نوح من القمار لوقوعه في ضمن محرّمات الأكل، و يتأيّد به أنّ ذلك هو المراد بالأزلام في هذه الآية.

و لو سلّم عدم تأيّد هذه بتلك عاد إلى لفظ مشترك لا قرينة عليه من الكلام تبيّن المراد فيتوقّف على ما يشرحه من السنّة، و قد وردت عدّة أخبار من أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام في جواز الأخذ بالخيرة من السبحة و غيرها عند الحيرة.

و حقيقته أنّ الإنسان إذا أراد أن يقدم على أمر كان له أن يعرف وجه المصلحة فيه بما أغرز الله فيه من موهبة الفكر أو بالاستشارة ممّن له صلاحيّة المعرفة بالصواب

١٢٥

و الخطأ، و إن لم يهده ذلك إلى معرفة وجه الصواب، و تردّد متحيّراً كان له أن يعيّن ما ينبغي أن يختاره بنوع من التوجّه إلى ربّه.

و ليس في اختيار ما يختاره الإنسان بهذا النوع من الاستخارة دعوى علم الغيب و لا تعرّض لما يختصّ بالله سبحانه من شؤون الاُلوهيّة، و لا شرك بسبب تشريك غير الله تعالى إيّاه في تدبير الاُمور و لا أيّ محذور دينيّ آخر إذ لا شأن لهذا العمل إلّا تعيّن الفعل أو الترك من غير إيجاب و لا تحريم و لا أيّ حكم تكليفيّ آخر، و لا كشف عمّا وراء حجب الغيب من خير أو شرّ إلّا أنّ خير المستخير في أن يعمل أو يترك فيخرج عن الحيرة و التذبذب.

و أمّا ما يستقبل الفعل أو الترك من الحوادث فربّما كان فيه خير و ربّما كان فيه شرّ على حدّ ما لو فعله أو تركه عن فكر أو استشارة، فهو كالتفكّر و الاستشارة طريق لقطع الحيرة و التردّد في مقام العمل، و يترتّب على الفعل الموافق له ما كان يترتّب عليه لو فعله عن فكر أو مشورة.

نعم ربّما أمكن لمتوهّم أن يتوهّم التعرّض لدعوى علم الغيب فيما ورد من التفؤّل بالقرآن و نحوه فربّما كانت النفس تتحدّث معه بيمن أو شأمة، و تتوقّع خيراً أو شرّاً أو نفعاً أو ضرّاً، لكن قد ورد في الصحيح من طرق الفريقين: أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يتفأل بالخير و يأمر به، و ينهى عن التطيّر و يأمر بالمضيّ معه و التوكّل على الله تعالى.

فلا مانع من التفؤل بالكتاب و نحوه فإن كان معه ما يتفأل به من الخير و إلّا مضى في الأمر متوكّلاً على الله تعالى، و ليس في ذلك أزيد ممّا يطيب به الإنسان نفسه في الاُمور و الأعمال الّتي يتفرّس فيها السعادة و النفع، و سنستوفي البحث المتعلّق بهذا المقام في كلام موضوع لهذا الغرض بعينه.

فتبيّن أنّ ما وقع في بعض التفاسير من حمل الأزلام على سهم التفأل و استنتاج حرمة الاستخارة بذلك ممّا لا ينبغي المصير إليه.

و أمّا قوله:( رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ ) فالرجس الشي‏ء القذر على ما ذكره الراغب

١٢٦

في مفرداته فالرجاسة بالفتح كالنجاسة و القذارة هو الوصف الّذي يبتعد و يتنزّه عن الشي‏ء بسببه لتنفّر الطبع عنه.

و كون هذه المعدودات من الخمر و الميسر و الأنصاب و الأزلام رجساً هو اشتمالها على وصف لا تستبيح الفطرة الإنسانيّة الاقتراب منها لأجله، و ليس إلّا أنّها بحيث لا تشتمل على شي‏ء ممّا فيه سعادة إنسانيّة أصلاً سعادة يمكن أن تصفو و تتخلّص في حين من الأحيان كما ربّما أومأ إليه قوله تعالى:( يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَ مَنافِعُ لِلنَّاسِ وَ إِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما ) البقرة: ٢١٩، حيث غلب الإثم على النفع و لم يستثن.

و لعلّه لذلك نسب هذه الأرجاس إلى عمل الشيطان و لم يشرك له أحداً، ثمّ قال في الآية التالية:( إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَ الْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ وَ يَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَ عَنِ الصَّلاةِ ) .

و ذلك أنّ الله سبحانه عرف الشيطان في كلامه بأنّه عدوّ للإنسان لا يريد به خيراً البتّة قال تعالى:( إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ ) يوسف: ٥، و قال:( كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ ) الحجّ: ٤، و قال:( وَ إِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطاناً مَرِيداً، لَعَنَهُ اللهُ ) النساء: ١١٨، فأثبت عليه لعنته و طرده عن كلّ خير.

و ذكر أنّ مساسه بالإنسان و عمله فيه إنّما هو بالتسويل و الوسوسة و الإغواء من جهة الإلقاء في القلب كما قال تعالى حكاية عنه:( قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ، إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ ) الحجر: ٤٢، فهدّدهم إبليس بالإغواء فقط، و نفى الله سبحانه سلطانه إلّا عن متّبعيه الغاوين، و حكى عنه فيما يخاطب بني آدم يوم القيامة قوله:( وَ ما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي ) إبراهيم: ٢٢، و قال في نعت دعوته:( يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ‏ - إلى أن قال -إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَ قَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ ) فبين أنّ دعوته لا كدعوة إنسان إنساناً إلى أمر بالمشافهة بل بحيث يرعى الداعي المدعوّ من غير عكس.

١٢٧

و قد فصل القول في جميع ذلك قوله تعالى:( مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ، الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ ) الناس: ٥، فبيّن أنّ الذي يعمل الشيطان بالتصرّف في الإنسان هو أن يلقي الوسوسة في قلبه فيدعوه بذلك إلى الضلال.

فيتبيّن بذلك كلّه أنّ كون الخمر و ما ذكر بعدها رجساً من عمل الشيطان هو أنّها منتهية إلى عمل الشيطان الخاصّ به، و لا داعي لها إلى الإلقاء و الوسوسة الشيطانيّة الّتي تدعو إلى الضلال، و لذلك سمّاها رجساً و قد سمّى الله سبحانه الضلال رجساً في قوله:( وَ مَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ كَذلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ، وَ هذا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً ) الأنعام: ١٢٦.

ثمّ بيّن معنى كونها رجساً ناشئاً من عمل الشيطان بقوله في الآية التالية:( إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَ الْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ وَ يَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَ عَنِ الصَّلاةِ ) أي إنّه لا يريد لكم في الدعوة إليها إلّا الشرّ و لذلك كانت رجساً من عمله.

فإن قلت: ملخّص هذا البيان أنّ معنى كون الخمر و أضرابها رجساً هو كون عملها أو شربها مثلاً منتهياً إلى وسوسة الشيطان و إضلاله فحسب، و الّذي تدلّ عليه عدّة من الروايات أنّ الشيطان هو الّذي ظهر للإنسان و عملها لأوّل مرّة و علّمه إيّاها.

قلت: نعم، و هذه الأخبار و إن كانت لا تتجاوز الآحاد بحيث يجب الأخذ بها إلّا أنّ هناك أخباراً كثيرة متنوّعة واردة في أبواب متفرّقة تدلّ على تمثّل الشيطان للأنبياء و الأولياء و بعض أفراد الإنسان من غيرهم كأخبار اُخر حاكية لتمثّل الملائكة، و اُخرى دالّة على تمثّل الدنيا و الأعمال و غير ذلك و الكتاب الإلهيّ يؤيّدها بعض التأييد كقوله تعالى:( فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا ) مريم: ١٧، و سنستوفي هذا البحث إن شاء الله تعالى في تفسير سورة الإسراء في الكلام على قوله تعالى:( سُبْحانَ الّذي أَسْرى‏ بِعَبْدِهِ ) الإسراء: ١، أو في محلّ آخر مناسب لذلك.

١٢٨

و الّذي يجب أن يعلم أنّ ورود قصّة مّا في خبر أو أخبار لا يوجب تبدّل آية من الآيات ممّا لها من الظهور المؤيّد بآيات اُخر، و ليس للشيطان من الإنسان إلّا التصرّف الفكريّ فيما كان له ذلك بمقتضى الآيات الشريفة، و لو أنّه تمثّل لواحد من البشر فعمل شيئاً أو علّمه إيّاه لم يزد ذلك على التمثّل و التصرّف في فكره أو مساسه علماً فانتظر ما سيوافيك من البحث.

و أمّا قوله تعالى:( فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) فتصريح بالنهي بعد بيان المفسدة ليكون أوقع في النفوس ثمّ ترجّ للفلاح على تقدير الاجتناب، و فيه أشدّ التأكيد للنهي لتثبيته أن لا رجاء لفلاح من لا يجتنب هذه الأرجاس.

قوله تعالى: ( إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَ الْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ ) إلى آخر الآية قال الراغب في المفردات: العدو التجاوز و منافاة الالتيام فتارة يعتبر بالقلب فيقال له: العداوة و المعاداة، و تارة بالمشي فيقال له: العدو، و تارة في الإخلال بالعدالة في المعاملة فيقال له: العدوان و العدو قال:( فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ ) و تارة بأجزاء المقرّ فيقال له: العدواء يقال: مكان ذو عدواء أي غير متلائم الأجزاء فمن المعاداة يقال: رجل عدوّ و قوم عدوّ قال:( بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ) و قد يجمع على عدىً (بالكسر فالفتح) و أعداء قال:( وَ يَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللهِ ) ، انتهى.

و البغض و البغضاء خلاف الحبّ و الصدّ الصرف، و الانتهاء قبول النهي و خلاف الابتداء.

ثمّ إنّ الآية - كما تقدّم - مسوقة بياناً لقوله:( مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ ) أو لقوله:( رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ ) أي إنّ حقيقة كون هذه الاُمور من عمل الشيطان أو رجساً من عمل الشيطان أنّ الشيطان لا بغية له و لا غاية في الخمر و الميسر - اللّذين قيل: إنّهما رجسان من عمله فقط - إلّا أن يوقع بينكم العداوة و البغضاء بتجاوز حدودكم و بغض بعضكم بعضاً، و أن يصرفكم عن ذكر الله و عن الصلاة في هذه الاُمور جميعاً أعني الخمر و الميسر و الأنصاب و الأزلام.

١٢٩

و قصر إيقاع العداوة و البغضاء في الخمر و الميسر لكونهما من آثارهما الظاهرة أمّا الخمر فلأنّ شربها تهيّج سلسلة الأعصاب تهيجاً يخمّر العقل و يستظهر العواطف العصبيّة فإن وقعت في طريق الغضب جوّزت للسكران أيّ جناية فرضت و إن عظمت ما عظمت، و فظعت ما فظعت ممّا لا يستبيحه حتّى السباع الضارية، و إن وقعت في طريق الشهوة و البهيميّة زيّنت للإنسان أيّ شناعة و فجور في نفسه أو ماله أو عرضه و كلّ ما يحترمه و يقدّسه من نواميس الدين و حدود المجتمع و غير ذلك من سرقة أو خيانة أو هتك محرم أو إفشاء سرّ أو ورود فيما فيه هلاك الإنسانيّة، و قد دلّ الإحصاء على أنّ للخمر السهم الأوفر من أنواع الجنايات الحادثة و في أقسام الفجورات الفظيعة في المجتمعات الّتي دار فيها شربها.

و أمّا الميسر و هو القمار فإنّه يبطل في أيسر زمان مسعاة الإنسان الّتي صرفها في اقتناء المال و الثروة و الوجاهة في أزمنة طويلة فيذهب به المال و ربّما تبعه العرض و النفس و الجاه فإن تقمّر و غلب و أحرز المال أدّاه ذلك إلى إبطال السير المعتدل في الحياة و التوسّع في الملاهي و الفجور، و الكسل و التبطّؤ عن الاشتغال بالمكسب و اقتناء موادّ الحياة من طرقها المشروعة، و إن كان هو المغلوب أدّاه فقدان المال و خيبة السعي إلى العداوة و البغضاء لقميرة الغالب، و الحسرة و الحنق.

و هذه المفاسد و إن كانت لا تظهر للأذهان الساذجة البسيطة ذاك الظهور في النادر القليل و المرّة و المرّتين لكنّ النادر يدعو إلى الغالب، و القليل يهدي إلى الكثير و المرّة تجرّ إلى المرّات و لا تلبث إن لم تمنع من رأس أن تشيع في الملأ، و تسري إلى المجتمع فتعود بلوى همجيّة لا حكومة فيها إلّا للعواطف الطاغية و الأهواء المردية.

فتبيّن من جميع ما تقدّم أنّ الحصر في قوله:( إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَ الْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ وَ يَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَ عَنِ الصَّلاةِ ) راجع إلى مجموع المعدودات من حيث المجموع غير أنّ الصدّ عن ذكر الله و عن الصلاة من شأن الجميع، و العداوة و البغضاء يختصّان بالخمر و الميسر بحسب الطبع.

١٣٠

و في إفراز الصلاة عن الذكر في قوله تعالى:( وَ يَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَ عَنِ الصَّلاةِ ) مع كون الصلاة من أفراد الذكر دلالة على مزيد الاهتمام بأمرها لكونها فرداً كاملاً من الذكر، و قد صحّ عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنّه قال: الصلاة عمود الدين‏، و دلالة القرآن الكريم في آيات كثيرة جدّاً على الاهتمام بأمر الصلاة بما لا مزيد عليه ممّا لا يتطرّق إليه شكّ و فيها مثل قوله تعالى:( قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ، الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ ) (إلى آخر الآيات) المؤمنون: ٢، و قوله تعالى:( وَ الَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ وَ أَقامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ ) الأعراف: ١٧٠، و قوله تعالى:( إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً، إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً، وَ إِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً، إِلَّا الْمُصَلِّينَ ) الآيات: المعارج: ٢٢ و قوله:( اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ وَ أَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى‏ عَنِ الْفَحْشاءِ وَ الْمُنْكَرِ وَ لَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ ) العنكبوت: ٤٥، و قال تعالى:( فَاسْعَوْا إِلى‏ ذِكْرِ اللهِ ) الجمعة: ٩، يريد به الصلاة، و قال:( وَ أَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي ) طه: ١٤، إلى غير ذلك من الآيات.

و قد ذكر سبحانه أوّلاً ذكره و قدّمه على الصلاة لأنّها هي البغية الوحيدة من الدعوة الإلهيّة، و هو الروح الحيّة في جثمان العبوديّة، و الخميرة لسعادة الدنيا و الآخرة يدلّ على ذلك قوله تعالى لآدم أوّل يوم شرع فيه الدين:( قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَ لا يَشْقى‏، وَ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً، وَ نَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى‏ ) طه: ١٢٤، و قوله تعالى:( وَ يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَ ما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَقُولُ أَ أَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ، قالُوا سُبْحانَكَ ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ وَ لكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَ آباءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَ كانُوا قَوْماً بُوراً ) الفرقان: ١٨، و قوله تعالى:( فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَ لَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ ) النجم: ٣٠.

فالذكر في الآيات إنّما هو ما يقابل نسيان جانب الربوبيّة المستتبع لنسيان العبوديّة و هو السلوك الدينيّ الّذي لا سبيل إلى إسعاد النفس بدونه قال تعالى:

١٣١

( وَ لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ ) الحشر: ١٩.

و أمّا قوله تعالى:( فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ ) فهو استفهام توبيخيّ فيه دلالة مّا على أنّ المسلمين لم يكونوا ينتهون عن المناهي السابقة على هذا النهي، و الآية أعني قوله:( إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ ) ، إلخ كالتفسير يفسّر بها قوله:( يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَ مَنافِعُ لِلنَّاسِ وَ إِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما ) أي إنّ النفع الّذي فرض فيهما مع الإثم ليس بحيث يمكن أن يفرز أحياناً من الإثم أو من الإثم الغالب عليه كالكذب الّذي فيه إثم و نفع، و ربّما اُفرز نفعه من إثمه كالكذب لمصلحة إصلاح ذات البين.

و ذلك لمكان الحصر في قوله:( إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَ الْبَغْضاءَ ) ، إلخ بعد قوله:( رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ ) فالمعنى أنّها لا تقع إلّا رجساً من عمل الشيطان، و أنّ الشيطان لا يريد بها إلّا إيقاع العداوة و البغضاء بينكم في الخمر و الميسر و صدّكم عن ذكر الله و عن الصلاة فلا يصاب لها مورد يخلص فيه النفع عن الإثم حتّى تباح فيه، فافهم ذلك.

قوله تعالى: ( أَطِيعُوا اللهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ احْذَرُوا ، إلى آخر الآية) تأكيد للأمر السابق باجتناب هذه الأرجاس أوّلاً بالأمر بطاعة الله سبحانه و بيده أمر التشريع، و ثانياً بالأمر بطاعة الرسول و إليه الإجراء، و ثالثاً بالتحذير صريحاً.

ثمّ في قوله:( فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى‏ رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ ) تأكيد فيه معنى التهديد و خاصّة لاشتماله على قوله:( فَاعْلَمُوا ) فإنّ فيه تلويحاً إلى أنّكم إن تولّيتم و اقترفتم هذه المعاصي فكأنّكم ظننتم أنّكم كابرتم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في نهيه عنها و غلبتموه، و قد جهلتم أو نسيتم أنّه رسول من قبلنا ليس له من الأمر شي‏ء إلّا بلاغ مبين لما يوحى إليه و يؤمر بتبليغه، و إنّما نازعتم ربّكم في ربوبيّته.

و قد تقدّم في أوّل الكلام أنّ الآيات تشتمل على فنون من التأكيد في تحريم هذه الاُمور، و هي الابتداء بقوله:( يا أَيُّهَا الّذينَ آمَنُوا ) ، ثمّ الإتيان بكلمة الحصر، ثمّ التوصيف بالرجس، ثمّ نسبتها إلى عمل الشيطان، ثمّ الأمر بالاجتناب صريحاً،

١٣٢

ثمّ رجاء الفلاح في الاجتناب، ثمّ ذكر مفاسدها العامّة من العداوة و البغضاء و الصرف عن ذكر الله و عن الصلاة، ثمّ التوبيخ على عدم انتهائهم، ثمّ الأمر بطاعة الله و رسوله و التحذير عن المخالفة، ثمّ التهديد على تقدير التولّي بعد البلاغ المبين.

قوله تعالى: ( لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا ) إلى آخر الآية الطعم و الطعام هو التغذّي، و يستعمل في المأكول دون المشروب، و هو في لسان المدنيّين البرّ خاصّة، و ربّما جاء بمعنى الذوق، و يستعمل حينئذ بمعنى الشرب كما يستعمل بمعنى الأكل قال تعالى:( فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَ مَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي ) البقرة: ٢٤٩، و في بعض الروايات عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال في ماء زمزم: أنّه طعام طعم و شفاء سقم.

و الآية لا تصلح بسياقها إلّا أن تتّصل بالآيات السابقة فتكون دفع دخل تتعرّض لحال المؤمنين ممّن ابتلي بشرب الخمر قبل نزول التحريم أو قبل نزول هذه الآيات، و ذلك أنّ قوله فيها:( فِيما طَعِمُوا ) مطلق غير مقيّد بشي‏ء ممّا يصلح لتقييده، و الآية مسوقة لرفع الحظر عن هذا الطعام المطلق، و قد قيّد رفع الحظر بقوله:( إِذا مَا اتَّقَوْا وَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَ آمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَ أَحْسَنُوا ) و المتيقّن من معنى هذا القيد - و قد ذكر فيه التقوى ثلاث مرّات - هو التقوى الشديد الّذي هو حقّ التقوى.

فنفي الجناح للمؤمنين المتّقين عن مطلق ما طعموا (الطعام المحلّل) إن كان لغرض إثبات المفهوم في غيرهم أي إثبات مطلق المنع لغير أهل التقوى من سائر المؤمنين و الكفّار ناقضه أمثال قوله تعالى:( قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَ الطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ ) الأعراف: ٣٢، على أنّ من المعلوم من مذاق هذا الدين أنّه لا يمنع أحداً عن الطيّبات المحلّلة الّتي تضطرّ الفطرة إلى استباحتها في الحياة.

و إن لم تكن الآية مسوقة لتحريمه على غير من ذكر عاد المعنى إلى مثل قولنا: يجوز الطعام للّذين آمنوا و عملوا الصالحات بشرط أن يتّقوا ثمّ يتّقوا ثمّ يتّقوا، و من المعلوم

١٣٣

أنّ الجواز لا يختصّ بالّذين آمنوا و عملوا الصالحات بل يعمّهم و غيرهم، و على تقدير اختصاصه بهم لا يشترط فيه هذا الشرط الشديد.

و لا يخلو عن أحد هذين الإشكالين جميع ما ذكروه في توجيه الآية بناءً على حمل قوله:( فِيما طَعِمُوا ) على مطلق الطعام المحلّل فإنّ المعنى الّذي ذكروه لا يخرج عن حدود قولنا: لا جناح على الّذين آمنوا و عملوا الصالحات إذا اتّقوا المحرّمات أن يطعموا المحلّلات، و لا يسلم هذا المعنى عن أحد الإشكالين كما هو واضح.

و ذكر بعضهم: أنّ في الآية حذفاً، و التقدير: ليس على الّذين آمنوا و عملوا الصالحات جناح فيما طعموا و غيره إذا ما اتّقوا المحارم، و فيه أنّه تقدير من غير دليل مع بقاء المحذور على حاله.

و ذكر بعضهم: أنّ الإيمان و العمل الصالح جميعاً ليس بشرط حقيقيّ بل المراد بيان وجوب اتّقاء المحارم فشرّك معه الإيمان و العمل الصالح للدلالة على وجوبه، و فيه أنّ ظاهر الآية أنّها مسوقة لنفي الجناح فيما طعموا، و لا شرط له من إيمان أو عمل صالح أو اتّقاء محارم على ما تقدّم، و ما أبعد المعنى الّذي ذكره عن ظاهر الآية.

و ذكر بعضهم: أنّ المؤمن يصحّ أن يطلق عليه أنّه لا جناح عليه، و الكافر مستحقّ للعقاب فلا يصحّ أن يطلق عليه هذا اللفظ، و فيه أنّه لا يصحّ تخصيص المؤمنين بالذكر فليكن مثل قوله تعالى:( قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَ الطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ ) الأعراف: ٣٢، و قوله:( قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى‏ طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً ) الأنعام: ١٤٥ حيث لم يذكر في الخطاب مؤمن و لا كافر، أو مثل قوله:( يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَ أُنْثى -‏ إلى قوله -إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ ) الحجرات: ١٣ حيث وجّه الخطاب إلى الناس الشامل للمؤمن و الكافر.

و ذكر بعضهم: أنّ الكافر قد سدّ على نفسه طريق معرفة التحريم و التحليل فلذلك خصّ المؤمن بالذكر، و فيه ما في سابقه من الإشكال مع أنّه لا يرفع الإشكال الناشئ

١٣٤

من قوله:( إِذا مَا اتَّقَوْا ) إلخ.

فالّذي ينبغي أن يقال: إنّ الآية في معنى الآيات السابقة عليها على ما هو ظاهر اتّصالها بها، و هي متعرّضة لحال من ابتلي من المسلمين بشرب الخمر و طعمها، أو بالطعم لشي‏ء منها أو ممّا اقتناه بالميسر أو من ذبيحة الأنصاب كأنّهم سألوا بعد نزول التحريم الصريح عن حال من ابتلي بشرب الخمر، أو بها و بغيرها ممّا ذكره الله تعالى في الآية قبل نزول التحريم من إخوانهم الماضين أو الباقين المسلمين لله سبحانه في حكمه.

فاُجيب عن سؤالهم أن ليس عليهم جناح إن كانوا من الّذين آمنوا و عملوا الصالحات إن كانوا جارين على صراط التقوى بالإيمان بالله و العمل الصالح ثمّ الإيمان بكلّ حكم نازل على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثمّ الإحسان بالعمل على طبق الحكم النازل.

و بذلك يتبيّن أنّ المراد بالموصول في قوله:( فِيما طَعِمُوا ) هو الخمر من حيث شربها أو جميع ما ذكر من الخمر و الميسر و الأنصاب و الأزلام من حيث ما يصحّ أن يتعلّق بها من معنى الطعم، و المعنى: ليس على الّذين آمنوا و عملوا الصالحات جناح فيما ذاقوه قبل نزول التحريم من خمر أو منها و من غيرها من المحرّمات المذكورة.

و أمّا قوله:( إِذا مَا اتَّقَوْا وَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَ آمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَ أَحْسَنُوا ) فظاهر قوله:( إِذا مَا اتَّقَوْا وَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ ) إنّه إعادة لنفس الموضوع المذكور في قوله:( لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ ) للدلالة على دخالة الوصف في الحكم الّذي هو نفي الجناح كقوله تعالى في خطاب المؤمنين:( ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ ) البقرة: ٢٣٢، و هو شائع في اللسان.

و ظاهر قوله:( ثُمَّ اتَّقَوْا وَ آمَنُوا ) اعتبار الإيمان بعد الإيمان، و ليس إلّا الإيمان التفصيليّ بكلّ حكم حكم ممّا جاء به الرسول من عند ربّه من غير ردّ و امتناع، و لازمه التسليم للرسول فيما يأمر به و ينهى عنه قال تعالى:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَ آمِنُوا بِرَسُولِهِ ) الحديد: ٢٨، و قال تعالى:( وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللهِ - إلى أن قال -فَلا وَ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ

١٣٥

بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَ يُسَلِّمُوا تَسْلِيماً ) النساء ٦٥، و الآيات في هذا المعنى كثيرة.

و ظاهر قوله:( ثُمَّ اتَّقَوْا وَ أَحْسَنُوا ) إضافة الإحسان إلى الإيمان بعد الإيمان اعتباراً، و الإحسان هو إتيان العمل على وجه حسنة من غير نيّة فاسدة كما قال تعالى:( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا ) الكهف: ٣٠، و قال:( الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَ الرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَ اتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ ) آل عمران: ١٧٢، أي يكون استجابتهم ابتغاءً لوجه الله و تسليماً لأمره لا لغرض آخر، و من الإحسان ما يتعدّى إلى الغير، و هو أن يوصل إلى الغير ما يستحسنه، قال تعالى:( وَ بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً ) البقرة: ٨٣، و قال:( وَ أَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ ) القصص: ٧٧.

و المناسب لمورد الآية هو المعنى الأوّل من معنيي الإحسان، و هو إتيان الفعل على جهة حسنة فإنّ التقوى الدينيّ لا يوفى حقّه بمجرّد الإيمان بالله و تصديق حقّيّة دينه ما لم يؤمن تفصيلاً بكلّ واحد واحد من الأحكام المشرّعة في الدين فإنّ ردّ الواحد منها ردّ لأصل الدين، و لا أنّ الإيمان التفصيليّ بكلّ واحد واحد يوفى به حقّ التقوى ما لم يحسن بالعمل بها و في العمل بها بأن يجري على ما يقتضيه الحكم من فعل أو ترك، و يكون هذا الجري ناشئاً من الانقياد و الاتّباع لا عن نيّة نفاقيّة فمن الواجب على المتزوّد بزاد التقوى أن يؤمن بالله و يعمل صالحاً، و أن يؤمن برسوله في جميع ما جاء به، و أن يجري في جميع ذلك على نهج الاتّباع و الإحسان.

و أمّا تكرار التقوى ثلاث مرّات، و تقييد المراتب الثلاث جميعاً به فهو لتأكيد الإشارة إلى وجوب مقارنة المراتب جميعاً للتقوى الواقعيّ من غير غرض آخر غير دينيّ، و قد مرّ في بعض المباحث السابقة أنّ التقوى ليس مقاماً خاصّاً دينيّاً بل هو حالة روحيّة تجامع جميع المقامات المعنويّة أي إنّ لكلّ مقام معنويّ تقوى خاصّاً يختصّ به.

فتلخّص من جميع ما مرّ أنّ المراد بالآية أعني قوله:( لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا

١٣٦

وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا ) إلى آخر الآية، أنّه لا جناح على الّذين آمنوا و عملوا الصالحات فيما ذاقوه من خمر أو غيره من المحرّمات المعدودة بشرط أن يكونوا ملازمين للتقوى في جميع أطوارهم و متلبّسين بالإيمان بالله و رسوله، و محسنين في أعمالهم عاملين بالواجبات و تاركين لكلّ محرّم نهوا عنه فإن اتّفق لهم أن ابتلوا بشي‏ء من الرجس الّذي هو من عمل الشيطان قبل نزول التحريم أو قبل وصوله إليهم أو قبل تفقّههم به لم يضرّهم ذلك شيئاً.

و هذا نظير قوله تعالى في آيات تحويل القبلة في جواب سؤالهم عن حال الصلوات الّتي صلّوها إلى غير الكعبة:( وَ ما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ ) البقرة: ١٤٣.

و سياق هذا الكلام شاهد آخر على كون هذه الآية:( لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ ، إلخ) متّصلة بما قبلها من الآيات و أنّها نازلة مع تلك الآيات الّتي لسانها يشهد أنّها آخر الآيات المحرّمة للخمر نزولاً، و أنّ بعض المسلمين كما يشعر به لسان الآيات - على ما استفدناه آنفاً - لم يكونوا منتهين عن شربها ما بين الآيات السابقة المحرّمة و بين هذه الآيات.

ثمّ وقع السؤال بعد نزول هذه الآيات عن حال من ابتلي بذلك و فيهم من ابتلي به قبل نزول التحريم، و من ابتلي به قبل التفقّه، و من ابتلي به لغير عذر فاُجيبوا بما يتعيّن به لكلّ طائفة حكم مسألته بحسب خصوص حاله، فمن طعمها و هو على حال الإيمان و الإحسان، و لا يكون إلّا من ذاقها من المؤمنين قبل نزول التحريم أو جهلاً به فليس عليه جناح، و من ذاقها على غير النعت فحكمه غير هذا الحكم.

و للمفسّرين في الآية أبحاث طويلة، منها ما يرجع إلى قوله:( فِيما طَعِمُوا ) و قد تقدّم خلاصة الكلام في ذلك.

و منها ما يرجع إلى ذيل الآية من حيث تكرّر التقوى فيه ثلاث مرّات، و تكرّر الإيمان و تكرّر العمل الصالح و ختمها بالإحسان.

فقيل: إنّ المراد بقوله:( إِذا مَا اتَّقَوْا وَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ ) اتّقوا المحرّم و ثبتوا على الإيمان و الأعمال الصالحة، و بقوله:( ثُمَّ اتَّقَوْا وَ آمَنُوا ) ثمّ

١٣٧

اتّقوا ما حرّم عليهم بعد كالخمر و آمنوا بتحريمه، و بقوله:( ثُمَّ اتَّقَوْا وَ أَحْسَنُوا ) ثمّ استمرّوا و ثبتوا على اتّقاء المعاصي و اشتغلوا بالأعمال الجميلة.

و قيل: إنّ هذا التكرار باعتبار الحالات الثلاث: استعمال الإنسان التقوى و الإيمان بينه و بين نفسه، و بينه و بين الناس، و بينه و بين الله تعالى، و الإحسان على هذا هو الإحسان إلى الناس ظاهراً.

و قيل: إنّ التكرار باعتبار المراتب الثلاث: المبدإ و الوسط و المنتهى، و هو حقّ التقوى.

و قيل: التكرار باعتبار ما يتّقى فإنّه ينبغي أن تترك المحرّمات توقّياً من العقاب، و الشبهات تحرّزاً عن الوقوع في الحرام، و بعض المباحات تحفّظاً للنفس عن الخسّة، و تهذيباً عن دنس الطبيعة.

و قيل: إنّ الاتّقاء الأوّل اتّقاء عن شرب الخمر و الإيمان الأوّل هو الإيمان بالله، و الاتّقاء الثاني هو إدامة الاتّقاء الأوّل و الإيمان الثاني إدامة الإيمان الأوّل، و الاتّقاء الثالث هو فعل الفرائض، و الإحسان فعل النوافل.

و قيل: إنّ الاتّقاء الأوّل اتّقاء المعاصي العقليّة، و الإيمان الأوّل هو الإيمان بالله و بقبح هذه المعاصي، و الاتّقاء الثاني اتّقاء المعاصي السمعيّة و الإيمان الثاني هو الإيمان بوجوب اجتناب هذه المعاصي، و الاتّقاء الثالث يختصّ بمظالم العباد و ما يتعلّق بالغير من الظلم و الفساد، و المراد بالإحسان الإحسان إلى الناس.

و قيل: إنّ الشرط الأوّل يختصّ بالماضي، و الشرط الثاني بالدوام على ذلك و الاستمرار على فعله، و الشرط الثالث يختصّ بمظالم العباد، إلى غير ذلك من أقوالهم.

و جميع ما ذكروه ممّا لا دليل عليه من لفظ الآية أو غيرها يوجب حمل الآية عليه، و هو ظاهر بالتأمّل في سياق القول فيها و الرجوع إلى ما قدّمناه.

١٣٨

( بحث روائي)

في تفسير العيّاشيّ، عن هشام بن سالم عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: سمعته يقول: بينا حمزة بن عبد المطّلب و أصحاب له على شراب لهم يقال له السكركة. قال: فتذاكروا الشريف فقال لهم حمزة: كيف لنا به؟ فقالوا: هذه ناقة ابن أخيك عليّ، فخرج إليها فنحرها ثمّ أخذ كبدها و سنامها فأدخل عليهم، قال: و أقبل عليّعليه‌السلام فأبصر ناقته فدخله من ذلك، فقالوا له: عمّك حمزة صنع هذا، قال: فذهب إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فشكا ذلك إليه.

قال: فأقبل معه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقيل لحمزة: هذا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالباب، قال: فخرج حمزة و هو مغضب فلمّا رأى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الغضب في وجهه انصرف قال: فقال له حمزة: لو أراد ابن أبي طالب أن يقودك بزمام فعل، فدخل حمزة منزله و انصرف النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

قال: و كان قبل اُحد، قال: فأنزل الله تحريم الخمر فأمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بآنيتهم فاُكفئت، قال: فنودي في الناس بالخروج إلى اُحد فخرج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و خرج الناس و خرج حمزة فوقف ناحية من النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال فلمّا تصافحوا حمل في الناس حتّى غيب فيهم ثمّ رجع إلى موقفه، فقال له الناس: الله الله يا عمّ رسول الله أن تذهب و في نفس رسول الله عليك شي‏ء، قال: ثمّ حمل الثانية حتّى غيب في الناس ثمّ رجع إلى موقفه فقالوا له: الله الله يا عمّ رسول الله أن تذهب و في نفس رسول الله عليك شي‏ء.

فأقبل إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلمّا رآه نحوه أقبل مقبلاً إليه فعانقه و قبّل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما بين عينيه ثمّ قال: احمل على الناس فاستشهد حمزة، و كفّنه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في تمرة.

ثمّ قال أبوعبداللهعليه‌السلام : نحو من سرياني هذا، فكان إذا غطّى وجهه انكشف رجلاًه و إذا غطّى رجلاه انكشف وجهه قال: فغطّى بها وجهه، و جعل على رجليه أذخر.

١٣٩

قال فانهزم الناس و بقي عليّعليه‌السلام فقال له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما صنعت؟ قال: يا رسول الله لزمت الأرض فقال: ذلك الظنّ بك، قال: و قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنجز لي يا ربّ ما وعدتني فإنّك إن شئت لم تعبد.

و عن الزمخشريّ في ربيع الأبرار، قال: اُنزل في الخمر ثلاث آيات:( يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ ) فكان المسلمون بين شارب و تارك إلى أن شربها رجل فدخل في صلاته فهجر فنزل:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَ أَنْتُمْ سُكارى) فشربها من شربها من المسلمين حتّى شربها عمر فأخذ لحي بعير فشّج رأس عبدالرحمن بن عوف، ثمّ قعد ينوح على قتلى بدر بشعر الأسود بن يغفر:

و كأين بالقليب قليب بدر

من القنيات و الشرب الكرام

و كأين بالقليب قليب بدر

من السري المكامل بالسنام

أ يوعدنا ابن كبشة أن نحيى

و كيف حياة أصداء و هام

أ يعجز أن يردّ الموت عنّي

و ينشرني إذا بليت عظامي

ألا من مبلغ الرحمن عنّي

بأنّي تـارك شهر الصيام

فقل لله: يمنـعني شرابـي

و قل لله: يمنعني طـعامي

فبلغ ذلك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فخرج مغضباً يجرّ رداءه فرفع شيئاً كان في يده ليضربه، فقال: أعوذ بالله من غضب الله و غضب رسوله فأنزل الله سبحانه و تعالى:( إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ إلى قوله فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ ) فقال عمر: انتهينا.

و في الدرّ المنثور،: أخرج ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و أبوالشيخ و ابن مردويه و النحّاس في ناسخه عن سعد بن أبي وقّاص قال: فيّ نزل تحريم الخمر صنع رجل من الأنصار طعاماً فدعانا فأتاه ناس فأكلوا و شربوا حتّى انتشوا من الخمر، و ذلك قبل أن تحرّم الخمر فتفاخروا فقالت الأنصار: الأنصار: خير، و قالت قريش: قريش خير فأهوى رجل بلحي جزور فضرب على أنفي ففزره - فكان سعد مفزور الأنف - قال: فأتيت النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فذكرت ذلك له فنزلت هذه الآية:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ ) ، إلى آخر الآية.

١٤٠

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401