الميزان في تفسير القرآن الجزء ٦

الميزان في تفسير القرآن19%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 401

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 401 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 84114 / تحميل: 7581
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ٦

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

٦١

٦٢

٦٣

٦٤

٦٥

بسم الله الرحمن الرحيم

وبه الاستعانة

نحمدك يا من أَطلع في فلك الهداية شمس النبوة ، وقمر الولاية ، ونصلي على قطب مداره وآله ، أهلّة سماء الإهتداء ، ونسلّم تسليماً كثيراً. وبعد :

فيقول أقل الخلائق محمد المشتهر بهاء الدين العاملي عامله الله بإحسانه : هذه الحديقة الثالثة والأربعون من كتابنا الموسوم بحدائق الصالحين في شرح صحيفة مولانا وإمامنا قبلة أهل الحق واليقين علي بن الحسين زين العابدين سلام الله عليه وعلى آبائه الطاهرين ، تتضمن شرح الدعاء الثالث والأربعين ، وهودعاؤهعليه‌السلام  عند الاستهلال أمليتها مع وفور الملال ، لتوزع البال ، واختلال الحال ، راجياً من الله تعالى أن يوفقني لإِكمال بقية الحدائق ، إنَّه مفيض الخير وملهم الحقائق.

وكان من دعائهعليه‌السلام  إذا نظر إلى الهلال :

سمّي هلالاً لجريان عادتهم برفع الأصوات عند رؤيته ، مأخوذ من الإهلال ، وهو رفع الصوت ، ومنه قولهم : أَهلّ المعتمر ، إذا رفع صوته بالتلبية ، واستهل الصبي إذا صاح عند الولادة.

وقد اضطربوا في تحديد الوقت الذي يسمّى فيه بهذا الاسم ، فقال في

٦٦

 « الصحاح » : الهلال أول ليلة ، والثانية والثالثة ، ثمّ هو قمر(١) .

وزاد صاحب القاموس فقال [٤ / أ] : الهلال غرة القمر ، أو إلى ليلتين ، أوإلى ثلاث ، أو إلى سبع ، ولليلتين من آخر الشهر ستّ وعشرين وسبع وعشرين ، وفي غيرذلك قمر(٢) . إنتهى.

قال الشيخ الجليل أبو علي الطبرسي(٣) نور الله مرقده ـ في تفسيره الموسوم بمجمع البيان عند قوله تعالى :( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ ) (٤) ـ : اختلفوا في أنه إلى كم يسمّى هلالاً ، وإلى كم يسمى قمراً؟.

فقال بعضهم : يسمّى هلالاً لليلتين من الشهر ، ثمّ لا يسمّى هلالاً إلى ان يعود في الشهر الثاني.

و قال آخرون : يسمّى هلالاً ثلاث ليال ، ثمّ يسمّى قمراً.

و قال آخرون : يسمّى هلالاً حتى يحجّر ، وتحجيره أن يستدير بخيط دقيق ؛ وهذا قول الأصمعي(٥) .

________________________

(١) صحاح اللغة ٥ : ١٨٥١ مادة ( هلل ).

(٢) القاموس المحيط ٤ : ٧١ مادة ( هلل ).

(٣) الفضل بن الحسن بن الفضل الطبرسي المشهدي ، أبو علي الطبرسي ، أمين الإِسلام ، عالم فاضل ، مفسر فقيه ، ثقة جليل القدر ، بيته بيت علم ومعرفة ، فولده مؤلف مكارم الأخلاق ، وسبطه صاحب المشكاة ، وهكذا سائر أقاربه. روى عن جمع منهم : أبو علي بن الشيخ الطوسي ، وعبد الجبار بن علي المقرىء. وممن عنه روى ابن شهر أشوب ، ومنتجب الدين ، والقطب الراوندي ، والدروستي. له مصنفات كثيرة منها : مجمع البيان ، جوامع الجامع ، اعلام الورى. مات سنة ٤٨ هـ = ١١٥٣ م في سبزوار ، وحمل جثمانه إلى المشهد الرضوي.

انظر : رياض العلماء ٤ : ٣٤٠ / روضات الجنات ٥ : ٣٥٧ ت٥٤٤ / الكنى والألقاب ٢ : ٤٤٤ / أعيان الشيعة ٨ : ٣٣٩٨ / تنقيح المقال ٢ : ٧ ت ٩٤٦١ / شهداء الفضيلة : ٤٥ / مجالس المؤمنين ١ : ٤٩٠ / مستدرك الوسائل ( الخاتمة ) ٣ : ٣٨٧ / معالم العلماء : ١٣٥ ت ٩٢٠ / المقابر : ١٠ / نقد الرجال : ٣٦٦.

(٤) البقرة ، مدنية ، ٢ : ١٨٩.

(٥) أبو سعيد ، عبد الملك بن قريب ـ بضم القاف ، وقيل عاصم ـ بن علي بن أصمع الباهلي

٦٧

وقال بعضهم : يسمّى هلالاً حتى يبهر ضوؤه سواد الليل ، ثم يقال قمراً ، وهذا يكون في الليلة السابعة(١). إنتهى كلامه زيد إكرامه.

ولا يخفى أن قوله ـ وهذا يكون إلى آخره ـ يخالف بظاهره(٢) قول صاحب القاموس « أو إلى سبع » ، ووجه التوفيق بينهما غيرخفّي(٣) .

قالوا : وإنّما يسمى بعد الهلال قمراً لبياضه ، فإن الأقمر هو الأبيض(٤) .

و قيل : لأنَّه يقمر الكواكب ، أي يغلبها بزيادة النور.

ويسمّى في الليلة الرابعة عشرة بدراً ، قال في الصحاح : سمّي بذلك لمبادرته الشمس في الطلوع كأنه يعجلها المغيب(٥) .

وقال بعضهم : سمي بدراً لكماله ، تشبيهاً له بالبدرة الكاملة وهي عشرة آلاف درهم(٦) .

________________________

البصري ، عالم لغوي ، راوية لشعر ألعرب ، لقب بشيطان الشعر ، يحفظ عشرة آلاف ارجوزة ، روى عن سليمان التميمي ، وأبي عمرو بن العلا ، ومسعر بن كدام ، وسلمة بن بلال ، وكثيرغيرهم ؛ وعنه حدث أبو عبيد ، ويحيى بن معين ، وإسحاق الموصلي ، وسلمة بن عاصم ، وأبوحاتم السجستاني ، وأبو العيناء ، وخلق كثير. كان قليل الرواية للحديث ، مكثر التأليف ، له : الإبل ، الأضداد ، خلق الانسان ، المترادف ، الفرق ، الشاء ، الوحوش وغيرها. مات سنة ٢١٦ هـ = ٨٣١ م.

انظر : تاريخ بغداد ١٠ : ٤١٠ ت ٥٥٧٦ / الأنساب : ٤٢ ، أ / وفيات الأعيان ٣ : ١٧٠ ت٣٧٩ / ميزان الاعتدال ٢ : ٦٦٢ ت ٥٢٤٠ / مرآة الجنان ٢ : ٦٤ / طبقات القراء ١ : ٤٧٠ ت ١٩٦٥ / تهذيب التهديب ٦ : ٣٦٨ ت ٧٧١ / بغية الوعاة ٢ : ١١٢ ت ١٥٧٣ / سيرأعلام النبلاء ١٠ : ١٧٥ت ٣٢ / أخبارأصفهان ٢ : ١٣٠.

(١) مجمع البيان ١ : ٢٨٣. وفي هامش الأصل : الإشارة إلى بهر ضوئه سواد الليل « منه » قدس سره.

(٢) إذ الظاهر خروج ما بعد ( حتى ) عمَّا قبلها ، ويؤيده أن بهر ضوئه سواد الليل يمتد ليالي كثيرة ليس هوفيها هلالاً ألبتة « منه ». هامش الأصل.

(٣) بجعل ما بعد ( حتى ) داخلاً فيما قبلها ، وإرادة البهر في الليلة الاُولى منه فقط ، أعني السابعة « منه ». قدس سره ، هامش المخطوطة.

(٤) أنظر : الصحاح ٢ : ٧٩٨ ـ ٧٩٩ ، القاموس المحيط : ٥٩٨ ، مادة ( قمر ) فيهما.

(٥) الصحاح ٢ : ٥٨٦ ، مادة ( بَدَرَ ).

(٦) أنظر : تاج العروس ٣ : ٣٤ ـ ٣٥.

٦٨

مقدمة :

لا ريب في استحباب الدعاء عند رؤية الهلال ، تأسياً بالنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد فعله أمير المؤمنينعليه‌السلام  ، والأئمة من ولده سلام الله عليهم(١) [٤ / ب]

و ذهب ابن أبي عقيل(٢) رحمه‌الله  إلى وجوب الدعاء عند رؤية هلال شهررمضان(٣) .

و هو قول نادر لا نعلم له فيه موافقاً ، وربما حمل قوله بالوجوب على إرادة تأكيد الاستحباب صوناً له عن مخالفة الجمهور.

والدعاء الذي أوجبه هو هذا :

« الحمد لله الذي خلقتي وخلقك ، وقدَّر منازلك ، وجعلك مواقيت للناس ؛ اللّهمّ أهلّه علينا إهلالاً مباركاً ؛ اللهم أدخله علينابالسلامة والإسلام ، واليقين والإيمان ، والبر والتقوى ، والتوفيق لما

________________________

(١) راجع : الكافي ٤ : ٧٠ ، باب ما يقال في مستقبل شهر رمضان ، الأحاديث ١ ـ ٨ / من لا يحضره الفقيه ٢ : ٦٢ باب ٢٩ ، القول عند رؤية هلال شهر رمضان ، ألأحاديث ٢٦٨ ـ ٢٧٠ / التهذيب ٤ : ١٩٦ باب ٥٠ ، الدعاء عند طلوع الهلال ، الأحاديث ٥٦٢ ـ ٥٦٤ / أمالي الصدوق : ٤٨حديث ١ / عيون أخبار الرضاعليه‌السلام  ٢ : ٧١ حديث ٣٢٩ / أمالي الشيخ الطوسي٢ : ١٠٩.

(٢) الحسن بن علي بن أبي عقيل العماني ، أبو محمد الحذاء ، فقيه متكلم ، جليل القدر ، من وجوه أصحابنا ، ثقة ، من أوائل من استعمل ألنظر ، وبحث الأصول والفروع عند ابتداء الغيبة الكبرى ، يعدّ من مشايخ جعفر بن قولويه ، يعبر عنه وابن الجنيد ، في كتب الفقه ، بالقديمين ، له : ألمتمسك بحبل آل الرسول ، والكر والفر في الإمامة. من أعيان المائة الرابعة ، ومن معاصري الشيخ الكليني ، انظر : رجال النجاشي : ٤٨ رقم ١٠٠ / الفهرس للشيخ : ٥٤ رقم ١٩٣ و ١٩٤ رقم ٨٨٦ / رياض العلماء ١ : ٢٠٣ ـ ٢٠٩ / أعيان الشيعة ٥ : ١٥٧ / أمل الآمل ٢ : ٦١ ، ٦٨ ، ٧٤ / السرائر : ٩٩ / تنقيح ألمقال ١ : ٢٩١ ، رقم ٢٥١٩ / روضات الجنّات ٢ : ٢٥٩ رقم ١٩٣ / المقابيس : ٧ / نقد الرجال : ٩٣ رقم ٩٢ ، معالم العلماء : ٣٧ رقم ٢٢٢ / الخلاصة : ٤٠رقم ٩.

(٣) حكاه عنه العلامة في المختلف : ٢٣٦.

٦٩

تحبّ وترضى ».

وكأنَّه ـ قدّس الله روحه ـ وجد الأمر بهذا الدعاء في بعض الروايات فحمله على الوجوب ، كما هو مقرر في الأُصول ، ولم يلتفت إلى تفرده بين الأصحاب رضوان الله عليهم بهذا الحكم.

وهذا كحكمه ـرحمه‌الله  ـ بعدم انفعال الماء القليل بملاقاة النجاسة ما لم يتغير(١) ، ولا يعرف به قائل ، من أصحابنا رضي الله عنهم ، سواه.

و حسن الظن به ـ أعلى الله قدره ـ يعطي أنه لم ينعقد في عصره إجماع على ما يخالف مذهبه في المسألتين ، أو أنَّه انعقد ولم يصل إليه ، والله أعلم بحقيقة الحال.

تتمّة :

يمتد وقت الدعاء بامتداد وقت التسمية هلالاً ، والأولى عدم تاخيره عن الاُولى ، عملاً بالمتيقن المتفق عليه لغة وعرفاً. فإن لم يتيسَّر فعن الثانية؟ لقول أكثر أهل اللغة بالامتداد إليها ؛ فإن فاتت فعن الثالثة ؛ لقول كثير منهم بانّها آخرلياليه.

و أما ما ذكره صاحب القاموس ، وشيخنا الشيخ أبو عليرحمه‌الله  ـ من إطلاق الهلال عليه إلى السابعة ـ(٢) فهو خلاف المشهور لغة وعرفاً ، وكأنَّه مجاز ، من قبيل إطلاقه عليه في الليلتين الأخيرتين ، والله أعلم.

________________________

(١) انفرد العمانيقدس‌سره بفتاوى نادرة ، أوردها الفقهاء وأغلب من ترجم له ، منها : قوله بعدم نجاسة الماء القليل بمجرد الملاقاة. ومنها : عدم نجاسة ماء البئر بمجرد الملاقاة. ومنها : جواز تفريق ألسورة من دون الحمد على ركعات السنن. وغيرها انظر : ذكرى الشيعة : ١٩٥ ، المسألة الخامسة / والمختلف : ١ ، ٤.

(٢) تقدم كلامهما في صحيفة : ٦٦.

٧٠

تبصرة :

حكم العلّامة(١) ـ أعلى الله مقامه ـ باستحباب الترائي للهلال ليلتي الثلاثين من شعبان وشهررمضان على الأعيان ، وبوجوبه فيهما على الكفاية.

واستدلَّ ـ طاب ثراه على الوجوب ـ بأن الصوم [٥ / ] واجب في أول شهررمضان ، وكذا الإفطار في العيد ، فيجب التوصل إلى معرفة وقتهما ، لأنَّ ما لايتم الواجب إلَّا به فهو واجب(٢) . هذا كلامه زيد إكرامه.

و أقول : للبحث فيه مجال ، لأنَّه إنَّما يجب صوم ما يعلم أو يظنّ أنّه من شهر رمضان ، لا ما يشك في كونه منه ، وهكذا إنما يجب إفطار ما يعلم أو يظنّ أنَّه العيد ، لا ما يشكّ في أنه هو(٣) ، كيف والأغلب في الشهر أن يكون تامّاً(٤) ، كما يشهد به التتبع؟!.

________________________

(١) الحسن بن يوسف بن المطهر الحلي ، الشهير بالعلّامة ، حاله في الجلالة ، والفقاهة ، والوثاقة ، ووفور العلم في الفنون ، مشهود لها ، كفاه فخراً تلقيبه بالعلّامة ، أول من قسم الأخبار إلى أربعة اقسام. له مؤلفات منها : الخلاصة في الرجال ، منتهى ألمطلب ، تحرير الأحكام ، المختلف ، نهاية الوصول ، الألفين في الإمامة ، مختصر شرح نهج البلاغة ، القواعيد وغيرها. توفي سنة ٧٢٦ = ١٣٢٥ م ونقل جثمانه الشريف إلى النجف الأشرف ، ودفن عند المنارة اليسرى للداخل للحرم العلوي الشريف ومرقده الطاهر يزار ويتبرك به.

انظر : رجال العلامة : ٤٥ رقم ٥٢ / روضات الجنات ٢ : ٢٦٩ رقم ١٩٨ / تنقيح المقال ١ : ٣١٤رقم ٢٧٩٤ / الدرر الكامنة ٢ : ٤٩ رقم ١٥٧٨ وأيضاً ٢ : ٧١ رقم ١٦١٨ / لسان الميزان ٢ : ٣١٧رقم ١٢٩٥ / مرآة الجنان ٤ : ٢٧٦ رجال أبن داود : ٧٨ رقم ٤٦٦ / لؤلؤة البحرين : ٢١٠رقم ٨٢ / رجال بحر العلوم ٢ : ٢٥٧ / نقد الرجال : ٩٩ رقم ١٧٥ / امل الآمل : ١ / ٨١ رقم ٢٢٤ / رياض العلماء ١ : ٣٥٨ / جامع الرواة ١ : ٢٣٠ / مصفى المقال : ١٣١.

(٢) انظر : تذكرة الفقهاء ١ : ٢٦٨ في الفصل السابع من أقسام الصوم / منتهى المطلب ٢ : ٥٩٠.

(٣) وأيضاً فدليله لوتم لدل على الوجوب العيني ، فتامل ،( منه ). قدس سره ، هامش المخطرط.

(٤) وأما ما يوجد في بعض الروايات ، « من أنّ شعبان لا يتم أبداً ورمضان لا ينقص أبداً » فلم يقل به علماؤنا رضي الله عنهم ، وإنّما هو قول بعض الحشوية ، والقول به لا يجامع القول بوجوب الترائي للهلال ليلتي الثلاثين من الشهرين. فلا استحباب ،( منه ). قدس سره ، هامش الأصل.

٧١

هداية :

ا لأدعية المأثورة عند النظر إلى الهلال كثيرة ، فبعضها يعمّ كلّ الشهور ، وبعضها يختص بشهر رمضان.

فمن القسم الأول :

ما رواه الشيخ الصدوق ، عماد الإسلام ، محمد بن علي بن بابويه(١) رحمه‌الله  في كتاب من لا يحضره الفقيه ؛ ورواه أيضا شيخ الطائفة ، أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي(٢) عطر الله تربته ، في كتاب تهذيب الأخبار ، ومصباح المتهجد ، عن أمير المؤمنينعليه‌السلام  أنه قال : « إذا رأيت الهلال فلا تبرح ، وقل :

( اللهم إني أسألك خير هذا الشهر ، وفتحه ونوره ، ونصره ، وبركته ، وطهوره ورزقه ؛ وأسألك خير ما فيه وخير ما بعده ، وأعوذ

________________________

(١) أبو جعفر ، محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي ، رئيس المحدثين ، جليل القدر ، حافظ للحديث ، ثبت ، بصير بالرجال ، كفاه فخراً ولادته بدعاء الحجة عجّل الله فرجه ، نزل الري ، وورد بغداد سنة ٣٥٥ ، حدَّث بها ، وسمع منه جمع كثيرمن الفريقين ، له اكثرمن ٣٠٠ مصنفاً ، رحل إلى الأمصار لطلب الحديث ، حتى بلغ عدد شيوخه اكثر من ٢٥٠ شيخاً ، تخرجعليه جمع من أعيان الطائفة ووجوهها ، أمثال الشيخ المفيد ، والتلعكبري ، وابن القصار ، والنجاشي ، والمرتضى ، من كتبه : من لا يحضره الفقيه ، التوحيد ، كمال الدين ، الأمالي ، عيون الأخبار ، الخصال ، مات سنة ٣٨١ = ٩٩١ م.

انظر : الفهرست : ١٥٦ رقم ٦٩٥ / رجال النجاشي : ٣٨٩ رقم ١٠٤٩ / معالم العلماء : ١١١ رقم ٧٦٤ / رجال بن داود : ١٧٩ رقم ١٤٥٥ / رجال العلامة : ١٤٧ رقم / ٤٤ / روضات الجنات ٦ : ١٣٢ رقم ٥٧٤ / تنقيح المقال ٣ : ١٥٤ رقم ١١١٠٤ / أمل الآمل ٢ : ٢٨٣ / تاريخ بغداد ٣ : ٨٩ رقم ١٠٧٨ رجال بحر العلوم ٣ : ١٩٢ ، وغيرها كثير.

(٢) أبو جعفر الطوسي ، محمد بن الحسن بن علي بن الحسن الطوسي ، نسبة إلى طوس خراسان ، شيخ الإمامية بلا منازع ، ووجههم ، جليل القدر ، عظيم المنزلة ، ثقة ، عين صدوق ، له اليد الطولى في الأخبار ، والرجال ، والفقه. له اكئر من ٤٠ مؤلفاً لا زالت تحتل المكانة السامية بين آلاف المؤلفات ، غرة ناصعة في جبين الدهر ، منها : كتاب الخلاف ، الأبواب في الرجال ، التهذيب ، الاستبصار ، التبيان في التفسير ، الاقتصاد وغيرها روى عن ابن الحاشر ، وابن الصلت الاهوازي ، وابن الغضائري ، وابن الجنيد ، وشيخ الأمة المفيد ، وغيرهم. أخذ عنه

٧٢

بك من شر ما فيه وشر ما بعده ؛ اللهم أدخله علينا بالأمن والإيمان ، والسلامة والإسلام والبركة ، والتوفيق لما تحب وترضى ) » (١) .

و منه ما رواه الشيخ الصدوق أيضاً ، في كتاب عيون أخبار الرضاعليه‌السلام  ، عن أمير المؤمنينعليه‌السلام  قال : « كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا رأى الهلال قال : «أيها الخلق المطيع ، الدائب السريع ، المتصرف في ملكوت الجبروت بالتقدير ، ربي وربك الله. أللهم أهلّه علينا بالأمن والإيمان ، والسلامة والإسلام والإحسان ، وكما بلَّغتنا أوله فبلّغنا آخره ، واجعله شهراً مباركاً ، تمحو فيه السيئات ، وتثبت لنا فيه الحسنات ، وترفع لنا فيه الدرجات ، يا عظيم الخيرات ) »(٢) .

و منه ما أورده السيد الجليل الطاهر ، ذو المناقب والمفاخر ، رضي الدين علي بن طاووس(٣) قدس الله نفسه ، ونوّر رمسه ، في كتاب الزوائد

________________________

جمع منهم ولده ، وابن شهر آشوب ، وابن البراج ، وحسكا ، وأبو الصلاح ، والطبري ، والآبي ، والطرابلسي ، توفي سنة ٤٦٠ هـ = ١٠٦٧ م ودفن بداره في النجف الأشرف.

انظر : البداية والنهاية ١٢ : ٩٧ / لسان الميزان ٥ : ١٣٥ رقم ٤٥٢ / الكامل ١٠ : ٢٤ / المنتظم ٨ : ١٧٣ / جامع الرواة ٢ : ٩٢ / مقابيس الأنوار : ٤ / معالم العلماء : ١١٤ رقم ٧٦٦ / تنقيح المقال ٣ : ١٠٤ رقم ٨٠٥٦٣ / الخلاصة : ١٤٨ رقم ٤٦ / رجال النجاشي : ٤٠٣ رقم ١٠٦٨ / الفهرست للطوسي : ١٥٩ رقم ٦٩٩.

(١) من لا يحضره الفقيه ٢ : ٦٢ حديث ٢٦٨ / التهذيب ٤ : ١٩٧ حديث ٥٦٤ / ومصباح المتهجد : ٤٨٦ وفيهما هكذا( والبركة والتقوى والتوفيق ).

(٢) عيون أخبار الرضا ٢ : ٧١ حديث ٣٢٩.

(٣) رضي الدين ، علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن طاووس الحسني العلوي ، البيان والقلم أعجز من أن يذكره بشيء ، إذ جلالته وفضله ، وزهده وعبادته ، وعظم منزلته شيء لا يحاط به.كان كثير ألحفظ ، نقي الكلام ، شاعراً بليغاً ، له مصنفات كثيرة منها : فرج ألهموم ، رسالة في الإجازات ، مصباح الزائر ، فرحة ألناظر ، الطرائف ، الطرف ، غياث سلطان الورى لسكان الثرى ، وغيرها كثير ، مات سنة ٦٦٤ هـ = ١٢٦٥ م.

انظر : روضات الجنات ٤ : ٣٢٥رقم ٤٠٥ / عمدة الطالب : ٢١٩ / تنقيح المقال ٢ : ٣١٠ رقم ٨٥٢٩ / المقابيس : ١٢ / نقد الرجال : ٢٤٤ رقم ٢٤١ / جامع الرواة ٢ : ٦٠٣ / رياض العلماء ٤ : ١٦١ / لؤلؤة البحرين : ٢٣٥ رقم ٨٤ / خاتمة المستدرك ٣ : ٤٦٧ / معجم رجال الحديث

٧٣

والفوائد(١) . وهو أن يقول عند رؤيته [ ٦ / ] : «ربي وربك الله رب العالمين. اللهمَّ صلّ على محمد وآل محمد ، وأهله علينا وعلى أهل بيوتاتنا ، وأشياعنا بأمن وإيمان ، وسلامة وإسلام ، وبرّ وتقوى ، وعافية مجللة ، ورزق واسع حسن ، وفراغ من الشغل ، واكفنا بالقليل من النوم ، ووفقنا للمسارعة فيما تحب وترضى وثبتنا عليه ؛ اللهم بارك لنا في شهرناهذا ، وارزقنا بركته وخيره ، وعونه وغُنمه ، ونُوره ويُمنه ، ورحمته ومغفرته ، واصرف عنَّا شره وضره ، وبلاءه وفتنته ؛ اللهمّ ما قسمت فيه من رزق أو خير أو عافية أو فضل ، أو مغفرة أو رحمة فأجعل نصيبنا منه الاكثر ، وحظّنا فيه الأوفر » (٢) .

ومنه ما أورده أيضاً في الكتاب المذكور وهو أن يقول عند رؤيته :

« الله أكبر ـ ثلاثا ـ ربي وربك الله لا إله إلَّا هو رب العالمين ،

________________________

١٢ : ١٨٨ / الأعلام ٥ : ٢٦ / معجم المؤلفين ٧ : ٢٤٨ وغيرها.

(١) اختلفت الآراء في مؤلف الكتاب( الزوائد والفوائد ) ، وكذا في اسمه ، حيث ورد تارة : الزوائدوالفوائد ، وأخرى : زوائد الفوائد.

وأما المؤلف فقد نسبه العلامة المجلسي في البحار ١ : ١٣ ، وصاحب الروضات ٤ : ٣٣٨ ، وشيخ الذريعة ١٢ : ٥٩ ، الى رضي الدين علي بن علي بن طاووس ، اي « الابن ». واليه مال السيد المشكاة كما حكى عن مقدمته للصحيفة السجادية.

ونسبه الشيخ البهائي لرضي الدين علي بن طاووس « الأب » كما هنا وفي موضع آخر وهو واضح.

ثم إن ما نسبه صاحب الروضات الى الشيخ البهائي من نسبته الكتاب الى الابن في الحديقة الهلالية فهو كما ترى. ولا أعلم كيف استفاد ذلك من هذه العبارة الصريحة.

والحق موقوف على الحصول على نسخة كاملة للكتاب لمعرفة المؤلف إذ النسخة ألموجودة في جامعة طهران ـ على ما جاء وصفها في فهرستها للمخطوطات ١ : ١٢٧ ـ ناقصة الأول والآخر ، والكاتب امي والنسخة مغلوطة جدا ، ومع هذه الصفات لا يمكن الركون والاعتماد في النسبة عليها.

هذا كلّه اضافة إلى ما كرره في الإقبال من النقل عن كتاب الزوائد والفوائد صريحاً.

ومع اعتراف شيخ الذريعة قدس سره بذلك لا أعرف وجها لحمله كلام ابن طاووس على إرادة المعنى اللغوي الوصفي وصرفه عن ظاهره حيث يقول السيد في عمل ذي الحجة ما لفظه : [ وقد ذكرنا في كتاب الزوائد والفوائد في عمل ] تلاحظ.

(٢) الزوائد والفوائد : مخطوط ، ألإقبال : ١٨.

٧٤

ا لحمد لله الذي خلقني وخلقك ، وقدّرك منازل ، وجعلك اية للعالمين ، يباهي الله بك الملائكة ؛ الّلهم أهله علينا بالأمن والإيمان ، والسلامة والإسلام ، والغبطة والسرور ، والبهجة والحبور ، وثبتنا على طاعتك ، والمسلارعة فيما يرضيك ؛ اللهم بارك لنا في شهرناهذا ، وارزقنا خيره وبركته ، ويمنه وعونه وقوته ، واصرف عناشره وبلاءه وفتنته ، برحمتك يا أرحم الراحمين » (١) .

و من القسم الثاني :

ما رواه ركن الملة ، ثقة الإسلام ، محمد بن يعقوب الكليني(٢) ـ سقى الله ضريحه صوب الرضوان ـ في كتاب الكافي ؛ ورواه آية الله العلَّآمة طاب ثراه في التذكرة ، ومنتهى المطلب ؛ عن الإمام أبي جعفر محمد بن علي الباقرعليه‌السلام  قال : « كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا أهل شهررمضاناستقبل القبلة ورفع يديه فقال: ( الّلهمّ أهلّه علينا بالأمن والإيمان ، والسلامة والإسلام والعافية المجللة ، والرّزق الواسع ، ودفع الأسقام ؛ اللهمّ ارزقنا صيامه وقيامه وتلاوة القرآن فيه ، وسلّمه لنا ،

________________________

(١) الزوائد والفوائد : مخطوط ، الإقبال : ١٩.

(٢) أبو جعفر الرازي ، محمد بن يعقوب بن اسحاق الكليني ، المشهور بثقة الإسلام ، شيخ الطائفة ووجههم في الري ، القلم عاجز عن بيان فضله ، وجلالة قدره ، وورعه وعلو منزلته ، هو اشهر.

من أن يحيط به بيان ، له كتب منها الكافي اشهرها ، أحد الاصول الحديثية المعتمدة لدى الطائفة ، صنفه في عشرين سنة ، يعد من مجددي المذهب على رأس المائة الثالثة ، توفي والصيمري آخر السفراء في سنة واحدة ، وسميت بسنة تناثر النجوم.

مات ببغداد سنة ٣٢٨ = ٩٣٩ م ودفن في بقعة على يسار العابر من الرصافة.

انظر : تنقيح المقال ٣ : ٢٠١ رقم ١١٥٤٠ / رجال بحر العلوم ٣ : ٣٢٥ / رجال الشيخ : ٤٩٥ رقم ٢٧ / الفهرست : ١٣٥ رقم ٥٩١ / رجال النجاشي : ٣٧٧ / ١٠٢٦ / فلك النجاة : ٣٣٧ / جامع الأصول ١١ : ٣٢٣ / روضات الجنات ٦ : ١٠٨ رقم ٨ / تاج العروس ٩ : مادة كلين / عوائد الأيام : ٢٩٧ / الكامل ٦ : ٢٧٤ / لسان الميزان ٥ : ٤٣٣ رقم ١٤١٩ / وانظر مقدمة الكافي بقلم البحاثة الأستاذ حسين محفوظ في طبعة ١٣٨٨ لدار الكتب الاسلامية.

٧٥

وتسلّمه منّا ، وسلّمنا فيه ) (١) .

و منه ما أورده الشيخ الصدوق طاب ثراه في كتاب من لا يحضره الفقيه أيضاً ، نقلا عن أبيهرضي‌الله‌عنه في الرسالة ـ وذكر السيد الجليل الطاهر المشار إليه [٧ / ] أنّه مروي عن الصادقعليه‌السلام  ـ قال : إذا رأيت هلال شهر رمضان فلا تشر إليه ، ولكن استقبل القبلة وارفع يديك إلى الله عزّ وجلّ وخاطب الهلال ، وقل :« ربي وربك الله رب العالمين ؛ اللّهمّ أهلّه علينا بالأمن والإيمان ، والسلامة والإسلام ، والمسارعة إلى ما تحب وترضى ؛اللّهمَّ بارك لنا في شهرنا هذا ، وارزقنا عونه وخيره ، واصرف عنّاضرّه وشرّه ، وبلاءه وفتنته » (٢) .

تنبيه :

يستفاد من هذه الروايات بعض الآداب التي ينبغي مراعاتها حال قراءة الدعاء عند رؤية الهلال :

فمنها : أن تكون قراءة الدعاء قبل الانتقال من المكان الذي رأى فيه الهلال ، كما تضمنته الرواية الأول ، فإن قولهعليه‌السلام  « لا تبرح » أي لا تَزُل عن مكانك الذي رأيته فيه(٣) .

و منها : استقبال القبلة حال الدعاء ، كما تضمنه الحديث المروي عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله من أنَّه كان يفعل ذلك(٤) .

و منها : رفع اليدين إلى الله عزَّ وجلَّ وقت قراءة الدعاء ، كما تضمنه الحديثان الأخيران(٥) .

________________________

(١) الكافي ٤ : ٧٠ حديث ١ / تذكرة الفقهاء ١ : ٢٦٨ / منتهى المطلب ٢ : ٥٩٠ وفي المصادر هكذا ( اللهم سلمه لنا ) / الفقيه ٢ : ٦٢ حديث ٢٦٩.

(٢) الفقيه ٢ : ٦٢ ذيل الحديث ٢٦٩ ، والاقبال : ١٨.

(٣) انظرصحيفة ٧١ ، وهي ما روي عن أمير المؤمنينعليه‌السلام .

(٤) انظر صحيفة ٧٤ ، وهي رواية الامام الباقرعليه‌السلام .

(٥) انظر صحيفة ٧٤ ، ٧٥ وهما روايتا الإمامين الباقر والصادقعليهما‌السلام .

٧٦

ولا خصوصية لهذين الأمرين بهلال شهر رمضان ، وإن تضمن الخبران انّ فعل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذلك كان في هلاله ، وكذلك أمر الصادقعليه‌السلام  بذلك ، بل لا خصوصية لهما بدعاء الهلال ، فانهما يعمّان كلدعاء [ ٨ / ].

و منها : أن لا يشير إلى الهلال بيده ولا برأسه ، ولا بشيء من جوارحه ، كما تضمنته الرواية الأخيرة(١) ، ولعلّ هذا أيضا غيرمختص بهلال شهر رمضان.

و منها : أن يخاطب الهلال بالدعاء ، ولعل المراد خطابه بما يتعلق به من الألفاظ ، نحو « ربي وربك الله رب العالمين » وكأوَّل الدعاء الذي أوجبه ابن أبي عقيلرحمه‌الله  (٢) ، وكاكثر ألفاظ هذا الدعاء الذي نحن بصدد شرحه.

و قد يُظنّ التنافي بين مخاطبة الهلال واستقبال القبلة في البلاد التي قبلتها على سمت المشرق.

وليس بشيء ، لأنَّ الخطاب ليس إلَّا توجيه الكلام نحو الغير للإفهام ، وهو لا يستلزم مواجهة المخاطب واستقباله ، إذ قد يخاطب الإنسان من هو وراءه.

ويمكن أن يقال : استقبال الداعي الهلال وقت قراءة ما يتعلق بمخاطبته من فصول الدعاء ، واستقبال القبلة في الفصول الاُخر.

وأما رفع اليدين فالظاهر أنَّه في جميع الفصول ، وإن كان تخصيصه بما عدا الفصول المخاطب بها الهلال غير بعيد ، والله أعلم.

تذكرة فيها تبصرة :

قد عرفت أنَّه يمتد وقت الدعاء بامتداد وقت التسمية هلالاً ، ولو قيل بامتداد ذلك إلى ثلاث ليال لم يكن بعيدا ، فلو نذر قراءة دعاء الهلال عند

________________________

(١) انظر صحيفة ٧٥. وهي رواية الإمام الصادقعليه‌السلام .

(٢) انظر صحيفة ٦٨ ، و ٧٣.

٧٧

رؤيته ، وقلنا بالمجازية فيما فوق الثلاث [٩ / أ] ، لم تجب عليه القراءة برؤيته فيما فوقها ، حملاً للمطلق على الحقيقة ؛ وهل تشرع؟ ألظاهر نعم إن رآه في تتمة السبع ، رعاية لجانب الاحتياط ، أما فيما فوقها فلا ، لأنه تشريع.

و لو رآه يوم الثلاثين فلا وجوب على الظاهر لعدم تسميته حينئذٍ هلالاً.

و ما في حسنة حماد بن عثمان(١) ـ عن الصادقعليه‌السلام  من إطلاق إسالهلال عليه قبل الغروب(٢) ـ لعله مجاز ، إذ الأصل عدم النقل.

ولو لم يره حتى مضت الثلاث فاتفق وصوله إلى بقعة شرقية هو فيها هلال فرآه هناك لم يبعد القود بوجوبه عليه حينئذٍ ، كما لا يبعد القول بوجوب الصوم على من رأى هلال شهر رمضان فصام ثلاثين ثم سافر إلى بلد مضى فيه من شهررمضان تسعة وعشرون ولم يُر فيه الهلال ليلة الثلاثين ، وهو مختار العلامة طاب ثراه في القواعد(٣) .

وقد استدلَّ عليه ـ ولده فخر المحققين(٤) رحمه‌الله  في الإيضاح بأنَّ

________________________

(١) حمَّاد بن عثمان بن زياد الرواسي ، الملقب بالناب ، من أصحاب الأئمة الصادق والكاظم والرضا: ، من الثقات الأجلاء ، وهكذا اخوته ، فهم من بيت فضل وعلم من خيار الشيعة ، وهو ممن أجمعت العصابة على تصحيح ما يصح عنه ، وأقرّوا له بالفقه ، لم يختلف في توثيقه اثنان ، روى عنه ابن أبي عمير ، والوشّاء ، والحسن بن علي بن فضال ، وفضالة ، وغيرهم مات سنة ١٩٠ هـ =٨٠٥ م.

راجع : تنقيح المقال ١ : ٣٦٥ رقم ٣٣١٣ / رجال الشيخ : ١٧٣ رقم ١٣٩ و ٣٤٦ رقم ٢ و ٣٧١رقم ١ / الفهرست : ٦٠ رقم ٢٣٠ / الخلاصة : ٥٦ رقم ٣ / جامع الرواة ١ : ٢٧١ / مجمع الرجال ٢ : ٢٢٧.

(٢) التهذيب ٤ : ١٧٦ حديث ٤٨٨ / والاستبصار ٢ : ٧٣ حديث ٢٢٥ ألكافي ٤ : ٧٨ حديث ١٠. والغروب اشارة الى آخر الشهر.

(٣) قواعد الأحكام : ٦٩ ـ ٧٠.

(٤) أبو طالب ، محمد بن الحسن بن يوسف بن المطهر الحلي ، فخر المحققين وجه وجوه الطائفة ، جليل القدر ، عظيم المنزلة ، رفيع الشأن ، جيد التصنيف لما امتاز به من وفور العلم والفقاهة ، وطول الباع في كثير من ألعلوم ، أوصى اليه والده العلامة في آخر القواعد ـ الذي صنفه له ولمَّا يبلغ العاشرة ـ باتمام ما بقي ناقصاً من كتبه ، بلغ رتبة الاجتهاد في العاشرة من عمره ، له مصنفات

٧٨

الاعتبار في الأهلَّة بالموضع الذي فيه الشخص ألآن لا بموضع كان يسكنه ، وإلاَّ لوجب على الغائب عن بلده الصوم برؤية الهلال في بلده ، وهو باطل إجماعاً(١) ، هذا ملخص كلامه.

و أقول : فيه بحث ، فإنَّ من اعتبر موضعاً كان يسكنه لم يعتبره من حيث سبق سكناه فيه ، بل من حيث رؤيته الهلال فيه سابقأ ، فكلّفه العمل بمقتضى تلك الرؤية ، فمن أين يلزمه وجوب الصوم على الغائب عن بلده برؤية غيره الهلال فيه؟! فتأمل.

بسط كلام لإبراز مرام :

تحقق أمثال هذه المسائل المبنية على تخالف الآفاق في تقدم طلوع الأهلّة وتأخرها ظاهر ، بناء على ما ثبت من كروية الأرض ، والذين أنكروا كرويتها فقدأنكروا تحققها ، ولم نطلع لهم على شبهة في ذلك فضلا عن دليل.

و الدلائل الآتية المذكورة في المجسطي(٢) ـ وغيره ـ شاهدة بكرويتها ، وان كانت شهادة الدليل الّلمِّي المذكور في الطبيعي مجروحة [٩ / ب].

و قد يتوهم أن القول بكرويّتها خلاف ما عليه أهل الشرع ، وربّما استند ببعض الآيات الكريمة كقوله تعالى :( الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ

________________________

منها : ايضاح الفوائد ، شرح خطبة القواعد ، الفخرية في النية ، حاشية الارشاد ، الكافية في الكلام ، مات سنة ٧٧١ هـ = ١٣٦٩.

انظر : هدية الأحباب : ٢٨٨ / روضات الجنات ٦ : ٣٣٠ رقم ٥٩١ / جامع الرواة ٢ : ٩٦ تنقيح المقال ٣ : ١٠٦ رقم ١٠٥٨١ / الفوائد الرضوية : ٤٨٦ / خاتمة المستدرك ٣ : ٤٥٩ نقد الرجال : ٣٠٢ رقم ٢٥٣ أمل الآمل ٢ : ٢٦٠ رقم ٧٦٨ / أعيان الشيعة ٩ : ١٥٩.

(١) إيضاح الفوائد ١ : ٢٥٢.

(٢) المجسطي ـ بكسر الميم والطاء وفتح الجيم وتخفيف الياء ـ كلمة يونانية ، اصلها ماجستوس ، اسم لأهم بل لأشرف ما صنّف في عالم الهندسة الفلكية بأدلتها التفصيلية ، وكل من جاء بعد كان عيالاً عليه من دون استثناء ، مؤلفه الحكيم بطليموس الفلوزي ، عُرِّب قديماً بواسطة جمع ، ونقح أيضا وشرح. للتفصيل راجع كشف الظنون ٢ : ١٥٩٤ / ولغة نامه دهخدا ٤١ : ٤٥٥ / وفرهنك جامع فارسي( آنندراج ) ٦ : ٣٨٥٤.

٧٩

فِرَاشاً ) (١) ، وقوله سبحانه :( أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا) (٢) وقوله جلَّ شأنه :( وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ ) (٣) ، وأمثال ذلك ، ولا دلالة في شيء منها على ما ينافي الكروية.

قال في الكشّاف عند تفسير الاية الاُولى ، فإن قلت : هل فيه دليل على أنّ الأرض مسَّطحة وليست بكرّية؟.

قلت : ليس فيه إلَّا أنَّ الناس يفتر شونها كما يفعلون بالمفارش ، وسواءكانت على شكل السطح أو شكل الكرة فالافتراش غير مستنكر ولا مدفوع؛ لعظم حجمها ، واتساع جرمها ، وتباعد أطرافها. وإذا كان متسهّلاً في الجبل وهو وتد من أوتاد الأرض ، فهو في الأرض ذات الطول والعرض أسهل(٤) . إنتهى كلامه.

و قال(٥) في التفسير الكبير : من الناس من يزعم أنَّ الشرط في كون الأرض فراشاً أن لا تكون كرة ، فاستدلَّ بهذه الاية على أن الأرض ليست كرة ، وهذا بعيد جدا ، لأنَّ الكرة إذا عظمت جداً كان كل قطعة منها كالسطح(٦) ، انتهى.

و كيف يتوهم متوهم أن القول بكروية الأرض خلاف ما عليه أهل الشرع!! وقد ذهب إليه كثيرمن علماء الإسلام ، وممن قال به صريحاً من فقهائنا ـ رضوان الله عليهم ـ العلّامة آية الله ، وولده فخر المحققين قدس سرهما.

________________________

(١) البقرة ، مدنية ، ٢ : ٢٢.

(٢) النبأ ، مكية ، ٧٨ : ٦.

(٣) الغاشية ، مكية ، ٨٨ : ٢٠

(٤) تفسير الكشاف ١ : ٩٤

(٥) أبوعبدالله محمد بن عمر بن الحسين الطبرستاني الرازي ، ابن الخطيب الشافعي الأشعري. العالم الاُصولي المتكلّم المشارك في العلوم. أخذ عن والده والكمال السمناني والجيلي. له التفسير ، المباحثالمشرقية ، الملخّص ، المحصّل. توفي سنة ٦٠٦ هـ = ١٢٠٩ م بهراة.

له ترجمة في : تاريخ الحكماء : ١ ٢٩ / وفيات الأعيان ٤ : ٢٤٨ ت / طبقات السبكي ٥ : ٢٣ / وانظرسيرأعلام النبلاء ٢١ : ٥٠٠ ت ٢٦١ ومصادره.

(٦) التفسير الكبير للفخر الرازي ٢ : ١٠٤.

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

في الكامل و الطبرانيّ و ابن مردويه عن ابن عبّاس: أنّ رجلاً أتى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال: يا رسول الله إنّي إذا أكلت اللحم انتشرت للنساء و أخذتني شهوتي، و إنّي حرّمت عليّ اللحم فنزلت:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ ) .

و فيه: أخرج ابن جرير و ابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم: أنّ عبدالله بن رواحة ضافه ضيف من أهله و هو عند النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثمّ رجع إلى أهله فوجدهم لم يطعموا ضيفهم انتظاراً له، فقال لامرأته: حبسّت ضيفي من أجلي هو حرام عليّ، فقالت امرأته: هو عليّ حرام، قال الضيف: هو عليّ حرام، فلمّا رأى ذلك وضع يده و قال: كلوا بسم الله، ثمّ ذهب إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأخبره، فقال النبي:صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد أصبت فأنزل الله:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ ) .

أقول: من الممكن أن يكون السببان المذكوران في الروايتين الأخيرتين من تطبيق الرواة، و هو شائع في روايات أسباب النزول، و من الممكن أن يقع لنزول الآية أسباب عديدة.

و في تفسير العيّاشيّ، عن عبدالله بن سنان قال: سألته عن رجل قال لامرأته: طالق، أو مماليكه أحرار إن شربت حراماً و لا حلالاً فقال: أمّا الحرام فلا يقربه حلف أو لم يحلف، و أمّا الحلال فلا يتركه فإنّه ليس أن يحرّم ما أحلّ الله لأنّ الله يقول:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ ) فليس عليه شي‏ء في يمينه من الحلال.

و في الكافي، بإسناده عن مسعدة بن صدقة عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: سمعته يقول في قول الله عزّوجلّ:( لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ ) قال:( اللغو) قول الرجل:( لا و الله، و بلى و الله) و لا يعقد على شي‏ء.

أقول: و روى العيّاشيّ في تفسيره عن عبدالله بن سنان مثله، و عن محمّد بن مسلم مثله و فيه: و لا يعقد عليها.

و في الدرّ المنثور: أخرج ابن جرير عن ابن عبّاس قال: لما نزلت:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ ) في القوم الّذين حرّموا النساء و اللحم على

١٢١

أنفسهم قالوا: يا رسول الله كيف نصنع بأيماننا الّتي حلفنا عليها؟ فأنزل الله:( لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ ) .

أقول: و الرواية تشاكل ذيل الرواية الاُولى الّتي أوردناها في صدر البحث غير أنّها لا تنطبق على ظاهر الآية فإنّ الحلف على ترك واجب أو مباح لا يخلو من عقد عليه، و قد قوبل في الآية قوله:( بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ ) بقوله:( بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ ) و دلّ ذلك على كون اللغو من اليمين ما لا عقد عليه، و هذا الظاهر إنّما يوافق الرواية المفسّرة للغو اليمين بقول القائل: لا و الله، و بلى و الله، من غير أن يعقد على شي‏ء، و أمّا اليمين الملغاة شرعاً ففيها عقد على ما حلف عليه فالمتعيّن أن يستند إلغاؤه إلى السنّة دون الكتاب.

على أنّ سياق الآية أدّل دليل على أنّها مسوقة لبيان كفّارة اليمين و الأمر بحفظها استقلالاً لا على نحو التطفّل كما هو لازم هذا التفسير.

١٢٢

( سورة المائدة الآيات ٩٠ - ٩٣)

يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا إِنّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلّكُمْ تُفْلِحُونَ( ٩٠) إِنّمَا يُرِيدُ الشّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصّلاَةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ( ٩١) وَأَطِيعُوا اللّهَ وَأَطِيعُوا الرّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِن تَوَلّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنّمَا عَلَى‏ رَسُولِنَا الْبَلاَغُ الْمُبِينُ( ٩٢) لَيْسَ عَلَى الّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيَما طَعِمُوا إِذَا مَا اتّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحَاتِ ثُمّ اتّقَوْا وَآمَنُوا ثُمّ اتّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللّهُ يُحِبّ الْمُحْسِنِينَ( ٩٣)

( بيان)

الآيات متلائمة سياقاً فكأنّها نزلت دفعة أو هي متقاربة نزولاً، و الآية الأخيرة بمنزلة دفع الدخل على ما سنبيّنه تفصيلاً، فهي جميعاً تتعرّض لحال الخمر، و بعضها يضيف إليها الميسر و الأنصاب و الأزلام.

و قد تقدّم في قوله تعالى:( يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَ مَنافِعُ لِلنَّاسِ وَ إِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما ) البقرة: ٢١٩، في الجزء الأوّل، و في قوله تعالى:( يا أَيُّهَا الّذينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَ أَنْتُمْ سُكارى‏ حتّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ ) النساء: ٤٣ في الجزء الرابع من هذا الكتاب أنّ هاتين الآيتين مع قوله تعالى:( قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَ ما بَطَنَ وَ الْإِثْمَ ) الأعراف: ٣٣، و هذه الآية المبحوث عنها:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ وَ الْأَنْصابُ وَ الْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ - إلى قوله -فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ ) إذا انضمّ بعضها إلى بعض دلّت سياقاتها المختلفة على تدرّج الشارع في تحريم الخمر.

لكن لا بمعنى السلوك التدريجيّ في تحريمها من تنزيه و إعافة إلى كراهية إلى

١٢٣

تحريم صريح حتّى ينتج معنى النسخ، أو من إبهام في البيان إلى إيضاح أو كناية خفيّة إلى تصريح لمصلحة السياسة الدينيّة في إجراء الأحكام الشرعيّة فإنّ قوله تعالى:( وَ الْإِثم ) آية مكّيّة في سورة الأعراف إذا انضمّ إلى قوله تعالى:( قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ ) و هي آية مدنيّة واقعة في سورة البقرة أوّل سورة مفصّلة نزلت بعد الهجرة أنتج ذلك حرمة الخمر إنتاجاً صريحاً لا يدع عذراً لمعتذر، و لا مجالاً لمتأوّل.

بل بمعنى أنّ الآيات تدرّجت في النهي عنها بالتحريم على وجه عامّ و ذلك قوله تعالى:( وَ الْإِثْمَ ) ، ثمّ بالتحريم الخاصّ في صورة النصيحة و ذلك قوله:( قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَ مَنافِعُ لِلنَّاسِ وَ إِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما ) ، و قوله:( لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَ أَنْتُمْ سُكارى‏ حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ ) إن كانت الآية ناظرة إلى سكر الخمر لا إلى سكر النوم، ثمّ بالتحريم الخاصّ بالتشديد البالغ الّذي يدلّ عليه قوله:( إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ وَ الْأَنْصابُ وَ الْأَزْلامُ رِجْسٌ إلى قوله فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ ) الآيتان.

فهذه الآيات آخر ما نزل في تحريم الخمر يدلّ على ذلك أقسام التأكيد المودعة فيها من( إِنَّما ) و التسمية بالرجس، و نسبته إلى عمل الشيطان، و الأمر الصريح بالاجتناب، و توقّع الفلاح فيه، و بيان المفاسد الّتي تترتّب على شربها، و الاستفهام عن الانتهاء، ثمّ الأمر بإطاعة الله و رسوله و التحذير عن المخالفة، و الاستغناء عنهم لو خالفوا.

و يدلّ على ذلك بعض الدلالة أيضاً قوله تعالى في ذيل الآيات:( لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ ) إلخ بما سيأتي من الإيضاح.

قوله تعالى: ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ ) إلى آخر الآية قد تقدّم الكلام في أوّل السورة في معنى الخمر و الميسر و الأنصاب و الأزلام فالخمر ما يخمر العقل من كلّ مائع مسكر عمل بالتخمير، و الميسر هو القمار مطلقاً، و الأنصاب هي الأصنام أو الحجارة الّتي كانت تنصب لذبح القرابين عليها و كانت تحترم و يتبرّك بها، و الأزلام هي الأقداح الّتي كانت يستقسم بها، و ربّما كانت تطلق على السهام الّتي كانت يتفاءل بها عند ابتداء الاُمور و العزيمة عليها كالخروج إلى سفر و نحوه

١٢٤

لكنّ اللفظ قد وقع في أوّل السورة للمعنى الأوّل لوقوعه بين محرّمات الأكل فيتأيّد بذلك كون المراد به ههنا هو ذلك.

فإن قلت: الميسر بعمومه يشمل الأزلام بالمعنى الآخر الّذي هو الاستقسام بالأقداح، و لا وجه لإيراد الخاصّ بعد العامّ من غير نكتة ظاهرة فالمتعيّن حمل اللفظ على سهام التفؤل و الخيرة الّتي كان العمل بها معروفاً عندهم في الجاهليّة قال الشاعر:

فلئن جذيمة قتلت ساداتها

فنساؤها يضربن بالأزلام

و هو - كما روي - أنّهم كانوا يتّخذون أخشاباً ثلاثة رقيقة كالسهام أحدها مكتوب عليه( افعل) و الثاني مكتوب عليه لا تفعل و الثالث غفل لا كتابة عليه فيجعلها الضارب في خريطة معه و هي متشابه فإذا أراد الشروع في أمر يهمّه كالسفر و غير ذلك أخرج واحداً منها فإن كان الّذي عليه مكتوب( افعل) عزم عليه، و إن خرج الّذي مكتوب عليه( لا تفعل) تركه، و إن خرج الثالث أعاد الضرب حتّى يخرج واحد من الأوّلين، و سميّ استقساماً لأنّ فيه طلب ما قسّم له من رزق أو خير آخر من الخيرات.

فالآية تدلّ على حرمته لأنّ فيه تعرّضاً لدعوى علم الغيب، و كذا كلّ ما يشاكله من الأعمال كأخذها الخيرة بالسبحة و نحوها.

قلت: قد عرفت أنّ الآية في أوّل السورة:( وَ أَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ) ظاهرة في الاستقسام بالأقداح الّذي هو نوح من القمار لوقوعه في ضمن محرّمات الأكل، و يتأيّد به أنّ ذلك هو المراد بالأزلام في هذه الآية.

و لو سلّم عدم تأيّد هذه بتلك عاد إلى لفظ مشترك لا قرينة عليه من الكلام تبيّن المراد فيتوقّف على ما يشرحه من السنّة، و قد وردت عدّة أخبار من أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام في جواز الأخذ بالخيرة من السبحة و غيرها عند الحيرة.

و حقيقته أنّ الإنسان إذا أراد أن يقدم على أمر كان له أن يعرف وجه المصلحة فيه بما أغرز الله فيه من موهبة الفكر أو بالاستشارة ممّن له صلاحيّة المعرفة بالصواب

١٢٥

و الخطأ، و إن لم يهده ذلك إلى معرفة وجه الصواب، و تردّد متحيّراً كان له أن يعيّن ما ينبغي أن يختاره بنوع من التوجّه إلى ربّه.

و ليس في اختيار ما يختاره الإنسان بهذا النوع من الاستخارة دعوى علم الغيب و لا تعرّض لما يختصّ بالله سبحانه من شؤون الاُلوهيّة، و لا شرك بسبب تشريك غير الله تعالى إيّاه في تدبير الاُمور و لا أيّ محذور دينيّ آخر إذ لا شأن لهذا العمل إلّا تعيّن الفعل أو الترك من غير إيجاب و لا تحريم و لا أيّ حكم تكليفيّ آخر، و لا كشف عمّا وراء حجب الغيب من خير أو شرّ إلّا أنّ خير المستخير في أن يعمل أو يترك فيخرج عن الحيرة و التذبذب.

و أمّا ما يستقبل الفعل أو الترك من الحوادث فربّما كان فيه خير و ربّما كان فيه شرّ على حدّ ما لو فعله أو تركه عن فكر أو استشارة، فهو كالتفكّر و الاستشارة طريق لقطع الحيرة و التردّد في مقام العمل، و يترتّب على الفعل الموافق له ما كان يترتّب عليه لو فعله عن فكر أو مشورة.

نعم ربّما أمكن لمتوهّم أن يتوهّم التعرّض لدعوى علم الغيب فيما ورد من التفؤّل بالقرآن و نحوه فربّما كانت النفس تتحدّث معه بيمن أو شأمة، و تتوقّع خيراً أو شرّاً أو نفعاً أو ضرّاً، لكن قد ورد في الصحيح من طرق الفريقين: أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يتفأل بالخير و يأمر به، و ينهى عن التطيّر و يأمر بالمضيّ معه و التوكّل على الله تعالى.

فلا مانع من التفؤل بالكتاب و نحوه فإن كان معه ما يتفأل به من الخير و إلّا مضى في الأمر متوكّلاً على الله تعالى، و ليس في ذلك أزيد ممّا يطيب به الإنسان نفسه في الاُمور و الأعمال الّتي يتفرّس فيها السعادة و النفع، و سنستوفي البحث المتعلّق بهذا المقام في كلام موضوع لهذا الغرض بعينه.

فتبيّن أنّ ما وقع في بعض التفاسير من حمل الأزلام على سهم التفأل و استنتاج حرمة الاستخارة بذلك ممّا لا ينبغي المصير إليه.

و أمّا قوله:( رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ ) فالرجس الشي‏ء القذر على ما ذكره الراغب

١٢٦

في مفرداته فالرجاسة بالفتح كالنجاسة و القذارة هو الوصف الّذي يبتعد و يتنزّه عن الشي‏ء بسببه لتنفّر الطبع عنه.

و كون هذه المعدودات من الخمر و الميسر و الأنصاب و الأزلام رجساً هو اشتمالها على وصف لا تستبيح الفطرة الإنسانيّة الاقتراب منها لأجله، و ليس إلّا أنّها بحيث لا تشتمل على شي‏ء ممّا فيه سعادة إنسانيّة أصلاً سعادة يمكن أن تصفو و تتخلّص في حين من الأحيان كما ربّما أومأ إليه قوله تعالى:( يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَ مَنافِعُ لِلنَّاسِ وَ إِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما ) البقرة: ٢١٩، حيث غلب الإثم على النفع و لم يستثن.

و لعلّه لذلك نسب هذه الأرجاس إلى عمل الشيطان و لم يشرك له أحداً، ثمّ قال في الآية التالية:( إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَ الْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ وَ يَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَ عَنِ الصَّلاةِ ) .

و ذلك أنّ الله سبحانه عرف الشيطان في كلامه بأنّه عدوّ للإنسان لا يريد به خيراً البتّة قال تعالى:( إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ ) يوسف: ٥، و قال:( كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ ) الحجّ: ٤، و قال:( وَ إِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطاناً مَرِيداً، لَعَنَهُ اللهُ ) النساء: ١١٨، فأثبت عليه لعنته و طرده عن كلّ خير.

و ذكر أنّ مساسه بالإنسان و عمله فيه إنّما هو بالتسويل و الوسوسة و الإغواء من جهة الإلقاء في القلب كما قال تعالى حكاية عنه:( قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ، إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ ) الحجر: ٤٢، فهدّدهم إبليس بالإغواء فقط، و نفى الله سبحانه سلطانه إلّا عن متّبعيه الغاوين، و حكى عنه فيما يخاطب بني آدم يوم القيامة قوله:( وَ ما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي ) إبراهيم: ٢٢، و قال في نعت دعوته:( يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ‏ - إلى أن قال -إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَ قَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ ) فبين أنّ دعوته لا كدعوة إنسان إنساناً إلى أمر بالمشافهة بل بحيث يرعى الداعي المدعوّ من غير عكس.

١٢٧

و قد فصل القول في جميع ذلك قوله تعالى:( مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ، الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ ) الناس: ٥، فبيّن أنّ الذي يعمل الشيطان بالتصرّف في الإنسان هو أن يلقي الوسوسة في قلبه فيدعوه بذلك إلى الضلال.

فيتبيّن بذلك كلّه أنّ كون الخمر و ما ذكر بعدها رجساً من عمل الشيطان هو أنّها منتهية إلى عمل الشيطان الخاصّ به، و لا داعي لها إلى الإلقاء و الوسوسة الشيطانيّة الّتي تدعو إلى الضلال، و لذلك سمّاها رجساً و قد سمّى الله سبحانه الضلال رجساً في قوله:( وَ مَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ كَذلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ، وَ هذا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً ) الأنعام: ١٢٦.

ثمّ بيّن معنى كونها رجساً ناشئاً من عمل الشيطان بقوله في الآية التالية:( إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَ الْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ وَ يَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَ عَنِ الصَّلاةِ ) أي إنّه لا يريد لكم في الدعوة إليها إلّا الشرّ و لذلك كانت رجساً من عمله.

فإن قلت: ملخّص هذا البيان أنّ معنى كون الخمر و أضرابها رجساً هو كون عملها أو شربها مثلاً منتهياً إلى وسوسة الشيطان و إضلاله فحسب، و الّذي تدلّ عليه عدّة من الروايات أنّ الشيطان هو الّذي ظهر للإنسان و عملها لأوّل مرّة و علّمه إيّاها.

قلت: نعم، و هذه الأخبار و إن كانت لا تتجاوز الآحاد بحيث يجب الأخذ بها إلّا أنّ هناك أخباراً كثيرة متنوّعة واردة في أبواب متفرّقة تدلّ على تمثّل الشيطان للأنبياء و الأولياء و بعض أفراد الإنسان من غيرهم كأخبار اُخر حاكية لتمثّل الملائكة، و اُخرى دالّة على تمثّل الدنيا و الأعمال و غير ذلك و الكتاب الإلهيّ يؤيّدها بعض التأييد كقوله تعالى:( فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا ) مريم: ١٧، و سنستوفي هذا البحث إن شاء الله تعالى في تفسير سورة الإسراء في الكلام على قوله تعالى:( سُبْحانَ الّذي أَسْرى‏ بِعَبْدِهِ ) الإسراء: ١، أو في محلّ آخر مناسب لذلك.

١٢٨

و الّذي يجب أن يعلم أنّ ورود قصّة مّا في خبر أو أخبار لا يوجب تبدّل آية من الآيات ممّا لها من الظهور المؤيّد بآيات اُخر، و ليس للشيطان من الإنسان إلّا التصرّف الفكريّ فيما كان له ذلك بمقتضى الآيات الشريفة، و لو أنّه تمثّل لواحد من البشر فعمل شيئاً أو علّمه إيّاه لم يزد ذلك على التمثّل و التصرّف في فكره أو مساسه علماً فانتظر ما سيوافيك من البحث.

و أمّا قوله تعالى:( فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) فتصريح بالنهي بعد بيان المفسدة ليكون أوقع في النفوس ثمّ ترجّ للفلاح على تقدير الاجتناب، و فيه أشدّ التأكيد للنهي لتثبيته أن لا رجاء لفلاح من لا يجتنب هذه الأرجاس.

قوله تعالى: ( إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَ الْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ ) إلى آخر الآية قال الراغب في المفردات: العدو التجاوز و منافاة الالتيام فتارة يعتبر بالقلب فيقال له: العداوة و المعاداة، و تارة بالمشي فيقال له: العدو، و تارة في الإخلال بالعدالة في المعاملة فيقال له: العدوان و العدو قال:( فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ ) و تارة بأجزاء المقرّ فيقال له: العدواء يقال: مكان ذو عدواء أي غير متلائم الأجزاء فمن المعاداة يقال: رجل عدوّ و قوم عدوّ قال:( بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ) و قد يجمع على عدىً (بالكسر فالفتح) و أعداء قال:( وَ يَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللهِ ) ، انتهى.

و البغض و البغضاء خلاف الحبّ و الصدّ الصرف، و الانتهاء قبول النهي و خلاف الابتداء.

ثمّ إنّ الآية - كما تقدّم - مسوقة بياناً لقوله:( مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ ) أو لقوله:( رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ ) أي إنّ حقيقة كون هذه الاُمور من عمل الشيطان أو رجساً من عمل الشيطان أنّ الشيطان لا بغية له و لا غاية في الخمر و الميسر - اللّذين قيل: إنّهما رجسان من عمله فقط - إلّا أن يوقع بينكم العداوة و البغضاء بتجاوز حدودكم و بغض بعضكم بعضاً، و أن يصرفكم عن ذكر الله و عن الصلاة في هذه الاُمور جميعاً أعني الخمر و الميسر و الأنصاب و الأزلام.

١٢٩

و قصر إيقاع العداوة و البغضاء في الخمر و الميسر لكونهما من آثارهما الظاهرة أمّا الخمر فلأنّ شربها تهيّج سلسلة الأعصاب تهيجاً يخمّر العقل و يستظهر العواطف العصبيّة فإن وقعت في طريق الغضب جوّزت للسكران أيّ جناية فرضت و إن عظمت ما عظمت، و فظعت ما فظعت ممّا لا يستبيحه حتّى السباع الضارية، و إن وقعت في طريق الشهوة و البهيميّة زيّنت للإنسان أيّ شناعة و فجور في نفسه أو ماله أو عرضه و كلّ ما يحترمه و يقدّسه من نواميس الدين و حدود المجتمع و غير ذلك من سرقة أو خيانة أو هتك محرم أو إفشاء سرّ أو ورود فيما فيه هلاك الإنسانيّة، و قد دلّ الإحصاء على أنّ للخمر السهم الأوفر من أنواع الجنايات الحادثة و في أقسام الفجورات الفظيعة في المجتمعات الّتي دار فيها شربها.

و أمّا الميسر و هو القمار فإنّه يبطل في أيسر زمان مسعاة الإنسان الّتي صرفها في اقتناء المال و الثروة و الوجاهة في أزمنة طويلة فيذهب به المال و ربّما تبعه العرض و النفس و الجاه فإن تقمّر و غلب و أحرز المال أدّاه ذلك إلى إبطال السير المعتدل في الحياة و التوسّع في الملاهي و الفجور، و الكسل و التبطّؤ عن الاشتغال بالمكسب و اقتناء موادّ الحياة من طرقها المشروعة، و إن كان هو المغلوب أدّاه فقدان المال و خيبة السعي إلى العداوة و البغضاء لقميرة الغالب، و الحسرة و الحنق.

و هذه المفاسد و إن كانت لا تظهر للأذهان الساذجة البسيطة ذاك الظهور في النادر القليل و المرّة و المرّتين لكنّ النادر يدعو إلى الغالب، و القليل يهدي إلى الكثير و المرّة تجرّ إلى المرّات و لا تلبث إن لم تمنع من رأس أن تشيع في الملأ، و تسري إلى المجتمع فتعود بلوى همجيّة لا حكومة فيها إلّا للعواطف الطاغية و الأهواء المردية.

فتبيّن من جميع ما تقدّم أنّ الحصر في قوله:( إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَ الْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ وَ يَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَ عَنِ الصَّلاةِ ) راجع إلى مجموع المعدودات من حيث المجموع غير أنّ الصدّ عن ذكر الله و عن الصلاة من شأن الجميع، و العداوة و البغضاء يختصّان بالخمر و الميسر بحسب الطبع.

١٣٠

و في إفراز الصلاة عن الذكر في قوله تعالى:( وَ يَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَ عَنِ الصَّلاةِ ) مع كون الصلاة من أفراد الذكر دلالة على مزيد الاهتمام بأمرها لكونها فرداً كاملاً من الذكر، و قد صحّ عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنّه قال: الصلاة عمود الدين‏، و دلالة القرآن الكريم في آيات كثيرة جدّاً على الاهتمام بأمر الصلاة بما لا مزيد عليه ممّا لا يتطرّق إليه شكّ و فيها مثل قوله تعالى:( قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ، الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ ) (إلى آخر الآيات) المؤمنون: ٢، و قوله تعالى:( وَ الَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ وَ أَقامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ ) الأعراف: ١٧٠، و قوله تعالى:( إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً، إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً، وَ إِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً، إِلَّا الْمُصَلِّينَ ) الآيات: المعارج: ٢٢ و قوله:( اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ وَ أَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى‏ عَنِ الْفَحْشاءِ وَ الْمُنْكَرِ وَ لَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ ) العنكبوت: ٤٥، و قال تعالى:( فَاسْعَوْا إِلى‏ ذِكْرِ اللهِ ) الجمعة: ٩، يريد به الصلاة، و قال:( وَ أَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي ) طه: ١٤، إلى غير ذلك من الآيات.

و قد ذكر سبحانه أوّلاً ذكره و قدّمه على الصلاة لأنّها هي البغية الوحيدة من الدعوة الإلهيّة، و هو الروح الحيّة في جثمان العبوديّة، و الخميرة لسعادة الدنيا و الآخرة يدلّ على ذلك قوله تعالى لآدم أوّل يوم شرع فيه الدين:( قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَ لا يَشْقى‏، وَ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً، وَ نَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى‏ ) طه: ١٢٤، و قوله تعالى:( وَ يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَ ما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَقُولُ أَ أَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ، قالُوا سُبْحانَكَ ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ وَ لكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَ آباءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَ كانُوا قَوْماً بُوراً ) الفرقان: ١٨، و قوله تعالى:( فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَ لَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ ) النجم: ٣٠.

فالذكر في الآيات إنّما هو ما يقابل نسيان جانب الربوبيّة المستتبع لنسيان العبوديّة و هو السلوك الدينيّ الّذي لا سبيل إلى إسعاد النفس بدونه قال تعالى:

١٣١

( وَ لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ ) الحشر: ١٩.

و أمّا قوله تعالى:( فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ ) فهو استفهام توبيخيّ فيه دلالة مّا على أنّ المسلمين لم يكونوا ينتهون عن المناهي السابقة على هذا النهي، و الآية أعني قوله:( إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ ) ، إلخ كالتفسير يفسّر بها قوله:( يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَ مَنافِعُ لِلنَّاسِ وَ إِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما ) أي إنّ النفع الّذي فرض فيهما مع الإثم ليس بحيث يمكن أن يفرز أحياناً من الإثم أو من الإثم الغالب عليه كالكذب الّذي فيه إثم و نفع، و ربّما اُفرز نفعه من إثمه كالكذب لمصلحة إصلاح ذات البين.

و ذلك لمكان الحصر في قوله:( إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَ الْبَغْضاءَ ) ، إلخ بعد قوله:( رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ ) فالمعنى أنّها لا تقع إلّا رجساً من عمل الشيطان، و أنّ الشيطان لا يريد بها إلّا إيقاع العداوة و البغضاء بينكم في الخمر و الميسر و صدّكم عن ذكر الله و عن الصلاة فلا يصاب لها مورد يخلص فيه النفع عن الإثم حتّى تباح فيه، فافهم ذلك.

قوله تعالى: ( أَطِيعُوا اللهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ احْذَرُوا ، إلى آخر الآية) تأكيد للأمر السابق باجتناب هذه الأرجاس أوّلاً بالأمر بطاعة الله سبحانه و بيده أمر التشريع، و ثانياً بالأمر بطاعة الرسول و إليه الإجراء، و ثالثاً بالتحذير صريحاً.

ثمّ في قوله:( فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى‏ رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ ) تأكيد فيه معنى التهديد و خاصّة لاشتماله على قوله:( فَاعْلَمُوا ) فإنّ فيه تلويحاً إلى أنّكم إن تولّيتم و اقترفتم هذه المعاصي فكأنّكم ظننتم أنّكم كابرتم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في نهيه عنها و غلبتموه، و قد جهلتم أو نسيتم أنّه رسول من قبلنا ليس له من الأمر شي‏ء إلّا بلاغ مبين لما يوحى إليه و يؤمر بتبليغه، و إنّما نازعتم ربّكم في ربوبيّته.

و قد تقدّم في أوّل الكلام أنّ الآيات تشتمل على فنون من التأكيد في تحريم هذه الاُمور، و هي الابتداء بقوله:( يا أَيُّهَا الّذينَ آمَنُوا ) ، ثمّ الإتيان بكلمة الحصر، ثمّ التوصيف بالرجس، ثمّ نسبتها إلى عمل الشيطان، ثمّ الأمر بالاجتناب صريحاً،

١٣٢

ثمّ رجاء الفلاح في الاجتناب، ثمّ ذكر مفاسدها العامّة من العداوة و البغضاء و الصرف عن ذكر الله و عن الصلاة، ثمّ التوبيخ على عدم انتهائهم، ثمّ الأمر بطاعة الله و رسوله و التحذير عن المخالفة، ثمّ التهديد على تقدير التولّي بعد البلاغ المبين.

قوله تعالى: ( لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا ) إلى آخر الآية الطعم و الطعام هو التغذّي، و يستعمل في المأكول دون المشروب، و هو في لسان المدنيّين البرّ خاصّة، و ربّما جاء بمعنى الذوق، و يستعمل حينئذ بمعنى الشرب كما يستعمل بمعنى الأكل قال تعالى:( فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَ مَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي ) البقرة: ٢٤٩، و في بعض الروايات عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال في ماء زمزم: أنّه طعام طعم و شفاء سقم.

و الآية لا تصلح بسياقها إلّا أن تتّصل بالآيات السابقة فتكون دفع دخل تتعرّض لحال المؤمنين ممّن ابتلي بشرب الخمر قبل نزول التحريم أو قبل نزول هذه الآيات، و ذلك أنّ قوله فيها:( فِيما طَعِمُوا ) مطلق غير مقيّد بشي‏ء ممّا يصلح لتقييده، و الآية مسوقة لرفع الحظر عن هذا الطعام المطلق، و قد قيّد رفع الحظر بقوله:( إِذا مَا اتَّقَوْا وَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَ آمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَ أَحْسَنُوا ) و المتيقّن من معنى هذا القيد - و قد ذكر فيه التقوى ثلاث مرّات - هو التقوى الشديد الّذي هو حقّ التقوى.

فنفي الجناح للمؤمنين المتّقين عن مطلق ما طعموا (الطعام المحلّل) إن كان لغرض إثبات المفهوم في غيرهم أي إثبات مطلق المنع لغير أهل التقوى من سائر المؤمنين و الكفّار ناقضه أمثال قوله تعالى:( قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَ الطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ ) الأعراف: ٣٢، على أنّ من المعلوم من مذاق هذا الدين أنّه لا يمنع أحداً عن الطيّبات المحلّلة الّتي تضطرّ الفطرة إلى استباحتها في الحياة.

و إن لم تكن الآية مسوقة لتحريمه على غير من ذكر عاد المعنى إلى مثل قولنا: يجوز الطعام للّذين آمنوا و عملوا الصالحات بشرط أن يتّقوا ثمّ يتّقوا ثمّ يتّقوا، و من المعلوم

١٣٣

أنّ الجواز لا يختصّ بالّذين آمنوا و عملوا الصالحات بل يعمّهم و غيرهم، و على تقدير اختصاصه بهم لا يشترط فيه هذا الشرط الشديد.

و لا يخلو عن أحد هذين الإشكالين جميع ما ذكروه في توجيه الآية بناءً على حمل قوله:( فِيما طَعِمُوا ) على مطلق الطعام المحلّل فإنّ المعنى الّذي ذكروه لا يخرج عن حدود قولنا: لا جناح على الّذين آمنوا و عملوا الصالحات إذا اتّقوا المحرّمات أن يطعموا المحلّلات، و لا يسلم هذا المعنى عن أحد الإشكالين كما هو واضح.

و ذكر بعضهم: أنّ في الآية حذفاً، و التقدير: ليس على الّذين آمنوا و عملوا الصالحات جناح فيما طعموا و غيره إذا ما اتّقوا المحارم، و فيه أنّه تقدير من غير دليل مع بقاء المحذور على حاله.

و ذكر بعضهم: أنّ الإيمان و العمل الصالح جميعاً ليس بشرط حقيقيّ بل المراد بيان وجوب اتّقاء المحارم فشرّك معه الإيمان و العمل الصالح للدلالة على وجوبه، و فيه أنّ ظاهر الآية أنّها مسوقة لنفي الجناح فيما طعموا، و لا شرط له من إيمان أو عمل صالح أو اتّقاء محارم على ما تقدّم، و ما أبعد المعنى الّذي ذكره عن ظاهر الآية.

و ذكر بعضهم: أنّ المؤمن يصحّ أن يطلق عليه أنّه لا جناح عليه، و الكافر مستحقّ للعقاب فلا يصحّ أن يطلق عليه هذا اللفظ، و فيه أنّه لا يصحّ تخصيص المؤمنين بالذكر فليكن مثل قوله تعالى:( قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَ الطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ ) الأعراف: ٣٢، و قوله:( قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى‏ طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً ) الأنعام: ١٤٥ حيث لم يذكر في الخطاب مؤمن و لا كافر، أو مثل قوله:( يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَ أُنْثى -‏ إلى قوله -إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ ) الحجرات: ١٣ حيث وجّه الخطاب إلى الناس الشامل للمؤمن و الكافر.

و ذكر بعضهم: أنّ الكافر قد سدّ على نفسه طريق معرفة التحريم و التحليل فلذلك خصّ المؤمن بالذكر، و فيه ما في سابقه من الإشكال مع أنّه لا يرفع الإشكال الناشئ

١٣٤

من قوله:( إِذا مَا اتَّقَوْا ) إلخ.

فالّذي ينبغي أن يقال: إنّ الآية في معنى الآيات السابقة عليها على ما هو ظاهر اتّصالها بها، و هي متعرّضة لحال من ابتلي من المسلمين بشرب الخمر و طعمها، أو بالطعم لشي‏ء منها أو ممّا اقتناه بالميسر أو من ذبيحة الأنصاب كأنّهم سألوا بعد نزول التحريم الصريح عن حال من ابتلي بشرب الخمر، أو بها و بغيرها ممّا ذكره الله تعالى في الآية قبل نزول التحريم من إخوانهم الماضين أو الباقين المسلمين لله سبحانه في حكمه.

فاُجيب عن سؤالهم أن ليس عليهم جناح إن كانوا من الّذين آمنوا و عملوا الصالحات إن كانوا جارين على صراط التقوى بالإيمان بالله و العمل الصالح ثمّ الإيمان بكلّ حكم نازل على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثمّ الإحسان بالعمل على طبق الحكم النازل.

و بذلك يتبيّن أنّ المراد بالموصول في قوله:( فِيما طَعِمُوا ) هو الخمر من حيث شربها أو جميع ما ذكر من الخمر و الميسر و الأنصاب و الأزلام من حيث ما يصحّ أن يتعلّق بها من معنى الطعم، و المعنى: ليس على الّذين آمنوا و عملوا الصالحات جناح فيما ذاقوه قبل نزول التحريم من خمر أو منها و من غيرها من المحرّمات المذكورة.

و أمّا قوله:( إِذا مَا اتَّقَوْا وَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَ آمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَ أَحْسَنُوا ) فظاهر قوله:( إِذا مَا اتَّقَوْا وَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ ) إنّه إعادة لنفس الموضوع المذكور في قوله:( لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ ) للدلالة على دخالة الوصف في الحكم الّذي هو نفي الجناح كقوله تعالى في خطاب المؤمنين:( ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ ) البقرة: ٢٣٢، و هو شائع في اللسان.

و ظاهر قوله:( ثُمَّ اتَّقَوْا وَ آمَنُوا ) اعتبار الإيمان بعد الإيمان، و ليس إلّا الإيمان التفصيليّ بكلّ حكم حكم ممّا جاء به الرسول من عند ربّه من غير ردّ و امتناع، و لازمه التسليم للرسول فيما يأمر به و ينهى عنه قال تعالى:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَ آمِنُوا بِرَسُولِهِ ) الحديد: ٢٨، و قال تعالى:( وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللهِ - إلى أن قال -فَلا وَ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ

١٣٥

بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَ يُسَلِّمُوا تَسْلِيماً ) النساء ٦٥، و الآيات في هذا المعنى كثيرة.

و ظاهر قوله:( ثُمَّ اتَّقَوْا وَ أَحْسَنُوا ) إضافة الإحسان إلى الإيمان بعد الإيمان اعتباراً، و الإحسان هو إتيان العمل على وجه حسنة من غير نيّة فاسدة كما قال تعالى:( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا ) الكهف: ٣٠، و قال:( الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَ الرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَ اتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ ) آل عمران: ١٧٢، أي يكون استجابتهم ابتغاءً لوجه الله و تسليماً لأمره لا لغرض آخر، و من الإحسان ما يتعدّى إلى الغير، و هو أن يوصل إلى الغير ما يستحسنه، قال تعالى:( وَ بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً ) البقرة: ٨٣، و قال:( وَ أَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ ) القصص: ٧٧.

و المناسب لمورد الآية هو المعنى الأوّل من معنيي الإحسان، و هو إتيان الفعل على جهة حسنة فإنّ التقوى الدينيّ لا يوفى حقّه بمجرّد الإيمان بالله و تصديق حقّيّة دينه ما لم يؤمن تفصيلاً بكلّ واحد واحد من الأحكام المشرّعة في الدين فإنّ ردّ الواحد منها ردّ لأصل الدين، و لا أنّ الإيمان التفصيليّ بكلّ واحد واحد يوفى به حقّ التقوى ما لم يحسن بالعمل بها و في العمل بها بأن يجري على ما يقتضيه الحكم من فعل أو ترك، و يكون هذا الجري ناشئاً من الانقياد و الاتّباع لا عن نيّة نفاقيّة فمن الواجب على المتزوّد بزاد التقوى أن يؤمن بالله و يعمل صالحاً، و أن يؤمن برسوله في جميع ما جاء به، و أن يجري في جميع ذلك على نهج الاتّباع و الإحسان.

و أمّا تكرار التقوى ثلاث مرّات، و تقييد المراتب الثلاث جميعاً به فهو لتأكيد الإشارة إلى وجوب مقارنة المراتب جميعاً للتقوى الواقعيّ من غير غرض آخر غير دينيّ، و قد مرّ في بعض المباحث السابقة أنّ التقوى ليس مقاماً خاصّاً دينيّاً بل هو حالة روحيّة تجامع جميع المقامات المعنويّة أي إنّ لكلّ مقام معنويّ تقوى خاصّاً يختصّ به.

فتلخّص من جميع ما مرّ أنّ المراد بالآية أعني قوله:( لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا

١٣٦

وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا ) إلى آخر الآية، أنّه لا جناح على الّذين آمنوا و عملوا الصالحات فيما ذاقوه من خمر أو غيره من المحرّمات المعدودة بشرط أن يكونوا ملازمين للتقوى في جميع أطوارهم و متلبّسين بالإيمان بالله و رسوله، و محسنين في أعمالهم عاملين بالواجبات و تاركين لكلّ محرّم نهوا عنه فإن اتّفق لهم أن ابتلوا بشي‏ء من الرجس الّذي هو من عمل الشيطان قبل نزول التحريم أو قبل وصوله إليهم أو قبل تفقّههم به لم يضرّهم ذلك شيئاً.

و هذا نظير قوله تعالى في آيات تحويل القبلة في جواب سؤالهم عن حال الصلوات الّتي صلّوها إلى غير الكعبة:( وَ ما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ ) البقرة: ١٤٣.

و سياق هذا الكلام شاهد آخر على كون هذه الآية:( لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ ، إلخ) متّصلة بما قبلها من الآيات و أنّها نازلة مع تلك الآيات الّتي لسانها يشهد أنّها آخر الآيات المحرّمة للخمر نزولاً، و أنّ بعض المسلمين كما يشعر به لسان الآيات - على ما استفدناه آنفاً - لم يكونوا منتهين عن شربها ما بين الآيات السابقة المحرّمة و بين هذه الآيات.

ثمّ وقع السؤال بعد نزول هذه الآيات عن حال من ابتلي بذلك و فيهم من ابتلي به قبل نزول التحريم، و من ابتلي به قبل التفقّه، و من ابتلي به لغير عذر فاُجيبوا بما يتعيّن به لكلّ طائفة حكم مسألته بحسب خصوص حاله، فمن طعمها و هو على حال الإيمان و الإحسان، و لا يكون إلّا من ذاقها من المؤمنين قبل نزول التحريم أو جهلاً به فليس عليه جناح، و من ذاقها على غير النعت فحكمه غير هذا الحكم.

و للمفسّرين في الآية أبحاث طويلة، منها ما يرجع إلى قوله:( فِيما طَعِمُوا ) و قد تقدّم خلاصة الكلام في ذلك.

و منها ما يرجع إلى ذيل الآية من حيث تكرّر التقوى فيه ثلاث مرّات، و تكرّر الإيمان و تكرّر العمل الصالح و ختمها بالإحسان.

فقيل: إنّ المراد بقوله:( إِذا مَا اتَّقَوْا وَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ ) اتّقوا المحرّم و ثبتوا على الإيمان و الأعمال الصالحة، و بقوله:( ثُمَّ اتَّقَوْا وَ آمَنُوا ) ثمّ

١٣٧

اتّقوا ما حرّم عليهم بعد كالخمر و آمنوا بتحريمه، و بقوله:( ثُمَّ اتَّقَوْا وَ أَحْسَنُوا ) ثمّ استمرّوا و ثبتوا على اتّقاء المعاصي و اشتغلوا بالأعمال الجميلة.

و قيل: إنّ هذا التكرار باعتبار الحالات الثلاث: استعمال الإنسان التقوى و الإيمان بينه و بين نفسه، و بينه و بين الناس، و بينه و بين الله تعالى، و الإحسان على هذا هو الإحسان إلى الناس ظاهراً.

و قيل: إنّ التكرار باعتبار المراتب الثلاث: المبدإ و الوسط و المنتهى، و هو حقّ التقوى.

و قيل: التكرار باعتبار ما يتّقى فإنّه ينبغي أن تترك المحرّمات توقّياً من العقاب، و الشبهات تحرّزاً عن الوقوع في الحرام، و بعض المباحات تحفّظاً للنفس عن الخسّة، و تهذيباً عن دنس الطبيعة.

و قيل: إنّ الاتّقاء الأوّل اتّقاء عن شرب الخمر و الإيمان الأوّل هو الإيمان بالله، و الاتّقاء الثاني هو إدامة الاتّقاء الأوّل و الإيمان الثاني إدامة الإيمان الأوّل، و الاتّقاء الثالث هو فعل الفرائض، و الإحسان فعل النوافل.

و قيل: إنّ الاتّقاء الأوّل اتّقاء المعاصي العقليّة، و الإيمان الأوّل هو الإيمان بالله و بقبح هذه المعاصي، و الاتّقاء الثاني اتّقاء المعاصي السمعيّة و الإيمان الثاني هو الإيمان بوجوب اجتناب هذه المعاصي، و الاتّقاء الثالث يختصّ بمظالم العباد و ما يتعلّق بالغير من الظلم و الفساد، و المراد بالإحسان الإحسان إلى الناس.

و قيل: إنّ الشرط الأوّل يختصّ بالماضي، و الشرط الثاني بالدوام على ذلك و الاستمرار على فعله، و الشرط الثالث يختصّ بمظالم العباد، إلى غير ذلك من أقوالهم.

و جميع ما ذكروه ممّا لا دليل عليه من لفظ الآية أو غيرها يوجب حمل الآية عليه، و هو ظاهر بالتأمّل في سياق القول فيها و الرجوع إلى ما قدّمناه.

١٣٨

( بحث روائي)

في تفسير العيّاشيّ، عن هشام بن سالم عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: سمعته يقول: بينا حمزة بن عبد المطّلب و أصحاب له على شراب لهم يقال له السكركة. قال: فتذاكروا الشريف فقال لهم حمزة: كيف لنا به؟ فقالوا: هذه ناقة ابن أخيك عليّ، فخرج إليها فنحرها ثمّ أخذ كبدها و سنامها فأدخل عليهم، قال: و أقبل عليّعليه‌السلام فأبصر ناقته فدخله من ذلك، فقالوا له: عمّك حمزة صنع هذا، قال: فذهب إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فشكا ذلك إليه.

قال: فأقبل معه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقيل لحمزة: هذا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالباب، قال: فخرج حمزة و هو مغضب فلمّا رأى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الغضب في وجهه انصرف قال: فقال له حمزة: لو أراد ابن أبي طالب أن يقودك بزمام فعل، فدخل حمزة منزله و انصرف النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

قال: و كان قبل اُحد، قال: فأنزل الله تحريم الخمر فأمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بآنيتهم فاُكفئت، قال: فنودي في الناس بالخروج إلى اُحد فخرج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و خرج الناس و خرج حمزة فوقف ناحية من النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال فلمّا تصافحوا حمل في الناس حتّى غيب فيهم ثمّ رجع إلى موقفه، فقال له الناس: الله الله يا عمّ رسول الله أن تذهب و في نفس رسول الله عليك شي‏ء، قال: ثمّ حمل الثانية حتّى غيب في الناس ثمّ رجع إلى موقفه فقالوا له: الله الله يا عمّ رسول الله أن تذهب و في نفس رسول الله عليك شي‏ء.

فأقبل إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلمّا رآه نحوه أقبل مقبلاً إليه فعانقه و قبّل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما بين عينيه ثمّ قال: احمل على الناس فاستشهد حمزة، و كفّنه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في تمرة.

ثمّ قال أبوعبداللهعليه‌السلام : نحو من سرياني هذا، فكان إذا غطّى وجهه انكشف رجلاًه و إذا غطّى رجلاه انكشف وجهه قال: فغطّى بها وجهه، و جعل على رجليه أذخر.

١٣٩

قال فانهزم الناس و بقي عليّعليه‌السلام فقال له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما صنعت؟ قال: يا رسول الله لزمت الأرض فقال: ذلك الظنّ بك، قال: و قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنجز لي يا ربّ ما وعدتني فإنّك إن شئت لم تعبد.

و عن الزمخشريّ في ربيع الأبرار، قال: اُنزل في الخمر ثلاث آيات:( يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ ) فكان المسلمون بين شارب و تارك إلى أن شربها رجل فدخل في صلاته فهجر فنزل:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَ أَنْتُمْ سُكارى) فشربها من شربها من المسلمين حتّى شربها عمر فأخذ لحي بعير فشّج رأس عبدالرحمن بن عوف، ثمّ قعد ينوح على قتلى بدر بشعر الأسود بن يغفر:

و كأين بالقليب قليب بدر

من القنيات و الشرب الكرام

و كأين بالقليب قليب بدر

من السري المكامل بالسنام

أ يوعدنا ابن كبشة أن نحيى

و كيف حياة أصداء و هام

أ يعجز أن يردّ الموت عنّي

و ينشرني إذا بليت عظامي

ألا من مبلغ الرحمن عنّي

بأنّي تـارك شهر الصيام

فقل لله: يمنـعني شرابـي

و قل لله: يمنعني طـعامي

فبلغ ذلك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فخرج مغضباً يجرّ رداءه فرفع شيئاً كان في يده ليضربه، فقال: أعوذ بالله من غضب الله و غضب رسوله فأنزل الله سبحانه و تعالى:( إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ إلى قوله فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ ) فقال عمر: انتهينا.

و في الدرّ المنثور،: أخرج ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و أبوالشيخ و ابن مردويه و النحّاس في ناسخه عن سعد بن أبي وقّاص قال: فيّ نزل تحريم الخمر صنع رجل من الأنصار طعاماً فدعانا فأتاه ناس فأكلوا و شربوا حتّى انتشوا من الخمر، و ذلك قبل أن تحرّم الخمر فتفاخروا فقالت الأنصار: الأنصار: خير، و قالت قريش: قريش خير فأهوى رجل بلحي جزور فضرب على أنفي ففزره - فكان سعد مفزور الأنف - قال: فأتيت النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فذكرت ذلك له فنزلت هذه الآية:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ ) ، إلى آخر الآية.

١٤٠

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401