الميزان في تفسير القرآن الجزء ٦

الميزان في تفسير القرآن14%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 401

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 401 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 84106 / تحميل: 7581
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ٦

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

٤ـ إنّه سبحانه: «يصف اليهود والنصارى بأنّهم اتخذوا أحبارهم و رُهبانهم أرباباً. قال سبحانه:( اتَّخذُوا أَحْبارَهُمْ وَ رُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللّهِ وَالْمَسيحَ ابْنَ مَرْيََمَ وَ ما أُمِرُوا إِلاّ لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلاّ هُوَ سُبْحانَهُ عَمّا يُشْرِكُونَ ) (التوبة|٣١).

و ليس المراد أنّهم اعتقدوا بأنّ علماء دينهم و رهبانهم خالقون أو مدبرون للكون بل كانوا يعتقدون أنّلهم شأناً من شوَونه سبحانه: وهو أنّلهم تحليل الحرام و تحريمه و انّه فوض إليهم زمام التشريع و بالتالي مصيرهم بأيديهم و يكفي ذلك في صدق الربوبية.

روى المفسرون عن عدي بن حاتم قال: أتيت رسول اللّه و في عنقي صليب من ذهب فقال لي : يا عدي إطرح هذا الوثنَ في عنقك قال: فطرحته ثم انتهيتُ إليه و هو يقرأ من سورة البراءة هذه الآية( اتَّخذُوا أَحْبارَهُمْ وَ رُهْبانَهُمْ أَرْباباً ) حتّى فرغ منها فقلت له: إنّا لسنا نعبدهم فقال: أليس يحرِّمون ما أحل اللّه فتحرّمونه ، ويُحلّون ما حرّم اللّه فتستحلونه ؟ قال: فقلت: بلى قال: فتلك عبادتهم.(١)

هذا قليل من كثير ممّا يعرب عن عقيدة المشركين القدامى والجدد في حقّ معبوداتهم.

ونختم المقال بشيء من شعر زيد بن عمر بن نوفل الذي أسلم قبل أن يبعث النبيّالاَكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذ يقول بعد استبصاره معرباً عن عقيدته في الجاهلية:

أرب واحد أم ألف رب

أدين إذا تقسّمت الاَُمور

عزلتُ اللاة والعُزى جميعاً

كذلك يفصل الجلد الصبور

فلا عُزّى أدين ولا ابنتيها

ولا صنَمَي بني عمرو أزور

و يقول في شعر آخر:

إلى الملك الاَعلى الذي ليس فوقه

إله و لا ربّ يكـون مداينـا(٢)

هذه الاَشعار و سائر الكلمات المروية عن الاَمّة الجاهلية قبل مبعث النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تثبت أمراً واحداً وهو أنّ آلهتهم كانت تتمتع حسب عقيدتهم بقوة غيبة مالكة لها موَثرة في الكون و مصير الاِنسان و انّ هوَلاء آلهة و أرباب واللّه سبحانه إله الآلهة و ربّ الاَرباب.

____________

(١) الطبرسي: مجمع البيان :٣|٢٣ـ٢٤.

(٢) الالوسي: بلوغ الارب٢:٢٤٩.

٤١

التعريف المنطقي لمفهوم العبادة

المقصود من التعريف المنطقي، هو التعريف الجامع الشامل لجميع أفراد العبادة سواء كانت حقّة أو باطلة، صحيحة أو فاسدة، و ـ التعريف ـ المانع عن دخول غيرها، ممّا ليس من مصاديقها و جزئياتها، و إن كانت شبيهة بها في الظاهر، ولكنّها في الواقع تكريم و تبجيل ويتوهمها الجاهل عبادة.

و بما أنّا لم نقف على تعريف للعبادة، في الكتاب و السنّة، لا محيص لنا عن اصطياده عن طريق تحليلها في ضوء المصدرين الكريمين فانّ دراستها كذلك يُشرِف الباحثَ على تمييز العبادة عن غيرها و بالتالي على صبّما استفاده منهما في قالب تعريف جامع و مانع.

أقول: العبادة تتقوم بعنصرين ولا يُغني أحدهما عن الآخر:

الاَوّل: الاعتقادُ الخاص في حقّ المعبود، أعني الاعتقادَ بأنّه إله أو ربّ، أو بيده مصير العابد آجلاً وعاجلاً في تمام شوَون الحياة أو بعضها، وقد تعرّفتَ على معنى «الاِله» و «الرب» في الفصلين السابقين فلا نعود إلى ما ذكرنا سابقاً، فإذا كان الخضوع و التذلل، مجرّداً عن هذا النوع من الاعتقاد لايعدّ العمل عبادة سواء أكان باللسان، أم بسائر الجوارح، نعم يمكن أن يكون حراماً موجباً للعقاب لا لاَنّه عبادة بل لكونه عملاً محرماً كسائر المحرّمات الّتي ليست بعبادة قطعاً كالكذب و الغيبة.

الثاني: العمل الحاكي عن الخضوع، و يكفي في ذلك أبسط الخضوع إلى أعلاه سواء أكان باللفظ والبيان، أم بسائر الجوارح، فإذا كان الخضوع نابعاً عن الاعتقاد الخاص في مورد المخضوع له، يتصف بالعبادة.

إنّ الاعتقاد بأُلوهية المخضوع له، أو ربوبيته، أو كون مصير العباد بيده، مجرّداً عن الخضوع العملي أو اللفظي، يستلزم كونَصاحبه مشركاً في العقيدة لا مشركاً في العبادة، و إنّما يكون مشركاً فيها إذا انضمّ إلى العقيدة، خضوع عملي كما أنّ مجرّدَ الخضوع النابع عن الحب و العطف، يكون تكريماً و تبجيلاً، و خضوعاً و تذلّلاً لا عبادة، و ربما يكون حلالاً و مباحاً و يعدّ مَظْهَراً للتكريم و سبباً لاِظهار الحبّ و الودّ، و ربما يكون حراماً كالسجود للمحبوب بما أنّه جميل، لا لاَنّه إله و ربّ أو بيده مصيره، و مع ذلك فالسجود لمثله حرام حسب ما ورد في السنّة و إن لميكن عبادة و كونه مثلها في الصورة لا يُدخله في عنوانها لاَنّ العبرة بالنيّات و البواطن، لا بالصور و الظواهر.

٤٢

أمّا العنصر الثاني: فلم يختلف في لزوم وجوده اثنان إنّما الكلام في مدخلية العنصر الاَوّل في صدق العبادة و دخوله في واقعها و نحن نستدل على مدخليته بطريقين:

الاَوّل: التمعن في عبادة الموحّدين و المشركين

إنّ الاِمعان في أعمالهم، يدلُّ بوضوح على أنّخضوعهم جميعاً لم يكن منفكاً عن الاعتقاد بأُلوهية معبوداتهم و ربوبيتها و كانت تلك العقيدة هي التي تَجرُّهم إلى الخضوع و التذلل أمامها ولولاها لم يكن لخضوعهم وجه ولا سبب فالموحِّد يخضع أمام اللّه لاعتقاده بأنّه خالق، بارىَ ، مبدع، و مصور، مدبّر، و متصرّف، و بكلمة جامعة: إنّه إله العالمين إلى غير ذلك من الشوَون، فمن هذا الاعتقاد، ينشأ الخضوع و التذلل.

والمشرك يخضع أمام الاَصنام والاَوثان، أو الاَجرام السماوية، لاعتقاده بأنّها آلهة و أرباب بيدها مصيره في الدنيا و الآخرة و لذلك كانوا يستمطرون بها، ويطلبون منها الشفاعة والمغفرة و بذلك صاروا آلهة و أرباباً.

إنّ الموحّد يرى أنّ العزّة بيد اللّه سبحانه و هو القائل عزّ من قائل:( فَلِلّهِ الْعِزَّةُ جَميعاً ) (فاطر|١٠)( وَ تُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ ) (آل عمران|٢٦)

ولكن المشرك يرى أنّالعزة بيد الاَصنام والاَوثان يقول سبحانه حاكياً عن عقيدته:( وَاتّخَذُوا مِنْ دُونِ اللّهِ آلهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزّاً ) (مريم|٨١).

إنّ الموحّد لا يُثبت شيئاًمن صفاته سبحانه، و أفعاله، لغيره ولا يرى له مثيلاً و لا نظيراًفي الصفات والاَفعال فهو المتفرِّد في جماله و كماله، وفي أسمائه و صفاته، وفي أعماله و أفعاله، و لكن المشرك يسوي الاَصنام بربّالعالمين إذ يقول سبحانه حاكياً عنهم:( تَاللّهِ إِنْ كُنّا لَفِي ضَلالٍ مُبين* إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمين ) (الشعراء|٩٧ـ٩٨) و إذا لم تكن التسوية متحقّقة في تمام الشوَون فقد كانت متحقّقة في بعضها فقد كانوا عندهم مالكين للشفاعة النافذة التي لا تردّ، و لغفران الذنوب، فلاَجل ذلك تُركّز الآيات على أنّ الشفاعة للّه و المغفرة بيده، يقول سبحانه:( قُلْ للّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً ) (الزمر|٤٤) و يقول:( وَ مَنْ يَغْفِرُالذُّنُوبَ إِلاّ اللّه ) (آل عمران|١٣٥)

إنّ النبيّ إبراهيم يصف ربّه بقوله:( الّذي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ* وَالّذي يُطْعِمُنِي وَ يَسْقينِ*وَ إِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ* وَالّذي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيينِ* وَالّذي أَطْمَعُ أنْ يَغْفِرَ لي خَطِيئَتي يَومَ الدّينِ ) (الشعراء|٧٨ـ٨٢) و هو في هذا المقام يحاول ردّ عقيدة المشركين حيث كانوا يثبتون بعضَ هذه الاَفعال لمايعبدون من الاَجرام السماوية والاَرضية.

٤٣

وحصيلة الكلام أنّ التاريخ القطعي وآيات الذكر الحكيم متّفقان على أنّخضوع المشركين لم يكن مجرّدَ عمل دون أن يكون نابعاً من الاعتقاد الخاصّ في حقّ معبوداتهم و لم تكن عقيدتهم سوى إثبات ما لربّ العالمين من الشوَون، كلّها أو بعضها لهم، و لاَجل ذلك كانوا يتذلّلون أمامهم.

هذه هي الطريقة الاَُولى لاستكشاف مدخلية العنصر الاَوّل في صدق العبادة و قد وقفنا عليها من طريق الامعان في عبادة الموحدين و المشركين و إليك الكلام في الطريقة الثانية.

الثانية: الاِمعان في الآيات الداعية إلى عبادة اللّه، الناهية عن عبادة الغير

إنّ الآيات الحاثة على عبادة اللّه و المحذرة عن عبادة غيره، تعلل لزوم عبادته سبحانه بالاَُلوهية تارة و الربوبية أُخرى، و هذا إن دلّعلى شيء فإنّما يدلّ على أنّ العبادة من شوَون الاِله و الربّ، و انّها كانت ضابطة مسلّمة بين المخاطبين، و لم يكن فيها أيّاختلاف و إنّما كان الاختلاف في الموصوف بهما، فالذكر الحكيم لا يرى في صحيفة الوجود، إلهاً ولا ربّاً غيره، و يُحصر العنوانين في اللّه سبحانه بينما يرى المشركين أصنامَهم آلهة و أرباباً و لذلك ذهبوا إلى عبادتها و الخضوع أمامها لاَنّها أرباب و آلهة عندهم و لها نصيب من العنوانين.

وعلى الجملة : انّالدعوة إلى عبادة اللّه أو حصرها فيه معللاًبأنّه سبحانه إله و ربّ و لا إله ولا ربّغيره، يعطي اتفاق الموحد والمشرك على تلك الضابطة و أنّها من شوَون من كان ربّاً و إلهاً و إنّما كان الاختلاف و الجدال في المصاديق، و إنّه هل هناك إله أو ربّ غيره سبحانه، أو لا؟ فالاَنبياء يوَكدون على الثاني، و المشركون على الاَوّل، وعلى هذا لو كان هناك خضوع أمام شيء، من دون هذه العقيدة فلا يكون عبادة باتّفاق الموحد و المشرك. و إليك ما استظهرناه من الآيات:

١ـ قال سـبحانه:( يا قَومِ اعْبُدُوا اللّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ ) (الاَعراف|٥٩).

وقد وردت هذه الآية في مواضع كثيرة من القرآن.(١)

____________

(١) لاحظ، الاَعراف|٦٥، ٧٣و ٥٨. و سورة هود|٥، ٦١، ٨٤ ، و سورة الاَنبياء|٢٥ و سورة الموَمنين|٢٣، ٣٢ و سورة طه |١٤.

٤٤

إنّ قوله سبحانه:( ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ ) بمنزلة التعليل للاَمر بحصر العبادة في اللّه تعالى و معناه : اعبدوا اللّه و لا تعبدوا سواه، و ذلك لاَنّ العبادة من شوَون الاَُلوهية ولا إله غيره.

٢ـ قال سبحانه:( وَ قالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسرائِيلَ اعْبُدُوا اللّه َرَبّي وَ ربَّكُمْ ) (المائدة|٧٢).

( إنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمّةً واحِدة وأَنَا ربُّكُمْ فَاعْبُدُونِ ) (الاَنبياء|٩٢).

( إِنَّ اللّهَ ربّي وَربُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقيم ) (آل عمران|٥١).

( يا أَيُّهَا النّاسُ اعْبُدُوا رَبّكُمُ الّذِي خَلَقَكُمْ وَ الّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ ) (البقرة|٢١).

و كيفية البرهنة في هذا الصنف من الآيات مثلها في الآية السابقة.

وقد ورد مضمون هذه الآيات أعني: جعل العبادة دائرة مدار الربوبية في آيات أُخرى.(١)

إنّتعليق الاَمر بالعبادة على لفظ الربّ في قوله "اعبدوا ربّكم" دليل على أنّوجه تخصيص العبادة باللّه سبحانه هو كونه ربّاً و لا ربّ غيره، فهذا يعرب عن كون العبادة من شوَون من يكون ربّاً، وليس الربّ إلاّاللّه سبحانه، وأمّا ربوبية غيره فباطلة.

٣ـ قال سبحانه:( ذلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ ) (الاَنعام١٠٢).

فقد علل الاَمر بعبادة اللّه سبحانه في هذه الآية بشيئين:

أ : إنّه( ربّكم ) .

ب: إنّه( خالق كلّ شيء ) .

فيدل بوضوح على أنّالعبادة من شوَون الربوبية و الخالقية، فمن كان خالقاً، أو ربّاً، مدبّراً للكون والاِنسان، تجب عبادته، وأمّا من كان مجرداًعن هذه الشوَون فكان مخلوقاً بل خالقاً و لا ربّاًو مدبّراً متصرفاً فيه مكان كونه مدبِّراً و متصرِّفاً، فلا يصلح أن يكون معبوداً.

____________

(١) لاحظ : يونس |٣، الحجر|٩٩، مريم |٣٦، ٦٥، الزخرف|٦٤.

٤٥

إنّه سبحانه يشرح في مجموعة من الآيات بأنّه الخالق الرازق المميت المحيي، و إنّ الشفاعة له جميعاً، وهو الغافر للذنوب لا غيره، ولا يهدف من ذكر هذه الاَوصاف لنفسه إلاّ توجيه نظر الاِنسان نحو صلاحيته للعبادة لا غيره و هو يعرب عن أنّالعبادة من شوَون من يكون خالقاً، و رازقاً، مميتاً، محيياً، غافراً للذنوب، ماحياً للسيئات و ليس إلاّ هو، و إنّالمشركين يعبدون أصناماً، يزعمون أنّها تملك شيئاً من هذه الاَُمور أو بعضها و لكنّها عقيدة خاطئة، إذ هو الرازق المحيي المميت الغافر، للذنوب لا غيره.

٥ـ يقول سبحانه:

( اللّهُ الّذي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ) (الروم|٤٠).

وقال تعالى:( هَلْ لَكُمْ مِن ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ شُرَكاء فِي ما رَزَقْناكُمْ ) (الروم|٢٨).

وقال تعالى:( هُوَ يُحْيي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرجَعُونَ ) (يونس|٥٦).

وقال سبحانه:( قُلْ للّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً ) (الزمر|٤٤).

وقال تعالى:( وَ مَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاّاللّه ) (آل عمران|١٣٥).

فهذا الصنف من الآيات التي تلونا عليك قسماً قليلاً منها يدل على أنّه لايستحقّ العبادة إلاّمن يتمتع بهذه الشوَون وماضاهاها فلو كان متمتعاً بها واقعاً

فهو المعبود حقّاً و إلاّفلا يكون مستحقّاً للعبادة.

والعجب، أنّكلّ من ارتأى تعريف العبادة فإنّما نظر إلى العنصر الثاني (الخضوع) الذي لم يختلف فيه اثنان، و لم يركز الكلام على العنصر الاَوّل (الاِعتقاد الخاصّ)، مع أنّه الفيصل بين العبادة ، والتكريم.

وحاصل هذا البيان أنّه لا يصحّ أن ينظر إلى ظاهر الاَعمال بل يجب النظر في مبادئها و مناشئها فالعبادة لا تتحقق و لا يصدق عنوانها على شيء إلاّإذا اتّحد العمل مع عمل الموحدين أو المشركين فقد كان عمل الموحدين نابعاً عن الاعتقاد الخاص بأُلوهيته سبحانه وربوبيته كما كان عمل المشركين أيضاً نابعاًمن هذا المبدأ لكن في حقّ أصنامهم و أوثانهم.

نعم المشركون لم يكونوا معتقدين بخالقية معبوداتهم و لكنّهم كانوا معتقدين بأُلوهيتهم و ربوبيتهم و تصرّفاتهم في الكون و بكونهم مالكين للمغفرة والشفاعة.

٤٦

و على ضوء هذا فكلّ خضوع يتمتع بنفس هذا العنصر يُضفى عليه عنوانُ العبادة فإن أتى به للّه سبحانه يكون موحّداً و إن أتى به لغيره يكون مشركاً. فلايصحّ لنا القضاء على ظاهر الاَعمال من دون التفتيش عن بواطنها.

التعاريف الثلاثة للعبادة

و قد خرجنا ـ بالاِمعان في عقائد الموحّدين و المشركين و بالاِمعان في الآيات الحاثة على عبادة اللّه والنهي عن عبادة غيره بالنتيجة التالية:

إنّ العبادة ليست خضوعاً فارغاًمهما بلغ أعلاه بل خضوعاً نابعاًعن عقيدة خاصة وهي الاعتقاد بكون المخضوع له ربّاً، أو إلهاً، أو مصدراً للاَفعال الاِلهية فلذلك يصحّ تعريفها على أحد الوجوه التالية و يكون جامعاً لعامة أفرادها، و دافعاً عن دخول غيرها في تعريفها:

١ـ خضوع لفظي أو عملي ناشىَ من العقيدة بأُلوهية المخضوع له.

٢ـ العبادة هي الخضوع بين يدي من يعتبره «ربّاً»و بعبارة أُخرى. هي الخضوع العملي أو القولي لمن يعتقد بربوبيته، فالعبودية كلازم الاعتقاد بالربوبية.

٣ـ العبادة خضوع أمام من يُعْتبر إلهاً حقّاً أو مصدراً للاَعمال الاِلهية كتدبير شوَون العالم و الاِحياء والاِمامة و بسط الرزق بين الموجودات و غفران الذنوب.

ولك صبّ هذا المعنى في قالب رابع و خامس.

ثمرات البحث

لقد وقفت ـ أخي العزيز ـ على معنى «العبادة» و مفهومها و حقيقتها في ضوء الكتاب والسنّة، و لم يبق لك أيّ إبهام في معناها و لا أيّغموض في حقيقتها، و الآن يجب عليك ـ بعد التعرّف على الضابطة الصحيحة في العبادة ـ أن تقيس الكثير من الاَعمال الرائجة بين المسلمين من عصر رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى زماننا هذا لترى هل تزاحم التوحيد، وتضاهي الشرك، أو أنّها عكس ذلك توافق التوحيد، و ليست من الشرك في شيء أبداً؟

٤٧

ولهذا نجري معك في هذا السبيل (أي عرض هذه الاَعمال على الضابطة التي حققناها في مسألة العبادة) جنباً إلى جنب فنقول:

إنّالاَعمال التي ينكرها الوهابيون على المسلمين هي عبارة عن:

١ـ التوسل بالاَنبياء والاَولياء في قضاء الحوائج

فهل هذا شرك أو لا؟

يجب عليك أخي القارىَ أن تجيب على هذا السوَال بعد عرضه على الضابطة التي مرّت في تحديد معنى العبادة و مفهومها، فهل المسلِم المتوسِّل بالاَنبياء والاَولياء يعتقد فيهم «أُلوهية» أو «ربوبية» و لو بأدنى مراتبهما و قد عرفت معنى الاَُلوهية والربوبية بجميع مراتبهما و درجاتهما، أو إنّه يعتقد بأنّهم عباد مكرمون عند اللّه تعالى تستجاب دعوتُهم، و يجاب طلبهم بنص القرآن الكريم.

فإذا توسّل المتوسّل بالاَنبياء والاَولياء بالصورة الاَُولى كان عمله شركاً، يخرجه عن ربقة الاِسلام.

و إذا توسّل بالعنوان الثاني لميفعل مايزاحم التوحيد ويضاهي الشرك أبداً.

و أمّا أنّ توسّله بهم مفيد أو لا، محلّل أو محرّم من جهة أُخرى غير الشرك؟ فالبحث فيهما خارج عن نطاق البحث الحاضر الذي يتركز الكلام فيه على تمييز التوحيد عن الشرك، و بيان ما هو شرك و ما هو ليس بشرك.

٢ـ طلب الشفاعة من الصالحين

هناك من ثبت قبول شفاعتهم بنصّالقرآن الكريم و السنّة الصحيحة.

ثمّ إنّ طلب الشفاعة منهم إن كان بما أنّهم مالكون للشفاعة و أنّها حقّ مختصّ بهم، و أنّ أمر الشفاعة بيدهم، أو إنّه قد فُوِّض إليهم ذلك المقام، فلا شكّ أنّ ذلك شرك و انحراف عن جادة التوحيد، و اعتراف بأُلوهية الشفيع(المستَشْفع به) و ربوبيته، ودعوة الصالحين للشفاعة بهذا المعنى والقيد شرك لا محالة.

وأمّا إذا طلب الشفاعة من الصالحين بما أنّهم عباد مأمورون من جانب اللّه سبحانه للشفاعة في من يأذن لهم اللّه بالشفاعة له، ولا يشفعون لمن لم يأذن اللّه بالشفاعة له، و إنّ الشفاعة بالتالي حقّ مختص باللّه بيد أنّه تعالى، يجري فيضه على عباده عن طريق أوليائه الصالحين المكرمين.

فالطلب بهذا المعنى و بهذه الصورة لا يزاحم التوحيد، ولا يضاهي الشرك، فهو طلب شيء من شخص مع الاعتراف بعبوديته المحضة و مأموريته الخاصة.

٤٨

وأمّا أنّه طلب مفيد أو لا، أو أنّه محلّل أو محرّم من جهة أُخرى غير جهة الشرك و التوحيد؟ فهو أمر خارج عن إطار هذا البحث الذي يتركز ـ كما أسلفنا ـ على بيان التوحيد والشرك في العبادة.

٣ـ التعظيم لاَولياء اللّه و قبورهم و تخليد ذكرياتهم.

فهل هذا العمل يوافق ملاك التوحيد أو يوافق ملاك الشرك؟

الجواب هو أنّهذا العمل قد يكون توحيداًمن وجه، و قد يكون شركاً من وجه آخر.

فإن كان التعظيم و التكريم ـ بأيّصورة كان ـ قد صدر عن الاَشخاص تجاه أُولئك الاَولياء بما أنّهوَلاء الاَولياء عِباد أبرار، وقفوا حياتهم على الدعوة إلى اللّه، و ضحّوا بأنفسهم و أهليهم و أموالهم في سبيل اللّه، و بذلوا في هداية البشرية كلّ غالٍ و رخيص، فانّ مثل هذا التعظيم يوافق مواصفات التوحيد، لاَنّه تكريم عبدٍ من عباد اللّه لما أسداه من خدمة في سبيل اللّه، مع الاعتراف بأنّه عبد لا يملك شيئاً إلاّ ما ملّكه اللّه، و لا يقدر على عمل إلاّبما أقدره اللّه عليه.

انّ مثل هذا التعظيم يوافق أصل التوحيد بمراتبه المختلفة دون أيّشكّ.

وأمّا أنّه مفيد أو لا، أو أنّه حلال أو حرام من جهة أُخرى غير جهة الشرك و التوحيد فخارج عن نطاق هذا البحث المهتم ببيان ما هو شرك و ما هو ليس بشرك. وأمّا إذا وقع التعظيم والتكريم للولي معتقداً بأنّه ـ حيّاً كان أو ميّتاً ـ مالك لواقعية الاَُلوهية أو درجة منها، أو أنّه واجد لمعنى الربوبيّة أو مرتبة منها، فانّه ـ و لا شكّ ـ شرك و خروج عن جادة التوحيد.

٤ـ الاستعانة بالاَولياء:

فهل الاِستعانة بالاَولياء توافق التوحيد أم توافق الشرك؟ إنّ الاِجابة على ذلك تتضح بعد عرض الاستعانة هذه على الميزان الذي أعطاه القرآن لنا، فلو استعان أحد بولي ـ حياً كان أو ميتاً ـ على شيء موافق لما جرت عليه العادة أو مخالف للعادة كقلب العصا ثعباناً، و الميت حياً، باعتقاد أنّ المستعان إله، أو ربّ، أو مفوّض إليه بعض مراتب التدبير والربوبية فذلك شرك دون جدال.

وأمّا إذا طلب منه كلّ ذلك أوبعضه بما أنّه عبد لا يقدر على شيء إلاّ بما أقدره اللّه عليه، وأعطاه و أنّه لا يفعل ما يفعل إلاّبإذن اللّه تعالى، و إرادته، فالاستعانة به و طلب العون منه حينئذٍ من صلب التوحيد، من غير فرق بين أن يكون الولي المستعان به حيّاً أو ميّتاً، و أن يكون العمل المطلوب منه عملاً عادياً أو خارقاً للعادة.

٤٩

وأمّا أنّ المستعان قادر على الاِعانة أو لا، أو أنّ هذه الاِستعانة مجدية أو لا، و أنّ هذه الاستغاثة محلّلة أو محرمة، من جهات أُخرى أو لا؟ فكلّذلك خارج عن إطار هذا البحث.

وقس عليه سائر ما يرد عليك من الموضوعات التي يتشدد فيها الوهابيون من غير سند سوى التقليد لابن تيمية أو ابن عبد الوهاب، و هم يعتمدون على أقوال الرجال مكان الاعتماد على النصوص في الكتاب و السنّة فترى انّ استدلالاتهم تدور حول أقوالهم

لقد حصحص الحقّ و بانت الحقيقة بأجلى مظاهرها ولعلّه لم تبق لمجادل شبهة، ولمرتاب، شك، غير أنّ هنا أُموراًربما تطرح بصورة السوَال أو تدور في خلد القارىَ الكريم فلنأت بها، مع أجوبتها على وجه الايجاز.

أسئلة و أجوبة

السوَال الاَوّل : هل هناك من يفسّر العبادة على غرار ما مضى؟

الجواب

إنّ هناك جماعة من المحقّقين من يفسر العبادة بنحو ما تقدم، منهم الاَقطاب الاَربعة للعلم و الفضيلة من علماء النجف الاَشرف و الاَزهر الشريف، و نذكرهم حسب تقدم تاريخ وفاتهم.

١ـ الشيخ جعفر كاشف الغطا (١١٥٦ـ١٢٢٨ )

قال في كتابه الذي ألّفه رداً على رسالة عبد العزيز بن سعود:

لا ريب انّه لا يُراد بالعبادة (التي لا تكون إلاّ للّه، و من أتى بها لغير اللّه، فقد كفر) مطلقُ الخضوع والخشوع والانقياد، كما يظهر من كلام أهل اللغة، و إلاّ لزم كفر العبيد والاَُجراء و جميعُ الخدّام للاَُمراء، بل كفر الاَنبياء في خضوعهم للآباء، و جميع من تواضع للاخوان، أو لاَحد من أصحاب الاِحسان.

وإنّما الباعث على الكفر، إنقياد البعض لبعض العباد مع اعتقاد استحقاقهم ذلك بالاستقلال من دون توجه الاَمر من الكريم المتعال، و أنّ لهم تدبيراً و اختياراً.

٥٠

إين حال المسلمين مِنْ حال مَنْ جعل الآلهة ثلاثة، أو اثنين، و اتخذ الملائكة أرباباً دون اللّه، وبعض المخلوقين أنداداً و شركاء، يعبدونها من دون اللّه أو مع اللّه، إمّا لاَهليتهم، أو لترتب التقرب إلى اللّه زلفى، من دون أمر اللّه لهم بذلك، قال تعالى:( وَ ما أنْزَلَ اللّه بِها مِنْ سُلْطانٍ ) . (يوسف|٤٠)

إعلم انّالاَلفاظ اللغوية والعرفية العامة، قد تبقى على حالها من المعاني القديمة، فتلك لا تحتاج إلى بيان، سواء وردت في السنة و القرآن أم لا.

وأمّا إذا انقلبت عن المعاني الاَوّلية إلى غيرها، أو استعملت في المعاني الثانوية على وجه المجازية، فهي من المجمل المحتاج إلى البيان، كلفظ الصلاة، و الصيام، و الحجّ، فانّه لو لم يبينها الشرع لبقيت على إجمالها، حيث لا يراد منها مطلق الدعاء والاِمساك والقصد، بل معنى جديد تتوقف معرفته على بيان و تحديد.

و من هذا القبيل ما نحن فيه من لفظ العبادة والدعاء ونحوهما، فانّه لايراد بهما في لحوق الشرك بهما، المعنى القديم، و إلاّ لزم كفر الناس من يوم أدم إلى يومنا هذا، لاَنّ العبادة بمعنى الطاعة، و الدعاء بمعنى النداء والاستعانة بالمخلوق لايخلو منها أحد.

ومن أطوع من العبد لسيّده، و الزوجة لزوجها، و الرعية لملوكهم، ولا زالو ينادونهم و يطلبونهم إعانتهم و مساعدتهم، بل الروَسا، لم يزالوا يستغيثون بجنودهم وأتباعهم و يندبونهم.

فعلم انّه لا يراد بهذه المذكورات المعاني السابقات، و تعينت إرادة المعاني الجديدة.

وقال في تحقيق الدعاء الذي هو مخّ العبادة: إن أُريد بدعوة غير اللّه والاستغاثة، اسناد الاَمر إلى المخلوق على انّه الفاعل المختار، الذي تنتهي إليه المنافع والمضار، فذلك من أقوال الكفار، و المسلمون بجملتهم براء من هذه المقالة، و من قائلها، و ما أظن أنّ أحداً ممن في بلاد المسلمين يرى هذا الرأي، ولاسمعناه من أحد إلى يومنا هذا.

وإن أريد انّ المدعوّ و المستغاث به، له اختيار وتصرّف في أمر اللّه، فيحكم على اللّه، فهذا أشدّ كفراً من الاَوّل.

وإن أُريد دعاوَه و الاستغاثة به، للدعاء والشفاعة (أي ليدعوَ له أو يشفع له عند اللّه)، فهذا من أعظم الطاعات، و فيه محافظة على الآداب من كلّالجهات.

٥١

وكون الدعاء عبادة إنّما يجري في قسم منه، و هو الطلب من الخالق المدبّر الذي جلّ شأنه عن الاَشياء والنظائر، ولو جعلت كلّ دعاء عبادة، للزم أن يكون دعاء زيد لاصلاح بعض الاَُمور، أو دفع بعض المحذور، من قبيل الكفر.(١)

٢ـ البلاغي النجفي (١٢٨٤ـ ١٣٥٢هـ)

إنّالعلاّمة الحجّة المحقّق ، الشيخ محمد جواد البلاغي النجفي قد قام بتفسير العبادة في تفسيره الشريف المسمى بـ «آلاء الرحمن في تفسير القرآن» بنفس التعريف الذي ذكرناه فقد أدى حقّ المقال و نقتبس منه ما يلي:

لا يزال العوام والخواص يستعملون لفظ العبادة على رِسْلِهم و مجرى مرتكزاتهم على طرز واحد كما يفهمون ذلك المعنى بالتبادر، و يعرفون بذوقهم مجازه و وجه التجوز فيه. و إنّالمحور الذي يدور عليه استعمالهم و تبادرهم هو أنّ العبادة ما يرونه مشعراً بالخضوع لمن يتخذه الخاضع إلهاً ليوفيه بذلك ما يراه له من حقّ الامتياز بالالهيّة. أو بعنوان أنّه رمز أو مجسمة لمن يزعمه إلهاً، تعالى اللّه عمّا يشركون. و لكن الخطأ و الشرك أو البهتان و الزور أو الخبط في التفسير وقع هنا في مقامات ثلاثة:

الاَوّل: الاِتيان بما تتحقّق به حقيقة العبادة لما ليس أهلاً لذلك بل هو مخلوق للّه كعبادة الاَوثان مثلاً.

الثاني: مقام البهتان والافتراء و خدمة الاَغراض الفاسدة لترويج التحزبات الاَثيمة فيقولون لمن يوفي النبي أو الاِمام شيئاًمن الاحترام بعنوان أنّه عبد مخلوق للّه، مقرّب عنده لاَنّه عبده و أطاعه، أنّه عَبد ذلك المحترم وأشرك باللّه في عبادته. ألا تدري لمن يبهتون بذلك، يبهتون من يحترم النبي أو الاِمام تقرباًإلى اللّه، لاَنّه اختاره و أكرمه بمقام الرسالة أو الاِمامة التي هي بجعل اللّه و عهده كما وعد اللّه بذلك إبراهيم في قوله تعالى في سورة البقرة:( وَ إِذِ ابْتَلى إِبْراهيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنّاسِ إِماماً قالَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظّالِمينَ ) (البقرة|١٢٤) و هذا الاحترام المعقول المشروع لا يقل عنه و لا يخرج من نوعه ما هو المعلوم والمشاهد من احترام هوَلاء المتحزبين، لملوكهم، وزعمائهم، وحكّامهم، وخضوعهم لهم بالقول والعمل.

____________

(١) جعفر النجفي المعروف بكاشف الغطاء، منهج الرشاد:٨٦ـ٩١ بتلخيص.

٥٢

المقام الثالث: كثيراً ما فُسِّرت العبادة بأنّها ضرب من الشكر، مع ضرب من الخضوع، أو الطاعة وهل يخفى عليك أنّهذه التفاسير مبنيّة على التساهل بخصوصيات الاستعمال، أو الارتباك في مقام التفسير، وهل يخفى أنّأغلب الاَفراد من كلّ واحد ممّا ذكروه لا يراه الناس عبادة و يغلطون من يسمّيها أو بعضها عبادة إلاّ على سبيل المجاز. و إنّلفظ العبادة و ما يشتق منه كَعَبَدَو يَعْبُد لا تجدها مستعملة على وجه الحقيقة إلاّفيما ذكرناه من معاملة الاِنسان لمن يتخذه إلهاًمعاملة الاِله، المستحق لذلك بمقامه في الآلهية.(١)

٣ـ القضاعي العزامي الشافعي (١٢٨٤ـ ١٣٥٨هـ)

قد ألف العلاّمة المدقق الشيخ سلامة القضاعي العزامي المصري كتاباً أسماه «فرقان القرآن بين صفات الخالق وصفات الاَكوان»، و طُبع في مقدمة الاَسماء و الصفات للبيهقي وهو من أنفس ما كتب في هذا الموضوع، و قداشتمل بإيجازه على عقائد ابن تيمية و نقده بالعرض على الكتاب والسنّة غير أنّأنصار الحشوية، عمدوا في الآونة الاَخيرة إلى إبعاد الكتاب عن متناول الطالبين فطبعوا كتاب البيهقي مجرّداًعن هذا التقديم. مع أنّه لايقلّ عن ذيه لولم نقل إنّه يزيد عليه وزناًو قيمة. فقد أفاض الكلام في معنى العبادة على وجه دقيق نقتبس منه مايلي:

إنّ الغلط في تفسير العبادة، المزلقةُ الكبرى والمزلَّة العظمى، التي أُستحِلت بها دماءُ لا تحصى، وانتهكت بها أعراض لا تعد، وتقاطعت فيها أرحام أمر اللّه بها أن توصل، عياذاً باللّه من المزالق والفتن. ولاسيما فتن الشبهات. فاعلم أنّهم فسروا العبادة بالاِتيان بأقصى غاية الخضوع ، و أرادوا بذلك المعنى اللغوي، أمّا معناها الشرعي فهو أخصّ من هذا كما يظهر للمحقّق الصبّار على البحث من استقراء مواردها في الشرع، فانّه الاِتيان بأقصى غاية الخضوع قلباً، باعتقاد ربوبية المخضوع له، فإن انتفى ذلك الاعتقاد لم يكن ما أتى به من الخضوع الظاهري من العبادة شرعاً، في كثير ولا قليل مهما كان المأتي به و لو سجوداً.

____________

(١) البلاغي: آلاء الرحمن في تفسير القرآن ١:٥٧ـ ٥٨.

٥٣

ومثل اعتقاد الربوبية اعتقاد خصيصة من خصائصها كالاستقلال بالنفع و الضرّ، و كنفوذ المشيئة لا محالة و لو بطريق الشفاعة لعابده عند الربّ الّذي هو أكبر من هذا المعبود. و إنّما كفر المشركون بسجودهم لاَوثانهم و دعائهم إيّاهم، وغيرهما من أنواع الخضوع لتحقّق هذا القيد فيهم، و هو اعتقادهم ربوبية ما خضعوا له، أو خاصة من خواصها كما سيأتيك تفصيله.و لا يصحّ أن يكون السجود لغير اللّه فضلاً عمّا دونه من أنواع الخضوع بدون هذا الاعتقاد، عبادة شرعاً (كسجود الملائكة لآدم)، فانّه حينئذٍ يكون كفراً و ما هو كفر فلا يختلف باختلاف الشرائع، ولا يأمر اللّه عزّ وجلّ به( قُلْ إِنَّ اللّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ ) (الاَعراف|٢٨)( وَ لا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْر ) (الزمر|٧) و ذلك ظاهر إن شاء اللّه.

و ها أنت ذا تسمع اللّه تعالى قد قال للملائكة:( اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاّ ابلِْيسَ أَبى وَ اسْتَكْبَرَ ) (البقرة|٣٤)و قال:( أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ ) (الاَعراف|١٢)وقال:( ءَ أَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً ) (الاِسراء|٦١) والقول بأنّ آدم كان قبلة قول لا يرضاه التحقيق و يرفضه التدقيق في فهم الآيات كما ينبغي أن تفهم.

فإن تعسّر عليك فهم هذا و هوليس بعسير إن شاء اللّه تعالى، فانظر إلى نفسك فانّه قد يقضي عليك أدبك مع أبيك و احترامك له أن لا تسمح لنفسك بالجلوس أو الاضطجاع بين يديه، فتقف أو تقعد ساعة أو فوقها، و لا يكون ذلك منك عبادة له، لماذا لاَنّه لم يقارن هذا الفعل منك اعتقاد شيء من خصائص الربوبية فيه. و تقف في الصلاة قدر الفاتحة و تجلس فيها قدر التشهد و هو قدر دقيقة أو دقيقتين فيكون ذلك منك عبادة لمن صلّيتَ له، و سرّ ذلك هو أنّهذا الخضوع الممثّل في قيامك و قعودك يقارنه اعتقادك الربوبية لمن خضعتَ له عزّوجل.

٥٤

وتدعو رئيسك في عمل من الاَعمال أو أميرك أن ينصرك على باغ عليك أو يغنيك من أزمة نزلت بك و أنت معتقد فيه انّه لا يستقل بجلب نفع أو دفع ضر، و لكن اللّه جعله سبباً في مجرى العادة يقضي على يديه من ذلك ما يشاء فضلاً منه سبحانه، فلا يكون ذلك منك عبادة لهذا المدعوّ، و أنت على ما وصفنا، فإن دعوتَه و أنت تعتقد فيه أنّه مستقل بالنفع، أو الضرّ، أو نافذ المشيئة مع اللّه لا محالة، كنت له بذلك الدعاء عابداً، و بهذه العبادة أشركته مع اللّه عزّوجلّ، لاَنّك قد اعتقدت فيه خصيصة من خصائص الربوبية، فانّالاستقلال بالجلب أو الدفع و نفوذ المشيئة لا محالة هو من خصائص الربوبية، والمشركون إنّما كفروا بسجودهم لاَصنامهم و نحوه لاعتقادهم فيها الاستقلال بالنفع، أو الضرّ ونفوذ مشيئتهم لامحالة مع اللّه تعالى، و لو على سبيل الشفاعة عنده، فانّهم يعتبرونه الربّ الاَكبر و لمعبوداتهم ربوبية دون ربوبيته، و بمقتضى ما لهم من الربوبية وجب لهم نفوذ المشيئة معه لا محالة.

ويدل لما قلنا آيات كثيرة كقوله تعالى:( أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُركُمْ مِنْ دُونِ الرَّحمنِ إِنِ الْكافِرونَ إِلاّ في غُرُورٍ ) (الملك |٢٠) و قوله :( أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَ لا هُمْ مِنْها يَصْحَبُونَ ) (الاَنبياء|٤٣) و الاستفهام في الآيتين إنكاري على سبيل التوبيخ لهم على ما اعتقدوه. وحكى اللّه عن قوم هود قولهم لهعليه‌السلام :( إِنْ نَقُولُ إِلاّاعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ ) (هود|٥٤) وقوله لهم:( فَكِيدُوني جَميعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ*إِنّي تَوَكَلْتُ عَلَى اللّهِ رَبِّي وَ رَبِّكُمْ... ) (هود|٥٥ـ٥٦) و كقوله تعالى موبخاً لهم يوم القيامة على ما اعتقدوه لها من الاستقلال بالنفع ووجوب نفوذ مشيئتها:( أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ* مِنْ دُونِ اللّهِ هَلْ يَنصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ ) (الشعراء|٩٢ـ٩٣) و قولهم و هم في النار يختصمون يخاطبون من اعتقدوا فيهم الربوبية و خصائصها:( تَاللّهِ إِنْ كُنّا لَفِي ضَلالٍ مُبينٍ* إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمينَ ) (الشعراء|٩٧ـ٩٨) فانظر إلى هذه التسوية التي اعترفوا بها حيث يصدق الكذوب، ويندم المجرم حين لا ينفعه ندم. فانّالتسوية المذكورة إن كانت في إثبات شيء من صفات الربوبية فهو المطلوب، و من هذه الحيثية شركهم و كفرهم، لاَنّصفاته تعالى تجب لها الوحدانية بمعنى عدم وجود نظير لها في سواه عزّ وجلّ. و إن كانت التسوية في استحقاقها للعبادة فهو يستلزم اعتقاد الاشتراك فيما به الاستحقاق، و هو صفات الاَُلوهية أو بعضها، و إن كانت في العبادة نفسها فهي لا تكون من العاقل إلاّلمن يعتقد استحقاقه لها كربّ العالمين ، تعالى اللّه عمّا يشركون.

٥٥

وكيف يُنفى عنهم اعتقاد الربوبية بآلهتهم وقد اتّخذوها أنداداً و أحبوها كحبّاللّه كما قال تعالى فيهم:( وَ مِنَ النّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللّهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ ) (البقرة|١٦٥) و الاَنداد جمع «ند» و هو على ما قاله أهل التفسير واللغة: المثل المساوى، فهذا ينادي عليهم انّهم اعتقدوا فيها ضرباً من المساواةللحقّ تعالى عمّا يقولون. (١)

٤ـ فقيه العصر السيد الخوئي (١٣١٧ـ ١٤١٢هـ)

إنّ للسيد الفقيه المحقّق السيد أبي القاسم الخوئيقدَّس سرَّه كلاماً في العبادة في تفسير قوله سبحانه: "إيّاك نعبد و إيّاك نستعين" نأتي به: قال: إنّ حقيقة العبادة خضوع العبد لربّه بما أنّه ربّه و القائم بأمره، و الربوبية تقتضي حضورَ الربّ لتربية مربوبه، و تدبير شوَونه. وكذلك الحال في الاستعانة فانّحاجة الاِنسان إلى إعانة ربّه و عدم استغنائه عنه في عبادته، تقتضي حضورَ المعبود لتتحقّق منه الاِعانة، فلهذين الاَمرين عدل السياق من الغيبة إلى الخطاب فالعبد حاضر بين يدي ربّه غير غائب عنه.

مما لا يرتاب فيه مسلم أنّالعبادة بمعنى التألّه، تختص باللّه سبحانه وحده، وقد قلنا : إنّهذا المعنى هو الذي ينصرف إليه لفظ العبادة عند الاِطلاق، و هذا هو التوحيد الذي أُرسلت به الرسل، و أُنزلت لاَجله الكتب:

( قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلاّ نَعْبُدَ إِلاّ اللّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيئاً وَلايَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللّهِ ) (آل عمران|٦٤).

فالاِيمان باللّه تعالى لا يجتمع مع عبادة غيره، سواء أنشأت هذه العبادة عن اعتقاد التعدد في الخالق، و إنكار التوحيد في الذات، أم نشأت عن الاعتقاد بأنّالخلق معزولون عن اللّه فلا يصل إليه دعاوَهم، وهم محتاجون إلى إله أو آلهة أُخرى تكون وسائط بينهم و بين اللّه يقربونهم إليه، و شأنه في ذلك شأن الملوك و حفدتهم، فانّالملك لما كان بعيداً عن الرعية احتاجت إلى وسائط يقضون حوائجهم، و يجيبون دعواتهم.

____________

(١) القضاعي العزامي المصريّ، فرقان القرآن : ١١١ _ ١١٤ .

٥٦

وقد أبطل اللّه سبحانه كلا الاعتقادين في كتابه العزيز، فقال تعالى في إبطال الاعتقاد بتعدد الآلهة:

( لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاّ اللّهُ لَفَسَدتا ) (الاَنبياء|٢٢)( وَ ما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَ لَعَلا بَعضُهُمْ عَلى بَعْضٍ سُبْحانَ اللّهِ عَمّا يَصِفُونَ ) (الموَمنون|٩١).

وأمّا الاعتقاد الثاني ـ و هو إنّما ينشأ عن مقايسته بالملوك و الزعماء من البشر ـ فقد أبطله اللّه بوجوه من البيان:

فتارة يطلب البرهان على هذه الدعوى، و انّها ممّا لم يدل عليه دليل، فقال:

( ءَ إِلهٌ مَعَ اللّهِ قُلْ هاتُوا بُرهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقينَ ) (النمل|٦٤)( قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظِلُّ لَها عاكِفينَ* قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعونَ*او يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُّون* قالُوا بَلْوَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ ) (الشعراء٧١ـ ٧٤).

و أُخرى بإرشادهم إلى ما يدركونه بحواسهم من أنّما يعبدونه لا يملك لهم ضرّاًو لا نفعاً، والّذي لا يملك شيئاًمن النفع والضرّ، والقبض والبسط، و الاِماتة و الاِحياء، لا يكون إلاّمخلوقاً ضعيفاً، ولا ينبغي أن يتخذ إلهاً معبوداً.

( قالَ أَفَتَعْبُدونَ مِنْ دُونِ اللّهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيئاً وَ لايَضُرُّكُمْ * أُفٍّ لَكُمْ وَ لِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ أَفٍلا تَعْقِلُونَ ) (الاَنبياء |٦٦ـ ٦٧).( قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَ لا نَفْعاً ) (المائدة|٧٦)( أَلَمْ يَرَوا أَنّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَ لا يَهْدِيِهِمْ سَبيلاً اتَّخَذُوهُ وَكانُوا ظالِمينَ ) (الاَعراف|١٤٨)(١)

السوَال الثاني : ما هوالمراد من العبادة في هذه الآيات؟

إذا كانت العبادةُ هي الخضوع أمام موجود بما أنّه إله أو ربّ أو من بيده مصير الاِنسان أو بيده أفعاله من شفاعة و مغفرة، فما هو المراد منها في الآيات التالية التي لايصحُّ تفسير العبادة فيها بالمعنى المذكور؟

____________

(١) السيدا لخوئي: البيان في تفسير القرآن:٤٥٥ـ ٤٦٢.

٥٧

قال سبحانه حاكياً عن الخليلعليه‌السلام :

( يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ إِنَّ الشَّيطانَ كانَ للرَّحْمنِ عَصِيّاً ) (مريم|٤٤).

ومن المعلوم أنّمخاطَبَ الخليل ، لم يكن يعبد الشيطان بالمعنى المذكور إذ لميتخذه إلهاً و رباً، و إنّما كان يعبد التماثيل والاَصنام بما أنّها آلهة و أرباب و هذا إن دلّعلى شيء، فإنّما يدل على أنّه يصحّ استعمالها في مورد لم يكن المخضوع له إلهاً ولا ربّاً لدى الخاضع.

وقال سبحانه:

( أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَني آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبينٌ ) (يس|٦٠) و ليس الشيطان عند الكفّار والعصاة إلهاً ولا ربّاً، مع أنّه وصف الانقياد له بالعبادة.

وقال سبحانه:

( فَقالُوا أَنُوَْمِنُ لِبَشَرينِ مِثْلِنا وَقَومُهُما لَنا عابِدُونَ ) (الموَمنون|٤٧) و لميكن بنو إسرائيل عبدةً لفرعونَ و قومه بالمعنى المطلوب وإنّما كانوا أذلاّء بأيديهم.

الجواب

أمّا الآية الاَُولى، فقد استعيرت العبادة فيها ، للطاعة العمياء ، للشيطان على الدوام، فكان اتباعهم الشيطان في كل ما يأمر و ينهى يمثِّل أنّهم اتّخذوه إلهاً و ربّاً فأطاعوه كإطاعة الموَمنين للّه على بصيرة من أمرهم بما انّه إلههم و ربّهم. فكأنّ الخليل يخاطب آزر و يقول له: يا أبت لا تطع الشيطان فيما يأمرك به من عبادة الاَصنام لاَنّالشيطان عصِـيّ مقيم على معصية اللّه الّذي هو مصدر كلّرحمة و نعمة، فهو لا يأمر إلاّ بما فيه معصيته و الحرمان من رحمته.

ومثلها الآية الثانية، فالمراد هوالطاعة فاستعيرت لها العبادة تبييناً لاَمرها والمراد منها التبعيّة المطلقة العشوائية التي نهيت عنها في عدّة آيات بهذه اللفظة قال سبحانه:( كُلُوا مِمّا فِي الاََرْضِ حَلالاً طَيِّباً ولا تتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ ) (البقرة|١٦٨) و قال تعالى:( ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كافَّةً وَ لا تَبَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ ) (البقرة|٢٠٨) و قال عزّمن قائل :( وَ مِنَ النّاسِ مَنْ يُجادِ لُفِي اللّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَريدٍ ) (الحجّ|٣).

و بالجملة: تبعيتهم للشيطان أو إطاعتهم للهوى و الميول النفسانية، يمثّل اتّخاذهم لها إلهاً، أو ربّاً قال سبحانه:( أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً ) (الفرقان|٤٣).

٥٨

وقال عزّ من قائل:( أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَ أَضَلَّهُ اللّهُ عَلى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَ قَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ ) (الجاثية|٢٣) أي «انقاد لهواه كانقياده لاِلهه، فيرتكب ما يدعوه إليه ، نعم انّهم لم يتخذوا هواهم إلهاً حقيقة لكنّهم لمّا إنقادوا حيثما قادهم الهوى، فكأنّه صار إلهاً لهم.

ومثله قوله سبحانه:( أَنُوَْمِنُ لِبَشَرَيْنِ وَ قَوْمَهُما لَنا عابدون ) و المراد هو المعنى اللغوى المحض أي خاضعون، متذللون، و منه أيضاً إطلاق المعبّد على الطريق الذي يكثر المرور عليه. والآية نظير قوله:( وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائيلَ ) (الشعراء|٢٢) أي جعلتهم أذلاّء تَذْبَح أبناءهم و تستحيي نساءهم.

وحصيلة البحث: أنّ استعمال العبادة في مورد الشيطان، أو الاِله في مورد الهوى من باب مجاز الاستعارة، والغاية هو بيان فرط خضوعهم للشيطان أو الميول النفسانية، وأمّا استعمالها في قوم موسى فالمقصود هو المعنى اللغوي. و ممّا ذكرنا تقف على مفاد العبادة في الحديث المعروف:

من أصغى إلى ناطق فقدعبده، فإن نطق عن اللّه فقد عبد اللّه، و إن نطق عن الشيطان فقد عبد الشيطان.(١)

فقد استعيرت العبادة في الحديث للطاعة المطلقة التي نعبر عنها بالاستسلام المطلق فيتقبل السامع كلّما يلقيه فيكون مطيعاً في أوامره و نواهيه، وفي مثل هذا الموقف بما أنّ الناطق مبلِّغ عن غيره فكأنّه مطيع للغير محقّاً كان أو مبطلاً.

السوَال الثالث : ما هو حكم إطاعة غير اللّه و الخضوع له ؟

قد تعرفت ـ فيما مضى ـ أنّ التوحيد في الطاعة من مراتب التوحيد وانّه لا مطاع إلاّاللّه سبحانه فيقع الكلام في إطاعة غيره فنقول هي على أقسام:

الاَوّل: أن تكون طاعتُه بأمر من اللّه سبحانه كما هو الحال في إطاعة الرسول و خلفائه الطاهرين و هي في الحقيقة اطاعة للّه، قال سبحانه:( وَمَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللّهَ ) (النساء|٨٠)و قال عزّمن قائل:( وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاّ لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللّهِ ) (النساء|٦٤).

____________

(١) الكليني: الكافي٤|٤٣٤.

٥٩

الثاني: أن تكون طاعته منهيّاً عنها كإطاعة الشيطان و من يأمر بالعصيان

قال سبحانه:( يا أَيهَا النَبِيُّ اتَّقِ اللّهِ وَلا تُطِعِ الْكافِرينَ وَالْمُنافِقينَ إِنَّ اللّهَ كانَ عَليماً حَكيماً ) (الاَحزاب|١) وقال عزّ من قائل:( وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما ) (لقمان|١٥)

الثالث: أن لا يتعلّق بها أمر و لا نهي في الشرع فتكون حينئذٍ جائزة غير واجبة ولا محرّمة كإطاعة الجندي لآمره، و العامل لربّ عمل، وهكذا إطاعة كلّ مروَوس لرئيسه في أيّ تجمع كان، إذا لم يأمر بالحرام.

إنّ كلّ تجمع سواء كان عسكرياً أو مدنياً، يتشكّل من أعضاء ذوي مراتب مختلفة و لايصل إلى الغاية المنشودة إلاّإذا كانت بين الاَعضاء درجات في مستويات الاِمرة، ففي مثل هذا التجمع تلزم الطاعة من العناصر المقومة للوصول إلى الغاية، و لاتعد تلك الطاعة شركاً منافياً لحصر الطاعة في اللّه و ذلك لاَنّالشارع أعطى حرية التعامل بين هذه المستويات بشرط أن لا يكون فيه تجاوز عن الحدود، و الطاعة بين المروَوس و رئيسه من لوازم انجاز الاَعمال وتحقيق الغاية ضمن عقد اجتماعي، وأين هي من طاعة اللّه سبحانه بما أنّه إله، خالق، ربّ.

وأمّا الخضوع للغير فهو على أقسام:

أحدها: الخضوع لمخلوق من دون أن يكون بينه و بين خالقه، إضافة خاصة كخضوع الولد لوالده، و الخادم لسيده و المتعلم لمعلّمه و غير ذلك من الخضوع المتداول بين الناس، و هذا الفرع من الخضوع جائز مالم يرد فيه نهي كالسجود لغير اللّه قال سبحانه:( وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَ قُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغيراً ) (الاِسراء|٢٤).

ثانيها: الخضوع للمخلوق باعتقاد أنّ له إضافة خاصة إلى اللّه يستحقّمن أجلها، الخضوع له، مع كون العقيدة خاطئة، باطلة كخضوع أهل المذاهب الفاسدة لروَسائهم، فلا شكّ في أنّها حرام لكونها تشريعاً و إدخالاً في الدين لما ليس منه قال سبحانه:( فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرى عَلَى اللّهِ كَذِباً ) (الكهف|١٥).

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

أقول: و الروايات في القصص الّتي أعقبت تحريم الخمر في الإسلام كثيرة من طرق الجمهور على ما فيها من الاختلاف الشديد.

أمّا هؤلاء الّذين ذكر منهم الشرب من الصحابة فلا شأن لنا في البحث عنهم فيما نحن بصدده من البحث المرتبط بالتفسير غير أنّ هذه الروايات تؤيّد ما ذكرناه في البيان السابق: أنّ في الآيات إشعاراً أو دلالة على أنّ رهطاً من المسلمين ما تركوا شرب الخمر بعد نزول آية البقرة حتّى نزلت آية المائدة.

نعم ورد في بعض الروايات أنّ عليّاًعليه‌السلام و عثمان بن مظعون كانا قد حرّما الخمر على أنفسهما قبل نزول التحريم، و قد ذكر في الملل و النحل رجالاً من العرب حرّموا الخمر على أنفسهم في الجاهليّة، و قد وفّق الله سبحانه بعض هؤلاء أن أدرك الإسلام و دخل فيه، منهم عامر بن الظرب العدوانيّ، و منهم قيس بن عامر التميميّ و قد أدرك الإسلام، و منهم صفوان بن اُميّة بن محرث الكنانيّ و عفيف بن معدي كرب الكنديّ و الاُسلوم الياميّ و قد حرّم الزنا و الخمر معاً، و هؤلاء آحاد من الرجال جرى كلمة الحقّ على لسانهم، و أمّا عامّتهم في الجاهليّة كعامّة أهل الدنيا يومئذ إلّا اليهود فقد كانوا يعتادون شربها من غير بأس حتّى حرّمها الله سبحانه في كتابه.

و الّذي تفيده آيات الكتاب العزيز أنّها حرّمت في مكّة قبل الهجرة كما يدلّ عليه قوله تعالى:( قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَ ما بَطَنَ وَ الْإِثْمَ وَ الْبَغْيَ ) الأعراف: ٣٣ و الآية مكّيّة، و إذا انضمّت إلى قوله تعالى:( يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَ مَنافِعُ لِلنَّاسِ وَ إِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما ) البقرة: ٢١٩، و هي آية مدنيّة نازلة في أوائل الهجرة لم يبق شكّ في ظهور حرمتها للمسلمين يومئذ، و إذا تدبّرنا في سياق آيات المائدة، و خاصّة فيما يفيده قوله:( فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ ) و قوله:( لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا ) ، الآية انكشف أنّ ما ابتلي به رهط منهم من شربها فيما بين نزول آية البقرة و آية المائدة إنّما كان كالذنابة لسابق العادة السيّئة نظير ما كان من النكاح في ليلة الصيام

١٤١

عصياناً حتّى نزل قوله تعالى:( أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى‏ نِسائِكُمْ هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَ أَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ ) البقرة: ١٨٧.

فقد تبيّن أنّ في هذه الروايات كلاماً من وجهين:

أحدهما: من جهة اختلافها في تاريخ تحريم الخمر فقد مرّ في الرواية الاُولى أنّها قبيل غزوة اُحد، و في بعض الروايات: أنّ ذلك بعد غزوة الأحزاب(١) . لكنّ الأمر في ذلك سهل في الجملة لإمكان حملها على كون المراد بتحريم الخمر فيها نزول آية المائدة و إن لم يوافقه لفظ بعض الروايات كلّ الموافقة.

و ثانيهما: من جهة دلالتها على أنّ الخمر لم تكن بمحرّمة قبل نزول آية المائدة أو أنّها لم تظهر حرمتها قبلئذ للناس و خاصّة للصحابة مع صراحة آية الأعراف المحرّمة للإثم و آية البقرة المصرّحة بكونها إثماً، و هي صراحة لا تقبل تأويلاً.

بل من المستبعد جدّاً أن تنزل حرمة الإثمّ بمكّة قبل الهجرة في آية تتضمّن جمل المحرّمات أعني قوله:( قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَ ما بَطَنَ وَ الْإِثْمَ وَ الْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَ أَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَ أَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ ) الأعراف: ٣٣، ثمّ يمرّ عليه زمان غير يسير، و لا يستفسر المؤمنون معناه من نبيّهم و لا يستوضحه المشركون و أكبر همّهم النقض و الاعتراض على كتاب الله مهما توهّموا إليه سبيلاً.

بل المستفاد من التاريخ أنّ تحريم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للخمر كتحريمه الشرك و الزنا كان معروفاً عند المشركين يدلّ على ذلك ما رواه ابن هشام في السيرة عن خلّاد بن قرّة و غيره من مشايخ بكر بن وائل من أهل العلم: أنّ أعشى بني قيس خرج إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يريد الإسلام فقال يمدح رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

____________________

(١) روى ذلك الطبريّ في تفسيره، و السيوطيّ في الدرّ المنثور عنه و عن ابن المنذر عن قتادة.

١٤٢

أ لم تغتمض عيناك ليلة أرمدا

و بتّ كما بات السليم مسهّداً

(القصيدة).

فلمّا كان بمكّة أو قريباً منها اعترضه بعض المشركين من قريش فسأله عن أمره فأخبره أنّه جاء يريد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليسلم فقال له: يا أبا بصير إنّه يحرّم الزنا فقال الأعشى: و الله إنّ ذلك لأمر ما لي فيه من إرب، فقال له: يا أبابصير فإنّه يحرّم الخمر فقال الأعشى: أمّا هذه فإنّ في النفس منها لعلالات، و لكنّي منصرف فأتروّى منها عامي هذا ثمّ آتيه فاُسلم فانصرف فمات في عامه ذلك و لم يعدّ إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

فلا يبقى لهذه لروايات إلّا أن تحمل على استفادتهم ذلك باجتهادهم في الآيات مع الذهول عن آية الأعراف، و للمفسّرين في تقريب معنى هذه الروايات توجيهات غريبة(١) .

و بعد اللتيّا و الّتي فالكتاب نصّ في تحريم الخمر في الإسلام قبل الهجرة، و لم تنزل آية المائدة إلّا تشديداً على الناس لتساهلهم في الانتهاء عن هذا النهي الإلهيّ و إقامة حكم الحرمة.

و في تفسير العيّاشيّ: عن هشام عن الثقة رفعه عن أبي عبداللهعليه‌السلام : أنّه قيل له: روي عنكم: أنّ الخمر و الأنصاب و الأزلام رجال؟ فقال: ما كان ليخاطب الله خلقه بما لا يعقلون.

و فيه: عن عبدالله بن سنان عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: اُتي عمر بن الخطّاب بقدامة بن مظعون و قد شرب الخمر و قامت عليه البيّنة فسأل عليّاً فأمره أن يجلده ثمانين جلدة، فقال قدامة: يا أميرالمؤمنين ليس عليّ حدّ أنا من أهل هذه الآية:( لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا ) فقرأ الآية حتّى استتمّها فقال له عليّعليه‌السلام : كذبت لست من أهل هذه الآية ما طعم أهلها فهو حلال لهم، و ليس يأكلون

____________________

(١) حتّى بذكر بعضهم: أنّ الصحابة كانوا يتأولون آية البقرة:( قيل فيهما إثم) مع تصريح القرآن بحرمة الإثمّ قبل ذلك في آية الأعراف، بأنّ المراد به الإثم الخالص.

١٤٣

و لا يشربون إلّا ما يحلّ لهم.

أقول: و روي هذا المعنى أيضاً عن أبي الربيع عنهعليه‌السلام ، و رواه أيضاً الشيخ في التهذيب، بإسناده عن ابن سنان عنهعليه‌السلام ، و هذا المعنى مرويّ من طرق أهل السنّة أيضاً.

و قولهعليه‌السلام :( ما طعم أهلها فهو حلال لهم، إلخ‏) منطبق على ما قرّرناه في البيان السابق من معنى الآية فراجع.

و في تفسير الطبريّ، عن الشعبيّ قال: نزلت في الخمر أربع آيات:( يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ ) ، الآية فتركوها ثمّ نزلت:( تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَ رِزْقاً حَسَناً ) فشربوها ثمّ نزلت الآيتان في المائدة:( إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ - إلى قوله -فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ ) .

أقول: ظاهره نسخ آية النحل لآية البقرة ثمّ نسخ آيتي المائدة لآية النحل، و أنت لا تحتاج في القضاء على بطلانه إلى بيان زائد.

و في الكافي، و التهذيب، بإسنادهما عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: ما بعث الله نبيّاً قطّ إلّا و في علم الله أنّه إذا أكمل دينه كان فيه تحريم الخمر، و لم يزل الخمر حراماً و إنّما ينقلون من خصلة ثمّ خصلة، و لو حمل ذلك جملة عليهم لقطع بهم دون الدين، قال: و قال أبوجعفرعليه‌السلام : ليس أحد أرفق من الله تعالى فمن رفقه تبارك و تعالى أنّه ينقلهم من خصلة إلى خصلة و لو حمل عليهم جملة لهلكوا.

و في الكافي، بإسناده عن عمرو بن شمر عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: لما أنزل الله عزّوجلّ على رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ وَ الْأَنْصابُ وَ الْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ ) قيل: يا رسول الله ما الميسر؟ قال: كلّما تقمّرت به حتّى الكعاب و الجوز، قيل: فما الأنصاب؟ قال: ما ذبحوا لآلهتهم قيل: فما الأزلام؟ قال: قداحهم الّتي يستقسمون بها.

و فيه،: بإسناده عن عطاء بن يسار عن أبي جعفرعليه‌السلام : قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : كلّ مسكر حرام، و كلّ مسكر خمر.

أقول: و الرواية مرويّة من طرق أهل السنّة أيضاً عن عبدالله بن عمر عن النبيّ

١٤٤

صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و لفظها: كلّ مسكر خمر، و كلّ خمر حرام رواها البيهقيّ و غيره، و قد استفاضت الروايات عن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام بأنّ كلّ مسكر حرام، و أنّ كلّما يقامر عليه فهو ميسر.

و في تفسير العيّاشيّ: عن أبي الصباح عن أبي عبداللهعليه‌السلام : قال: سألته عن النبيذ و الخمر بمنزلة واحدة هما؟ قال: لا، إنّ النبيذ ليس بمنزلة الخمر، إنّ الله حرّم الخمر قليلها و كثيرها كما حرّم الميتة و الدم و لحم الخنزير، و حرّم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الأشربة المسكر، و ما حرّم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقد حرّم الله.

و في الكافي، و التهذيب، بإسنادهما عن موسى بن جعفرعليه‌السلام قال: إنّ الله لم يحرّم الخمر لاسمها و لكن حرمها لعاقبتها، فما كان عاقبتها عاقبة الخمر فهو خمر، و في رواية: فما فعل فعل الخمر فهو خمر.

أقول: و الأخبار في ذمّ الخمر و الميسر من طرق الفريقين فوق حدّ الإحصاء من أراد الوقوف عليها فعليه بجوامع الحديث.

١٤٥

( سورة المائدة الآيات ٩٤ - ٩٩)

يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنّكُمُ اللّهُ بِشَيْ‏ءٍ مِنَ الصّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللّهُ مِن يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى‏ بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ( ٩٤) يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْتُلُوا الصّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُتَعَمّدَاً فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنكُمْ هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِيَاماً لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللّهُ عَمّا سَلَفَ وَمَن عَادَ فَيَنتَقِمُ اللّهُ مِنْهُ وَاللّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ( ٩٥) أُحِلّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعَاً لَكُمْ وَلِلسّيّارَةِ وَحُرّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدَ الْبَرّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً وَاتّقُوا اللّهَ الّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ( ٩٦) جَعَلَ اللّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِلنّاسِ وَالشّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلاَئِدَ ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السّماوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنّ اللّهَ بِكُلّ شَيْ‏ءٍ عَلِيمٌ( ٩٧) اعْلَمُوا أَنّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ( ٩٨) مَا عَلَى الرّسُولِ إِلّا الْبَلاَغُ وَاللّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ( ٩٩)

( بيان)

الآيات في بيان حكم صيد البرّ و البحر في حال الإحرام.

قوله تعالى: ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللهُ بِشَيْ‏ءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَ رِماحُكُمْ ) البلاء هو الامتحان و الاختبار، و لام القسم و النون المشدّدة للتأكيد، و قوله:( بِشَيْ‏ءٍ مِنَ الصَّيْدِ ) يفيد التحقير ليكون تلقينه للمخاطبين عوناً لهم على انتهائهم إلى ما سيواجههم من النهي في الآية الآتية، و قوله:( تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَ رِماحُكُمْ ) تعميم للصيد من حيث سهولة الاصطياد كما في فراخ الطير و صغار الوحش و البيض تنالها الأيدي فتصطاد بسهولة، و من حيث صعوبة الاصطياد ككبار الوحش لا تصطاد عادة إلّا بالسلاح.

١٤٦

و ظاهر الآية أنّها مسوقة كالتوطئة لما ينزل من الحكم المشدّد في الآية التالية، و لذلك عقّب الكلام بقوله:( لِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ ) فإنّ فيه إشعاراً بأنّ هناك حكماً من قبيل المنع و التحريم ثمّ عقّبه بقوله:( فَمَنِ اعْتَدى‏ بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ ) .

قوله تعالى: ( لِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ ) لا يبعد أن يكون قوله: ليبلونّكم الله ليعلم كذا كناية عن أنّه سيقدّر كذا ليتميّز منكم من يخاف الله بالغيب عمّن لا يخافه لأنّ الله سبحانه لا يجوز عليه الجهل حتّى يرفعه بالعلم، و قد تقدّم البحث المستوفى عن معنى الامتحان في تفسير قوله تعالى:( أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ ) الآية: آل عمران: ١٤٢ في الجزء الرابع من هذا الكتاب، و تقدّم أيضاً معنى آخر لهذا العلم.

و أمّا قوله:( مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ ) فالظرف متعلّق بالخوف، و معنى الخوف بالغيب أن يخاف الإنسان ربّه و يحترز ما ينذره به من عذاب الآخرة و أليم عقابه، و كلّ ذلك في غيب من الإنسان لا يشاهد شيئاً منه بظاهر مشاعره، قال تعالى:( إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ ) يس: ١١، و قال:( وَ أُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ، هذا ما تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ، مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ وَ جاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ ) ق: ٣٣، و قال:( الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَ هُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ ) الأنبياء: ٤٩.

و قوله:( فَمَنِ اعْتَدى‏ بَعْدَ ذلِكَ ) أي تجاوز الحدّ الّذي يحدّه الله بعد البلاء المذكور فله عذاب أليم.

قوله تعالى: ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَ أَنْتُمْ حُرُمٌ ) إلخ، الحرم بضمّتين جمع الحرام صفة مشبهة، قال في المجمع: و رجل حرام و محرم بمعنى، و حلال و محلّ كذلك، و أحرم الرجل دخل في الشهر الحرام، و أحرم أيضاً دخل في الحرم، و أحرم أهلّ بالحجّ، و الحرم الإحرام، و منه الحديث: كنت اُطيّب النبيّ لحرمه، و أصل الباب، المنع و سمّيت النساء حرماً لأنّها تمنع، و المحروم الممنوع الرزق.

١٤٧

قال: و المثل و المثل و الشبه و الشبه واحد، قال: و النعم في اللغة الإبل و البقر و الغنم، و إن انفردت الإبل قيل لها: نعم، و إن انفردت البقر و الغنم لم تسمّ نعماً ذكره الزجّاج.

قال: قال الفرّاء: العدل بفتح العين ما عادل الشي‏ء من غير جنسه، و العدل بالكسر المثل تقول: عندي عدل (بالكسر) غلامك أو شاتك إذا كانت شاة تعدل شاةً أو غلام يعدل غلاماً فإذا أردت قيمته من غير جنسه فتحت و قلت: عدل، و قال البصريّون: العدل و العدل في معنى المثل كان من الجنس أو غير الجنس.

قال: و الوبال ثقل الشي‏ء في المكروه، و منه قولهم: طعام وبيل و ماء وبيل إذا كانا ثقيلين غير ناميين في المال، و منه:( فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلًا ) أي ثقيلاً شديداً، و يقال لخشبة القصّار: وبيل من هذا، انتهى.

و قوله:( لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَ أَنْتُمْ حُرُمٌ ) نهي عن قتل الصيد لكن يفسّره بعض التفسير قوله بعد:( أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ ) هذا من جهة الصيد، و يفسّره من جهة معنى القتل قوله:( وَ مَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ ) إلخ، فقوله:( مُتَعَمِّداً ) حال من قوله:( مَنْ قَتَلَهُ ) و ظاهر التعمّد ما يقابل الخطأ الّذي هو القتل من غير أن يريد بفعله ذلك كمن يرمي إلى هدف فأصاب صيداً، و لازمه وجوب الكفّارة إذا كان قاصداً لقتل الصيد سواء كان على ذكر من إحرامه أو ناسياً أو ساهياً.

و قوله:( فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ ) لظاهر معناه: فعليه جزاء ذلك الجزاء مثل ما قتل من الصيد، و ذلك الجزاء من النعم المماثلة لما قتله يحكم به أي بذلك الجزاء المماثل رجلاًن منكم ذوا عدل في الدين حال كون الجزاء المذكور هدياً يهدي به بالغ الكعبة ينحر أو يذبح في الحرم بمكّة أو بمنى على ما يبيّنه السنّة النبويّة.

فقوله:( فَجَزاءٌ ) بالرفع مبتدأ لخبر محذوف يدلّ عليه الكلام، و قوله:( مِثْلُ ما قَتَلَ ) و قوله:( مِنَ النَّعَمِ ) و قوله:( يَحْكُمُ بِهِ ) إلخ، أوصاف للجزاء، و قوله:( هَدْياً

١٤٨

بالِغَ الْكَعْبَةِ ) موصوف و صفة، و الهدي حال من الجزاء تقدّم، هذا، و قد قيل: غير ذلك.

و قوله:( أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً ) خصلتان اُخريان من خصال كفّارة قتل الصيد، و كلمة( أَوْ ) لا يدلّ على أزيد من مطلق الترديد، و الشارح السنّة، غير أنّ قوله:( أَوْ كَفَّارَةٌ ) حيث سمّى طعام المساكين كفّارة ثمّ اعتبر ما يعادل الطعام من الصيام لا يخلو من إشعار بالترتيب بين الخصال.

و قوله:( لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ ) اللّام للغاية، و هي و مدخولها متعلّق بقوله:( فَجَزاءٌ ) فالكلام يدلّ على أنّ ذلك نوع مجازاة.

قوله تعالى: ( عَفَا اللهُ عَمَّا سَلَفَ وَ مَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ ) ، إلى آخر الآية تعلّق العفو بما سلف قرينة على أنّ المراد بما سلف هو ما تحقّق من قتل الصيد قبل نزول الحكم بنزول الآية فإنّ تعلّق العفو بما يتحقّق حين نزول الآية أو بعده يناقض جعل الحكم و هو ظاهر، فالجملة لدفع توهّم شمول حكم الكفّارة للحوادث السابقة على زمان النزول.

و الآية من الدليل على جواز تعلّق العفو بما ليس بمعصية من الأفعال إذا كان من طبعها اقتضاء النهي المولويّ لاشتمالها على المفسدة، و أمّا قوله:( وَ مَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ وَ اللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ ) فظاهر العود تكرّر الفعل، و هذا التكرّر ليس تكرّر ما سلف من الفعل بأن يكون المعنى: و من عاد إلى مثل ما سلف منه من الفعل فينتقم الله منه لأنّه حينئذ ينطبق على الفعل الّذي يتعلّق به الحكم في قوله:( وَ مَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ ) إلخ و يكون المراد بالانتقام هو الحكم بالكفّارة، و هو حكم ثابت بالفعل لكن ظاهر قوله:( فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ ) أنّه إخبار عن أمر مستقبل لا عن حكم حالّ فعليّ.

و هذا شاهد على أنّ المراد بالعود العود ثانياً إلى فعل تعلّق به الكفّارة، و المراد بالانتقام العذاب الإلهيّ غير الكفّارة المجعولة.

و على هذا فالآية بصدرها و ذيلها تتعرّض لجهات مسألة قتل الصيد، أمّا ما وقع

١٤٩

منه قبل نزول الحكم فقد عفا الله عنه، و أمّا بعد جعل الحكم فمن قتله فعليه جزاء مثل ما قتل في المرّة الاُولى فإن عاد فينتقم الله منه و لا كفّارة عليه، و على هذا يدلّ معظم الأخبار المرويّة عن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام في تفسير الآية.

و لو لا هذا المعنى كان كالمتعيّن حمل الانتقام في قوله:( فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ ) على ما يعمّ الحكم بوجوب الكفّارة، و حمل العود على فعل ما يماثل ما سلف منهم من قتل الصيد أي و من عاد إلى مثل ما كانوا عليه من قتل الصيد قبل هذا الحكم، أي و من قتل الصيد فينتقم الله منه أي يؤاخذه بإيجاب الكفّارة، و هذا - كما ترى - معنى بعيد من اللفظ.

قوله تعالى: ( أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَ طَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَ لِلسَّيَّارَةِ ) إلى آخر الآية، الآيات في مقام بيان حكم الاصطياد من بحر أو برّ، و هو الشاهد على أنّ متعلّق الحلّ هو الاصطياد في قوله:( أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ ) دون أكله، و بهذه القرينة يتعيّن قوله:( وَ طَعامُهُ ) في أنّ المراد به ما يؤكل دون المعنى المصدريّ الّذي هو الأكل و المراد بحلّ طعام البحر حلّ أكله فمحصّل المراد من حلّ صيد البحر و طعامه جواز اصطياد حيوان البحر و حلّ أكل ما يؤخذ منه.

و ما يؤخذ من طعام البحر و إن كان أعمّ ممّا يؤخذ منه صيداً كالعتيق من لحم الصيد أو ما قذفته البحر من ميتة حيوان و نحوه إلّا أنّ الوارد من أخبار أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام تفسيره بالمملوح و نحوه من عتيق الصيد، و قوله:( مَتاعاً لَكُمْ وَ لِلسَّيَّارَةِ ) كأنّه حال من صيد البحر و طعامه، و فيه شي‏ء من معنى الامتنان.

و حيث كان الخطاب للمؤمنين من حيث كونهم محرمين كانت المقابلة بينهم و بين السيّارة في قوّة قولنا: متاعاً للمحرمين و غيرهم.

و اعلم أنّ في الآيات أبحاثاً فرعيّة كثيرة معنونة في الكتب الفقهيّة من أرادها فليراجعها.

قوله تعالى: ( جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ وَ الشَّهْرَ الْحَرامَ وَ الْهَدْيَ وَ الْقَلائِدَ ) ظاهر تعليق الكلام بالكعبة ثمّ بيانه بالبيت بأنّه بيت حرام،

١٥٠

و كذا توصيف الشهر بالحرام ثمّ ذكر الهدي و القلائد اللّذين يرتبط شأنهما بحرمة البيت، كلّ ذلك يدلّ على أنّ الملاك فيما يبيّن الله سبحانه في هذه الآية من الأمر إنّما هو الحرمة.

و القيام ما يقوم به الشي‏ء، قال الراغب: و القيام و القوام اسم لما يقوم به الشي‏ء أي يثبت كالعماد و السناد لما يعمد و يسند به كقوله:( وَ لا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِياماً ) أي جعلها ممّا يمسككم، و قوله:( جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ ) أي قواماً لهم يقوم به معاشهم و معادهم، قال الأصمّ: قائماً لا ينسخ، و قرئ: قيماً بمعنى قياماً، انتهى.

فيرجع معنى قوله:( جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ ) إلى أنّه تعالى جعل الكعبة بيتاً حراماً احترمه، و جعل بعض الشهور حراماً، و وصل بينهما حكماً كالحجّ في ذي الحجّة الحرام، و جعل هناك اُموراً تناسب الحرمة كالهدي و القلائد كلّ ذلك لتعتمد عليه حياة الناس الاجتماعيّة السعيدة.

فإنّه جعل البيت الحرام قبلة يوجّه إليه الناس وجوههم في صلواتهم و يوجّهون إليه ذبائحهم و أمواتهم، و يحترمونه في سيّئ حالاتهم، فيتوحّد بذلك جمعهم، و يجتمع به شملهم، و يحيى و يدوم به دينهم، و يحجّون إليه من مختلف الأقطار و أقاصي الآفاق فيشهدون منافع لهم، و يسلكون به طرق العبوديّة.

و يهدي باسمه و بذكره و النظر إليه و التقرّب به و التوجّه إليه العالمون، و قد بيّنه الله تعالى بوجه آخر قريب من هذا الوجه بقوله:( إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَ هُدىً لِلْعالَمِينَ ) آل عمران: ٩٦ و قد وافاك في الآية في الجزء الثالث من هذا الكتاب من الكلام ما يتنوّر به المقام.

و نظير ذلك الكلام في كون الشهر الحرام قياماً للناس و قد حرّم الله فيه القتال، و جعل الناس فيه في أمن من حيث دمائهم و أعراضهم و أموالهم، و يصلحون فيه ما فسد أو اختلّ من شؤون حياتهم، و الشهر الحرام بين الشهور كالموقف و المحطّ الّذي يستريح فيه المتطرّق التعبان، و بالجملة البيت الحرام و الشهر الحرام و ما يتعلّق بذلك من هدي

١٥١

و قلائد قيام للناس من عامّة جهات معاشهم و معادهم، و لو استقرأ المفكّر المتأمل جزئيّات ما ينتفع به الناس انتفاعاً جارياً أو ثابتاً من بركات البيت العتيق و الشهر الحرام من صلة الأرحام، و مواصلة الأصدقاء، و إنفاق الفقراء، و استرباح الأسواق، و موادّة الأقرباء و الأداني، و معارفة الأجانب و الأباعد، و تقارب القلوب، و تطهّر الأرواح، و اشتداد القوى، و اعتضاد الملّة، و حياة الدين، و ارتفاع أعلام الحقّ، و رايات التوحيد أصاب بركات جمّة و رأى عجباً.

و كان المراد من ذكر هذه الحقيقة عقيب الآيات الناهية عن الصيد هو دفع ما يتوهّم أنّ هذه أحكام عديمة أو قليلة الجدوى، فأيّ فائدة لتحريم الصيد في مكان من الأمكنة أو زمان من الأزمنة؟ و أيّ جدوى في سوق الهدي و نحو ذلك؟ و هل هذه الأحكام إلّا مشاكلة لما يوجد من النواميس الخرافيّة بين الاُمم الجاهلة الهمجيّة؟.

فاُجيب عن ذلك بأنّ اعتبار البيت الحرام و الشهر الحرام و ما يتبعهما من الحكم مبنيّ على حقيقة علميّة و أساس جدّيّ و هو أنّها قيام يقوم به صلب حياتهم.

و من هنا يظهر وجه اتّصال قوله:( ذلِكَ لِتَعْلَمُوا ) ، إلى آخر الآية بما قبله، و المشار إليه بقوله:( ذلِكَ ) إمّا نفس الحكم المبيّن في الآيات السابقة الّذي يوضح حكمة تشريعه قوله:( جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ ) إلخ، و إمّا بيان الحكم الموضح بقوله:( جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ ) إلخ، المدلول عليه بالمقام.

و المعنى على التقدير الأوّل أنّ الله جعل البيت الحرام و الشهر الحرام قياماً للناس و وضع ما يناسبهما من الأحكام لينتقلوا من حفظ حرمتهما و العمل بالأحكام المشرّعة فيهما إلى أنّ الله عليم بما في السماوات و الأرض و ما يصلح شؤونها، فشرع ما شرع لكم عن علم من غير أن يكون شي‏ء من ذلك حكماً خرافيّاً صادراً عن جهالة الوهم.

و المعنى على التقدير الثاني أنّا بيّنّا لكم هذه الحقيقة و هي جعل البيت الحرام و الشهر الحرام و ما يتبعهما من الأحكام قياماً للناس لتعلموا أنّ الله عليم بما في السماوات و الأرض و ما يتبعها من الأحكام المصلحة لشؤونها فلا تتوهّموا أنّ هذه الأحكام المشرّعة لاغية من غير جدوى أو أنّها خرافات مختلقة.

١٥٢

قوله تعالى: ( اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ وَ أَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) ، إلى آخر الآيتين تأكيد للبيان و تثبيت لموقع الأحكام المذكورة، و وعيد و وعد للمطيعين و العاصين، و فيه شائبة تهديد، و لذلك قدّم توصيفه بشدّة العقاب على توصيفه بالمغفرة و الرحمة، و لذلك أيضاً أعقب الكلام بقوله:( ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ وَ اللهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَ ما تَكْتُمُونَ ) .

( بحث روائي)

في الكافي بإسناده عن حمّاد بن عيسى و ابن أبي عمير، عن معاوية بن عمّار، عن أبي عبداللهعليه‌السلام : في قول الله عزّوجلّ:( لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللهُ بِشَيْ‏ءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَ رِماحُكُمْ ) ، قال: حشرت لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في عمرة الحديبية الوحوش حتّى نالتها أيديهم و رماحهم.

أقول: و رواه العيّاشيّ، عن معاوية بن عمّار مرسلاً، و روى هذا المعنى أيضاً الكلينيّ في الكافي، و الشيخ في التهذيب، بإسنادهما إلى الحلبيّ عن الصادقعليه‌السلام ، و العيّاشيّ عن سماعة عنهعليه‌السلام مرسلاً، و كذا القمّيّ في تفسيره مرسلاً، و روي ذلك عن مقاتل بن حيّان كما يأتي.

و في الدرّ المنثور، أخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل بن حيّان قال: اُنزلت هذه الآية في عمرة الحديبيّة فكانت الوحوش و الطير و الصيد تغشاهم في رحالهم لم يروا مثله قطّ فيما خلا فنهاهم الله عن قتله و هم محرمون ليعلم الله من يخافه بالغيب.

أقول: و الروايتان لا تنافيان ما قدّمناه في البيان السابق من عموم معنى الآية.

و في الكافي، مسنداً عن أحمد بن محمّد رفعه: في قوله تبارك و تعالى:( تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَ رِماحُكُمْ ) ، قال: ما تناله الأيدي البيض و الفراخ، و ما تناله الرماح فهو ما لا تصل إليه الأيدي.

و في تفسير العيّاشيّ، بإسناده عن حريز، عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: إذا قتل الرجل المحرم حمامة ففيها شاة، فإن قتل فرخاً ففيه جمل، فإن وطأ بيضة فكسرها فعليه درهم،

١٥٣

كلّ هذا يتصدّق بمكّة و منى، و هو قول الله في كتابه:( لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللهُ بِشَيْ‏ءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ ) البيض و الفراخ( وَ رِماحُكُمْ ) الاُمّهات الكبار.

أقول: و رواه الشيخ في التهذيب، عن حريز عنهعليه‌السلام مقتصراً على الشطر الأخير من الحديث.

و في التهذيب، بإسناده عن ابن أبي عمير، عن حمّاد، عن الحلبيّ، عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: المحرم إذا قتل الصيد فعليه جزاؤه و يتصدّق بالصيد على مسكين، فإن عاد فقتل صيداً آخر لم يكن عليه جزاء و ينتقم الله منه، و النقمة في الآخرة.

و فيه: عن الكلينيّ، عن ابن أبي عمير، عن بعض أصحابه، عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: إذا أصاب المحرم الصيد خطأ فعليه كفّارة، فإن أصابه ثانية متعمّداً فهو ممّن ينتقم الله منه، و لم يكن عليه كفّارة.

و فيه: عن ابن أبي عمير، عن معاوية بن عمّار قال: قلت لأبي عبدالله: محرم أصاب صيداً؟ قال: عليه كفّارة قلت: فإن هو عاد؟ قال: عليه كلّما عاد كفّارة.

أقول: الروايات - كما ترى - مختلفة، و قد جمع الشيخ بينها بأنّ المراد أنّ المحرم إذا قتل متعمّداً فعليه كفّارة و إن عاد متعمّداً فلا كفّارة عليه، و هو ممّن ينتقم الله منه، و أمّا الناسي فكلّما عاد فعليه كفّارة.

و فيه: بإسناده عن زرارة عن أبي جعفرعليه‌السلام : في قول الله عزّوجلّ:( يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ ) فالعدل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و الإمام من بعده يحكم به و هو ذو عدل فإذا علمت ما حكم الله به من رسول الله و الإمام فحسبك و لا تسأل عنه.

أقول: و في هذا المعنى عدّة روايات‏ و في بعضها: تلوت عند أبي عبداللهعليه‌السلام :( ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ ) فقال: ذو عدل منكم، هذا ممّا أخطأت به الكتّاب‏، و هو يرجع إلى القراءة كما هو ظاهر.

و في الكافي، عن الزهريّ عن عليّ بن الحسينعليه‌السلام قال: صوم جزاء الصيد واجب قال الله عزّوجلّ:( وَ مَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً ) .

١٥٤

أ و تدري كيف يكون عدل ذلك صياماً يا زهريّ؟ قال: قلت: لا أدري، قال: يقوّم الصيد ثمّ تفضّ تلك القيمة على البرّ ثمّ يكال ذلك البرّ أصواعاً فيصوم لكلّ نصف صاع يوماً.

و فيه، بإسناده عن أحمد بن محمّد، عن بعض رجاله، عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: من وجب عليه هدي في إحرامه فله أن ينحره حيث شاء إلّا فداء الصيد فإنّ الله يقول:( هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ ) .

و في تفسير العيّاشيّ، عن حريز، عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال:( أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَ طَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ ) قال: مالحه الّذي يأكلون و قال: فصل ما بينهما: كلّ طير يكون في الآجام يبيض في البرّ و يفرخ في البرّ من صيد البرّ، و ما كان من الطير يكون في البرّ و يبيض في البحر و يفرخ فهو من صيد البحر.

و فيه: عن زيد الشحّام، عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: سألته عن قول الله:( أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَ طَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَ لِلسَّيَّارَةِ ) قال: هي حيتان المالح، و ما تزوّدت منه أيضاً و إن لم يكن مالحاً فهو متاع.

أقول: و الروايات في هذه المعاني كثيرة عن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام من طرق الشيعة.

و في الدرّ المنثور: أخرج ابن أبي شيبة عن معاوية بن قرّة، و أحمد عن رجل من الأنصار: أنّ رجلاً أوطأ بعيره أدحى نعامة فكسر بيضها فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : عليك بكلّ بيضة صوم يوم أو إطعام مسكين.

أقول: و روي هذا المعنى أيضاً عن ابن أبي شيبة عن عبدالله بن ذكوان، عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و رواه أيضاً عنه عن أبي الزناد عن عائشة عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

و فيه: أخرج أبوالشيخ و ابن مردويه من طريق أبي المهزم عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: في بيض النعام ثمنه.

و فيه: أخرج ابن أبي حاتم عن أبي جعفر محمّد بن عليّ: أنّ رجلاً سأل عليّاً عن الهدي ممّا هو؟ قال: من الثمانية الأزواج فكأنّ الرجل شكّ فقال عليّ: تقرؤ

١٥٥

القرآن؟ فكأنّ الرجل قال: نعم، قال: فسمعت الله يقول:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ ) ؟ قال: نعم قال سمعته يقول:( لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلى‏ ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ، وَ مِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَ فَرْشاً ) ، فكلوا من بهيمة الأنعام؟ قال: نعم.

قال: فسمعته يقول:( مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَ مِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ، وَ مِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَ مِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ ) ؟ قال: نعم قال: فسمعته يقول:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَ أَنْتُمْ حُرُمٌ إلى قوله هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ ) ؟ قال الرجل: نعم.

فقال: إن قتلت ظبياً فما عليّ؟ قال: شاة قال عليّ: هدياً بالغ الكعبة؟ قال الرجل: نعم فقال عليّ: قد سمّاه الله بالغ الكعبة كما تسمع.

و فيه: أخرج ابن أبي حاتم عن عطاء الخراسانيّ: أنّ عمر بن الخطّاب و عثمان بن عفّان و عليّ بن أبي طالب و ابن عبّاس و زيد بن ثابت و معاوية قضوا فيما كان من هدي ممّا يقتل المحرم من صيد فيه جزاء نظر إلى قيمة ذلك فاُطعم به المساكين.

و فيه: أخرج ابن جرير عن أبي هريرة قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اُحلّ لكم صيد البحر و طعامه متاعاً لكم قال: ما لفظه ميتاً فهو طعامه.

أقول: و روي ما في معناه عن بعض الصحابة أيضاً لكنّ المرويّ من طرق أهل البيت عنهمعليهم‌السلام خلافه كما تقدّم.

و في تفسير العيّاشيّ، عن أبان بن تغلب قال: قلت لأبي عبداللهعليه‌السلام :( جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ ) قال جعل الله لدينهم و معايشهم.

أقول: و قد تقدّم توضيح معنى الرواية.

١٥٦

( سورة المائدة آية ١٠٠)

قُل لاَ يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطّيّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتّقُوا اللّهَ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلّكُمْ تُفْلِحُونَ( ١٠٠)

( بيان‏)

الآية كأنّها مستقلّة مفردة لعدم ظهور اتّصالها بما قبلها و ارتباط ما بعدها بها فلا حاجة إلى التمحّل في بيان اتّصالها بما قبلها، و إنّما تشتمل على مثل كلّيّ ضربه الله سبحانه لبيان خاصّة يختصّ بها الدين الحقّ من بين سائر الأديان و السير العامّة الدائرة، و هي أنّ الاعتبار بالحقّ و إن كان قليلاً أهله و شاردة فئته، و الركون إلى الخير و السعادة و إن أعرض عنه الأكثرون و نسيه الأقوون فإنّ الحقّ لا يعتمد في نواميسه إلّا على العقل السليم، و حاشا العقل السليم أن يهدي إلّا إلى صلاح المجتمع الإنسانيّ فيما يشدّ أزره من أحكام الحياة و سبل المعيشة الطيّبة سواء وافق أهواء الأكثرين أو خالف، و كثيراً ما يخالف فهو ذا النظام الكونيّ و هو محتد الآراء الحقّة لا يتّبع شيئاً من أهوائهم، و لو اتّبع الحقّ أهواءهم لفسدت السماوات و الأرض.

قوله تعالى: ( قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَ الطَّيِّبُ وَ لَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ ) كأنّ المراد بعدم استواء الخبيث و الطيّب أنّ الطيّب خير من الخبيث، و هو أمر بيّن فيكون الكلام مسوقاً للكناية، و ذلك أنّ الطيّب بحسب طبعه و بقضاء من الفطرة أعلى درجة و أسمى منزلة من الخبيث فلو فرض انعكاس الأمر و صيرورة الخبيث خيراً من الطيّب لعارض يعرضه كان من الواجب أن يتدرّج الخبيث في الرقيّ و الصعود حتّى يصل إلى حدّ يحاذي الطيّب في منزلته و يساويه ثمّ يتجاوزه فيفوقه فإذا نفي استواء الخبيث و الطيّب كان ذلك أبلغ في نفي خيريّة الخبيث من الطيّب.

و من هنا يظهر وجه تقديم الخبيث على الطيّب، فإنّ الكلام مسوق لبيان أنّ

١٥٧

كثرة الخبيث لا تصيّره خيراً من الطيّب، و إنّما يكون ذلك بارتفاع الخبيث من حضيض الرداءة و الخسّة إلى أوج الكرامة و العزّة حتّى يساوي الطيّب في مكانته ثمّ يعلو عليه و لو قيل: لا يستوي الطيّب و الخبيث كانت العناية الكلاميّة متعلّقة ببيان أنّ الطيّب لا يكون أردى و أخسّ من الخبيث، و كان من الواجب حينئذ أن يذكر بعده أمر قلّة الطيّب مكان كثرة الخبيث فافهم ذلك.

و الطيب و الخباثة على ما لهما من المعنى وصفان حقيقيّان لأشياء حقيقيّة خارجيّة كالطعام الطيّب أو الخبيث و الأرض الطيّبة أو الخبيثة قال تعالى:( وَ الْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَ الَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً ) الأعراف: ٥٨، و قال تعالى:( وَ الطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ ) الأعراف: ٣٢، و إن اُطلق الطيب و الخباثة أحياناً على شي‏ء من الصفات الوضعيّة الاعتباريّة كالحكم الطيّب أو الخبيث و الخلق الطيّب أو الخبيث فإنّما ذلك بنوع من العناية.

هذا و لكن تفريع قوله:( فَاتَّقُوا اللهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) على قوله:( لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَ الطَّيِّبُ ) ، إلخ و التقوى من قبيل الأفعال أو التروك، و طيبها و خباثتها عنائيّة مجازيّة، و إرسال الكلام أعني قوله:( لا يَسْتَوِي ) ، إلخ إرسال المسلّمات أقوى شاهد على أنّ المراد بالطيب و الخباثة إنّما هو الخارجيّ الحقيقيّ منهما فيكون الحجّة ناجحة، و لو كان المراد هو الطيّب و الخبيث من الأعمال و السير لم يتّضح ذاك الاتّضاح فكلّ طائفة ترى أنّ طريقتها هي الطريقة الطيّبة، و ما يخالف أهواءها و يعارض مشيئتها هو الخبيث.

فالقول مبنيّ على معنى آخر بيّنه الله سبحانه في مواضع من كلامه، و هو أنّ الدين مبنيّ على الفطرة و الخلقة، و أنّ ما يدعو إليه الدين هو الطيّب من الحياة، و ما ينهى عنه هو الخبيث، و أنّ الله لم يحلّ إلّا الطيّبات و لم يحرّم إلّا الخبائث قال تعالى:( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ) الروم: ٣٠، و قال:( وَ يُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَ يُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ ) الأعراف: ١٥٧.

١٥٨

و قال:( قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَ الطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ ) الأعراف: ٣٢.

فقد تحصّل أنّ الكلام أعني قوله:( لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَ الطَّيِّبُ وَ لَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ ) ، مثل مضروب لبيان أنّ قواعد الدين ركّبت على صفات تكوينيّة في الأشياء من طيب أو خباثة مؤثّرة في سبيل السعادة و الشقاوة الإنسانيّتين، و لا يؤثّر فيها قلّة و لا كثرة فالطيّب طيب و إن كان قليلاً، و الخبيث خبيث و إن كان كثيراً.

فمن الواجب على كلّ ذي لبّ يميّز الخبيث من الطيّب، و يقضي بأنّ الطيّب خير من الخبيث، و أنّ من الواجب على الإنسان أن يجتهد في إسعاد حياته، و يختار الخير على الشرّ أن يتّقي الله ربّه بسلوك سبيله، و لا يغترّ بانكباب الكثيرين من الناس على خبائث الأعمال و مهلكات الأخلاق و الأحوال، و لا يصرفه الأهواء عن اتّباع الحقّ بتولية أو تهويل لعلّه يفلح بركوب السعادة الإنسانيّة.

قوله تعالى: ( فَاتَّقُوا اللهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) تفريع على المثل المضروب في صدر الآية، و محصّل المعنى أنّ التقوى لما كان متعلّقه الشرائع الإلهيّة الّتي تبتني هي أيضاً على طيّبات و خبائث تكوينيّة في رعاية أمرها سعادة الإنسان و فلاحه على ما لا يرتاب في ذلك ذو لبّ و عقل فيجب عليكم يا اُولي الألباب أن تتّقوا الله بالعمل بشرائعه لعلّكم تفلحون.

١٥٩

( سورة المائدة الآيات ١٠١ - ١٠٢)

يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا لاَ تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِن تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللّهُ عَنْهَا وَاللّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ( ١٠١) قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِن قَبْلِكُمْ ثُمّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ( ١٠٢)

( بيان)

الآيتان غير ظاهرتي الارتباط بما قبلهما، و مضمونهما غني عن الاتّصال بشي‏ء من الكلام يبيّن منهما ما لا تستقلّان بإفادته فلا حاجة إلى ما تجشّمه جمع من المفسّرين في توجيه اتّصالهما تارة بما قبلهما، و اُخرى بأوّل السورة، و ثالثة بالغرض من السورة فالصفح عن ذلك كلّه أولى.

قوله تعالى: ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ) (الآية) الإبداء الإظهار، و ساءه كذا خلاف سرّه.

و الآية تنهى المؤمنين عن أن يسألوا عن أشياء إن تبد لهم تسؤهم، و قد سكتت أوّلاً عن المسئول من هو؟ غير أنّ قوله بعد:( وَ إِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ ) ، و كذا قوله في الآية التالية:( قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ ) يدلّ على أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مقصود بالسؤال مسؤل بمعنى أنّ الآية سيقت للنهي عن سؤال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن أشياء من شأنها كيت و كيت، و إن كانت العلّة المستفادة من الآية الموجبة للنهي تفيد شمول النهي لغير مورد الغرض و هو أن يسأل الإنسان و يفحص عن كلّ ما عفاه العفو الإلهيّ، و ضرب دون الاطّلاع عليه بالأسباب العاديّة و الطرق المألوفة ستراً فإنّ في الاطّلاع على حقيقة مثل هذه الاُمور مظنّة الهلاك و الشقاء كمن تفحّص عن يوم وفاته أو سبب هلاكه أو عمر أحبّته و أعزّته أو زوال ملكه و عزّته، و ربّما كان ما يطّلع عليه هو السبب الّذي يخترمه بالفناء أو يهدّده بالشقاء.

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401