الميزان في تفسير القرآن الجزء ٦

الميزان في تفسير القرآن9%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 401

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 401 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 84129 / تحميل: 7581
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ٦

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

فنظام الحياة الّذي نظمه الله سبحانه و وضعه جارياً في الكون فأبدا أشياءً و حجب أشياءً لم يظهر ما أظهره إلّا لحكمة، و لم يخف ما أخفاه إلّا لحكمة أي إنّ التسبّب إلى خفاء ما ظهر منها و التوسّل إلى ظهور ما خفي منها يورث اختلال النظام المبسوط على الكون كالحياة الإنسانيّة المبنيّة على نظام بدنيّ مؤلّف من قوى و أعضاء و أركان لو نقص واحد منها أو زيد شي‏ء عليها أوجب ذلك فقدان أجزاء هامّة من الحياة ثمّ يعتبر ذلك مجرى القوى و الأعضاء الباقية، و ربّما أدّى ذلك إلى بطلان الحياة بحقيقتها أو معناها.

ثمّ إنّ الآية أبهمت ثانياً أمر هذه الأشياء الّتي نهت عن السؤال عنها، و لم توضح من أمرها إلّا أنّها بحيث إن تبد لهم تسؤهم إلخ، و ممّا لا يرتاب فيه أنّ قوله:( إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ) نعت للأشياء، و هي جملة شرطيّة تدلّ على تحقّق وقوع الجزاء على تقدير وقوع الشرط، و لازمه أن تكون هذه أشياء تسوؤهم إن اُبدئت لهم فطلب إبدائها و إظهارها بالمسألة طلب للمساءة.

فيستشكل بأنّ الإنسان العاقل لا يطلب ما يسوؤه، و لو قيل: لا تسألوا عن أشياء فيها ما إن تبد لكم تسؤكم، أو لا تسألوا عن أشياء لا تأمنون أن تسوءكم إن تبد لكم لم يلزم محذور.

و من عجيب ما اُجيب به عن الإشكال: أنّ من المقرّر في قوانين العربيّة أنّ شرط( إن ) ممّا لا يقطع بوقوعه، و الجزاء تابع للشرط في الوقوع و عدمه فكان التعبير بقوله( إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ) دون( إذا اُبدئت لكم تسؤكم) دالّاً على أنّ احتمال إبدائها و كونها تسوء كاف في وجوب الانتهاء عن السؤال عنها، انتهى موضع الحاجة.

و قد أخطأ في ذلك، و ليت شعري أيّ قانون من قوانين العربيّة يقرّر أن يكون الشرط غير مقطوع الوقوع؟ ثمّ الجزاء بما هو جزاء متعلّق الوجود بالشرط غير مقطوع الوقوع؟ و هل يفيد قولنا: إن جئتني أكرمتك إلّا القطع بوقوع الإكرام على تقدير وقوع المجي‏ء؟ فقوله: إنّ التعبير بالشرط يدلّ على أنّ احتمال إبدائها و كونه يسوء كاف في وجوب الانتهاء، انتهى. إنّما يصحّ لو كان مفاد الشرط في الآية هو النهي

١٦١

عن السؤال عن أشياء يمكن أن تسوء إن اُبدئت و ليس كذلك كما عرفت بل المفاد النهي عن السؤال أشياء يقطع بمساءتها إن اُبدئت، فالإشكال على حاله.

و يتلو هذا الجواب في الضعف قول بعضهم - على ما في بعض الروايات -: إنّ المراد بقوله:( أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ) ما ربّما يهواه بعض النفوس من الاطّلاع على بعض المغيبات كالآجال و عواقب الاُمور و جريان الخير و الشرّ و الكشف عن كلّ مستور ممّا لا يخلو العلم به طبعاً من أن يتضمّن ما يسوء الإنسان و يحزنه كسؤال الرجل عن باقي عمره، و سبب موته، و حسن عاقبته، و عن أبيه من هو؟ و قد كان دائراً بينهم في الجاهليّة.

فالمراد بقوله:( لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ) هو النهي عن السؤال عن هذه الاُمور الّتي لا يخلو انكشاف الحال فيها غالباً أن يشتمل على ما يسوء الإنسان و يحزنه كظهور أنّ الأجل قريب، أو أنّ العاقبة وخيمة، أو أنّ أباه في الواقع غير من يدعى إليه.

فهذه اُمور يتضمّن غالباً مساءة الإنسان و حزنه، و لا يؤمن من أن يجاب إذا سئل عنه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بما لا يرتضيه السائل فيدعوه الاستكبار النفسانيّ و أنفة العصبيّة أن يكذّب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيما يجيب به فيكفر بذلك كما يشير إليه قوله تعالى في الآية التالية:( قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ ) .

و هذا الوجه و إن كان سليماً في بادئ النظر لكنّه لا يلائم قوله تعالى:( وَ إِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ ) سواء قلنا: إنّ مفاده تجويز السؤال عن هذه الأشياء حين نزول القرآن، أو تشديد النهي عنه حين نزول القرآن بالدلالة على أن المجيب - و هو النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - في غير حال نزول القرآن في سعة من أن لا يجيب عن هذه الأسئلة رعاية لمصلحة السائلين لكنّها أعني الأشياء المسؤول عنها مكشوفة الحقيقة مرفوع عنها الحجاب لا محالة فلا تسألوا عنها حين ينزّل القرآن البتّة.

أمّا عدم ملاءمته على المعنى الأوّل فلأنّ السؤال عن هذه الأشياء لما اشتمل على المفسدة بحسب طبعه فلا معنى لتجويزه حال نزول القرآن، و المفسدة هي المفسدة.

١٦٢

و أمّا على المعنى الثاني فلأنّ حال نزول القرآن و إن كان حال البيان و الكشف عن ما يحتاج إلى الكشف و الإبداء غير أنّ هذه الخصيصة مرتبطة بحقائق المعارف و شرائع الأحكام و ما يجري مجراها، و أمّا تعيين أجل زيد و كيفيّة وفاة عمرو، و تشخيص من هو أبو فلان؟ و نحو ذلك فهي ممّا لا يرتبط به البيان القرآنيّ، فلا وجه لتذييل النهي عن السؤال عن أشياء كذا و كذا بنحو قوله:( وَ إِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ ) و هو ظاهر.

فالأوجه في الجواب ما يستفاد من كلام آخرين أنّ الآية( قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ) إلخ و كذا قوله:( وَ إِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْْ ) تدلّ على أنّ المسؤل عنها أشياء مرتبطة بالأحكام المشرّعة كالخصوصيّات الراجعة إلى متعلّقات الأحكام ممّا ربّما يستقصي في البحث عنه و الإصرار في المداقّة عليه، و نتيجة ذلك ظهور التشديد و نزول التحريج كلّما اُمعن في السؤال و اُلحّ على البحث كما قصّه الله سبحانه في قصّة البقرة عن بني إسرائيل حيث شدّد الله سبحانه بالتضييق عليهم كلّما بالغوا في السؤال عن نعوت البقرة الّتي اُمروا بذبحها.

ثمّ إنّ قوله تعالى:( عَفَا اللهُ عَنْها ) الظاهر أنّه جملة مستقلّة مسوقة لتعليل النهي في قوله:( لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ) لا كما ذكروه: أنّه وصف لأشياء، و أنّ في الكلام تقديماً و تأخيراً، و التقدير: لا تسألوا عن أشياء عفا الله عنها إن تبد لكم تسؤكم، إلخ.

و هذا التعبير - أعني تعدية العفو بعن - أحسن شاهد على أنّ المراد بالأشياء المذكورة هي الاُمور الراجعة إلى الشرائع و الأحكام، و لو كانت من قبيل الاُمور الكونيّة كان كالمتعيّن أن يقال: عفاها الله.

و كيف كان فالتعليل بالعفو يفيد أنّ المراد بالأشياء هي الخصوصيّات الراجعة إلى الأحكام و الشرائع و القيود و الشرائط العائدة إلى متعلّقاتها، و أنّ السكوت عنها ليس لأنّها مغفول عنها أو ممّا اُهمل أمرها بل لم يكن ذلك إلّا تخفيفاً من الله سبحانه لعباده و تسهيلاً كما قال:( وَ اللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ ) فما يقترحونه من السؤال عن

١٦٣

خصوصيّاته تعرّض منهم للتضييق و التحريج و هو ممّا يسوؤهم و يحزنهم البتّة فإنّ في ذلك ردّاً للعفو الإلهيّ الّذي لم يكن البتّة إلّا للتسهيل و التخفيف، و تحكيم صفتي المغفرة و الحلم الإلهيّين.

فيرجع مفاد قوله:( لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ ) ، إلخ إلى نحو قولنا: يا أيّها الّذين آمنوا لا تسألوا النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن أشياء مسكوت عنها في الشريعة عفا الله عنها و لم يتعرّض لبيانها تخفيفاً و تسهيلاً فإنّها بحيث تبيّن لكم إن تسألوا عنها حين نزول القرآن، و تسوؤكم إن اُبدئت لكم و بيّنت.

و قد تبيّن ممّا مرّ أوّلاً: أنّ قوله تعالى:( وَ إِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ ) من تتمّة النهي كما عرفت، لا لرفع النهي عن السؤال حين نزول القرآن كما ربّما قيل.

و ثانياً: أنّ قوله تعالى:( عَفَا اللهُ عَنْها ) جملة مستقلة مسوقة لتعليل النهي عن السؤال فتفيد فائدة الوصف من غير أن يكون وصفاً بحسب التركيب الكلاميّ.

و ثالثاً: وجه تذييل الكلام بقوله:( وَ اللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ ) مع كون الكلام مشتملاً على النهي غير الملائم لصفتي المغفرة و الحلم فالاسمان يعودان إلى مفاد العفو المذكور في قوله:( عَفَا اللهُ عَنْها ) دون النهي الموضوع في الآية.

قوله تعالى: ( قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ ) يقال: سأله و سأل عنه بمعنى، و( ثُمَّ ) يفيد التراخي بحسب الرتبة الكلاميّة دونه بحسب الزمان.

و الباء في قوله:( بِها ) متعلّقة بقوله:( كافِرِينَ ) على ما هو ظاهر الآية من كونها مسوقة للنهي عن السؤال عمّا يتعلّق بقيود الأحكام و الشرائع المسكوت عنها عند التشريع فالكفر كفر بالأحكام من جهة استلزامها تحرّج النفوس عنها و تضيّق القلوب من قبولها، و يمكن أن تكون الباء للسببيّة و لا يخلو عن بعد.

و الآية و إن أبهمت القوم المذكورين و لم يعرّفهم لكن في القرآن الكريم ما يمكن أن تنطبق عليه الآية من القصص كقصّة المائدة من قصص النصارى و قصص اُخرى من قوم موسى و غيرهم.

١٦٤

( بحث روائي)

في الدرّ المنثور: أخرج ابن جرير و أبوالشيخ و ابن مردويه عن أبي هريرة قال: خطبنا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال: يا أيّها الناس كتب الله عليكم الحجّ فقام عكاشة بن محصن الأسديّ فقال: أ في كلّ عام يا رسول الله؟ قال: أمّا إنّي لو قلت: نعم لوجبت، و لو وجبت ثمّ تركتم لضللتم اسكتوا عنّي ما سكتّ عنكم فإنّما هلك من كان قبلكم بسؤالهم و اختلافهم على أنبيائهم فأنزل الله:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ) إلى آخر الآية.

أقول: و روي القصّة عن أبي هريرة و أبي أمامة و غيرهما عدّة من الرواة، و رويت في المجمع و غيره من كتب الخاصّة، و هي تنطبق على ما قدّمناه في البيان المتقدّم.

و فيه، أخرج ابن جرير و ابن أبي حاتم عن السدّيّ: في قوله تعالى:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ ) ، الآية قال: غضب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوماً من الأيّام فقام خطيباً فقال: سلوني فإنّكم لا تسألوني عن شي‏ء إلّا أنبأتكم به فقام إليه رجل من قريش من بني سهم يقال له: عبدالله بن حذاقة - و كان يطعن فيه - فقال: يا رسول الله من أبي؟ فقال: أبوك فلان فدعاه لأبيه فقام إليه عمر فقبّل رجله و قال: يا رسول الله رضينا بالله ربّاً و لك نبيّاً و بالقرآن إماماً فاعف عنّا عفا الله عنك فلم يزل به حتّى رضي فيومئذ قال: الولد للفراش و للعاهر الحجر، و اُنزل عليه:( قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ) .

أقول: و الرواية مرويّة بعدّة طرق على اختلاف في متونها، و قد عرفت فيما تقدّم أنّها غير قابلة الانطباق على الآية.

و فيه، أيضاً: أخرج ابن جرير و ابن المنذر و الحاكم و صحّحه عن ثعلبة الخشنيّ قال: فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ الله حدّ حدوداً فلا تعتدوها، و فرض لكم فرائض

١٦٥

فلا تضيّعوها، و حرّم أشياء فلا تنتهكوها، و ترك أشياء في غير نسيان و لكن رحمة منه لكم فاقبلوها و لا تبحثوا عنها.

و في المجمع، و الصافي، عن عليّعليه‌السلام قال: إنّ الله افترض عليكم فرائض فلا تضيّعوها و حدّ لكم حدوداً فلا تعتدوها، و نهاكم عن أشياء فلا تنتهكوها، و سكت لكم عن أشياء و لم يدعها نسياناً فلا تتكلّفوها.

و في الكافي، بإسناده عن أبي الجارود قال: قال أبوجعفرعليه‌السلام : إذا حدّثتكم بشي‏ء فاسألوني عنه من كتاب الله، ثمّ قال في بعض حديثه: إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نهى عن القيل و القال، و فساد المال، و كثرة السؤال فقيل له: يا بن رسول الله أين هذا من كتاب الله؟ قال: إنّ الله عزّوجلّ يقول:( لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ ) و قال:( وَ لا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِياماً ) و قال:( لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ) .

و في تفسير العيّاشيّ، عن أحمد بن محمّد قال: كتبت إلى أبي الحسن الرضاعليه‌السلام و كتب في آخره: أ و لم تنهوا عن كثرة المسائل؟ فأبيتم أن تنتهوا، إيّاكم و ذلك فإنّما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم فقال الله تبارك و تعالى:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ - إلى قوله تعالى -كافِرِينَ ) .

١٦٦

( سورة المائدة الآيات ١٠٣ - ١٠٤)

مَا جَعَلَ اللّهُ مِن بَحِيرَةٍ وَلاَ سَائِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ وَلكِنّ الّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ( ١٠٣) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى‏ مَا أَنْزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ( ١٠٤)

( بيان)

قوله تعالى: ( ما جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَ لا سائِبَةٍ وَ لا وَصِيلَةٍ وَ لا حامٍ ) ، هذه أصناف من الأنعام كان أهل الجاهليّة يرون لها أحكاماً مبنيّة على الاحترام و نوع من التحرير، و قد نفى الله سبحانه أن يكون جعل من ذلك شيئاً، فالجعل المنفيّ متعلّق بأوصافها دون ذواتها فإنّ ذواتها مخلوقة لله سبحانه من غير شكّ، و كذلك أوصافها من جهة أنّها أوصاف فحسب، و إنّما الّذي تقبل الإسناد إليه تعالى و نفيه هي أوصافها من جهة كونها مصادر لأحكام كانوا يدّعونها لها فهي الّتي تقبل الإسناد و نفيه، فنفي جعل البحيرة و أخواتها في الآية نفي لمشروعيّة الأحكام المنتسبة إليها المعروفة عندهم.

و هذه الأصناف الأربعة من الأنعام و إن اختلفوا في معنى أسمائها و يتفرّع عليه الاختلاف في تشخيص أحكامها كما ستقف عليه، لكن من المسلّم أنّ أحكامها مبنيّة على نوع من تحريرها و الاحترام لها برعاية حالها، ثلاثة منها و هي البحيرة و السائبة و الحامي من الإبل، و واحدة و هي الوصيلة من الشاة.

أمّا البحيرة ففي المجمع،: أنّها الناقة كانت إذا نتجت خمسة أبطن و كان آخرها ذكراً بحروا اُذنها (أي شقوها شقّاً واسعاً) و امتنعوا عن ركوبها و نحرها، و لا تطرد عن ماء و لا تمنع عن مرعى، فإذا لقيها المعيي لم تركبها، عن الزجّاج.

١٦٧

و قيل: إنّهم كانوا إذا نتجت الناقة خمسة أبطن نظروا في البطن الخامس فإن كان ذكراً نحروه فأكله الرجال و النساء جميعاً، و إن كانت اُنثى شقّوا اُذنها فتلك البحيرة ثمّ لا يجزّ لها وبر، و لا يذكر لها اسم الله إن ذكّيت، و لا حمل عليها، و حرم على النساء أن يذقن من لبنها شيئاً، و لا أن ينتفعن بها، و كان لبنها و منافعها للرجال خاصّة دون النساء حتّى تموت فإذا ماتت اشتركت الرجال و النساء في أكلها، عن ابن عبّاس، و قيل: إنّ البحيرة بنت السائبة، عن محمد بن إسحاق.

و أمّا السائبة ففي المجمع، أنّها ما كانوا يسيبونه فإنّ الرجل إذا نذر القدوم من سفر أو البرء من علّة أو ما أشبه ذلك قال: ناقتي سائبة فكانت كالبحيرة في أن لا ينتفع بها، و أن لا تخلى عن ماء و لا تمنع من مرعى، عن الزجّاج، و هو قول علقمة.

و قيل: هي الّتي تسيب للأصنام أي تعتق لها، و كان الرجل يسيب من ماله ما يشاء فيجي‏ء به إلى السدنة - و هم خدمة آلهتهم - فيطعمون من لبنها أبناء السبيل و نحو ذلك عن ابن عبّاس و ابن مسعود.

و قيل: إنّ السائبة هي الناقة إذا تابعت بين عشر إناث ليس فيهنّ ذكر سيبت فلم يركبوها، و لم يجزّوا وبرها و لم يشرب لبنها إلّا ضيف فما نتجت بعد ذلك من اُنثى شقّ اُذنها ثمّ تخلّى سبيلها مع اُمّها، و هي البحيرة، عن محمّد بن إسحاق.

و أمّا الوصيلة ففي المجمع: و هي في الغنم، كانت الشاة إذا ولدت اُنثى فهي لهم، و إذا ولدت ذكراً جعلوه لآلهتهم، فإنّ ولدت ذكراً و اُنثى قالوا: وصلت أخاها فلم يذبحوا الذكر لآلهتهم. عن الزجّاج.

و قيل: كانت الشاة إذا ولدت سبعة أبطن فإن كان السابع جدياً ذبحوه لآلهتهم و لحمه للرجال دون النساء، و إن كان عناقاً، استحيوها و كانت من عرض الغنم، و إن ولدت في البطن السابع جدياً و عناقاً قالوا: إنّ الاُخت وصلت أخاها لحرمته علينا فحرما جميعاً فكانت المنفعة و اللبن للرجال دون النساء، عن ابن مسعود و مقاتل.

و قيل: الوصيلة الشاة إذا تأمت عشر إناث في خمسة أبطن ليس فيها ذكر جعلت وصيلة فقالوا: قد وصلت فكان ما ولدت بعد ذلك للذكور دون الإناث عن محمّد بن إسحاق.

١٦٨

و أمّا الحامي ففي المجمع: هو الذكر من الإبل كانت العرب إذا أنتجت من صلب الفحل عشرة أبطن قالوا: قد حمى ظهره فلا يحمل عليه، و لا يمنع من ماء و لا من مرعى، عن ابن عبّاس و ابن مسعود، و هو قول أبي عبيدة و الزجّاج.

و قيل: إنّه الفحل إذا لقح ولد ولده قيل: حمى ظهره فلا يركب، عن الفرّاء.

و هذه الأسماء و إن اختلفوا في تفسيرها إلّا أنّ من المحتمل قريباً أن يكون ذلك الاختلاف ناشئاً من اختلاف سلائق الأقوام في سننهم فإنّ أمثال ذلك كثيرة في السنن الدائرة بين الأقوام الهمجيّة.

و كيف كان فالآية ناظرة إلى نفي الأحكام الّتي كانوا قد اختلقوها لهذه الأصناف الأربعة من الأنعام، ناسبين ذلك إلى الله سبحانه بدليل قوله أوّلاً:( ما جَعَلَ اللهُ ) ، إلخ و ثانياً:( وَ لكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ ) ، إلخ.

و لذلك كان قوله:( وَ لكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا ) ، إلخ بمنزلة الجواب عن سؤال مقدّر كأنّه لما قيل:( ما جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ ) ، إلخ سئل فقيل: فما هذا الّذي يدّعيه هؤلاء الّذين كفروا؟ فاُجيب بأنّه افتراء منهم على الله الكذب ثمّ زيد في البيان فقيل:( وَ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ ) و مفاده أنّهم مختلفون في هذا الافتراء فأكثرهم يفترون ما يفترون و هم لا يعقلون، و القليل من هؤلاء المفترين يعقلون الحقّ و أنّ ما ينسبونه إليه تعالى من الافتراء، و هم المتبوعون المطاعون لغيرهم المديرون لأزمّة اُمورهم فهم أهل عناد و لجاج.

قوله تعالى: ( وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى‏ ما أَنْزَلَ اللهُ ) ، إلى آخر الآية في حكاية دعوتهم إلى ما أنزل الله إلى الرسول الّذي شأنه البلاغ، فقط فالدعوة دعوة إلى الحقّ و هو الصدق الخالي عن الفرية، و العلم المبرّى من الجهل فإنّ الآية السابقة تجمع الافتراء و عدم التعقّل في جانبهم فلا يبقى لما يدعون إليه - أعني جانب الله سبحانه - إلّا الصدق و العلم.

لكنّهم ما دفعوه إلّا بالتقليد حيث قالوا: حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا، و التقليد و إن كان حقّاً في بعض الأحيان و على بعض الشروط و هو رجوع الجاهل إلى

١٦٩

العالم، و هو ممّا استقرّ عليه سير المجتمع الإنسانيّ في جميع أحكام الحياة الّتي لا يتيسّر فيها للإنسان أن يحصّل العلم بما يحتاج إلى سلوكه من الطريق الحيويّ، لكنّ تقليد الجاهل في جهله بمعنى رجوع الجاهل إلى جاهل آخر مثله مذموم في سنّة العقلاء كما يذمّ رجوع العالم إلى عالم آخر بترك ما يستقلّ بعمله من نفسه و الأخذ بما يعلم غيره.

و لذلك ردّه تعالى بقوله:( أَ وَ لَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَ لا يَهْتَدُونَ ) و مفاده أنّ العقل - لو كان هناك عقل - لا يبيح للإنسان الرجوع إلى من لا علم عنده و لا اهتداء فهذه سنّة الحياة لا تبيح سلوك طريق لا تؤمن مخاطره، و لا يعلم وصفه لا بالاستقلال و لا باتّباع من له به خبرة.

و لعلّ إضافة قوله:( وَ لا يَهْتَدُونَ ) إلى قوله:( لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً ) لتتميم قيود الكلام بحسب الحقيقة، فإنّ رجوع الجاهل إلى مثله و إن كان مذموماً لكنّه إنّما يذمّ إذا كان المسؤل المتبوع مثل السائل التابع في جهله لا يمتاز عنه بشي‏ء، و أمّا إذا كان المتبوع نفسه يسلك الطريق بهداية عالم خبير به و دلالته فهو مهتد في سلوكه، و لا ذمّ على من اتّبعه في مسيره و قلّده في سلوك الطريق، فإنّ الأمر ينتهي إلى العلم بالآخرة كمن يتّبع عالماً بأمر الطريق ثمّ يتّبعه آخر جاهل به.

و من هنا يتّضح أنّ قوله:( أَ وَ لَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً ) غير كاف في تمام الحجّة عليهم لاحتمال أن يكون آباؤهم الّذين اتّبعوهم بالتقليد مهتدين بتقليد العلماء الهداة فلا يجري فيهم حكم الذمّ، و لا تتمّ عليهم الحجّة فدفع ذلك بأنّ آباءهم لا يعلمون شيئاً و لا يهتدون، و لا مسوّغ لاتّباع من هذا حاله.

و لما تحصّل من الآية الاُولى أعني قوله:( ما جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ ) ، إلخ أنّهم بين من لا يعقل شيئاً و هم الأكثرون، و من هو معاند مستكبر تحصّل أنّهم بمعزل من أهليّة توجيه الخطاب و إلقاء الحجّة و لذلك لم تُلق إليهم الحجّة في الآية الثانية بنحو التخاطب بل سيق الكلام على خطاب غيرهم و الصفح عن مواجهتهم فقيل:( أَ وَ لَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَ لا يَهْتَدُونَ ) .

١٧٠

و قد تقدّم في الجزء الأوّل من أجزاء هذا الكتاب بحث علميّ أخلاقيّ في معنى التقليد يمكنك أن تراجعه.

و يتبيّن من الآية أنّ الرجوع إلى كتاب الله و إلى رسوله - و هو الرجوع إلى السنّة - ليس من التقليد المذموم في شي‏ء.

( بحث روائي)

في تفسير البرهان، عن الصدوق بإسناده إلى محمّد بن مسلم، عن أبي عبداللهعليه‌السلام : في قول الله عزّوجلّ:( ما جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَ لا سائِبَةٍ وَ لا وَصِيلَةٍ وَ لا حامٍ ) قال: إنّ أهل الجاهليّة كانوا إذا ولدت الناقة ولدين في بطن واحد قالوا: وصلت، فلا يستحلّون ذبحها و لا أكلها، و إذا ولدت عشراً جعلوها سائبة، و لا يستحلّون ظهرها و لا أكلها، و الحام فحل الإبل لم يكونوا يستحلّونه فأنزل الله: أنّه لم يكن يحرّم شيئاً من ذلك.

قال: ثمّ قال ابن بابويه: و قد روي: أنّ البحيرة الناقة إذا أنتجت خمسة أبطن و إن كان الخامس ذكراً نحروه فأكله الرجال و النساء، و إن كان الخامس اُنثى بحروا اُذنها أي شقّوه و كانت حراماً على النساء لحمها و لبنها فإذا ماتت حلّت للنساء، و السائبة البعير يسيب بنذر يكون على الرجل إن سلّمه الله من مرض أو بلّغه منزله أن يفعل ذلك.

و الوصيلة من الغنم، كانوا إذا ولدت شاة سبعة أبطن فكان السابع ذكراً ذبح فأكل منه الرجال و النساء، و إن كان اُنثى تركت في الغنم و إن كان ذكراً و اُنثى قالوا: وصلت أخاها فلم تذبح و كان لحمها حراماً على النساء إلّا أن تموت منها شي‏ء فيحلّ أكلها للرجال و النساء.

و الحام الفحل إذا ركب ولد ولده قالوا: قد حمى ظهره، قال: و قد يروى:

١٧١

أنّ الحام هو من الإبل إذا أنتج عشرة أبطن قالوا: قد حمى ظهره فلا يركب و لا يمنع من كلاء و لا ماء.

أقول: و من طرق الشيعة و أهل السنّة روايات اُخر في معاني هذه الأسماء: البحيرة و السائبة و الوصيلة و الحام، و قد مرّ شطر منها في الكلام المنقول عن الطبرسيّ في مجمع البيان، في البيان المتقدّم.

و المتيقّن من معانيها - كما عرفت - أنّ هذه الأصناف من الأنعام كانت في الجاهليّة محرّرة نوعاً من التحرير ذات أحكام مناسبة لذلك كحماية الظهر و حرمة أكل اللحم و عدم المنع من الماء و الكلاء، و أنّ الوصيلة من الغنم و الثلاثة الباقية من الإبل.

و في المجمع: روى ابن عبّاس عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أن عمرو بن لُحيّ بن قمعة بن خندف كان قد ملك مكّة، و كان أوّل من غيّر دين إسماعيل، و اتّخذ الأصنام و نصب الأوثان، و بحّر البحيرة، و سيّب السائبة، و وصّل الوصيلة، و حمّى الحامي.

قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : فلقد رأيته في النار يؤذي أهل النار ريح قصبه، و يروى: يجر قصبه في النار.

أقول: و روي في الدرّ المنثور، هذا المعنى بعدّة طرق عن ابن عبّاس و غيره.

و في الدرّ المنثور، أخرج عبدالرزّاق و ابن أبي شيبة و عبد بن حميد و ابن جرير عن زيد بن أسلم قال: قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّي لأعرف أوّل من سيّب السوائب، و نصب النصب، و أوّل من غيّر دين إبراهيم، قالوا: من هو يا رسول الله؟ قال: عمرو بن لُحيّ أخو بني كعب لقد رأيته يجرّ قصبه في النار يؤذي أهل النار ريح قصبه.

و إنّي لأعرف من نحّر النحائر، قالوا: من هو يا رسول الله؟ قال: رجل من بني مدلج كانت له ناقتان فجذع آذانهما و حرّم ألبانهما و ظهورهما و قال: هاتان لله ثمّ احتاج إليهما فشرب ألبانهما و ركب ظهورهما.

قال: فلقد رأيته في النار، و هما يقصمانه بأفواههما و يطئانه بأخفافهما.

و فيه: أخرج أحمد و عبد بن حميد و الحكيم الترمذيّ في نوادر الاُصول، و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و البيهقيّ في الأسماء و الصفات، عن أبي الأحوص، عن

١٧٢

أبيه قال: أتيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في خلقان من الثياب فقال لي: هل لك من مال؟ قلت: نعم قال: من أيّ المال؟ قلت: من كلّ المال: من الإبل و الغنم و الخيل و الرقيق قال: فإذا آتاك الله فلير عليك.

ثمّ قال: تنتج إبلك رافعة آذانها؟ قلت: نعم و هل تنتج الإبل إلّا كذلك؟ قال: فلعلّك تأخذ موسى فتقطع آذان طائفة منها، و تقول: هذه بحر، و تشقّ آذان طائفة منها و تقول: هذه الصرم؟ قلت: نعم، قال: فلا تفعل إنّ كلّ ما آتاك الله لك حلّ، ثمّ قال:( ما جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَ لا سائِبَةٍ وَ لا وَصِيلَةٍ وَ لا حامٍ ) .

١٧٣

( سورة المائدة آية ١٠٥)

يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرّكُم مَن ضَلّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ( ١٠٥)

( بيان)

الآية تأمر المؤمنين أن يلزموا أنفسهم، و يلازموا سبيل هدايتهم و لا يوحشهم ضلال من ضلّ من الناس فإنّ الله سبحانه هو المرجع الحاكم على الجميع حسب أعمالهم، و الكلام مع ذلك لا يخلو عن غور عميق.

قوله تعالى: ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ) لفظة( عَلَيْكُمْ ) اسم فعل بمعنى ألزموا، و( أَنْفُسَكُمْ ) مفعوله.

و من المعلوم أنّ الضلال و الاهتداء - و هما معنيان متقابلان - إنّما يتحقّقان في سلوك الطريق لا غير فالملازم لمتن الطريق ينتهي إلى ما ينتهي إليه الطريق، و هو الغاية المطلوبة الّتي يقصدها الإنسان السالك في سلوكه، أمّا إذا استهان بذلك و خرج عن مستوى الطريق فهو الضلال الّذي تفوت به الغاية المقصودة فالآية تقدّر للإنسان طريقاً يسلكه و مقصداً يقصده غير أنّه ربّما لزم الطريق فاهتدى إليه أو فسق عنه فضلّ و ليس هناك مقصد يقصده القاصد إلّا الحياة السعيدة، و العاقبة الحسنى بلا ريب لكنّها مع ذلك تنطق بأنّ الله سبحانه هو المرجع الّذي يرجع إليه الجميع: المهتدي و الضالّ.

فالثواب الّذي يريده الإنسان في مسيره بالفطرة إنّما هو عندالله سبحانه يناله المهتدون، و يحرم عنه الضلّال، و لازم ذلك أن يكون جميع الطرق المسلوكة لأهل الهداية و الطرق المسلوكة لأهل الضلال تنتهي إلى الله سبحانه، و عنده سبحانه الغاية المقصودة و إن كانت تلك الطرق مختلفة في إيصال الإنسان إلى البغية و الفوز و الفلاح أو ضربه بالخيبة و الخسران، و كذلك في القرب و البعد كما قال تعالى:( يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ

١٧٤

إِنَّكَ كادِحٌ إِلى‏ رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ ) الإنشقاق: ٦ و قال تعالى:( أَلا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) المجادلة: ٢٢ و قال تعالى:( أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً وَ أَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ ) إبراهيم: ٢٨ و قال تعالى:( فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَ لْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ) البقرة: ١٨٦ و قال تعالى:( وَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَ هُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ ) حم السجدة: ٤٤.

بيّن تعالى في هذه الآيات أنّ الجميع سائرون إليه سبحانه سيراً لا مناص لهم عنه، غير أنّ طريق بعضهم قصير و فيه الرشد و الفلاح، و طريق آخرين طويل لا ينتهي إلى سعادة، و لا يعود إلى سالكه إلّا الهلاك و البوار.

و بالجملة فالآية تقدّر للمؤمنين و غيرهم طريقين اثنين ينتهيان إلى الله سبحانه، و تأمر المؤمنين بأن يشتغلوا بأنفسهم و ينصرفوا عن غيرهم و هم أهل الضلال من الناس و لا يقعوا فيهم و لا يخافوا ضلالهم فإنّما حسابهم على ربّهم لا على المؤمنين و ليسوا بمسؤلين عنهم حتّى يهمّهم أمرهم فالآية قريبة المضمون من قوله تعالى:( قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ ) الجاثية: ١٤ و نظيرها قوله تعالى:( تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَ لَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ ) البقرة: ١٣٤.

فعلى المؤمن أن يشتغل بما يهمّ نفسه من سلوك سبيل الهدى، و لا يهزهزه ما يشاهده من ضلال الناس و شيوع المعاصي بينهم و لا يشغله ذلك و لا يشتغل بهم فالحقّ حقّ و إن ترك و الباطل باطل و إن اُخذ به كما قال تعالى:( قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَ الطَّيِّبُ وَ لَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) المائدة: ١٠٠ و قال تعالى:( وَ لا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَ لَا السَّيِّئَةُ ) حم السجدة: ٣٤.

فقوله تعالى:( لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ) بناء على ما مرّ مسوق سوق الكناية اُريد به نهي المؤمنين عن التأثّر من ضلال من ضلّ من النّاس فيحملهم ذلك على ترك طريق الهداية كأن يقولوا: إنّ الدنيا الحاضرة لا تساعد الدين و لا تبيح

١٧٥

التنحّل بالمعنويّات فإنّما ذلك من السنن الساذجة و قد مضى زمنه و انقرض أهله، قال تعالى:( وَ قالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى‏ مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا ) القصص: ٥٧.

أو يخافوا ضلالهم على هدى أنفسهم فيشتغلوا بهم و ينسوا أنفسهم فيصيروا مثلهم فإنّما الواجب على المؤمن هو الدعوة إلى ربّه و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و بالجملة الأخذ بالأسباب العاديّة ثمّ إيكال أمر المسبّبات إلى الله سبحانه فإليه الأمر كلّه، فأمّا أن يهلك نفسه في سبيل إنقاذ الغير من الهلكة فلم يؤمر به، و لا يؤاخذ بعمل غيره، و ما هو عليه بوكيل، و على هذا فتصير الآية في معنى قوله تعالى:( فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى‏ آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً، إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا، وَ إِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً ) الكهف: ٨، و قوله تعالى:( وَ لَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى‏ بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً أَ فَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً ) الرعد: ٣١ و نحو ذلك.

و قد تبيّن بهذا البيان أنّ الآية لا تنافي آيات الدعوة و آيات الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر فإنّ الآية إنّما تنهى المؤمنين عن الاشتغال بضلال الناس عن اهتداء أنفسهم و إهلاك أنفسهم في سبيل إنقاذ غيرهم و إنجائه.

على أنّ الدعوة إلى الله و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر من شؤون اشتغال المؤمن بنفسه و سلوكه سبيل ربّه، و كيف يمكن أن تنافي الآية آيات الدعوة و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر أو تنسخها؟ و قد عدّهما الله سبحانه من مشخّصات هذا الدين و اُسسه الّتي بني عليها كما قال تعالى:( قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلى‏ بَصِيرَةٍ أَنَا وَ مَنِ اتَّبَعَنِي ) يوسف: ١٠٨ و قال تعالى:( كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ تَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ) آل عمران: ١١٠.

فعلى المؤمن أن يدعو إلى الله على بصيرة و أن يأمر بالمعروف و ينهى عن المنكر على سبيل أداء الفريضة الإلهيّة و ليس عليه أن يجيش و يهلك نفسه حزناً أو يبالغ في الجدّ في تأثير ذلك في نفوس أهل الضلال فذلك موضوع عنه.

١٧٦

و إذا كانت الآية قدّرت للمؤمنين طريقاً فيه اهتداؤهم و لغيرهم طريقاً من شأنه ضلال سالكيه، ثمّ أمر المؤمنين في قوله:( عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ ) بلزوم أنفسهم كان فيه دلالة على أنّ نفس المؤمن هو الطريق الّذي يؤمر بسلوكه و لزومه فإنّ الحثّ على الطريق إنّما يلائم الحثّ على لزومه و التحذير من تركه لا على لزوم سألك الطريق كما نشاهده في مثل قوله تعالى:( وَ أَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَ لا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ) الأنعام: ١٥٣.

فأمره تعالى المؤمنين بلزوم أنفسهم في مقام الحثّ على التحفّظ على طريق هدايتهم يفيد أنّ الطريق الّذي يجب عليهم سلوكه و لزومه هو أنفسهم، فنفس المؤمن هو طريقه الّذي يسلكه إلى ربّه و هو طريق هداه، و هو المنتهى به إلى سعادته.

فالآية تجلّي الغرض الّذي تؤمّه إجمالاً آيات اُخرى كقوله تعالى:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَ لْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَ اتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ، وَ لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ، لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ ) الحشر: ٢٠.

فالآيات تأمر بأن تنظر النفس و تراقب صالح عملها الّذي هو زادها غداً و خير الزاد التقوى فللنّفس يوم و غد و هي في سير و حركة على مسافة، و الغاية هو الله سبحانه و عنده حسن الثواب و هو الجنّة فعليها أن تدوم على ذكر ربّها و لا تنساه فإنّه سبحانه هو الغاية، و نسيان الغاية يستعقب نسيان الطريق فمن نسي ربّه نسي نفسه، و لم يعدّ لغده و مستقبل مسيره زاداً يتزوّد به و يعيش باستعماله و هو الهلاك، و هذا معنى‏ ما رواه الفريقان عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من عرف نفسه فقد عرف ربّه.

و هذا المعنى هو الّذي يؤيّده التدبّر التامّ و الاعتبار الصحيح فإنّ الإنسان في مسير حياته إلى أيّ غاية امتدّت لا همّ له في الحقيقة إلّا خير نفسه و سعادة حياته و إن اشتغل في ظاهر الأمر ببعض ما يعود نفعه إلى غيره، قال تعالى:( إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَ إِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها ) .

و ليس هناك إلّا هذا الإنسان الّذي يتطوّر طوراً بعد طور، و يركب طبقاً عن

١٧٧

طبق من جنين و صبيّ و شابّ و كهل و شيخ ثمّ الّذي يديم الحياة في البرزخ ثمّ يوم القيامة ثمّ ما بعده من جنّة أو نار، فهذه هي المسافة الّتي يقطعها الإنسان من موقفه في أوّل تكوّنه إلى أن ينتهي إلى ربّه، قال تعالى:( وَ أَنَّ إِلى‏ رَبِّكَ الْمُنْتَهى) النجم: ٤٢.

و هو الإنسان لا يظأ موطأً في مسيره و لا يسير و لا يسري إلّا بأعمال قلبيّة هي الاعتقادات و نحوها و أعمال جوارحيّة صالحة، أو طالحة و ما أنتجه عمله يوماً كان هو زاده غداً فالنفس هو طريق الإنسان إلى ربّه، و الله سبحانه هو غايته في مسيره.

و هذا طريق اضطراريّ لا مناص للإنسان عن سلوكه كما يدلّ عليه قوله تعالى:( يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى‏ رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ ) الإنشقاق: ٦ فهذا طريق ضروريّ السلوك يشترك فيه المؤمن و الكافر و الملتفت المتنبّه و الغافل العامّة، و الآية لا تريد الحثّ على لزومه بمعنى البعث على سلوكه ممّن لا يسلك.

و إنّما تريد الآية تنبيه المؤمنين على هذه الحقيقة بعد غفلتهم عنها، فإنّ هذه الحقيقة كسائر الحقائق التكوينيّة و إن كانت ثابتة غير متغيّرة بالعلم و الجهل لكنّ التفات الإنسان إليها يؤثّر في عمله تأثيراً بارزاً، و الأعمال الّتي تربّي النفس الإنسانيّة تربية مناسبة لسنخها و إذا كان العمل ملائماً لواقع الأمر مناسباً لغاية الصنع و الإيجاد كانت النفس المستكملة بها سعيدة في جدّها، غير خائبة في سعيها و لا خاسرة في صفقتها، و قد مرّ بيان ذلك في مواضع كثيرة من هذا الكتاب بما لا يبقى معه ريب.

و توضيح ذلك بما يناسب هذا المقام أنّ الإنسان كغيره من خلق الله سبحانه واقع تحت التربية الإلهيّة من دون أن يفوته تعالى شي‏ء من أمره، و قد قال تعالى:( ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى‏ صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ) هود: ٥٦ و هذه تربية تكوينيّة على حدّ ما يربّي الله سبحانه غيره من الاُمور، في مسيرها جميعاً إليه تعالى، و قد قال:( أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ ) الشورى: ٥٣ و لا يتفاوت الأمر و لا يختلف الحال في هذه التربية بين شي‏ء و شي‏ء فإنّ الصراط مستقيم، و الأمر متشابه مطّرد، و قد قال تعالى أيضاً:( ما تَرى‏ فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ ) الملك: ٣.

١٧٨

و قد جعل سبحانه غاية الإنسان و ما ينتهي إليه أمره و يستقرّ عليه عاقبته من حيث السعادة و الشقاوة و الفلاح و الخيبة مبنيّة على أحوال و أخلاق نفسانيّة مبنيّة على أعمال من الإنسان تنقسم تلك الأعمال إلى صالحة و طالحة و تقوى و فجور كما قال تعالى:( وَ نَفْسٍ وَ ما سَوَّاها فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَ تَقْواها قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها وَ قَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها ) الشمس: ١٠ فالآيات - كما ترى - تضع النفس المسوّاة في جانب و هو مبدأ الحال، و الفلاح و الخيبة في جانب و هو الغاية و منتهى المسير، ثمّ تبني الغايتين أعني الفلاح و الخيبة على تزكية النفس و تدسيتها و ذلك مرحلة الأخلاق، ثمّ تبني الفضيلة و الرذيلة على التقوى و الفجور أعني الأعمال الصالحة و الطالحة الّتي تنطق الآيات بأنّ الإنسان ملهم بها من جانب الله تعالى.

و الآيات في بيانها لا تتعدّى طور النفس بمعنى أنّها تعتبر النفس هي المخلوقة المسوّاة و هي الّتي اُضيف إليها الفجور و التقوى، و هي الّتي تزكّى و تدسّى، و هي الّتي يفلح فيها الإنسان و يخيب، و هذا كما عرفت جري على مقتضى التكوين.

لكنّ هذه الحقيقة التكوينيّة أعني كون الإنسان في حياته سائراً في مسير نفسه لا يسعه التخطّي عنها و لو بخطوة، و لا تركها و الخروج منها و لو لحظة، لا يتساوى حال من تنبّه له و تذكّر به تذكّراً لازماً لا يتطرّق إليه نسيان، و حال من غفل عنه و نسي الواقع الّذي لا مفرّ له منه، و قد قال تعالى:( هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ ) الزمر: ٩.

و قال تعالى:( فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَ لا يَشْقى‏، وَ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً، وَ نَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى‏، قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى‏ وَ قَدْ كُنْتُ بَصِيراً، قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَ كَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى) طه: ١٢٦.

و ذلك أنّ المتنبّه إلى هذه الحقيقة حيثما يلتفت إلى حقيقة موقفه من ربّه و نسبته إلى سائر أجزاء العالم وجد نفسه منقطعة عن غيره و قد كان يجدها على غير هذا النعت و مضروباً دونها الحجاب لا يمسّها بالإحاطة و التأثير إلّا ربّها المدبّر لأمرها الّذي يدفعها من ورائها و يجذبها إلى قدّامها بقدرته و هدايته، و وجدها خالية بربّها

١٧٩

ليس لها من دونه من وال، و عند ذلك يفقه معنى قوله تعالى:( إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ) بعد قوله:( عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ) و معنى قوله تعالى:( أَ وَ مَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَ جَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها ) الأنعام: ١٢٢.

و عند ذلك يتبدّل إدراك النفس و شعورها، و يهاجر من موطن الشرك إلى موقف العبوديّة و مقام التوحيد و لا يزال يعوّض شركاً من توحيد و توهّماً من تحقّق و بعداً من قرب و استكباراً شيطانيّاً من تواضع رحمانيّ و استغناءً وهميّاً من فقر عبوديّ إن أخذت بيدها العناية الإلهيّة و ساقها سائق التوفيق.

و نحن و إن كان لا يسعنا أن نفقه هذه المعاني حقّ الفقه لمكان إخلادنا إلى الأرض و اشتغالنا عن الغوص في أغوار هذه الحقائق الّتي يكشف عنها الدين و يشير إليها الكتاب الإلهيّ بما لا يعنينا من فضولات هذه الحياة الفانية الّتي لا يعرّفها الكلام الإلهيّ في بيانه إلّا بأنّها لعب و لهو كما قال تعالى:( وَ مَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَعِبٌ وَ لَهْوٌ ) الأنعام: ٣٢ و قال تعالى:( ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ ) النجم: ٣٠.

إلّا أنّ الاعتبار الصحيح و البحث البالغ و التدبّر الوافي يوصلنا إلى التصديق بكلّيّاتها إجمالاً و إن قصرنا عن إحصاء التفاصيل و الله الهادي.

و لعلّنا خرجنا عن طور الاختصار فلنرجع إلى أوّل الكلام فنقول: و تسع الآية أن تحمل على الخطاب الاجتماعيّ بأن يكون المخاطب بقوله:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ) مجتمع المؤمنين فيكون المراد بقوله:( عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ ) هو إصلاح المؤمنين مجتمعهم الإسلاميّ باتّخاذ صفة الاهتداء بالهداية الإلهيّة بأن يحتفظوا على معارفهم الدينيّة و الأعمال الصالحة و الشعائر الإسلاميّة العامّة كما قال تعالى:( وَ اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَ لا تَفَرَّقُوا ) آل عمران: ١٠٣ و قد تقدّم في تفسيره أنّ المراد بهذا الاعتصام الاجتماعيّ الأخذ بالكتاب و السنّة.

و يكون قوله:( لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ) يراد به أنّهم في أمن من إضرار المجتمعات الضالّة غير الإسلاميّة فليس من الواجب على المسلمين أن يبالغوا الجدّ

١٨٠

في انتشار الإسلام بين الطوائف غير المسلمة أزيد من الدعوة المتعارفة كما تقدّم.

أو أنّه لا يجوز لهم أن ينسلّوا ممّا بأيديهم من الهدى من مشاهدة ما عليه المجتمعات الضالّة من الانهماك في الشهوات و التمتّع من مزايا العيش الباطلة فإنّ الجميع مرجعهم إلى الله فينبّئهم بما كانوا يعملون، و تجري الآية على هذا مجرى قوله تعالى:( لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ، مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ الْمِهادُ ) آل عمران: ١٩٧، و قوله:( وَ لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى‏ ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا ) طه: ١٣١.

و هنا معنى آخر لقوله:( لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ) من جهة أنّ المنفيّ في الآية هو الإضرار المنسوب إلى نفس الضالّين دون شي‏ء معيّن من صفاتهم أو أعمالهم فتفيد الإطلاق، و يكون المعنى نفي أن يكون الكفّار ضارّين للمجتمع الإسلاميّ بتبديله مجتمعاً غير إسلاميّ بقوّة قهريّة فتكون الآية مسوقة سوق قوله تعالى:( الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَ اخْشَوْنِ ) المائدة: ٣، و قوله:( لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً وَ إِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ) آل عمران: ١١١.

و قد ذكر جمع من مفسّري السلف أنّ مفاد الآية هو الترخيص في ترك الدعوة الدينيّة و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، و ذكروا أنّ الآية خاصّة تختصّ بزمان أو حال لا يوجد فيه شرط الدعوة و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، و هو الأمن من الضرر و قد رووا في ذلك روايات ستأتي الإشارة إليها في البحث الروائيّ الآتي.

و لازم هذا المعنى أن يكون قوله:( لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ) كناية عن انتفاء التكليف أي لا تكليف عليكم في ذلك و إلّا فتضرّر المجتمع الدينيّ من شيوع الضلال من كفر أو فسق ممّا لا يرتاب فيه ذو ريب.

لكنّ ذلك معنى بعيد لا يحتمله سياق الآية فإنّ الآية لو اُخذت مخصّصة لعمومات وجوب الدعوة و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر فلسانها ليس لسان التخصيص، و إن اُخذت ناسخة فآيات الدعوة و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر آبية من النسخ، و للكلام تتمّة ستوافيك.

١٨١

( بحث روائي)

في الغرر و الدرر، للآمديّ عن عليّعليه‌السلام قال: من عرف نفسه عرف ربّه.

أقول: و رواه الفريقان عن النبيّ أيضاً، و هو حديث مشهور، و قد ذكر بعض العلماء: أنّه من تعليق المحال، و مفاده استحالة معرفة النفس لاستحالة الإحاطة العلميّة بالله سبحانه و ردّ أوّلاً بقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في رواية اُخرى: أعرفكم بنفسه أعرفكم بربّه‏، و ثانياً بأنّ الحديث في معنى عكس النقيض لقوله تعالى:( وَ لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ ) .

و فيه، عنهعليه‌السلام : قال: الكيّس من عرف نفسه و أخلص أعماله.

أقول: تقدّم في البيان السابق معنى ارتباط الإخلاص و تفرّعه على الاشتغال بمعرفة النفس.

و فيه عنهعليه‌السلام : قال: المعرفة بالنفس أنفع المعرفتين.

أقول: الظاهر أنّ المراد بالمعرفتين المعرفة بالآيات الأنفسيّة و المعرفة بالآيات الآفاقيّة، قال تعالى:( سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَ فِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَ وَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ شَهِيدٌ ) حم السجدة: ٥٣ و قال تعالى:( وَ فِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ، وَ فِي أَنْفُسِكُمْ أَ فَلا تُبْصِرُونَ ) الذاريات: ٢١.

و كون السير الأنفسيّ أنفع من السير الآفاقيّ لعلّه لكون المعرفة النفسانيّة لا تنفكّ عادة من إصلاح أوصافها و أعمالها بخلاف المعرفة الآفاقيّة، و ذلك أنّ كون معرفة الآيات نافعة إنّما هو لأنّ معرفة الآيات بما هي آيات موصلة إلى معرفة الله سبحانه و أسمائه و صفاته و أفعاله ككونه تعالى حيّاً لا يعرضه موت، و قادراً لا يشوبه عجز، و عليماً لا يخالطه جهل، و أنّه تعالى هو الخالق لكلّ شي‏ء، و المالك لكلّ شي‏ء، و الربّ القائم على كلّ نفس بما كسبت، خلق الخلق لا لحاجة منه إليهم بل

١٨٢

لينعم عليهم بما استحقّوه ثمّ يجمعهم ليوم الجمع لا ريب فيه ليجزي الّذين أساؤا بما عملوا و يجزي الّذين أحسنوا بالحسنى.

و هذه و أمثالها معارف حقّة إذا تناولها الإنسان و أتقنها مثّلت له حقيقة حياته، و أنّها حياة مؤبّدة ذات سعادة دائمة أو شقوة لازمة، و ليست بتلك المتهوّسة المنقطعة اللاهية اللاغية، و هذا موقف علميّ يهدي الإنسان إلى تكاليف و وظائف بالنسبة إلى ربّه و بالنسبة إلى أبناء نوعه في الحياة الدنيا و الحياة الآخرة، و هي الّتي نسمّيها بالدين، فإنّ السنّة الّتي يلتزمها الإنسان في حياته، و لا يخلو عنها حتّى البدويّ و الهمجيّ إنّما يضعها و يلتزمها أو يأخذها و يلتزمها لنفسه من حيث إنّه يقدّر لنفسه نوعاً من الحياة أيّ نوع كان، ثمّ يعمل بما استحسنه من السنّة لإسعاد تلك الحياة، و هذا من الوضوح بمكان.

فالحياة الّتي يقدّرها الإنسان لنفسه تمثّل له الحوائج المناسبة لها فيهتدي بها إلى الأعمال الّتي تضمّن عادة رفع تلك الحوائج فيطبّق الإنسان عمله عليها و هو السنّة أو الدين.

فتخّلص ممّا ذكرنا أنّ النظر في الآيات الأنفسيّة و الآفاقيّة و معرفة الله سبحانه بها يهدي الإنسان إلى التمسّك بالدين الحقّ و الشريعة الإلهيّة من جهة تمثيل المعرفة المذكورة الحياة الإنسانيّة المؤبّدة له عند ذلك، و تعلّقها بالتوحيد و المعاد و النبوّة.

و هذه هداية إلى الإيمان و التقوى يشترك فيها الطريقان معاً أعني طريقي النظر إلى الآفاق و الأنفس فهما نافعان جميعاً غير أنّ النظر إلى آيات النفس أنفع فإنّه لا يخلو من العثور على ذات النفس و قواها و أدواتها الروحيّة و البدنيّة و ما يعرضها من الاعتدال في أمرها أو طغيانها أو خمودها و الملكات الفاضلة أو الرذيلة، و الأحوال الحسنة أو السيّئة الّتي تقارنها.

و اشتغال الإنسان بمعرفة هذه الاُمور و الإذعان بما يلزمها من أمن أو خطر و سعادة أو شقاوة لا ينفكّ من أن يعرّفه الداء و الدواء من موقف قريب فيشتغل

١٨٣

بإصلاح الفاسد منها، و الالتزام بصحيحها بخلاف النظر في الآيات الآفاقيّة فإنّه و إن دعا إلى إصلاح النفس و تطهيرها من سفاسف الأخلاق و رذائلها، و تحليتها بالفضائل الروحيّة لكنّه ينادي لذلك من مكان بعيد، و هو ظاهر.

و للرواية معنى آخر أدقّ مستخرج من نتائج الأبحاث الحقيقيّة في علم النفس و هو أنّ النظر في الآيات الآفاقيّة و المعرفة الحاصلة من ذلك نظر فكريّ و علم حصوليّ بخلاف النظر في النفس و قواها و أطوار وجودها و المعرفة المتجلّية منها فإنّه نظر شهوديّ و علم حضوريّ، و التصديق الفكريّ يحتاج في تحقّقه إلى نظم الأقيسة و استعمال البرهان، و هو باق ما دام الإنسان متوجّهاً إلى مقدّماته غير ذاهل عنها و لا مشتغل بغيرها، و لذلك يزول العلم بزوال الإشراف على دليله و تكثر فيه الشبهات و يثور فيه الاختلاف.

و هذا بخلاف العلم النفسانيّ بالنفس و قواها و أطوار وجودها فإنّه من العيان فإذا اشتغل الإنسان بالنظر إلى آيات نفسه، و شاهد فقرها إلى ربّها، و حاجتها في جميع أطوار وجودها، وجد أمراً عجيباً وجد نفسه متعلّقة بالعظمة و الكبرياء متّصلة في وجودها و حياتها و علمها و قدرتها و سمعها و بصرها و إرادتها و حبّها و سائر صفاتها و أفعالها بما لا يتناهى بهاءً و سناءً و جمالاً و جلالاً و كمالاً من الوجود و الحياة و العلم و القدرة، و غيرها من كلّ كمال.

و شاهد ما تقدّم بيانه أنّ النفس الإنسانيّة لا شأن لها إلّا في نفسها، و لا مخرج لها من نفسها، و لا شغل لها إلّا السير الاضطراريّ في مسير نفسها، و أنّها منقطعة عن كلّ شي‏ء كانت تظنّ أنّها مجتمعة معه مختلطة به إلّا ربّها المحيط بباطنها و ظاهرها و كلّ شي‏ء دونها فوجدت أنّها دائماً في خلأ مع ربّها و إن كانت في ملأ من الناس.

و عند ذلك تنصرف عن كلّ شي‏ء و تتوجّه إلى ربّها و تنسى كلّ شي‏ء و تذكر ربّها فلا يحجبه عنها حجاب و لا تستتر عنه بستر و هو حقّ المعرفة الّذي قدّر لإنسان.

و هذه المعرفة الأحرى بها أن تسمّى بمعرفة الله بالله، و أمّا المعرفة الفكريّة

١٨٤

الّتي يفيدها النظر في الآيات الآفاقيّة سواء حصلت من قياس أو حدس أو غير ذلك فإنّما هي معرفة بصورة ذهنيّة عن صورة ذهنيّة، و جلّ الإله أن يحيط به ذهن أو تساوي ذاته صورة مختلقة اختلقها خلق من خلقه، و لا يحيطون به علماً.

و قد روي في الإرشاد، و الإحتجاج، على ما في البحار عن الشعبيّ عن أميرالمؤمنينعليه‌السلام في كلام له: إنّ الله أجل من أن يحتجب عن شي‏ء أو يحتجب عنه شي‏ء. و في التوحيد، عن موسى بن جعفرعليه‌السلام في كلام له: ليس بينه و بين خلقه حجاب غير خلقه احتجب بغير حجاب محجوب و استتر بغير ستر مستور لا إله إلّا هو الكبير المتعال. و في التوحيد، مسنداً عن عبدالأعلى عن الصادقعليه‌السلام في حديث: و من زعم أنّه يعرف الله بحجاب أو بصورة أو بمثال فهو مشرك لأنّ الحجاب و الصورة و المثال غيره، و إنّما هو واحد موحّد فكيف يوحّد من زعم أنّه يوحّده بغيره إنّما عرف الله من عرفه بالله فمن لم يعرفه به فليس يعرفه إنّما يعرف غيره‏، الحديث. و الأخبار المأثورة عن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام في معنى ما قدّمناه كثيرة جدّاً لعلّ الله يوفّقنا لإيرادها و شرحها في ما سيأتي إن شاء الله العزيز من تفسير سورة الأعراف.

فقد تحصّل أنّ النظر في آيات الأنفس أنفس و أغلى قيمة و أنّه هو المنتج لحقيقة المعرفة فحسب، و على هذا فعدّهعليه‌السلام إيّاها أنفع المعرفتين لا معرفة متعيّنة إنّما هو لأنّ العامّة من الناس قاصرون عن نيلها، و قد أطبق الكتاب و السنّة و جرت السيرة الطاهرة النبويّة و سيرة أهل بيته الطاهرين على قبول من آمن بالله عن نظر آفاقيّ و هو النظر الشائع بين المؤمنين فالطريقان نافعان جميعاً لكنّ النفع في طريق النفس أتمّ و أغزر.

و في الدرر و الغرر، عن عليّعليه‌السلام قال: العارف من عرف نفسه فأعتقها و نزّهها عن كلّ ما يبعّدها.

أقول: أي أعتقها عن إسارة الهوى و رقّيّة الشهوات.

و فيه، عنهعليه‌السلام قال: أعظم الجهل جهل الإنسان أمر نفسه.

و فيه، عنهعليه‌السلام : قال: أعظم الحكمة معرفة الإنسان نفسه.

١٨٥

و فيه، عنهعليه‌السلام : قال: أكثر الناس معرفة لنفسه أخوفهم لربّه.

أقول: و ذلك لكونه أعلمهم بربّه و أعرفهم به، و قد قال الله سبحانه:( إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ ) .

و فيه، عنهعليه‌السلام : قال: أفضل العقل معرفة المرء بنفسه فمن عرف نفسه عقل، و من جهلها ضلّ.

و فيه، عنهعليه‌السلام : قال: عجبت لمن ينشد ضالته، و قد أضلّ نفسه فلا يطلبها.

و فيه، عنهعليه‌السلام قال: عجبت لمن يجهل نفسه كيف يعرف ربّه؟.

و فيه، عنهعليه‌السلام : قال: غاية المعرفة أن يعرف المرء نفسه.

أقول: و قد تقدّم وجه كونها غاية المعرفة فإنّها المعرفة حقيقة.

و فيه، عنهعليه‌السلام قال: كيف يعرف غيره من يجهل نفسه؟

و فيه، عنهعليه‌السلام : قال: كفى بالمرء معرفة أن يعرف نفسه، و كفى بالمرء جهلاً أن يجهل نفسه.

و فيه، عنهعليه‌السلام : قال: من عرف نفسه تجرّد.

أقول: أي تجرّد عن علائق الدنيا، أو تجرّد عن الناس بالاعتزال عنهم أو تجرّد عن كلّ شي‏ء بالإخلاص لله.

و فيه، عنهعليه‌السلام : قال: من عرف نفسه جاهدها و من جهل نفسه أهملها.

و فيه، عنهعليه‌السلام : قال: من عرف نفسه جلّ أمره.

و فيه، عنهعليه‌السلام : قال: من عرف نفسه كان لغيره أعرف و من جهل نفسه كان بغيره أجهل.

و فيه، عنهعليه‌السلام : قال: من عرف نفسه فقد انتهى إلى غاية كلّ معرفة و علم.

و فيه، عنهعليه‌السلام : قال: من لم يعرف نفسه بعد عن سبيل النجاة، و خبط في الضلال و الجهالات.

و فيه، عنهعليه‌السلام : قال: معرفة النفس أنفع المعارف.

و فيه، عنهعليه‌السلام : قال: نال الفوز الأكبر من ظفر بمعرفة النفس.

١٨٦

و فيه، عنهعليه‌السلام : قال: لا تجهل نفسك فإنّ الجاهل معرفة نفسه جاهل بكلّ شي‏ء.

و في تحف العقول، عن الصادقعليه‌السلام في حديث: من زعم أنّه يعرف الله بتوهّم القلوب فهو مشرك، و من زعم أنّه يعرف الله بالاسم دون المعنى فقد أقرّ بالطعن لأنّ الاسم محدث، و من زعم أنّه يعبد الاسم و المعنى فقد جعل مع الله شريكاً، و من زعم أنّه يعبد بالصفة لا بالإدراك فقد أحال على غائب، و من زعم أنّه يضيف الموصوف إلى الصفة فقد صغّر بالكبير، و ما قدروا الله حقّ قدره.

قيل له: فكيف سبيل التوحيد؟ قال: باب البحث ممكن و طلب المخرج موجود إنّ معرفة عين الشاهد قبل صفته، و معرفة صفة الغائب قبل عينه.

قيل: و كيف يعرف عين الشاهد قبل صفته؟ قال: تعرفه و تعلم علمه، و تعرف نفسك به و لا تعرف نفسك من نفسك، و تعلم أنّ ما فيه له و به كما قالوا ليوسف:( إِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ ) قال:( أَنَا يُوسُفُ وَ هذا أَخِي ) فعرفوه به و لم يعرفوه بغيره، و لا أثبتوه من أنفسهم بتوهّم القلوب‏، الحديث.

أقول: قد أوضحنا في ذيل‏ قولهعليه‌السلام المعرفة بالنفس أنفع المعرفتين‏ (الرواية الثانية من الباب) أنّ الإنسان إذا اشتغل بآية نفسه و خلا بها عن غيرها انقطع إلى ربّه من كلّ شي‏ء، و عقب ذلك معرفة ربّه معرفة بلا توسيط وسط، و علماً بلا تسبيب سبب إذ الانقطاع يرفع كلّ حجاب مضروب، و عند ذلك يذهل الإنسان بمشاهدة ساحة العظمة و الكبرياء عن نفسه، و أحرى بهذه المعرفة أن تسمّى معرفة الله بالله.

و انكشف له عند ذلك من حقيقة نفسه أنّها الفقيرة إلى الله سبحانه المملوكة له ملكاً لا تستقلّ بشي‏ء دونه، و هذا هو المراد بقولهعليه‌السلام :( تعرف نفسك به، و لا تعرف نفسك بنفسك من نفسك، و تعلم أنّ ما فيه له و به) .

و في هذا المعنى‏ ما رواه المسعوديّ في إثبات الوصيّة، عن أميرالمؤمنينعليه‌السلام قال في خطبة له:( فسبحانك ملأت كلّ شي‏ء و باينت كلّ شي‏ء فأنت لا يفقدك شي‏ء و أنت الفعّال لما تشاء تباركت يا من كلّ مدرك من خلقه، و كلّ محدود من صنعه.

١٨٧

- إلى أن قال - سبحانك أيّ عين تقوم نصب بهاء نورك، و ترقى إلى نور ضياء قدرتك، و أيّ فهم يفهم ما دون ذلك إلا أبصار كشفت عنها الأغطية، و هتكت عنها الحجب العميّة، فرقت أرواحها على أطراف أجنحة الأرواح، فناجوك في أركانك، و ولجوا بين أنوار بهائك، و نظروا من مرتقى التربة إلى مستوى كبريائك، فسمّاهم أهل الملكوت زوّاراً، و دعاهم أهل الجبروت عمّاراً) .

و في البحار، عن إرشاد الديلميّ - و ذكر بعد ذلك سندين لهذا الحديث - و فيه:( فمن عمل برضائي اُلزمه ثلاث خصال: اُعرّفه شكراً لا يخالطه الجهل و ذكراً لا يخالطه النسيان، و محبّة لا يؤثّر على محبّتي محبّة المخلوقين.

فإذا أحبّني أحببته، و أفتح عين قلبه إلى جلالي، و لا اُخفي عليه خاصّة خلقي، و اُناجيه في ظلم الليل و نور النهار حتّى ينقطع حديثه مع المخلوقين و مجالسته معهم، و اُسمعه كلامي و كلام ملائكتي، و اُعرّفه السرّ الّذي سترته عن خلقي، و اُلبسه الحياء حتّى يستحيي منه الخلق كلّهم، و يمشي على الأرض مغفوراً له، و أجعل قلبه واعياً و بصيراً، و لا اُخفي عليه شيئاً من جنّة و لا نار، و اُعرّفه ما يمرّ على الناس في القيامة من الهول و الشدّة، و ما اُحاسب به الأغنياء و الفقراء و الجهّال و العلماء، و اُنوّمه في قبره و اُنزل عليه منكراً و نكيراً حتّى يسألاه، و لا يرى غمّ الموت و ظلمة القبر و اللحد و هول المطلّع، ثمّ أنصب له ميزانه و أنشر ديوانه، ثمّ أضع كتابه في يمينه فيقرؤه منشوراً ثمّ لا أجعل بيني و بينه ترجماناً، فهذه صفات المحبّين.

يا أحمد اجعل همّك همّاً واحداً، و اجعل لسانك لساناً واحداً، و اجعل بدنك حيّاً لا يغفل أبداً، من يغفل عنّي لا اُبالي بأيّ واد هلك) .

و الروايات الثلاثة الأخيرة و إن لم يكن من أخبار هذا البحث المعقود على الاستقامة إلّا أنّا إنّما أوردناها ليقضي الناقد البصير بما قدّمناه من أنّ المعرفة الحقيقيّة لا تستوفي بالعلم الفكريّ حقّ استيفائها فإنّ الروايات تذكر اُموراً من المواهب الإلهيّة المخصوصة بأوليائه لا ينتجها السير الفكريّ البتّة.

و هي أخبار مستقيمة صحيحة تشهد على صحّتها الكتاب الإلهيّ على ما سنبيّن

١٨٨

ذلك فيما سيوافيك من تفسير سورة الأعراف إن شاء الله العزيز.

و في تفسير القمّيّ في قوله تعالى:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ ) (الآية)، قال: قالعليه‌السلام : أصلحوا أنفسكم و لا تتّبعوا عورات الناس و لا تذكروهم فإنّه لا يضرّكم ضلالتهم إذا أنتم صالحون.

أقول: و الرواية منطبقة على ما قدّمناه في البيان السابق أنّ الآية متوجّهة إلى النهي عن التعرّض لإصلاح حال الناس أزيد من متعارف الدعوة و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، و ليست مسوقة للترخيص في ترك فريضة الدعوة و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر.

و في نهج البيان، عن: الصادقعليه‌السلام أنّه قال: نزلت هذه الآية في التقيّة.

أقول: مفاد الرواية أنّ الآية خاصّة بصورة التقيّة من أهل الضلال في الدعوة إلى الحقّ و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر لمكان اشتراط ذلك شرعاً بعدم التقيّة، و قد تقدّم في البيان السابق أنّ ظاهر الآية لا تساعد على ذلك.

و قد روي في الدرّ المنثور، عن مفسّري السلف قول جمع منهم بذلك كابن مسعود و ابن عمر و اُبيّ بن كعب و ابن عبّاس و مكحول، و ما روي في ذلك من الروايات عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم غير دالّة على ذلك.

و هي ما عن الترمذيّ و صحّحه و ابن ماجة و ابن جرير و البغويّ في معجمه و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و الطبرانيّ و أبي الشيخ و ابن مردويه و الحاكم و صحّحه و البيهقيّ في الشعب عن أبي اُميّة الشعبانيّ قال: أتيت أبا ثعلبة الخشنيّ فقلت له: كيف تصنع هذه الآية؟ قال: أيّة آية؟ قال:(١) قوله:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ) قال: أمّا و الله لقد سألت عنها خبيراً سألت عنها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: بل ائتمروا بالمعروف و تناهوا عن المنكر حتّى إذا رأيت شحّاً مطاعاً، و هوى متّبعاً، و دنياً مؤثرة، و إعجاب كلّ ذي رأي برأيه فعليك بخاصّة نفسك و دع عنك أمر العوامّ فإنّ من ورائكم أيّام الصبر، الصابر فيهنّ كالقابض على الجمر،

____________________

(١) قلت. ظ

١٨٩

للعامل فيهنّ مثل أجر خمسين رجلاً يعملون مثل عملكم.

أقول: و في هذا المعنى ما رواه ابن مردويه عن معاذ بن جبل عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و الرواية إنّما تدلّ على أنّ الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر لم يرتفعا بالآية.

و في الدرّ المنثور: أخرج أحمد و ابن أبي حاتم و الطبرانيّ و ابن مردويه عن أبي عامر الأشعريّ: أنّه كان فيهم شي‏ء فاحتبس على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثمّ أتاه فقال: ما حبسك؟ قال: يا رسول الله قرأت هذه الآية:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ) قال: فقال له النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أين ذهبتم؟ إنّما هي: لا يضرّكم من ضلّ من الكفّار إذا اهتديتم.

أقول: و الرواية - كما ترى - تخصّ الأمر في الآية بالترخيص في ترك دعوة الكفّار إلى الحقّ و تصرّفها عن الترخيص في ترك الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر في الفروع مع أنّ آيات وجوب الدعوة و ما يتبعها من آيات الجهاد و نحوها لا تقصر في الإباء عن ذلك عن آيات الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر.

و فيه: أخرج ابن مردويه عن أبي سعيد الخدريّ قال: ذكرت هذه الآية عند رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قول الله عزّوجلّ:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ) فقال نبيّ اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لم يجي‏ء تأويلها، لا يجي‏ء تأويلها حتّى يهبط عيسى بن مريمعليه‌السلام .

أقول: و الكلام في الرواية نظير الكلام فيما تقدّم.

و فيه: أخرج ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم عن حذيفة: في قوله:( عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ) قال: إذا أمرتم بالمعروف و نهيتم عن المنكر.

أقول: و هو معنى معتدل مآله إلى ما ذكرناه، و روي مثله عن سعيد بن المسيّب.

١٩٠

( بحث علمي)

( عرفان النفس في تسعة فصول ‏)

ملفّق من إشارات تاريخيّة و أبحاث اُخر نفسيّة و غير ذلك في فصول:

١- لم يزل الإنسان فيما نعلم - حتّى الإنسان الأوّليّ - يقول في بعض قوله:( أنا) و( نفسي) يحكي به عن حقيقة من الحقائق الكونيّة و هو لا محالة يدري ما يقول و يعلم ما يريد غير أنّ انصراف همّه إلى تعبئة أركان الحياة البدنيّة و اشتغاله بالأعمال الجسميّة لرفع الحوائج المادّيّة يصرفه عن التعمّق في أمر هذه النفس المحكي عنها بقوله:( أنا) و( نفسي) و ربّما ألقى ذلك في وهمه أنّ ذلك هو البدن لا غير.

و ربّما وجد الإنسان أنّ الفارق بين الحيّ و الميّت بحسب ظهور الحسّ هو النفس الّذي يتنفّس به الإنسان ما دام حيّاً فإذا فقده أو سدّ عليه مجاريه عاد ميّتاً لا يشعر بشي‏ء و بطل وجوده و انعدمت شخصيّته و إنّيّته فأذعن أنّ النفس هو النفس (محرّكة) و هو الريح أو نوع خاصّ من الريح فسمّاه لذلك روحاً، و قضى أنّ الإنسان هو المجموع من الروح و البدن.

أو رأى أنّ الحسّ و الحركة البدنيّين كأنّهما رهينا ما يحتبس في البدن من الدم الساري في أعضائه أو الجاري في عروقه من شرائين و أوردة و أنّ الحياة الّتي ترتحل الإنسانيّة بارتحالها متعلّقة بهذا المائع الأحمر وجوداً و عدماً فحكم بأنّ النفس هو الدم فسمّى النفس دماً بل الدم نفساً سائلة أو غير سائلة.

و ربّما دعي الإنسان ما يشاهده من أمر النطفة أنّ المنيّ حينما يلتقمه الرحم و يطرؤه التطوّر الكونيّ طوراً بعد طور هو الّذي يصير إنساناً، أن يذهب إلى أنّ النفس الإنسانيّة هي الأجزاء الأصليّة المجتمعة في النطفة، و هي باقية في البنية البدنيّة مدى الحياة، و ربّما ذهب الذاهب إلى أنّها مصونة عن التغيّر و البطلان، و أنّ الإنسانيّة باقية ببقائها لا تنالها يد الحدثان و لا أنّها تقبل البطلان و الانعدام مع أنّ النفس الإنسانيّة لو كانت هذه الأجزاء المنعوتة سواء اشترطنا فيها الاجتماع على هيئة خاصّة أو لم نشترط استلزم ذلك القول بمحالات كثيرة مذكورة في محلّه.

١٩١

فهذه الأقاويل و أمثالها لا تنافي ما يناله الإنسان و هو إنسان من حقيقة قوله:( أنا) و( نفسي) و لا يخطئ فيه البتّة إذ ليس من البعيد أن نكون ندرك حقيقة من الحقائق الكونيّة إجمالاً إدراكاً غير خاطئ ثمّ نأخذ في البحث عن هويّته و واقع أمره تفصيلاً فنخطئ فيه عند ذاك فهناك موضوعات علميّة كثيرة كالمحسوسات الظاهريّة أو الباطنيّة نشاهدها مشاهدة عيان - على الرغم من السوفسطائيّين و الشكّاكين - ثمّ العلماء لا يزالون يختلفون في أمرها خلفاً عن سلف.

و كذلك العامّة من غير أهل البحث يشاهدون من أنفسهم ما يشاهده الخاصّة من غير فرق البتّة و هم على جهل من أمر تفصيله عاجزون عن تفسير خصوصيّات وجوده.

و بالجملة ممّا لا ريب فيه أنّ الإنسان في جميع أحيان وجوده يشاهد أمراً غير خارج منه يعبّر عنه بأنا و نفسي، و إذا لطّف نظره و تعمّق خائضاً فيما يجده في مشاهدته هذه وجده شيئاً على خلاف ما يجده من الاُمور الجسمانيّة القابلة للتغيّر و الانقسام و الاقتران بالمكان و الزمان، و وجده غير هذا البدن المادّيّ المحكوم بأحكام المادّة بأعضائه و أجزائه فإنّه ربّما نسي أيّ عضو من أعضائه أو غفل عن جميع بدنه و هو لا ينسى نفسه و لا يغفل عنها، دع عنك ما ربّما تقوله: نسيت نفسي، غفلت عن نفسي، ذهلت عن نفسي فهذه مجازات عن عنايات نفسانيّة مختلفة، أ لا ترى أنّك تسند النسيان و الغفلة و الذهول حينئذ إلى نفسك و تحكم بأنّ نفسك الشاعرة شعرت بأمر و غفلت عن أمر تسمّيه نفسك كالبدن و نحوه؟.

و دع عنك ما ربّما يتوهّم أنّ المغمى عليه يغفل عن ذاته و نفسه فإنّ الّذي يجده هذا الإنسان بعد انقضاء حال الإغماء أنّه لا يذكر شعوره بنفسه حالة الإغماء لا أنّه يذكر أنّه كان غير شاعر بها، و بين المعنيين فرق، و ربّما يذكر بعض المغمى عليهم من حالة إغمائه شيئاً بشبه الرؤيا الّتي نذكرها من حال المنام.

و كيف كان لا ينبغي الارتياب في أنّ الإنسان بما أنّه إنسان لا يخلو عن هذا الشعور النفسيّ الّذي يمثّل له حقيقة نفسه الّتي يعبّر عنها بأنا، و لو أنّه استأنس

١٩٢

قليل استيناس بما يشاهده من نفسه على انصراف من التقسّم إلى مشاغله البدنيّة و أمانيّه المادّيّة قضى بما تقدّم أنّ نفسه أمر مغاير لسنخ المادّة و المادّيّات لما يشاهد من مغايرة خواصّ نفسه و آثارها لخواصّ الاُمور المادّيّة و آثارها.

غير أنّ الاشتغال بالمشاغل اليوميّة و صرف الهمّ إلى أمانيّ الحياة المادّيّة و رفع الحوائج البدنيّة يدعوه إلى إهمال الأمر و الإذعان بشي‏ء من تلك الآراء الساذجة الأبجديّة و الوقف على إجمال المشاهدة.

٢- الفرد العاديّ من الإنسان و إن كان شغله همّ الغذاء و المسكن و الملبس و المنكح عن الغور في حقيقة نفسه و البحث في زوايا ذاته، لكنّ الحوادث المختلفة الهاجمة عليه في خلال أيّام حياته ربّما لم تخل من عوامل توجّهه إلى الانصراف عن غيره و الخلوة بنفسه كالخوف الشديد الّذي تنزعج به النفس عن كلّ شي‏ء و ترجع إلى نفسها كالآخذة الممسكة عليها حذراً من الفناء و الزوال، و كالسرور و الترح الموجب لانجذاب النفس إلى ما تستلذّ به، و كالغرام الشديد المنجرّ إلى الوله بالمحبوب المطلوب بحيث لا همّ إلّا همّه، و كالاضطرار الشديد الّذي ينقطع به الإنسان عن كلّ شي‏ء إلى نفسه إلى غير ذلك من العوامل الاتّفاقيّة.

هذه العوامل المختلفة و الأسباب المتنوّعة ربّما أدّى الإنسان واحداً منها أو أزيد من واحد إلى أن يتمثّل عنده بعض ما لا يكاد تناله الحواسّ الظاهرة أو الفكرة الخالية، كالواقع في مكان مظلم موحش أدهشه الخوف على نفسه فإنّه يبصر أشياء مخوفة أو يسمع أصواتاً هائلة تهدّده في نفسه، و هو الّذي ربّما يسمّونه غولاً أو هاتفاً أو جنّاً و نحو ذلك.

و ربّما أحاط به الحبّ الشديد أو الحسرة و الأسف الشديدان فحال بينه و بين حواسّه الظاهريّة و ركز شعوره فيما يحبّه أو يأسف عليه، فرأى في حال المنام أو في حال من اليقظة يشبه حالة المنام، اُموراً مختلفة من الوقائع الماضية أو الحوادث المستقبلة أو خبايا و خفايا تخفى على حواسّ غيره.

و ربّما كانت الإرادة إذا شفّعت باليقين و الإيمان الشديد و الإذعان الجازم تفعل

١٩٣

أفعالاً لا يقدر عليها الإنسان المتعارف، و لا أنّ الأسباب العاديّة يسعها أن تهدي إلى ذلك.

فهذه حوادث جزئيّة نادرة - بالنسبة إلى عامّة الحوادث العاديّة - تحدث عن حدوث عوامل مختلفة مرّت الإشارة إليها: أمّا أصل وقوعها فممّا ليس كثير حاجة إلى تجشّم الاستدلال عليه فكلّ منّا لا يخلو من أن يذكر من نفسه أو من غيره ما يشهد به، و أمّا أنّ السبب الحقيقيّ العامل فيها ما هي؟ فليس ههنا محلّ الاشتغال به.

و الّذي يهمّنا التنبّه عليه هو أنّ هذه الاُمور جميعاً تتوقّف في وقوعها على نوع من انصراف النفس عن الاشتغال بالاُمور الخارجة عنها - و خاصّة اللذائذ الجسمانيّة - و انعطافها إلى نفسها و لذا كان الأساس في جميع الارتياضات النفسانيّة - على تنوّعها و تشتّتها الخارج عن الإحصاء - هو مخالفة النفس في الجملة، و ليس إلّا لأنّ انكباب النفس على مطاوعة هواها يصرفها عن الاشتغال بنفسها، و يهديها إلى مشتهياتها الخارجة فيوزّعها عليها و يقسّم شعورها بينها، فتأخذ بها و تترك نفسها.

٣- لا ينبغي لنا أن نشكّ في أنّ العوامل الداعية إلى هذه الآثار النفسانيّة كما تتمّ لبعض الأفراد موقّتاً و في أحايين يسيرة، ربّما تتمّ لبعض آخر ثابتة مستمرّة أو تمكث مكثاً معتدّاً به فكثيراً مّا نجد أشخاصاً متزهّدين عن الدنيا و لذائذها المادّيّة و مشتهياتها الفانية لا همّ لهم إلّا ترويض النفس و الاشتغال بسلوك طريق الباطن.

و لا ينبغي لنا أن نشكّ في أنّ هذه المشغلة النفسيّة ليست سنّة مبتدعة في زماننا هذا، فالنقل و الاعتبار يدلّان على أنّها كانت من السنن الدائرة بين الناس، كلّما رجعنا القهقرى فهي من السنن اللازمة للإنسانيّة إلى أقدم عهودها الّتي نزلت في هذه الأرض على ما نحسب.

٤- البحث عن حال الاُمم و التأمّل في سننهم و سيرهم و تحليل عقائدهم و أعمالهم يفيد أنّ الاشتغال بمعرفة النفس على طرقها المختلفة للحصول على عجائب آثارها، كان دائراً بينهم بل مهمّة نفيسة تبذل دونها أنفس الأوقات و أغلى الأثمان منذ أقدم الأعصار.

١٩٤

و من الدليل عليه أنّ الأقوام الهمجيّة الساكنة في أطراف المعمورة، كإفريقيّة و غيرها و يوجد بينهم حتّى اليوم بقايا من أساطير السحر و الكهانة و الإذعان بحقيقتهما و أصابتهما.

و الاعتبار الدقيق فيما نقل إلينا من المذاهب و الأديان القديمة كالبرهمانيّة و البوذيّة و الصائبة و المانويّة و المجوسيّة و اليهوديّة و النصرانيّة و الإسلام، كلّ ذلك يعطي أنّ المهمّة معرفة النفس و الحصول على آثارها تسرّباً عميقاً فيها و إن كانت مختلفة في وصفها و تلقينها و تقويمها.

فالبرهمانيّة - و هي مذهب هند القديم - و إن كانت تخالف الأديان الكتابيّة في التوحيد و أمر النبوّة غير أنّها تدعو إلى تزكية النفس و تطهير السرّ و خاصّة للبراهمة أنفسهم.

نقل عن البيرونيّ في كتاب ما للهند من مقولة قال: عمر البرهمن بعد مضيّ سبع سنين منه منقسم لأربعة أقسام:

فأوّل القسم الأوّل هي السنة الثامنة يجتمع إليه البراهمة لتنبيهه و تعريفه الواجبات عليه، و توصيته بالتزامها و اعتناقها ما دام حيّاً.

قال: و قد دخل في القسم الأوّل إلى(١) السنة الخامسة و العشرين من سنّه إلى السنة الثامنة و الأربعين، فيجب عليه فيها أن يتزهّد و يجعل الأرض وطاءه، و يقبل على تعلّم( بيذ) و تفسيره علم الكلام و الشريعة من اُستاذ يخدمه آناء ليله و نهاره، و يغتسل كلّ يوم ثلاث مرّات، و يقدّم قربان النار في طرفي النهار، و يسجد لاُستاذه بعد القربان، و يصوم يوماً و يفطر يوماً مع الامتناع عن اللحم أصلاً، و يكون مقامه في دار الاُستاذ، و يخرج منها السؤال و الكدية من خمسة بيوت فقط كلّ يوم مرّة عند الظهيرة أو المساء، فما وجد من صدقة وضعه بين يدي اُستاذه ليتخيّر منه ما يريد ثمّ يأذن له في الباقي فيتقوّت بما فضل منه، و يحمل إلى النار حطبها، فالنار عندهم معظّمة و الأنوار مقتربة.

و كذلك عند سائر الاُمم فقد كانوا يرون تقبّل القربان بنزول النار عليها، و لم يثنهم‏

____________________

(١) من ظ.

١٩٥

عنها عبادة أصنام أو كواكب أو بقر أو حمير أو صور.

قال: و أمّا القسم الثاني فهو من السنة الخامسة و العشرين إلى الخمسين أو إلى السبعين، و فيه يأذن له الاُستاذ في التأهّل فيتزوّج و يقصد النسل. و ذكر كيفيّة معاشرته أهله و الناس و ارتزاقه و سيرته.

ثمّ قال: و أمّا القسم الثالث فهو من الخمسين إلى الخامسة و السبعين أو إلى التسعين، و في هذا القسم يتزهّد و يخرج من زخاري الحياة و يسلّم زوجه إلى أولاده إن لم تصحبه إلى الصحاري، و يستمرّ خارج العمران على سيرته في القسم الأوّل، و لا يستكن تحت سقف، و لا يلبس إلّا ما يواري سوأته من لحاء الشجر، و لا ينام إلّا على الأرض بغير وطاء، و لا يتغذّى إلّا بالثمار و النبات و اُصوله، و يطوّل الشعر و لا يدهّن.

قال: و أمّا القسم الرابع فهو إلى آخر العمر يلبس فيه لباساً أحمر، و يأخذ بيده قضيباً، و يقبل على الفكر و تجريد القلب من الصداقات و العداوات، و يرفض الشهوة و الحرص و الغضب، و لا يصاحب أحداً البتّة.

فإن قصد موضعاً ذا فضل طلباً للثواب لم يقم في طريقه في قرية أكثر من يوم، و في بلد أكثر من خمسة أيّام، و إن دفع له أحد شيئاً لم يترك منه للغد بقيّة، و ليس له إلّا الدؤوب على شرائط الطريق المؤدّي إلى الخلاص و الوصول إلى المقام الّذي لا رجوع فيه إلى الدنيا، ثمّ ذكر الأحكام العامّة الّتي يجب على البرهمن العمل بها في جميع عمره، انتهى موضع الحاجة من كلامه.

و أمّا سائر الفرق المذهبيّة من الهنود كالجوكيّة أصحاب الأنفاس و الأوهام(١) و كأصحاب الروحانيّات و أصحاب الحكمة و غيرهم، فلكلّ طائفة منهم رياضات شاقّة عمليّة لا تخلو عن العزلة و تحريم اللذائذ الشهوانيّة على النفس.

و أمّا البوذيّة فبناء مذهبهم على تهذيب النفس و مخالفة هواها و تحريم لذائذها عليها للحصول على حقيقة المعرفة، و قد كان هذا هو الطريقة الّتي سلكها بوذا نفسه في حياته، فالمنقول أنّه كان من أبناء الملوك أو الرؤساء فرفض زخارف الحياة، و هجر أريكة العرش

____________________

(١) و ليرجع في تعرف حالهم إلى كتاب نفائس الفنون.

١٩٦

إلى غابة موحشة لزمها في ريعان شبابه، و اعتزل الناس، و ترك التمتّع بمزايا الحياة، و أقبل على رياضة نفسه و التفكّر في أسرار الخلقة حتّى قذفت المعرفة في قلبه و سنّه إذ ذاك ستّة و ثلاثون و عند ذاك خرج إلى الناس فدعاهم إلى ترويض النفس و تحصيل المعرفة و لم يزل على ذلك قريباً من أربع و أربعين سنة على ما في التواريخ.

و أمّا الصابئون و نعني بهم أصحاب الروحانيّات و أصنامها فهم و إن أنكروا أمر النبوّة غير أنّ لهم في طريق الوصول إلى كمال المعرفة النفسانيّة طرقاً لا تختلف كثيراً عن طرق البراهمة و البوذيّين، قالوا - على ما في الملل و النحل -: إنّ الواجب علينا أن نطهّر نفوسنا عن دنس الشهوات الطبيعيّة، و نهذّب أخلاقنا عن علائق القوى الشهوانيّة و الغضبيّة حتّى يحصل مناسبة ما بيننا و بين الروحانيّات فنسأل حاجاتنا منهم، و نعرض أحوالنا عليهم، و نصبو في جميع اُمورنا إليهم، فيشفعون لنا إلى خالقنا و خالقهم و رازقنا و رازقهم، و هذا التطهير ليس يحصل إلّا باكتسابنا و رياضتنا و فطامنا أنفسنا عن دنيئات الشهوات استمداداً من جهة الروحانيّات، و الاستمداد هو التضرّع و الابتهال بالدعوات، و إقامة الصلوات، و بذل الزكوات، و الصيام عن المطعومات و المشروبات، و تقريب القرابين و الذبائح، و تبخير البخورات، و تعزيم العزائم فيحصل لنفوسنا استعداد و استمداد من غير واسطة، انتهى.

و هؤلاء و إن اختلفوا فيما بين أنفسهم بعض الاختلاف في العقائد العامّة الراجعة إلى الخلق و الإيجاد لكنّهم متفقّو الرأي في وجوب ترويض النفس للحصول على كمال المعرفة و سعادة النشأة.

و أمّا المانويّة من الثنويّة فاستقرار مذهبهم على كون النفس من عالم النور العلويّ و هبوطها إلى هذه الشبكات المادّيّة المظلمة المسمّاة بالأبدان، و أنّ سعادتها و كمالها في التخلّص من دار الظلمة إلى ساحة النور إمّا اختياراً بالترويض النفسانيّ، و إمّا اضطراراً بالموت الطبيعيّ، معروف.

و أمّا أهل الكتاب و نعني بهم اليهود و النصارى و المجوس فكتبهم المقدّسة و هي

١٩٧

العهد العتيق و العهد الجديد و أوستا مشحونة بالدعوة إلى إصلاح النفس و تهذيبها و مخالفة هواها.

و لا تزال كتب العهدين تذكر الزهد في الدنيا و الاشتغال بتطهير السرّ، و لا يزال يتربّى بينهم جمّ غفير من الزهّاد و تاركي الدنيا جيلاً بعد جيل، و خاصّة النصارى فإنّ من سننهم المتّبعة الرهبانيّة.

و قد ذكر أمر رهبانيّتهم في القرآن الشريف قال تعالى:( ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَ رُهْباناً وَ أَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ ) المائدة: ٨٢ و قال تعالى:( وَ رَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها ) الحديد: ٢٧، كما ذكر المتعبّدون من اليهود في قوله:( لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللهِ آناءَ اللَّيْلِ وَ هُمْ يَسْجُدُونَ، يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَ أُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ ) آل عمران: ١١٤.

و أمّا الفرق المختلفة من أصحاب الارتياضات و الأعمال النفسيّة كأصحاب السحر و السيمياء و أصحاب الطلسمات و تسخير الأرواح و الجنّ و روحانيّات الحروف و الكواكب و غيرها و أصحاب الإحضار و تسخير النفوس، فلكلّ منهم ارتياضات نفسيّة خاصّة تنتج نوعاً من السلطة على أمر النفس.(١)

و جملة الأمر على ما يتحصّل من جميع ما مرّ: أنّ الوجهة الأخيرة لجميع أرباب الأديان و المذاهب و الأعمال هو تهذيب النفس بترك هواها و الاشتغال بتطهيرها من شوب الأخلاق و الأحوال غير المناسبة للمطلوب.

٥- لعلّك ترجع و تقول: إنّ الّذي ثبت من سنن أرباب المذاهب و الطرق و سيرهم هو الزهد في الدنيا و هو غير مسألة معرفة النفس أو الاشتغال بأمر النفس بالمعنى الّذي تقدّم البحث عنه.

و بلفظ أوضح: الّذي يندب إليه الأديان و المذاهب الّتي تدعو إلى العبوديّة بنحو

____________________

(١) راجع في ذلك كتاب السرّ المكتوم للرازيّ و الذخيرة الإسكندريّة و الكواكب السبعة للحكيم طمطم الهندي و رسالة السكاكي في التخسير و الدرّ المكتوم لابن عربيّ و كتب الأرواح و الإحضار المعمولة أخيراً و غير ذلك.

١٩٨

أن يتزهّد الإنسان نوع تزهّد في الدنيا بإتيان الأعمال الصالحة و ترك الهوى و الآثام و رذائل الأخلاق ليتهيّأ بذلك لأحسن الجزاء إمّا في الآخرة كما يصرّح به الأديان النبويّة كاليهوديّة و النصرانيّة و الإسلام أو في الدنيا كما استقرّ عليه دين الوثنيّة و مذهب‏ التناسخ و غيرهما.

فالمتعبّد على حسب الدستور الدينيّ يأتي بما ندب إليه من نوع التزهّد من غير أن يخطر بباله أنّ هناك نفساً مجرّدة و أنّ لها نوعاً من المعرفة، فيه سعادتها و كمال وجودها.

و كذلك الواحد من أصحاب الرياضات على اختلاف طرقها و سننها إنّما يرتاض بما يرتاض من مشاقّ الأعمال و لا همّ له في ذلك إلّا حيازة المقام الموعود فيها و التسلّط على نتيجة العمل، كنفوذ الإرادة مثلاً و هو في غفلة من أمر النفس المذكور من حين يأخذ في عمله إلى حين يختمه.

على أنّ في هؤلاء من لا يرى في النفس إلّا أنّها أمر مادّيّ طبيعيّ كالدم أو الروح البخاريّ أو الأجزاء الأصليّة، و من يرى أنّ النفس جسم لطيف مشاكل للبدن العنصريّ حالّ فيه، و هو الحامل للحياة فكيف يسوغ القول بكون الجميع يرومون بذلك أمر معرفة النفس؟.

لكنّه ينبغي لك أن تتذكّر ما تقدّم ذكره أنّ الإنسان في جميع هذه المواقف الّتي يأتي فيها بأعمال تصرّف النفس عن الاشتغال بالاُمور الخارجيّة و التمتّعات المتفنّنة المادّيّة إلى نفسها للحصول على خواصّ و آثار لا توصل إليها الأسباب المادّيّة و العوامل الطبيعيّة العاديّة، لا يريد إلّا الانفصال عن العلل و الأسباب الخارجيّة، و الاستقلال بنفسه للحصول على نتائج خاصّة لا سبيل للعوامل المادّيّة العاديّة إليها.

فالمتديّن المتزهّد في دينه يرى أنّ من الواجب الإنسانيّ أن يختار لنفسه سعادته الحقيقيّة و هي الحياة الطيّبة الاُخرويّة عند المنتحلين بالمعاد، و الحياة السعيدة الدنيويّة الّتي تجمع له الخير و تدفع عنه الشرّ عند المنكرين له كالوثنيّة و أصحاب التناسخ، ثمّ يرى أنّ الاسترسال في التمتّعات الحيوانيّة لا تحوز له سعادته، و لا تسلك به إلى غرضه فلا محيص له عن رفض الهوى و ترك الانطلاق إلى كلّ ما تتهوّسه نفسه بأسبابها العاديّة في

١٩٩

الجملة، و الانجذاب إلى سبب أو أسباب فوق الأسباب المادّيّة العاديّة بالتقرّب إليه و الاتّصال به، و أنّ هذا التقرّب و الاتّصال إنّما يتأتّى بالخضوع له و التسليم لأمره و ذلك أمر روحيّ نفسانيّ لا ينحفظ إلّا بأعمال و تروك بدنيّة، و هذه هي العبادة الدينيّة من صلاة و نسك أو ما يرجع إلى ذلك.

فالأعمال و المجاهدات و الارتياضات الدينيّة ترجع جميعاً إلى نوع من الاشتغال بأمر النفس، و الإنسان يرى بالفطرة أنّه لا يأخذ شيئاً و لا يترك شيئاً إلّا لنفع نفسه، و قد تقدّم أنّ الإنسان لا يخلو، و لا لحظة من لحظات وجوده من مشاهدة نفسه و حضور ذاته و أنّه لا يخطئ في شعوره هذا البتّة، و إن أخطأ فإنّما يخطئ في تفسيره بحسب الرأي النظريّ و البحث الفكريّ فظهر بهذا البيان أنّ الأديان و المذاهب على اختلاف سننها و طرقها لا تروم إلّا الاشتغال بأمر النفس في الجملة، سواء علم بذلك المنتحلون بها أم لم يعلموا.

و كذلك الواحد من أصحاب الرياضات و المجاهدات و إن لم يكن منتحلاً بدين ولا و لا مؤمناً بأمر حقيقة النفس لا يقصد بنوع رياضته الّتي يرتاض بها إلّا الحصول على نتيجتها الموعودة له، و ليست النتيجة الموعودة مرتبطة بالأعمال و التروك الّتي يأتي بها ارتباطاً طبيعيّاً نظير الارتباط الواقع بين الأسباب الطبيعيّة و مسبّباتها، بل هو ارتباط إراديّ غير مادّيّ متعلّق بشعور المرتاض و إرادته المحفوظين بنوع العمل الّذي يأتي به، دائر بين نفس المرتاض و بين النتيجة الموعودة فحقيقة الرياضة المذكورة هي تأييد النفس و تكميلها في شعورها و إرادتها للنتيجة المطلوبة، و إن شئت قلت: أثر الرياضة أن تحصل للنفس حالة العلم بأنّ المطلوب مقدور لها فإذا صحّت الرياضة و تمّت صارت بحيث لو أرادت المطلوب مطلقاً أو أرادته على شرائط خاصّة كإحضار الروح للصبيّ غير المراهق في المرآة حصل المطلوب.

و إلى هذا الباب يرجع معنى‏ ما روي:( أنّه ذكر عند النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنّ بعض أصحاب عيسىعليه‌السلام كان يمشي على الماء فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لو كان يقينه أشدّ من ذلك لمشى على الهواء) فالحديث - كما ترى - يومئ إلى أنّ الأمر يدور مدار اليقين بالله سبحانه و إمحاء الأسباب

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401