الميزان في تفسير القرآن الجزء ٦

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 401

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 401
المشاهدات: 80805
تحميل: 7042


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 401 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 80805 / تحميل: 7042
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 6

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

في انتشار الإسلام بين الطوائف غير المسلمة أزيد من الدعوة المتعارفة كما تقدّم.

أو أنّه لا يجوز لهم أن ينسلّوا ممّا بأيديهم من الهدى من مشاهدة ما عليه المجتمعات الضالّة من الانهماك في الشهوات و التمتّع من مزايا العيش الباطلة فإنّ الجميع مرجعهم إلى الله فينبّئهم بما كانوا يعملون، و تجري الآية على هذا مجرى قوله تعالى:( لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ، مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ الْمِهادُ ) آل عمران: ١٩٧، و قوله:( وَ لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى‏ ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا ) طه: ١٣١.

و هنا معنى آخر لقوله:( لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ) من جهة أنّ المنفيّ في الآية هو الإضرار المنسوب إلى نفس الضالّين دون شي‏ء معيّن من صفاتهم أو أعمالهم فتفيد الإطلاق، و يكون المعنى نفي أن يكون الكفّار ضارّين للمجتمع الإسلاميّ بتبديله مجتمعاً غير إسلاميّ بقوّة قهريّة فتكون الآية مسوقة سوق قوله تعالى:( الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَ اخْشَوْنِ ) المائدة: ٣، و قوله:( لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً وَ إِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ) آل عمران: ١١١.

و قد ذكر جمع من مفسّري السلف أنّ مفاد الآية هو الترخيص في ترك الدعوة الدينيّة و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، و ذكروا أنّ الآية خاصّة تختصّ بزمان أو حال لا يوجد فيه شرط الدعوة و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، و هو الأمن من الضرر و قد رووا في ذلك روايات ستأتي الإشارة إليها في البحث الروائيّ الآتي.

و لازم هذا المعنى أن يكون قوله:( لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ) كناية عن انتفاء التكليف أي لا تكليف عليكم في ذلك و إلّا فتضرّر المجتمع الدينيّ من شيوع الضلال من كفر أو فسق ممّا لا يرتاب فيه ذو ريب.

لكنّ ذلك معنى بعيد لا يحتمله سياق الآية فإنّ الآية لو اُخذت مخصّصة لعمومات وجوب الدعوة و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر فلسانها ليس لسان التخصيص، و إن اُخذت ناسخة فآيات الدعوة و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر آبية من النسخ، و للكلام تتمّة ستوافيك.

١٨١

( بحث روائي)

في الغرر و الدرر، للآمديّ عن عليّعليه‌السلام قال: من عرف نفسه عرف ربّه.

أقول: و رواه الفريقان عن النبيّ أيضاً، و هو حديث مشهور، و قد ذكر بعض العلماء: أنّه من تعليق المحال، و مفاده استحالة معرفة النفس لاستحالة الإحاطة العلميّة بالله سبحانه و ردّ أوّلاً بقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في رواية اُخرى: أعرفكم بنفسه أعرفكم بربّه‏، و ثانياً بأنّ الحديث في معنى عكس النقيض لقوله تعالى:( وَ لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ ) .

و فيه، عنهعليه‌السلام : قال: الكيّس من عرف نفسه و أخلص أعماله.

أقول: تقدّم في البيان السابق معنى ارتباط الإخلاص و تفرّعه على الاشتغال بمعرفة النفس.

و فيه عنهعليه‌السلام : قال: المعرفة بالنفس أنفع المعرفتين.

أقول: الظاهر أنّ المراد بالمعرفتين المعرفة بالآيات الأنفسيّة و المعرفة بالآيات الآفاقيّة، قال تعالى:( سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَ فِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَ وَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ شَهِيدٌ ) حم السجدة: ٥٣ و قال تعالى:( وَ فِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ، وَ فِي أَنْفُسِكُمْ أَ فَلا تُبْصِرُونَ ) الذاريات: ٢١.

و كون السير الأنفسيّ أنفع من السير الآفاقيّ لعلّه لكون المعرفة النفسانيّة لا تنفكّ عادة من إصلاح أوصافها و أعمالها بخلاف المعرفة الآفاقيّة، و ذلك أنّ كون معرفة الآيات نافعة إنّما هو لأنّ معرفة الآيات بما هي آيات موصلة إلى معرفة الله سبحانه و أسمائه و صفاته و أفعاله ككونه تعالى حيّاً لا يعرضه موت، و قادراً لا يشوبه عجز، و عليماً لا يخالطه جهل، و أنّه تعالى هو الخالق لكلّ شي‏ء، و المالك لكلّ شي‏ء، و الربّ القائم على كلّ نفس بما كسبت، خلق الخلق لا لحاجة منه إليهم بل

١٨٢

لينعم عليهم بما استحقّوه ثمّ يجمعهم ليوم الجمع لا ريب فيه ليجزي الّذين أساؤا بما عملوا و يجزي الّذين أحسنوا بالحسنى.

و هذه و أمثالها معارف حقّة إذا تناولها الإنسان و أتقنها مثّلت له حقيقة حياته، و أنّها حياة مؤبّدة ذات سعادة دائمة أو شقوة لازمة، و ليست بتلك المتهوّسة المنقطعة اللاهية اللاغية، و هذا موقف علميّ يهدي الإنسان إلى تكاليف و وظائف بالنسبة إلى ربّه و بالنسبة إلى أبناء نوعه في الحياة الدنيا و الحياة الآخرة، و هي الّتي نسمّيها بالدين، فإنّ السنّة الّتي يلتزمها الإنسان في حياته، و لا يخلو عنها حتّى البدويّ و الهمجيّ إنّما يضعها و يلتزمها أو يأخذها و يلتزمها لنفسه من حيث إنّه يقدّر لنفسه نوعاً من الحياة أيّ نوع كان، ثمّ يعمل بما استحسنه من السنّة لإسعاد تلك الحياة، و هذا من الوضوح بمكان.

فالحياة الّتي يقدّرها الإنسان لنفسه تمثّل له الحوائج المناسبة لها فيهتدي بها إلى الأعمال الّتي تضمّن عادة رفع تلك الحوائج فيطبّق الإنسان عمله عليها و هو السنّة أو الدين.

فتخّلص ممّا ذكرنا أنّ النظر في الآيات الأنفسيّة و الآفاقيّة و معرفة الله سبحانه بها يهدي الإنسان إلى التمسّك بالدين الحقّ و الشريعة الإلهيّة من جهة تمثيل المعرفة المذكورة الحياة الإنسانيّة المؤبّدة له عند ذلك، و تعلّقها بالتوحيد و المعاد و النبوّة.

و هذه هداية إلى الإيمان و التقوى يشترك فيها الطريقان معاً أعني طريقي النظر إلى الآفاق و الأنفس فهما نافعان جميعاً غير أنّ النظر إلى آيات النفس أنفع فإنّه لا يخلو من العثور على ذات النفس و قواها و أدواتها الروحيّة و البدنيّة و ما يعرضها من الاعتدال في أمرها أو طغيانها أو خمودها و الملكات الفاضلة أو الرذيلة، و الأحوال الحسنة أو السيّئة الّتي تقارنها.

و اشتغال الإنسان بمعرفة هذه الاُمور و الإذعان بما يلزمها من أمن أو خطر و سعادة أو شقاوة لا ينفكّ من أن يعرّفه الداء و الدواء من موقف قريب فيشتغل

١٨٣

بإصلاح الفاسد منها، و الالتزام بصحيحها بخلاف النظر في الآيات الآفاقيّة فإنّه و إن دعا إلى إصلاح النفس و تطهيرها من سفاسف الأخلاق و رذائلها، و تحليتها بالفضائل الروحيّة لكنّه ينادي لذلك من مكان بعيد، و هو ظاهر.

و للرواية معنى آخر أدقّ مستخرج من نتائج الأبحاث الحقيقيّة في علم النفس و هو أنّ النظر في الآيات الآفاقيّة و المعرفة الحاصلة من ذلك نظر فكريّ و علم حصوليّ بخلاف النظر في النفس و قواها و أطوار وجودها و المعرفة المتجلّية منها فإنّه نظر شهوديّ و علم حضوريّ، و التصديق الفكريّ يحتاج في تحقّقه إلى نظم الأقيسة و استعمال البرهان، و هو باق ما دام الإنسان متوجّهاً إلى مقدّماته غير ذاهل عنها و لا مشتغل بغيرها، و لذلك يزول العلم بزوال الإشراف على دليله و تكثر فيه الشبهات و يثور فيه الاختلاف.

و هذا بخلاف العلم النفسانيّ بالنفس و قواها و أطوار وجودها فإنّه من العيان فإذا اشتغل الإنسان بالنظر إلى آيات نفسه، و شاهد فقرها إلى ربّها، و حاجتها في جميع أطوار وجودها، وجد أمراً عجيباً وجد نفسه متعلّقة بالعظمة و الكبرياء متّصلة في وجودها و حياتها و علمها و قدرتها و سمعها و بصرها و إرادتها و حبّها و سائر صفاتها و أفعالها بما لا يتناهى بهاءً و سناءً و جمالاً و جلالاً و كمالاً من الوجود و الحياة و العلم و القدرة، و غيرها من كلّ كمال.

و شاهد ما تقدّم بيانه أنّ النفس الإنسانيّة لا شأن لها إلّا في نفسها، و لا مخرج لها من نفسها، و لا شغل لها إلّا السير الاضطراريّ في مسير نفسها، و أنّها منقطعة عن كلّ شي‏ء كانت تظنّ أنّها مجتمعة معه مختلطة به إلّا ربّها المحيط بباطنها و ظاهرها و كلّ شي‏ء دونها فوجدت أنّها دائماً في خلأ مع ربّها و إن كانت في ملأ من الناس.

و عند ذلك تنصرف عن كلّ شي‏ء و تتوجّه إلى ربّها و تنسى كلّ شي‏ء و تذكر ربّها فلا يحجبه عنها حجاب و لا تستتر عنه بستر و هو حقّ المعرفة الّذي قدّر لإنسان.

و هذه المعرفة الأحرى بها أن تسمّى بمعرفة الله بالله، و أمّا المعرفة الفكريّة

١٨٤

الّتي يفيدها النظر في الآيات الآفاقيّة سواء حصلت من قياس أو حدس أو غير ذلك فإنّما هي معرفة بصورة ذهنيّة عن صورة ذهنيّة، و جلّ الإله أن يحيط به ذهن أو تساوي ذاته صورة مختلقة اختلقها خلق من خلقه، و لا يحيطون به علماً.

و قد روي في الإرشاد، و الإحتجاج، على ما في البحار عن الشعبيّ عن أميرالمؤمنينعليه‌السلام في كلام له: إنّ الله أجل من أن يحتجب عن شي‏ء أو يحتجب عنه شي‏ء. و في التوحيد، عن موسى بن جعفرعليه‌السلام في كلام له: ليس بينه و بين خلقه حجاب غير خلقه احتجب بغير حجاب محجوب و استتر بغير ستر مستور لا إله إلّا هو الكبير المتعال. و في التوحيد، مسنداً عن عبدالأعلى عن الصادقعليه‌السلام في حديث: و من زعم أنّه يعرف الله بحجاب أو بصورة أو بمثال فهو مشرك لأنّ الحجاب و الصورة و المثال غيره، و إنّما هو واحد موحّد فكيف يوحّد من زعم أنّه يوحّده بغيره إنّما عرف الله من عرفه بالله فمن لم يعرفه به فليس يعرفه إنّما يعرف غيره‏، الحديث. و الأخبار المأثورة عن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام في معنى ما قدّمناه كثيرة جدّاً لعلّ الله يوفّقنا لإيرادها و شرحها في ما سيأتي إن شاء الله العزيز من تفسير سورة الأعراف.

فقد تحصّل أنّ النظر في آيات الأنفس أنفس و أغلى قيمة و أنّه هو المنتج لحقيقة المعرفة فحسب، و على هذا فعدّهعليه‌السلام إيّاها أنفع المعرفتين لا معرفة متعيّنة إنّما هو لأنّ العامّة من الناس قاصرون عن نيلها، و قد أطبق الكتاب و السنّة و جرت السيرة الطاهرة النبويّة و سيرة أهل بيته الطاهرين على قبول من آمن بالله عن نظر آفاقيّ و هو النظر الشائع بين المؤمنين فالطريقان نافعان جميعاً لكنّ النفع في طريق النفس أتمّ و أغزر.

و في الدرر و الغرر، عن عليّعليه‌السلام قال: العارف من عرف نفسه فأعتقها و نزّهها عن كلّ ما يبعّدها.

أقول: أي أعتقها عن إسارة الهوى و رقّيّة الشهوات.

و فيه، عنهعليه‌السلام قال: أعظم الجهل جهل الإنسان أمر نفسه.

و فيه، عنهعليه‌السلام : قال: أعظم الحكمة معرفة الإنسان نفسه.

١٨٥

و فيه، عنهعليه‌السلام : قال: أكثر الناس معرفة لنفسه أخوفهم لربّه.

أقول: و ذلك لكونه أعلمهم بربّه و أعرفهم به، و قد قال الله سبحانه:( إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ ) .

و فيه، عنهعليه‌السلام : قال: أفضل العقل معرفة المرء بنفسه فمن عرف نفسه عقل، و من جهلها ضلّ.

و فيه، عنهعليه‌السلام : قال: عجبت لمن ينشد ضالته، و قد أضلّ نفسه فلا يطلبها.

و فيه، عنهعليه‌السلام قال: عجبت لمن يجهل نفسه كيف يعرف ربّه؟.

و فيه، عنهعليه‌السلام : قال: غاية المعرفة أن يعرف المرء نفسه.

أقول: و قد تقدّم وجه كونها غاية المعرفة فإنّها المعرفة حقيقة.

و فيه، عنهعليه‌السلام قال: كيف يعرف غيره من يجهل نفسه؟

و فيه، عنهعليه‌السلام : قال: كفى بالمرء معرفة أن يعرف نفسه، و كفى بالمرء جهلاً أن يجهل نفسه.

و فيه، عنهعليه‌السلام : قال: من عرف نفسه تجرّد.

أقول: أي تجرّد عن علائق الدنيا، أو تجرّد عن الناس بالاعتزال عنهم أو تجرّد عن كلّ شي‏ء بالإخلاص لله.

و فيه، عنهعليه‌السلام : قال: من عرف نفسه جاهدها و من جهل نفسه أهملها.

و فيه، عنهعليه‌السلام : قال: من عرف نفسه جلّ أمره.

و فيه، عنهعليه‌السلام : قال: من عرف نفسه كان لغيره أعرف و من جهل نفسه كان بغيره أجهل.

و فيه، عنهعليه‌السلام : قال: من عرف نفسه فقد انتهى إلى غاية كلّ معرفة و علم.

و فيه، عنهعليه‌السلام : قال: من لم يعرف نفسه بعد عن سبيل النجاة، و خبط في الضلال و الجهالات.

و فيه، عنهعليه‌السلام : قال: معرفة النفس أنفع المعارف.

و فيه، عنهعليه‌السلام : قال: نال الفوز الأكبر من ظفر بمعرفة النفس.

١٨٦

و فيه، عنهعليه‌السلام : قال: لا تجهل نفسك فإنّ الجاهل معرفة نفسه جاهل بكلّ شي‏ء.

و في تحف العقول، عن الصادقعليه‌السلام في حديث: من زعم أنّه يعرف الله بتوهّم القلوب فهو مشرك، و من زعم أنّه يعرف الله بالاسم دون المعنى فقد أقرّ بالطعن لأنّ الاسم محدث، و من زعم أنّه يعبد الاسم و المعنى فقد جعل مع الله شريكاً، و من زعم أنّه يعبد بالصفة لا بالإدراك فقد أحال على غائب، و من زعم أنّه يضيف الموصوف إلى الصفة فقد صغّر بالكبير، و ما قدروا الله حقّ قدره.

قيل له: فكيف سبيل التوحيد؟ قال: باب البحث ممكن و طلب المخرج موجود إنّ معرفة عين الشاهد قبل صفته، و معرفة صفة الغائب قبل عينه.

قيل: و كيف يعرف عين الشاهد قبل صفته؟ قال: تعرفه و تعلم علمه، و تعرف نفسك به و لا تعرف نفسك من نفسك، و تعلم أنّ ما فيه له و به كما قالوا ليوسف:( إِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ ) قال:( أَنَا يُوسُفُ وَ هذا أَخِي ) فعرفوه به و لم يعرفوه بغيره، و لا أثبتوه من أنفسهم بتوهّم القلوب‏، الحديث.

أقول: قد أوضحنا في ذيل‏ قولهعليه‌السلام المعرفة بالنفس أنفع المعرفتين‏ (الرواية الثانية من الباب) أنّ الإنسان إذا اشتغل بآية نفسه و خلا بها عن غيرها انقطع إلى ربّه من كلّ شي‏ء، و عقب ذلك معرفة ربّه معرفة بلا توسيط وسط، و علماً بلا تسبيب سبب إذ الانقطاع يرفع كلّ حجاب مضروب، و عند ذلك يذهل الإنسان بمشاهدة ساحة العظمة و الكبرياء عن نفسه، و أحرى بهذه المعرفة أن تسمّى معرفة الله بالله.

و انكشف له عند ذلك من حقيقة نفسه أنّها الفقيرة إلى الله سبحانه المملوكة له ملكاً لا تستقلّ بشي‏ء دونه، و هذا هو المراد بقولهعليه‌السلام :( تعرف نفسك به، و لا تعرف نفسك بنفسك من نفسك، و تعلم أنّ ما فيه له و به) .

و في هذا المعنى‏ ما رواه المسعوديّ في إثبات الوصيّة، عن أميرالمؤمنينعليه‌السلام قال في خطبة له:( فسبحانك ملأت كلّ شي‏ء و باينت كلّ شي‏ء فأنت لا يفقدك شي‏ء و أنت الفعّال لما تشاء تباركت يا من كلّ مدرك من خلقه، و كلّ محدود من صنعه.

١٨٧

- إلى أن قال - سبحانك أيّ عين تقوم نصب بهاء نورك، و ترقى إلى نور ضياء قدرتك، و أيّ فهم يفهم ما دون ذلك إلا أبصار كشفت عنها الأغطية، و هتكت عنها الحجب العميّة، فرقت أرواحها على أطراف أجنحة الأرواح، فناجوك في أركانك، و ولجوا بين أنوار بهائك، و نظروا من مرتقى التربة إلى مستوى كبريائك، فسمّاهم أهل الملكوت زوّاراً، و دعاهم أهل الجبروت عمّاراً) .

و في البحار، عن إرشاد الديلميّ - و ذكر بعد ذلك سندين لهذا الحديث - و فيه:( فمن عمل برضائي اُلزمه ثلاث خصال: اُعرّفه شكراً لا يخالطه الجهل و ذكراً لا يخالطه النسيان، و محبّة لا يؤثّر على محبّتي محبّة المخلوقين.

فإذا أحبّني أحببته، و أفتح عين قلبه إلى جلالي، و لا اُخفي عليه خاصّة خلقي، و اُناجيه في ظلم الليل و نور النهار حتّى ينقطع حديثه مع المخلوقين و مجالسته معهم، و اُسمعه كلامي و كلام ملائكتي، و اُعرّفه السرّ الّذي سترته عن خلقي، و اُلبسه الحياء حتّى يستحيي منه الخلق كلّهم، و يمشي على الأرض مغفوراً له، و أجعل قلبه واعياً و بصيراً، و لا اُخفي عليه شيئاً من جنّة و لا نار، و اُعرّفه ما يمرّ على الناس في القيامة من الهول و الشدّة، و ما اُحاسب به الأغنياء و الفقراء و الجهّال و العلماء، و اُنوّمه في قبره و اُنزل عليه منكراً و نكيراً حتّى يسألاه، و لا يرى غمّ الموت و ظلمة القبر و اللحد و هول المطلّع، ثمّ أنصب له ميزانه و أنشر ديوانه، ثمّ أضع كتابه في يمينه فيقرؤه منشوراً ثمّ لا أجعل بيني و بينه ترجماناً، فهذه صفات المحبّين.

يا أحمد اجعل همّك همّاً واحداً، و اجعل لسانك لساناً واحداً، و اجعل بدنك حيّاً لا يغفل أبداً، من يغفل عنّي لا اُبالي بأيّ واد هلك) .

و الروايات الثلاثة الأخيرة و إن لم يكن من أخبار هذا البحث المعقود على الاستقامة إلّا أنّا إنّما أوردناها ليقضي الناقد البصير بما قدّمناه من أنّ المعرفة الحقيقيّة لا تستوفي بالعلم الفكريّ حقّ استيفائها فإنّ الروايات تذكر اُموراً من المواهب الإلهيّة المخصوصة بأوليائه لا ينتجها السير الفكريّ البتّة.

و هي أخبار مستقيمة صحيحة تشهد على صحّتها الكتاب الإلهيّ على ما سنبيّن

١٨٨

ذلك فيما سيوافيك من تفسير سورة الأعراف إن شاء الله العزيز.

و في تفسير القمّيّ في قوله تعالى:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ ) (الآية)، قال: قالعليه‌السلام : أصلحوا أنفسكم و لا تتّبعوا عورات الناس و لا تذكروهم فإنّه لا يضرّكم ضلالتهم إذا أنتم صالحون.

أقول: و الرواية منطبقة على ما قدّمناه في البيان السابق أنّ الآية متوجّهة إلى النهي عن التعرّض لإصلاح حال الناس أزيد من متعارف الدعوة و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، و ليست مسوقة للترخيص في ترك فريضة الدعوة و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر.

و في نهج البيان، عن: الصادقعليه‌السلام أنّه قال: نزلت هذه الآية في التقيّة.

أقول: مفاد الرواية أنّ الآية خاصّة بصورة التقيّة من أهل الضلال في الدعوة إلى الحقّ و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر لمكان اشتراط ذلك شرعاً بعدم التقيّة، و قد تقدّم في البيان السابق أنّ ظاهر الآية لا تساعد على ذلك.

و قد روي في الدرّ المنثور، عن مفسّري السلف قول جمع منهم بذلك كابن مسعود و ابن عمر و اُبيّ بن كعب و ابن عبّاس و مكحول، و ما روي في ذلك من الروايات عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم غير دالّة على ذلك.

و هي ما عن الترمذيّ و صحّحه و ابن ماجة و ابن جرير و البغويّ في معجمه و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و الطبرانيّ و أبي الشيخ و ابن مردويه و الحاكم و صحّحه و البيهقيّ في الشعب عن أبي اُميّة الشعبانيّ قال: أتيت أبا ثعلبة الخشنيّ فقلت له: كيف تصنع هذه الآية؟ قال: أيّة آية؟ قال:(١) قوله:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ) قال: أمّا و الله لقد سألت عنها خبيراً سألت عنها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: بل ائتمروا بالمعروف و تناهوا عن المنكر حتّى إذا رأيت شحّاً مطاعاً، و هوى متّبعاً، و دنياً مؤثرة، و إعجاب كلّ ذي رأي برأيه فعليك بخاصّة نفسك و دع عنك أمر العوامّ فإنّ من ورائكم أيّام الصبر، الصابر فيهنّ كالقابض على الجمر،

____________________

(١) قلت. ظ

١٨٩

للعامل فيهنّ مثل أجر خمسين رجلاً يعملون مثل عملكم.

أقول: و في هذا المعنى ما رواه ابن مردويه عن معاذ بن جبل عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و الرواية إنّما تدلّ على أنّ الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر لم يرتفعا بالآية.

و في الدرّ المنثور: أخرج أحمد و ابن أبي حاتم و الطبرانيّ و ابن مردويه عن أبي عامر الأشعريّ: أنّه كان فيهم شي‏ء فاحتبس على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثمّ أتاه فقال: ما حبسك؟ قال: يا رسول الله قرأت هذه الآية:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ) قال: فقال له النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أين ذهبتم؟ إنّما هي: لا يضرّكم من ضلّ من الكفّار إذا اهتديتم.

أقول: و الرواية - كما ترى - تخصّ الأمر في الآية بالترخيص في ترك دعوة الكفّار إلى الحقّ و تصرّفها عن الترخيص في ترك الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر في الفروع مع أنّ آيات وجوب الدعوة و ما يتبعها من آيات الجهاد و نحوها لا تقصر في الإباء عن ذلك عن آيات الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر.

و فيه: أخرج ابن مردويه عن أبي سعيد الخدريّ قال: ذكرت هذه الآية عند رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قول الله عزّوجلّ:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ) فقال نبيّ اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لم يجي‏ء تأويلها، لا يجي‏ء تأويلها حتّى يهبط عيسى بن مريمعليه‌السلام .

أقول: و الكلام في الرواية نظير الكلام فيما تقدّم.

و فيه: أخرج ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم عن حذيفة: في قوله:( عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ) قال: إذا أمرتم بالمعروف و نهيتم عن المنكر.

أقول: و هو معنى معتدل مآله إلى ما ذكرناه، و روي مثله عن سعيد بن المسيّب.

١٩٠

( بحث علمي)

( عرفان النفس في تسعة فصول ‏)

ملفّق من إشارات تاريخيّة و أبحاث اُخر نفسيّة و غير ذلك في فصول:

١- لم يزل الإنسان فيما نعلم - حتّى الإنسان الأوّليّ - يقول في بعض قوله:( أنا) و( نفسي) يحكي به عن حقيقة من الحقائق الكونيّة و هو لا محالة يدري ما يقول و يعلم ما يريد غير أنّ انصراف همّه إلى تعبئة أركان الحياة البدنيّة و اشتغاله بالأعمال الجسميّة لرفع الحوائج المادّيّة يصرفه عن التعمّق في أمر هذه النفس المحكي عنها بقوله:( أنا) و( نفسي) و ربّما ألقى ذلك في وهمه أنّ ذلك هو البدن لا غير.

و ربّما وجد الإنسان أنّ الفارق بين الحيّ و الميّت بحسب ظهور الحسّ هو النفس الّذي يتنفّس به الإنسان ما دام حيّاً فإذا فقده أو سدّ عليه مجاريه عاد ميّتاً لا يشعر بشي‏ء و بطل وجوده و انعدمت شخصيّته و إنّيّته فأذعن أنّ النفس هو النفس (محرّكة) و هو الريح أو نوع خاصّ من الريح فسمّاه لذلك روحاً، و قضى أنّ الإنسان هو المجموع من الروح و البدن.

أو رأى أنّ الحسّ و الحركة البدنيّين كأنّهما رهينا ما يحتبس في البدن من الدم الساري في أعضائه أو الجاري في عروقه من شرائين و أوردة و أنّ الحياة الّتي ترتحل الإنسانيّة بارتحالها متعلّقة بهذا المائع الأحمر وجوداً و عدماً فحكم بأنّ النفس هو الدم فسمّى النفس دماً بل الدم نفساً سائلة أو غير سائلة.

و ربّما دعي الإنسان ما يشاهده من أمر النطفة أنّ المنيّ حينما يلتقمه الرحم و يطرؤه التطوّر الكونيّ طوراً بعد طور هو الّذي يصير إنساناً، أن يذهب إلى أنّ النفس الإنسانيّة هي الأجزاء الأصليّة المجتمعة في النطفة، و هي باقية في البنية البدنيّة مدى الحياة، و ربّما ذهب الذاهب إلى أنّها مصونة عن التغيّر و البطلان، و أنّ الإنسانيّة باقية ببقائها لا تنالها يد الحدثان و لا أنّها تقبل البطلان و الانعدام مع أنّ النفس الإنسانيّة لو كانت هذه الأجزاء المنعوتة سواء اشترطنا فيها الاجتماع على هيئة خاصّة أو لم نشترط استلزم ذلك القول بمحالات كثيرة مذكورة في محلّه.

١٩١

فهذه الأقاويل و أمثالها لا تنافي ما يناله الإنسان و هو إنسان من حقيقة قوله:( أنا) و( نفسي) و لا يخطئ فيه البتّة إذ ليس من البعيد أن نكون ندرك حقيقة من الحقائق الكونيّة إجمالاً إدراكاً غير خاطئ ثمّ نأخذ في البحث عن هويّته و واقع أمره تفصيلاً فنخطئ فيه عند ذاك فهناك موضوعات علميّة كثيرة كالمحسوسات الظاهريّة أو الباطنيّة نشاهدها مشاهدة عيان - على الرغم من السوفسطائيّين و الشكّاكين - ثمّ العلماء لا يزالون يختلفون في أمرها خلفاً عن سلف.

و كذلك العامّة من غير أهل البحث يشاهدون من أنفسهم ما يشاهده الخاصّة من غير فرق البتّة و هم على جهل من أمر تفصيله عاجزون عن تفسير خصوصيّات وجوده.

و بالجملة ممّا لا ريب فيه أنّ الإنسان في جميع أحيان وجوده يشاهد أمراً غير خارج منه يعبّر عنه بأنا و نفسي، و إذا لطّف نظره و تعمّق خائضاً فيما يجده في مشاهدته هذه وجده شيئاً على خلاف ما يجده من الاُمور الجسمانيّة القابلة للتغيّر و الانقسام و الاقتران بالمكان و الزمان، و وجده غير هذا البدن المادّيّ المحكوم بأحكام المادّة بأعضائه و أجزائه فإنّه ربّما نسي أيّ عضو من أعضائه أو غفل عن جميع بدنه و هو لا ينسى نفسه و لا يغفل عنها، دع عنك ما ربّما تقوله: نسيت نفسي، غفلت عن نفسي، ذهلت عن نفسي فهذه مجازات عن عنايات نفسانيّة مختلفة، أ لا ترى أنّك تسند النسيان و الغفلة و الذهول حينئذ إلى نفسك و تحكم بأنّ نفسك الشاعرة شعرت بأمر و غفلت عن أمر تسمّيه نفسك كالبدن و نحوه؟.

و دع عنك ما ربّما يتوهّم أنّ المغمى عليه يغفل عن ذاته و نفسه فإنّ الّذي يجده هذا الإنسان بعد انقضاء حال الإغماء أنّه لا يذكر شعوره بنفسه حالة الإغماء لا أنّه يذكر أنّه كان غير شاعر بها، و بين المعنيين فرق، و ربّما يذكر بعض المغمى عليهم من حالة إغمائه شيئاً بشبه الرؤيا الّتي نذكرها من حال المنام.

و كيف كان لا ينبغي الارتياب في أنّ الإنسان بما أنّه إنسان لا يخلو عن هذا الشعور النفسيّ الّذي يمثّل له حقيقة نفسه الّتي يعبّر عنها بأنا، و لو أنّه استأنس

١٩٢

قليل استيناس بما يشاهده من نفسه على انصراف من التقسّم إلى مشاغله البدنيّة و أمانيّه المادّيّة قضى بما تقدّم أنّ نفسه أمر مغاير لسنخ المادّة و المادّيّات لما يشاهد من مغايرة خواصّ نفسه و آثارها لخواصّ الاُمور المادّيّة و آثارها.

غير أنّ الاشتغال بالمشاغل اليوميّة و صرف الهمّ إلى أمانيّ الحياة المادّيّة و رفع الحوائج البدنيّة يدعوه إلى إهمال الأمر و الإذعان بشي‏ء من تلك الآراء الساذجة الأبجديّة و الوقف على إجمال المشاهدة.

٢- الفرد العاديّ من الإنسان و إن كان شغله همّ الغذاء و المسكن و الملبس و المنكح عن الغور في حقيقة نفسه و البحث في زوايا ذاته، لكنّ الحوادث المختلفة الهاجمة عليه في خلال أيّام حياته ربّما لم تخل من عوامل توجّهه إلى الانصراف عن غيره و الخلوة بنفسه كالخوف الشديد الّذي تنزعج به النفس عن كلّ شي‏ء و ترجع إلى نفسها كالآخذة الممسكة عليها حذراً من الفناء و الزوال، و كالسرور و الترح الموجب لانجذاب النفس إلى ما تستلذّ به، و كالغرام الشديد المنجرّ إلى الوله بالمحبوب المطلوب بحيث لا همّ إلّا همّه، و كالاضطرار الشديد الّذي ينقطع به الإنسان عن كلّ شي‏ء إلى نفسه إلى غير ذلك من العوامل الاتّفاقيّة.

هذه العوامل المختلفة و الأسباب المتنوّعة ربّما أدّى الإنسان واحداً منها أو أزيد من واحد إلى أن يتمثّل عنده بعض ما لا يكاد تناله الحواسّ الظاهرة أو الفكرة الخالية، كالواقع في مكان مظلم موحش أدهشه الخوف على نفسه فإنّه يبصر أشياء مخوفة أو يسمع أصواتاً هائلة تهدّده في نفسه، و هو الّذي ربّما يسمّونه غولاً أو هاتفاً أو جنّاً و نحو ذلك.

و ربّما أحاط به الحبّ الشديد أو الحسرة و الأسف الشديدان فحال بينه و بين حواسّه الظاهريّة و ركز شعوره فيما يحبّه أو يأسف عليه، فرأى في حال المنام أو في حال من اليقظة يشبه حالة المنام، اُموراً مختلفة من الوقائع الماضية أو الحوادث المستقبلة أو خبايا و خفايا تخفى على حواسّ غيره.

و ربّما كانت الإرادة إذا شفّعت باليقين و الإيمان الشديد و الإذعان الجازم تفعل

١٩٣

أفعالاً لا يقدر عليها الإنسان المتعارف، و لا أنّ الأسباب العاديّة يسعها أن تهدي إلى ذلك.

فهذه حوادث جزئيّة نادرة - بالنسبة إلى عامّة الحوادث العاديّة - تحدث عن حدوث عوامل مختلفة مرّت الإشارة إليها: أمّا أصل وقوعها فممّا ليس كثير حاجة إلى تجشّم الاستدلال عليه فكلّ منّا لا يخلو من أن يذكر من نفسه أو من غيره ما يشهد به، و أمّا أنّ السبب الحقيقيّ العامل فيها ما هي؟ فليس ههنا محلّ الاشتغال به.

و الّذي يهمّنا التنبّه عليه هو أنّ هذه الاُمور جميعاً تتوقّف في وقوعها على نوع من انصراف النفس عن الاشتغال بالاُمور الخارجة عنها - و خاصّة اللذائذ الجسمانيّة - و انعطافها إلى نفسها و لذا كان الأساس في جميع الارتياضات النفسانيّة - على تنوّعها و تشتّتها الخارج عن الإحصاء - هو مخالفة النفس في الجملة، و ليس إلّا لأنّ انكباب النفس على مطاوعة هواها يصرفها عن الاشتغال بنفسها، و يهديها إلى مشتهياتها الخارجة فيوزّعها عليها و يقسّم شعورها بينها، فتأخذ بها و تترك نفسها.

٣- لا ينبغي لنا أن نشكّ في أنّ العوامل الداعية إلى هذه الآثار النفسانيّة كما تتمّ لبعض الأفراد موقّتاً و في أحايين يسيرة، ربّما تتمّ لبعض آخر ثابتة مستمرّة أو تمكث مكثاً معتدّاً به فكثيراً مّا نجد أشخاصاً متزهّدين عن الدنيا و لذائذها المادّيّة و مشتهياتها الفانية لا همّ لهم إلّا ترويض النفس و الاشتغال بسلوك طريق الباطن.

و لا ينبغي لنا أن نشكّ في أنّ هذه المشغلة النفسيّة ليست سنّة مبتدعة في زماننا هذا، فالنقل و الاعتبار يدلّان على أنّها كانت من السنن الدائرة بين الناس، كلّما رجعنا القهقرى فهي من السنن اللازمة للإنسانيّة إلى أقدم عهودها الّتي نزلت في هذه الأرض على ما نحسب.

٤- البحث عن حال الاُمم و التأمّل في سننهم و سيرهم و تحليل عقائدهم و أعمالهم يفيد أنّ الاشتغال بمعرفة النفس على طرقها المختلفة للحصول على عجائب آثارها، كان دائراً بينهم بل مهمّة نفيسة تبذل دونها أنفس الأوقات و أغلى الأثمان منذ أقدم الأعصار.

١٩٤

و من الدليل عليه أنّ الأقوام الهمجيّة الساكنة في أطراف المعمورة، كإفريقيّة و غيرها و يوجد بينهم حتّى اليوم بقايا من أساطير السحر و الكهانة و الإذعان بحقيقتهما و أصابتهما.

و الاعتبار الدقيق فيما نقل إلينا من المذاهب و الأديان القديمة كالبرهمانيّة و البوذيّة و الصائبة و المانويّة و المجوسيّة و اليهوديّة و النصرانيّة و الإسلام، كلّ ذلك يعطي أنّ المهمّة معرفة النفس و الحصول على آثارها تسرّباً عميقاً فيها و إن كانت مختلفة في وصفها و تلقينها و تقويمها.

فالبرهمانيّة - و هي مذهب هند القديم - و إن كانت تخالف الأديان الكتابيّة في التوحيد و أمر النبوّة غير أنّها تدعو إلى تزكية النفس و تطهير السرّ و خاصّة للبراهمة أنفسهم.

نقل عن البيرونيّ في كتاب ما للهند من مقولة قال: عمر البرهمن بعد مضيّ سبع سنين منه منقسم لأربعة أقسام:

فأوّل القسم الأوّل هي السنة الثامنة يجتمع إليه البراهمة لتنبيهه و تعريفه الواجبات عليه، و توصيته بالتزامها و اعتناقها ما دام حيّاً.

قال: و قد دخل في القسم الأوّل إلى(١) السنة الخامسة و العشرين من سنّه إلى السنة الثامنة و الأربعين، فيجب عليه فيها أن يتزهّد و يجعل الأرض وطاءه، و يقبل على تعلّم( بيذ) و تفسيره علم الكلام و الشريعة من اُستاذ يخدمه آناء ليله و نهاره، و يغتسل كلّ يوم ثلاث مرّات، و يقدّم قربان النار في طرفي النهار، و يسجد لاُستاذه بعد القربان، و يصوم يوماً و يفطر يوماً مع الامتناع عن اللحم أصلاً، و يكون مقامه في دار الاُستاذ، و يخرج منها السؤال و الكدية من خمسة بيوت فقط كلّ يوم مرّة عند الظهيرة أو المساء، فما وجد من صدقة وضعه بين يدي اُستاذه ليتخيّر منه ما يريد ثمّ يأذن له في الباقي فيتقوّت بما فضل منه، و يحمل إلى النار حطبها، فالنار عندهم معظّمة و الأنوار مقتربة.

و كذلك عند سائر الاُمم فقد كانوا يرون تقبّل القربان بنزول النار عليها، و لم يثنهم‏

____________________

(١) من ظ.

١٩٥

عنها عبادة أصنام أو كواكب أو بقر أو حمير أو صور.

قال: و أمّا القسم الثاني فهو من السنة الخامسة و العشرين إلى الخمسين أو إلى السبعين، و فيه يأذن له الاُستاذ في التأهّل فيتزوّج و يقصد النسل. و ذكر كيفيّة معاشرته أهله و الناس و ارتزاقه و سيرته.

ثمّ قال: و أمّا القسم الثالث فهو من الخمسين إلى الخامسة و السبعين أو إلى التسعين، و في هذا القسم يتزهّد و يخرج من زخاري الحياة و يسلّم زوجه إلى أولاده إن لم تصحبه إلى الصحاري، و يستمرّ خارج العمران على سيرته في القسم الأوّل، و لا يستكن تحت سقف، و لا يلبس إلّا ما يواري سوأته من لحاء الشجر، و لا ينام إلّا على الأرض بغير وطاء، و لا يتغذّى إلّا بالثمار و النبات و اُصوله، و يطوّل الشعر و لا يدهّن.

قال: و أمّا القسم الرابع فهو إلى آخر العمر يلبس فيه لباساً أحمر، و يأخذ بيده قضيباً، و يقبل على الفكر و تجريد القلب من الصداقات و العداوات، و يرفض الشهوة و الحرص و الغضب، و لا يصاحب أحداً البتّة.

فإن قصد موضعاً ذا فضل طلباً للثواب لم يقم في طريقه في قرية أكثر من يوم، و في بلد أكثر من خمسة أيّام، و إن دفع له أحد شيئاً لم يترك منه للغد بقيّة، و ليس له إلّا الدؤوب على شرائط الطريق المؤدّي إلى الخلاص و الوصول إلى المقام الّذي لا رجوع فيه إلى الدنيا، ثمّ ذكر الأحكام العامّة الّتي يجب على البرهمن العمل بها في جميع عمره، انتهى موضع الحاجة من كلامه.

و أمّا سائر الفرق المذهبيّة من الهنود كالجوكيّة أصحاب الأنفاس و الأوهام(١) و كأصحاب الروحانيّات و أصحاب الحكمة و غيرهم، فلكلّ طائفة منهم رياضات شاقّة عمليّة لا تخلو عن العزلة و تحريم اللذائذ الشهوانيّة على النفس.

و أمّا البوذيّة فبناء مذهبهم على تهذيب النفس و مخالفة هواها و تحريم لذائذها عليها للحصول على حقيقة المعرفة، و قد كان هذا هو الطريقة الّتي سلكها بوذا نفسه في حياته، فالمنقول أنّه كان من أبناء الملوك أو الرؤساء فرفض زخارف الحياة، و هجر أريكة العرش

____________________

(١) و ليرجع في تعرف حالهم إلى كتاب نفائس الفنون.

١٩٦

إلى غابة موحشة لزمها في ريعان شبابه، و اعتزل الناس، و ترك التمتّع بمزايا الحياة، و أقبل على رياضة نفسه و التفكّر في أسرار الخلقة حتّى قذفت المعرفة في قلبه و سنّه إذ ذاك ستّة و ثلاثون و عند ذاك خرج إلى الناس فدعاهم إلى ترويض النفس و تحصيل المعرفة و لم يزل على ذلك قريباً من أربع و أربعين سنة على ما في التواريخ.

و أمّا الصابئون و نعني بهم أصحاب الروحانيّات و أصنامها فهم و إن أنكروا أمر النبوّة غير أنّ لهم في طريق الوصول إلى كمال المعرفة النفسانيّة طرقاً لا تختلف كثيراً عن طرق البراهمة و البوذيّين، قالوا - على ما في الملل و النحل -: إنّ الواجب علينا أن نطهّر نفوسنا عن دنس الشهوات الطبيعيّة، و نهذّب أخلاقنا عن علائق القوى الشهوانيّة و الغضبيّة حتّى يحصل مناسبة ما بيننا و بين الروحانيّات فنسأل حاجاتنا منهم، و نعرض أحوالنا عليهم، و نصبو في جميع اُمورنا إليهم، فيشفعون لنا إلى خالقنا و خالقهم و رازقنا و رازقهم، و هذا التطهير ليس يحصل إلّا باكتسابنا و رياضتنا و فطامنا أنفسنا عن دنيئات الشهوات استمداداً من جهة الروحانيّات، و الاستمداد هو التضرّع و الابتهال بالدعوات، و إقامة الصلوات، و بذل الزكوات، و الصيام عن المطعومات و المشروبات، و تقريب القرابين و الذبائح، و تبخير البخورات، و تعزيم العزائم فيحصل لنفوسنا استعداد و استمداد من غير واسطة، انتهى.

و هؤلاء و إن اختلفوا فيما بين أنفسهم بعض الاختلاف في العقائد العامّة الراجعة إلى الخلق و الإيجاد لكنّهم متفقّو الرأي في وجوب ترويض النفس للحصول على كمال المعرفة و سعادة النشأة.

و أمّا المانويّة من الثنويّة فاستقرار مذهبهم على كون النفس من عالم النور العلويّ و هبوطها إلى هذه الشبكات المادّيّة المظلمة المسمّاة بالأبدان، و أنّ سعادتها و كمالها في التخلّص من دار الظلمة إلى ساحة النور إمّا اختياراً بالترويض النفسانيّ، و إمّا اضطراراً بالموت الطبيعيّ، معروف.

و أمّا أهل الكتاب و نعني بهم اليهود و النصارى و المجوس فكتبهم المقدّسة و هي

١٩٧

العهد العتيق و العهد الجديد و أوستا مشحونة بالدعوة إلى إصلاح النفس و تهذيبها و مخالفة هواها.

و لا تزال كتب العهدين تذكر الزهد في الدنيا و الاشتغال بتطهير السرّ، و لا يزال يتربّى بينهم جمّ غفير من الزهّاد و تاركي الدنيا جيلاً بعد جيل، و خاصّة النصارى فإنّ من سننهم المتّبعة الرهبانيّة.

و قد ذكر أمر رهبانيّتهم في القرآن الشريف قال تعالى:( ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَ رُهْباناً وَ أَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ ) المائدة: ٨٢ و قال تعالى:( وَ رَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها ) الحديد: ٢٧، كما ذكر المتعبّدون من اليهود في قوله:( لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللهِ آناءَ اللَّيْلِ وَ هُمْ يَسْجُدُونَ، يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَ أُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ ) آل عمران: ١١٤.

و أمّا الفرق المختلفة من أصحاب الارتياضات و الأعمال النفسيّة كأصحاب السحر و السيمياء و أصحاب الطلسمات و تسخير الأرواح و الجنّ و روحانيّات الحروف و الكواكب و غيرها و أصحاب الإحضار و تسخير النفوس، فلكلّ منهم ارتياضات نفسيّة خاصّة تنتج نوعاً من السلطة على أمر النفس.(١)

و جملة الأمر على ما يتحصّل من جميع ما مرّ: أنّ الوجهة الأخيرة لجميع أرباب الأديان و المذاهب و الأعمال هو تهذيب النفس بترك هواها و الاشتغال بتطهيرها من شوب الأخلاق و الأحوال غير المناسبة للمطلوب.

٥- لعلّك ترجع و تقول: إنّ الّذي ثبت من سنن أرباب المذاهب و الطرق و سيرهم هو الزهد في الدنيا و هو غير مسألة معرفة النفس أو الاشتغال بأمر النفس بالمعنى الّذي تقدّم البحث عنه.

و بلفظ أوضح: الّذي يندب إليه الأديان و المذاهب الّتي تدعو إلى العبوديّة بنحو

____________________

(١) راجع في ذلك كتاب السرّ المكتوم للرازيّ و الذخيرة الإسكندريّة و الكواكب السبعة للحكيم طمطم الهندي و رسالة السكاكي في التخسير و الدرّ المكتوم لابن عربيّ و كتب الأرواح و الإحضار المعمولة أخيراً و غير ذلك.

١٩٨

أن يتزهّد الإنسان نوع تزهّد في الدنيا بإتيان الأعمال الصالحة و ترك الهوى و الآثام و رذائل الأخلاق ليتهيّأ بذلك لأحسن الجزاء إمّا في الآخرة كما يصرّح به الأديان النبويّة كاليهوديّة و النصرانيّة و الإسلام أو في الدنيا كما استقرّ عليه دين الوثنيّة و مذهب‏ التناسخ و غيرهما.

فالمتعبّد على حسب الدستور الدينيّ يأتي بما ندب إليه من نوع التزهّد من غير أن يخطر بباله أنّ هناك نفساً مجرّدة و أنّ لها نوعاً من المعرفة، فيه سعادتها و كمال وجودها.

و كذلك الواحد من أصحاب الرياضات على اختلاف طرقها و سننها إنّما يرتاض بما يرتاض من مشاقّ الأعمال و لا همّ له في ذلك إلّا حيازة المقام الموعود فيها و التسلّط على نتيجة العمل، كنفوذ الإرادة مثلاً و هو في غفلة من أمر النفس المذكور من حين يأخذ في عمله إلى حين يختمه.

على أنّ في هؤلاء من لا يرى في النفس إلّا أنّها أمر مادّيّ طبيعيّ كالدم أو الروح البخاريّ أو الأجزاء الأصليّة، و من يرى أنّ النفس جسم لطيف مشاكل للبدن العنصريّ حالّ فيه، و هو الحامل للحياة فكيف يسوغ القول بكون الجميع يرومون بذلك أمر معرفة النفس؟.

لكنّه ينبغي لك أن تتذكّر ما تقدّم ذكره أنّ الإنسان في جميع هذه المواقف الّتي يأتي فيها بأعمال تصرّف النفس عن الاشتغال بالاُمور الخارجيّة و التمتّعات المتفنّنة المادّيّة إلى نفسها للحصول على خواصّ و آثار لا توصل إليها الأسباب المادّيّة و العوامل الطبيعيّة العاديّة، لا يريد إلّا الانفصال عن العلل و الأسباب الخارجيّة، و الاستقلال بنفسه للحصول على نتائج خاصّة لا سبيل للعوامل المادّيّة العاديّة إليها.

فالمتديّن المتزهّد في دينه يرى أنّ من الواجب الإنسانيّ أن يختار لنفسه سعادته الحقيقيّة و هي الحياة الطيّبة الاُخرويّة عند المنتحلين بالمعاد، و الحياة السعيدة الدنيويّة الّتي تجمع له الخير و تدفع عنه الشرّ عند المنكرين له كالوثنيّة و أصحاب التناسخ، ثمّ يرى أنّ الاسترسال في التمتّعات الحيوانيّة لا تحوز له سعادته، و لا تسلك به إلى غرضه فلا محيص له عن رفض الهوى و ترك الانطلاق إلى كلّ ما تتهوّسه نفسه بأسبابها العاديّة في

١٩٩

الجملة، و الانجذاب إلى سبب أو أسباب فوق الأسباب المادّيّة العاديّة بالتقرّب إليه و الاتّصال به، و أنّ هذا التقرّب و الاتّصال إنّما يتأتّى بالخضوع له و التسليم لأمره و ذلك أمر روحيّ نفسانيّ لا ينحفظ إلّا بأعمال و تروك بدنيّة، و هذه هي العبادة الدينيّة من صلاة و نسك أو ما يرجع إلى ذلك.

فالأعمال و المجاهدات و الارتياضات الدينيّة ترجع جميعاً إلى نوع من الاشتغال بأمر النفس، و الإنسان يرى بالفطرة أنّه لا يأخذ شيئاً و لا يترك شيئاً إلّا لنفع نفسه، و قد تقدّم أنّ الإنسان لا يخلو، و لا لحظة من لحظات وجوده من مشاهدة نفسه و حضور ذاته و أنّه لا يخطئ في شعوره هذا البتّة، و إن أخطأ فإنّما يخطئ في تفسيره بحسب الرأي النظريّ و البحث الفكريّ فظهر بهذا البيان أنّ الأديان و المذاهب على اختلاف سننها و طرقها لا تروم إلّا الاشتغال بأمر النفس في الجملة، سواء علم بذلك المنتحلون بها أم لم يعلموا.

و كذلك الواحد من أصحاب الرياضات و المجاهدات و إن لم يكن منتحلاً بدين ولا و لا مؤمناً بأمر حقيقة النفس لا يقصد بنوع رياضته الّتي يرتاض بها إلّا الحصول على نتيجتها الموعودة له، و ليست النتيجة الموعودة مرتبطة بالأعمال و التروك الّتي يأتي بها ارتباطاً طبيعيّاً نظير الارتباط الواقع بين الأسباب الطبيعيّة و مسبّباتها، بل هو ارتباط إراديّ غير مادّيّ متعلّق بشعور المرتاض و إرادته المحفوظين بنوع العمل الّذي يأتي به، دائر بين نفس المرتاض و بين النتيجة الموعودة فحقيقة الرياضة المذكورة هي تأييد النفس و تكميلها في شعورها و إرادتها للنتيجة المطلوبة، و إن شئت قلت: أثر الرياضة أن تحصل للنفس حالة العلم بأنّ المطلوب مقدور لها فإذا صحّت الرياضة و تمّت صارت بحيث لو أرادت المطلوب مطلقاً أو أرادته على شرائط خاصّة كإحضار الروح للصبيّ غير المراهق في المرآة حصل المطلوب.

و إلى هذا الباب يرجع معنى‏ ما روي:( أنّه ذكر عند النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنّ بعض أصحاب عيسىعليه‌السلام كان يمشي على الماء فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لو كان يقينه أشدّ من ذلك لمشى على الهواء) فالحديث - كما ترى - يومئ إلى أنّ الأمر يدور مدار اليقين بالله سبحانه و إمحاء الأسباب

٢٠٠