الميزان في تفسير القرآن الجزء ٦

الميزان في تفسير القرآن9%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 401

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 401 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 83995 / تحميل: 7570
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ٦

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

١

بسم الله الرحمن الرحيم

( بقيّة سورة المائدة)

( سورة المائدة الآيات ٥٥ - ٥٦)

إِنّمَا وَلِيّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالّذِينَ آمَنُوا الّذِينَ يُقِيمُونَ الصّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ( ٥٥) وَمَن يَتَوَلّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالّذِينَ آمَنُوا فَإِنّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ( ٥٦)

( بيان)

الآيتان - كما ترى - موضوعتان بين آيات تنهى عن ولاية أهل الكتاب و الكفّار، و لذلك رام جماعة من مفسّري القوم إشراكهما مع ما قبلهما و ما بعدهما من حيث السياق، و جعل الجميع ذات سياق واحد يقصد به بيان وظيفة المؤمنين في أمر ولاية الأشخاص ولاية النصرة، و النهي عن ولاية اليهود و النصارى و الكفّار، و قصر الولاية في الله سبحانه و رسوله و المؤمنين الّذين يقيمون الصلاة و يؤتون الزكاة و هم راكعون، و هؤلاء هم المؤمنون حقّاً فيخرج بذلك المنافقون و الّذين في قلوبهم مرض، و يبقى على وجوب الولاية المؤمنون حقّاً، و تكون الآية دالّة على مثل ما يدلّ عليه مجموع قوله تعالى:( وَ اللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ ) آل عمران: ٦٨، و قوله تعالى:( النَّبِيُّ أَوْلى‏ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ) الأحزاب: ٦، و قوله تعالى في المؤمنين:( أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ ) الأنفال: ٧٢، و قوله تعالى:( وَ الْمُؤْمِنُونَ وَ الْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ) الآية: التوبة ٧١. فمحصّل الآية جعل ولاية النصرة لله و لرسوله و المؤمنين على المؤمنين.

نعم يبقى هناك إشكال الجملة الحاليّة الّتي يتعقّبها قوله:( وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ )

٢

و هي قوله:( وَ هُمْ راكِعُونَ ) و يرتفع الإشكال بحمل الركوع على معناه المجازيّ و هو مطلق الخضوع لله سبحانه أو انحطاط الحال لفقر و نحوه، و يعود معنى الآية إلى أنّه ليس أولياؤكم اليهود و النصارى و المنافقين بل أولياؤكم الله و رسوله و المؤمنون الّذين يقيمون الصلاة، و يؤتون الزكاة، و هم في جميع هذه الأحوال خاضعون لساحة الربوبيّة بالسمع و الطاعة، أو أنّهم يؤتون الزكاة و هم فقراء معسرون هذا.

لكنّ التدبّر و استيفاء النظر في الآيتين و ما يحفّهما من آيات ثمّ في أمر السورة يعطي خلاف ما ذكروه، و أوّل ما يفسد من كلامهم ما ذكروه من أمر وحدة سياق الآيات، و أنّ غرض الآيات التعرّض لأمر ولاية النصرة، و تمييز الحقّ منها من غير الحقّ فإنّ السورة و إن كان من المسلم نزولها في آخر عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حجّة الوداع لكن من المسلّم أيضاً أنّ جميع آياتها لم تنزل دفعة واحدة ففي خلالها آيات لا شبهة في نزولها قبل ذلك، و مضامينها تشهد بذلك، و ما ورد فيها من أسباب النزول يؤيّده فليس مجرّد وقوع الآية بعد الآية أو قبل الآية يدلّ على وحدة السياق، و لا أنّ بعض المناسبة بين آية و آية يدلّ على نزولهما معاً دفعة واحدة أو اتّحادهما في السياق.

على أنّ الآيات السابقة أعني قوله:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَ النَّصارى‏ أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ ) إلخ، تنهى المؤمنين عن ولاية اليهود و النصارى، و تعيّر المنافقين و الّذين في قلوبهم مرض بالمسارعة إليهم و رعاية جانبهم من غير أن يرتبط الكلام بمخاطبة اليهود و النصارى و إسماعهم الحديث بوجه بخلاف الآيات التالية أعني قوله:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَ لَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَ الْكُفَّارَ أَوْلِياءَ ) إلخ، فإنّها تنهى عن ولايتهم و تتعرّض لحالهم بالأمر بمخاطبتهم ثمّ يعيّرهم بالنفاق و الفسق فالغرض في القبيلين من الآيات السابقة و اللّاحقة مختلف، و معه كيف يتحدّ السياق؟!

على أنّك قد عرفت في البحث عن الآيات السابقة أعني قوله:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَ النَّصارى‏ أَوْلِياءَ ) (الآيات) أنّ ولاية النصرة لا تلائم سياقها،

٣

و أنّ خصوصيّات الآيات و العقود المأخوذة فيها و خاصّة قوله:( بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ ) و قوله:( وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ) لا تناسبها فإنّ عقد ولاية النصرة و اشتراطها بين قومين لا يوجب صيرورة أحدهما الآخر و لحوقه به، و لا أنّه يصحّ تعليل النهي عن هذا العقد بأنّ القوم الفلانيّ بعضهم أولياء بعض بخلاف عقد ولاية المودّة الّتي توجب الامتزاج النفسيّ و الروحيّ بين الطرفين، و تبيح لأحدهما التصرّف الروحيّ و الجسميّ في شؤون الآخر الحيويّة و تقارب الجماعتين في الأخلاق و الأعمال الّذي يذهب بالخصائص القوميّة.

على أنّه ليس من الجائز أن يعدّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وليّاً للمؤمنين بمعنى ولاية النصرة بخلاف العكس فإنّ هذه النصرة الّتي يعتني بأمرها الله سبحانه، و يذكرها القرآن الكريم في كثير من آياته هي النصرة في الدين و حينئذ يصحّ أن يقال: إنّ الدين لله بمعنى أنّه جاعله و شارع شرائعه فيندب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو المؤمنون أو هما جميعاً إلى نصرته أو يدعوا أنصاراً لله في ما شرّعه من الدين كقوله تعالى:( قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ ) الصفّ: ١٤، و قوله تعالى:( إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ ) محمّد: ٧، و قوله تعالى:( وَ إِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ - إلى أن قال -لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَ لَتَنْصُرُنَّهُ ) آل عمران: ٨١، إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة.

و يصحّ أن يقال: إنّ الدين للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمعنى أنّه الداعي إليه و المبلّغ له مثلاً، أو إنّ الدين لله و لرسوله بمعنى التشريع و الهداية فيدعى الناس إلى النصرة، أو يمدح المؤمنون بالنصرة كقوله تعالى:( وَ عَزَّرُوهُ وَ نَصَرُوهُ ) الأعراف: ١٥٧، و قوله تعالى:( وَ يَنْصُرُونَ اللهَ وَ رَسُولَهُ ) الحشر: ٨، و قوله تعالى:( وَ الَّذِينَ آوَوْا وَ نَصَرُوا ) الأنفال: ٧٢، إلى غير ذلك من الآيات.

و يصحّ أن يقال: إنّ الدين للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و للمؤمنين جميعاً، بمعنى أنّهم المكلّفون بشرائعه العاملون به فيذكر أنّ الله سبحانه وليّهم و ناصرهم كقوله تعالى:( وَ لَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ ) الحجّ: ٤٠، و قوله تعالى:( إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَ الَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ يَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ ) غافر: ٥١، و قوله تعالى:( كانَ حَقًّا

٤

عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ) الروم ٤٧ إلى غير ذلك من الآيات.

لكن لا يصحّ أن يفرد الدين بوجه للمؤمنين خاصّة، و يجعلوا أصلاً فيه و النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمعزل عن ذلك، ثمّ يعدّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ناصراً لهم فيما لهم، إذ ما من كرامة دينيّة إلّا هو مشاركهم فيها أحسن مشاركة، و مساهمهم أفضل سهام و لذلك لا نجد القرآن يعدّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ناصراً للمؤمنين و لا في آية واحدة، و حاشا ساحة الكلام الإلهيّ أن يساهل في رعاية أدبه البارع.

و هذا من أقوى الدليل على أنّ المراد بما نسب إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الولاية في القرآن هو ولاية التصرّف أو الحبّ و المودّة كقوله تعالى:( النَّبِيُّ أَوْلى‏ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ) الأحزاب: ٦، و قوله تعالى:( إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا ) (الآية)، فإنّ الخطاب للمؤمنين، و لا معنى لعدّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وليّاً لهم ولاية النصرة كما عرفت.

فقد ظهر أنّ الآيتين أعني قوله تعالى:( إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَ رَسُولُهُ ) إلى آخر الآيتين لا تشاركان السياق السابق عليهما لو فرض أنّه متعرّض لحال ولاية النصرة، و لا يغرّنّك قوله تعالى في آخر الآية الثانية:( فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغالِبُونَ ) ، فإنّ الغلبة كما تناسب الولاية بمعنى النصرة، كذلك تناسب ولاية التصرّف و كذا ولاية المحبّة و المودّة، و الغلبة الدينيّة الّتي هي آخر بغية أهل الدين تتحصّل باتّصال المؤمنين بالله و رسوله بأي وسيلة تمّت و حصلت، و قد قرع الله سبحانه أسماعهم ذلك بصريح وعده حيث قال:( كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَ رُسُلِي ) المجادلة: ٢١، و قال:( وَ لَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَ إِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ ) الصافّات: ١٧٣.

على أنّ الروايات متكاثرة من طرق الشيعة و أهل السنّة على أنّ الآيتين نازلتان في أميرالمؤمنين عليّعليه‌السلام لما تصدّق بخاتمه و هو في الصلاة، فالآيتان خاصّتان غير عامّتين، و سيجي‏ء نقل جلّ ما ورد من الروايات في ذلك في البحث الروائيّ التالي إن شاء الله تعالى.

٥

و لو صحّ الإعراض في تفسير آية بالأسباب المأثورة عن مثل هذه الروايات على تكاثرها و تراكمها لم يصحّ الركون إلى شي‏ء من أسباب النزول المأثورة في شي‏ء من آيات القرآن و هو ظاهر، فلا وجه لحمل الآيتين على إرادة ولاية المؤمنين بعضهم لبعض بجعلها عامّة.

نعم استشكلوا في الروايات - و لم يكن ينبغي أن يستشكل فيها مع ما فيها من الكثرة البالغة -أوّلاً: بأنّها تنافي سياق الآيات الظاهر في ولاية النصرة كما تقدّمت الإشارة إليه وثانياً: أنّ لازمها إطلاق الجمع و إرادة الواحد فإنّ المراد بالّذين آمنوا الّذين يقيمون الصلاة إلخ، على هذا التقدير هو علي و لا يساعده اللغة، وثالثاً: أنّ لازمها كون المراد بالزكاة هو التصدّق بالخاتم، و لا يسمّى ذلك زكاة.

قالوا: فالمتعيّن أن تؤخذ الآية عامّة، و تكون مسوقة لمثل قصر القلب أو الإفراد فقد كان المنافقون يسارعون إلى ولاية أهل الكتاب و يؤكّدونها، فنهى الله عن ذلك و ذكر أنّ أولياءهم إنّما هم الله و رسوله و المؤمنون حقّاً دون أهل الكتاب و المنافقين.

و لا يبقى إلّا مخالفة هذا المعنى لظاهر قوله:( وَ هُمْ راكِعُونَ ) و يندفع بحمل الركوع على معناه المجازيّ، و هو الخضوع لله أو الفقر و رثاثة الحال، هذا ما استشكلوه.

لكنّ التدبّر في الآية و ما يناظرها من الآيات يوجب سقوط الوجوه المذكورة جميعاً:

أمّا وقوع الآية في سياق ولاية النصرة، و لزوم حملها على إرادة ذلك فقد عرفت أنّ الآيات غير مسوقة لهذا الغرض أصلاً، و لو فرض سرد الآيات السابقة على هذه الآية لبيان أمر ولاية النصرة لم تشاركها الآية في هذا الغرض.

و أمّا حديث لزوم إطلاق الجمع و إرادة الواحد في قوله:( وَ الَّذِينَ آمَنُوا ) إلخ، فقد عرفت في الكلام على آية المباهلة في الجزء الثالث من هذا الكتاب تفصيل الجواب عنه، و أنّه فرق بين إطلاق لفظ الجمع و إرادة الواحد و استعماله فيه، و بين إعطاء حكم كلّيّ أو الإخبار بمعرّف جمعيّ في لفظ الجمع لينطبق على من يصحّ أن

٦

ينطبق عليه، ثمّ لا يكون المصداق الّذي يصحّ أن ينطبق عليه إلّا واحداً فرداً و اللّغة تأبى عن قبول الأوّل دون الثاني على شيوعه في الاستعمالات.

و ليت شعري ما ذا يقولون في مثل قوله تعالى:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَ عَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ - إلى أن قال -تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ ) الآية: الممتحنة: ١، و قد صحّ أنّ المراد به حاطب بن أبي بلتعة في مكاتبته قريشاً؟

و قوله تعالى:( يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ ) المنافقون: ٨، و قد صحّ أنّ القائل به عبدالله بن أبي بن سلول؟ و قوله تعالى:( يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ ) البقرة: ٢١٥ و السائل عنه واحد؟، و قوله تعالى:( الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَ النَّهارِ سِرًّا وَ عَلانِيَةً ) البقرة: ٢٧٤ و قد ورد أنّ المنفق كان عليّاً أو أبابكر؟ إلى غير ذلك من الموارد الكثيرة.

و أعجب من الجميع قوله تعالى:( يَقُولُونَ نَخْشى‏ أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ ) و القائل هو عبدالله بن اُبيّ، على ما رووا في سبب نزوله و تلقّوه بالقبول، و الآية واقعة بين الآيات المبحوث عنها نفسها.

فإن قيل: إنّ هذه الموارد لا تخلو عن اُناس كانوا يرون رأيهم أو يرضون بفعالهم فعبّر الله تعالى عنهم و عمّن يلحق بهم بصيغة الجمع. قيل: إنّ محصّله جواز ذلك في اللغة لنكتة مجوّزة فليجر الآية أعني قوله:( وَ الَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ راكِعُونَ ) هذا المجرى، و لتكن النكتة هي الإشارة إلى أنّ أنواع الكرامات الدينيّة - و منها الولاية المذكورة في الآية - ليست موقوفة على بعض المؤمنين دون بعض وقفاً جزافيّاً و إنّما يتّبع التقدّم في الإخلاص و العمل لا غير.

على أنّ جلّ الناقلين لهذه الأخبار هم صحابة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و التابعون المتّصلون بهم زماناً و هم من زمرة العرب العرباء الّذين لم تفسد لغتهم و لم تختلط ألسنتهم و لو كان هذا النحو من الاستعمال لا تبيحه اللغة و لا يعهده أهلها لم تقبله طباعهم، و لكانوا أحقّ باستشكاله و الاعتراض عليه، و لم يؤثر من أحد منهم ذلك.

٧

و أمّا قولهم: إنّ الصدقة بالخاتم لا تسمّى زكاة، فيدفعه أنّ تعيّن لفظ الزكاة في معناها المصطلح إنّما تحقّق في عرف المتشرّعة بعد نزول القرآن بوجوبها و تشريعها في الدين، و أمّا الّذي تعطيه اللغة فهو أعمّ من الزكاة المصطلحة في عرف المتشرّعة و يساوق عند الإطلاق أو عند مقابلة الصلاة إنفاق المال لوجه الله كما يظهر ممّا وقع فيما حكاه الله عن الأنبياء السالفين كقوله تعالى في إبراهيم و إسحاق و يعقوب:( وَ أَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَ إِقامَ الصَّلاةِ وَ إِيتاءَ الزَّكاةِ ) الأنبياء: ٧٣، و قوله تعالى في إسماعيل:( وَ كانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَ الزَّكاةِ وَ كانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا ) مريم: ٥٥ و قوله تعالى حكاية عن عيسىعليه‌السلام في المهد:( وَ أَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَ الزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا ) مريم: ٣١ و من المعلوم أن ليس في شرائعهم الزكاة الماليّة بالمعنى الّذي اصطلح عليه في الإسلام.

و كذا قوله تعالى:( قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَ ذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى ) الأعلى: ١٥ و قوله تعالى:( الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى ) الليل: ١٨ و قوله تعالى:( الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ ) حم السجدة: ٧ و قوله تعالى:( وَ الَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ ) المؤمنون: ٤، و غير ذلك من الآيات الواقعة في السور المكّيّة و خاصّة السور النازلة في أوائل البعثة كسورة حم السجدة و غيرها، و لم تكن شرّعت الزكاة المصطلحة بعد فليت شعري ما ذا كان يفهمه المسلمون من هذه الآيات في لفظ الزكاة.

بل آية الزكاة أعني قوله تعالى:( خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَ تُزَكِّيهِمْ بِها وَ صَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ ) التوبة: ١٠٣، تدلّ على أنّ الزكاة من أفراد الصدقة، و إنّما سمّيت زكاة لكون الصدقة مطهّرة مزكّية مطلقاً، و قد غلب استعمالها في الصدقة المصطلحة.

فتبيّن من جميع ما ذكرنا أنّه لا مانع من تسمية مطلق الصدقة و الإنفاق في سبيل الله زكاة، و تبيّن أيضاً أن لا موجب لارتكاب خلاف الظاهر بحمل الركوع على معناه المجازيّ، و كذا ارتكاب التوجيه في قوله:( إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ

٨

آمَنُوا ) حيث أتى باسم إن( وَلِيُّكُمُ ) مفرداً و بقوله:( الَّذِينَ آمَنُوا ) و هو خبر بالعطف بصيغة الجمع، هذا.

قوله تعالى: ( إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا ) قال الراغب في المفردات: الولاء (بفتح الواو) و التوالي أن يحصل شيئاًن فصاعداً حصولاً ليس بينهما ما ليس منهما، و يستعار ذلك للقرب من حيث المكان و من حيث النسبة و من حيث الصداقة و النصرة و الاعتقاد، و الولاية النصرة، و الولاية تولّي الأمر، و قيل: الولاية و الولاية (بالفتح و الكسر) واحدة نحو الدلالة و الدلالة و حقيقته تولّي الأمر، و الوليّ و المولى يستعملان في ذلك، كلّ واحد منهما يقال في معنى الفاعل أي الموالي (بكسر اللّام) و معنى المفعول أي الموالي (بفتح اللّام) يقال للمؤمن: هو وليّ الله عزّوجلّ و لم يرد مولاه، و قد يقال: الله وليّ المؤمنين و مولاهم.

قال: و قولهم: تولّى إذا عدّي بنفسه اقتضى معنى الولاية و حصوله في أقرب المواضع منه يقال: ولّيت سمعي كذا، و ولّيت عيني كذا، و ولّيت وجهي كذا أقبلت به عليه قال الله عزّوجلّ:( فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها، فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ، وَ حَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ) و إذا عدّي بعن لفظاً أو تقديراً اقتضى معنى الإعراض و ترك قربه. انتهى.

و الظاهر أنّ القرب الكذائيّ المعبّر عنه بالولاية، أوّل ما اعتبره الإنسان إنّما اعتبره في الأجسام و أمكنتها و أزمنتها ثمّ أستعير لأقسام القرب المعنويّة بالعكس ممّا ذكره لأنّ هذا هو المحصّل من البحث في حالات الإنسان الأوّليّة فالنظر في أمر المحسوسات و الاشتغال بأمرها أقدم في عيشة الإنسان من التفكّر في المعقولات و المعاني و أنحاء اعتبارها و التصرّف فيها.

و إذا فرضت الولاية - و هي القرب الخاصّ - في الاُمور المعنويّة كان لازمها أن للوليّ ممّن وليه ما ليس لغيره إلّا بواسطته فكلّ ما كان من التصرّف في شؤون من وليه ممّا يجوز أن يخلفه فيه غيره فإنّما يخلفه الوليّ لا غيره كوليّ الميّت، فإنّ التركة الّتي كان للميّت أن يتصرّف فيها بالملك فإنّ لوارثه الوليّ أن يتصرّف فيها بولاية

٩

الوراثة، و وليّ الصغير يتصرّف بولايته في شؤون الصغير الماليّة بتدبير أمره، و وليّ النصرة له أن يتصرّف في أمر المنصور من حيث تقويته في الدفاع، و الله سبحانه وليّ عباده يدبّر أمرهم في الدنيا و الآخرة لا وليّ غيره، و هو وليّ المؤمنين في تدبير أمر دينهم بالهداية و الدعوة و التوفيق و النصرة و غير ذلك، و النبيّ وليّ المؤمنين من حيث إنّ له أن يحكم فيهم و لهم و عليهم بالتشريع و القضاء، و الحاكم وليّ الناس بالحكم فيهم على مقدار سعة حكومته، و على هذا القياس سائر موارد الولاية كولاية العتق و الحلف و الجوار و الطلاق و ابن العمّ، و ولاية الحبّ و ولاية العهد و هكذا، و قوله:( يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ ) أي يجعلون أدبارهم تلي جهة الحرب و تدبّر أمرها، و قوله:( تَوَلَّيْتُمْ ) أي تولّيتم عن قبوله أي اتّخذتم أنفسكم تلي جهة خلاف جهته بالإعراض عنه أو اتّخذتم وجوهكم تلي خلاف جهته بالإعراض عنه، فالمحصّل من معنى الولاية في موارد استعمالها هو نحو من القرب يوجب نوعاً من حقّ التصرّف و مالكيّة التدبير.

و قد اشتمل قوله تعالى:( إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا ) إلخ من السياق على ما يدلّ على وحدة مّا في معنى الولاية المذكورة فيه حيث تضمّن العدّ في قوله:( اللهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا ) و أسند الجميع إلى قوله:( وَلِيُّكُمُ ) و ظاهره كون الولاية في الجميع بمعنى واحد. و يؤيّد ذلك أيضاً قوله في الآية التالية:( فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغالِبُونَ ) حيث يشعر أو يدلّ على كون المتولّين جميعاً حزباً لله لكونهم تحت ولايته، فولاية الرسول و الّذين آمنوا إنّما هو من سنخ ولاية الله.

و قد ذكر الله سبحانه لنفسه من الولاية، الولاية التكوينيّة الّتي تصحّح له التصرّف في كلّ شي‏ء و تدبير أمر الخلق بما شاء، و كيف شاء قال تعالى:( أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ فَاللهُ هُوَ الْوَلِيُّ ) الشورى: ٩ و قال:( ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا شَفِيعٍ أَ فَلا تَتَذَكَّرُونَ ) السجدة: ٤ و قال:( أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ ) يوسف: ١٠١ و قال:( فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ ) الشورى: ٤٤ و في معنى هذه الآيات قوله:( وَ نَحْنُ

١٠

أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ) ق: ١٦، و قوله:( وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَ قَلْبِهِ ) الأنفال: ٢٤.

و ربّما لحق بهذا الباب ولاية النصرة الّتي ذكرها لنفسه في قوله:( ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَ أَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى‏ لَهُمْ ) سورة محمّد: ١١، و قوله:( فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاهُ ) التحريم: ٤، و في معنى ذلك قوله:( وَ كانَ حقّاً عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ) الروم: ٤٧.

و ذكر تعالى أيضاً لنفسه الولاية على المؤمنين فيما يرجع إلى أمر دينهم من تشريع الشريعة و الهداية و الإرشاد و التوفيق و نحو ذلك كقوله تعالى:( اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ ) البقرة: ٢٥٧، و قوله:( وَ اللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ ) آل عمران: ٦٨ و قوله:( وَ اللهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ ) الجاثية: ١٩، و في هذا المعنى قوله تعالى:( وَ ما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَ لا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَ رَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَ مَنْ يَعْصِ اللهَ وَ رَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِيناً ) الأحزاب: ٣٦.

فهذا ما ذكره الله تعالى من ولاية نفسه في كلامه، و يرجع محصّلها إلى ولاية التكوين و ولاية التشريع، و إن شئت سمّيتهما بالولاية الحقيقيّة و الولاية الاعتباريّة.

و قد ذكر الله سبحانه لنبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الولاية الّتي تخصّه الولاية التشريعيّة و هي القيام بالتشريع و الدعوة و تربية الاُمّة و الحكم فيهم و القضاء في أمرهم، قال تعالى:( النَّبِيُّ أَوْلى‏ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ) الأحزاب: ٦، و في معناه قوله تعالى:( إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللهُ ) النساء: ١٠٥، و قوله:( وَ إِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى‏ صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ) الشورى: ٥٢، و قوله:( رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَ يُزَكِّيهِمْ وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ ) الجمعة: ٢، و قوله:( لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ) النحل: ٤٤ و قوله:( أَطِيعُوا اللهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ ) النساء: ٥٩، و قوله:( وَ ما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَ لا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَ رَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ) الأحزاب: ٣٦، و قوله:( وَ أَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَ احْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ ) المائدة: ٤٩، و قد تقدّم أنّ الله لم يذكر ولاية النصرة عليه للاُمّة.

١١

و يجمع الجميع أنّ لهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الولاية على الاُمّة في سوقهم إلى الله و الحكم فيهم و القضاء عليهم في جميع شؤونهم فله عليهم الإطاعة المطلقة فترجع ولايتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى ولاية الله سبحانه بالولاية التشريعيّة، و نعني بذلك أنّ لهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم التقدّم عليهم بافتراض الطاعة لأنّ طاعته طاعة الله، فولايته ولاية الله كما يدلّ عليه بعض الآيات السابقة كقوله:( أَطِيعُوا اللهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ ) (الآية) و قوله:( وَ ما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَ لا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَ رَسُولُهُ أَمْراً ) (الآية) و غير ذلك.

و هذا المعنى من الولاية لله و رسوله هو الّذي تذكره الآية للّذين آمنوا بعطفه على الله و رسوله في قوله:( إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا ) على ما عرفت من دلالة السياق على كون هذه الولاية ولاية واحدة هي لله سبحانه بالأصالة و لرسوله و الّذين آمنوا بالتبع و بإذن منه تعالى.

و لو كانت الولاية المنسوبة إلى الله تعالى في الآية غير المنسوبة إلى الّذين آمنوا - و المقام مقام الالتباس - كان الأنسب أن تفرد ولاية اُخرى للمؤمنين بالذكر رفعاً للالتباس كما وقع نظيره في نظيرها، قال تعالى:( قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَ يُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ ) التوبة: ٦١، فكرّر لفظ الإيمان لما كان في كلّ من الموضعين لمعنى غير الآخر، و قد تقدّم نظيره في قوله تعالى:( أَطِيعُوا اللهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ ) النساء: ٥٩، في الجزء السابق على هذا الجزء من الكتاب.

على أنّ لفظ( وَلِيُّكُمُ ) اُتي به مفرداً و قد نسب إلى الّذين آمنوا و هو جمع، و قد وجّهه المفسّرون بكون الولاية ذات معنى واحد هو لله سبحانه على الأصالة و لغيره بالتبع.

و قد تبيّن من جميع ما مرّ أنّ القصر في قوله:( إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ ) إلخ، لقصر الإفراد كأنّ المخاطبين يظنّون أنّ الولاية عامّة للمذكورين في الآية و غيرهم فاُفرد المذكورون للقصر، و يمكن بوجه أن يحمل على قصر القلب.

قوله تعالى: ( الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ راكِعُونَ ) بيان للّذين آمنوا المذكور سابقاً، و قوله:( وَ هُمْ راكِعُونَ ) حال من فاعل( يُؤْتُونَ ) و هو العامل فيه.

١٢

و الركوع هو الهيئة المخصوصة في الإنسان، و منه الشيخ الراكع، و يطلق في عرف الشرع على الهيئة المخصوصة في العبادة، قال تعالى:( الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ ) التوبة: ١١٢ و هو ممثّل للخضوع و التذلّل لله، غير أنّه لم يشرع في الإسلام في غير حال الصلاة بخلاف السجدة.

و لكونه مشتملاً على الخضوع و التذلّل ربّما أستعير لمطلق التذلّل و الخضوع أو الفقر و الإعسار الّذي لا يخلو عادة عن التذلّل للغير.

قوله تعالى: ( وَ مَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَ رَسُولَهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغالِبُونَ ) ، التولّي هو الأخذ وليّاً، و( الَّذِينَ آمَنُوا ) مفيد للعهد و المراد به المذكور في الآية السابقة:( وَ الَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ ) ، إلخ، و قوله:( فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغالِبُونَ ) واقع موقع الجزاء و ليس به بل هو من قبيل وضع الكبرى موضع النتيجة للدلالة على علّة الحكم، و التقدير: و من يتولّ فهو غالب لأنّه من حزب الله و حزب الله هم الغالبون، فهو من قبيل الكناية عن أنّهم حزب الله.

و الحزب على ما ذكره الراغب جماعة فيها غلظ، و قد ذكر الله سبحانه حزبه في موضع آخر من كلامه قريب المضمون من هذا الموضع، و وسمهم بالفلاح فقال:( لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَ رَسُولَهُ وَ لَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَ أَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ - إلى أن قال -أُولئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) المجادلة: ٢٢.

و الفلاح الظفر و إدراك البغية الّتي هي الغلبة و الاستيلاء على المراد، و هذه الغلبة و الفلاح هي الّتي وعدها الله المؤمنين في أحسن ما وعدهم به و بشّرهم بنيله، قال تعالى:( قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ) المؤمنون: ١، و الآيات في ذلك كثيرة، و قد اُطلق اللفظ في جميعها، فالمراد الغلبة المطلقة و الفلاح المطلق أي الظفر بالسعادة و الفوز بالحقّ و الغلبة على الشقاء، و إدحاض الباطل في الدنيا و الآخرة، أمّا في الدنيا فبالحياة الطيّبة الّتي توجد في مجتمع صالح من أولياء الله في أرض مطهّرة من أولياء الشيطان على تقوى و ورع، و أمّا في الآخرة ففي جوار ربّ العالمين.

١٣

( بحث روائي)

في الكافي، عن عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن عمر بن اُذينة، عن زرارة و الفضيل بن يسار، و بكير بن أعين، و محمّد بن مسلم، و بريد بن معاوية، و أبي الجارود، جميعاً عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: أمر الله عزّوجلّ رسوله بولاية عليّ و أنزل عليه:( إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ راكِعُونَ ) و فرض من ولاية اُولي الأمر فلم يدروا ما هي؟ فأمر الله محمّداًصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يفسّر لهم الولاية كما فسّر الصلاة و الزكاة و الصوم و الحجّ.

فلمّا أتاه ذلك من الله ضاق بذلك صدر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و تخوّف أن يرتدّوا عن دينهم و أن يكذّبوه، فضاق صدره و راجع ربّه عزّوجلّ فأوحى الله عزّوجلّ إليه:( يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَ اللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ) ، فصدع بأمر الله عزّ ذكره، فقام بولاية عليّعليه‌السلام يوم غدير خمّ فنادى: الصلاة جامعة، و أمر الناس أن يبلّغ الشاهد الغائب.

قال عمر بن اُذينة: قالوا جميعاً غير أبي الجارود: قال أبوجعفرعليه‌السلام : و كانت الفريضة الاُخرى، و كانت الولاية آخر الفرائض فأنزل الله عزّوجلّ:( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي ) ، قال أبوجعفرعليه‌السلام : يقول الله عزّوجلّ: لا اُنزل عليكم بعد هذه فريضة قد أكملت لكم الفرائض.

و في البرهان، و غاية المرام، عن الصدوق بإسناده عن أبي الجارود عن أبي جعفرعليه‌السلام : في قول الله عزّوجلّ:( إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا ) ، قال: إنّ رهطاً من اليهود أسلموا منهم عبدالله بن سلام و أسد و ثعلبة و ابن يامين و ابن صوريا فأتوا النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالوا: يا نبيّ الله إنّ موسى أوصى إلى يوشع بن نون، فمن وصيّك يا رسول الله؟ و من وليّنا بعدك؟ فنزلت هذه الآية:( إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ راكِعُونَ ) .

١٤

قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : قوموا فقاموا و أتوا المسجد فإذا سائل خارج فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا سائل هل أعطاك أحد شيئاً؟ قال: نعم هذا الخاتم قال: من أعطاكه؟ قال: أعطانيه ذلك الرجل الّذي يصلّي قال على أيّ حال أعطاك؟ قال: كان راكعاً فكبّر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و كبّر أهل المسجد.

فقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : عليّ وليّكم بعدي قالوا: رضينا بالله ربّاً، و بمحمّد نبيّاً، و بعليّ بن أبي طالب وليّاً فأنزل الله عزّوجلّ:( وَ مَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَ رَسُولَهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغالِبُونَ ) الحديث.

و في تفسير القمّيّ، قال: حدّثني أبي، عن صفوان: عن أبان بن عثمان، عن أبي حمزة الثمالي، عن أبي جعفرعليه‌السلام : بينا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جالس و عنده قوم من اليهود فيهم عبدالله بن سلام إذ نزلت عليه هذه الآية فخرج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى المسجد فاستقبله سائل فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : هل أعطاك أحد شيئاً؟ قال: نعم ذلك المصلّي، فجاء رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فإذا هو عليّعليه‌السلام .

أقول: و رواه العيّاشيّ في تفسيره عنهعليه‌السلام .

و في أمالي الشيخ، قال: حدّثنا محمّد بن محمّد - يعني المفيد - قال: حدّثني أبوالحسن عليّ بن محمّد الكاتب، قال: حدّثني الحسن بن عليّ الزعفرانيّ، قال: حدّثنا أبوإسحاق إبراهيم بن محمّد الثقفيّ، قال: حدّثنا محمّد بن عليّ، قال: حدّثنا العبّاس بن عبدالله العنبريّ، عن عبدالرحمن بن الأسود الكنديّ اليشكريّ، عن عون بن عبيد الله، عن أبيه عن جدّه أبي رافع قال: دخلت على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوماً و هو نائم و حيّة في جانب البيت فكرهت أن أقتلها و اُوقظ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فظننت أنّه يوحى إليه فاضطجعت بينه و بين الحيّة فقلت: إن كان منها سوء كان إلىّ دونه.

فكنت هنيئة فاستيقظ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و هو يقرأ:( إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا ) - حتّى أتى على آخر الآية - ثمّ قال: الحمد لله الّذي أتمّ لعليّ نعمته، و هنيئاً له بفضل الله الّذي آتاه، ثمّ قال لي: ما لك ههنا؟ فأخبرته بخبر الحيّة فقال لي: اقتلها ففعلت ثمّ قال لي: يا ( أبا،ظ ) رافع كيف أنت و قوم يقاتلون عليّاً و هو على الحقّ و هم

١٥

على الباطل؟ جهادهم حقّاً لله عزّ اسمه فمن لم يستطع بقلبه، ليس وراءه شي‏ء فقلت: يا رسول الله ادع الله لي إن أدركتهم أن يقوّيني على قتالهم قال: فدعا النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و قال: إنّ لكلّ نبيّ أميناً، و إنّ أميني أبورافع.

قال: فلمّا بايع الناس عليّاً بعد عثمان، و سار طلحة و الزبير ذكرت قول النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فبعت داري بالمدينة و أرضاً لي بخيبر و خرجت بنفسي و ولدي مع أميرالمؤمنينعليه‌السلام لأستشهد بين يديه فلم اُدرك معه حتّى عاد من البصرة، و خرجت معه إلى صفّين ( فقاتلت، ظ ) بين يديه بها و بالنهروان أيضاً، و لم أزل معه حتّى استشهد عليّعليه‌السلام ، فرجعت إلى المدينة و ليس لي بها دار و لا أرض فأعطاني الحسن بن عليّعليه‌السلام أرضاً بينبع، و قسم لي شطر دار أميرالمؤمنينعليه‌السلام فنزلتها و عيالي.

و في تفسير العيّاشيّ، بإسناده عن الحسن بن زيد، عن أبيه زيد بن الحسن، عن جدّه قال: سمعت عمّار بن ياسر يقول: وقف لعليّ بن أبي طالب سائل و هو راكع في صلاة تطوّع فنزع خاتمه فأعطاه السائل فأتى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأعلم بذلك فنزل على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذه الآية:( إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ راكِعُونَ ) (إلى آخر الآية) فقرأها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم علينا ثمّ قال: من كنت مولاه فعليّ مولاه، اللّهمّ وال من والاه، و عاد من عاداه.

و في تفسير العيّاشيّ، عن المفضّل بن صالح، عن بعض أصحابه، عن أحدهماعليهما‌السلام قال: قال: إنّه لما نزلت هذه الآية:( إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا ) شقّ ذلك على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و خشي أن تكذّبه قريش فأنزل الله:( يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ) (الآية) فقام بذلك يوم غدير خمّ.

و فيه، عن أبي جميلة عن بعض أصحابه عن أحدهماعليهما‌السلام قال: إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: إنّ الله أوحى إليّ أن اُحبّ أربعة: عليّاً و أباذرّ و سلمان و المقداد، فقلت: ألا فما كان من كثرة الناس أ ما كان أحد يعرف هذا الأمر؟ فقال: بلى ثلاثة، قلت: هذه الآيات الّتي اُنزلت:( إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا ) و قوله:( أَطِيعُوا اللهَ

١٦

وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ) ما كان أحد يسأل فيمن نزلت؟ فقال من ثمّ أتاهم لم يكونوا يسألون.

و في غاية المرام، عن الصدوق بإسناده عن أبي سعيد الورّاق عن أبيه عن جعفر بن محمّد عن أبيه عن جدّه: في حديث مناشدة عليّعليه‌السلام لأبي بكر حين ولى أبوبكر الخلافة، و ذكرعليه‌السلام فضائله لأبي بكر و النصوص عليه من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فكان فيما قال له: فاُنشدك بالله أ لي الولاية من الله مع ولاية رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في آية زكاة الخاتم أم لك؟ قال: بل لك.

و في مجالس الشيخ، بإسناده إلى أبي ذرّ: في حديث مناشدة أميرالمؤمنينعليه‌السلام عثمان و الزبير و عبدالرحمن بن عوف و سعد بن أبي وقّاص يوم الشورى و احتجاجه عليهم بما فيه من النصوص من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و الكلّ منهم يصدّقهعليه‌السلام فيما يقوله فكان ممّا ذكرهعليه‌السلام : فهل فيكم أحد آتى الزكاة و هو راكع فنزلت فيه:( إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ راكِعُونَ ) غيري؟ قالوا: لا.

و في الإحتجاج، في رسالة أبي الحسن الثالث عليّ بن محمّد الهاديعليه‌السلام إلى أهل الأهواز حين سألوه عن الجبر و التفويض:

قالعليه‌السلام : اجتمعت الاُمّة قاطبة لا اختلاف بينهم في ذلك: أنّ القرآن حقّ لا ريب فيه عند جميع فرقها فهم في حالة الاجتماع عليه مصيبون، و على تصديق ما أنزل الله مهتدون لقول النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( لا تجتمع اُمّتي على ضلالة) ، فأخبرعليه‌السلام : أنّ ما اجتمعت عليه الاُمّة و لم يخالف بعضها بعضاً هو الحقّ، فهذا معنى الحديث لا ما تأوّله الجاهلون، و لا ما قاله المعاندون من إبطال حكم الكتاب، و اتّباع أحكام الأحاديث المزوّرة، و الروايات المزخرفة، و اتّباع الأهواء المردئة المهلكة الّتي تخالف نصّ الكتاب، و تحقيق الآيات الواضحات النيّرات، و نحن نسأل الله أن يوفّقنا للصلاة، و يهدينا إلى الرشاد.

ثمّ قالعليه‌السلام : فإذا شهد الكتاب بصدق خبر و تحقيقه فأنكرته طائفة من

١٧

الاُمّة عارضته بحديث من هذه الأحاديث المزوّرة، فصارت بإنكارها و دفعها الكتاب ضلالاً، و أصحّ خبر ممّا عرف تحقيقه من الكتاب مثل الخبر المجمع عليه من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال:( إنّي مستخلف فيكم خليفتين كتاب الله و عترتي. ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا بعدي و إنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض) و اللفظة الاُخرى عنه في هذا المعنى بعينه قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( إنّي تارك فيكم الثقلين: كتاب الله و عترتي أهل بيتي، و إنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض، ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا) .

وجدنا شواهد هذا الحديث نصّاً في كتاب الله مثل قوله:( إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ راكِعُونَ ) . ثمّ اتّفقت روايات العلماء في ذلك لأميرالمؤمنينعليه‌السلام : أنّه تصدّق بخاتمه و هو راكع فشكر الله ذلك له، و أنزل الآية فيه. ثمّ وجدنا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد أبانه من أصحابه بهذه اللفظة:( من كنت مولاه فعليّ مولاه اللّهمّ وال من والاه و عاد من عاداه) و قوله:صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ( عليّ يقضي ديني، و ينجز موعدي، و هو خليفتي عليكم بعدي) و قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حين استخلفه على المدينة فقال: يا رسول الله: أ تخلّفني على النساء و الصبيان؟ فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أ ما ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلّا أنّه لا نبيّ بعدي؟.

فعلمنا أنّ الكتاب شهد بتصديق هذه الأخبار، و تحقيق هذه الشواهد فيلزم الاُمّة الإقرار بها إذا كانت هذه الأخبار وافقت القرآن فلمّا وجدنا ذلك موافقاً لكتاب الله، و وجدنا كتاب الله موافقاً لهذه الأخبار، و عليها دليلاً كان الاقتداء فرضاً لا يتعدّاه إلّا أهل العناد و الفساد.

و في الإحتجاج، في حديث عن أميرالمؤمنينعليه‌السلام : قال المنافقون لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : هل بقي لربّك علينا بعد الّذي فرض علينا شي‏ء آخر يفترضه فتذكر فتسكن أنفسنا إلى أنّه لم يبق غيره؟ فأنزل الله في ذلك:( قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ ) يعني الولاية فأنزل الله:( إنّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَ رَسُولُهُ وَ الّذينَ آمَنُوا الّذينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ راكِعُونَ ) ، و ليس بين الاُمّة خلاف أنّه لم يؤت الزكاة يومئذ و هو راكع غير رجل واحد، الحديث.

١٨

و في الاختصاص، للمفيد عن أحمد بن محمّد بن عيسى، عن القاسم بن محمّد الجوهريّ، عن الحسن بن أبي العلاء قال: قلت لأبي عبداللهعليه‌السلام : الأوصياء طاعتهم مفترضة؟ فقال: نعم، هم الّذين قال الله:( أَطِيعُوا اللهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ) و هم الّذين قال الله:( إنّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَ رَسُولُهُ وَ الّذينَ آمَنُوا الّذينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ راكِعُونَ ) .

أقول: و رواه في الكافي، عن الحسين بن أبي العلاء عنهعليه‌السلام ، و روي ما في معناه عن أحمد بن عيسى عنهعليه‌السلام .

و إسناد نزول ما نزل في عليّعليه‌السلام إلى جميع الأئمةعليهم‌السلام لكونهم أهل بيت واحد، و أمرهم واحد.

و عن تفسير الثعلبيّ، أخبرنا أبوالحسن محمّد بن القاسم الفقيه قال: حدّثنا عبدالله بن أحمد الشعرانيّ قال: أخبرنا أبوعليّ أحمدبن عليّ بن رزين قال: حدّثنا المظفّر بن الحسن الأنصاريّ قال: حدّثنا السريّ بن عليّ الورّاق قال: حدّثنا يحيى بن عبد الحميد الجمانيّ عن قيس بن الربيع عن الأعمش، عن عباية بن الربعيّ قال: حدّثنا عبدالله بن عبّاس رضي الله عنه و هو جالس بشفير زمزم يقول قال: رسول الله: إذ أقبل رجل معتمّ بعمامة فجعل ابن عبّاس لا يقول: قال رسول الله إلّا و قال الرجل: قال رسول الله.

فقال له ابن عبّاس: سألتك بالله من أنت؟ قال: فكشف العمامة عن وجهه و قال: يا أيّها الناس من عرفني فقد عرفني و من لم يعرفني فأنا جندب بن جنادة البدريّ أبوذرّ الغفاريّ سمعت رسول الله بهاتين و إلّا فصمّتا و رأيته بهاتين و إلّا فعميتا يقول: عليّ قائد البررة و قاتل الكفرة، منصور من نصره، مخذول من خذله.

أما إنّي صلّيت مع رسول الله يوماً من الأيّام صلاة الظهر فسأل سائل في المسجد فلم يعطه أحد فرفع السائل يده إلى السماء و قال: اللّهمّ اشهد أنّي سألت في مسجد رسول الله فلم يعطني أحد شيئاً، و كان علي راكعاً فأومأ إليه بخنصره اليمنى، و كان يتختّم فيها فأقبل السائل حتّى أخذ الخاتم من خنصره، و ذلك بعين النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

١٩

فلمّا فرغ من صلاته رفع رأسه إلى السماء و قال: اللّهمّ موسى سألك فقال: ربّ اشرح لي صدري، و يسّر لي أمري، و احلل عقدة من لساني يفقهوا قولي، و اجعل لي وزيراً من أهلي هارون أخي، اشدد به أزري، و أشركه في أمري. فأنزلت عليه قرآناً ناطقاً: سنشدّ عضدك بأخيك، و نجعل لكما سلطاناً فلا يصلون إليكما بآياتنا.

اللّهمّ و أنا محمّد نبيّك و صفّيك، اللّهمّ و اشرح لي صدري و يسّر لي أمري، و اجعل لي وزيراً من أهلي عليّاً اشدد به ظهري.

قال أبوذرّ: فما استتمّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الكلمة حتّى نزل عليه جبرئيل من عندالله تعالى فقال: يا محمّد اقرأ قال: و ما أقرأ قال: قال: اقرأ:( إنّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَ رَسُولُهُ وَ الّذينَ آمَنُوا الّذينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ راكِعُونَ ) .

و عن الجمع بين الصحاح الستّة، لزرّين من الجزء الثالث في تفسير سورة المائدة: قوله تعالى:( إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَ رَسُولُهُ ) (الآية) من صحيح النسائيّ عن ابن سلام: قال أتيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقلنا: إنّ قومنا حادّونا لما صدّقنا الله و رسوله، و أقسموا أن لا يكلّموننا فأنزل الله تعالى:( إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ راكِعُونَ ) (الآية).

ثمّ أذّن بلال لصلاة الظهر فقام الناس يصلّون فمن بين ساجد و راكع و سائل إذ سائل يسأل، و أعطى عليّ خاتمه و هو راكع فأخبر السائل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقرأ علينا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ راكِعُونَ وَ مَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَ رَسُولَهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغالِبُونَ )

و عن مناقب ابن المغازليّ الشافعيّ في تفسير قوله تعالى:( إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَ رَسُولُهُ ) (الآية) قال: أخبرنا محمّد بن أحمد بن عثمان قال: أخبرنا أبوبكر أحمد بن إبراهيم بن شاذان البزّاز إذناً قال: حدّثنا الحسن بن عليّ العدويّ قال: حدّثنا سلمة بن شبيب قال: حدّثنا عبدالرزّاق قال أخبرنا مجاهد عن ابن عبّاس في قوله تعالى:( إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ راكِعُونَ ) قال: نزلت في عليّ.

٢٠

و عنه قال: أخبرنا أحمد بن محمّد بن طاوان قال: أخبرنا أبوأحمد عمر بن عبدالله بن شوذب قال: حدّثنا محمّد بن العسكريّ الدقّاق قال: حدّثنا محمّد بن عثمان بن أبي شيبة قال: حدّثنا عبادة قال: حدّثنا عمر بن ثابت عن محمّد بن السائب عن أبي صالح، عن ابن عبّاس قال: كان عليّ راكعاً فجاءه مسكين فأعطاه خاتمه فقال رسول الله: من أعطاك هذا؟ فقال: أعطاني هذا الراكع فأنزل الله هذه الآية:( إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا ) (إلى آخر الآية).

و عنه قال: حدّثنا أحمد بن محمّد بن طاوان إذناً: أنّ أبا أحمد عمر بن عبدالله بن شوذب أخبرهم قال: حدّثنا محمّد بن جعفر بن محمّد العسكريّ قال: حدّثنا محمّد بن عثمان قال: حدّثنا إبراهيم بن محمّد بن ميمون قال: حدّثنا عليّ بن عابس قال: دخلت أنا و أبومريم على عبدالله بن عطاء، قال أبومريم: حدث عليّاً بالحديث الّذي حدّثتني عن أبي جعفر، قال: كنت عند أبي جعفر جالساً إذ مرّ عليه ابن عبدالله بن سلام قلت: جعلني الله فداك، هذا ابن الّذي عنده علم الكتاب؟ قال: لا و لكنّه صاحبكم عليّ بن أبي طالب الّذي اُنزلت فيه آيات من كتاب الله عزّوجلّ:( وَ مَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ، أَ فَمَنْ كانَ عَلى‏ بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَ يَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ، إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا ) (الآية).

و عن الخطيب الخوارزميّ في جواب مكاتبة معاوية إلى عمرو بن العاص قال عمرو بن العاص: لقد علمت يا معاوية ما أنزل في كتابه من الآيات المتلوّات في فضائله الّتي لا يشركه فيها أحد كقوله تعالى:( يُوفُونَ بِالنَّذْرِ، إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ راكِعُونَ، أَ فَمَنْ كانَ عَلى‏ بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَ يَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ وَ مِنْ قَبْلِهِ ) ، و قد قال الله تعالى:( رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ ) ، و قد قال الله تعالى لرسوله:( قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى)

و عنه بإسناده إلى أبي صالح عن ابن عبّاس قال: أقبل عبدالله بن سلام و معه نفر من قومه ممّن قد آمن بالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالوا: يا رسول الله إنّ منازلنا بعيدة، و ليس لنا مجلس و لا متحدّث دون هذا المجلس، و إنّ قومنا لما رأونا قد آمنّا بالله و رسوله

٢١

و قد صدّقناه رفضونا، و آلوا على أنفسهم أن لا يجالسونا و لا يناكحونا و لا يكلّمونا، و قد شقّ ذلك علينا فقال لهم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ راكِعُونَ ) .

ثمّ إنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خرج إلى المسجد و الناس بين قائم و راكع، و بصر بسائل، فقال له النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هل أعطاك أحد شيئاً؟ قال: نعم خاتم من ذهب، فقال له النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من أعطاكه؟ فقال: ذلك القائم - و أومأ بيده إلى عليّ بن أبي طالب - فقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : على أيّ حال أعطاك؟ قال: أعطاني و هو راكع، فكبّر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثمّ قرأ:( وَ مَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَ رَسُولَهُ (وَ الَّذِينَ آمَنُوا) فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغالِبُونَ ) فأنشأ حسّان بن ثابت يقول:

أبا حسن تفديك نفسي و مهجتي

و كلّ بطي‏ء في الهدى و مسارع

أ يذهب مدحي و المحبّين ضائعاً

و ما المدح في ذات الإله بضائع؟

فأنت الّذي أعطيت إذ كنت راكعاً

فدتك نفوس القوم يا خير راكع

بخاتمك الميـمون يا خير سيّد

و يا خير شار ثمّ يا خير بائع

فأنـزل فيك الله خير ولاية

و بيّنها في محكمات الشرائع

و عن الحموينيّ بإسناده إلى أبي هدبة إبراهيم بن هدبة قال: نبّأنا أنس بن مالك: أنّ سائلاً أتى المسجد و هو يقول: من يقرض المليّ الوفيّ؟ و عليّ راكع يقول بيده خلفه للسائل: أن اخلع الخاتم من يدي، قال: فقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا عمر وجبت، قال: بأبي و اُمّي يا رسول الله ما وجبت؟ قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : وجبت له الجنّة، و الله ما خلعه من يده حتّى خلعه من كلّ ذنب و من كلّ خطيئة.

و عنه بإسناده عن زيدبن عليّ بن الحسين عن أبيه عن جدّه قال: سمعت عمّار بن ياسر - رضي الله عنه - يقول: وقف لعليّ بن أبي طالب سائل و هو راكع في صلاة التطوّع فنزع خاتمه و أعطاه السائل، فأتى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأعلمه ذلك، فنزلت على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذه الآية:( إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ راكِعُونَ ) فقرأها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ثمّ قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من كنت مولاه فعليّ مولاه.

٢٢

و عن الحافظ أبي نعيم عن أبي الزبير عن جابر - رضي الله عنه - قال: جاء عبدالله بن سلام و أتى معه قوم يشكون مجانبة الناس إيّاهم منذ أسلموا فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أبغوا إلي سائلاً فدخلنا المسجد فدنا سائل إليه فقال له: أعطاك أحد شيئاً؟ قال: نعم مررت برجل راكع فأعطاني خاتمه، قال: فاذهب فأرني قال: فذهبنا فإذا عليّ قائم، فقال: هذا فنزلت:( إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَ رَسُولُهُ ) .

و عنه عن موسى بن قيس الحضرميّ عن سلمة بن كهيل قال: تصدّق عليّ بخاتمه و هو راكع فنزلت!( إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَ رَسُولُهُ ) (الآية).

و عنه عن عوف بن عبيد بن أبي رافع عن أبيه عن جدّه قال: دخلت على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و هو نائم إذ يوحى إليه و إذا حيّة في جنب البيت فكرهت أنّ أدخلها و اُوقظه فاضطجعت بينه و بين الحيّة فإن كان شي‏ء فيّ دونه، فاستيقظ و هو يتلو هذه الآية:( إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَ رَسُولُهُ ) قال: الحمد لله فأتى إلى جانبي فقال: ما اضطجعت ههنا؟ قلت: لمكان هذه الحيّة قال: قم إليها فاقتلها فقتلتها.

ثمّ أخذ بيدي فقال: يا أبارافع سيكون بعدي قوم يقاتلون عليّاً حقّ على الله جهادهم، فمن لم يستطع جهادهم بيده فبلسانه، فمن لم يستطع بلسانه فبقلبه ليس وراء ذلك.

أقول: و الروايات في نزول الآيتين في قصّة التصدّق بالخاتم كثيرة أخرجنا عدّة منها من كتاب غاية المرام للبحرانيّ، و هي موجودة في الكتب المنقول عنها، و قد اقتصرنا على ما نقل عليه من اختلاف اللحن في سرد القصّة.

و قد اشترك في نقلها عدّة من الصحابة كأبي ذرّ و ابن عبّاس و أنس بن مالك و عمّار و جابر و سلمة بن كهيل و أبي رافع و عمرو بن العاص، و عليّ و الحسين و كذا السجاد و الباقر و الصادق و الهادي و غيرهم من أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام .

و قد اتّفق على نقلها من غير ردّ أئمّة التفسير المأثور كأحمد و النسائيّ و الطبريّ و الطبرانيّ و عبد بن حميد و غيرهم من الحفّاظ و أئمّة الحديث و قد تسلّم ورود الرواية المتكلّمون، و أوردها الفقهاء في مسألة الفعل الكثير من بحث الصلاة، و في مسألة( هل

٢٣

تسمّى صدقة التطوّع زكاة) و لم يناقش في صحّة انطباق الآية على الرواية فحول الأدب من المفسّرين كالزمخشريّ في الكشّاف، و أبي حيّان في تفسيره، و لا الرواة النقلة و هم أهل اللسان.

فلا يعبأ بما ذكره بعضهم: أنّ حديث نزول الآية في قصّة الخاتم موضوع مختلق، و قد أفرط بعضهم كشيخ الإسلام ابن تيميّة فادّعى إجماع العلماء على كون الرواية موضوعة! و هي من عجيب الدعاوي، و قد عرفت ما هو الحقّ في المقام في البيان المتقدّم.

٢٤

( سورة المائدة الآيات ٥٧ - ٦٦)

يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتّخِذُوا الّذِينَ اتّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوا وَلَعِباً مِنَ الّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَالْكُفّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتّقُوا اللّهَ إِن كُنتُم مُؤْمِنِينَ( ٥٧) وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصّلاَةِ اتّخَذُوهَا هُزُواًوَلَعِباً ذلِكَ بِأَنّهُمْ قَوْمٌ لاَ يَعْقِلُونَ( ٥٨) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنّا إِلّا أَنْ آمَنّا بِاللّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِن قَبْلُ وَأَنّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ( ٥٩) قُلْ هَلْ أُنَبّئُكُم بِشَرّ مِن ذلِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللّهِ مَن لَعَنَهُ اللّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطّاغُوتَ أُولئِكَ شَرّ مَكَاناً وَأَضَلّ عَن سَوَاءِ السّبِيلِ( ٦٠) وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنّا وَقَد دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ( ٦١) وَتَرَى‏ كَثِيراً مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ( ٦٢) لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الرّبّانِيّونَ وَالْأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ( ٦٣) وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنّ كَثِيراً مِنْهُم مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى‏ يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلّمَا أَوْقَدُوا نَاراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً وَاللّهُ لاَ يُحِبّ الْمُفْسِدِينَ( ٦٤) وَلَوْ أَنّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتّقَوْا لَكَفّرْنَا عَنْهُمْ سَيّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنّاتِ النّعِيمِ( ٦٥) وَلَوْ أَنّهُمْ أَقَامُوا التّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِم مِن رَبّهِمْ لَأَكَلُوا مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ( ٦٦)

٢٥

( بيان)

الآيات تنهى عن اتّخاذ المستهزئين بالله و آياته من أهل الكتاب و الكفّار أولياء و تعدّ اُموراً من مساوي صفاتهم و نقضهم مواثيق الله و عهوده و ما يلحق بها بما يناسب غرض السورة (الحثّ على حفظ العهود و المواثيق و ذمّ نقضها).

و كأنّها ذات سياق متّصل واحد و إن كان من الجائز أن يكون لبعض أجزائها سبب مستقلّ من حيث النزول.

قوله تعالى: ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ ) إلخ قال الراغب: الهزؤ مزح في خفية، و قد يقال لما هو كالمزح (انتهى)، و قال: و لعب فلان إذا كان فعله غير قاصد به مقصداً صحيحاً، يلعب لعباً، (انتهى)، و إنّما يتّخذ الشي‏ء هزؤاً و يستهزئ به إذا اتّخذ به على وصف لا يعتنى بأمره اعتناء جدّ لإظهار أنّه ممّا لا ينبغي أن يلتفت إليه، و كذا الشي‏ء يلعب به إذا كان ممّا لا يتّخذ لواحد من الأغراض الصحيحة العقلائيّة إلّا أن يتّخذ لبعض الشؤون غير الحقيقيّة فالهزؤ بالدين و اللعب به إنّما هما لإظهار أنّه لا يعدل إلّا بعض الأغراض الباطلة غير الصحيحة و غير الجدّيّة، و لو قدّروه ديناً حقّاً أو قدّروا أنّ مشرّعه و الداعي إليه و المؤمنين به ذووا أقدام جدّ و صدق، و احترموا له و لهم مكانهم لما وضعوه ذاك الموضع فاتّخاذهم الدين هزؤاً و لعباً قضاءٌ منهم بأن ليس له من الواقعيّة و المكانة الحقيقيّة شي‏ء إلّا أن يؤخذ به ليمزح به أو ليلعب به لعباً.

و من هنا يظهرأوّلاً: أنّ ذكر اتّخاذهم الدين هزؤاً و لعباً في وصف من نهي عن ولايتهم إنّما هو للإشارة إلى علّة النهي فإنّ الولاية الّتي من لوازمها الامتزاج الروحيّ و التصرّف في الشؤون النفسيّة و الاجتماعيّة لا يلائم استهزاء الوليّ و لعبة بما يقدّسه وليّه و يحترمه و يراه أعزّ من كلّ شي‏ء حتّى من نفسه فمن الواجب أن لا يتّخذ من هذا شأنه وليّاً، و لا يلقي أزمّة التصرّف في الروح و الجسم إليه.

٢٦

و ثانياً: ما في اتّخاذ وصف الإيمان في الخطاب في قوله:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ) من المناسبة لمقابلته بقوله:( الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَ لَعِباً ) و كذلك ما في إضافة الدين إليهم في قوله:( دِينَكُمْ ) .

و ثالثاً: أنّ قوله:( وَ اتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) بمنزلة التأكيد لقوله:( لا تَتَّخِذُوا الّذينَ اتّخذوا دِينَكُمْ هُزُواً وَ لَعِباً ) إلخ، بتكراره بلفظ أعمّ و أشمل فإنّ المؤمن و هو الآخذ بعروة الإيمان لا معنى لأن يرضى بالهزئ و اللّعب بما آمن به فهؤلاء إن كانوا متلبّسين بالإيمان - أي كان الدين لهم ديناً - لم يكن لهم بدّ من تقوى الله في أمرهم أي عدم اتّخاذهم أولياء.

و من المحتمل أن يكون قوله:( وَ اتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) إشارة إلى ما ذكره تعالى من نحو قوله قبيل آيات:( وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ) و المعنى: و اتّقوا الله في اتّخاذهم أولياء إن لم تكونوا منهم، و المعنى الأوّل لعلّه أظهر.

قوله تعالى: ( وَ إِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً وَ لَعِباً ) إلخ تحقيق لما ذكر أنّهم يتّخذون دين الّذين آمنوا هزواً و لعباً، و المراد بالنداء إلى الصلاة الأذان المشروع في الإسلام قبل الصلوات المفروضة اليوميّة، و لم يذكر الأذان في القرآن الكريم إلّا في هذا الموضع - كما قيل -.

و الضمير في قوله:( اتَّخَذُوها ) راجع إلى الصلاة أو إلى المصدر المفهوم من قوله:( إِذا نادَيْتُمْ ) أعني المناداة، و يجوز في الضمير العائد إلى المصدر التذكير و التأنيث، و قوله:( ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ ) تذييل يجري مجرى الجواب عن فعلهم و بيان أنّ صدور هذا الفعل أعني اتّخاذ الصلاة أو الأذان هزواً و لعباً منهم إنّما هو لكونهم قوماً لا يعقلون فلا يسعهم أن يتحقّقوا ما في هذه الأركان و الأعمال العباديّة الدينيّة من حقيقة العبوديّة و فوائد القرب من الله، و جماع سعادة الحياة في الدنيا و العقبى.

قوله تعالى: ( قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللهِ ) (إلى آخر الآية) قال الراغب في مفردات القرآن: نقمت الشي‏ء (بالكسر) و نقمته (بالفتح) إذا أنكرته إمّا باللسان و إمّا بالعقوبة، قال تعالى:( وَ ما نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللهُ، وَ ما

٢٧

نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللهِ، هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا ) (الآية) و النقمة: العقوبة قال تعالى:( فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ ) انتهى.

فمعنى قوله:( هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا ) إلخ هل تنكرون أو تكرهون منّا إلّا هذا الّذي تشاهدونه و هو أنّا آمنّا بالله و ما أنزله و أنّكم فاسقون؟ نظير قول القائل: هل تكره منّي إلّا أنّي عفيف و أنّك فاجر، و هل تنكر منّي إلّا أنّي غنيّ و أنّك فقير؟ إلى غير ذلك من موارد المقابلة و الازدواج فالمعنى: هل تنكرون منا إلّا أنّا مؤمنون و أنّ أكثركم فاسقون.

و ربّما قيل: إنّ قوله:( وَ أَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ ) بتقدير لام التعليل و المعنى: هل تنقمون منّا إلّا لأنّ أكثركم فاسقون؟.

و قوله:( أَنْ آمَنَّا بِاللهِ وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَ ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ ) في معنى ما اُنزل إلينا و إليكم، و لم ينسبه إليهم تعريضاً بهم كأنّهم إذا لم يفوا بما عاهدوا الله عليه و لم يعملوا بما تأمرهم به كتبهم فكتبهم لم تنزل إليهم و ليسوا بأهلها.

و محصّل المعنى: أنّا لا نفرّق بين كتاب و كتاب ممّا أنزله الله على رسله فلا نفرّق بين رسله، و فيه تعريض لهم أنّهم يفرّقون بين رسل الله و يقولون:( نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَ نَكْفُرُ بِبَعْضٍ ) كما كانوا يقولون:( آمِنُوا بِالّذي أُنْزِلَ عَلَى الّذينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَ اكْفُرُوا آخِرَهُ ) ، قال تعالى:( إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَ رُسُلِهِ وَ يُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللهِ وَ رُسُلِهِ وَ يَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَ نَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا وَ أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً ) النساء: ١٥١.

قوله تعالى: ( قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللهِ مَنْ لَعَنَهُ اللهُ ) (إلى آخر الآية) ذكروا أنّ هذا أمر منه تعالى لنبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يخاطب اُولئك المستهزئين اللّاعبين بالدين على طريق التسليم أخذاً بالنصفة في التكليم ليلزمهم أنّهم إن نقموا من المؤمنين إيمانهم بالله و ما أنزله على رسله فعليهم أن ينقموا أنفسهم لأنّهم شرّ مكاناً و أضلّ عن سواء السبيل لابتلائهم باللعن الإلهيّ و المسخ بالقردة و الخنازير و عبادة الطاغوت فإذا لم ينقموا أنفسهم على ما فيهم من أسباب النقمة فليس لهم أن ينقموا من لم يبتل إلّا بما هو دونه في الشرّ، و هم المؤمنون في إيمانهم على تقدير تسليم أن يكون

٢٨

إيمانهم بالله و كتبه شرّاً، و لن يكون شرّاً.

فالمراد بالمثوبة مطلق الجزاء، و لعلّها استعيرت للعاقبة و الصفة اللازمة كما يستفاد من تقييد قوله:( بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً ) بقوله:( عِنْدَ اللهِ ) فإنّ الّذي عندالله هو أمر ثابت غير متغيّر و قد حكم به الله و أمر به، قال تعالى:( وَ ما عِنْدَ اللهِ باقٍ ) النحل: ٩٦، و قال تعالى:( لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ ) الرعد: ٤١، فهذه المثوبة مثوبة لازمة لكونها عندالله سبحانه.

و في الكلام شبه قلب، فإنّ مقتضى استواء الكلام أن يقال: إنّ اللعن و المسخ و عبادة الطاغوت شرّ من الإيمان بالله و كتبه و أشدّ ضلالاً، دون أن يقال: إنّ من لعنه الله و جعل منهم القردة و الخنازير و عبد الطاغوت شرّ مكاناً و أضلّ إلّا بوضع الموصوف مكان الوصف، و هو شائع في القرآن الكريم كقوله تعالى:( وَ لكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ ) (الآية).

و بالجملة فمحصّل المعنى أنّ إيماننا بالله و ما أنزله على رسله إن كان شرّاً عندكم فأنا اُخبركم بشرّ من ذلك يجب عليكم أن تنقموه و هو النعت الّذي فيكم.

و ربّما قيل: إنّ الإشارة بقوله:( ذلِكَ ) إلى جمع المؤمنين المدلول عليه بقوله:( هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا ) و على هذا فالكلام على استوائه من غير قلب، و المعنى هل اُنبّئكم بمن هو شرّ من المؤمنين لتنقموهم؟ و هم أنتم أنفسكم، و قد ابتليتم باللعن و المسخ و عبادة الطاغوت.

و ربّما قيل: إنّ قوله:( مِنْ ذلِكَ ) إشارة إلى المصدر المدلول عليه بقوله:( هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا ) أي هل اُنبّئكم بشر من نقمتكم هذه مثوبة و جزاءً؟ هو ما ابتليتم به من اللعن و المسخ و غير ذلك.

قوله تعالى: ( وَ إِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا وَ قَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَ هُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ ) (إلى آخر الآية) يشير تعالى إلى نفاق قلوبهم و إضمارهم ما لا يرتضيه الله سبحانه في لقائهم المؤمنين فقال: و إذا جاؤكم قالوا آمنّا أي أظهروا الإيمان و الحال أنّهم قد دخلوا عليكم مع الكفر و قد خرجوا من عندكم بالكفر أي هم على حالة واحدة عند

٢٩

الدخول و الخروج و هو الكفر لم يتغيّروا عنه و إنّما يظهرون الإيمان إظهاراً، و الحال أنّ الله يعلم ما كانوا يكتمونه سابقاً من الغدر و المكر.

فقوله:( وَ قَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَ هُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ ) في معنى قولنا: لم يتغيّر حالهم في الكفر، و الضمير في قوله:( هُمْ قَدْ خَرَجُوا ) جي‏ء به للتأكيد، و إفادة تمييزهم في الأمر و تثبيت الكفر فيهم.

و ربّما قيل: إنّ المعنى أنّهم متحوّلون في أحوال الكفر المختلفة.

قوله تعالى: ( وَ تَرى‏ كَثِيراً مِنْهُمْ يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَ الْعُدْوانِ وَ أَكْلِهِمُ السُّحْتَ ) (إلى آخر الآية)، الظاهر أنّ المراد بالإثم هو الخوض في آيات الدين النازلة على المؤمنين و القول في معارف الدين بما يوجب الكفر و الفسوق على ما يشهد به ما في الآية التالية من قوله:( عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَ أَكْلِهِمُ السُّحْتَ ) .

و على هذا فالاُمور الثلاثة أعني الإثم و العدوان و أكل السحت تستوعب نماذج من فسوقهم في القول و الفعل، فهم يقترفون الذنب في القول و هو الإثم القوليّ، و الذنب في الفعل و هو إمّا فيما بينهم و بين المؤمنين و هو التعدّي عليهم، و إمّا عند أنفسهم كأكلهم السحت، و هو الربا و الرشوة و نحو ذلك ثمّ ذمّ ذلك منهم بقوله:( لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ ) ثمّ أتبعه بتوبيخ الربّانيّين و الأحبار في سكوتهم عنهم و عدم نهيهم عن ارتكاب هذه الموبقات من الآثام و المعاصي و هم عالمون بأنّها معاص و ذنوب فقال:( لَوْ لا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَ الْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثمّ وَ أَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ ) .

و ربّما أمكن أن يستفاد من قوله:( عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَ أَكْلِهِمُ السُّحْتَ ) عند تطبيقه على ما في الآية السابقة:( يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَ الْعُدْوانِ وَ أَكْلِهِمُ السُّحْتَ ) حيث ترك العدوان في الآية الثانية أنّ الإثم و العدوان شي‏ء واحد، و هو تعدّي حدود الله سبحانه قولاً تجاه المعصية الفعليّة الّتي أنموذجها أكلهم السحت.

فيكون المراد بقوله:( يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَ الْعُدْوانِ وَ أَكْلِهِمُ السُّحْتَ ) إراءة سيّئة قوليّة منهم و هي الإثم و العدوان، و سيّئة اُخرى فعليّة منهم و هي أكلهم السحت.

٣٠

و المسارعة مبالغة في معنى السرعة و هي ضدّ البطء، و الفرق بين السرعة و العجلة على ما يستفاد من موارد استعمال الكلمتين أنّ السرعة أمسّ بعمل الأعضاء و العجلة بعمل القلب، نظير الفرق بين الخضوع و الخشوع، و الخوف و الخشية، قال الراغب في المفردات: السرعة ضدّ البطء، و يستعمل في الأجسام و الأفعال، يقال: سرع (بضم الراء) فهو سريع و أسرع فهو مسرع، و أسرعوا صارت إبلهم سراعاً نحو أبلدوا، و سارعوا و تسارعوا، انتهى.

و ربّما قيل: إنّ المسارعة و العجلة بمعنى واحد غير أنّ المسارعة أكثر ما يستعمل في الخير، و أنّ استعمال المسارعة في المقام - و إن كان مقام الذمّ و كانت العجلة أدلّ على الذمّ منها - إنّما هو للإشارة إلى أنّهم يستعملونها كأنّهم محقّون فيها، انتهى و لا يخلو عن بعد.

قوله تعالى: ( وَ قالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَ لُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ ) كانت اليهود لا ترى جواز النسخ في الأحكام الدينيّة، و لذا كانت لا تقبل بنسخ التوراة و تعيّر المسلمين بنسخ الأحكام، و كذا كانت لا ترى جواز البداء في القضايا التكوينيّة على ما يتراءى من خلال الآيات القرآنيّة كما تقدّم الكلام فيه في تفسير قوله تعالى:( ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها ) الآية البقرة: ١٠٦، في الجزء الأوّل من هذا الكتاب و في موارد اُخر.

و الآية أعني قوله تعالى:( وَ قالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ ) تقبل الانطباق على قولهم هذا غير أنّ ظاهر قوله تعالى جوابا عنهم:( بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ ) يأبى عن ذلك، و يدلّ على أنّهم إنّما تكلّموا بهذه الكلمة الأثيمة في شي‏ء من أمر الرزق إمّا في خصوص المؤمنين لما في عامّتهم من الفقر الشامل و العسرة و ضيق المعيشة، و أنّهم إنّما قالوا هذا القول استهزاءً بالله سبحانه إيماءً إلى أنّه لا يقدر على إغناء عباده المؤمنين به و إنجائهم من الفقر و المذلّة، لكنّ هذا الوجه لا يناسب وقوع الآية في سورة المائدة إن كانت نازلة في مطاوي سائر آياتها فإنّ المسلمين كانوا يوم نزولها على خصب من العيش و سعة من الرزق و رفاهية من الحال.

٣١

و إمّا أنّهم إنّما قالوها لجدب أو غلاء أصابهم فضاقت بذلك معيشتهم، و نكدت حالهم، و اختلّ نظام حياتهم، كما ربّما يظهر من بعض ما ورد في أسباب النزول، و هذا الوجه أيضاً يأباه سياق الآيات فإنّ الظاهر أنّ الآيات إنّما تتعرّض لشتات أوصافهم فيما يعود إلى عدوانهم و مكرهم بالنسبة إلى المسلمين نقمة منهم لا ما صدر منهم من إثم القول عند أنفسهم.

و إمّا أنّهم إنّما تفوّهوا بذلك لما سمعوا أمثال قوله تعالى:( مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً ) البقرة: ٢٤٥، و قوله تعالى:( وَ أَقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً ) المزمل: ٢٠، فقالوا: يد الله مغلولة لا يقدر على تحصيل ما ينفق في حوائجه لترويج دينه و إحياء دعوته. و قد قالوا ذلك سخريّة و استهزاءً على ما يظهر من بعض آخر ممّا ورد في أسباب النزول، و هذا الوجه أقرب إلى النظر.

و كيف كان فهذه النسبة أعني نسبة غلّ اليد و المغلوبيّة عند بعض الحوادث ممّا لا يأباه تعليمهم الدينيّ و الآراء الموجودة في التوراة فالتوراة تجوّز أن يكون الاُمور معجزاً لله سبحانه و صادّاً مانعاً له من إنفاذ بعض ما يريده من مقاصده كالأقوياء من الإنسان، يشهد بذلك ما تقصّه من قصص الأنبياء كآدم و غيره.

فعندهم من وجوه الاعتقاد ما يبيح لهم أن ينسبوا إليه تعالى ما لا يناسب ساحة قدسه و كبرياء ذاته جلتّ عظمته و إن كانت الكلمة إنّما صدرت منهم استهزاءً فإنّ لكلّ فعل مبادئ في الاعتقاد ينبعث إليه الإنسان منها و يتجرّأ بها.

و أمّا قوله:( غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَ لُعِنُوا بِما قالُوا ) فهو دعاء عليهم بعذاب مشابه لما نسبوا إليه تعالى من النقص غير المناسب لساحة قدسه، و هو مغلوليّة اليد و انسلاب القدرة على ما يحبّه و يشاؤه، و على هذا فقوله:( وَ لُعِنُوا بِما قالُوا ) عطف تفسير على قوله:( غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ ) فإنّ مغلوليّة أيديهم مصداق لعنة الله عليهم إذ القول من الله سبحانه فعل، و لعنه تعالى أحداً إنّما هو تعذيبه بعذاب إمّا دنيويّ أو اُخرويّ فاللعن هو العذاب المساوي لغلّ أيديهم أو الأعمّ منه و من غيره.

و ربّما احتمل كون قوله:( غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ ) إلخ إخباراً عن وقوع كلمة العذاب

٣٢

و هو جزاء اجترائهم على الله سبحانه بقولهم:( يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ ) عليهم، و الوجه الأوّل أقرب من الفهم.

و أمّا قوله:( بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ ) فهو جواب عن قولهم:( يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ ) مضروب في قالب الإضراب.

و الجملة أعني قوله:( يَداهُ مَبْسُوطَتانِ ) كناية عن ثبوت القدرة، و هو شائع في الاستعمال.

و إنّما قيل:( يَداهُ ) بصيغة التثنية مع كون اليهود إنّما أتوا في قولهم:( يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ ) بصيغة الإفراد ليدلّ على كمال القدرة كما ربّما يستفاد من نحو قوله تعالى:( قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ ) ص: ٧٥ لما فيه من الإشعار أو الدلالة على إعمال كمال القدرة، و نحو قولهم:( لا يدين بها لك) فإنّ ذلك مبالغة في نفي كلّ قدرة و نعمة.

و ربّما ذكروا لليد معاني مختلفة في اللغة غير الجارحة كالقدرة و القوّة و النعمة و الملك و غير ذلك، لكنّ الحقّ أنّ اللفظة موضوعة في الأصل للجارحة، و إنّما استعملت في غيرها من المعاني على نحو الاستعارة لكونها من الشؤون المنتسبة إلى الجارحة نوعاً من الانتساب كانتساب الإنفاق و الجود إلى اليد من حيث بسطها، و انتساب الملك إليها من حيث التصرّف و الوضع و الرفع و غير ذلك.

فما يثبته الكتاب و السنّة لله سبحانه من اليد يختلف معناه باختلاف الموارد كقوله تعالى:( بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ ) (الآية)، و قوله:( أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ) ص: ٧٥ يراد به القدرة و كمالها، و قوله:( بِيَدِكَ الْخَيْرُ ) آل عمران: ٢٦، و قوله:( فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْ‏ءٍ ) يس: ٨٣، و قوله:( تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ ) الملك: ١، إلى غير ذلك يراد بها الملك و السلطة، و قوله:( لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَ رَسُولِهِ ) الحجرات: ١ يراد بها الحضور و نحوه.

و أمّا قوله:( يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ ) فهو بيان لقوله:( يَداهُ مَبْسُوطَتانِ ) .

قوله تعالى: ( وَ لَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَ كُفْراً )

٣٣

هذه الجملة و ما يتلوها إلى آخر الآية كلام مسرود لتوضيح قوله:( وَ قالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَ لُعِنُوا بِما قالُوا ) على ما يعطيه السياق.

فأمّا قوله:( وَ لَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ) إلخ، فيشير إلى أنّ اجتراءهم على الله العظيم و تفوّههم بمثل قولهم:( يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ ) ليس من المستبعد منهم فإنّ القوم متلبّسون بالاعتداء و الكفر من قديم أيّامهم، و قد أورثهم ذلك البغي و الحسد، و لا يؤمن من هذه سجيّته إذا رأى أنّ الله فضّل غيره عليه بما لا يقدّر قدره من النعمة أن يزداد طغياناً و كفراً.

و اليهود كانت ترى لنفسها السيادة و التقدّم على الدنيا، و كانت تتسمّى بأهل الكتاب، و تتباهى بالربّانيّين و الأحبار، و تفتخر بالعلم و الحكمة، و تسمّي سائر الناس اُمّيّين، فإذا رأت قرآناً نازلاً على قوم كانت تتذلّل لعلمها و كتابها - كما كانت هي الحرمة المراعاة بينها و بين العرب في الجاهليّة - ثمّ أمعنت فيه فوجدته كتاباً إلهيّاً مهيمناً على ما تقدّم عليه من الكتب السماويّة، و مشتملاً على الحقّ الصريح و التعليم العالي و الهداية التامّة ثمّ أحسّت بما يتعقّبه من ذلّتها و استكانتها في نفس ما كانت تتعزّز و تتباهى به و هو العلم و الكتاب.

لا جرم تستيقظ من رقدتها، و تطغى عاديتها، و يزيد طغيانها و كفرها.

فنسبة زيادة طغيانهم و كفرهم إلى القرآن إنّما هي بعناية أنّ أنفسهم الباغية الحاسدة ثارت بالطغيان و الكفر بمشاهدة نزول القرآن و إدراك ما يتضمّنه من المعارف الحقّة و الدعوة الظاهرة.

على أنّ الله سبحانه ينسب الهداية و الإضلال في كتابه إلى نفسه كثيراً كقوله:( كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ وَ هَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَ ما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً ) الإسراء: ٢٠ و قال في خصوص القرآن:( وَ نُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَ رَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ لا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً ) الإسراء: ٨٢ و الإضلال أو ما يشبهه إنّما يعدّ مذموماً إذا كان إضلالاً ابتدائيّاً، و أمّا ما كان منه من قبيل الجزاء إثر فسق و معصية من الضالّ يوجب نزول السخط الإلهيّ عليه و يستدعي حلول ما هو أشدّ ممّا هو فيه من الضلال

٣٤

فلا ضير في الإضلال بهذا المعنى و لا ذمّ يلحقه كما يشير إليه قوله:( وَ ما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ ) البقرة: ٢٦، و قوله:( فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ ) الصفّ: ٥.

و بالأخرة يعود معنى زيادة القرآن طغيانهم و كفرهم إلى سلب التوفيق و عدم تعلّق العناية الإلهيّة بردّهم ممّا هم فيه من الطغيان و الكفر بآيات الله إلى التسليم و الإيمان بإجابة الدعوة الحقّة، و قد تقدّم البحث عن هذا المعنى في تفسير قوله تعالى:( وَ ما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ ) البقرة: ٢٦ في الجزء الأوّل من هذا الكتاب.

و لنرجع إلى أوّل الكلام فقوله:( وَ لَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ) إلخ، كأنّه مسوق لرفع الاستبعاد و التعجّب الناشئ من اجتراء هؤلاء المتسمّين بأهل الكتاب، و المدّعين أنّهم أبناؤ الله و أحبّاؤه على ربّهم بمثل هذه الكلمة المهينة المزرية: (يد الله مغلولة).

و إنّ من المحتوم اللّازم لهم هذه الزيادة في الطغيان و الكفر الّتي هذه الكلمة من آثارها و سيتلوها آثار بعد آثار مشوهة، و هذا هو المستفاد من التأكيد المدلول عليه بلام القسم و نون التأكيد في قوله:( لَيَزِيدَنَّ ) .

و في تعقيب الطغيان بالكفر من غير عكس جرى على الترتيب الطبعيّ فإنّ الكفر من آثار الطغيان و تبعاته.

قوله تعالى: ( وَ أَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَ الْبَغْضاءَ إِلى‏ يَوْمِ الْقِيامَةِ ) ضمير بينهم راجع إلى اليهود على ما هو ظاهر وقوع الجملة في سياق الكلام على اليهود خاصّة و إن كانت الآيات بدأت الكلام في أهل الكتاب عامّة، و على هذا فالمراد بالعداوة و البغضاء بينهم ما يرجع إلى الاختلاف في المذاهب و الآراء، و قد أشار الله سبحانه إليه في مواضع من كلامه كقوله:( وَ لَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَ الْحُكْمَ وَ النُّبُوَّةَ - إلى أن قال -فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ) الجاثية: ١٧ و غير ذلك من الآيات.

و العداوة كأنّ المراد بها البغض الّذي يستصحب التعدّي في العمل، و البغضاء هو مطلق ما في القلب من حالة النفار و إن لم يستعقب التعدّي في العمل فيفيد اجتماعهما معنى البغض الّذي يوجب الظلم على الغير و البغض الّذي يقصر عنه.

٣٥

و في قوله تعالى:( إِلى‏ يَوْمِ الْقِيامَةِ ) ما لا يخفى من الدلالة على بقاء اُمّتهم إلى آخر الدنيا.

قوله تعالى: ( كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ ) إيقاد النار إشعالها، و إطفاؤها إخمادها، و المعنى واضح، و من المحتمل أن يكون قوله:( كُلَّما أَوْقَدُوا ) إلخ بياناً لقوله:( وَ أَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ ) إلخ فيعود المعنى إلى أنّه كلّما أثاروا حرباً على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و المؤمنين أطفأها الله بإلقاء الاختلاف بينهم.

و الآية على ما يدلّ عليه السياق تسجّل عليهم خيبة المسعى في إيقاد النيران الّتي يوقدونها على دين الله سبحانه، و على المسلمين بما أنّهم مؤمنون بالله و آياته، و أمّا الحروب الّتي ربّما أمكن أن يوقدوا نارها لا لأمر الدين الحقّ بل لسياسة أو تغلّب جنسيّ أو ملّيّ فهي خارجة عن مساق الآية.

قوله تعالى: ( وَ يَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً وَ اللهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ) السعي هو السير السريع، و قوله:( فَساداً ) مفعول له أي يجتهدون لإفساد الأرض، و الله لا يحبّ المفسدين فلا يخلّيهم و أن ينالوا ما أرادوه من فساد الأرض فيخيب سعيهم، و الله أعلم.

فهذا كلّه بيان لكونهم غلّت أيديهم و لعنوا بما قالوا، حيث إنّهم غير نائلين ما قصدوه من إثارة الحروب على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و المسلمين، و ما اجتهدوا لأجله من فساد الأرض.

قوله تعالى: ( وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَ اتَّقَوْا لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ ) إلخ عود إلى حال أهل الكتاب عامّة كما كان بدأ الكلام فيهم عامّة، و ختم الكلام بتخليص القول في ما فاتهم من نعمة السعادة في الآخرة و الدنيا، و هي جنّة النعيم و نعمة الحياة السعيدة.

و المراد بالتقوى بعد الإيمان التورّع عن محارم الله و اتّقاء الذنوب الّتي تحتم السخط الإلهيّ و عذاب النار، و هي الشرك بالله و سائر الكبائر الموبقة الّتي أوعد الله عليها النار، فيكون المراد بالسيّئات الّتي وعد الله سبحانه تكفيرها الصغائر من الذنوب، و ينطبق على قوله سبحانه:( إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَ نُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيماً ) النساء: ٣١.

٣٦

قوله تعالى: ( وَ لَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَ الْإِنْجِيلَ وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ ) المراد بالتوراة و الإنجيل الكتابان السماويّان اللّذان يذكر القرآن أنّ الله أنزلهما على موسى و عيسىعليهما‌السلام دون ما بأيدي القوم من الكتب الّتي يذكر أنّه لعبت بها يد التحريف.

و الظاهر أنّ المراد بما اُنزل إليهم من ربّهم سائر الكتب المنسوبة إلى الأنبياء الموجودة عندهم كمزامير داود الّذي يسمّيه القرآن بالزبور، و غيره من الكتب.

و أمّا احتمال أن يكون المراد به القرآن فيبعّده أنّ القرآن نسخ بأحكامه شرائع التوراة و الإنجيل فلا وجه لعدّهما معه و تمنّي أن يكونوا أقاموهما مع القرآن الناسخ لهما، و القول بأنّ العمل بالقرآن عمل بهما أيضاً، كما أنّ العمل بالأحكام الناسخة في الإسلام عمل بمجموع شرائع الإسلام المتضمّنة للناسخ و المنسوخ جميعاً لكون دين الله واحداً لا يزاحم بعضه بعضاً، غاية الأمر أنّ بعض الأحكام مؤجّلة موقوتة من غير تناقض يدفعه أنّ الله سبحانه عبّر عن هذا العمل بالإقامة و هي حفظ الشي‏ء على ساق، و لا يلائم ذلك الأحكام المنسوخة بما هي منسوخة، فإقامة التوراة و الإنجيل إنّما يصحّ حين كانت الشريعتان لم تنسخا بشريعة اُخرى، و الإنجيل لم ينسخ شريعة التوراة إلّا في اُمور يسيرة.

على أنّ قوله تعالى:( وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ ) يعدّهم منزلاً إليهم، و غير معهود من كلامه تعالى أن يذكر أنّ القرآن نزل إليهم.

فالظاهر أنّ المراد بما اُنزل إليهم من ربّهم بعد التوراة و الإنجيل سائر الكتب و أقسام الوحي المنزلة على أنبياء بني إسرائيل كزبور داود و غيره، و المراد بإقامة هذه الكتب حفظ العمل العامّ بما فيها من شرائع الله تعالى، و الاعتقاد بما بيّن الله تعالى فيها من معارف المبدأ و المعاد من غير أن يضرب عليها بحجب التحريف و الكتمان و الترك الصريح، فلو أقاموها هذه الإقامة لأكلوا من فوقهم و من تحت أرجلهم.

٣٧

و أمّا قوله تعالى:( لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ ) فالمراد بالأكل التنعّم مطلقاً سواء كان بالأكل كما في مورد الأغذية أو بغيره كما في غيره، و استعمال الأكل في مطلق التصرّف و التنعّم من غير مزاحم شائع في اللغة.

و المراد من فوقهم هو السماء، و من تحت أرجلهم هو الأرض، فالجملة كناية عن تنعّمهم بنعم السماء و الأرض و إحاطة بركاتهما عليهم نظير ما وقع في قوله تعالى:( وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى‏ آمَنُوا وَ اتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ، وَ لكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ ) الأعراف: ٩٦.

و الآية من الدليل على أنّ لإيمان هذا النوع أعني نوع الإنسان و أعماله الصالحة تأثيراً في صلاح النظام الكونيّ من حيث ارتباطه بالنوع الإنسانيّ فلو صلح هذا النوع صلح نظام الدنيا من حيث إيفائه باللّازم لحياة الإنسان السعيدة من اندفاع النقم و وفور النعم.

و يدلّ على ذلك آيات اُخرى كثيرة في القرآن بإطلاق لفظها كقوله تعالى:( ظَهَرَ الْفَسادُ فِي البرّ وَ الْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الّذي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الّذينَ مِنْ قَبْلُ كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ ) الروم: ٤٢ و قوله تعالى:( وَ ما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ ) الشورى: ٣٠ إلى غير ذلك و قد تقدّم بعض ما يتعلّق به من الكلام في البحث عن أحكام الأعمال في الجزء الثاني من هذا الكتاب.

قوله تعالى: ( مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ ) الاقتصاد أخذ القصد و هو التوسّط في الاُمور فالاُمّة المقتصدة هي المعتدلة في أمر الدين و التسليم لأمر الله.

و الكلام مستأنف اُريد به بيان حال جميع ما نسب إليهم من التعدّي عن حدود الله و الكفر بآيات الله و نزول السخط و اللعن على جماعتهم أنّ ذلك كلّه إنّما تلبّس به أكثرهم و هو المصحّح لنسبة هذه الفظائع إليهم و أنّ منهم اُمّة معتدلة ليست على هذا النعت و هذا من نصفة الكلام الإلهيّ حيث لا يضيّع حقّاً من الحقوق و يراقب إحياء أمر الحقّ و إن كان قليلاً.

٣٨

و قد تعرّض لذلك أيضاً في مطاوي الآيات السابقة لكن لا بهذه المثابة من التصريح كقوله:( وَ أَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ ) و قوله:( وَ تَرى‏ كَثِيراً مِنْهُمْ يُسارِعُونَ ) إلخ و قوله:( وَ لَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ ربّك طُغْياناً وَ كُفْراً ً ) .

( بحث روائي‏)

في تفسير القمّيّ في قوله تعالى:( وَ إِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمنّا ) الآية قال: نزلت في عبدالله بن اُبيّ لما أظهر الإسلام و قد دخلوا بالكفر.

أقول: ظاهر السياق أنّها نازلة في أهل الكتاب لا في المنافقين إلّا أن تكون نزلت وحدها.

و فيه في قوله تعالى:( وَ هُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ ) الآية قال: قال: قد خرجوا به من الإيمان.

و في الكافي، بإسناده عن أبي بصير عن عمر بن رياح عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: قلت له: بلغني أنّك تقول: من طلّق لغير السنّة أنّك لا ترى طلاقه شيئاً؟ فقال أبوجعفرعليه‌السلام : ما أقول بل الله عزّوجلّ يقوله، أمّا و الله لو كنّا نفتيكم بالجور لكنّا شرّاً منكم! إنّ الله يقول:( لَوْ لا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَ الْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثمّ وَ أَكْلِهِمُ السُّحْتَ‏ ) .

و في تفسير العيّاشيّ، عن أبي بصير قال: قلت لأبي عبداللهعليه‌السلام : إنّ عمر بن رياح زعم أنّك قلت: لا طلاق إلّا ببيّنة؟ قال: فقال: ما أنا قلته بل الله تبارك و تعالى يقول: أمّا و الله لو كنّا نفتيكم بالجور لكنّا أشرّ منكم! إنّ الله يقول:( لَوْ لا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَ الْأَحْبارُ ) .

و في مجالس الشيخ، بإسناده عن ابن أبي عمير عن هشام بن سالم عن أبي عبداللهعليه‌السلام : في قول الله تعالى:( وَ قالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ ) فقال: كانوا يقولون: قد فرغ من الأمر.

٣٩

أقول: و روى هذا المعنى العيّاشيّ في تفسيره عن يعقوب بن شعيب و عن حمّاد عنهعليه‌السلام .

و في تفسير القمّيّ قال: قالوا: قد فرغ الله من الأمر لا يحدث غير ما قدّره في التقدير الأوّل، فردّ الله عليهم فقال:( بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ ) أي يقدّم و يؤخّر، و يزيد و ينقص و له البداء و المشيّة.

أقول: و روى هذا المعنى الصدوق في المعاني، بإسناده عن إسحاق بن عمّار عمّن سمعه عن الصادقعليه‌السلام .

و في تفسير العيّاشيّ، عن هشام المشرقيّ عن أبي الحسن الخراسانيّعليه‌السلام قال: إنّ الله كما وصف نفسه أحد صمد نور، ثمّ قال:( بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ ) فقلت له: أ فله يدان هكذا؟ - و أشرت بيدي إلى يده - فقال: لو كان هكذا كان مخلوقاً.

أقول: و رواه الصدوق في العيون، بإسناده عن المشرقيّ عنهعليه‌السلام .

و في المعاني، بإسناده عن محمّد بن مسلم قال: سألت جعفراًعليه‌السلام فقلت: قوله عزّوجلّ:( يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ) ؟ قال: اليد في كلام العرب القوّة و النعمة قال:( وَ اذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ، وَ السَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ - أي بقوّة -وَ إِنَّا لَمُوسِعُونَ ) قال:( وَ أَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ ) قال: أي قوّاهم، و يقال: لفلان عندي يد بيضاء أي نعمة.

و في تفسير القمّيّ في قوله تعالى:( وَ لَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَ الْإِنْجِيلَ ) (الآية): يعني اليهود و النصارى( لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ ) قال: قال: من فوقهم المطر، و من تحت أرجلهم النبات.

و في تفسير العيّاشيّ في قوله تعالى:( مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ ) (الآية) عن أبي الصهباء الكبرىّ قال: سمعت عليّ بن أبي طالب دعا رأس الجالوت و اُسقفّ النصارى فقال: إنّي سائلكما عن أمر و أنا أعلم به منكما فلا تكتما ثمّ دعا اُسقفّ النصارى فقال: اُنشدك بالله الّذي أنزل الإنجيل على عيسى، و جعل على رجله البركة، و كان يبرئ الأكمة و الأبرص، و أزال ألم العين، و أحيا الميّت، و صنع لكم من الطين طيوراً،

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401