الميزان في تفسير القرآن الجزء ٦

الميزان في تفسير القرآن9%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 401

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 401 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 84281 / تحميل: 7596
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ٦

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

الكونيّة عن الاستقلال في التأثير، فإلى أيّ مبلغ بلغ ركون الإنسان إلى القدرة المطلقة الإلهيّة انقادت له الأشياء على قدره، فافهم ذلك.

و من أجمع القول في هذا الشأن‏ قول الصادقعليه‌السلام : ما ضعف بدن عمّا قويت عليه النيّة، و قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الحديث المتواتر:( إنّما الأعمال بالنيّات) .

فقد تبيّن أنّ الآثار الدينيّة للأعمال و العبادات و كذلك آثار الرياضات و المجاهدات إنّما تستقرّ الرابطة بينها و بين النفس الإنسانيّة بشؤونها الباطنيّة، فالاشتغال بشي‏ء منها اشتغال بأمر النفس.

و من زعم أنّ رابطة السببيّة و المسبّبيّة إنّما هي بين أجساد هذه الأعمال و بين الغايات الاُخرويّة مثلاً من روح و ريحان و جنّة نعيم، أو بينها و بين الغايات الدنيويّة الغريبة الّتي لا تعمل الأسباب الطبيعيّة فيها، كالتصرّف في إدراكات النفوس و أنواع إرادتها و التحريكات من غير محرّك و الاطّلاع على الضمائر و الحوادث المستقبلة و الاتّصال بالروحانيّات و الأرواح و نحو ذلك، أو زعم أنّ العمل يستتبع الأثر من غير رابطة حقيقيّة أو بمجرّد إرادة إلهيّة من غير مخصّص فقد غرّ نفسه.

٦- إيّاك أن يشتبه عليك الأمر فتستنتج من الأبحاث السابقة أنّ الدين هو العرفان و التصوّف أعني معرفة النفس كما توهّمه بعض الباحثين من المادّيين فقسّم المسلك الحيويّ الدائر بين الناس إلى قسمين: المادّيّة و العرفان و هو الدين.

و ذلك أنّ الّذي يعقد عليه الدين أنّ للإنسان سعادة حقيقيّة ليس ينالها إلّا بالخضوع لما فوق الطبيعة و رفض الاقتصار على التمتّعات المادّيّة، و قد أنتجت الأبحاث السابقة: أنّ الأديان أيّاً مّا كانت من حقّ أو باطل تستعمل في تربية الناس و سوقهم إلى السعادة الّتي تعدّهم إيّاها و تدعوهم إليها إصلاح النفس و تهذيبها إصلاحاً و تهذيباً يناسب المطلوب، و أين هذا من كون عرفان النفس هو الدين؟

فالدين يدعو إلى عبادة الإله سبحانه من غير واسطة أو بواسطة الشفعاء و الشركاء لأنّ فيها السعادة الإنسانيّة و الحياة الطيّبة الّتي لا بغية للإنسان دونها، و لا ينالها الإنسان و لن ينالها إلّا بنفس طاهرة مطهّرة من ألواث التعلّق بالمادّيّات و التمتّعات المرسلة الحيوانيّة،

٢٠١

فمسّت الحاجة إلى أن يدرج في أجزاء دعوته إصلاح النفس و تطهيرها ليستعدّ المنتحل به المتربّي في حجره للتلبّس بالخير و السعادة، و لا يكون كمن يتناول الشي‏ء بإحدى يديه و يدفعه بالاُخرى، فالدين أمر و عرفان النفس أمر آخر وراءه، و إن استلزم الدين العرفان نوعاً من الاستلزام.

و بنظير البيان يتبيّن أنّ طرق الرياضة و المجاهدة المسلوكة لمقاصد متنوّعة غريبة عن العادة أيضاً غير عرفان النفس و إن ارتبط البعض بالبعض نحواً من الارتباط.

نعم لنا أن نقضي بأمر و هو أنّ عرفان النفس بأيّ طريق من الطرق فرض السلوك إليه إنّما هو أمر مأخوذ من الدين كما أنّ البحث البالغ الحرّ يعطي أنّ الأديان على اختلافها و تشتّتها إنّما انشعبت هذه الانشعابات من دين واحد عريق تدعو إليه الفطرة الإنسانيّة و هو دين التوحيد.

فإنّا إذا راجعنا فطرتنا الساذجة بالإغماض عن التعصّبات الطارئة علينا بالوراثة من أسلافنا أو بالسراية من أمثالنا، لم نرتب في أنّ العالم على وحدته في كثرته و ارتباط أجزائه في عين تشتّتها ينتهي إلى سبب واحد فوق الأسباب، و هو الحقّ الّذي يجب الخضوع لجانبه و ترتيب السلوك الحيويّ على حسب تدبيره و تربيته، و هو الدين المبنيّ على التوحيد.

و التأمّل العميق في جميع الأديان و النحل يعطي أنّها مشتملة نوع اشتمال على هذا الروح الحيّ حتّى الوثنيّة، و الثنويّة و إنّما وقع الاختلاف في تطبيق السنّة الدينيّة على هذا الأصل و الإصابة و الإخطاء فيه فمن قائل مثلاً: أنّه أقرب إلينا من حبل الوريد و هو معنا أينما كنّا ليس لنا من دونه من وليّ و لا شفيع فمن الواجب عبادته وحده من غير إشراك، و من قائل: إنّ تسفلّ الإنسان الأرضيّ و خسّة جوهره لا يدع له مخلصاً إلى الاتّصال بذاك الجناب، و أين التراب و ربّ الأرباب؟ فمن الواجب أن نتقرّب إلى بعض عباده المكرمين المتجرّدين عن جلباب المادّة الطاهرين المطهّرين من ألواث الطبيعة و هم روحانيّات الكواكب أو أرباب الأنواع أو المقرّبون من الإنسان و( ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) .

٢٠٢

و إذ كانوا غائبين عن حواسّنا متعالين عن جهاتنا كان من الواجب أن نجسدهم بالأنصاب و الأصنام حتّى يتمّ بذلك أمر التقرّب العباديّ، و على هذا القياس في سائر الأديان و الملل فلا نجد في متونها إلّا ما هو بحسب الحقيقة نحو توجيه لتوحيد الإله عزّ اسمه.

و من المعلوم أنّ السنن الدائرة بين الناس و إن انشعبت أيّ انشعاب فرض و اختلفت أيّ اختلاف شديد فإنّها تميل إلى التوحّد إذا رجعنا إلى سابق عهودها القهقرى، و تنتهي بالأخرة إلى دين الفطرة الساذجة الإنسانيّة و هو التوحيد فدين التوحيد أبو الأديان و هي أبناء له صالحة أو طالحة.

ثمّ إنّ الدين الفطريّ إنّما يعتبر أمر عرفان النفس ليتوصّل به إلى السعادة الإنسانيّة الّتي يدعو إليها و هي معرفة الإله الّتي هي المطلوب الأخير عنده، و بعبارة اُخرى الدين إنّما يدعو إلى عرفان النفس دعوة طريقيّة لا غائيّة فإنّ الذوق الدينيّ لا يرتضي الاشتغال بأمر إلّا في سبيل العبوديّة، و إنّ الدين عند الله الإسلام و لا يرضى لعباده الكفر فكيف يرضى بعرفان النفس إذا استقلّ بالمطلوبيّة؟.

و من هنا يظهر أنّ العرفان ينتهي إلى أصل الدين الفطريّ إذ ليس هو بنفسه أمراً مستقلّاً يدعو إليه الفطرة الإنسانيّة حتّى ينتهي فروعه و أغصانه إلى أصل واحد هو العرفان الفطريّ.

و يمكن أن يستأنس في ذلك بأمر آخر و هو أنّ الإنسانيّة و إن اندفعت بالفطرة إلى الاجتماع و المدنيّة لإسعاد الحياة، و أثبت النقل و البحث أنّ رجالاً أو أقواماً اجتماعيّين دعوا إلى طرائق قوميّة أو وضعوا سنناً اجتماعيّة، و أجروها بين أممهم كسنن القبائل و السنّة الملوكيّة و الديمقراطيّة و نحوها، و لم يثبت بنقل أو بحث أن يدعو إلى عرفان النفس و تهذيب أخلاقها أحد من غير أهل الدين في طول التاريخ البشريّ.

نعم من الممكن أن يكون بعض أصحاب هذه الطرق غير الدينيّة كأصحاب السحر و الأرواح و نحوهما إنّما تنبّه إلى هذا النوع من عرفان النفس من غير طريق الدين لكن لا من جهة الفطرة إذ الفطرة لا حكم لها في ذلك كما عرفت بل من جهة مشاهدة بعض

٢٠٣

الآثار النفسانيّة الغريبة على سبيل الاتّفاق فتتوق نفسه إلى الظفر بمنزلة نفسانيّة يملك بها أعمالاً عجيبة و تصرّفات في الكون نادرة تستغربها النفوس فيدفعه هذا التوقان إلى البحث عنه و السلوك إليه ثمّ السلوك بعد السلوك يمهّد السبيل إلى المطلوب و يسهّل الوعر منه.

٧- يحكى عن كثير من صلحائنا من أهل الدين أنّهم نالوا في خلال مجاهداتهم الدينيّة كرامات خارقة للعادة و حوادث غريبة اختصّوا بها من بين أمثالهم كتمثّل اُمور لأبصارهم غائبة عن أبصار غيرهم، و مشاهدة أشخاص أو وقائع لا يشاهدها حواسّ من دونهم من الناس، و استجابة للدعوة و شفاء المريض الّذي لا مطمع لنجاح المداواة فيه، و النجاة من المخاطر و المهالك من غير طريق العادة، و قد يتّفق نظائر ذلك لغير أهل الصلاح إذا كان ذا نيّة صادقة و نفس منقطعة، فهؤلاء يرون ما يرون و هم على غفلة من سببه القريب، و إنّما يسندون ذلك إلى الله سبحانه من غير توسيط وسط، و استناد الاُمور إليه تعالى، و إن كان حقّاً لا محيص عن الاعتراف به لكنّ نفي الأسباب المتوسّطة ممّا لا مطمع فيه.

و ربّما أحضر الرّوحيّ روح أحد من الناس في مرآة أو ماء و نحوه بالتصرّف في نفس صبيّ - على ما هو المتعارف - و هو كغيره يرى أنّ الصبيّ إنّما يبصره بالبصر الحسّيّ، و أنّ بين أبصار سائر الناظرين و بين الروح المحضر حجاباً مضروباً لو كشف عنه لكانوا مثل الصبيّ في الظفر بمشاهدته.

و ربّما وجدوا الأرواح المحضرة أنّها تكذب في أخبارها فيكون عجباً لأنّ عالم الأرواح عالم الطهارة و الصفاء لا سبيل للكذب و الفرية و الزور إليه.

و ربّما أحضروا روح إنسان حيّ فيستنطقونه بأسراره و ضمائره و صاحب الروح في حالة اليقظة مشغول بأشغاله و حوائجه اليوميّة لا خبر عنده من أنّ روحه محضر مستنطق يبثّ من القول ما لا يرضى هو ببثّه.

و ربّما نوّم الإنسان تنويماً مغناطيسيّاً ثمّ لقّن بعمل حتّى ينعم بقبوله فإذا أوقظ و مضى لشأنه أتى بالعمل الّذي لقّنه على الشريطة الّتي اُريد بها و هو غافل عمّا لقّنوه

٢٠٤

و عن إنعامه بقبوله.

و بعض الروحيّين لما شاهدوا صوراً روحيّة تماثل الصور الإنسانيّة أو صور بعض الحيوان ظنّوا أنّ هذه الصور في عالم المادّة و ظرف الطبيعة المتغيّرة، و خاصّة بعض من لا يرى لغير الأمر المادّيّ وجوداً، حتّى حاول بعض هؤلاء أن يخترع أدوات صناعيّة يصطاد بها الأرواح، كلّ ذلك استناداً منهم إلى فرضيّة افترضوها في النفس: أنّها مبدأ مادّيّ أو خاصّة لمبدإ مادّيّ يفعل بالشعور و الإرادة، مع أنّهم لم يحلّوا مشكلة الحياة و الشعور حتّى اليوم.

و نظير هذه الفرضيّة فرضيّة من يرى أنّ الروح جسم لطيف مشاكل للبدن العنصريّ في هيئاته و أشكاله لما وجدوا أنّ الإنسان يرى نفسه في المنام و هو على هيئته في اليقظة، و ربّما يمثّل لأرباب المجاهدات صور أنفسهم قبالاً خارج أبدانهم و هي مشاكلة للصورة البدنيّة مشاكلة تامّة، فحكموا أنّ الروح جسم لطيف حالّ في البدن العنصريّ ما دام الإنسان حيّاً فإذا فارق البدن كان هو الموت.

و قد فاتهم أنّ هذه صورة إدراكيّة قائمة بشعور الإنسان نظيرة صورته الّتي يدركها من بدنه، و نظيرة صور سائر الأشياء الخارجة المنفصلة عن بدنه، و ربّما تظهر هذه الصورة المنفصلة لبعض أرباب المجاهدة أكثر من واحدة أو في هيئة غير هيئة نفسه، و ربّما يرى نفسه عين نفس غيره من أفراد الناس، فإذا لم يحكموا في هذه الصور المذكور أنّها هي صورة الروح فجدير بهم أن لا يحكموا في الصورة الواحدة المشاكلة الّتي تتراءى لأرباب المجاهدات أنّها صورة الروح.

و حقيقة الأمر أنّ هؤلاء نالوا شيئاً من معارف النفس و فاتهم معرفة حقيقتها كما هي فأخطؤا في تفسير ما نالوه و ضلّوا في توجيه أمره، و الحقّ الّذي يهدي إليه البرهان و التجربة أنّ حقيقة النفس الّتي هي هذا الشعور المتعقّل المحكيّ عنه بقولنا( أنا) أمر مغاير في جوهره لهذه الاُمور المادّيّة كما تقدّم، و أنّ أقسام شعوره و أنواع إدراكاته من حسّ أو خيال أو تعقّل من جهة كونها مدركات إنّما هي متقرّرة في عالمه و ظرفه غير الخواصّ الطبيعيّة الحاصلة في أعضاء الحسّ و الإدراك من البدن فإنّها أفعال و انفعالات مادّيّة

٢٠٥

فاقدة في نفسها للحياة و الشعور، فهذه الاُمور المشهودة الخاصّة بالصلحاء و أرباب المجاهدات و الرياضات غير خارجة عن حيطة نفوسهم، و إنّما الشأن في أنّ هذه المعلومات و المعارف كيف استقرّت في النفس و أين محلّها منها؟ و أنّ للنفس سمة علّيّة لجميع الحوادث و الاُمور المرتبطة بها ارتباطاً مّا، فجميع هذه الاُمور الغريبة المطاوعة لأهل الرياضة و المجاهدة إنّما ترتضع من إرادتهم و مشيئتهم، و الإرادة ناشئة من الشعور، فللشعور الإنسانيّ دخل في جميع الحوادث المرتبطة به و الاُمور المماسّة له.

٨- فمن الحريّ أن نقسّم المشتغلين بعرفان النفس في الجملة إلى طائفتين: إحداهما المشتغلون بالاشتغال بإحراز شي‏ء من آثار النفس الغريبة الخارجة عن حومة المتعارف من الأسباب و المسبّبات المادّيّة، كأصحاب السحر و الطلسمات و أصحاب تسخير روحانيّات الكواكب و الموكّلين على الاُمور و الجنّ و أرواح الآدميّين و أصحاب الدعوات و العزائم و نحو ذلك.

و الثانية المشتغلون بمعرفة النفس بالانصراف عن الاُمور الخارجة عنها و الانجذاب نحوها للغور فيها و مشاهدة جوهرها و شؤونها كالمتصوّفة على اختلاف طبقاتهم و مسالكهم.

و ليس التصوّف ممّا أبدعه المسلمون من عند أنفسهم لما أنّه يوجد بين الاُمم الّتي تتقدّمهم في النشوء كالنصارى و غيرهم حتّى الوثنيّة من البرهمانيّة و البوذيّة، ففيهم من يسلك الطريقة حتّى اليوم بل هي طريقة موروثة ورثوها من أسلافهم.

لكن لا بمعنى الأخذ و التقليد العاديّ كوراثة الناس ألوان المدنيّة بعضهم من بعض و اُمّة منهم متأخّرة من اُمّة منهم متقدّمة كما جرى على ذلك عدّة من الباحثين في الأديان و المذاهب و ذلك لما عرفت في الفصول السابقة أنّ دين الفطرة يهدي إلى الزهد و الزهد يرشد إلى عرفان النفس فاستقرار الدين بين اُمّة و تمكّنه من قلوبهم يعدّهم و يهيّؤهم لأن تنشأ بينهم طريقة عرفان النفس لا محالة، و يأخذ بها بعض من تمّت في حقّه العوامل المقتضية لذلك، فمكث الحياة الدينيّة في اُمّة من الاُمم برهة معتدّاً بها ينشئ بينهم هذه الطريقة لا محالة صحيحة أو فاسدة و إن انقطعوا عن غيرهم من الاُمم الدينيّة كلّ الانقطاع، و ما هذا شأنه لا ينبغي أن يعدّ من السنن الموروثة الّتي يأخذها جيل عن جيل.

٢٠٦

٩- ثمّ ينبغي أن نقسّم أصحاب القسم الثاني من القسمين المتقدّمين و هم أهل العرفان حقيقة إلى طائفتين:

فطائفة منهم يسلكون الطريقة لنفسها فيرزقون شيئاً من معارفها من غير أن يتمّ لهم تمام المعرفة لها لأنّهم لما كانوا لا يريدون غير النفس فهم في غفلة عن أمر صانعها و هو الله عزّ اسمه الّذي هو السبب الحقّ الآخذ بناصية النفس في وجودها و آثار وجودها و كيف يسع الإنسان تمام معرفة شي‏ء مع الذهول عن معرفة أسباب وجوده و خاصّة السبب الّذي هو سبب كلّ سبب؟ و هل هو إلّا كمن يدّعي معرفة السرير على جهل منه بالنجّار و قدومه و منشاره و غرضه في صنعه إلى غير ذلك من علل وجود السرير؟.

و من الحريّ بهذا النوع من معرفة النفس أن يسمّى كهانة بما في ذيله من الحصول على شي‏ء من علوم النفس و آثارها.

و طائفة منهم يقصدون طريقة معرفة النفس لتكون ذريعة لهم إلى معرفة الربّ تعالى، و طريقتهم هذه هي الّتي يرتضيها الدين في الجملة و هي أن يشتغل الإنسان بمعرفة نفسه بما أنّها آية من آيات ربّه و أقرب آية، و تكون النفس طريقاً مسلوكاً و الله سبحانه هو الغاية الّتي يسلك إليها( وَ أَنَّ إِلى‏ رَبِّكَ الْمُنْتَهى) .

و هؤلاء طوائف مختلفة ذووا مذاهب متشتّتة في الاُمم و النحل، و ليس لنا كثير خبرة بمذاهب غير المسلمين منهم و طرائقهم الّتي يسلكونها، و أمّا المسلمون فطرقهم فيها كثيرة ربّما اُنهيت بحسب الاُصول إلى خمس و عشرين سلسلة، تنشعب من كلّ سلسلة منها سلاسل جزئيّة اُخر، و قد استندوا فيها إلّا في واحدة إلى عليّ عليه أفضل السلام، و هناك رجال منهم لا ينتمون إلى واحدة من هذه السلاسل و يسمّون الاُويسيّة (نسبة إلى اُويس القرنيّ) و هناك آخرون منهم لا يتسمّون باسم و لا يتظاهرون بشعار.

و لهم كتب و رسائل مسفورة ترجموا فيها عن سلاسلهم و طرقهم، و النواميس و الآداب الّتي لهم و عن رجالهم، و ضبطوا فيها المنقول من مكاشفاتهم، و أعربوا فيها عن حججهم و مقاصدهم الّتي بنوها عليها، من أراد الوقوف عليها فليراجعها. و أمّا البحث عن تفصيل الطرق و المسالك و تصحيح الصحيح و نقد الفاسد فله مقام آخر، و قد تقدّم في الجزء الخامس من هذا

٢٠٧

الكتاب بحث لا يخلو عن نفع في هذا الباب، فهذه خلاصة ما أردنا إيراده من البحث المتعلّق بمعنى معرفة النفس.

و اعلم أنّ عرفان النفس بغية عمليّة لا يحصل تمام المعرفة بها إلّا من طريق السلوك العمليّ دون النظريّ، و أمّا علم النفس الّذي دوّنه أرباب النظر من القدماء فليس يغني من ذلك شيئاً، و كذلك فنّ النفس العمليّ الّذي دوّنه المتأخّرون حديثاً فإنّما هو شعبة من فنّ الأخلاق على ما دوّنه القدماء، و الله الهادي.

٢٠٨

( سورة المائدة الآيات ١٠٦ - ١٠٩)

يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ الصّلاَةِ فَيُقْسِمَانِ باللّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لاَ نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى‏ وَلاَ نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللّهِ إِنّا إِذاً لَمِنَ الآثِمِينَ( ١٠٦) فَإِنْ عُثِرَ عَلَى‏ أَنّهُمَا اسْتَحَقّا إِثْماً فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الّذِينَ اسْتَحَقّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقّ مِن شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنّا إِذَاً لَمِنَ الظّالِمِينَ( ١٠٧) ذلِكَ أَدْنَى‏ أَن يَأْتُوا بِالشّهَادَةِ عَلَى‏ وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَن تُرَدّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتّقُوا اللّهَ وَاسْمَعُوا وَاللّهُ لاَيَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ( ١٠٨) يَوْمَ يَجْمَعُ اللّهُ الرّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لاَ عِلْمَ لَنَا إِنّكَ أَنْتَ عَلّامُ الْغُيُوبِ( ١٠٩)

( بيان)

الآيات الثلاث الأوّل في الشهادة، و الأخيرة لا تخلو عن اتّصال مّا بها بحسب المعنى.

قوله تعالى: ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ ) إلى آخر الآيتين، محصّل مضمون الآيتين أنّ أحدهم إذا كان على سفر فأراد أن يوصي فعليه أن يشهد حين الوصيّة شاهدين عدلين من المسلمين و إن لم يجد فشاهدين آخرين من غير المسلمين من أهل الكتاب فإن ارتاب أولياء الميّت في أمر الوصيّة يحبس الشاهدان بعد الصلاة فيقسمان بالله على صدقهما فيما يشهدان عليه و ترفع بذلك الخصومة، فإن اطّلعوا على أنّ الشاهدين كذبا في شهادتهما أو خانا في الأمر فيوقف شاهدان آخران مقام الشاهدين الأوّلين فيشهدان على خلافهما و يقسمان بالله على ذلك.

٢٠٩

فهذا ما تفيده الآيتان بظاهرهما فقوله:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ) خطاب للمؤمنين و الحكم مختصّ بهم( شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ ) أي شهادة بينكم ذوي عدل منكم ففي جانب الخبر مضاف مقدّر، أو شهداء بينكم ذوا عدل منكم، و المراد أنّ عدد الشهود اثنان فالمصدر - الشهادة - بمعنى اسم الفاعل كقولهم: رجل عدل و رجلان عدل.

و حضور الموت كناية عن حضور داعي الوصيّة فإنّ الناس بحسب الطبع لا يشتغلون بأمثال هذه الاُمور من غير حضور أمر يوجب الظنّ بالموت، و هو عادة المرض الشديد الّذي يشرف الإنسان به على الموت.

و قوله:( حِينَ الْوَصِيَّةِ ) ظرف متعلّق بالشهادة أي الشهادة حين الوصيّة، و المراد بالعدل - و هو مصدر - الاستقامة في الأمر، و قرينة المقام تعطي أنّ المراد به الاستقامة في أمر الدين، و يتعيّن بذلك أنّ المراد بقوله:( مِنْكُمْ ) و قوله:( مِنْ غَيْرِكُمْ ) المسلمون و غير المسلمين، دون القرابة و العشيرة فإنّ الله سبحانه قابل بين قوله:( اثْنانِ ) و قوله:( آخَرانِ ) ، ثمّ وصف الأوّل بقوله( ذَوا عَدْلٍ ) و قوله:( مِنْكُمْ ) و لم يصف الثاني إلّا بقوله:( مِنْ غَيْرِكُمْ ) دون أن يصفه بالعدالة، و الاتّصاف بالاستقامة في الدين و عدمه إنّما يختلف في المسلم و غير المسلم، و لا موجب لاعتبار العدالة في الشهود إذا كانوا قرابة أو من عشيرة المشهود له و إلغائها إذا كان الشاهد أجنبيّاً.

و على هذا فقوله:( أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ ) ترديد على سبيل الترتيب أي إن كان هناك نفر من المسلمين يستشهد اثنان منهم، و إن لم يكن إلّا من غير المسلمين يستشهد باثنين منهم، كلّ ذلك بالاستفادة من قرينة المقام.

و هذه القرينة بعينها هي الّتي توجب أن يكون قوله:( إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ ) قيداً متعلّقاً بقوله:( أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ ) فإنّ المسلم لما كان بالطبع إنّما يعيش في مجتمع المسلمين لا تمسّ الحاجة في الحضر عادة إلى الاستشهاد بشهيدين من غير المسلمين بخلاف حالة السفر و الضرب في الأرض فإنّها مظنّة وقوع أمثال هذه الوقائع و الاضطرار و مسيس الحاجة إلى الانتفاع من غير المسلم بشهادة أو غيرها.

٢١٠

و قرينة المقام أعني المناسبة بين الحكم و الموضوع بالذوق المتّخذ من كلامه تعالى تدلّ على أنّ المراد من غير المسلمين أهل الكتاب خاصّة لأنّ كلامه تعالى لا يشرّف المشركين بكرامة.

و قوله تعالى:( تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ ) أي توقفونهما، و الحبس الإيقاف،( فَيُقْسِمانِ بِاللهِ ) أي الشاهدان( إِنِ ارْتَبْتُمْ ) أي شككتم فيما يظهره الوصيّ من أمر الوصيّة أو المال الّذي تعلّقت به الوصيّة أو في كيفيّة الوصيّة، و المقسم عليه هو قوله:( لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَ لَوْ كانَ ذا قُرْبى‏ ) أي لا نشتري بالشهادة للوصيّ فيما يدّعيه ثمناً قليلاً و لو كان ذا قربى، و اشتراء الثمن القليل بالشهادة أن ينحرف الشاهد في شهادته عن الحقّ لغاية دنيويّة من مال أو جاه أو عاطفة قرابة فيبذل شهادته بإزاء ثمن دنيويّ، و هو الثمن القليل.

و ذكر بعضهم أنّ الضمير في قوله:( مُصِيبَةُ ) إلى اليمين أي لا نشتري بيميننا ثمناً قليلاً، و لازمه إجراء اليمين مرّتين و الآية بمعزل عن الدلالة على ذلك.

و قوله:( وَ لا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللهِ ) أي بالشهادة على خلاف الواقع( إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ ) الحاملين للإثم، و الجملة معطوفة على قوله:( لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً ) كعطف التفسير.

و إضافة الشهادة إلى الله في قوله:( شَهادَةَ اللهِ ) إمّا لأنّ الواقع يشهده الله سبحانه كما شهده الشاهدان فهو شهادته سبحانه كما هو شهادتهما و الله أحقّ بالملك فهو شهادته تعالى حقّاً و بالأصالة و شهادتهما تبعاً، و قد قال تعالى:( وَ كَفى‏ بِاللهِ شَهِيداً ) النساء: ٧٩ و قال تعالى:( وَ لا يُحِيطُونَ بِشَيْ‏ءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِما شاءَ ) البقرة: ٢٥٥.

و إمّا لأنّ الشهادة حقّ مجعول لله على عباده يجب عليهم أن يقيموها على وجهها من غير تحريف أو كتمان، و هذا كما يقال: دين الله، فينسب الدين إليه تعالى مع أنّ العباد هم المتلبّسون به، قال تعالى:( وَ أَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ ) الطلاق: ٣ و قال:( وَ لا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ ) البقرة: ٢٨٣.

و قوله:( فَإِنْ عُثِرَ عَلى‏ أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً ) العثور على الشي‏ء الحصول عليه و وجدانه، و هذه الآية بيان و تفصيل للحكم في صورة ظهور خيانة الشاهدين و كذبهما في شهادتهما.

٢١١

و المراد باستحقاق الإثم الاجرام و الجناية يقال: استحقّ الرجل أي أذنب، و استحقّ فلان إثماً على فلان كناية عن إجرامه و جنايته عليه و لذا عدّي بعلى في قوله تعالى ذيلاً:( اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ ) أي أجرما و جنيا عليهم بالكذب و الخيانة، و أصل معنى قولنا: استحقّ الرجل طلب أن يحقّ و يثبت فيه الإثم أو العقوبة فاستعماله الكنائيّ من قبيل إطلاق الطلب و إرادة المطلوب و وضع الطريق موضع الغاية، و إنّما ذكر الإثم في قوله:( اسْتَحَقَّا إِثْماً ) بالبناء على ما تقدّم في قوله:( إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ ) .

و قوله تعالى:( فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما ) أي إن عثر على أنّ الشاهدين استحقّا بالكذب و الخيانة فشاهدان آخران يقومان مقامهما في اليمين على شهادتهما عليهما بالكذب و الخيانة.

و قوله:( مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ ) في موضع الحال أي حال كون هذين الجديدين من الّذين استحقّ عليهم أي أجرم و جنى عليهم الشاهدان الأوّلان اللّذين هما الأوليان الأقربان بالميّت من جهة الوصيّة كما ذكره الرازيّ في تفسيره، و المراد بالّذين استحقّ عليهم الأوليان أولياء الميّت، و حاصل المعنى أنّه إن عثر على أنّ الشاهدين أجرما على أولياء الميّت بالخيانة و الكذب فيقوم شاهدان آخران من أولياء الميّت الّذين أجرم عليهم الشاهدان الأوّلان الأوليان بالميّت قبل ظهور استحقاقهما الإثم.

هذا على قراءة( اسْتَحَقَّ ) بالبناء للفاعل و هو قراءة عاصم على رواية حفص، و أمّا على قراءة الجمهور( اسْتَحَقَّ ) بضمّ التاء و كسر الحاء بالبناء للمفعول فظاهر السياق أن يكون الأوليان مبتدأ خبره قوله:( فَآخَرانِ يَقُومانِ ) إلخ، قدم عليه لتعلّق العناية به، و المعنى إن عثر على أنّهما استحقّا إثماً فالأوليان بالميّت هما آخران يقومان مقامهما من أوليائه المجرم عليهم.

و في قراءة عاصم من طريق أبي بكر و حمزة و خلف و يعقوب( الأوّلين) جمع الأوّل مقابل الآخر، و هو بظاهره بمعنى الأولياء و المقدّمين، وصف أو بدل من قوله:( الَّذِينَ ) .

و قد ذكر المفسّرون في تركيب أجزاء الآية وجوهاً كثيرة جدّاً لو ضرب بعضها

٢١٢

في بعض للحصول على معنى تمام الآية ارتقت إلى مئين من الصور، و قد ذكر الزجّاج فيما نقل عنه: أنّها أشكل آية في كتاب الله من حيث التركيب.

و الّذي أوردناه من المعنى هو الظاهر من سياق اللّفظ من غير تعسّف في الفهم، و أضربنا عن استقصاء ما ذكروه من المحتملات لأنّ تكثيرها لا يزيد اللّفظ إلّا إبهاماً، و لا الباحث إلّا حيرة(١) .

و قد فرّع على قوله:( فَآخَرانِ يَقُومانِ ) ، إلخ تفريع الغاية على ذي الغاية قوله:( فَيُقْسِمانِ بِاللهِ ) أي الشاهدان الآخران من أولياء الميّت( لَشَهادَتُنا ) بما يتضمّن كذبهما و خيانتهما( أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما ) أي من شهادة الشاهدين الأوّلين بما يدّعيان من أمر الوصيّة( وَ مَا اعْتَدَيْنا ) عليهما بالشهادة على خلاف ما شهدا عليه( إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ ) .

قوله تعالى: ( ذلِكَ أَدْنى‏ أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى‏ وَجْهِها أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ ) الآية في مقام بيان حكمة التشريع و هي أنّ هذا الحكم على الترتيب الّذي قرّره الله تعالى أحوط طريق إلى حيازة الواقع في المقام، و أقرب من أن لا يجور الشاهدان في شهادتهما و يخافا من أن يتغيّر الأمر عليهما بردّ شهادتهما بعد قبولها.

فإنّ الإنسان ذو هوى يدعوه إلى التمتّع بكلّ ما يسعه التمتّع به و القبض على كلّ ما يتهوسّه إذا لم يكن هناك مانع يصرفه عنه سواء كان ذلك منه عن حقّ يستحقّه أو جوراً، عدلاً أو ظلماً و تعدّياً على غيره بإبطال حقّه و الغلبة عليه، و إنّما ينصرف الإنسان عن هذا التعدّي و التجاوز إمّا لمانع يمنعه من خارج بسياسة أو عقوبة أو فضيحة، و إمّا لرادع يردعه من نفسه و أقوى رادع نفسانيّ هو الاعتقاد بالله الّذي إليه مرجع العباد و حساب الأعمال و القضاء الفصل و الجزاء المستوفى.

و إذا كان الواقع من أمر الوصيّة بحسب فرض المقام مجهولاً لا طريق إلى كشفه إلّا شهادة من أشهدهما الميّت من الشاهدين فأقوى ما يقرّب شهادتهما من الصدق أن يؤخذ في ذلك بأيمانهما بالله تعالى و هو اليمين، و أن يردّ اليمين إلى الورثة الأولياء مع يمينهما

____________________

(١) و على من يريد الاطّلاع عليها أن يراجع الجزء السابع من تفسير روح المعاني للالوسي و مجمع البيان و تفسير الرازيّ و سائر المطولات.

٢١٣

على تقدير انكشاف كذبهما و خيانتهما عند الورثة، فهذان أعني يمينهما أوّلاً ثمّ ردّ اليمين إلى الورثة أقرب وسيلة إلى صدقهما في شهادتهما و خوفهما فضيحة ردّ اليمين، و الرادعان أقوى ما يردعهما من الانحراف.

ثمّ عقّب تعالى القول بالموعظة و الإنذار فقال:( وَ اتَّقُوا اللهَ وَ اسْمَعُوا وَ اللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ ) و المعنى واضح.

قوله تعالى: ( يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ما ذا أُجِبْتُمْ قالُوا لا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ ) الآية لا تأبى الاتّصال بما قبلها فإنّ ظاهر قوله تعالى في ذيل الآية السابقة:( وَ اتَّقُوا اللهَ وَ اسْمَعُوا ) ، إلخ و إن كان مطلقاً لكنّه بحسب الانطباق على المورد نهي عن الانحراف و الجور في الشهادة و الاستهانة بأمر اليمين بالله فناسب أن يذكّر في المقام بما يجري بينه سبحانه و بين رسله يوم القيامة و هم شهداء على اُممهم و أفضل الشهداء، حيث يسألهم الله سبحانه عن الّذي أجابهم به اُممهم و هم أعلم الناس بأعمال اُممهم و الشاهدون من عند الله عليهم فيجيبونه بقولهم:( لا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ ) .

فإذا كان الأمر على هذه الوتيرة، و كان الله سبحانه هو العالم بكلّ شي‏ء حقّ العلم فجدير بالشهود أن يخافوا مقام ربّهم: و لا ينحرفوا عن الحقّ الّذي رزقهم الله العلم به، و لا يكتموا شهادة الله فيكونوا من الآثمين و الظالمين و الفاسقين.

فقوله تعالى:( يَوْمَ يَجْمَعُ ) ، إلخ ظرف متعلّق بقوله في الآية السابقة:( وَ اتَّقُوا اللهَ ) ، إلخ و ذكر جمع الرسل دون أن يقال:( يوم يقول الله للرسل) لمكان مناسبة مع جمع الشهداء للشهادة كما يشعر به قوله:( تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمانِ بِاللهِ ) .

و أمّا نفيهم العلم يومئذ عن أنفسهم بقولهم:( لا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ ) فإثباتهم جميع علوم الغيوب لله سبحانه على وجه الحصر يدلّ على أنّ المنفيّ ليس أصل العلم فإنّ ظاهر قولهم:( إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ ) يدلّ على أنّه لتعليل النفي، و من المعلوم أنّ انحصار جميع علوم الغيب في الله سبحانه لا يقتضي رفع كلّ علم عن غيره و خاصّة إذا كان علماً بالشهادة، و المسؤل عنه أعني كيفيّة إجابة الناس لرسلهم من قبيل الشهادة دون الغيب.

٢١٤

فقولهم:( لا عِلْمَ لَنا ) ليس نفياً لمطلق العلم بل لحقّ العلم الّذي لا يخلو عن التعلّق بالغيب فإنّ من المعلوم أنّ العلم إنّما يكشف لعالمه من الواقع على قدر ما يتعلّق بأمر من حيث أسبابه و متعلّقاته، و الواقع في العين مرتبط بجميع أجزاء الخارج ممّا يتقدّم على الأمر الواقع في الخارج و ما يحيط به ممّا يصاحبه زماناً فالعلم بأمر من الاُمور الخارجيّة بحقيقة معنى العلم لا يحصل إلّا بالإحاطة بجميع أجزاء الوجود ثمّ بصانعه المتعالي من أن يحيط به شي‏ء، و هذا أمر وراء الطاقة الإنسانيّة.

فلم يرزق الإنسان من العلم في هذا الكون الّذي يبهته التفكير في سعة ساحته، و تهوّله النظرة في عظمة أجرامه و مجرّاته، و يطير لبّه الغور في متون ذرّاته، و يأخذه الدوار إذا أراد الجري بين هاتين الغايتين إلّا اليسير من العلم على قدر ما يحتاج إليه في مسير حياته كالشمعة الصغيرة يحملها طارق الليل المظلم لا ينتفع من نورها إلّا أن يميّز ما يضع عليه قدمه من الأرض.

فما يتعلّق به علم الإنسان ناشب بوجوده متعلّق بواقعيّته بأطراف ثمّ بأطراف أطراف و هكذا كلّ ذلك في غيب من إدراك الإنسان فلا يتعلّق العلم بحقيقة معنى الكلمة بشي‏ء إلّا إذا كان متعلّقاً بجميع الغيوب في الوجود، و لا يسع ذلك لمخلوق محدود مقدّر إنساناً أو غيره إلّا لله الواحد القهّار الّذي عنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلّا هو، قال الله تعالى:( وَ اللهُ يَعْلَمُ وَ أَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) البقرة: ٢١٦ فدلّ على أنّ من طبع الإنسان الجهل فلا يرزق من العلم إلّا محدوداً مقدّراً كما قال تعالى:( وَ إِنْ مِنْ شَيْ‏ءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَ ما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ ) الحجر: ٢١ و هو قولهعليه‌السلام : حيث سئل عن علّة احتجاب الله عن خلقه فقال: لأنّه بناهم بنية على الجهل‏، و قال تعالى:( وَ لا يُحِيطُونَ بِشَيْ‏ءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِما شاءَ ) البقرة: ٢٥٥ فدلّ على أنّ العلم كلّه لله، و إنّما يحيط منه الإنسان بما شاء الله، و قال تعالى:( وَ ما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا ) الإسراء: ٨٥ فدلّ على أنّ هناك علماً كثيراً لم يؤت الإنسان إلّا قليلاً منه.

فإذن حقيقة الأمر أنّ العلم حقّ العلم لا يوجد عند غير الله سبحانه، و إذ كان يوم القيامة يوماً يظهر فيه الأشياء بحقائقها على ما تفيده الآيات الواصفة لأمره فلا مجال فيه

٢١٥

إلّا للكلام الحقّ كما قال تعالى:( لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَ قالَ صَواباً، ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ ) النبأ: ٣٩ كان من الجواب الحقّ إذا ما سئل الرسل فقيل لهم:( ما ذا أُجِبْتُمْ ) أن يجيبوا بنفي العلم عن أنفسهم لكونه من الغيب، و يثبتوه لربّهم سبحانه بقولهم:( لا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ ) .

و هذا الجواب منهمعليهم‌السلام نحو خضوع لحضرة العظمة و الكبرياء و اعتراف بحاجتهم الذاتيّة و بطلانهم الحقيقيّ قبال مولاهم الحقّ رعاية لأدب الحضور و إظهاراً لحقيقة الأمر، و ليس جواباً نهائيّاً لا جواب بعده البتّة:

أمّا أوّلاً فلأنّ الله سبحانه جعلهم شهداء على اُممهم كما ذكره في قوله:( فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَ جِئْنا بِكَ عَلى‏ هؤُلاءِ شَهِيداً ) النساء: ٤١ و قال:( وَ وُضِعَ الْكِتابُ وَ جِي‏ءَ بِالنَّبِيِّينَ وَ الشُّهَداءِ ) الزمر: ٦٩ و لا معنى لجعلهم شهداء إلّا ليشهدوا على اُممهم يوم القيامة بما هو حقّ الشهادة يومئذ، فلا محالة هم سيشهدون يومئذ كما قدّر الله ذلك فقولهم يومئذ:( لا عِلْمَ لَنا ) جري على الأدب العبوديّ قبال الملك الحقّ الّذي له الأمر و الملك يومئذ، و بيان لحقيقة الحال و هو أنّه هو يملك العلم لذاته و لا يملك غيره إلّا ما ملّكه، و لا ضير أن يجيبوا بعد هذا الجواب بما لهم من العلم الموهوب المتعلّق بأحوال اُممهم، و هذا ممّا يؤيّد ما قدّمناه في البحث عن قوله تعالى:( وَ كَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ ،) الآية: البقرة: ١٤٣ في الجزء الأوّل من هذا الكتاب: أنّ هذا العلم و الشهادة ليسا من نوع العلم و الشهادة المعروفين عندنا و أنّهما من العلم المخصوص بالله الموهوب لطائفة من عباده المكرمين.

و أمّا ثانياً فلأنّ الله سبحانه أثبت العلم لطائفة من مقرّبي عباده يوم القيامة على ما له من الشأن، قال تعالى:( وَ قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَ الْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللهِ إِلى‏ يَوْمِ الْبَعْثِ ) الروم: ٥٦ و قال تعالى:( وَ عَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيماهُمْ ) الأعراف: ٤٦ و قال تعالى:( وَ لا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ ) الزخرف: ٨٧ و عيسى بن مريمعليه‌السلام ممّن تعمّه الآية و هو رسول فهو ممّن يشهد بالحقّ و هم يعلمون، و قال تعالى:( وَ قالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي

٢١٦

اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً ) الفرقان: ٣١ و المراد بالرسول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و الّذي تحكيه الآية من قوله هو بعينه جواب لما تشتمل عليه هذه الآية من السؤال أعني قوله تعالى:( فَيَقُولُ ما ذا أُجِبْتُمْ ) فظهر أنّ قول الرسلعليهم‌السلام :( لا علم لنا) ليس جواباً نهائيّاً كما تقدّم.

و أمّا ثالثاً فلأنّ القرآن يذكر السؤال عن المرسلين و المرسل إليهم جميعاً كما قال تعالى:( فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَ لَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ ) الأعراف: ٦ ثمّ ذكر عن الاُمم المرسل إليهم جوابات كثيرة عن سؤالات كثيرة، و الجواب يستلزم العلم كما أنّ السؤال يقرّره، و قال أيضاً فيهم:( لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ) ق: ٢٢، و قال أيضاً:( وَ لَوْ تَرى‏ إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَ سَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ ) السجدة: ١٢ إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة، و إذا كانت الاُمم - و خاصّة المجرمون منهم - على علم في هذا اليوم فكيف يتصوّر أن يعدمه الرسل الكرامعليهم‌السلام فالمصير إلى ما قدّمناه.

( كلام في معنى الشهادة)

الاجتماع المدنيّ الدائر بيننا و التفاعل الواقع في عامّة جهات الحياة الأرضيّة بين قوانا الفعّالة يسوقنا - و لا محيص - إلى أنواع الاختلافات و الخصومات فالّذي يختصّ بالتمتّع به أحدنا ربّما أحبّ الآخر أن يشاركه فيه أو يختصّ به هو مكانه فتاقت إليه نفسه و نازعته في ذلك فأدّى إلى تنبّه الإنسان لوجوب اعتبار القضاء و الحكم ليرتفع به هذه الخصومات.

و أوّل ما يحتاج إليه القضاء أن تحفظ القضايا و الوقائع على النحو الّذي وقعت و تضبط ضبطاً لا يتطرّق إليه التغيّر و التبدّل ليقع عليه قضاء القاضي، هذا ممّا لا شكّ فيه.

و يتأتّى ذلك بأن يستشهد على الواقعة بأن يطّلع عليها إنسان فيتحمّلها ثمّ يؤدي

٢١٧

ما تحمّله عند اللزوم و الاقتضاء أو يضبط بوجه آخر كالكتابة أو أدوات اُخر معمولة لذلك اهتدى الإنسان إلى التوصّل بها.

و تفارق الشهادة سائر أسباب الحفظ و الضبطأوّلاً بأنّ غير الشهادة من الأسباب اُمور غير عامّة فإنّ أعمّها و أعرفها الكتابة و هي لم تستوعب الإنسانيّة حتّى اليوم فكيف بغيرها و هذا بخلاف الشهادة و التحمّل.

و ثانياً بأنّ الشهادة و هو البيان اللسانيّ من نفس الشاهد عن تحمّله و حفظه أبعد من عروض الخلل و أمنع جانباً من طروّ أنواع الآفات بالقياس إلى الكتابة و غيره من أسباب الحفظ و الضبط.

و لذلك نرى أنّ الشهادة لا تتجافى عن اعتبارها اُمّة من الاُمم في مجتمعاتهم على اختلافها الفاحش في السنن الاجتماعيّة و السلائق القوميّة و الملّيّة و التقدّم و التأخّر في الحضارة و التوحّش، فهي لا تخلو عن اعتبار مّا عندهم.

و الاعتبار فيها بالواحد من القوم المعدود فرداً من الاُمّة و جزءاً من الجماعة، و لذلك لا يعبأ بشهادة الصبيّ غير المميّز و لا بشهادة المجنون الّذي لا يدري ما يقول مثلاً، و لذلك أيضاً لا يعبأ بعض الاُمم الهمجيّة بشهادة النسوان لما لم يعدّوا المرأة جزءً من المجتمع، و على ذلك كانت تجري أغلب السنن الاجتماعيّة في الاُمم القديمة كالروم و اليونان و غيرهم.

و الإسلام و هو دين الفطرة يعتبر الشهادة و يعطيها وحدها من بين سائر الأسباب الحجّيّة، و أمّا سائر الأسباب فلا عبرة بها إلّا مع إفادة العلم، قال تعالى:( وَ أَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ ) الطلاق: ٢ و قال تعالى:( وَ لا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَ مَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ ) البقرة: ٢٨٣ و قال تعالى:( وَ الَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ ) المعارج: ٣٣.

و قد اعتبر الإسلام في عامّة الموارد غير مورد الزنا من العدد في الشهداء اثنين لتأييد أحدهما الآخر قال تعالى:( وَ اسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَ امْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى‏ وَ لا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا وَ لا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى‏ أَجَلِهِ ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ

٢١٨

وَ أَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَ أَدْنى‏ أَلَّا تَرْتابُوا ) البقرة: ٢٨٢، فأفاد أنّ ما بيّنته الآية و اعتبرته من أحكام الشهادة - و منها ضمّ الواحد إلى آخر ليكونا اثنين - أكثر مطابقة للقسط و قيام الشهادة و رفع الريب.

ثمّ لما كان الإسلام في تشخيصه فرد المجتمع و بعبارة اُخرى في اعتباره الواحد الّذي يتكوّن منه المجتمع الإنسانيّ يعدّ المرأة جزءاً مشمولاً للحكم أشركها مع الرجل في إعطاء حقّ إقامة الشهادات إلّا أنّه لما اعتبر في المجتمع الّذي كونه أن يكون مبنيّاً على التعقّل دون العواطف و المرأة إنسان عاطفي أعطاها من الحقّ و الوزن نصف ما للرجل، فشهادة امرأتين اثنتين تعدل شهادة رجل واحد كما يشير إليه قوله تعالى في الآية السابقة:( أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى) ، و قد مرّ في الجزء الرابع من هذا الكتاب من الكلام في حقوق المرأة في الإسلام ما ينفع في المقام، و للشهادة أحكام كثيرة فرعيّة مبسوطة في الفقه خارجة من غرضنا في هذا البحث.

( كلام في العدالة)

كثيراً ما يعثر الباحث في الأحكام الإسلاميّة في خلال أبحاثه بلفظ العدالة و ربّما وجد للّفظ تعريفات مختلفة و تفسيرات متنوّعة حسب اختلاف الباحثين و مسالكهم.

لكنّ الّذي يلائم مقامنا هذا من البحث - و هو بحث قرآنيّ - في تحليل معناها و كيفيّة اعتبارها بالتطبيق على الفطرة الّتي عليها بني الإسلام أن نسلك طريقاً آخر من البحث فنقول:

إنّ للعدالة و هي الاعتدال و التوسّط بين النمطين: العالي و الداني، و الجانبين: الإفراط و التفريط قيمة حقيقيّة و وزناً عظيماً في المجتمعات الإنسانيّة، و الوسط العدل هو الجزء الجوهريّ الّذي يركن إليه التركيب و التأليف الاجتماعيّ فإنّ الفرد العالي الشريف الّذي يتلبّس بالفضائل العالية الاجتماعيّة، و يمثّل بغية الاجتماع النهائيّة لا يجود منه الزمان إلّا بالنزر القليل و الواحد بعد الواحد، و من المعلوم أنّه لا يتألّف المجتمع

٢١٩

بالفرد النادر، و لا تتمّ به كينونته و إن كان هو العضو الرئيس في جثمانه حيثما وجد.

و الفرد الدني‏ء الخسيس الّذي لا يقوم بالحقوق الاجتماعيّة، و لا يتحقّق فيه القدر المتوسّط من أمانيّ المجتمع ممّن لا داعي له يدعوه إلى رعاية الاُصول العامّة الاجتماعيّة الّتي بها حياة المجتمع، و لا رادع له يردعه عن اقتحام الآثام الاجتماعيّة الّتي تهلك الاجتماع و تبطل التجاذب الواجب بين أجزائه، و بالجملة لا اعتماد على جزئيّته في بنية الاجتماع و لا وثوق بتأثيره الحسن و نصيحته الصالحة.

و إنّما الحكم لأفراد المجتمع المتوسّطين الّذين تقوم بهم بنية المجتمع و تتحقّق فيهم مقاصده و مآربه، و تظهر بهم آثاره الحسنة الّتي لم تأتلف أجزاؤه و أعضاؤه إلّا للحصول عليها و التمتّع بها.

هذا كلّه ممّا لا يرتاب فيه الإنسان الاجتماعيّ عند أوّل ما يجيل نظره في هذا الباب.

فمن الضروريّ عنده أنّه على حاجة شديدة في حياته الاجتماعيّة إلى أفراد في المجتمع يعتمد على سلوكهم الاجتماعيّ متلبّسين بالاعتدال في الاُمور و الاحتراز عن الاسترسال في نقض القوانين و مخالفة السنن و الآداب الجارية من غير مبالاة و انقباض في أبواب كثيرة كالحكومة و القضاء و الشهادات و غيرها في الجملة.

و هذا الحكم الضروريّ أو القريب من الضروريّ عند الفطرة هو الّذي يعتبره الإسلام في الشاهد، قال تعالى:( وَ أَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَ أَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ ) الطلاق: ٢، و قال تعالى:( شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ ) المائدة: ١٠٦ و الخطاب في الآيتين للمؤمنين فاشتراط كون الشاهدين ذوي عدل منهم مفاده كونهما ذوي حالة معتدلة متوسّطة بالنسبة إلى مجتمعهم الدينيّ، و أمّا بالقياس إلى المجتمع القوميّ و البلديّ فالإسلام لا يعبأ بأمثال هذه الروابط غير الدينيّة، و ظاهر أن محصّل كونهما على حالة معتدلة بالقياس إلى المجتمع الدينيّ هو كونهما ممّن يوثق بدينه غير مقترفين ما يعدّ من المعاصي الكبيرة الموبقة في الدين، قال تعالى:( إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَ نُدْخِلْكُمْ

٢٢٠

مُدْخَلًا كَرِيماً ) النساء: ٣١، و قد تكلّمنا في معنى الكبائر في ذيل الآية في الجزء الرابع من هذا الكتاب.

و على هذا المعنى جرى كلامه تعالى في قوله:( وَ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَ لا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ، إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَ أَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) النور: ٥.

و نظير الآية السابقة الشارطة للعدالة قوله تعالى:( مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ ) البقرة: ٢٨٢ فإنّ الرضا المأخوذ في الآية هو الرضا من المجتمع الدينيّ، و من المعلوم أنّ المجتمع الدينيّ بما هو دينيّ لا يرضى أحداً إلّا إذا كان على نوع من السلوك يوثق به في أمر الدين.

و هذا هو الّذي نسمّيه في فنّ الفقه بملكة العدالة و هي غير ملكة العدالة بحسب اصطلاح فنّ الأخلاق فإنّ العدالة الفقهيّة هي الهيئة النفسانيّة الرادعة عن ارتكاب الكبائر بحسب النظر العرفيّ و الّتي في فنّ الأخلاق هي الملكة الراسخة بحسب الحقيقة.

و الّذي استفدناه من معنى العدالة هو الّذي يستفاد من مذهب أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام على ما ورد من طرقهم:

ففي الفقيه، بإسناده عن ابن أبي يعفور قال: قلت لأبي عبداللهعليه‌السلام بم تعرف عدالة الرجل بين المسلمين حتّى تقبل شهادته لهم و عليهم؟ فقال: أن تعرفوه(١) بالستر و العفاف و كفّ البطن و الفرج و اليد و اللسان، و يعرف باجتناب الكبائر الّتي أوعد الله تعالى عليها النار من شرب الخمر و الزنا و الربا و عقوق الوالدين و الفرار من الزحف و غير ذلك.

و الدلالة على ذلك كلّه أن يكون ساتراً لجميع عيوبه حتّى يحرم على المسلمين تفتيش ما وراء ذلك من عثراته و عيوبه، و يجب عليهم تزكيته و إظهار عدالته بين الناس، و يكون منه التعاهد للصلوات الخمس إذا واظب عليهنّ و حفظ مواقيتهنّ بحضور جماعة من المسلمين و أن لا يتخلّف عن جماعتهم في مصلّاهم إلّا من علّة.

فإذا كان كذلك لازماً لمصلّاه عند حضور الصلوات الخمس فإذا سئل عنه في

____________________

(١) أن يعرفوه خ‏

٢٢١

قبيلته و محلّته قالوا: ما رأينا منه إلّا خيراً، مواظباً على الصلوات، متعاهداً لأوقاتها في مصلّاه فإنّ ذلك يجيز شهادته و عدالته بين المسلمين و ذلك أنّ الصلاة ستر و كفّارة للذنوب، و ليس يمكن الشهادة على الرجل بأنّه يصلّي إذا كان لا يحضر مصلّاه و لا يتعاهد جماعة المسلمين.

و إنّما جعل الجماعة و الاجتماع إلى الصلاة لكي يعرف من يصلّي ممّن لا يصلّي و من يحفظ مواقيت الصلاة ممّن يضيع، و لو لا ذلك لم يكن لأحد أن يشهد على آخر بصلاح لأنّ من لا يصلّي لا صلاح له بين المسلمين فإنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم همّ بأن يحرق قوماً في منازلهم بتركهم الحضور لجماعة المسلمين و قد كان منهم من يصلّي في بيته فلم يقبل منه ذلك فكيف تقبل شهادة أو عدالة بين المسلمين ممّن جرى الحكم من الله عزّوجلّ و من رسوله فيه الحرق في جوف بيته بالنار؟ وقد كان يقولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا صلاة لمن لا يصلّي في المسجد مع المسلمين إلّا من علّة.

أقول: و رواه في التهذيب، مع زيادة تركناها، و الستر و العفاف كلاهما بمعنى الترك على ما في الصحاح، و الرواية - كما ترى - تجعل أصل العدالة أمراً معروفاً بين المسلمين و تبيّن أنّ الأثر المترتّب عليه الدالّ على هذه الصفة النفسيّة هو ترك محارم الله و الكفّ عن الشهوات الممنوعة، و معرّف ذلك اجتناب الكبائر من المعاصي، ثمّ تجعل الدليل على ذلك كلّه حسن الظاهر بين المسلمين على ما بيّنهعليه‌السلام تفصيلاً.

و فيه، عن عبدالله بن المغيرة عن أبي الحسن الرضاعليه‌السلام قال: من ولد على الفطرة و عرف بالصلاح في نفسه جازت شهادته.

و فيه: روى سماعة عن أبي بصير عن أبي عبداللهعليه‌السلام : قال: لا بأس بشهادة الضعيف إذا كان عفيفاً صائناً.

و في الكافي، بإسناده عن عليّ بن مهزيار عن أبي عليّ بن راشد قال: قلت لأبي جعفرعليه‌السلام : إنّ مواليك قد اختلفوا فاُصلّي معهم جميعاً؟ فقال لا تصلّ إلّا خلف من تثق بدينه.

أقول: دلالة الروايات على ما قدّمناه ظاهرة، و فيها أبحاث اُخر خارجة عن غرضنا في المقام.

٢٢٢

( كلام في اليمين)

حقيقة معنى قولك:( لعمري إنّ كذا و كذا، و حياتي إنّ الأمر على ما أخبرته) أنّك تعلّق ما أخبرت به من الخبر و تقيّده نوع تقييد في صدقه بعمرك و حياتك الّتي لها مكانة و احترام عندك بحيث يتلازمان في الوجود و العدم، و لو كنت كاذباً في خبرك أبطلت مكانة حياتك و احترامها عندك فسقطت بذلك عن مستوى الإنسانيّة الداعية إلى الاحترام لأمر الحياة.

و معنى قولك:( أقسمك بالله أن تفعل كذا أو تترك كذا) أنّك ربطت أمرك أو نهيك بالمكانة و العزّة الّتي لله عزّ اسمه عند المؤمنين بحيث تكون مخالفة الأمر أو معصية النهي استهانة بمقامه تعالى و إذهاباً لحرمة الإيمان به.

و كذا معنى قولك:( و الله لأفعلنّ كذا) وصل خاصّ بين عزيمتك على ما عزمت عليه من الأمر و بين ما لله سبحانه عندك من المكانة و الحرمة بحسب إيمانك به بحيث يكون فسخك عزيمتك و نقضك همّتك إبطالاً لما له سبحانه من المكانة عندك، و الغرض من ذلك أن تكون على رادع من فسخ العزيمة و نقض الهمّة فالقسم إيجاد ربط خاصّ بين شي‏ء من الخبر أو الإنشاء و بين شي‏ء آخر ذي مكانة و شرف بحيث يبطل المربوط إليه ببطلان المربوط بحسب الدعوى، و حيث كان المربوط إليه ذا مكانة و شرف عند الجاعل مثلاً لا يرضى بإذهاب مكانته و الإهانة بمقامه فهو صادق في خبره أو مطاع فيما يأمر به أو ينهى عنه، أو ماض في عزيمته من غير فسخ لا محالة، و نتيجته التأكيد البالغ.

و يوجد في اللغات نوع آخر من جعل الربط يقابل القسم و هو ربط الخبر مثلاً بما لا قيمة له و لا شرافة عند المخبر ليدلّ بذلك على الاستهانة بما يخبر به أو بلغه من الخبر و يعدّ نوعاً من الشتم و هو في اللغة العربيّة نادر جدّاً.

و الحلف و اليمين - فيما نعلم - من العادات الدائرة في ألسنة الناس الموروثة جيلاً بعد جيل، و لا يختصّ بلغة دون لغة، و هو الدليل على أنّه ليس من الشؤون اللغويّة

٢٢٣

اللفظيّة بل إنّما يهدي الإنسان إليه حياته الاجتماعيّة في موارد يتنبّه على وجوب الالتجاء إليه و الاستفادة منه.

و لم تزل اليمين دائراً بين الاُمم ربّما يبنى عليه و يركن إليه في موارد متفرّقة غير مضبوطة تحدث في مجتمعاتهم لأغراض متنوّعة لدفع التهمة و رفع الفرية و تطييب النفس و تأييد الخبر حتّى اعتنى بأمره القوانين المدنيّة و أعطتها وجهة قانونيّة في بعض من الموارد كحلف الرؤساء و أولياء الاُمور عند تقلّد المناصب الهامّة و إشغال المقامات العظيمة العالية و غير ذلك.

و قد اعتنى الإسلام بشأن اليمين اعتناءً تامّاً إذا وقع على الله سبحانه خاصّة، و ليس ذلك إلّا في ظلّ العناية برعاية حرمة المقام الربوبيّ و وقاية ساحته تعالى أن يواجه بما يأباه ناموس الربوبيّة و العبوديّة، و لذلك وضعت كفّارة خاصّة عند حنث اليمين، و كره الإكثار من الحلف بالله عزّ شأنه، قال تعالى:( لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَ لكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ ،) الآية: المائدة: ٨٩ و قال تعالى:( وَ لا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ ) البقرة: ٢٢٤.

و اعتبر اليمين في موارد من القضاء خلت عن البيّنة، قال تعالى:( فَيُقْسِمانِ بِاللهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما وَ مَا اعْتَدَيْنا ) الآية: المائدة: ١٠٧

و من كلامهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : البيّنة على المدّعي و اليمين على من أنكر.

و حقيقة اعتبار اليمين الاكتفاء بدلالة نفس الإيمان فيما لا دليل سواه، و ذلك أنّ المجتمع الدينيّ مبنيّ على إيمان الأفراد بالله، و الإنسان المؤمن هو الجزء من هذا المركّب المؤلّف، و هو المنبع الّذي ينبع منه السنن المتّبعة و الأحكام الجارية، و بالجملة جميع الآثار البارزة في القوم الناشئة من حالتهم الدينيّة كما أنّ المجتمع غير الدينيّ مبنيّ على إيمان الأفراد بمقاصدهم القوميّة، و منها تنشأ السنن و القوانين المدنيّة و الآداب و الرسوم الدائرة بينهم.

فإذا كان كذلك و صحّ الاعتماد في جميع الشؤون الاجتماعيّة و الاتّكاء في عامّة لوازم الحياة على إيمان الأفراد بطرق مختلفة كان من الجائز أن يعتمد على إيمانهم في ما لا دليل

٢٢٤

آخر يعتمد عليه، و هو اليمين فيما لا بيّنة عليه بأن يربط المنكر ما ينكره من دعوى المدّعي و يقيّده بإيمانه بحيث يزول اعتبار إيمانه بالله ببطلان إنكاره و ظهور كذبه فيما أظهره و أخبر به.

فإيمانه بسبب ما عقده باليمين بمنزلة مال الرهن الّذي يجعل تحت تسلّط الدائن و يراعي في عوده إلى سلطة راهن صدق وعده و تأديته الدين إلى أجل و إلّا ذهب المال و بقي صفر اليد.

كذلك الحالف يعتبر مرهون الإيمان بما حلف عليه ما لم يظهر خلافه و إذا ظهر الخلاف عاد صفر الكفّ من الإيمان ساقطاً عن درجة الاعتبار محروماً من التمتّع بثمرة الإيمان و هي في المجتمع الدينيّ جميع المزايا الاجتماعيّة، و رجع مطروداً من المجتمع المتلائم الأجزاء لا سماء تظلّه و لا أرض تقلّه.

و يتأيّد هذا البيان بما يروى من تظاهر الناس على مقت المتخلّفين عن السنن الدينيّة كالصلاة مع الجماعة و الشخوص في الجهاد و نحوهما في زمن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حين كان تمام السلطة و الحكومة للدين على الأهواء.

و أمّا في أمثال هذه الأعصار الّتي ضعف فيها نفوذ الدين و تسرّب الهوى في القلوب و انعقد بيننا مجتمع مؤتلف من المقاصد الدينيّة على وهن في بنيتها و إعراض من الناس عنها و من مقاصد المدنيّة الحديثة و يجمعها الاسترسال في التمتّعات المادّيّة على شيد في أساسها و إقبال عامّ من عامّة الناس إليها ثمّ أخذ التنازع و التشاجر الشديد بين الدواعي الدينيّة و المدنيّة الطارقة و لا يزال يغلب هذا و ينهزم ذاك، و انثلمت وحدة النظام الواجب انبساطه على مستوى المجتمع، و بدا الهرج و المرج في الروحيّات فحينئذ لا يكاد ينفع اليمين و لا ما هو أقوى من ذلك و أحفظ لحقوق الناس، و زال الاعتماد لا على الأسباب الدينيّة الموجودة عند المجتمع فحسب بل عليها و على النواميس الحديثة جميعاً.

غير أنّ الله سبحانه لا ينسخ أحكامه و لا يغمض عن شرائعه بتولّي الناس عنها و سأمهم منها و إنّ الدين عند الله الإسلام و لا يرضى لعباده الكفر، و لو اتّبع الحقّ أهواءهم لفسدت السماوات و الأرض، و إنّما الإسلام دين متعرّض لجميع شؤون الحياة الإنسانيّة شارح

٢٢٥

لها مبيّن لأحكامها ذو أجزاء متلائمة متناسبة متلازمة تعيش بروح التوحيد الواحد إذا اعتلّ بعض أجزائه اعتلّ الجميع، و إذا فسد بعضها أثّر ذلك في عمل الجميع كالواحد من الإنسان بعينه.

فإذا فسد بعض أجزائه أو اعتلّ كان من الواجب إبقاء السالم منها على سلامته و علاج المعتلّ و إصلاح الفاسد، و لم يكن من الجائز إبقاء المعتلّ على علّته و الفاسد على فساده، و الإعراض عن السالم.

و الإسلام و إن كان ملّة حنيفيّة سهلة سمحة ذات مراتب مختلفة وسيعة يقدّر تكاليفه على قدر ما يستطاع من إتيانها و إجرائها، يتمدّد حبلها الموصول من حالة اجتماعيّة آمنة تتضمّن شرائعها و قوانينها جمعاء من غير استثناء إلى حالة انفراديّة اضطراريّة تكتفى فيها من الصلاة بالإشارة لكنّ التنزّل من مرتبة من مراتبها إلى ما هي دونها مشروطة بالاضطرار النافي للتكليف و المبيح للتوسّع، قال تعالى:( مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَ لكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ وَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ - إلى أن قال -ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَ صَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ) النحل: ١١٠.

و أمّا بناء الحياة على التمتّع المادّيّ ثمّ التعلّل في رفض ما يناقضه من الموادّ الدينيّة بأنّه لا يوافق السنّة الجارية في الدنيا الحاضرة فإنّه جري على المنطق المادّيّ دون منطق الدين.

و من البحث المتعلّق بهذا الباب ما في قول بعض: (إنّ الحلف بغير الله من الشرك بالله) فينبغي أن يستفهم هذا القائل ما ذا يريد بهذا الشرك الذي ذكره؟.

فإن أراد به أنّ في اليمين بغير الله إعظاماً للمقسم به و إجلالاً لأمره لابتناء معنى القسم على ذلك ففيه نوع خضوع و عبادة له و هو الشرك فما كلّ إعظام شركاً إلّا إعطاء عظمة الربوبيّة المستقلّة التي يستغني بها عن غيره.

و قد أقسم الله تعالى بكثير من خلقه كالسماء و الأرض و الشمس و القمر و الكنّس الخنّس من الكواكب و بالنجم إذا هوى، و أقسم بالجبل و البحر و التين و الزيتون و الفرس

٢٢٦

و أقسم بالليل و النهار و الصبح و الشفق و العصر و الضحى و يوم القيامة، و أقسم بالنفس، و أقسم بالكتاب و القرآن العظيم و حياة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و بالملائكة إلى غير ذلك في آيات كثيرة و لا يستقيم قسم إلّا عن إعظام.

فما المانع من أن نجري على ما جرى عليه كلامه تعالى من إعظامها بالعظمة الموهوبة و نقتصر على ذلك، و لو كان ذلك من الشرك لكان كلامه تعالى أولى بالتحرّز منه و أحرى برعايته.

و أيضا قد عظم الله تعالى اُموراً كثيرة في كلامه كالقرآن و العرش و خلق النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال تعالى:( وَ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ ) الحجر: ٨٧، و قال:( وَ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ) التوبة: ١٢٩، و قال:( وَ إِنَّكَ لَعَلى‏ خُلُقٍ عَظِيمٍ ) ن: ٤، و جعل لأنبيائه و رسله و المؤمنين حقوقاً على نفسه و عظّمها و احترمها، قال تعالى:( وَ لَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ، إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ ) الصافّات: ١٧٢، و قال:( وَ كانَ حقّاً عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ) الروم: ٤٧ فما المانع من أن نعظّمها و نجري على ما جرى عليه كلامه في مطلق القسم، و أن نقسمه تعالى بشي‏ء ممّا أقسم به أو بحقّ من الحقوق الّتي جعلها لأوليائه على نفسه؟ نعم اليمين الشرعيّ الّذي له آثار شرعيّة في باب اليمين أو القضاء لا ينعقد بغير الله سبحانه كما بيّن في الفقه و ليس كلامنا فيه.

و إن أراد به أنّ مطلق الإعظام كيفما كان لا يجوز في غير الله حتّى إعظامها بما عظّمها الله تعالى فهو ممّا لا دليل عليه بل القاطع من الدليل على خلافه.

و ربّما قيل: إنّ في الإقسام بحقّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و سائر الأولياء و التقرّب إليهم و الاستشفاع بهم بأيّ وجه كان عبادة و إعطاء سلطة غيبيّة لها. و الكلام فيه كالكلام في سابقه: فإن اُريد بهذه السلطة الغيبيّة السلطة المستقلّة الخاصّة بالله فلا يذعن بها مسلم مؤمن بكتاب الله في غيره تعالى، و إن اُريد بها مطلق السلطة غير المادّيّة و لو كان بإذن الله فما الدليل على امتناع أن يتّصف بها بعض عباد الله كأوليائه مثلاً بإذنه، و قد نصّ القرآن الشريف على كثير من السلطات الغيبيّة في الملائكة كما قال:( حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَ هُمْ لا يُفَرِّطُونَ ) الأنعام: ٦١، و قال:( قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ ) السجدة: ١١

٢٢٧

و قال:( وَ النَّازِعاتِ غَرْقاً، وَ النَّاشِطاتِ نَشْطاً، وَ السَّابِحاتِ سَبْحاً، فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً، فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً ) النازعات: ٥، و قال:( مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى‏ قَلْبِكَ ) البقرة: ٩٧ و الآيات في هذا الباب كثيرة جدّاً.

و قال في إبليس و جنوده:( إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَ قَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ ) الأعراف: ٢٧ و قد نزلت في شفاعة الأنبياء و غيرهم في الآخرة، و آياتهم المعجزة في الدنيا آيات كثيرة.

و ليت شعري ما الفرق بين الآثار المادّيّة الّتي يثبتها هؤلاء في الموضوعات من غير استنكاف و بين آثار غير المادّيّة الّتي يسمّونها بالسلطة الغيبيّة؟ فإن كان إثبات التأثير لغير الله ممنوعاً لم يكن فرق بين الأثر المادّيّ و غيره و إن كان جائزاً بإذن الله سبحانه كان الجميع فيه سواءً.

( بحث روائي)

في الكافي، عن عليّ بن إبراهيم عن رجاله رفعه قال: خرج تميم الداريّ و ابن بندي و ابن أبي مارية في سفر، و كان تميم الداريّ مسلماً و ابن بندي و ابن أبي مارية نصرانيّين، و كان مع تميم الداريّ خرج له فيه متاع و آنية منقوشة بالذهب و قلادة أخرجها إلى بعض أسواق العرب للبيع.

فاعتلّ تميم الداريّ علّة شديدة فلمّا حضره الموت دفع ما كان معه إلى ابن بندي و ابن أبي مارية و أمرهما أن يوصلاه إلى ورثته فقدما المدينة، و قد أخذا من المتاع الآنية و القلادة، و أوصلا سائر ذلك إلى ورثته، فافتقد القوم الآنية و القلادة فقال أهل تميم لهما: هل مرض صاحبنا مرضاً طويلاً أنفق فيه نفقة كثيرة؟ فقالا: لا ما مرض إلّا أيّاماً قلائل، قالوا: فهل سرق منه شي‏ء في سفره هذا؟ قالا: لا، فقالوا: فهل اتّجر تجارة خسر فيها؟ قالا: لا، قالوا: فقد افتقدنا أفضل شي‏ء كان معه: آنية منقوشة بالذهب مكلّلة بالجواهر و قلادة، فقالا: ما دفعه إلينا فقد أدّيناه إليكم.

٢٢٨

فقدّموهما إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و أوجب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليهما اليمين فحلفا فخلّا عنهما، ثمّ ظهرت تلك الآنية و القلادة عليهما فجاء أولياء تميم إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالوا: يا رسول الله قد ظهر على ابن بندي و ابن أبي مارية ما ادّعيناه عليهما، فانتظر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الله عزّوجلّ الحكم في ذلك.

فأنزل الله تبارك و تعالى:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ ) فأطلق الله عزّوجلّ شهادة أهل الكتاب على الوصيّة فقط إذا كان في سفر و لم يجد المسلمين.

ثمّ قال:( فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمانِ بِاللهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَ لَوْ كانَ ذا قُرْبى‏ وَ لا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللهِ إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ ) ، فهذه الشهادة الاُولى الّتي حلّفها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ( فَإِنْ عُثِرَ عَلى‏ أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً ) أي أنّهما حلفا على كذب( فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما ) يعني من أولياء المدّعي( مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ ) الأوّلين( فَيُقْسِمانِ بِاللهِ ) أي يحلفان بالله أنّهما أحقّ بهذه الدعوى منهما و أنّهما قد كذبا فيما حلفا بالله( لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما وَ مَا اعْتَدَيْنا إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ ) .

فأمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أولياء تميم الداريّ أن يحلفوا بالله على ما أمرهم به فحلفوا فأخذ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم القلادة و الآنية من ابن بندي و ابن أبي مارية و ردّهما إلى أولياء تميم الداريّ( ذلِكَ أَدْنى‏ أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى‏ وَجْهِها أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ ) .

أقول: و أورده القمّيّ في تفسيره مثله‏ و فيه بعد قوله:( تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ ) يعني صلاة العصر، و قوله ع( الأوّلين) الظاهر أنّه بصيغة التثنية و المراد بهما الشاهدان الأوّلان تفسيراً لقوله تعالى:( الْأَوْلَيانِ ) و ظاهره على قراءتهعليه‌السلام ( اسْتَحَقَّ ) بالبناء للفاعل كما نسبت إلى عليّعليه‌السلام ، و قد قدّمنا في البيان السابق أنّه أوضح المعاني المحتملة على هذه القراءة.

٢٢٩

و في الدرّ المنثور: أخرج الترمذيّ و ضعّفه و ابن جرير و ابن أبي حاتم و النحّاس في ناسخه و أبوالشيخ و ابن مردويه و أبو نعيم في المعرفة من طريق أبي النضر و هو الكلبيّ عن باذان مولى اُمّ هاني عن ابن عبّاس عن تميم الداريّ في هذه الآية:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ ) قال: برى‏ء الناس منهما غيري و غير عدي ابن بداء، و كانا نصرانيّين يختلفان إلى الشام قبل الإسلام فأتيا الشام لتجارتهما، و قدم عليهما مولى لبني سهم يقال له: بديل بن أبي مريم بتجارة، و معه جام من فضّة يريد به الملك و هو عظم تجارته، فمرض فأوصى إليهما و أمرهما أن يبلّغا ما ترك أهله.

قال تميم: فلمّا مات أخذنا ذلك الجام فبعناه بألف درهم ثمّ اقتسمناه أنا و عديّ بن بداء فلمّا قدمنا إلى أهله دفعنا إليهم ما كان معنا و فقدوا الجام فسألونا عنه فقلنا: ما ترك غير هذا و ما دفع إلينا غيره.

قال تميم: فلمّا أسلمت بعد قدوم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المدينة تأثّمت من ذلك فأتيت أهله فأخبرتهم الخبر و أدّيت إليهم خمسمائة درهم، و أخبرتهم أنّ عند صاحبي مثلها فأتوا به رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فسألهم البيّنة فلم يجدوا فأمرهم أن يستحلفوه بما يعظم به على أهل دينه فحلف فأنزل الله:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ - إلى قوله -أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ ) فقام عمرو بن العاص و رجل آخر فحلفا فنزعت الخمسمائة درهم من عدّي بن بداء.

أقول: و الرواية على ضعفها لا تنطبق على الآية تمام الانطباق و هو ظاهر، و روي عن ابن عبّاس و عن عكرمة ما يقرب من رواية القمّيّ السابقة.

و فيه: أخرج الفاريابيّ و عبد بن حميد و أبوعبيد و ابن جرير و ابن المنذر و أبوالشيخ عن عليّ بن أبي طالب: أنّه كان يقرأ:( مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ ) بفتح التاء.

و فيه: أخرج ابن مردويه و الحاكم و صحّحه، عن عليّ بن أبي طالب: أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قرأ:( الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ ) .

و فيه: أخرج ابن جرير عن ابن عبّاس قال: هذه الآية منسوخة.

٢٣٠

أقول: و لا دليل على ما في الرواية من حديث النسخ.

و في الكافي، عن محمّد بن إسماعيل عن الفضل بن شاذان و عليّ بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن هشام بن الحكم عن أبي عبداللهعليه‌السلام : في قول الله تبارك و تعالى:( أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ ) قال: إذا كان الرجل في بلد ليس فيه مسلم جازت شهادة من ليس بمسلم على الوصيّة.

أقول: و معنى الرواية مستفاد من الآية.

و فيه، بإسناده عن يحيى بن محمّد قال: سألت أباعبداللهعليه‌السلام عن قول الله عزّوجلّ:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ ) ؟ قال:( اللّذان منكم) مسلمان( و اللّذان من غيركم) من أهل الكتاب، فإن لم يجدوا من أهل الكتاب فمن المجوس لأنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سنّ في المجوس سنّة أهل الكتاب في الجزية.

و ذلك إذا مات الرجل في أرض غربة فلم يجد مسلمين أشهد رجلين من أهل الكتاب يحبسان بعد العصر فيقسمان بالله عزّوجلّ( لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَ لَوْ كانَ ذا قُرْبى‏ وَ لا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللهِ إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ ) قال: و ذلك إذا ارتاب وليّ الميّت في شهادتهما، فإن عثر على أنّهما شهدا بالباطل فليس له أن ينقض شهادتهما حتّى يجي‏ء بشاهدين فيقومان مقام الشاهدين الأوّلين( فَيُقْسِمانِ بِاللهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما وَ مَا اعْتَدَيْنا إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ ) فإذا فعل ذلك نقض شهادة الأوّلين، و جازت شهادة الآخرين يقول الله عزّوجلّ:( ذلِكَ أَدْنى‏ أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى‏ وَجْهِها أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ ) .

أقول: و الرواية - كما ترى - توافق ما تقدّم من معنى الآية، و في معناها روايات اُخر في الكافي، و تفسير العيّاشيّ، عن أبي عبدالله و أبي الحسنعليهما‌السلام .

و في بعض الروايات تفسير قوله:( أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ ) بالكافرين، و هو أعمّ من أهل الكتاب كما رواه في الكافي، عن أبي الصباح الكنانيّ عن أبي عبدالله. و في تفسير العيّاشيّ،

٢٣١

عن أبي اُسامة عنهعليه‌السلام أيضاً: في الآية: ما( آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ ) ؟ قال: هما كافران قلت:( ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ ) ؟ فقال: مسلمان‏، و الرواية السابقة المقيّدة بأهل الكتاب و إن لم تصلح لتقييد هذا الإطلاق بحسب صناعة الإطلاق و التقييد لكونهما متوافقين إيجابيّين لكن سياق الرواية الاُولى يصلح لتفسير إطلاق الثانية بما يوافق التقييد.

و في تفسير البرهان، عن الصدوق بإسناده إلى أبي زيد عيّاش بن يزيد بن الحسن عن أبيه يزيد بن الحسن قال: حدّثني موسى بن جعفرعليه‌السلام قال: قال الصادقعليه‌السلام : في قول الله عزّوجلّ:( يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ما ذا أُجِبْتُمْ قالُوا لا عِلْمَ لَنا ) قال: يقولون لا علم لنا بسواك قال و قال: الصادقعليه‌السلام : القرآن كلّه تقريع و باطنه تقريب.

قال صاحب البرهان: قال ابن بابويه: يعني بذلك أنّه من وراء آيات التوبيخ و الوعيد آيات الرحمة و الغفران.

أقول: و ما نقله عن الصدوق رحمه الله في معنى قولهعليه‌السلام :( القرآن كلّه تقريع و باطنه تقريب) لا ينطبق عليه لا بالنظر إلى صدر الرواية فإنّ كون معنى قول الرسلعليهم‌السلام :( لا عِلْمَ لَنا ) أنّه لا علم لنا بسواك غير مرتبط بكون القرآن مشتملاً على نوعين من الآيات: آيات الوعد و آيات الوعيد.

و لا بالنظر إلى سياق نفس الجملة أعني قوله:( القرآن كلّه تقريع و باطنه تقريب) فإنّ الكلام ظاهر في أنّ القرآن كلّه تقريع و كلّه تقريب، و إنّما يختلف الأمر بحسب الباطن و الظاهر فباطنه تقريب و ظاهره تقريع، لا أنّ القرآن منقسم إلى قسمين فقسم منه آيات التقريع و وراءه القسم الآخر و هو آيات التقريب.

و التأمّل في كلامهعليه‌السلام مع ملاحظة صدر الرواية يعطي أنّ مرادهعليه‌السلام من التقريع بالنظر إلى مقابلة التقريب لازم معناه و هو التبعيد المقابل للتقريب، و القرآن كلّه معارف و حقائق فظاهره تبعيد الحقائق بعضها من بعض و تفصيل أجزائها، و باطنه تقريب البعض من البعض و إحكامها و توحيدها، و يعود محصّل المراد إلى أنّ القرآن بحسب ظاهره يعطي حقائق من المعارف مختلفة بعضها بائن منفصل من بعض لكنّها على كثرتها و

٢٣٢

بينونتها و ابتعاد بعضها من بعض بحسب الباطن يقترب بعضها من بعض و تلتئم شتّى معانيها حتّى تتّحد حقيقة واحدة كالروح الساري في الجميع، و ليست إلّا حقيقة التوحيد قال الله تعالى:( كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ) هود: ١.

و يظهر حينئذ انطباقه على ما ذكرهعليه‌السلام في صدر الرواية أنّ معنى قول الرسل:( لا عِلْمَ لَنا ) أن لا علم لنا بسواك فإنّ الإنسان أو أيّ عالم فرض إنّما يعلم ما يعلم بالله بمعنى أنّ الله سبحانه هو المعلوم بذاته و غيره معلوم به، و بعبارة اُخرى إذا تعلّق العلم بشي‏ء فإنّما يتعلّق أوّلاً بالله سبحانه على ما يليق بساحة قدسه و كبريائه ثمّ يتعلّق من جهته بذلك الشي‏ء لما أنّ الله سبحانه عنده علم كلّ شي‏ء يرزق منه لمن يشاء من عباده على قدر ما يشاء كما قال تعالى:( وَ لا يُحِيطُونَ بِشَيْ‏ءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِما شاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ ) البقرة: ٢٥٥ و قد تقدّم رواية عبدالأعلى مولى آل سام عن الصادقعليه‌السلام و غيره من الروايات في هذا المعنى.

و على هذا فمعنى قولهم:( لا عِلْمَ لَنا بسواك إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ ) على تفسيرهعليه‌السلام أنّه لا علم لنا بشي‏ء من دونك و إنّما نعلم ما نعلم من جهة علمنا بك لأنّ العلم كلّه لك و إذا كان كذلك فأنت أعلم به منّا لأنّ الّذي نعلمه من شي‏ء هو علمك الّذي أحطنا بشي‏ء منه بمشيئتك و رزقك.

و على هذا يتجلّى معنى آخر لقوله:( إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ ) هو أرفع منالاً ممّا تقدّم من المعنى، و هو أنّ كلّ شي‏ء من الخليقة لما كان منفصل الوجود عن غيره كان في غيب منه لما أنّ وجوده محدود مقدّر لا يحيط إلّا بما شاء الله أن يحيط به، و الله سبحانه هو المحيط بكلّ شي‏ء، العالم بكلّ غيب لا يعلم شي‏ء شيئاً إلّا من جهته تعالى و تقدّس عن كلّ نقص.

و على هذا فتقسيم الاُمور إلى غيب و شهادة تقسيم بالحقيقة إلى غيب شاء الله إحاطتنا به و غيب مستور عنّا، و ربّما تؤيّد هذا المعنى بظاهر قوله تعالى:( عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى‏ غَيْبِهِ أَحَداً، إِلَّا مَنِ ارْتَضى‏ مِنْ رَسُولٍ ) الجنّ: ٢٧ بالنظر إلى ما تفيده إضافة الغيب إلى الضمير، و عليك بإجادة التأمّل في هذا المقام.

٢٣٣

و في تفسير العيّاشيّ، عن يزيد الكناسيّ عن أبي جعفرعليه‌السلام : في قوله تعالى:( يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ ، الآية) قال: يقول: ما ذا اُجبتم في أوصيائكم الّذين خلّفتم على اُمتكم؟ قال: فيقولون: لا علم لنا بما فعلوا من بعدنا.

أقول: و رواه القمّيّ في تفسيره عن محمّد بن مسلم عنهعليه‌السلام .

و في الكافي، عن يزيد عن أبي عبداللهعليه‌السلام ما في معناه، و هو من الجري أو من قبيل الباطن.

٢٣٤

( سورة المائدة الآيات ١١٠ - ١١١)

إِذْ قَالَ اللّهُ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى‏ وَالِدَتِكَ إِذْ أَيّدتّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلّمُ النّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطّينِ كَهَيْئَةِ الطّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونَ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى‏ بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنكَ إِذْ جِئْتَهُم بِالْبَيّنَاتِ فَقَالَ الّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هذَا إِلّا سِحْرٌ مُبِينٌ( ١١٠) وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنّا وَاشْهَدْ بِأَنّنَا مُسْلِمُونَ( ١١١)

( بيان)

الآيتان و كذا الآيات التالية لها القاصّة قصّة نزول المائدة و التالية لها المخبرة عمّا سيسأل الله عيسى بن مريمعليهما‌السلام عن اتّخاذ الناس إيّاه و اُمّه إلهين من دون الله سبحانه و ما يجيب به عن ذلك، كلّها مرتبطة بغرض السورة الّذي افتتحت به، و هو الدعوة إلى الوفاء بالعهد و الشكر للنعمة و التحذير عن نقض العهود و كفران النعم الإلهيّة و بذلك يتمّ رجوع آخر السورة إلى أوّلها و تحفظ وحدة المعنى المراد.

قوله تعالى: ( إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ - إلى قوله -وَ إِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى‏ بِإِذْنِي ) الآية تعدّ عدّة من الآيات الباهرة الظاهرة بيدهعليه‌السلام إلّا أنّها تمتنّ بها عليه و على اُمّه جميعاً، و هي مذكورة بهذا اللفظ تقريباً فيما يحكيه تعالى من تحديث الملائكة مريم عند بشارتها بعيسىعليهما‌السلام في سورة آل عمران، قال تعالى:( إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ - إلى أن قال -وَ يُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَ كَهْلًا - إلى أن قال -وَ يُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ التَّوْراةَ وَ الْإِنْجِيلَ وَ رَسُولًا إِلى‏ بَنِي إِسْرائِيلَ، أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ

٢٣٥

فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ وَ أُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَ الْأَبْرَصَ وَ أُحْيِ الْمَوْتى‏ بِإِذْنِ اللهِ ) (الآيات) آل عمران: ٤٥ - ٥٠.

و التأمّل في سياق الآيات يوضح الوجه في عدّ ما ذكره من الآيات المختصّة ظاهراً بالمسيح نعمة عليه و على والدته جميعاً كما تشعر به آيات آل عمران فإنّ البشارة إنّما تكون بنعمة، و الأمر على ذلك فإنّ ما اختصّ به المسيحعليه‌السلام من آية و موهبة كالولادة من غير أب و التأييد بروح القدس و خلق الطير و إبراء الأكمه و الأبرص و إحياء الموتى بإذن الله سبحانه فهي بعينها كرامة لمريم كما أنّها كرامة لعيسىعليه‌السلام فهما معاً منعّمان بالنعمة الإلهيّة كما قال تعالى:( نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَ عَلى‏ والِدَتِكَ ) .

و إلى ذلك يشير تعالى بقوله:( وَ جَعَلْناها وَ ابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ ) الأنبياء: ٩١ حيث عدّهما معاً آية واحدة لا آيتين.

و قوله:( إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ ) الظاهر أنّ التأييد بروح القدس هو السبب المهيّئ له لتكليم الناس في المهد، و لذلك وصل قوله( تُكَلِّمُ النَّاسَ ) من غير أن يفصله بالعطف إلى الجملة السابقة إشعاراً بأنّ التأييد و التكليم معاً أمر واحد مؤلّف من سبب و مسبّب، و اكتفى في موارد من كلامه بذكر أحد الأمرين عن الآخر كقوله في آيات آل عمران المنقولة آنفاً:( وَ يُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَ كَهْلًا ) ، و قوله:( وَ آتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَ أَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ ) البقرة: ٢٥٣.

على أنّه لو كان المراد بتأييده بروح القدس مسألة الوحي بوساطة الروح لم يختصّ بعيسى بن مريمعليه‌السلام و شاركه فيها سائر الرسل مع أنّ الآية تأبى ذلك بسياقها.

و قوله:( وَ إِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ التَّوْراةَ وَ الْإِنْجِيلَ ) من الممكن أن يستفاد منه أنّهعليه‌السلام إنّما تلقّى علم ذلك كلّه بتلقّ واحد عن أمر إلهيّ واحد من غير تدريج و تعدّد كما أنّه أيضاً ظاهر جمع الجميع و تصديرها بإذ من غير تكرار لها.

و كذلك قوله:( إِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَ تُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَ الْأَبْرَصَ بِإِذْنِي ) ظاهر السياق من جهة عدم تكرار لفظة( إِذْ ) أنّ خلق الطير و إبراء الأكمه و الأبرص كانا متقارنين زماناً، و أنّ تذييل خلق الطير بذكر الإذن

٢٣٦

من غير أن يكتفي بالإذن المذكور في آخر الجملة إنّما هو لعظمة أمر الخلق بإفاضة الحياة فتعلّقت العناية به فاختصّ بذكر الإذن بعده من غير أن ينتظر فيه آخر الكلام صوناً لقلوب السامعين من أن يخطر فيها أنّ غيره تعالى يستقلّ دونه بإفاضة الحياة أو تلبث فيها هذه الخطرة و لو لحظات يسيرة، و الله أعلم.

و قوله:( وَ إِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى‏ بِإِذْنِي ) إخراج الموتى كناية عن إحيائها، و فيه عناية ظاهرة بأنّ الإحياء الّذي جرى على يديهعليه‌السلام كان إحياء لموتى مقبورين بإفاضة الحياة عليهم و إخراجهم من قبورهم إلى حياة دنيويّة، و في اللفظ دلالة على الكثرة، و قد تقدّم في الكلام على آيات آل عمران بقيّة ما يتعلّق بهذه الآيات من الكلام فراجع ذلك.

قوله تعالى: ( وَ إِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ ) إلى آخر الآية. فيه دلالة على أنّهم قصدوه بشرّ فكفّهم الله عن ذلك فينطبق على ما ذكره الله في سورة آل عمران في قصصهعليه‌السلام بقوله:( وَ مَكَرُوا وَ مَكَرَ اللهُ وَ اللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ ) .

قوله تعالى: ( وَ إِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ ) الآية، الآية منطبقة على آيات سورة آل عمران بقوله:( فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى‏ مِنْهُمُ الْكُفْرَ قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ آمَنَّا بِاللهِ وَ اشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ) آل عمران: ٥٢.

و من هنا يظهر أنّ هذا الإيمان الّذي ذكره في الآية بقوله:( وَ إِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَ بِرَسُولِي قالُوا آمَنَّا ) ، الآية غير إيمانهم الأوّل بهعليه‌السلام فإنّ ظاهر قوله في آية آل عمران:( فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى‏ مِنْهُمُ الْكُفْرَ ) أنّه كان في أواخر أيّام دعوته و قد كان الحواريّون و هم السابقون الأوّلون في الإيمان به ملازمين له.

على أنّ ظاهر قوله في آية آل عمران:( قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ آمَنَّا بِاللهِ وَ اشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ) أنّ الدعوة إنّما سيقت لأخذ الميثاق على نصرة دين الله لا أصل الإيمان بالله، و لذلك ختم الآية بقولهم:( وَ اشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ) و هو التسليم لأمر الله بإقامة دعوته و تحمّل الأذى في جنبه، و كلّ ذلك بعد أصل الإيمان بالله طبعاً.

فتبيّن أنّ المراد بقوله:( وَ إِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ ) ، إلخ قصّة أخذ الميثاق من الحواريّين، و في الآية أبحاث اُخر مرّت في تفسير سورة آل عمران.

٢٣٧

( بحث روائي)

في المعاني، بإسناده عن أبي يعقوب البغداديّ قال: قال ابن السكّيت لأبي الحسن الرضاعليه‌السلام : لما ذا بعث الله موسى بن عمران بيده البيضاء و العصا و آلة السحر، و بعث عيسى بآلة الطبّ، و بعث محمّداًصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالكلام و الخطب؟.

فقال أبوالحسنعليه‌السلام : إنّ الله تعالى لما بعث موسىعليه‌السلام كان الأغلب على أهل عصره السحر فأتاهم من عندالله تعالى بما لم يكن عند القوم و في وسعهم مثله، و بما أبطل به سحرهم، و أثبت به الحجّة عليهم و إنّ الله تعالى بعث عيسى في وقت ظهرت فيه الزمانات و احتاج الناس إلى الطبّ فأتاهم من عندالله تعالى بما لم يكن عندهم مثله، و بما أحيي لهم الموتى، و أبرأ الأكمه و الأبرص بإذن الله، و أثبت به الحجّة عليهم و إنّ الله تعالى بعث محمّداًصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في وقت كان الأغلب على أهل عصره الخطب و الكلام و الشعر فأتاهم من كتاب الله و الموعظة و الحكمة بما أبطل به قولهم، و أثبت به الحجّة عليهم.

قال ابن السكّيت ما رأيت مثلك اليوم قطّ فما الحجّة على الخلق اليوم؟ فقال: العقل يعرف به الصادق على الله فيصدّقه و الكاذب على الله فيكذّبه، قال ابن السكّيت: هذا و الله هو الجواب.

و في الكافي، عن محمّد بن يحيى عن أحمد بن محمّد عن الحسن بن محبوب عن أبي جميلة عن أبان بن تغلب و غيره عن أبي عبداللهعليه‌السلام : أنّه سئل هل كان عيسى بن مريم أحيا أحداً بعد موته بأكل و رزق و مدّة و ولد؟ فقال: نعم إنّه كان له صديق مواخ له في الله تبارك و تعالى، و كان عيسىعليه‌السلام يمرّ به و ينزل عليه، و إنّ عيسى غاب عنه حيناً ثمّ مرّ به ليسلّم عليه فخرجت عليه اُمّه فسألها عنه فقالت له: مات يا رسول الله، فقال: أ تحبّين أن تراه؟ قالت: نعم. فقال: إذا كان غداً أتيتك حتّى اُحييه لك بإذن الله تعالى.

فلمّا كان من الغد أتاها فقال لها: انطلقي معي إلى قبره فانطلقا حتّى أتيا قبره فوقف عليه عيسىعليه‌السلام ثمّ دعا الله عزّوجلّ فانفرج القبر فخرج ابنها حيّاً فلمّا رأته اُمّه و رءاها بكيا فرحمهما عيسىعليه‌السلام فقال له عيسى: أ تحبّ أن تبقى مع اُمّك في الدنيا؟

٢٣٨

فقال: يا رسول الله بأكل و رزق و مدّة أم بغير أكل و رزق و مدّة؟ فقال له عيسىعليه‌السلام : بأكل و رزق و مدّة تعمّر عشرين سنة و تزوّج و يولد لك، قال: نعم إذاً.

قال: فدفعه عيسىعليه‌السلام إلى اُمّه فعاش عشرين سنة و ولد له.

و في تفسير العيّاشيّ، عن محمّد بن يوسف الصنعانيّ عن أبيه قال: سألت أباجعفرعليه‌السلام ( إِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ ) قال: اُلهموا.

أقول: و استعمال الوحي في مورد الإلهام جاء في القرآن في غير مورد كقوله تعالى:( وَ أَوْحَيْنا إِلى‏ أُمِّ مُوسى‏ أَنْ أَرْضِعِيهِ ) القصص: ٧، و قوله تعالى:( وَ أَوْحى‏ رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً ) النحل: ٦٨ و قوله في الأرض:( بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى‏ لَها ) الزلزال: ٥.

٢٣٩

( سورة المائدة الآيات ١١٢ - ١١٥)

إِذْ قَالَ الْحَوارِيّونَ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبّكَ أَن يُنَزّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السّماءِ قَالَ اتّقُوا اللّهَ إِن كُنتُم مُؤْمِنِينَ( ١١٢) قَالُوا نُرِيدُ أَن نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشّاهِدِينَ( ١١٣) قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللّهُمّ رَبّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السّمَاءِ تَكُونَ لَنَا عِيداً لِأَوّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرّازِقِينَ( ١١٤) قَالَ اللّهُ إِنّي مُنَزّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنّي أُعَذّبُهُ عَذَاباً لاَ أُعَذّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعَالَمِينَ( ١١٥)

( بيان)

الآيات تذكر قصّة نزول المائدة على المسيحعليه‌السلام و أصحابه، و هي و إن لم تصرّح بأنّ الله أنزلها عليهم غير أنّ الآية الأخيرة تتضمّن الوعد المنجز منه بإنزالها من غير تقييد و قد وصف تعالى نفسه بأنّه لا يخلف الميعاد.

و قول بعضهم: (إنّهم استقالوا عيسىعليه‌السلام بعد ما سمعوا الوعيد الشديد من الله تعالى لمن يكفر منهم بعد نزول المائدة) قول من غير دليل من كتاب أو حديث يعتمد عليه.

و قد نقل ذلك عن جمع من المفسّرين، و ممّن يذكر منهم: المجاهد و الحسن، و لا حجّة في قولهما و لا قول غيرهما و لو عدّ قولهما رواية كانت من الموقوفات الّتي لا حجّيّة لها لضعفها على أنّها معارضة بغيرها من الروايات الدالّة على نزولها، على أنّها لو صحّت لم تكن إلّا من الآحاد الّتي لا يعتمد عليها في غير الأحكام.

و ربّما يستدلّ على عدم نزولها بأنّ النصارى لا يعرفونها و كتبهم المقدّسة خالية عن حديثها، و لو كانت نازلة لتوفّرت الدواعي على ذكره في كتبهم و حفظه فيما بينهم بسيرة مستمرّة كما تحفّظوا على العشاء الربّانيّ لكن الخبير بتاريخ شيوع النصرانيّة و ظهور الأناجيل لا يعبأ بأمثال هذه الأقاويل فلا كتبهم مكتوبة محفوظة على التواتر إلى

٢٤٠

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401