الميزان في تفسير القرآن الجزء ٦

الميزان في تفسير القرآن0%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 401

الميزان في تفسير القرآن

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي
تصنيف: الصفحات: 401
المشاهدات: 80773
تحميل: 7042


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 13 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 401 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 80773 / تحميل: 7042
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء 6

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

الكونيّة عن الاستقلال في التأثير، فإلى أيّ مبلغ بلغ ركون الإنسان إلى القدرة المطلقة الإلهيّة انقادت له الأشياء على قدره، فافهم ذلك.

و من أجمع القول في هذا الشأن‏ قول الصادقعليه‌السلام : ما ضعف بدن عمّا قويت عليه النيّة، و قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الحديث المتواتر:( إنّما الأعمال بالنيّات) .

فقد تبيّن أنّ الآثار الدينيّة للأعمال و العبادات و كذلك آثار الرياضات و المجاهدات إنّما تستقرّ الرابطة بينها و بين النفس الإنسانيّة بشؤونها الباطنيّة، فالاشتغال بشي‏ء منها اشتغال بأمر النفس.

و من زعم أنّ رابطة السببيّة و المسبّبيّة إنّما هي بين أجساد هذه الأعمال و بين الغايات الاُخرويّة مثلاً من روح و ريحان و جنّة نعيم، أو بينها و بين الغايات الدنيويّة الغريبة الّتي لا تعمل الأسباب الطبيعيّة فيها، كالتصرّف في إدراكات النفوس و أنواع إرادتها و التحريكات من غير محرّك و الاطّلاع على الضمائر و الحوادث المستقبلة و الاتّصال بالروحانيّات و الأرواح و نحو ذلك، أو زعم أنّ العمل يستتبع الأثر من غير رابطة حقيقيّة أو بمجرّد إرادة إلهيّة من غير مخصّص فقد غرّ نفسه.

٦- إيّاك أن يشتبه عليك الأمر فتستنتج من الأبحاث السابقة أنّ الدين هو العرفان و التصوّف أعني معرفة النفس كما توهّمه بعض الباحثين من المادّيين فقسّم المسلك الحيويّ الدائر بين الناس إلى قسمين: المادّيّة و العرفان و هو الدين.

و ذلك أنّ الّذي يعقد عليه الدين أنّ للإنسان سعادة حقيقيّة ليس ينالها إلّا بالخضوع لما فوق الطبيعة و رفض الاقتصار على التمتّعات المادّيّة، و قد أنتجت الأبحاث السابقة: أنّ الأديان أيّاً مّا كانت من حقّ أو باطل تستعمل في تربية الناس و سوقهم إلى السعادة الّتي تعدّهم إيّاها و تدعوهم إليها إصلاح النفس و تهذيبها إصلاحاً و تهذيباً يناسب المطلوب، و أين هذا من كون عرفان النفس هو الدين؟

فالدين يدعو إلى عبادة الإله سبحانه من غير واسطة أو بواسطة الشفعاء و الشركاء لأنّ فيها السعادة الإنسانيّة و الحياة الطيّبة الّتي لا بغية للإنسان دونها، و لا ينالها الإنسان و لن ينالها إلّا بنفس طاهرة مطهّرة من ألواث التعلّق بالمادّيّات و التمتّعات المرسلة الحيوانيّة،

٢٠١

فمسّت الحاجة إلى أن يدرج في أجزاء دعوته إصلاح النفس و تطهيرها ليستعدّ المنتحل به المتربّي في حجره للتلبّس بالخير و السعادة، و لا يكون كمن يتناول الشي‏ء بإحدى يديه و يدفعه بالاُخرى، فالدين أمر و عرفان النفس أمر آخر وراءه، و إن استلزم الدين العرفان نوعاً من الاستلزام.

و بنظير البيان يتبيّن أنّ طرق الرياضة و المجاهدة المسلوكة لمقاصد متنوّعة غريبة عن العادة أيضاً غير عرفان النفس و إن ارتبط البعض بالبعض نحواً من الارتباط.

نعم لنا أن نقضي بأمر و هو أنّ عرفان النفس بأيّ طريق من الطرق فرض السلوك إليه إنّما هو أمر مأخوذ من الدين كما أنّ البحث البالغ الحرّ يعطي أنّ الأديان على اختلافها و تشتّتها إنّما انشعبت هذه الانشعابات من دين واحد عريق تدعو إليه الفطرة الإنسانيّة و هو دين التوحيد.

فإنّا إذا راجعنا فطرتنا الساذجة بالإغماض عن التعصّبات الطارئة علينا بالوراثة من أسلافنا أو بالسراية من أمثالنا، لم نرتب في أنّ العالم على وحدته في كثرته و ارتباط أجزائه في عين تشتّتها ينتهي إلى سبب واحد فوق الأسباب، و هو الحقّ الّذي يجب الخضوع لجانبه و ترتيب السلوك الحيويّ على حسب تدبيره و تربيته، و هو الدين المبنيّ على التوحيد.

و التأمّل العميق في جميع الأديان و النحل يعطي أنّها مشتملة نوع اشتمال على هذا الروح الحيّ حتّى الوثنيّة، و الثنويّة و إنّما وقع الاختلاف في تطبيق السنّة الدينيّة على هذا الأصل و الإصابة و الإخطاء فيه فمن قائل مثلاً: أنّه أقرب إلينا من حبل الوريد و هو معنا أينما كنّا ليس لنا من دونه من وليّ و لا شفيع فمن الواجب عبادته وحده من غير إشراك، و من قائل: إنّ تسفلّ الإنسان الأرضيّ و خسّة جوهره لا يدع له مخلصاً إلى الاتّصال بذاك الجناب، و أين التراب و ربّ الأرباب؟ فمن الواجب أن نتقرّب إلى بعض عباده المكرمين المتجرّدين عن جلباب المادّة الطاهرين المطهّرين من ألواث الطبيعة و هم روحانيّات الكواكب أو أرباب الأنواع أو المقرّبون من الإنسان و( ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) .

٢٠٢

و إذ كانوا غائبين عن حواسّنا متعالين عن جهاتنا كان من الواجب أن نجسدهم بالأنصاب و الأصنام حتّى يتمّ بذلك أمر التقرّب العباديّ، و على هذا القياس في سائر الأديان و الملل فلا نجد في متونها إلّا ما هو بحسب الحقيقة نحو توجيه لتوحيد الإله عزّ اسمه.

و من المعلوم أنّ السنن الدائرة بين الناس و إن انشعبت أيّ انشعاب فرض و اختلفت أيّ اختلاف شديد فإنّها تميل إلى التوحّد إذا رجعنا إلى سابق عهودها القهقرى، و تنتهي بالأخرة إلى دين الفطرة الساذجة الإنسانيّة و هو التوحيد فدين التوحيد أبو الأديان و هي أبناء له صالحة أو طالحة.

ثمّ إنّ الدين الفطريّ إنّما يعتبر أمر عرفان النفس ليتوصّل به إلى السعادة الإنسانيّة الّتي يدعو إليها و هي معرفة الإله الّتي هي المطلوب الأخير عنده، و بعبارة اُخرى الدين إنّما يدعو إلى عرفان النفس دعوة طريقيّة لا غائيّة فإنّ الذوق الدينيّ لا يرتضي الاشتغال بأمر إلّا في سبيل العبوديّة، و إنّ الدين عند الله الإسلام و لا يرضى لعباده الكفر فكيف يرضى بعرفان النفس إذا استقلّ بالمطلوبيّة؟.

و من هنا يظهر أنّ العرفان ينتهي إلى أصل الدين الفطريّ إذ ليس هو بنفسه أمراً مستقلّاً يدعو إليه الفطرة الإنسانيّة حتّى ينتهي فروعه و أغصانه إلى أصل واحد هو العرفان الفطريّ.

و يمكن أن يستأنس في ذلك بأمر آخر و هو أنّ الإنسانيّة و إن اندفعت بالفطرة إلى الاجتماع و المدنيّة لإسعاد الحياة، و أثبت النقل و البحث أنّ رجالاً أو أقواماً اجتماعيّين دعوا إلى طرائق قوميّة أو وضعوا سنناً اجتماعيّة، و أجروها بين أممهم كسنن القبائل و السنّة الملوكيّة و الديمقراطيّة و نحوها، و لم يثبت بنقل أو بحث أن يدعو إلى عرفان النفس و تهذيب أخلاقها أحد من غير أهل الدين في طول التاريخ البشريّ.

نعم من الممكن أن يكون بعض أصحاب هذه الطرق غير الدينيّة كأصحاب السحر و الأرواح و نحوهما إنّما تنبّه إلى هذا النوع من عرفان النفس من غير طريق الدين لكن لا من جهة الفطرة إذ الفطرة لا حكم لها في ذلك كما عرفت بل من جهة مشاهدة بعض

٢٠٣

الآثار النفسانيّة الغريبة على سبيل الاتّفاق فتتوق نفسه إلى الظفر بمنزلة نفسانيّة يملك بها أعمالاً عجيبة و تصرّفات في الكون نادرة تستغربها النفوس فيدفعه هذا التوقان إلى البحث عنه و السلوك إليه ثمّ السلوك بعد السلوك يمهّد السبيل إلى المطلوب و يسهّل الوعر منه.

٧- يحكى عن كثير من صلحائنا من أهل الدين أنّهم نالوا في خلال مجاهداتهم الدينيّة كرامات خارقة للعادة و حوادث غريبة اختصّوا بها من بين أمثالهم كتمثّل اُمور لأبصارهم غائبة عن أبصار غيرهم، و مشاهدة أشخاص أو وقائع لا يشاهدها حواسّ من دونهم من الناس، و استجابة للدعوة و شفاء المريض الّذي لا مطمع لنجاح المداواة فيه، و النجاة من المخاطر و المهالك من غير طريق العادة، و قد يتّفق نظائر ذلك لغير أهل الصلاح إذا كان ذا نيّة صادقة و نفس منقطعة، فهؤلاء يرون ما يرون و هم على غفلة من سببه القريب، و إنّما يسندون ذلك إلى الله سبحانه من غير توسيط وسط، و استناد الاُمور إليه تعالى، و إن كان حقّاً لا محيص عن الاعتراف به لكنّ نفي الأسباب المتوسّطة ممّا لا مطمع فيه.

و ربّما أحضر الرّوحيّ روح أحد من الناس في مرآة أو ماء و نحوه بالتصرّف في نفس صبيّ - على ما هو المتعارف - و هو كغيره يرى أنّ الصبيّ إنّما يبصره بالبصر الحسّيّ، و أنّ بين أبصار سائر الناظرين و بين الروح المحضر حجاباً مضروباً لو كشف عنه لكانوا مثل الصبيّ في الظفر بمشاهدته.

و ربّما وجدوا الأرواح المحضرة أنّها تكذب في أخبارها فيكون عجباً لأنّ عالم الأرواح عالم الطهارة و الصفاء لا سبيل للكذب و الفرية و الزور إليه.

و ربّما أحضروا روح إنسان حيّ فيستنطقونه بأسراره و ضمائره و صاحب الروح في حالة اليقظة مشغول بأشغاله و حوائجه اليوميّة لا خبر عنده من أنّ روحه محضر مستنطق يبثّ من القول ما لا يرضى هو ببثّه.

و ربّما نوّم الإنسان تنويماً مغناطيسيّاً ثمّ لقّن بعمل حتّى ينعم بقبوله فإذا أوقظ و مضى لشأنه أتى بالعمل الّذي لقّنه على الشريطة الّتي اُريد بها و هو غافل عمّا لقّنوه

٢٠٤

و عن إنعامه بقبوله.

و بعض الروحيّين لما شاهدوا صوراً روحيّة تماثل الصور الإنسانيّة أو صور بعض الحيوان ظنّوا أنّ هذه الصور في عالم المادّة و ظرف الطبيعة المتغيّرة، و خاصّة بعض من لا يرى لغير الأمر المادّيّ وجوداً، حتّى حاول بعض هؤلاء أن يخترع أدوات صناعيّة يصطاد بها الأرواح، كلّ ذلك استناداً منهم إلى فرضيّة افترضوها في النفس: أنّها مبدأ مادّيّ أو خاصّة لمبدإ مادّيّ يفعل بالشعور و الإرادة، مع أنّهم لم يحلّوا مشكلة الحياة و الشعور حتّى اليوم.

و نظير هذه الفرضيّة فرضيّة من يرى أنّ الروح جسم لطيف مشاكل للبدن العنصريّ في هيئاته و أشكاله لما وجدوا أنّ الإنسان يرى نفسه في المنام و هو على هيئته في اليقظة، و ربّما يمثّل لأرباب المجاهدات صور أنفسهم قبالاً خارج أبدانهم و هي مشاكلة للصورة البدنيّة مشاكلة تامّة، فحكموا أنّ الروح جسم لطيف حالّ في البدن العنصريّ ما دام الإنسان حيّاً فإذا فارق البدن كان هو الموت.

و قد فاتهم أنّ هذه صورة إدراكيّة قائمة بشعور الإنسان نظيرة صورته الّتي يدركها من بدنه، و نظيرة صور سائر الأشياء الخارجة المنفصلة عن بدنه، و ربّما تظهر هذه الصورة المنفصلة لبعض أرباب المجاهدة أكثر من واحدة أو في هيئة غير هيئة نفسه، و ربّما يرى نفسه عين نفس غيره من أفراد الناس، فإذا لم يحكموا في هذه الصور المذكور أنّها هي صورة الروح فجدير بهم أن لا يحكموا في الصورة الواحدة المشاكلة الّتي تتراءى لأرباب المجاهدات أنّها صورة الروح.

و حقيقة الأمر أنّ هؤلاء نالوا شيئاً من معارف النفس و فاتهم معرفة حقيقتها كما هي فأخطؤا في تفسير ما نالوه و ضلّوا في توجيه أمره، و الحقّ الّذي يهدي إليه البرهان و التجربة أنّ حقيقة النفس الّتي هي هذا الشعور المتعقّل المحكيّ عنه بقولنا( أنا) أمر مغاير في جوهره لهذه الاُمور المادّيّة كما تقدّم، و أنّ أقسام شعوره و أنواع إدراكاته من حسّ أو خيال أو تعقّل من جهة كونها مدركات إنّما هي متقرّرة في عالمه و ظرفه غير الخواصّ الطبيعيّة الحاصلة في أعضاء الحسّ و الإدراك من البدن فإنّها أفعال و انفعالات مادّيّة

٢٠٥

فاقدة في نفسها للحياة و الشعور، فهذه الاُمور المشهودة الخاصّة بالصلحاء و أرباب المجاهدات و الرياضات غير خارجة عن حيطة نفوسهم، و إنّما الشأن في أنّ هذه المعلومات و المعارف كيف استقرّت في النفس و أين محلّها منها؟ و أنّ للنفس سمة علّيّة لجميع الحوادث و الاُمور المرتبطة بها ارتباطاً مّا، فجميع هذه الاُمور الغريبة المطاوعة لأهل الرياضة و المجاهدة إنّما ترتضع من إرادتهم و مشيئتهم، و الإرادة ناشئة من الشعور، فللشعور الإنسانيّ دخل في جميع الحوادث المرتبطة به و الاُمور المماسّة له.

٨- فمن الحريّ أن نقسّم المشتغلين بعرفان النفس في الجملة إلى طائفتين: إحداهما المشتغلون بالاشتغال بإحراز شي‏ء من آثار النفس الغريبة الخارجة عن حومة المتعارف من الأسباب و المسبّبات المادّيّة، كأصحاب السحر و الطلسمات و أصحاب تسخير روحانيّات الكواكب و الموكّلين على الاُمور و الجنّ و أرواح الآدميّين و أصحاب الدعوات و العزائم و نحو ذلك.

و الثانية المشتغلون بمعرفة النفس بالانصراف عن الاُمور الخارجة عنها و الانجذاب نحوها للغور فيها و مشاهدة جوهرها و شؤونها كالمتصوّفة على اختلاف طبقاتهم و مسالكهم.

و ليس التصوّف ممّا أبدعه المسلمون من عند أنفسهم لما أنّه يوجد بين الاُمم الّتي تتقدّمهم في النشوء كالنصارى و غيرهم حتّى الوثنيّة من البرهمانيّة و البوذيّة، ففيهم من يسلك الطريقة حتّى اليوم بل هي طريقة موروثة ورثوها من أسلافهم.

لكن لا بمعنى الأخذ و التقليد العاديّ كوراثة الناس ألوان المدنيّة بعضهم من بعض و اُمّة منهم متأخّرة من اُمّة منهم متقدّمة كما جرى على ذلك عدّة من الباحثين في الأديان و المذاهب و ذلك لما عرفت في الفصول السابقة أنّ دين الفطرة يهدي إلى الزهد و الزهد يرشد إلى عرفان النفس فاستقرار الدين بين اُمّة و تمكّنه من قلوبهم يعدّهم و يهيّؤهم لأن تنشأ بينهم طريقة عرفان النفس لا محالة، و يأخذ بها بعض من تمّت في حقّه العوامل المقتضية لذلك، فمكث الحياة الدينيّة في اُمّة من الاُمم برهة معتدّاً بها ينشئ بينهم هذه الطريقة لا محالة صحيحة أو فاسدة و إن انقطعوا عن غيرهم من الاُمم الدينيّة كلّ الانقطاع، و ما هذا شأنه لا ينبغي أن يعدّ من السنن الموروثة الّتي يأخذها جيل عن جيل.

٢٠٦

٩- ثمّ ينبغي أن نقسّم أصحاب القسم الثاني من القسمين المتقدّمين و هم أهل العرفان حقيقة إلى طائفتين:

فطائفة منهم يسلكون الطريقة لنفسها فيرزقون شيئاً من معارفها من غير أن يتمّ لهم تمام المعرفة لها لأنّهم لما كانوا لا يريدون غير النفس فهم في غفلة عن أمر صانعها و هو الله عزّ اسمه الّذي هو السبب الحقّ الآخذ بناصية النفس في وجودها و آثار وجودها و كيف يسع الإنسان تمام معرفة شي‏ء مع الذهول عن معرفة أسباب وجوده و خاصّة السبب الّذي هو سبب كلّ سبب؟ و هل هو إلّا كمن يدّعي معرفة السرير على جهل منه بالنجّار و قدومه و منشاره و غرضه في صنعه إلى غير ذلك من علل وجود السرير؟.

و من الحريّ بهذا النوع من معرفة النفس أن يسمّى كهانة بما في ذيله من الحصول على شي‏ء من علوم النفس و آثارها.

و طائفة منهم يقصدون طريقة معرفة النفس لتكون ذريعة لهم إلى معرفة الربّ تعالى، و طريقتهم هذه هي الّتي يرتضيها الدين في الجملة و هي أن يشتغل الإنسان بمعرفة نفسه بما أنّها آية من آيات ربّه و أقرب آية، و تكون النفس طريقاً مسلوكاً و الله سبحانه هو الغاية الّتي يسلك إليها( وَ أَنَّ إِلى‏ رَبِّكَ الْمُنْتَهى) .

و هؤلاء طوائف مختلفة ذووا مذاهب متشتّتة في الاُمم و النحل، و ليس لنا كثير خبرة بمذاهب غير المسلمين منهم و طرائقهم الّتي يسلكونها، و أمّا المسلمون فطرقهم فيها كثيرة ربّما اُنهيت بحسب الاُصول إلى خمس و عشرين سلسلة، تنشعب من كلّ سلسلة منها سلاسل جزئيّة اُخر، و قد استندوا فيها إلّا في واحدة إلى عليّ عليه أفضل السلام، و هناك رجال منهم لا ينتمون إلى واحدة من هذه السلاسل و يسمّون الاُويسيّة (نسبة إلى اُويس القرنيّ) و هناك آخرون منهم لا يتسمّون باسم و لا يتظاهرون بشعار.

و لهم كتب و رسائل مسفورة ترجموا فيها عن سلاسلهم و طرقهم، و النواميس و الآداب الّتي لهم و عن رجالهم، و ضبطوا فيها المنقول من مكاشفاتهم، و أعربوا فيها عن حججهم و مقاصدهم الّتي بنوها عليها، من أراد الوقوف عليها فليراجعها. و أمّا البحث عن تفصيل الطرق و المسالك و تصحيح الصحيح و نقد الفاسد فله مقام آخر، و قد تقدّم في الجزء الخامس من هذا

٢٠٧

الكتاب بحث لا يخلو عن نفع في هذا الباب، فهذه خلاصة ما أردنا إيراده من البحث المتعلّق بمعنى معرفة النفس.

و اعلم أنّ عرفان النفس بغية عمليّة لا يحصل تمام المعرفة بها إلّا من طريق السلوك العمليّ دون النظريّ، و أمّا علم النفس الّذي دوّنه أرباب النظر من القدماء فليس يغني من ذلك شيئاً، و كذلك فنّ النفس العمليّ الّذي دوّنه المتأخّرون حديثاً فإنّما هو شعبة من فنّ الأخلاق على ما دوّنه القدماء، و الله الهادي.

٢٠٨

( سورة المائدة الآيات ١٠٦ - ١٠٩)

يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ الصّلاَةِ فَيُقْسِمَانِ باللّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لاَ نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى‏ وَلاَ نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللّهِ إِنّا إِذاً لَمِنَ الآثِمِينَ( ١٠٦) فَإِنْ عُثِرَ عَلَى‏ أَنّهُمَا اسْتَحَقّا إِثْماً فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الّذِينَ اسْتَحَقّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقّ مِن شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنّا إِذَاً لَمِنَ الظّالِمِينَ( ١٠٧) ذلِكَ أَدْنَى‏ أَن يَأْتُوا بِالشّهَادَةِ عَلَى‏ وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَن تُرَدّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتّقُوا اللّهَ وَاسْمَعُوا وَاللّهُ لاَيَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ( ١٠٨) يَوْمَ يَجْمَعُ اللّهُ الرّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لاَ عِلْمَ لَنَا إِنّكَ أَنْتَ عَلّامُ الْغُيُوبِ( ١٠٩)

( بيان)

الآيات الثلاث الأوّل في الشهادة، و الأخيرة لا تخلو عن اتّصال مّا بها بحسب المعنى.

قوله تعالى: ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ ) إلى آخر الآيتين، محصّل مضمون الآيتين أنّ أحدهم إذا كان على سفر فأراد أن يوصي فعليه أن يشهد حين الوصيّة شاهدين عدلين من المسلمين و إن لم يجد فشاهدين آخرين من غير المسلمين من أهل الكتاب فإن ارتاب أولياء الميّت في أمر الوصيّة يحبس الشاهدان بعد الصلاة فيقسمان بالله على صدقهما فيما يشهدان عليه و ترفع بذلك الخصومة، فإن اطّلعوا على أنّ الشاهدين كذبا في شهادتهما أو خانا في الأمر فيوقف شاهدان آخران مقام الشاهدين الأوّلين فيشهدان على خلافهما و يقسمان بالله على ذلك.

٢٠٩

فهذا ما تفيده الآيتان بظاهرهما فقوله:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ) خطاب للمؤمنين و الحكم مختصّ بهم( شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ ) أي شهادة بينكم ذوي عدل منكم ففي جانب الخبر مضاف مقدّر، أو شهداء بينكم ذوا عدل منكم، و المراد أنّ عدد الشهود اثنان فالمصدر - الشهادة - بمعنى اسم الفاعل كقولهم: رجل عدل و رجلان عدل.

و حضور الموت كناية عن حضور داعي الوصيّة فإنّ الناس بحسب الطبع لا يشتغلون بأمثال هذه الاُمور من غير حضور أمر يوجب الظنّ بالموت، و هو عادة المرض الشديد الّذي يشرف الإنسان به على الموت.

و قوله:( حِينَ الْوَصِيَّةِ ) ظرف متعلّق بالشهادة أي الشهادة حين الوصيّة، و المراد بالعدل - و هو مصدر - الاستقامة في الأمر، و قرينة المقام تعطي أنّ المراد به الاستقامة في أمر الدين، و يتعيّن بذلك أنّ المراد بقوله:( مِنْكُمْ ) و قوله:( مِنْ غَيْرِكُمْ ) المسلمون و غير المسلمين، دون القرابة و العشيرة فإنّ الله سبحانه قابل بين قوله:( اثْنانِ ) و قوله:( آخَرانِ ) ، ثمّ وصف الأوّل بقوله( ذَوا عَدْلٍ ) و قوله:( مِنْكُمْ ) و لم يصف الثاني إلّا بقوله:( مِنْ غَيْرِكُمْ ) دون أن يصفه بالعدالة، و الاتّصاف بالاستقامة في الدين و عدمه إنّما يختلف في المسلم و غير المسلم، و لا موجب لاعتبار العدالة في الشهود إذا كانوا قرابة أو من عشيرة المشهود له و إلغائها إذا كان الشاهد أجنبيّاً.

و على هذا فقوله:( أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ ) ترديد على سبيل الترتيب أي إن كان هناك نفر من المسلمين يستشهد اثنان منهم، و إن لم يكن إلّا من غير المسلمين يستشهد باثنين منهم، كلّ ذلك بالاستفادة من قرينة المقام.

و هذه القرينة بعينها هي الّتي توجب أن يكون قوله:( إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ ) قيداً متعلّقاً بقوله:( أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ ) فإنّ المسلم لما كان بالطبع إنّما يعيش في مجتمع المسلمين لا تمسّ الحاجة في الحضر عادة إلى الاستشهاد بشهيدين من غير المسلمين بخلاف حالة السفر و الضرب في الأرض فإنّها مظنّة وقوع أمثال هذه الوقائع و الاضطرار و مسيس الحاجة إلى الانتفاع من غير المسلم بشهادة أو غيرها.

٢١٠

و قرينة المقام أعني المناسبة بين الحكم و الموضوع بالذوق المتّخذ من كلامه تعالى تدلّ على أنّ المراد من غير المسلمين أهل الكتاب خاصّة لأنّ كلامه تعالى لا يشرّف المشركين بكرامة.

و قوله تعالى:( تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ ) أي توقفونهما، و الحبس الإيقاف،( فَيُقْسِمانِ بِاللهِ ) أي الشاهدان( إِنِ ارْتَبْتُمْ ) أي شككتم فيما يظهره الوصيّ من أمر الوصيّة أو المال الّذي تعلّقت به الوصيّة أو في كيفيّة الوصيّة، و المقسم عليه هو قوله:( لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَ لَوْ كانَ ذا قُرْبى‏ ) أي لا نشتري بالشهادة للوصيّ فيما يدّعيه ثمناً قليلاً و لو كان ذا قربى، و اشتراء الثمن القليل بالشهادة أن ينحرف الشاهد في شهادته عن الحقّ لغاية دنيويّة من مال أو جاه أو عاطفة قرابة فيبذل شهادته بإزاء ثمن دنيويّ، و هو الثمن القليل.

و ذكر بعضهم أنّ الضمير في قوله:( مُصِيبَةُ ) إلى اليمين أي لا نشتري بيميننا ثمناً قليلاً، و لازمه إجراء اليمين مرّتين و الآية بمعزل عن الدلالة على ذلك.

و قوله:( وَ لا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللهِ ) أي بالشهادة على خلاف الواقع( إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ ) الحاملين للإثم، و الجملة معطوفة على قوله:( لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً ) كعطف التفسير.

و إضافة الشهادة إلى الله في قوله:( شَهادَةَ اللهِ ) إمّا لأنّ الواقع يشهده الله سبحانه كما شهده الشاهدان فهو شهادته سبحانه كما هو شهادتهما و الله أحقّ بالملك فهو شهادته تعالى حقّاً و بالأصالة و شهادتهما تبعاً، و قد قال تعالى:( وَ كَفى‏ بِاللهِ شَهِيداً ) النساء: ٧٩ و قال تعالى:( وَ لا يُحِيطُونَ بِشَيْ‏ءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِما شاءَ ) البقرة: ٢٥٥.

و إمّا لأنّ الشهادة حقّ مجعول لله على عباده يجب عليهم أن يقيموها على وجهها من غير تحريف أو كتمان، و هذا كما يقال: دين الله، فينسب الدين إليه تعالى مع أنّ العباد هم المتلبّسون به، قال تعالى:( وَ أَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ ) الطلاق: ٣ و قال:( وَ لا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ ) البقرة: ٢٨٣.

و قوله:( فَإِنْ عُثِرَ عَلى‏ أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً ) العثور على الشي‏ء الحصول عليه و وجدانه، و هذه الآية بيان و تفصيل للحكم في صورة ظهور خيانة الشاهدين و كذبهما في شهادتهما.

٢١١

و المراد باستحقاق الإثم الاجرام و الجناية يقال: استحقّ الرجل أي أذنب، و استحقّ فلان إثماً على فلان كناية عن إجرامه و جنايته عليه و لذا عدّي بعلى في قوله تعالى ذيلاً:( اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ ) أي أجرما و جنيا عليهم بالكذب و الخيانة، و أصل معنى قولنا: استحقّ الرجل طلب أن يحقّ و يثبت فيه الإثم أو العقوبة فاستعماله الكنائيّ من قبيل إطلاق الطلب و إرادة المطلوب و وضع الطريق موضع الغاية، و إنّما ذكر الإثم في قوله:( اسْتَحَقَّا إِثْماً ) بالبناء على ما تقدّم في قوله:( إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ ) .

و قوله تعالى:( فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما ) أي إن عثر على أنّ الشاهدين استحقّا بالكذب و الخيانة فشاهدان آخران يقومان مقامهما في اليمين على شهادتهما عليهما بالكذب و الخيانة.

و قوله:( مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ ) في موضع الحال أي حال كون هذين الجديدين من الّذين استحقّ عليهم أي أجرم و جنى عليهم الشاهدان الأوّلان اللّذين هما الأوليان الأقربان بالميّت من جهة الوصيّة كما ذكره الرازيّ في تفسيره، و المراد بالّذين استحقّ عليهم الأوليان أولياء الميّت، و حاصل المعنى أنّه إن عثر على أنّ الشاهدين أجرما على أولياء الميّت بالخيانة و الكذب فيقوم شاهدان آخران من أولياء الميّت الّذين أجرم عليهم الشاهدان الأوّلان الأوليان بالميّت قبل ظهور استحقاقهما الإثم.

هذا على قراءة( اسْتَحَقَّ ) بالبناء للفاعل و هو قراءة عاصم على رواية حفص، و أمّا على قراءة الجمهور( اسْتَحَقَّ ) بضمّ التاء و كسر الحاء بالبناء للمفعول فظاهر السياق أن يكون الأوليان مبتدأ خبره قوله:( فَآخَرانِ يَقُومانِ ) إلخ، قدم عليه لتعلّق العناية به، و المعنى إن عثر على أنّهما استحقّا إثماً فالأوليان بالميّت هما آخران يقومان مقامهما من أوليائه المجرم عليهم.

و في قراءة عاصم من طريق أبي بكر و حمزة و خلف و يعقوب( الأوّلين) جمع الأوّل مقابل الآخر، و هو بظاهره بمعنى الأولياء و المقدّمين، وصف أو بدل من قوله:( الَّذِينَ ) .

و قد ذكر المفسّرون في تركيب أجزاء الآية وجوهاً كثيرة جدّاً لو ضرب بعضها

٢١٢

في بعض للحصول على معنى تمام الآية ارتقت إلى مئين من الصور، و قد ذكر الزجّاج فيما نقل عنه: أنّها أشكل آية في كتاب الله من حيث التركيب.

و الّذي أوردناه من المعنى هو الظاهر من سياق اللّفظ من غير تعسّف في الفهم، و أضربنا عن استقصاء ما ذكروه من المحتملات لأنّ تكثيرها لا يزيد اللّفظ إلّا إبهاماً، و لا الباحث إلّا حيرة(١) .

و قد فرّع على قوله:( فَآخَرانِ يَقُومانِ ) ، إلخ تفريع الغاية على ذي الغاية قوله:( فَيُقْسِمانِ بِاللهِ ) أي الشاهدان الآخران من أولياء الميّت( لَشَهادَتُنا ) بما يتضمّن كذبهما و خيانتهما( أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما ) أي من شهادة الشاهدين الأوّلين بما يدّعيان من أمر الوصيّة( وَ مَا اعْتَدَيْنا ) عليهما بالشهادة على خلاف ما شهدا عليه( إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ ) .

قوله تعالى: ( ذلِكَ أَدْنى‏ أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى‏ وَجْهِها أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ ) الآية في مقام بيان حكمة التشريع و هي أنّ هذا الحكم على الترتيب الّذي قرّره الله تعالى أحوط طريق إلى حيازة الواقع في المقام، و أقرب من أن لا يجور الشاهدان في شهادتهما و يخافا من أن يتغيّر الأمر عليهما بردّ شهادتهما بعد قبولها.

فإنّ الإنسان ذو هوى يدعوه إلى التمتّع بكلّ ما يسعه التمتّع به و القبض على كلّ ما يتهوسّه إذا لم يكن هناك مانع يصرفه عنه سواء كان ذلك منه عن حقّ يستحقّه أو جوراً، عدلاً أو ظلماً و تعدّياً على غيره بإبطال حقّه و الغلبة عليه، و إنّما ينصرف الإنسان عن هذا التعدّي و التجاوز إمّا لمانع يمنعه من خارج بسياسة أو عقوبة أو فضيحة، و إمّا لرادع يردعه من نفسه و أقوى رادع نفسانيّ هو الاعتقاد بالله الّذي إليه مرجع العباد و حساب الأعمال و القضاء الفصل و الجزاء المستوفى.

و إذا كان الواقع من أمر الوصيّة بحسب فرض المقام مجهولاً لا طريق إلى كشفه إلّا شهادة من أشهدهما الميّت من الشاهدين فأقوى ما يقرّب شهادتهما من الصدق أن يؤخذ في ذلك بأيمانهما بالله تعالى و هو اليمين، و أن يردّ اليمين إلى الورثة الأولياء مع يمينهما

____________________

(١) و على من يريد الاطّلاع عليها أن يراجع الجزء السابع من تفسير روح المعاني للالوسي و مجمع البيان و تفسير الرازيّ و سائر المطولات.

٢١٣

على تقدير انكشاف كذبهما و خيانتهما عند الورثة، فهذان أعني يمينهما أوّلاً ثمّ ردّ اليمين إلى الورثة أقرب وسيلة إلى صدقهما في شهادتهما و خوفهما فضيحة ردّ اليمين، و الرادعان أقوى ما يردعهما من الانحراف.

ثمّ عقّب تعالى القول بالموعظة و الإنذار فقال:( وَ اتَّقُوا اللهَ وَ اسْمَعُوا وَ اللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ ) و المعنى واضح.

قوله تعالى: ( يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ما ذا أُجِبْتُمْ قالُوا لا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ ) الآية لا تأبى الاتّصال بما قبلها فإنّ ظاهر قوله تعالى في ذيل الآية السابقة:( وَ اتَّقُوا اللهَ وَ اسْمَعُوا ) ، إلخ و إن كان مطلقاً لكنّه بحسب الانطباق على المورد نهي عن الانحراف و الجور في الشهادة و الاستهانة بأمر اليمين بالله فناسب أن يذكّر في المقام بما يجري بينه سبحانه و بين رسله يوم القيامة و هم شهداء على اُممهم و أفضل الشهداء، حيث يسألهم الله سبحانه عن الّذي أجابهم به اُممهم و هم أعلم الناس بأعمال اُممهم و الشاهدون من عند الله عليهم فيجيبونه بقولهم:( لا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ ) .

فإذا كان الأمر على هذه الوتيرة، و كان الله سبحانه هو العالم بكلّ شي‏ء حقّ العلم فجدير بالشهود أن يخافوا مقام ربّهم: و لا ينحرفوا عن الحقّ الّذي رزقهم الله العلم به، و لا يكتموا شهادة الله فيكونوا من الآثمين و الظالمين و الفاسقين.

فقوله تعالى:( يَوْمَ يَجْمَعُ ) ، إلخ ظرف متعلّق بقوله في الآية السابقة:( وَ اتَّقُوا اللهَ ) ، إلخ و ذكر جمع الرسل دون أن يقال:( يوم يقول الله للرسل) لمكان مناسبة مع جمع الشهداء للشهادة كما يشعر به قوله:( تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمانِ بِاللهِ ) .

و أمّا نفيهم العلم يومئذ عن أنفسهم بقولهم:( لا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ ) فإثباتهم جميع علوم الغيوب لله سبحانه على وجه الحصر يدلّ على أنّ المنفيّ ليس أصل العلم فإنّ ظاهر قولهم:( إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ ) يدلّ على أنّه لتعليل النفي، و من المعلوم أنّ انحصار جميع علوم الغيب في الله سبحانه لا يقتضي رفع كلّ علم عن غيره و خاصّة إذا كان علماً بالشهادة، و المسؤل عنه أعني كيفيّة إجابة الناس لرسلهم من قبيل الشهادة دون الغيب.

٢١٤

فقولهم:( لا عِلْمَ لَنا ) ليس نفياً لمطلق العلم بل لحقّ العلم الّذي لا يخلو عن التعلّق بالغيب فإنّ من المعلوم أنّ العلم إنّما يكشف لعالمه من الواقع على قدر ما يتعلّق بأمر من حيث أسبابه و متعلّقاته، و الواقع في العين مرتبط بجميع أجزاء الخارج ممّا يتقدّم على الأمر الواقع في الخارج و ما يحيط به ممّا يصاحبه زماناً فالعلم بأمر من الاُمور الخارجيّة بحقيقة معنى العلم لا يحصل إلّا بالإحاطة بجميع أجزاء الوجود ثمّ بصانعه المتعالي من أن يحيط به شي‏ء، و هذا أمر وراء الطاقة الإنسانيّة.

فلم يرزق الإنسان من العلم في هذا الكون الّذي يبهته التفكير في سعة ساحته، و تهوّله النظرة في عظمة أجرامه و مجرّاته، و يطير لبّه الغور في متون ذرّاته، و يأخذه الدوار إذا أراد الجري بين هاتين الغايتين إلّا اليسير من العلم على قدر ما يحتاج إليه في مسير حياته كالشمعة الصغيرة يحملها طارق الليل المظلم لا ينتفع من نورها إلّا أن يميّز ما يضع عليه قدمه من الأرض.

فما يتعلّق به علم الإنسان ناشب بوجوده متعلّق بواقعيّته بأطراف ثمّ بأطراف أطراف و هكذا كلّ ذلك في غيب من إدراك الإنسان فلا يتعلّق العلم بحقيقة معنى الكلمة بشي‏ء إلّا إذا كان متعلّقاً بجميع الغيوب في الوجود، و لا يسع ذلك لمخلوق محدود مقدّر إنساناً أو غيره إلّا لله الواحد القهّار الّذي عنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلّا هو، قال الله تعالى:( وَ اللهُ يَعْلَمُ وَ أَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) البقرة: ٢١٦ فدلّ على أنّ من طبع الإنسان الجهل فلا يرزق من العلم إلّا محدوداً مقدّراً كما قال تعالى:( وَ إِنْ مِنْ شَيْ‏ءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَ ما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ ) الحجر: ٢١ و هو قولهعليه‌السلام : حيث سئل عن علّة احتجاب الله عن خلقه فقال: لأنّه بناهم بنية على الجهل‏، و قال تعالى:( وَ لا يُحِيطُونَ بِشَيْ‏ءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِما شاءَ ) البقرة: ٢٥٥ فدلّ على أنّ العلم كلّه لله، و إنّما يحيط منه الإنسان بما شاء الله، و قال تعالى:( وَ ما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا ) الإسراء: ٨٥ فدلّ على أنّ هناك علماً كثيراً لم يؤت الإنسان إلّا قليلاً منه.

فإذن حقيقة الأمر أنّ العلم حقّ العلم لا يوجد عند غير الله سبحانه، و إذ كان يوم القيامة يوماً يظهر فيه الأشياء بحقائقها على ما تفيده الآيات الواصفة لأمره فلا مجال فيه

٢١٥

إلّا للكلام الحقّ كما قال تعالى:( لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَ قالَ صَواباً، ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ ) النبأ: ٣٩ كان من الجواب الحقّ إذا ما سئل الرسل فقيل لهم:( ما ذا أُجِبْتُمْ ) أن يجيبوا بنفي العلم عن أنفسهم لكونه من الغيب، و يثبتوه لربّهم سبحانه بقولهم:( لا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ ) .

و هذا الجواب منهمعليهم‌السلام نحو خضوع لحضرة العظمة و الكبرياء و اعتراف بحاجتهم الذاتيّة و بطلانهم الحقيقيّ قبال مولاهم الحقّ رعاية لأدب الحضور و إظهاراً لحقيقة الأمر، و ليس جواباً نهائيّاً لا جواب بعده البتّة:

أمّا أوّلاً فلأنّ الله سبحانه جعلهم شهداء على اُممهم كما ذكره في قوله:( فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَ جِئْنا بِكَ عَلى‏ هؤُلاءِ شَهِيداً ) النساء: ٤١ و قال:( وَ وُضِعَ الْكِتابُ وَ جِي‏ءَ بِالنَّبِيِّينَ وَ الشُّهَداءِ ) الزمر: ٦٩ و لا معنى لجعلهم شهداء إلّا ليشهدوا على اُممهم يوم القيامة بما هو حقّ الشهادة يومئذ، فلا محالة هم سيشهدون يومئذ كما قدّر الله ذلك فقولهم يومئذ:( لا عِلْمَ لَنا ) جري على الأدب العبوديّ قبال الملك الحقّ الّذي له الأمر و الملك يومئذ، و بيان لحقيقة الحال و هو أنّه هو يملك العلم لذاته و لا يملك غيره إلّا ما ملّكه، و لا ضير أن يجيبوا بعد هذا الجواب بما لهم من العلم الموهوب المتعلّق بأحوال اُممهم، و هذا ممّا يؤيّد ما قدّمناه في البحث عن قوله تعالى:( وَ كَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ ،) الآية: البقرة: ١٤٣ في الجزء الأوّل من هذا الكتاب: أنّ هذا العلم و الشهادة ليسا من نوع العلم و الشهادة المعروفين عندنا و أنّهما من العلم المخصوص بالله الموهوب لطائفة من عباده المكرمين.

و أمّا ثانياً فلأنّ الله سبحانه أثبت العلم لطائفة من مقرّبي عباده يوم القيامة على ما له من الشأن، قال تعالى:( وَ قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَ الْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللهِ إِلى‏ يَوْمِ الْبَعْثِ ) الروم: ٥٦ و قال تعالى:( وَ عَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيماهُمْ ) الأعراف: ٤٦ و قال تعالى:( وَ لا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ ) الزخرف: ٨٧ و عيسى بن مريمعليه‌السلام ممّن تعمّه الآية و هو رسول فهو ممّن يشهد بالحقّ و هم يعلمون، و قال تعالى:( وَ قالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي

٢١٦

اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً ) الفرقان: ٣١ و المراد بالرسول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و الّذي تحكيه الآية من قوله هو بعينه جواب لما تشتمل عليه هذه الآية من السؤال أعني قوله تعالى:( فَيَقُولُ ما ذا أُجِبْتُمْ ) فظهر أنّ قول الرسلعليهم‌السلام :( لا علم لنا) ليس جواباً نهائيّاً كما تقدّم.

و أمّا ثالثاً فلأنّ القرآن يذكر السؤال عن المرسلين و المرسل إليهم جميعاً كما قال تعالى:( فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَ لَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ ) الأعراف: ٦ ثمّ ذكر عن الاُمم المرسل إليهم جوابات كثيرة عن سؤالات كثيرة، و الجواب يستلزم العلم كما أنّ السؤال يقرّره، و قال أيضاً فيهم:( لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ) ق: ٢٢، و قال أيضاً:( وَ لَوْ تَرى‏ إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَ سَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ ) السجدة: ١٢ إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة، و إذا كانت الاُمم - و خاصّة المجرمون منهم - على علم في هذا اليوم فكيف يتصوّر أن يعدمه الرسل الكرامعليهم‌السلام فالمصير إلى ما قدّمناه.

( كلام في معنى الشهادة)

الاجتماع المدنيّ الدائر بيننا و التفاعل الواقع في عامّة جهات الحياة الأرضيّة بين قوانا الفعّالة يسوقنا - و لا محيص - إلى أنواع الاختلافات و الخصومات فالّذي يختصّ بالتمتّع به أحدنا ربّما أحبّ الآخر أن يشاركه فيه أو يختصّ به هو مكانه فتاقت إليه نفسه و نازعته في ذلك فأدّى إلى تنبّه الإنسان لوجوب اعتبار القضاء و الحكم ليرتفع به هذه الخصومات.

و أوّل ما يحتاج إليه القضاء أن تحفظ القضايا و الوقائع على النحو الّذي وقعت و تضبط ضبطاً لا يتطرّق إليه التغيّر و التبدّل ليقع عليه قضاء القاضي، هذا ممّا لا شكّ فيه.

و يتأتّى ذلك بأن يستشهد على الواقعة بأن يطّلع عليها إنسان فيتحمّلها ثمّ يؤدي

٢١٧

ما تحمّله عند اللزوم و الاقتضاء أو يضبط بوجه آخر كالكتابة أو أدوات اُخر معمولة لذلك اهتدى الإنسان إلى التوصّل بها.

و تفارق الشهادة سائر أسباب الحفظ و الضبطأوّلاً بأنّ غير الشهادة من الأسباب اُمور غير عامّة فإنّ أعمّها و أعرفها الكتابة و هي لم تستوعب الإنسانيّة حتّى اليوم فكيف بغيرها و هذا بخلاف الشهادة و التحمّل.

و ثانياً بأنّ الشهادة و هو البيان اللسانيّ من نفس الشاهد عن تحمّله و حفظه أبعد من عروض الخلل و أمنع جانباً من طروّ أنواع الآفات بالقياس إلى الكتابة و غيره من أسباب الحفظ و الضبط.

و لذلك نرى أنّ الشهادة لا تتجافى عن اعتبارها اُمّة من الاُمم في مجتمعاتهم على اختلافها الفاحش في السنن الاجتماعيّة و السلائق القوميّة و الملّيّة و التقدّم و التأخّر في الحضارة و التوحّش، فهي لا تخلو عن اعتبار مّا عندهم.

و الاعتبار فيها بالواحد من القوم المعدود فرداً من الاُمّة و جزءاً من الجماعة، و لذلك لا يعبأ بشهادة الصبيّ غير المميّز و لا بشهادة المجنون الّذي لا يدري ما يقول مثلاً، و لذلك أيضاً لا يعبأ بعض الاُمم الهمجيّة بشهادة النسوان لما لم يعدّوا المرأة جزءً من المجتمع، و على ذلك كانت تجري أغلب السنن الاجتماعيّة في الاُمم القديمة كالروم و اليونان و غيرهم.

و الإسلام و هو دين الفطرة يعتبر الشهادة و يعطيها وحدها من بين سائر الأسباب الحجّيّة، و أمّا سائر الأسباب فلا عبرة بها إلّا مع إفادة العلم، قال تعالى:( وَ أَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ ) الطلاق: ٢ و قال تعالى:( وَ لا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَ مَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ ) البقرة: ٢٨٣ و قال تعالى:( وَ الَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ ) المعارج: ٣٣.

و قد اعتبر الإسلام في عامّة الموارد غير مورد الزنا من العدد في الشهداء اثنين لتأييد أحدهما الآخر قال تعالى:( وَ اسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَ امْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى‏ وَ لا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا وَ لا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى‏ أَجَلِهِ ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ

٢١٨

وَ أَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَ أَدْنى‏ أَلَّا تَرْتابُوا ) البقرة: ٢٨٢، فأفاد أنّ ما بيّنته الآية و اعتبرته من أحكام الشهادة - و منها ضمّ الواحد إلى آخر ليكونا اثنين - أكثر مطابقة للقسط و قيام الشهادة و رفع الريب.

ثمّ لما كان الإسلام في تشخيصه فرد المجتمع و بعبارة اُخرى في اعتباره الواحد الّذي يتكوّن منه المجتمع الإنسانيّ يعدّ المرأة جزءاً مشمولاً للحكم أشركها مع الرجل في إعطاء حقّ إقامة الشهادات إلّا أنّه لما اعتبر في المجتمع الّذي كونه أن يكون مبنيّاً على التعقّل دون العواطف و المرأة إنسان عاطفي أعطاها من الحقّ و الوزن نصف ما للرجل، فشهادة امرأتين اثنتين تعدل شهادة رجل واحد كما يشير إليه قوله تعالى في الآية السابقة:( أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى) ، و قد مرّ في الجزء الرابع من هذا الكتاب من الكلام في حقوق المرأة في الإسلام ما ينفع في المقام، و للشهادة أحكام كثيرة فرعيّة مبسوطة في الفقه خارجة من غرضنا في هذا البحث.

( كلام في العدالة)

كثيراً ما يعثر الباحث في الأحكام الإسلاميّة في خلال أبحاثه بلفظ العدالة و ربّما وجد للّفظ تعريفات مختلفة و تفسيرات متنوّعة حسب اختلاف الباحثين و مسالكهم.

لكنّ الّذي يلائم مقامنا هذا من البحث - و هو بحث قرآنيّ - في تحليل معناها و كيفيّة اعتبارها بالتطبيق على الفطرة الّتي عليها بني الإسلام أن نسلك طريقاً آخر من البحث فنقول:

إنّ للعدالة و هي الاعتدال و التوسّط بين النمطين: العالي و الداني، و الجانبين: الإفراط و التفريط قيمة حقيقيّة و وزناً عظيماً في المجتمعات الإنسانيّة، و الوسط العدل هو الجزء الجوهريّ الّذي يركن إليه التركيب و التأليف الاجتماعيّ فإنّ الفرد العالي الشريف الّذي يتلبّس بالفضائل العالية الاجتماعيّة، و يمثّل بغية الاجتماع النهائيّة لا يجود منه الزمان إلّا بالنزر القليل و الواحد بعد الواحد، و من المعلوم أنّه لا يتألّف المجتمع

٢١٩

بالفرد النادر، و لا تتمّ به كينونته و إن كان هو العضو الرئيس في جثمانه حيثما وجد.

و الفرد الدني‏ء الخسيس الّذي لا يقوم بالحقوق الاجتماعيّة، و لا يتحقّق فيه القدر المتوسّط من أمانيّ المجتمع ممّن لا داعي له يدعوه إلى رعاية الاُصول العامّة الاجتماعيّة الّتي بها حياة المجتمع، و لا رادع له يردعه عن اقتحام الآثام الاجتماعيّة الّتي تهلك الاجتماع و تبطل التجاذب الواجب بين أجزائه، و بالجملة لا اعتماد على جزئيّته في بنية الاجتماع و لا وثوق بتأثيره الحسن و نصيحته الصالحة.

و إنّما الحكم لأفراد المجتمع المتوسّطين الّذين تقوم بهم بنية المجتمع و تتحقّق فيهم مقاصده و مآربه، و تظهر بهم آثاره الحسنة الّتي لم تأتلف أجزاؤه و أعضاؤه إلّا للحصول عليها و التمتّع بها.

هذا كلّه ممّا لا يرتاب فيه الإنسان الاجتماعيّ عند أوّل ما يجيل نظره في هذا الباب.

فمن الضروريّ عنده أنّه على حاجة شديدة في حياته الاجتماعيّة إلى أفراد في المجتمع يعتمد على سلوكهم الاجتماعيّ متلبّسين بالاعتدال في الاُمور و الاحتراز عن الاسترسال في نقض القوانين و مخالفة السنن و الآداب الجارية من غير مبالاة و انقباض في أبواب كثيرة كالحكومة و القضاء و الشهادات و غيرها في الجملة.

و هذا الحكم الضروريّ أو القريب من الضروريّ عند الفطرة هو الّذي يعتبره الإسلام في الشاهد، قال تعالى:( وَ أَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَ أَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ ) الطلاق: ٢، و قال تعالى:( شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ ) المائدة: ١٠٦ و الخطاب في الآيتين للمؤمنين فاشتراط كون الشاهدين ذوي عدل منهم مفاده كونهما ذوي حالة معتدلة متوسّطة بالنسبة إلى مجتمعهم الدينيّ، و أمّا بالقياس إلى المجتمع القوميّ و البلديّ فالإسلام لا يعبأ بأمثال هذه الروابط غير الدينيّة، و ظاهر أن محصّل كونهما على حالة معتدلة بالقياس إلى المجتمع الدينيّ هو كونهما ممّن يوثق بدينه غير مقترفين ما يعدّ من المعاصي الكبيرة الموبقة في الدين، قال تعالى:( إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَ نُدْخِلْكُمْ

٢٢٠