الميزان في تفسير القرآن الجزء ٦

الميزان في تفسير القرآن9%

الميزان في تفسير القرآن مؤلف:
تصنيف: تفسير القرآن
الصفحات: 401

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 401 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 84965 / تحميل: 7691
الحجم الحجم الحجم
الميزان في تفسير القرآن

الميزان في تفسير القرآن الجزء ٦

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

مُدْخَلًا كَرِيماً ) النساء: ٣١، و قد تكلّمنا في معنى الكبائر في ذيل الآية في الجزء الرابع من هذا الكتاب.

و على هذا المعنى جرى كلامه تعالى في قوله:( وَ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَ لا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ، إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَ أَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) النور: ٥.

و نظير الآية السابقة الشارطة للعدالة قوله تعالى:( مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ ) البقرة: ٢٨٢ فإنّ الرضا المأخوذ في الآية هو الرضا من المجتمع الدينيّ، و من المعلوم أنّ المجتمع الدينيّ بما هو دينيّ لا يرضى أحداً إلّا إذا كان على نوع من السلوك يوثق به في أمر الدين.

و هذا هو الّذي نسمّيه في فنّ الفقه بملكة العدالة و هي غير ملكة العدالة بحسب اصطلاح فنّ الأخلاق فإنّ العدالة الفقهيّة هي الهيئة النفسانيّة الرادعة عن ارتكاب الكبائر بحسب النظر العرفيّ و الّتي في فنّ الأخلاق هي الملكة الراسخة بحسب الحقيقة.

و الّذي استفدناه من معنى العدالة هو الّذي يستفاد من مذهب أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام على ما ورد من طرقهم:

ففي الفقيه، بإسناده عن ابن أبي يعفور قال: قلت لأبي عبداللهعليه‌السلام بم تعرف عدالة الرجل بين المسلمين حتّى تقبل شهادته لهم و عليهم؟ فقال: أن تعرفوه(١) بالستر و العفاف و كفّ البطن و الفرج و اليد و اللسان، و يعرف باجتناب الكبائر الّتي أوعد الله تعالى عليها النار من شرب الخمر و الزنا و الربا و عقوق الوالدين و الفرار من الزحف و غير ذلك.

و الدلالة على ذلك كلّه أن يكون ساتراً لجميع عيوبه حتّى يحرم على المسلمين تفتيش ما وراء ذلك من عثراته و عيوبه، و يجب عليهم تزكيته و إظهار عدالته بين الناس، و يكون منه التعاهد للصلوات الخمس إذا واظب عليهنّ و حفظ مواقيتهنّ بحضور جماعة من المسلمين و أن لا يتخلّف عن جماعتهم في مصلّاهم إلّا من علّة.

فإذا كان كذلك لازماً لمصلّاه عند حضور الصلوات الخمس فإذا سئل عنه في

____________________

(١) أن يعرفوه خ‏

٢٢١

قبيلته و محلّته قالوا: ما رأينا منه إلّا خيراً، مواظباً على الصلوات، متعاهداً لأوقاتها في مصلّاه فإنّ ذلك يجيز شهادته و عدالته بين المسلمين و ذلك أنّ الصلاة ستر و كفّارة للذنوب، و ليس يمكن الشهادة على الرجل بأنّه يصلّي إذا كان لا يحضر مصلّاه و لا يتعاهد جماعة المسلمين.

و إنّما جعل الجماعة و الاجتماع إلى الصلاة لكي يعرف من يصلّي ممّن لا يصلّي و من يحفظ مواقيت الصلاة ممّن يضيع، و لو لا ذلك لم يكن لأحد أن يشهد على آخر بصلاح لأنّ من لا يصلّي لا صلاح له بين المسلمين فإنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم همّ بأن يحرق قوماً في منازلهم بتركهم الحضور لجماعة المسلمين و قد كان منهم من يصلّي في بيته فلم يقبل منه ذلك فكيف تقبل شهادة أو عدالة بين المسلمين ممّن جرى الحكم من الله عزّوجلّ و من رسوله فيه الحرق في جوف بيته بالنار؟ وقد كان يقولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا صلاة لمن لا يصلّي في المسجد مع المسلمين إلّا من علّة.

أقول: و رواه في التهذيب، مع زيادة تركناها، و الستر و العفاف كلاهما بمعنى الترك على ما في الصحاح، و الرواية - كما ترى - تجعل أصل العدالة أمراً معروفاً بين المسلمين و تبيّن أنّ الأثر المترتّب عليه الدالّ على هذه الصفة النفسيّة هو ترك محارم الله و الكفّ عن الشهوات الممنوعة، و معرّف ذلك اجتناب الكبائر من المعاصي، ثمّ تجعل الدليل على ذلك كلّه حسن الظاهر بين المسلمين على ما بيّنهعليه‌السلام تفصيلاً.

و فيه، عن عبدالله بن المغيرة عن أبي الحسن الرضاعليه‌السلام قال: من ولد على الفطرة و عرف بالصلاح في نفسه جازت شهادته.

و فيه: روى سماعة عن أبي بصير عن أبي عبداللهعليه‌السلام : قال: لا بأس بشهادة الضعيف إذا كان عفيفاً صائناً.

و في الكافي، بإسناده عن عليّ بن مهزيار عن أبي عليّ بن راشد قال: قلت لأبي جعفرعليه‌السلام : إنّ مواليك قد اختلفوا فاُصلّي معهم جميعاً؟ فقال لا تصلّ إلّا خلف من تثق بدينه.

أقول: دلالة الروايات على ما قدّمناه ظاهرة، و فيها أبحاث اُخر خارجة عن غرضنا في المقام.

٢٢٢

( كلام في اليمين)

حقيقة معنى قولك:( لعمري إنّ كذا و كذا، و حياتي إنّ الأمر على ما أخبرته) أنّك تعلّق ما أخبرت به من الخبر و تقيّده نوع تقييد في صدقه بعمرك و حياتك الّتي لها مكانة و احترام عندك بحيث يتلازمان في الوجود و العدم، و لو كنت كاذباً في خبرك أبطلت مكانة حياتك و احترامها عندك فسقطت بذلك عن مستوى الإنسانيّة الداعية إلى الاحترام لأمر الحياة.

و معنى قولك:( أقسمك بالله أن تفعل كذا أو تترك كذا) أنّك ربطت أمرك أو نهيك بالمكانة و العزّة الّتي لله عزّ اسمه عند المؤمنين بحيث تكون مخالفة الأمر أو معصية النهي استهانة بمقامه تعالى و إذهاباً لحرمة الإيمان به.

و كذا معنى قولك:( و الله لأفعلنّ كذا) وصل خاصّ بين عزيمتك على ما عزمت عليه من الأمر و بين ما لله سبحانه عندك من المكانة و الحرمة بحسب إيمانك به بحيث يكون فسخك عزيمتك و نقضك همّتك إبطالاً لما له سبحانه من المكانة عندك، و الغرض من ذلك أن تكون على رادع من فسخ العزيمة و نقض الهمّة فالقسم إيجاد ربط خاصّ بين شي‏ء من الخبر أو الإنشاء و بين شي‏ء آخر ذي مكانة و شرف بحيث يبطل المربوط إليه ببطلان المربوط بحسب الدعوى، و حيث كان المربوط إليه ذا مكانة و شرف عند الجاعل مثلاً لا يرضى بإذهاب مكانته و الإهانة بمقامه فهو صادق في خبره أو مطاع فيما يأمر به أو ينهى عنه، أو ماض في عزيمته من غير فسخ لا محالة، و نتيجته التأكيد البالغ.

و يوجد في اللغات نوع آخر من جعل الربط يقابل القسم و هو ربط الخبر مثلاً بما لا قيمة له و لا شرافة عند المخبر ليدلّ بذلك على الاستهانة بما يخبر به أو بلغه من الخبر و يعدّ نوعاً من الشتم و هو في اللغة العربيّة نادر جدّاً.

و الحلف و اليمين - فيما نعلم - من العادات الدائرة في ألسنة الناس الموروثة جيلاً بعد جيل، و لا يختصّ بلغة دون لغة، و هو الدليل على أنّه ليس من الشؤون اللغويّة

٢٢٣

اللفظيّة بل إنّما يهدي الإنسان إليه حياته الاجتماعيّة في موارد يتنبّه على وجوب الالتجاء إليه و الاستفادة منه.

و لم تزل اليمين دائراً بين الاُمم ربّما يبنى عليه و يركن إليه في موارد متفرّقة غير مضبوطة تحدث في مجتمعاتهم لأغراض متنوّعة لدفع التهمة و رفع الفرية و تطييب النفس و تأييد الخبر حتّى اعتنى بأمره القوانين المدنيّة و أعطتها وجهة قانونيّة في بعض من الموارد كحلف الرؤساء و أولياء الاُمور عند تقلّد المناصب الهامّة و إشغال المقامات العظيمة العالية و غير ذلك.

و قد اعتنى الإسلام بشأن اليمين اعتناءً تامّاً إذا وقع على الله سبحانه خاصّة، و ليس ذلك إلّا في ظلّ العناية برعاية حرمة المقام الربوبيّ و وقاية ساحته تعالى أن يواجه بما يأباه ناموس الربوبيّة و العبوديّة، و لذلك وضعت كفّارة خاصّة عند حنث اليمين، و كره الإكثار من الحلف بالله عزّ شأنه، قال تعالى:( لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَ لكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ ،) الآية: المائدة: ٨٩ و قال تعالى:( وَ لا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ ) البقرة: ٢٢٤.

و اعتبر اليمين في موارد من القضاء خلت عن البيّنة، قال تعالى:( فَيُقْسِمانِ بِاللهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما وَ مَا اعْتَدَيْنا ) الآية: المائدة: ١٠٧

و من كلامهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : البيّنة على المدّعي و اليمين على من أنكر.

و حقيقة اعتبار اليمين الاكتفاء بدلالة نفس الإيمان فيما لا دليل سواه، و ذلك أنّ المجتمع الدينيّ مبنيّ على إيمان الأفراد بالله، و الإنسان المؤمن هو الجزء من هذا المركّب المؤلّف، و هو المنبع الّذي ينبع منه السنن المتّبعة و الأحكام الجارية، و بالجملة جميع الآثار البارزة في القوم الناشئة من حالتهم الدينيّة كما أنّ المجتمع غير الدينيّ مبنيّ على إيمان الأفراد بمقاصدهم القوميّة، و منها تنشأ السنن و القوانين المدنيّة و الآداب و الرسوم الدائرة بينهم.

فإذا كان كذلك و صحّ الاعتماد في جميع الشؤون الاجتماعيّة و الاتّكاء في عامّة لوازم الحياة على إيمان الأفراد بطرق مختلفة كان من الجائز أن يعتمد على إيمانهم في ما لا دليل

٢٢٤

آخر يعتمد عليه، و هو اليمين فيما لا بيّنة عليه بأن يربط المنكر ما ينكره من دعوى المدّعي و يقيّده بإيمانه بحيث يزول اعتبار إيمانه بالله ببطلان إنكاره و ظهور كذبه فيما أظهره و أخبر به.

فإيمانه بسبب ما عقده باليمين بمنزلة مال الرهن الّذي يجعل تحت تسلّط الدائن و يراعي في عوده إلى سلطة راهن صدق وعده و تأديته الدين إلى أجل و إلّا ذهب المال و بقي صفر اليد.

كذلك الحالف يعتبر مرهون الإيمان بما حلف عليه ما لم يظهر خلافه و إذا ظهر الخلاف عاد صفر الكفّ من الإيمان ساقطاً عن درجة الاعتبار محروماً من التمتّع بثمرة الإيمان و هي في المجتمع الدينيّ جميع المزايا الاجتماعيّة، و رجع مطروداً من المجتمع المتلائم الأجزاء لا سماء تظلّه و لا أرض تقلّه.

و يتأيّد هذا البيان بما يروى من تظاهر الناس على مقت المتخلّفين عن السنن الدينيّة كالصلاة مع الجماعة و الشخوص في الجهاد و نحوهما في زمن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حين كان تمام السلطة و الحكومة للدين على الأهواء.

و أمّا في أمثال هذه الأعصار الّتي ضعف فيها نفوذ الدين و تسرّب الهوى في القلوب و انعقد بيننا مجتمع مؤتلف من المقاصد الدينيّة على وهن في بنيتها و إعراض من الناس عنها و من مقاصد المدنيّة الحديثة و يجمعها الاسترسال في التمتّعات المادّيّة على شيد في أساسها و إقبال عامّ من عامّة الناس إليها ثمّ أخذ التنازع و التشاجر الشديد بين الدواعي الدينيّة و المدنيّة الطارقة و لا يزال يغلب هذا و ينهزم ذاك، و انثلمت وحدة النظام الواجب انبساطه على مستوى المجتمع، و بدا الهرج و المرج في الروحيّات فحينئذ لا يكاد ينفع اليمين و لا ما هو أقوى من ذلك و أحفظ لحقوق الناس، و زال الاعتماد لا على الأسباب الدينيّة الموجودة عند المجتمع فحسب بل عليها و على النواميس الحديثة جميعاً.

غير أنّ الله سبحانه لا ينسخ أحكامه و لا يغمض عن شرائعه بتولّي الناس عنها و سأمهم منها و إنّ الدين عند الله الإسلام و لا يرضى لعباده الكفر، و لو اتّبع الحقّ أهواءهم لفسدت السماوات و الأرض، و إنّما الإسلام دين متعرّض لجميع شؤون الحياة الإنسانيّة شارح

٢٢٥

لها مبيّن لأحكامها ذو أجزاء متلائمة متناسبة متلازمة تعيش بروح التوحيد الواحد إذا اعتلّ بعض أجزائه اعتلّ الجميع، و إذا فسد بعضها أثّر ذلك في عمل الجميع كالواحد من الإنسان بعينه.

فإذا فسد بعض أجزائه أو اعتلّ كان من الواجب إبقاء السالم منها على سلامته و علاج المعتلّ و إصلاح الفاسد، و لم يكن من الجائز إبقاء المعتلّ على علّته و الفاسد على فساده، و الإعراض عن السالم.

و الإسلام و إن كان ملّة حنيفيّة سهلة سمحة ذات مراتب مختلفة وسيعة يقدّر تكاليفه على قدر ما يستطاع من إتيانها و إجرائها، يتمدّد حبلها الموصول من حالة اجتماعيّة آمنة تتضمّن شرائعها و قوانينها جمعاء من غير استثناء إلى حالة انفراديّة اضطراريّة تكتفى فيها من الصلاة بالإشارة لكنّ التنزّل من مرتبة من مراتبها إلى ما هي دونها مشروطة بالاضطرار النافي للتكليف و المبيح للتوسّع، قال تعالى:( مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَ لكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ وَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ - إلى أن قال -ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَ صَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ) النحل: ١١٠.

و أمّا بناء الحياة على التمتّع المادّيّ ثمّ التعلّل في رفض ما يناقضه من الموادّ الدينيّة بأنّه لا يوافق السنّة الجارية في الدنيا الحاضرة فإنّه جري على المنطق المادّيّ دون منطق الدين.

و من البحث المتعلّق بهذا الباب ما في قول بعض: (إنّ الحلف بغير الله من الشرك بالله) فينبغي أن يستفهم هذا القائل ما ذا يريد بهذا الشرك الذي ذكره؟.

فإن أراد به أنّ في اليمين بغير الله إعظاماً للمقسم به و إجلالاً لأمره لابتناء معنى القسم على ذلك ففيه نوع خضوع و عبادة له و هو الشرك فما كلّ إعظام شركاً إلّا إعطاء عظمة الربوبيّة المستقلّة التي يستغني بها عن غيره.

و قد أقسم الله تعالى بكثير من خلقه كالسماء و الأرض و الشمس و القمر و الكنّس الخنّس من الكواكب و بالنجم إذا هوى، و أقسم بالجبل و البحر و التين و الزيتون و الفرس

٢٢٦

و أقسم بالليل و النهار و الصبح و الشفق و العصر و الضحى و يوم القيامة، و أقسم بالنفس، و أقسم بالكتاب و القرآن العظيم و حياة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و بالملائكة إلى غير ذلك في آيات كثيرة و لا يستقيم قسم إلّا عن إعظام.

فما المانع من أن نجري على ما جرى عليه كلامه تعالى من إعظامها بالعظمة الموهوبة و نقتصر على ذلك، و لو كان ذلك من الشرك لكان كلامه تعالى أولى بالتحرّز منه و أحرى برعايته.

و أيضا قد عظم الله تعالى اُموراً كثيرة في كلامه كالقرآن و العرش و خلق النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال تعالى:( وَ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ ) الحجر: ٨٧، و قال:( وَ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ) التوبة: ١٢٩، و قال:( وَ إِنَّكَ لَعَلى‏ خُلُقٍ عَظِيمٍ ) ن: ٤، و جعل لأنبيائه و رسله و المؤمنين حقوقاً على نفسه و عظّمها و احترمها، قال تعالى:( وَ لَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ، إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ ) الصافّات: ١٧٢، و قال:( وَ كانَ حقّاً عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ) الروم: ٤٧ فما المانع من أن نعظّمها و نجري على ما جرى عليه كلامه في مطلق القسم، و أن نقسمه تعالى بشي‏ء ممّا أقسم به أو بحقّ من الحقوق الّتي جعلها لأوليائه على نفسه؟ نعم اليمين الشرعيّ الّذي له آثار شرعيّة في باب اليمين أو القضاء لا ينعقد بغير الله سبحانه كما بيّن في الفقه و ليس كلامنا فيه.

و إن أراد به أنّ مطلق الإعظام كيفما كان لا يجوز في غير الله حتّى إعظامها بما عظّمها الله تعالى فهو ممّا لا دليل عليه بل القاطع من الدليل على خلافه.

و ربّما قيل: إنّ في الإقسام بحقّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و سائر الأولياء و التقرّب إليهم و الاستشفاع بهم بأيّ وجه كان عبادة و إعطاء سلطة غيبيّة لها. و الكلام فيه كالكلام في سابقه: فإن اُريد بهذه السلطة الغيبيّة السلطة المستقلّة الخاصّة بالله فلا يذعن بها مسلم مؤمن بكتاب الله في غيره تعالى، و إن اُريد بها مطلق السلطة غير المادّيّة و لو كان بإذن الله فما الدليل على امتناع أن يتّصف بها بعض عباد الله كأوليائه مثلاً بإذنه، و قد نصّ القرآن الشريف على كثير من السلطات الغيبيّة في الملائكة كما قال:( حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَ هُمْ لا يُفَرِّطُونَ ) الأنعام: ٦١، و قال:( قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ ) السجدة: ١١

٢٢٧

و قال:( وَ النَّازِعاتِ غَرْقاً، وَ النَّاشِطاتِ نَشْطاً، وَ السَّابِحاتِ سَبْحاً، فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً، فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً ) النازعات: ٥، و قال:( مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى‏ قَلْبِكَ ) البقرة: ٩٧ و الآيات في هذا الباب كثيرة جدّاً.

و قال في إبليس و جنوده:( إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَ قَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ ) الأعراف: ٢٧ و قد نزلت في شفاعة الأنبياء و غيرهم في الآخرة، و آياتهم المعجزة في الدنيا آيات كثيرة.

و ليت شعري ما الفرق بين الآثار المادّيّة الّتي يثبتها هؤلاء في الموضوعات من غير استنكاف و بين آثار غير المادّيّة الّتي يسمّونها بالسلطة الغيبيّة؟ فإن كان إثبات التأثير لغير الله ممنوعاً لم يكن فرق بين الأثر المادّيّ و غيره و إن كان جائزاً بإذن الله سبحانه كان الجميع فيه سواءً.

( بحث روائي)

في الكافي، عن عليّ بن إبراهيم عن رجاله رفعه قال: خرج تميم الداريّ و ابن بندي و ابن أبي مارية في سفر، و كان تميم الداريّ مسلماً و ابن بندي و ابن أبي مارية نصرانيّين، و كان مع تميم الداريّ خرج له فيه متاع و آنية منقوشة بالذهب و قلادة أخرجها إلى بعض أسواق العرب للبيع.

فاعتلّ تميم الداريّ علّة شديدة فلمّا حضره الموت دفع ما كان معه إلى ابن بندي و ابن أبي مارية و أمرهما أن يوصلاه إلى ورثته فقدما المدينة، و قد أخذا من المتاع الآنية و القلادة، و أوصلا سائر ذلك إلى ورثته، فافتقد القوم الآنية و القلادة فقال أهل تميم لهما: هل مرض صاحبنا مرضاً طويلاً أنفق فيه نفقة كثيرة؟ فقالا: لا ما مرض إلّا أيّاماً قلائل، قالوا: فهل سرق منه شي‏ء في سفره هذا؟ قالا: لا، فقالوا: فهل اتّجر تجارة خسر فيها؟ قالا: لا، قالوا: فقد افتقدنا أفضل شي‏ء كان معه: آنية منقوشة بالذهب مكلّلة بالجواهر و قلادة، فقالا: ما دفعه إلينا فقد أدّيناه إليكم.

٢٢٨

فقدّموهما إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و أوجب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليهما اليمين فحلفا فخلّا عنهما، ثمّ ظهرت تلك الآنية و القلادة عليهما فجاء أولياء تميم إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالوا: يا رسول الله قد ظهر على ابن بندي و ابن أبي مارية ما ادّعيناه عليهما، فانتظر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الله عزّوجلّ الحكم في ذلك.

فأنزل الله تبارك و تعالى:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ ) فأطلق الله عزّوجلّ شهادة أهل الكتاب على الوصيّة فقط إذا كان في سفر و لم يجد المسلمين.

ثمّ قال:( فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمانِ بِاللهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَ لَوْ كانَ ذا قُرْبى‏ وَ لا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللهِ إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ ) ، فهذه الشهادة الاُولى الّتي حلّفها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ( فَإِنْ عُثِرَ عَلى‏ أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً ) أي أنّهما حلفا على كذب( فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما ) يعني من أولياء المدّعي( مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ ) الأوّلين( فَيُقْسِمانِ بِاللهِ ) أي يحلفان بالله أنّهما أحقّ بهذه الدعوى منهما و أنّهما قد كذبا فيما حلفا بالله( لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما وَ مَا اعْتَدَيْنا إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ ) .

فأمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أولياء تميم الداريّ أن يحلفوا بالله على ما أمرهم به فحلفوا فأخذ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم القلادة و الآنية من ابن بندي و ابن أبي مارية و ردّهما إلى أولياء تميم الداريّ( ذلِكَ أَدْنى‏ أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى‏ وَجْهِها أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ ) .

أقول: و أورده القمّيّ في تفسيره مثله‏ و فيه بعد قوله:( تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ ) يعني صلاة العصر، و قوله ع( الأوّلين) الظاهر أنّه بصيغة التثنية و المراد بهما الشاهدان الأوّلان تفسيراً لقوله تعالى:( الْأَوْلَيانِ ) و ظاهره على قراءتهعليه‌السلام ( اسْتَحَقَّ ) بالبناء للفاعل كما نسبت إلى عليّعليه‌السلام ، و قد قدّمنا في البيان السابق أنّه أوضح المعاني المحتملة على هذه القراءة.

٢٢٩

و في الدرّ المنثور: أخرج الترمذيّ و ضعّفه و ابن جرير و ابن أبي حاتم و النحّاس في ناسخه و أبوالشيخ و ابن مردويه و أبو نعيم في المعرفة من طريق أبي النضر و هو الكلبيّ عن باذان مولى اُمّ هاني عن ابن عبّاس عن تميم الداريّ في هذه الآية:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ ) قال: برى‏ء الناس منهما غيري و غير عدي ابن بداء، و كانا نصرانيّين يختلفان إلى الشام قبل الإسلام فأتيا الشام لتجارتهما، و قدم عليهما مولى لبني سهم يقال له: بديل بن أبي مريم بتجارة، و معه جام من فضّة يريد به الملك و هو عظم تجارته، فمرض فأوصى إليهما و أمرهما أن يبلّغا ما ترك أهله.

قال تميم: فلمّا مات أخذنا ذلك الجام فبعناه بألف درهم ثمّ اقتسمناه أنا و عديّ بن بداء فلمّا قدمنا إلى أهله دفعنا إليهم ما كان معنا و فقدوا الجام فسألونا عنه فقلنا: ما ترك غير هذا و ما دفع إلينا غيره.

قال تميم: فلمّا أسلمت بعد قدوم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المدينة تأثّمت من ذلك فأتيت أهله فأخبرتهم الخبر و أدّيت إليهم خمسمائة درهم، و أخبرتهم أنّ عند صاحبي مثلها فأتوا به رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فسألهم البيّنة فلم يجدوا فأمرهم أن يستحلفوه بما يعظم به على أهل دينه فحلف فأنزل الله:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ - إلى قوله -أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ ) فقام عمرو بن العاص و رجل آخر فحلفا فنزعت الخمسمائة درهم من عدّي بن بداء.

أقول: و الرواية على ضعفها لا تنطبق على الآية تمام الانطباق و هو ظاهر، و روي عن ابن عبّاس و عن عكرمة ما يقرب من رواية القمّيّ السابقة.

و فيه: أخرج الفاريابيّ و عبد بن حميد و أبوعبيد و ابن جرير و ابن المنذر و أبوالشيخ عن عليّ بن أبي طالب: أنّه كان يقرأ:( مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ ) بفتح التاء.

و فيه: أخرج ابن مردويه و الحاكم و صحّحه، عن عليّ بن أبي طالب: أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قرأ:( الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ ) .

و فيه: أخرج ابن جرير عن ابن عبّاس قال: هذه الآية منسوخة.

٢٣٠

أقول: و لا دليل على ما في الرواية من حديث النسخ.

و في الكافي، عن محمّد بن إسماعيل عن الفضل بن شاذان و عليّ بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن هشام بن الحكم عن أبي عبداللهعليه‌السلام : في قول الله تبارك و تعالى:( أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ ) قال: إذا كان الرجل في بلد ليس فيه مسلم جازت شهادة من ليس بمسلم على الوصيّة.

أقول: و معنى الرواية مستفاد من الآية.

و فيه، بإسناده عن يحيى بن محمّد قال: سألت أباعبداللهعليه‌السلام عن قول الله عزّوجلّ:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ ) ؟ قال:( اللّذان منكم) مسلمان( و اللّذان من غيركم) من أهل الكتاب، فإن لم يجدوا من أهل الكتاب فمن المجوس لأنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سنّ في المجوس سنّة أهل الكتاب في الجزية.

و ذلك إذا مات الرجل في أرض غربة فلم يجد مسلمين أشهد رجلين من أهل الكتاب يحبسان بعد العصر فيقسمان بالله عزّوجلّ( لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَ لَوْ كانَ ذا قُرْبى‏ وَ لا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللهِ إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ ) قال: و ذلك إذا ارتاب وليّ الميّت في شهادتهما، فإن عثر على أنّهما شهدا بالباطل فليس له أن ينقض شهادتهما حتّى يجي‏ء بشاهدين فيقومان مقام الشاهدين الأوّلين( فَيُقْسِمانِ بِاللهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما وَ مَا اعْتَدَيْنا إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ ) فإذا فعل ذلك نقض شهادة الأوّلين، و جازت شهادة الآخرين يقول الله عزّوجلّ:( ذلِكَ أَدْنى‏ أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى‏ وَجْهِها أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ ) .

أقول: و الرواية - كما ترى - توافق ما تقدّم من معنى الآية، و في معناها روايات اُخر في الكافي، و تفسير العيّاشيّ، عن أبي عبدالله و أبي الحسنعليهما‌السلام .

و في بعض الروايات تفسير قوله:( أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ ) بالكافرين، و هو أعمّ من أهل الكتاب كما رواه في الكافي، عن أبي الصباح الكنانيّ عن أبي عبدالله. و في تفسير العيّاشيّ،

٢٣١

عن أبي اُسامة عنهعليه‌السلام أيضاً: في الآية: ما( آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ ) ؟ قال: هما كافران قلت:( ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ ) ؟ فقال: مسلمان‏، و الرواية السابقة المقيّدة بأهل الكتاب و إن لم تصلح لتقييد هذا الإطلاق بحسب صناعة الإطلاق و التقييد لكونهما متوافقين إيجابيّين لكن سياق الرواية الاُولى يصلح لتفسير إطلاق الثانية بما يوافق التقييد.

و في تفسير البرهان، عن الصدوق بإسناده إلى أبي زيد عيّاش بن يزيد بن الحسن عن أبيه يزيد بن الحسن قال: حدّثني موسى بن جعفرعليه‌السلام قال: قال الصادقعليه‌السلام : في قول الله عزّوجلّ:( يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ما ذا أُجِبْتُمْ قالُوا لا عِلْمَ لَنا ) قال: يقولون لا علم لنا بسواك قال و قال: الصادقعليه‌السلام : القرآن كلّه تقريع و باطنه تقريب.

قال صاحب البرهان: قال ابن بابويه: يعني بذلك أنّه من وراء آيات التوبيخ و الوعيد آيات الرحمة و الغفران.

أقول: و ما نقله عن الصدوق رحمه الله في معنى قولهعليه‌السلام :( القرآن كلّه تقريع و باطنه تقريب) لا ينطبق عليه لا بالنظر إلى صدر الرواية فإنّ كون معنى قول الرسلعليهم‌السلام :( لا عِلْمَ لَنا ) أنّه لا علم لنا بسواك غير مرتبط بكون القرآن مشتملاً على نوعين من الآيات: آيات الوعد و آيات الوعيد.

و لا بالنظر إلى سياق نفس الجملة أعني قوله:( القرآن كلّه تقريع و باطنه تقريب) فإنّ الكلام ظاهر في أنّ القرآن كلّه تقريع و كلّه تقريب، و إنّما يختلف الأمر بحسب الباطن و الظاهر فباطنه تقريب و ظاهره تقريع، لا أنّ القرآن منقسم إلى قسمين فقسم منه آيات التقريع و وراءه القسم الآخر و هو آيات التقريب.

و التأمّل في كلامهعليه‌السلام مع ملاحظة صدر الرواية يعطي أنّ مرادهعليه‌السلام من التقريع بالنظر إلى مقابلة التقريب لازم معناه و هو التبعيد المقابل للتقريب، و القرآن كلّه معارف و حقائق فظاهره تبعيد الحقائق بعضها من بعض و تفصيل أجزائها، و باطنه تقريب البعض من البعض و إحكامها و توحيدها، و يعود محصّل المراد إلى أنّ القرآن بحسب ظاهره يعطي حقائق من المعارف مختلفة بعضها بائن منفصل من بعض لكنّها على كثرتها و

٢٣٢

بينونتها و ابتعاد بعضها من بعض بحسب الباطن يقترب بعضها من بعض و تلتئم شتّى معانيها حتّى تتّحد حقيقة واحدة كالروح الساري في الجميع، و ليست إلّا حقيقة التوحيد قال الله تعالى:( كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ) هود: ١.

و يظهر حينئذ انطباقه على ما ذكرهعليه‌السلام في صدر الرواية أنّ معنى قول الرسل:( لا عِلْمَ لَنا ) أن لا علم لنا بسواك فإنّ الإنسان أو أيّ عالم فرض إنّما يعلم ما يعلم بالله بمعنى أنّ الله سبحانه هو المعلوم بذاته و غيره معلوم به، و بعبارة اُخرى إذا تعلّق العلم بشي‏ء فإنّما يتعلّق أوّلاً بالله سبحانه على ما يليق بساحة قدسه و كبريائه ثمّ يتعلّق من جهته بذلك الشي‏ء لما أنّ الله سبحانه عنده علم كلّ شي‏ء يرزق منه لمن يشاء من عباده على قدر ما يشاء كما قال تعالى:( وَ لا يُحِيطُونَ بِشَيْ‏ءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِما شاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ ) البقرة: ٢٥٥ و قد تقدّم رواية عبدالأعلى مولى آل سام عن الصادقعليه‌السلام و غيره من الروايات في هذا المعنى.

و على هذا فمعنى قولهم:( لا عِلْمَ لَنا بسواك إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ ) على تفسيرهعليه‌السلام أنّه لا علم لنا بشي‏ء من دونك و إنّما نعلم ما نعلم من جهة علمنا بك لأنّ العلم كلّه لك و إذا كان كذلك فأنت أعلم به منّا لأنّ الّذي نعلمه من شي‏ء هو علمك الّذي أحطنا بشي‏ء منه بمشيئتك و رزقك.

و على هذا يتجلّى معنى آخر لقوله:( إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ ) هو أرفع منالاً ممّا تقدّم من المعنى، و هو أنّ كلّ شي‏ء من الخليقة لما كان منفصل الوجود عن غيره كان في غيب منه لما أنّ وجوده محدود مقدّر لا يحيط إلّا بما شاء الله أن يحيط به، و الله سبحانه هو المحيط بكلّ شي‏ء، العالم بكلّ غيب لا يعلم شي‏ء شيئاً إلّا من جهته تعالى و تقدّس عن كلّ نقص.

و على هذا فتقسيم الاُمور إلى غيب و شهادة تقسيم بالحقيقة إلى غيب شاء الله إحاطتنا به و غيب مستور عنّا، و ربّما تؤيّد هذا المعنى بظاهر قوله تعالى:( عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى‏ غَيْبِهِ أَحَداً، إِلَّا مَنِ ارْتَضى‏ مِنْ رَسُولٍ ) الجنّ: ٢٧ بالنظر إلى ما تفيده إضافة الغيب إلى الضمير، و عليك بإجادة التأمّل في هذا المقام.

٢٣٣

و في تفسير العيّاشيّ، عن يزيد الكناسيّ عن أبي جعفرعليه‌السلام : في قوله تعالى:( يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ ، الآية) قال: يقول: ما ذا اُجبتم في أوصيائكم الّذين خلّفتم على اُمتكم؟ قال: فيقولون: لا علم لنا بما فعلوا من بعدنا.

أقول: و رواه القمّيّ في تفسيره عن محمّد بن مسلم عنهعليه‌السلام .

و في الكافي، عن يزيد عن أبي عبداللهعليه‌السلام ما في معناه، و هو من الجري أو من قبيل الباطن.

٢٣٤

( سورة المائدة الآيات ١١٠ - ١١١)

إِذْ قَالَ اللّهُ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى‏ وَالِدَتِكَ إِذْ أَيّدتّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلّمُ النّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطّينِ كَهَيْئَةِ الطّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونَ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى‏ بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنكَ إِذْ جِئْتَهُم بِالْبَيّنَاتِ فَقَالَ الّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هذَا إِلّا سِحْرٌ مُبِينٌ( ١١٠) وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنّا وَاشْهَدْ بِأَنّنَا مُسْلِمُونَ( ١١١)

( بيان)

الآيتان و كذا الآيات التالية لها القاصّة قصّة نزول المائدة و التالية لها المخبرة عمّا سيسأل الله عيسى بن مريمعليهما‌السلام عن اتّخاذ الناس إيّاه و اُمّه إلهين من دون الله سبحانه و ما يجيب به عن ذلك، كلّها مرتبطة بغرض السورة الّذي افتتحت به، و هو الدعوة إلى الوفاء بالعهد و الشكر للنعمة و التحذير عن نقض العهود و كفران النعم الإلهيّة و بذلك يتمّ رجوع آخر السورة إلى أوّلها و تحفظ وحدة المعنى المراد.

قوله تعالى: ( إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ - إلى قوله -وَ إِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى‏ بِإِذْنِي ) الآية تعدّ عدّة من الآيات الباهرة الظاهرة بيدهعليه‌السلام إلّا أنّها تمتنّ بها عليه و على اُمّه جميعاً، و هي مذكورة بهذا اللفظ تقريباً فيما يحكيه تعالى من تحديث الملائكة مريم عند بشارتها بعيسىعليهما‌السلام في سورة آل عمران، قال تعالى:( إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ - إلى أن قال -وَ يُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَ كَهْلًا - إلى أن قال -وَ يُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ التَّوْراةَ وَ الْإِنْجِيلَ وَ رَسُولًا إِلى‏ بَنِي إِسْرائِيلَ، أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ

٢٣٥

فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ وَ أُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَ الْأَبْرَصَ وَ أُحْيِ الْمَوْتى‏ بِإِذْنِ اللهِ ) (الآيات) آل عمران: ٤٥ - ٥٠.

و التأمّل في سياق الآيات يوضح الوجه في عدّ ما ذكره من الآيات المختصّة ظاهراً بالمسيح نعمة عليه و على والدته جميعاً كما تشعر به آيات آل عمران فإنّ البشارة إنّما تكون بنعمة، و الأمر على ذلك فإنّ ما اختصّ به المسيحعليه‌السلام من آية و موهبة كالولادة من غير أب و التأييد بروح القدس و خلق الطير و إبراء الأكمه و الأبرص و إحياء الموتى بإذن الله سبحانه فهي بعينها كرامة لمريم كما أنّها كرامة لعيسىعليه‌السلام فهما معاً منعّمان بالنعمة الإلهيّة كما قال تعالى:( نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَ عَلى‏ والِدَتِكَ ) .

و إلى ذلك يشير تعالى بقوله:( وَ جَعَلْناها وَ ابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ ) الأنبياء: ٩١ حيث عدّهما معاً آية واحدة لا آيتين.

و قوله:( إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ ) الظاهر أنّ التأييد بروح القدس هو السبب المهيّئ له لتكليم الناس في المهد، و لذلك وصل قوله( تُكَلِّمُ النَّاسَ ) من غير أن يفصله بالعطف إلى الجملة السابقة إشعاراً بأنّ التأييد و التكليم معاً أمر واحد مؤلّف من سبب و مسبّب، و اكتفى في موارد من كلامه بذكر أحد الأمرين عن الآخر كقوله في آيات آل عمران المنقولة آنفاً:( وَ يُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَ كَهْلًا ) ، و قوله:( وَ آتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَ أَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ ) البقرة: ٢٥٣.

على أنّه لو كان المراد بتأييده بروح القدس مسألة الوحي بوساطة الروح لم يختصّ بعيسى بن مريمعليه‌السلام و شاركه فيها سائر الرسل مع أنّ الآية تأبى ذلك بسياقها.

و قوله:( وَ إِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ التَّوْراةَ وَ الْإِنْجِيلَ ) من الممكن أن يستفاد منه أنّهعليه‌السلام إنّما تلقّى علم ذلك كلّه بتلقّ واحد عن أمر إلهيّ واحد من غير تدريج و تعدّد كما أنّه أيضاً ظاهر جمع الجميع و تصديرها بإذ من غير تكرار لها.

و كذلك قوله:( إِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَ تُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَ الْأَبْرَصَ بِإِذْنِي ) ظاهر السياق من جهة عدم تكرار لفظة( إِذْ ) أنّ خلق الطير و إبراء الأكمه و الأبرص كانا متقارنين زماناً، و أنّ تذييل خلق الطير بذكر الإذن

٢٣٦

من غير أن يكتفي بالإذن المذكور في آخر الجملة إنّما هو لعظمة أمر الخلق بإفاضة الحياة فتعلّقت العناية به فاختصّ بذكر الإذن بعده من غير أن ينتظر فيه آخر الكلام صوناً لقلوب السامعين من أن يخطر فيها أنّ غيره تعالى يستقلّ دونه بإفاضة الحياة أو تلبث فيها هذه الخطرة و لو لحظات يسيرة، و الله أعلم.

و قوله:( وَ إِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى‏ بِإِذْنِي ) إخراج الموتى كناية عن إحيائها، و فيه عناية ظاهرة بأنّ الإحياء الّذي جرى على يديهعليه‌السلام كان إحياء لموتى مقبورين بإفاضة الحياة عليهم و إخراجهم من قبورهم إلى حياة دنيويّة، و في اللفظ دلالة على الكثرة، و قد تقدّم في الكلام على آيات آل عمران بقيّة ما يتعلّق بهذه الآيات من الكلام فراجع ذلك.

قوله تعالى: ( وَ إِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ ) إلى آخر الآية. فيه دلالة على أنّهم قصدوه بشرّ فكفّهم الله عن ذلك فينطبق على ما ذكره الله في سورة آل عمران في قصصهعليه‌السلام بقوله:( وَ مَكَرُوا وَ مَكَرَ اللهُ وَ اللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ ) .

قوله تعالى: ( وَ إِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ ) الآية، الآية منطبقة على آيات سورة آل عمران بقوله:( فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى‏ مِنْهُمُ الْكُفْرَ قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ آمَنَّا بِاللهِ وَ اشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ) آل عمران: ٥٢.

و من هنا يظهر أنّ هذا الإيمان الّذي ذكره في الآية بقوله:( وَ إِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَ بِرَسُولِي قالُوا آمَنَّا ) ، الآية غير إيمانهم الأوّل بهعليه‌السلام فإنّ ظاهر قوله في آية آل عمران:( فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى‏ مِنْهُمُ الْكُفْرَ ) أنّه كان في أواخر أيّام دعوته و قد كان الحواريّون و هم السابقون الأوّلون في الإيمان به ملازمين له.

على أنّ ظاهر قوله في آية آل عمران:( قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ آمَنَّا بِاللهِ وَ اشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ) أنّ الدعوة إنّما سيقت لأخذ الميثاق على نصرة دين الله لا أصل الإيمان بالله، و لذلك ختم الآية بقولهم:( وَ اشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ) و هو التسليم لأمر الله بإقامة دعوته و تحمّل الأذى في جنبه، و كلّ ذلك بعد أصل الإيمان بالله طبعاً.

فتبيّن أنّ المراد بقوله:( وَ إِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ ) ، إلخ قصّة أخذ الميثاق من الحواريّين، و في الآية أبحاث اُخر مرّت في تفسير سورة آل عمران.

٢٣٧

( بحث روائي)

في المعاني، بإسناده عن أبي يعقوب البغداديّ قال: قال ابن السكّيت لأبي الحسن الرضاعليه‌السلام : لما ذا بعث الله موسى بن عمران بيده البيضاء و العصا و آلة السحر، و بعث عيسى بآلة الطبّ، و بعث محمّداًصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالكلام و الخطب؟.

فقال أبوالحسنعليه‌السلام : إنّ الله تعالى لما بعث موسىعليه‌السلام كان الأغلب على أهل عصره السحر فأتاهم من عندالله تعالى بما لم يكن عند القوم و في وسعهم مثله، و بما أبطل به سحرهم، و أثبت به الحجّة عليهم و إنّ الله تعالى بعث عيسى في وقت ظهرت فيه الزمانات و احتاج الناس إلى الطبّ فأتاهم من عندالله تعالى بما لم يكن عندهم مثله، و بما أحيي لهم الموتى، و أبرأ الأكمه و الأبرص بإذن الله، و أثبت به الحجّة عليهم و إنّ الله تعالى بعث محمّداًصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في وقت كان الأغلب على أهل عصره الخطب و الكلام و الشعر فأتاهم من كتاب الله و الموعظة و الحكمة بما أبطل به قولهم، و أثبت به الحجّة عليهم.

قال ابن السكّيت ما رأيت مثلك اليوم قطّ فما الحجّة على الخلق اليوم؟ فقال: العقل يعرف به الصادق على الله فيصدّقه و الكاذب على الله فيكذّبه، قال ابن السكّيت: هذا و الله هو الجواب.

و في الكافي، عن محمّد بن يحيى عن أحمد بن محمّد عن الحسن بن محبوب عن أبي جميلة عن أبان بن تغلب و غيره عن أبي عبداللهعليه‌السلام : أنّه سئل هل كان عيسى بن مريم أحيا أحداً بعد موته بأكل و رزق و مدّة و ولد؟ فقال: نعم إنّه كان له صديق مواخ له في الله تبارك و تعالى، و كان عيسىعليه‌السلام يمرّ به و ينزل عليه، و إنّ عيسى غاب عنه حيناً ثمّ مرّ به ليسلّم عليه فخرجت عليه اُمّه فسألها عنه فقالت له: مات يا رسول الله، فقال: أ تحبّين أن تراه؟ قالت: نعم. فقال: إذا كان غداً أتيتك حتّى اُحييه لك بإذن الله تعالى.

فلمّا كان من الغد أتاها فقال لها: انطلقي معي إلى قبره فانطلقا حتّى أتيا قبره فوقف عليه عيسىعليه‌السلام ثمّ دعا الله عزّوجلّ فانفرج القبر فخرج ابنها حيّاً فلمّا رأته اُمّه و رءاها بكيا فرحمهما عيسىعليه‌السلام فقال له عيسى: أ تحبّ أن تبقى مع اُمّك في الدنيا؟

٢٣٨

فقال: يا رسول الله بأكل و رزق و مدّة أم بغير أكل و رزق و مدّة؟ فقال له عيسىعليه‌السلام : بأكل و رزق و مدّة تعمّر عشرين سنة و تزوّج و يولد لك، قال: نعم إذاً.

قال: فدفعه عيسىعليه‌السلام إلى اُمّه فعاش عشرين سنة و ولد له.

و في تفسير العيّاشيّ، عن محمّد بن يوسف الصنعانيّ عن أبيه قال: سألت أباجعفرعليه‌السلام ( إِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ ) قال: اُلهموا.

أقول: و استعمال الوحي في مورد الإلهام جاء في القرآن في غير مورد كقوله تعالى:( وَ أَوْحَيْنا إِلى‏ أُمِّ مُوسى‏ أَنْ أَرْضِعِيهِ ) القصص: ٧، و قوله تعالى:( وَ أَوْحى‏ رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً ) النحل: ٦٨ و قوله في الأرض:( بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى‏ لَها ) الزلزال: ٥.

٢٣٩

( سورة المائدة الآيات ١١٢ - ١١٥)

إِذْ قَالَ الْحَوارِيّونَ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبّكَ أَن يُنَزّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السّماءِ قَالَ اتّقُوا اللّهَ إِن كُنتُم مُؤْمِنِينَ( ١١٢) قَالُوا نُرِيدُ أَن نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشّاهِدِينَ( ١١٣) قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللّهُمّ رَبّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السّمَاءِ تَكُونَ لَنَا عِيداً لِأَوّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرّازِقِينَ( ١١٤) قَالَ اللّهُ إِنّي مُنَزّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنّي أُعَذّبُهُ عَذَاباً لاَ أُعَذّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعَالَمِينَ( ١١٥)

( بيان)

الآيات تذكر قصّة نزول المائدة على المسيحعليه‌السلام و أصحابه، و هي و إن لم تصرّح بأنّ الله أنزلها عليهم غير أنّ الآية الأخيرة تتضمّن الوعد المنجز منه بإنزالها من غير تقييد و قد وصف تعالى نفسه بأنّه لا يخلف الميعاد.

و قول بعضهم: (إنّهم استقالوا عيسىعليه‌السلام بعد ما سمعوا الوعيد الشديد من الله تعالى لمن يكفر منهم بعد نزول المائدة) قول من غير دليل من كتاب أو حديث يعتمد عليه.

و قد نقل ذلك عن جمع من المفسّرين، و ممّن يذكر منهم: المجاهد و الحسن، و لا حجّة في قولهما و لا قول غيرهما و لو عدّ قولهما رواية كانت من الموقوفات الّتي لا حجّيّة لها لضعفها على أنّها معارضة بغيرها من الروايات الدالّة على نزولها، على أنّها لو صحّت لم تكن إلّا من الآحاد الّتي لا يعتمد عليها في غير الأحكام.

و ربّما يستدلّ على عدم نزولها بأنّ النصارى لا يعرفونها و كتبهم المقدّسة خالية عن حديثها، و لو كانت نازلة لتوفّرت الدواعي على ذكره في كتبهم و حفظه فيما بينهم بسيرة مستمرّة كما تحفّظوا على العشاء الربّانيّ لكن الخبير بتاريخ شيوع النصرانيّة و ظهور الأناجيل لا يعبأ بأمثال هذه الأقاويل فلا كتبهم مكتوبة محفوظة على التواتر إلى

٢٤٠

زمن عيسىعليه‌السلام ، و لا هذه النصرانيّة الحاضرة تتّصل بزمنه حتّى ينتفع بها فيها يعتورونه يداً بيد، أو فيما لا يعرفونه ممّا ينسب إلى الدعوة العيسويّة أو يتعلّق بها.

نعم وقع في بعض الأناجيل إطعام المسيح تلاميذه و جماعة من الناس بالخبز و السمك القليلين على طريق الإعجاز، غير أنّ القصّة لا تنطبق على ما قصّة القرآن في شي‏ء من خصوصيّاته، ورد في إنجيل يوحنّا، الإصحاح السادس ما هذا نصّه:

(١)( بعد هذا مضى يسوع إلى عبر بحر الجليل و هو بحر طبريّة (٢) و تبعه جمع كثير لأنّهم أبصروا آياته التي كان يصنعها في المرضى (٣) فصعد يسوع إلى جبل و جلس هناك مع تلاميذه (٤) و كان الفصح عند اليهود قريباً (٥) فرفع يسوع عينيه و نظر أنّ جمعاً كثيراً مقبل إليه فقال لفيلبس من أين نبتاع خبزاً ليأكل هؤلاء (٦) و إنّما قال هذا ليمتحنه لأنّه هو علم ما هو مزمع أن يفعل (٧) أجابه فيلبس لا يكفيهم خبز بمأتي دينار ليأخذ كلّ واحد منهم شيئاً يسيراً (٨) قال له واحد من تلاميذه و هو أندراوس أخو سمعان بطرس (٩) هنا غلام معه خمسة أرغفة شعير و سمكتان و لكن ما هذا لمثل هؤلاء (١٠) فقال يسوع اجعلوا الناس يتّكئون و كان في المكان عشب كثير فاتّكأ الرجال و عددهم نحو خمسة آلاف (١١) و أخذ يسوع الأرغفة و شكر و وزّع على التلاميذ و التلاميذ أعطوا المتّكئين و كذلك من السمكتين بقدر ما شاؤا (١٢) فلمّا شبعوا قال لتلاميذه أجمعوا الكسر الفاضلة لكي لا يضيع شي‏ء (١٣) فجمعوا و ملأوا اثنتي عشرة قفّة من الكسر من خمسة أرغفة الشعير الّتي فضلت عن الآكلين (١٤) فلمّا رأى الناس الآية التي صنعها يسوع قالوا إنّ هذا هو بالحقيقة النبيّ الآتي إلى العالم (١٥) و أمّا يسوع فإذ علم أنّهم مزمعون أن يأتوا و يختطفوه ليجعلوه ملكاً انصرف أيضاً إلى الجبل وحده) .

ثمّ إنّ التدبّر في هذه القصّة بما لها من سياق مسرود في كلامه تعالى يهدي إلى جهة اُخرى من البحث فإنّ السؤال المذكور في أوّلها بظاهره خال عن رعاية الأدب و الواجب حفظه في جنب الله سبحانه، و قد انتهى الكلام إلى وعيد منه تعالى لمن يكفر بهذه الآية وعيداً لا يوجد له نظير في شي‏ء من الآيات الّتي اختصّ الله سبحانه بها أنبياءه أو اقترحها اُممهم عليهم كاقتراح اُمم نوح و هود و صالح و شعيب و موسى و محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

٢٤١

فهل كان ذلك لكون الحواريّين و هم السائلون أساؤا الأدب في سؤالهم؟ لأنّ لفظهم لفظ من يشكّ في قدرة الله سبحانه ففي اقتراحات الاُمم السابقة عليهم من الإهانة بمقام ربّهم و السخريّة و الهزء بأنبيائهم و كذا ما توجد حكايته في القرآن من طواغيت قوم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و اليهود المعاصرين له ما هو أوقح من ذلك و أشنع!.

أو أنّهم لكونهم مؤمنين قبل السؤال و النزول لو كفروا بعد النزول و مشاهدة الآية الباهرة استحقّوا هذا الوعيد على هذه الشدّة؟ فالكفر بعد مشاهدة الآية الباهرة و إن كان عتوّاً و طغياناً كبيراً لكنّه لا يختصّ بهم، ففي سائر الاُمم أمثال لهم في ذلك و لم يوعدوا بمثل هذا الوعيد قطّ حتّى الّذين ارتدّوا منهم بعد التمكّن في مقام القرب و التحقّق بآيات الله سبحانه كالّذي يذكره الله سبحانه في قوله:( وَ اتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ ) الأعراف: ١٧٥.

و الّذي يمكن أن يقال في المقام أنّ هذه القصّة بما صدّر به من السؤال يمتاز بمعنى يختصّ به من بين سائر معجزات الأنبياء الّتي أتوا بها لاقتراح من اُممهم أو لضرورات اُخر تدعو إلى ذلك.

و ذلك أنّ الآيات المعجزة الّتي يقصّها الكلام الإلهيّ إمّا آيات آتاها الله الأنبياء حين بعثهم لتكون حجّة مؤيّدة لنبوّتهم أو رسالتهم كما اُوتي موسىعليه‌السلام اليد البيضاء و العصا، و اُوتي عيسىعليه‌السلام إحياء الموتى و خلق الطير و إبراء الأكمه و الأبرص، و اُوتي محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم القرآن، و هذه آيات اُوتيت لحاجة الدعوة إلى الإيمان و إتمام الحجّة على الكفّار ليهلك من هلك عن بيّنة و يحيي من حيّ عن بيّنة.

و إمّا آيات معجزة أتى بها الأنبياء و الرسل لاقتراح الكفّار عليهم كناقة صالح، و يلحق بها المخوّفات و المعذّبات المستعملة في الدعوة كآيات موسىعليه‌السلام على قوم فرعون من الجراد و القمّل و الضفادع و غير ذلك في سبع آيات، و طوفان نوح، و رجفة ثمود و صرصر عاد و غير ذلك، و هذه أيضاً آيات متعلّقة بالمعاندين الجاحدين.

و إمّا آيات أراها الله المؤمنين لحاجة مسّتها، و ضرورة دعت إليها، كانفجار العيون من الحجر و نزول المنّ و السلوى على بني إسرائيل في التيه، و رفع الطور فوق رؤسهم و شقّ

٢٤٢

البحر لنجاتهم من فرعون و عمله، فهذه آيات واقعة لإرهاب العاصين المستكبرين أو كرامة للمؤمنين لتتمّ كلمة الرحمة في حقّهم من غير أن يكونوا قد اقترحوها.

و من هذا الباب المواعيد الّتي وعدها الله في كتابه المؤمنين كرامة لرسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كوعد فتح مكّة و مقت المشركين من كفّار قريش و غلبة الروم إلى غير ذلك.

فهذه أنواع الآيات المقتصّة في القرآن و المذكورة في التعليم الإلهيّ، و أمّا اقتراح الآية بعد نزول الآية فهو من التهوّس يعدّه التعليم الإلهيّ من الهجر الّذي لا يعبأ به كاقتراح أهل الكتاب أن ينزّل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليهم كتاباً من السماء مع وجود القرآن بين أيديهم، قال تعالى:( يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى‏ أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً - إلى أن قال -لكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَ الْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَ كَفى‏ بِاللهِ شَهِيداً ) النساء: ١٦٦.

و كما سأل المشركون النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنزال الملائكة أو إراءة ربّهم تعالى و تقدّس قال تعالى:( وَ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى‏ رَبَّنا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَ عَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً ) الفرقان: ٢١ و قال تعالى:( وَ قالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَ يَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً، أَوْ يُلْقى‏ إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها وَ قالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً، انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا ) الفرقان: ٩ إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة.

و ليس ذلك كلّه إلّا لأنّ عنوان نزول الآية هو ظهور الحقّ و تمام الحجّة فإذا نزلت فقد ظهر الحقّ و تمّت الحجّة فلو اُعيد سؤال نزول الآية و قد نزلت و حصل الغرض فلا عنوان له إلّا العبث بآيات الله و اللعب بالمقام الربوبيّ و التذبذب في القبول، و فيه أعظم العتوّ و الاستكبار.

و هذا لو صدر عن المؤمنين لكان الذنب فيه أكثف و الإثم فيه أعظم فما ذا يصنع المؤمن بنزول الآية السماويّة و هو مؤمن و خاصّة إذا كان ممّن شاهد آيات الله فآمن عن مشاهدتها؟ و هل هو إلّا أشبه شي‏ء بما يقترحه أرباب الهوى و المترفون في مجالس الاُنس و حفل

٢٤٣

التفكّه من المشعوذين أو أصحاب الرياضات العجيبة أن يطيّبوا عيشهم بإتحافهم بأعجب ما يقدرون عليه من الشعبذة و الأعمال الغريبة؟.

و الّذي يفيده ظاهر قوله تعالى:( إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً ) أنّهم اقترحوا على المسيحعليه‌السلام أن يريهم آية خاصّة و هم حواريّوه المختصّون به و قد رأوا تلك الآيات الباهرة و الكرامات الظاهرة فإنّهعليه‌السلام لم يرسل إلى قومه إلّا بالآيات المعجزة كما يعطيه قوله تعالى:( وَ رَسُولًا إِلى‏ بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ ) الخ آل عمران: ٤٩.

و كيف يتصوّر في من آمن بالمسيحعليه‌السلام أن لا يعثر منه على آية و هوعليه‌السلام بنفس وجوده آية خلقه الله من غير أب و أيّده بروح القدس يكلّم الناس في المهد و كهلاً و لم يزل مكرّماً بآية بعد آية حتّى رفعه الله إليه و ختم أمره بأعجب آية.

فاقتراحهم آية اختاروها لأنفسهم بعد هاتيك الآيات على كثرتها من قبيل اقتراح الآية بعد الآية و قد ركبوا أمراً عظيماً و لذلك وبخهم عيسىعليه‌السلام بقوله:( اتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) .

و لذلك بعينه وجّهوا ما اقترحوا عليه و فسّروا قولهم ثانياً بما يكسر سورة ما أوهمه إطلاق كلامهم، و يزيل عنه تلك الحدّة فقالوا:( نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها وَ تَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا وَ نَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا وَ نَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ ) فضمّوا إلى غرض الأكل أغراضاً اُخر يوجّه اقتراحهم، يريدون به أنّ اقتراحهم هذا ليس من قبيل التفكّه بالاُمور العجيبة و العبث بآيات الإلهيّة بل له فوائد مقصودة: من كمال علمهم و إزالة خطرات السوء من قلوبهم و شهادتهم عليها.

لكنّهم مع ذلك لم يتركوا ذكر إرادة الأكل و منه كانت الخطيئة و لو قالوا:( نريد أن نأكل منها فتطمئنّ قلوبنا) ، إلخ لم يلزمهم ما لزمهم إذ قالوا:( نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها وَ تَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا ) ، إلخ فإنّ الكلام الأوّل يقطع جميع منابت التهوّس و المجازفة دون الثاني.

٢٤٤

و لما ألحّوا عليه أجابهم عيسىعليه‌السلام إلى ما اقترحوا عليه و التمسوه و سأل ربّه أن يكرمهم بها، و هي معجزة مختصّة في نوعها باُمّته لأنّها الآية الوحيدة الّتي نزلت إليهم عن اقتراح في أمر غير لازم ظاهراً و هو أكل المؤمنين منها، و لذلك عنونهاعليه‌السلام عنواناً يصلح به أن يوجّه الوجه بسؤاله إلى ساحة العظمة و الكبرياء فقال:( اللهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَ آخِرِنا ) فعنونها بعنوان العيديّة، و العيد عند قوم هو اليوم الّذي نالوا فيه موهبة أو مفخرة مختصّة بهم من بين الناس، و كان نزول المائدة عليهم منعوتاً بهذا النعت.

و لما سأل عيسى ربّه ما سأل - و حاشاه أن يسأل إلّا ما يعلم أنّ من المرجوّ استجابته و أنّ ربّه لا يمقته و لا يفضحه، و حاشا ربّه أن يردّه خائباً في دعائه - استجاب له ربّه دعاءه غير أنّه شرط فيها لمن يكفر بها عذاباً يختصّ به من بين جميع الناس كما أنّ الآية آية خاصّة بهم لا يشاركهم في نوعها غيرهم من الاُمم فقال الله سبحانه:( إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ ) ، هذا.

قوله تعالى: ( إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ ) ( إِذْ ) ظرف متعلّق بمقدّر و التقدير: اذكر إذ قال إلخ، أو ما يقرب منه، و ذهب بعضهم إلى أنّه متعلّق بقوله في الآية السابقة:( قالُوا آمَنَّا ) ، إلخ أي قال الحواريّون: آمنّا بالله و اشهد بأنّا مسلمون في وقت قالوا فيه لعيسى:( هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ ) و المراد أنّهم ما كانوا على صدق في دعواهم، و لا على جدّ في إشهادهم عيسىعليه‌السلام على إسلامهم له.

و فيه أنّه مخالف لظاهر السياق، و كيف يكون إيمانهم غير خالص؟ و قد ذكر الله أنّه هو أوحى إليهم أن آمنوا بي و برسولي و هو تعالى يمتنّ بذلك على عيسىعليه‌السلام على أنّه لا وجه حينئذ للإظهار في قوله:( إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ ) ، إلخ.

و( المائدة) الخوان إذا كان فيه طعام، قال الراغب: و المائدة الطبق الّذي عليه الطعام، و يقال لكلّ واحدة منهما مائدة، و يقال: مادني يميدني أي أطعمني، انتهى.

و متن السؤال الّذي حكي عنهم في الآية و هو قولهم:( هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ

٢٤٥

عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ ) بحسب ظاهر ما يتبادر من معناه ممّا يستبعد العقل صدوره عن الحواريّين و هم أصحاب المسيح و تلامذته و أخصّاؤه الملازمون له المقتبسون من أنوار علومه و معارفه المتّبعون آدابه و آثاره، و الإيمان بأدنى مراتبه ينبّه الإنسان على أنّ الله سبحانه على كلّ شي‏ء قدير، لا يجوز عليه العجز و لا يغلبه العجز فكيف جاز أن يستفهموا رسولهم عن استطاعة ربّه على إنزال مائدة من السماء.

و لذلك قرأ الكسائيّ من السبعة:( هل تستطيع ربّك) بتاء المضارعة و نصب( ربّك) على المفعوليّة أي هل تستطيع أنت أن تسأل ربّك، فحذف الفعل الناصب للمفعول و اُقيم( تستطيع) مقامه، أو أنّه مفعول لفعل محذوف فقط.

و قد اختلف المفسّرون في توجيهه على بناء من أكثريهم على أنّ المراد به غير ما يتبادر من ظاهره من الشكّ في قدرة الله سبحانه لنزاهة ساحتهم من هذا الجهل السخيف.

و أوجه ما يمكن أن يقال هو أنّ الاستطاعة في الآية كناية عن اقتضاء المصلحة و وقوع الإذن كما أنّ الإمكان و القدرة و القوّة يكنّى بها عن ذلك كما يقال:( لا يقدر الملك أن يصغي إلى كلّ ذي حاجة) بمعنى أنّ مصلحة الملك تمنعه من ذلك و إلّا فمطلق الإصغاء مقدور له، و يقال:( لا يستطيع الغنيّ أن يعطي كلّ سائل) أي مصلحة حفظ المال لا تقتضيه، و يقال:( لا يمكن للعالم أن يبث كلّ ما يعلمه) أي يمنعه عن ذلك مصلحة الدين أو مصلحة الناس و النظام الدائر بينهم، و يقول أحدنا لصاحبه:( هل تستطيع أن تروح معي إلى فلان) ؟ و إنّما السؤال عن الاستطاعة بحسب الحكمة و المصلحة لا بحسب أصل القدرة على الذهاب، هذا.

و هناك وجوه اُخرى ذكروها:

منها: أنّ هذا السؤال لأجل تحصيل الاطمئنان بإيمان العيان لا للشكّ في قدرة الله سبحانه فهو على حدّ قول إبراهيمعليه‌السلام فيما حكى الله عنه:( رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى‏ قالَ أَ وَ لَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى‏ وَ لكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ) .

و فيه: أنّ مجرّد صحّة أن تسأل الآية لزيادة الإيمان و اطمئنان القلب لا يصحّح حمل سؤالهم عليه و لم تثبت عصمتهم كإبراهيمعليه‌السلام حتّى تكون دليلاً منفصلاً يوجب

٢٤٦

حمل كلامهم على ما لا حزازة فيه بل الدليل على خلافه حيث لم يقولوا: نريد أن نأكل منها فتطمئنّ قلوبنا كما قال إبراهيمعليه‌السلام :( بَلى‏ وَ لكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ) بل قالوا:( نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها وَ تَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا ) فعدّوا الأكل بحيال نفسه غرضاً.

على أنّ هذا الوجه إنّما يستدعي تنزّه قلوبهم عن شائبة الشكّ في قدرة الله سبحانه و أمّا حزازة ظاهر الكلام فعلى حالها.

على أنّه قد تقدّم في تفسير قوله تعالى:( وَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى) الخ: البقرة: ٢٦٠ أنّ مرادهعليه‌السلام لم يكن مشاهدة تلبّس الموتى بالحياة بعد الموت كما عليه بناء هذا الوجه و لو كان كذلك لكان من قبيل طلب الآية بعد العيان و هو في مقام المشافهة مع ربّه بل مراده مشاهدة كيفيّة الإحياء بالمعنى الّذي تقدّم بيانه.

و منها: أنّه سؤال عن الفعل دون القدرة عليه فعبّر عنه بلازمه.

و فيه: أنّه لا دليل عليه، و لو سلم فإنّه إنّما ينفي عنهم الجهل بالقدرة المطلقة الإلهيّة و أمّا منافاة إطلاق اللفظ للأدب العبوديّ فعلى حالها.

و منها: أنّ في الكلام حذفاً تقديره: هل تستطيع سؤال ربّك؟ و يدلّ عليه قراءة هل تستطيع ربّك و المعنى: هل تستطيع أن تسأله من غير صارف يصرفك عن ذلك.

و فيه: أنّ الحذف و التقدير لا يعيد لفظة( هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ ) إلى قولنا هل تستطيع سؤال ربّك بأيّ وجه فرض لمكان اختلاف الفعل في القراءتين بالغيبة و الحضور، و التقدير لا يحوّل الغيبة إلى الخطاب البتّة، و إن كان و لا بدّ فليقل: أنّه من قبيل إسناد الفعل المنسوب إلى عيسىعليه‌السلام إلى ربّه من جهة أنّ فعله فعل الله أو أنّ كلّ ما لهعليه‌السلام فهو لله سبحانه، و هذا الوجه مع كونه فاسداً من جهة أنّ الأنبياء و الرسل إنّما ينسب من أفعالهم إلى الله ما لا يستلزم نسبته إليه النقص و القصور في ساحته تعالى كالهداية و العلم و نحوهما، و أمّا لوازم عبوديّتهم و بشريّتهم كالعجز و الفقر و الأكل و الشرب و نحو ذلك فممّا لا تستقيم نسبته إليه تعالى البتّة فمشكلة ظاهر اللفظ على حالها.

و منها: أنّ الاستطاعة هنا بمعنى الإطاعة و المعنى: هل يطيعك ربّك و يجيب

٢٤٧

دعاءك إذا سألته ذلك، و فيه: أنّه من قبيل تبديل المشكل بما هو أشكل فإنّ الاستفهام عن إطاعة الله سبحانه لرسوله و انقياده له أشنع و أفظع من الاستفهام عن استطاعته.

و قد انتصر بعضهم لهذا الوجه فقال في تقريره ما محصّله: إنّ الاستطاعة و الإطاعة من مادّة الطوع مقابل الكره فإطاعة الأمر فعله عن رضى و اختيار، و الاستفعال في هذه المادّة كالاستفعال في مادّة الإجابة فإذا كان معنى استجابة: أجاب دعاءه أو سؤاله فمعنى استطاعة: أطاعه أي أنّه انقاد له و صار في طوعه أو طوعاً له، و السين و التاء في المادّتين على أشهر معانيهما و هو الطلب، و لكنّه طلب دخل على فعل محذوف دلّ عليه المذكور المترتّب على المحذوف، و معنى استطاع الشي‏ء: طلب و حاول أن يكون ذلك الشي‏ء طوعاً له فأطاعه و انقاد له، و معنى استجاب: سئل شيئاً و طلب منه أن يجيب إليه فأجاب.

قال: فبهذا الشرح الدقيق تفهم صحّة قول من قال من المفسّرين: إنّ( يَسْتَطِيعُ ) هنا بمعنى يطيع و إنّ معنى يطيع: يفعل مختاراً راضياً غير كاره فصار حاصل معنى الجملة: هل يرضى ربّك و يختار أن ينزّل علينا مائدة من السماء إذا نحن سألناه أو سألته لنا ذلك، انتهى.

و فيهأوّلاً: أنّه لم يأت بشي‏ء دون أن قاس استطاع باستجاب ثمّ أعطى هذا معنى ذاك و هو قياس في اللغة ممنوع.

وثانياً: أنّ كون الاستطاعة و الإطاعة راجعين بحسب المادّة إلى الطوع مقابل الكره لا يستلزم وجوب جريان الاستعمال على رعاية معنى المادّة الأصليّة في جميع التطوّرات الطارئة عليها فكثير من الموادّ هجرت خصوصيّة معناها الأصليّ في ما عرضها من الهيئات الاشتقاقيّة نظير ضرب و أضرب و قبل و أقبل و قبّل و قابل و استقبل بحسب التبادر الاستعماليّ.

و اعتبار المادّة الأصليّة في البحث عن الاشتقاقات اللغويّة لا يراد به إلّا الاستعلام مبلغ ما يعيش المادّة الأصليّة بين مشتقّاتها بحسب عروض تطوّرات الاشتقاق عليها، أو انقضاء أمد حياتها بحسب المعنى و تبدّله إلى معنى آخر لا أن يلغى حكم التطوّرات و يحفظ المعنى الأصليّ ما جرى اللسان، فافهم ذلك.

٢٤٨

فالاعتبار في اللفظ بما يفيده بحسب الاستعمال الدائر الحيّ لا بما تفيده المادّة اللغويّة و قد استعمل لفظ الاستطاعة في كلامه تعالى في أزيد من أربعين موضعاً، و هو في الجميع بمعنى القدرة، و استعمل لفظ الإطاعة فيما يقرب من سبعين موضعاً و هو في الجميع بمعنى الانقياد، و استعمل لفظ الطوع فيما استعمل و هو مقابل الكره فكيف يسوغ أن يؤخذ لفظ يستطيع بمعنى يطيع ثمّ يطيع بمعنى الطوع ثمّ يحكم بأنّ يستطيع في الآية بمعنى يرضى؟.

و أمّا حديث أجاب و استجاب فقد استعملا معاً في كلامه تعالى بمعنى واحد و ورد استعمال الاستجابة في موارد هي أضعاف ما استعملت فيه الإجابة فإنّك تجد الاستجابة فيما يقرب من ثلاثين موضعاً، و لا تجد الإجابة في أكثر من عشرة مواضع فكيف يقاس عليها أطاع و استطاع؟.

و كونهما بمعنى واحد ليس إلّا لانطباق عنايتين مختلفتين على مورد واحد فمعنى أجاب أنّ الجواب تجاوز عن المسؤل إلى السائل، و معنى استجاب أنّ المسؤل طلب من نفسه الجواب فأدّاه إلى السائل.

و من هنا يظهر أنّ الذي فسّر به الاستجابة و هو قوله: (و معنى استجاب سئل شيئاً و طلب منه أن يجيب إليه فأجاب) ليس على ما ينبغي فإنّ باب الاستفعال هو طلب( فعل) لا طلب( افعل) و هو ظاهر.

وثالثاً: أنّ السياق لا يلائم هذا المعنى إذ لو كان معنى قولهم:( هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ ) إنّه هل يرضى ربّك أن نسأله نحن أو تسأله أنت أن ينزل علينا مائدة من السماء، و كان غرضهم من هذا السؤال أو النزول أن يزدادوا إيماناً و يطمئنّوا قلباً فما وجه توبيخ عيسىعليه‌السلام لهم بقوله:( اتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) ؟ و ما وجه وعيده تعالى الكافرين بها بعذاب لا يعذّبه أحداً من العالمين، و هم لم يقولوا إلّا حقّاً و لم يسألوا إلّا مسألة مشروعة، و قد قال تعالى:( وَ سْئَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ ) النساء: ٣٢.

قوله تعالى: ( قالَ اتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) توبيخ منهعليه‌السلام لهم لما يشتمل عليه ظاهر كلامهم من الاستفهام عن استطاعة ربّه على إنزال المائدة فإنّ كلامهم مريب على أيّ حال.

٢٤٩

و أمّا على ما قدّمناه من أنّ الأصل في مؤاخذتهم الّذي يترتّب عليه الوعيد الشديد في آخر الآيات هو أنّهم سألوا آية حيث لا حاجة إليها و اقترحوا بما في معنى العبث بآيات الله سبحانه، ثمّ تعبيرهم بما يتبادر من ظاهره كونهم كأنّهم لم يعقدوا قلوبهم على القدرة الربوبيّة فوجه توبيخهعليه‌السلام لهم بقوله:( اتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) أظهر.

قوله تعالى: ( قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها وَ تَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا وَ نَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا وَ نَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ ) السياق ظاهر في أنّ قولهم هذا عذر اعتذروا به للتخلّص من توبيخهعليه‌السلام و ما ذكروه ظاهر التعلّق باقتراحهم الآية بنزول المائدة دون ما يظهر من قولهم:( هَلْ يَسْتَطِيعُ ربّك أَنْ يُنَزِّلَ ) ، من المعنى الموهم للشكّ في إطلاق القدرة، و هذا أيضاً أحد الشواهد على أنّ ملاك المؤاخذة في المقام هو أنّهم سألوا آية على آية من غير حاجة إليها.

و أمّا قولهم:( نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها ) ، إلخ فقد عدوّا في بيان غرضهم من اقتراح الآية اُموراً أربعة:

أحدها: الأكل و كأنّ مرادهم بذكره أنّهم ما أرادوا به اللعب بآيات الله بل أرادوا أن يأكلوا منها، و هو غرض عقلائيّ، و قد تقدّم أنّ هذا القول منهم كالتسليم لاستحقاقهم التوبيخ من عيسىعليه‌السلام و الوعيد الشديد من الله لمن يكفر منهم بآية المائدة.

و ذكر بعضهم: أنّ المراد بذكر الأكل إبانة أنّهم في حاجة شديدة إلى الطعام و لا يجدون ما يسدّ حاجتهم. و ذكر آخرون أنّ المراد نريد أن نتبرّك بأكله. و أنت تعلم أنّ المعنى الّذي قرّر في كلّ من هذين الوجهين أمر لا يدلّ عليه مجرّد ذكر الأكل، و لو كان مرادهم ذلك و هو أمر يدفع به التوبيخ لكان مقتضى مقام الاعتذار التصريح بذكره، و حيث لم يذكر شي‏ء من ذلك مع حاجة المقام إلى ذكره لو كان مراداً فليس المراد بالأكل إلّا مطلق معناه من حيث إنّه غرض عقلائيّ هو أحد أجزاء غرضهم في اقتراح نزول المائدة.

الثاني: اطمئنان القلب و هو سكونه باندفاع الخطورات المنافية للخلوص و الحضور.

٢٥٠

و الثالث: العلم بأنّهعليه‌السلام قد صدقهم فيما بلّغهم عن ربّه، و المراد بالعلم حينئذ هو العلم اليقينيّ الّذي يحصل في القلب بعد ارتفاع الخطورات و الوساوس النفسانيّة عنه، أو العلم بأنّه قد صدقهم فيما وعدهم من ثمرات الإيمان كاستجابة الدعاء كما ذكره بعضهم، لكن يبعّده أنّ الحواريّين ما كانوا يسألون إنزال المائدة من السماء إلّا بدعاء عيسىعليه‌السلام و مسألته، و بالجملة بإعجاز منهعليه‌السلام و قد كانوا رأوا منهعليه‌السلام آيات كثيرة فإنّهعليه‌السلام لم يزل في حياته قريناً لآيات إلهيّة كبري، و لم يرسل إلى قومه و لم يدعهم دعوة إلّا مع آيات ربّه فلم يزالوا يرون ثمرات إيمانه من استجابة الدعاء إن كان المراد الثمرة الّتي هي استجابة دعائهعليه‌السلام ، و إن كان المراد الثمرة الّتي هي استجابة دعائهم أنفسهم فإنّهم لم يسألوا نزول الآية بدعاء أنفسهم، و لم تنزل إلّا بدعاء عيسىعليه‌السلام .

الرابع: أن يكونوا عليها من الشاهدين عند ما يحتاج إلى الشهادة كالشهادة عند المنكرين، و الشهادة عند الله يوم القيامة، فالمراد بها مطلق الشهادة، و يمكن أن يكون المراد مجرّد الشهادة عندالله سبحانه كما وقع في بعض قولهم الّذي حكاه الله تعالى إذ قال:( رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ وَ اتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ ) ال عمران: ٥٣.

فقد تحصّل أنّهم - فيما اعتذروا به - ضمّوا اُموراً جميلة مرضيّة إلى غرضهم الآخر الّذي هو الأكل من المائدة السماويّة ليحسموا به مادّة الحزازة عن اقتراحهم الآية بعد مشاهدة الآيات الكافية فأجابهم عيسىعليه‌السلام إلى مسألتهم بعد الإصرار.

قوله تعالى: ( قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَ آخِرِنا وَ آيَةً مِنْكَ وَ ارْزُقْنا وَ أَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ) خلطعليه‌السلام نفسه بهم في سؤال المائدة، و بدأ بنداء ربّه بلفظ عامّ فقال:( اللهُمَّ رَبَّنا ) و قد كانوا قالوا له:( هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ ) ليوافق النداء الدعاء.

و قد توحّد هذا الدعاء من بين جميع الأدعية و المسائل المحكيّة في القرآن عن الأنبياءعليه‌السلام بأن صدّر( باللّهمّ ربّنا ) و غيره من أدعيتهم مصدّر بلفظ( ربّ ) أو( ربّنا ) و ليس إلّا لدقّة المورد و هول المطّلع، نعم يوجد في أقسام الثناء المحكيّة نظير هذا التصدير كقوله:( قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ ) النمل: ٥٩ و قوله:( قُلِ اللهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ ) آل عمران: ٢٦ و قوله:

٢٥١

( قُلِ اللهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ) الزمر: ٤٦.

ثمّ ذكرعليه‌السلام عنواناً لهذه المائدة النازلة هو الغرض له و لأصحابه من سؤال نزولها و هو أن تنزّل فتكون عيداً له و لجميع اُمّته، و لم يكن الحواريّون ذكروا فيما اقترحوه أنّهم يريدون عيداً يخصّون به لكنّهعليه‌السلام عنون ما سأله بعنوان عامّ و قلبه في قالب حسن ليخرج عن كونه سؤالاً للآية مع وجود آيات كبري إلهيّة بين أيديهم و تحت مشاهدتهم، و يكون سؤالاً مرضيّاً عندالله غير مصادم لمقام العزّة و الكبرياء فإنّ العيد من شأنه أن يجمع الكلمة، و يجدّد حياة الملّة، و ينشّط نفوس العائدين، و يعلن كلّما عاد عظمة الدين.

و لذلك قال:( عِيداً لِأَوَّلِنا وَ آخِرِنا ) أي أوّل جماعتنا من الاُمّة و آخر من يلحق بهم - على ما يدلّ عليه السياق - فإنّ العيد من العود و لا يكون عيداً إلّا إذا عاد حيناً بعد حين، و في الخلف بعد السلف من غير تحديد.

و هذا العيد ممّا اختصّ به قوم عيسىعليه‌السلام كما اختصّوا بنوع هذه الآية النازلة على ما تقدّم بيانه.

و قوله:( وَ آيَةً مِنْكَ ) لما قدّم مسألة العيد و هي مسألة حسنة جميلة لا عتاب عليها عقّبها بكونها آية منه تعالى كأنّه من الفائدة الزائدة المترتّبة على الغرض الأصليّ غير مقصودة وحدها حتّى يتعلّق بها عتاب أو سخط، و إلّا فلو كانت مقصودة وحدها من حيث كونها آية لم تخلُ مسألتها من نتيجة غير مطلوبة فإنّ جميع المزايا الحسنة الّتي كان يمكن أن يراد بها كانت ممكنة الحصول بالآيات المشهودة كلّ يوم منهعليه‌السلام للحواريّين و غيرهم.

و قوله:( وَ ارْزُقْنا وَ أَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ) و هذه فائدة اُخرى عدّها مترتّبة على ما سأله من العيد من غير أن تكون مقصودةً بالذات، و قد كان الحواريّون ذكروه مطلوباً بالذات حيث قالوا:( نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها ) فذكروه مطلوباً لذاته و قدّموه على غيره، لكنّهعليه‌السلام عدّه غير مطلوب بالذات و أخّره عن الجميع و أبدل لفظ الأكل من لفظ الرزق فأردفه بقوله:( وَ أَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ) .

٢٥٢

و الدليل على ما ذكرنا أنّهعليه‌السلام جعل ما أخذوه أصلاً فائدة مترتّبة أنّه سأل أوّلاً لجميع اُمتّه و نفسه، و هو سؤال العيد الّذي إضافة إلى سؤالهم فصار بذلك كونها آية من الله و رزقاً وصفين خاصّين للبعض دون البعض كالفائدة المترتّبة غير الشاملة.

فانظر إلى أدبهعليه‌السلام البارع الجميل مع ربّه، و قس كلامه إلى كلامهم - و كلا الكلامين يؤمّان نزول المائدة - تر عجباً فقد أخذعليه‌السلام لفظ سؤالهم فأضاف و حذف، و قدّم و أخّر، و بدّل و حفظ حتّى عاد الكلام الّذي ما كان ينبغي أن يوجّه به إلى حضرة العزّة و ساحة العظمة أجمل كلام يشتمل على أدب العبوديّة، فتدبّر في قيود كلامهعليه‌السلام تر عجباً.

قوله تعالى: ( قالَ اللهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ ) قرأ أهل المدينة و الشام و عاصم( مُنَزِّلُها ) بالتشديد و الباقون( مُنَزِّلُها ) بالتخفيف - على ما في المجمع - و التخفيف أوفق لأنّ الإنزال هو الدالّ على النزول الدفعيّ، و كذلك نزلت المائدة، و أمّا التنزيل فاستعماله الشائع إنّما هو في النزول التدريجيّ كما تقدّم كراراً.

و قوله تعالى:( إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ ) وعد صريح بالإنزال و خاصّة بالنظر إلى الإتيان به في هيئة اسم الفاعل دون الفعل، و لازم ذلك أنّ المائدة قد نزلت عليهم.

و ذكر بعض المفسّرين أنّها لم تنزل كما روي ذلك في الدرّ المنثور، و مجمع البيان، و غيرهما عن الحسن و مجاهد: قالا: إنّها لم تنزل و إنّ القوم لما سمعوا الشرط استعفوا عن نزولها و قالوا: لا نريدها و لا حاجة لنا فيها فلم تنزل.

و الحقّ أنّ الآية ظاهرة الدلالة على النزول فإنّها تتضمّن الوعد الصريح بالنزول و حاشاه تعالى أن يجود لهم بالوعد الصريح و هو يعلم أنّهم سيستعفون عنها فلا تنزل، و الوعد الّذي في الآية صريح و الشرط الّذي في الآية يتضمّن تفرّع العذاب و ترتّبه على الكفر بعد النزول، و بعبارة اُخرى: الآية تتضمّن الوعد المطلق بالإنزال ثمّ تفريع العذاب على الكفر لا أنّها تشتمل على الوعد بالإنزال على تقدير قبولهم العذاب على الكفر، حتّى يرتفع موضوع الوعد عند عدم قبولهم الشرط فلا تنزل المائدة باستعفائهم عن نزولها، فافهم.

٢٥٣

و كيف كان فاشتمال وعده تعالى بإنزال المائدة على الوعيد الشديد بعذاب الكافرين بها منهم ليس ردّاً لدعاء عيسىعليه‌السلام و إنّما هو استجابة له غير أنّه لما كان ظاهر الاستجابة بعد الدعاء - على ما له من السياق - أنّ هذه الآية تكون رحمة مطلقة منه لهم يتنعّم بها آخرهم و أوّلهم، قيّد تعالى هذا الإطلاق بالشرط الّذي شرط عليهم، و محصّله أنّ هذا العيد الّذي خصّهم الله به لا ينتفع به جميعهم بل إنّما ينتفع به المؤمنون المستمرّون على الإيمان منهم، و أمّا الكافرون بها فيستضرّون بها أشدّ الضرر.

فالآيتان في كلامه تعالى من حيث إطلاق الدعاء بحسب لازمه و تقييد الاستجابة كقوله تعالى:( وَ إِذِ ابْتَلى‏ إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) البقرة: ١٢٤ و قوله تعالى حكاية عن موسىعليه‌السلام :( أَنْتَ وَلِيُّنا فَاغْفِرْ لَنا وَ ارْحَمْنا وَ أَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ، وَ اكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَ فِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ وَ رَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْ‏ءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ الَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ ) الأعراف: ١٥٦.

و قد عرفت فيما تقدّم أنّ السبب الأصليّ في هذا العذاب الموعود الّذي يختصّ بهم إنّما هو اقتراحهم آية هي في نوعها مختصّة بهم لا يشاركهم فيها غيرهم من الاُمم فإذا اُجيبوا إلى ذلك أوعدوا على الكفر عذاباً لا يشاركهم فيها غيرهم كما شرّفوا بمثل ذلك.

و من هنا يظهر أنّ المراد بالعالمين عالمو جميع الاُمم عالمو زمانهم فإنّ ذلك مرتبطاً بمن يمتازون عنهم من الناس و هم جميع الاُمم لا أهل زمان عيسىعليه‌السلام خاصّة من اُمم الأرض.

و من هناك يظهر أيضاً أنّ قوله:( فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ ) و إن كان وعيداً شديداً بعذاب بئيس لكنّ الكلام غير ناظر إلى كون العذاب فوق جميع العذابات و العقوبات في الشدّة و الألم، و إنّما هو مسوق لبيان انفراد العذاب في بابه، و اختصاصهم من بين الاُمم به.

٢٥٤

( بحث روائي)

في المجمع في قوله تعالى:( هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ ) عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: معنى الآية هل تستطيع أن تدعو ربّك.

أقول: و روي هذا المعنى من طريق الجمهور عن بعض الصحابة و التابعين كعائشة و سعيد بن جبير، و هو راجع إلى ما استظهرناه من معنى الآية فيما تقدّم فإنّ السؤال عن استطاعة عيسىعليه‌السلام إنّما يصحّ بالنسبة إلى استطاعته بحسب الحكمة و المصلحة دون استطاعته بحسب أصل القدرة.

و في تفسير العيّاشيّ، عن عيسى العلويّ عن أبيه عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: المائدة الّتي نزلت على بني إسرائيل مدلاة بسلاسل من ذهب عليها تسعة أحوتة و تسعة أرغفة.

أقول: و في لفظ آخر تسعة أنوان و تسعة أرغفة( و الأنوان) جمع نون و هو الحوت.

و في المجمع، عن عمّار بن ياسر عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: نزلت المائدة خبزاً و لحماً، و ذلك لأنّهم سألوا عيسى طعاماً لا ينفد يأكلون منها، قال: فقيل لهم: فإنّها مقيمة لكم ما لم تخونوا و تخبئوا و ترفعوا فإن فعلتم ذلك عذّبتم، قال: فما مضى يومهم حتّى خبئوا و رفعوا و خانوا.

أقول: و رواه في الدرّ المنثور، عن الترمذيّ و ابن جرير و ابن أبي حاتم و ابن الأنباريّ و أبي الشيخ و ابن مردويه عن عمّار بن ياسر عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم و في آخره: فمسخوا قردة و خنازير.

قال في الدرّ المنثور،: و أخرج ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم من وجه آخر عن عمّار بن ياسر موقوفاً: مثله‏، قال الترمذيّ: و الوقف أصحّ، انتهى.

و الّذي ذكر في الخبر من أنّهم سألوا طعاماً لا ينفد يأكلون منها لا ينطبق على الآية ذاك الانطباق بناءً على ظاهر ما حكاه الله تعالى من قولهم:( وَ نَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ ) فإنّ الطعام الّذي لا يقبل النفاد لا يحتاج إلى شاهد يشهد عليه إلّا أن يراد من الشهادة الشهادة عند الله يوم القيامة.

٢٥٥

و الّذي ذكر فيه من مسخهم قردة و خنازير ظاهر السياق أنّ ذلك هو العذاب الموعود لهم، و هذا ممّا يفتح باباً آخر من المناقشة فيه فإنّ ظاهر قوله تعالى:( فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ ) اختصاص هذا العذاب بهم، و قد نصّ القرآن الشريف على مسخ آخرين بالقردة، قال تعالى:( وَ لَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ ) البقرة: ٦٥ و المرويّ في هذا الباب عن بعض طرق أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام أنّهم مسخوا خنازير.

و في تفسير العيّاشيّ، عن الفضيل بن يسار عن أبي الحسنعليه‌السلام قال: إنّ الخنازير من قوم عيسى سألوا نزول المائدة فلم يؤمنوا بها فمسخهم الله خنازير.

و فيه: عن عبدالصمد بن بندار قال: سمعت أباالحسنعليه‌السلام يقول: كانت الخنازير قوماً من القصّارين كذّبوا بالمائدة فمسخوا خنازير.

أقول: و فيما رواه في الكافي، عن محمّد بن يحيى عن أحمد بن محمّد عن محمّد بن الحسن الأشعريّ عن أبي الحسن الرضاعليه‌السلام قال: الفيل مسخ كان ملكاً زنّاءً، و الذئب مسخ كان أعرابيّاً ديّوثاً، و الأرنب مسخ كانت امرأة تخون زوجها و لا تغتسل من حيضها، و الوطواط مسخ كان يسرق تمور الناس، و القردة و الخنازير قوم من بني إسرائيل اعتدوا في السبت، و الجرّيث و الضبّ فرقة من بني إسرائيل لم يؤمنوا حيث نزلت المائدة على عيسى بن مريم فتاهوا فوقعت فرقة في البحر و فرقة في البرّ، و الفأرة فهي الفويسقة، و العقرب كان نمّاماً، و الدبّ و الوزغ و الزنبور كانت لحّاماً يسرق في الميزان.

و الرواية لا تعارض الروايتين السابقتين لإمكان أن يمسخ بعضهم خنزيراً و بعضهم جرّيثاً و ضبّاً غير أنّ هذه الرواية لا تخلو عن شي‏ء آخر و هو ما تضمّنه من مسخ أصحاب السبت قردة و خنازير، و الآية الشريفة المذكورة و نظيرتها ما في سورة الأعراف إنّما تذكران مسخهم قردة بسياق كالمنافي لغيرها، و الله أعلم.

٢٥٦

( سورة المائدة الآيات ١١٦ - ١٢٠)

وَ إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ ءَأَنْتَ قُلْتَ لِلنّاسِ اتّخِذُونِي وَأُمّيَ إِلهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنّكَ أَنْتَ عَلّامُ الْغُيُوبِ( ١١٦) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللّهَ رَبّي وَرَبّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمّا تَوَفّيْتَنِي كُنتَ أَنْتَ الرّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى‏ كُلّ شَيْ‏ءٍ شَهيدٌ( ١١٧) إِن تُعَذّبْهُمْ فَإِنّهُمْ عِبَادُكَ وَ إِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ( ١١٨) قَالَ اللّهُ هذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ( ١١٩) للّهِ‏ِ مُلْكُ السّماوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنّ وَهُوَ عَلَى‏ كُلّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ( ١٢٠)

( بيان)

مشافهة الله رسوله عيسى بن مريم في أمر ما قالته النصارى في حقّه، و كأنّ الغرض من سرد الآيات ذكر ما اعترف بهعليه‌السلام و حكاه عن نفسه في حياته الدنيا: أنّه لم يكن من حقّه أن يدّعي لنفسه ما ليس فقد كان بعين الله الّتي لا تنام و لا تزيغ و أنّه لم يتعدّ ما حدّه الله سبحانه له فلم يقل إلّا ما اُمر أن يقول ذلك، و اشتغل بالعمل بما كلّفه الله أن يشتغل به و هو أمر الشهادة، و قد صدّقه الله تعالى فيما ذكره من حقّ الربوبيّة و العبوديّة.

و بهذا تنطبق الآيات على الغرض النازل لأجله السورة، و هو بيان الحقّ المجعول لله على عباده أن يفوا بالعهد الّذي عقدوه و أن لا ينقضوا الميثاق فليس لهم أن يسترسلوا كيفما أرادوا و أن يرتعوا رغداً حيث شاؤا فلم يملّكوا هذا النوع من الحقّ من قبل ربّهم، و لا أنّهم قادرون على ذلك من حيال أنفسهم،( و لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما فِيهِنَّ وَ هُوَ عَلى‏ كلّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ ) ، و بذلك تختتم السورة.

٢٥٧

قوله تعالى: ( وَ إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ، أَ أَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَ أُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ ) ( إِذْ ) ظرف متعلّق بمحذوف يدلّ عليه المقام، و المراد به يوم القيامة لقوله تعالى فيها:( قالَ اللهُ هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ ) و قول عيسىعليه‌السلام فيها( وَ كُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ ) .

و قد عبّرت الآية عن مريم بالاُمومة فقيل:( اتَّخِذُونِي وَ أُمِّي إِلهَيْنِ ) دون أن يقال:( اتّخذوني و مريم إلهين) للدلالة على عمدة حجّتهم في الاُلوهيّة و هو ولادته منها بغير أب، فالبنوّة و الاُمومة الكذائيّتين هما الأصل في ذلك فالتعبير به و بأمّه أدلّ و أبلغ من التعبير بعيسى و مريم.

و( دُونِ ) كلمة تستعمل بحسب المال في معنى الغير، قال الراغب: يقال للقاصر عن الشي‏ء( دون) قال بعضهم: هو مقلوب من الدنوّ، و الأدون الدنيّ، و قوله تعالى:( لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ ) أي من لم يبلغ منزلتكم في الديانة، و قيل: في القرابة، و قوله:( وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ ) أي ما كان أقلّ من ذلك، و قيل: ما سوى ذلك، و المعنيان متلازمان، و قوله:( أَ أَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتّخذونِي وَ أُمِّي إلهيّنِ مِنْ دُونِ اللهِ ) أي غير الله، انتهى.

و قد استعمل لفظ( مِنْ دُونِ اللهِ ) كثيراً في القرآن في معنى الإشراك دون الاستقلال بمعنى أنّ المراد من اتّخاذ إله أو إلهين أو آلهة من دون الله هو أن يتّخذ غير الله شريكاً لله سبحانه في اُلوهيّته لا أن يتّخذ غير الله إلهاً و تنفي اُلوهيّة الله سبحانه فإنّ ذلك من لغو القول الّذي لا يرجع إلى محصّل فإنّ الّذي أثبته حينئذ يكون هو الإله سبحانه و ينفي غيره، و يعود النزاع إلى بعض الأوصاف الّتي أثبتها فمثلاً لو قال قائل: إنّ الإله هو المسيح و نفى إله المسيح عاد مفاد كلامه إلى إثبات الإله تعالى و توصيفه بصفات المسيح البشريّة، و لو قال قائل: إنّ الأصنام أو أرباب الأصنام آلهة و نفى الله تعالى و تقدّس فإنّه يقول بأنّ للعالم إلهاً فقد أثبت الله سبحانه لكنّه نعته بنعت الكثرة و التعدّد فقد جعل لله شركاء، أو يقول كما يقوله النصارى:( إنّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ ) أي واحد هو ثلاث و ثلاث هو واحد.

و من قال: إنّ مبدأ العالم هو الدهر أو الطبيعة و نفى أن يكون للعالم إله تعالى

٢٥٨

عن ذلك فقد أثبت للعالم صانعاً و هو الله عزّ اسمه لكنّه نعته بنعوت القصور و النقص و الإمكان.

و من نفى أن يكون لهذا النظام العجيب مبدأ أصلاً و نفى العلّيّة و التأثير على الرغم من صريح ما تقضي به فطرته فقد أثبت عالماً موجوداً ثابتاً لا يقبل النفي و الانعدام من رأس أي هو واجب الثبوت و حافظ ثبوته و وجوده إمّا نفسه و ليس لطروّ الزوال و التغيّر إلى أجزائه، و إمّا غيره فهو الله تبارك و تعالى، و له نعوت كماله.

فتبيّن أنّ الله سبحانه لا يقبل النفي أصلاً إلّا بظاهر من القول من غير أن يكون له معنى معقول.

و الملاك في ذلك كلّه أنّ الإنسان إنّما يثبت الإله تعالى من جهة الحاجة العامّة في العالم إلى من يقيم أود وجوده و يدبّر أمر نظامه ثمّ يثبت خصوصيّات وجوده فما أثبته من شي‏ء لسدّ هذه الخلّة و رفع تلك الحاجة فهو الله سبحانه ثمّ إذا أثبت إلهاً غيره أو أثبت كثرة فإمّا أن يكون قد أخطأ في تشخيص صفاته و ألحد في أسمائه، أو يثبت له شريكاً أو شركاء تعالى عن ذلك، و أمّا نفيه و إثبات غيره فلا معنى له.

فظهر أنّ معنى قوله:( إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ ) شريكين لله هما من غيره، و إن سلّم أنّ الكلمة لا تؤدّي معنى الشركة بوجه، قلنا: إنّ معناها لا يتعدّى اتّخاذ إلهين هما من سنخ غير الله سبحانه و أمّا كون ذلك مقارناً لنفي اُلوهيّته تعالى أو إثباتها فهو مسكوت عنه لا يدلّ عليه لفظ و إنّما يعلم من خارج، و النصارى لا ينفون اُلوهيّته تعالى مع اتّخاذهم المسيح و اُمّه إلهين من دون الله سبحانه.

و ربّما استشكل بعضهم الآية بأنّ النصارى غير قائلين باُلوهيّة مريم العذراءعليها‌السلام ، و ذكروا في توجيهها وجوهاً.

لكنّ الّذي يجب أن يتنبّه عليه أنّ الآية إنّما ذكرت اتّخاذهم إيّاها إلهة و لم يذكر قولهم بأنّها إلهة بمعنى التسمية، و اتّخاذ الإله غير القول بالاُلوهيّة إلّا من باب الالتزام، و اتّخاذ الإله يصدق بالعبادة و الخضوع العبوديّ قال تعالى:( أَ فَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ ) الجاثية: ٢٣ و هذا المعنى مأثور عن أسلاف النصارى مشهود في أخلافهم.

٢٥٩

قال الآلوسيّ في روح المعاني: إنّ أباجعفر الإماميّ حكى عن بعض النصارى أنّه كان فيما مضى قوم يقال لهم:( المريميّة) يعتقدون في مريم أنّها إله.

و قال في تفسير المنار: أمّا اتّخاذهم المسيح إلهاً فقد تقدّم في مواضع من تفسير هذه السورة، و أمّا اُمّه فعبادتها كانت متّفقاً عليها في الكنائس الشرقيّة و الغربيّة بعد قسطنطين، ثمّ أنكرت عبادتها فرقة البروتستانت الّتي حدثت بعد الإسلام بعدّة قرون(١) .

إنّ هذه العبادة الّتي توجّهها النصارى إلى مريم والدة المسيحعليها‌السلام منها ما هو صلاة ذات دعاء و ثناء و استغاثة و استشفاع، و منها صيام ينسب إليها و يسمّى باسمها، و كلّ ذلك يقرن بالخضوع و الخشوع لذكرها و لصورها و تماثيلها، و اعتقاد السلطة الغيبيّة لها الّتي يمكنها بها في اعتقادهم أن تنفع و تضرّ في الدنيا و الآخرة بنفسها أو بواسطة ابنها، و قد صرّحوا بوجوب العبادة لها، و لكن لا يعرف عن فرقة من فرقهم إطلاق كلمة( إله) عليها بل يسمّونها( والدة الإله) و يصرّح بعض فرقهم أنّ ذلك حقيقة لا مجاز.

و القرآن يقول هنا: إنّهم اتّخذوها و اُمّها إلهيّن، و الاتّخاذ غير التسمية فهو يصدق بالعبادة و هي واقعة قطعاً، و بيّن في آية اُخرى أنّهم قالوا: إنّ الله هو المسيح عيسى بن مريم، و ذلك معنى آخر، و قد فسّر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قوله تعالى في أهل الكتاب:( اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَ رُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ ) أنّهم اتّبعوهم فيما يحلّون و يحرّمون لا أنّهم سمّوهم أرباباً.

و أوّل نصّ صريح رأيته في عبادة النصارى لمريم عبادة حقيقيّة ما في كتاب( السواعي) من كتب الروم الاُرثوذكس، و قد اطّلعت على هذا الكتاب في دير يسمّى( دير التلميد) و أنا في أوّل العهد بمعاهد التعليم، و طوائف الكاثوليك يصرّحون بذلك و يفاخرون به.

____________________

(١) كما أنّ القول برسالة المسيح و نفي اُلوهيّته لا يزال يشيع في هذه الأيّام و هي سنة ١٩٥٨ م بين نصارى أمريكا، و قد ذكر المحقّق ه. ج. فلز في مجمل التاريخ: أنّ هذه العبادة الّتي تأتي بها عامّة النصارى للمسيح و اُمّه لا توافق تعليم المسيح لأنّه نهى كما في إنجيل مرقس أن يعبد غير الله الواحد ليراجع ص ٥٢٦ و ص ٥٣٩ من الكتاب المزبور.

٢٦٠

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401